الفصل السادس

كيف يقود القادة؟

(١) عن السمات ، وسكروج، وسمكة الزينة

ربما تتذكر من الفصل الثالث أن توماس كارليل ينظر إليه على أنه من أوائل علماء القيادة «الحديثة» وذلك من خلال منهج «العظماء» الخاص به. ولكن لماذا لا يزال هذا المنهج ذائع الصيت على الرغم من قصور الدعم التجريبي الذي يقدمه، وأوجه الضعف النظري فيه؟ حسنًا، من بين أسباب ذلك أن الكثيرين منا لا يزالون يبحثون بقوة عن حلول بسيطة للمشكلات المعقدة؛ فعندما بدأت أزمة الائتمان في تقويض البنية الاقتصادية بأكملها، فَضَّلْنَا البحث عن كبش فداء (سوف نعود إلى هذه الظاهرة في الفصل التالي)، بدلًا من التفكير العميق في هذه المشكلات المعقدة، ومحاولة التغلب على هذا التعقيد. البحث عن أبطال (وأشرار) يساعدنا أيضًا في تجنب تحمل المسئولية واتباع منهج طفولي إزاء القادة، وهو المنهج الذي ربما تأصل جراء علاقات الطفولة مع آبائنا أو من يوازونهم من رموز السلطة في حياتنا.
مع ذلك، فإنه بنهاية الحرب العالمية الثانية ، بدأت نظريات السمات الأولى، التي ظهرت كرد فعل حيال مشكلة اختيار الضباط للجيش خلال الحرب، في طرح بدائل لنظرية «العظماء». هذه النظريات الأولى أشارت إلى أن القادة يتمتعون بسمات/صفات خاصة تميزهم عن غير القادة، ويبدو أن تلك السمات هي:
  • الطلاقة في الحديث.

  • الذكاء؛ بافتراض أن الفجوة بين القادة والأتباع ليست مفرطة الاتساع.

  • روح المبادرة والاستعداد لتحمل المسئولية.

  • الثقة بالنفس.

  • حب الاختلاط بالآخرين.

ولكن سرعان ما أصبح من الواضح أن هذه السمات ينبغي أن تُؤَطَّرَ، إذا كان سَيُنْظَرُ إليها على أنها سمات مهمة للقيادة. وفي الواقع أصبح من الواضح أيضًا أن الكثير من الدراسات التي كشفت عن وجود ارتباطات سلبية لم تُنْشَرْ مما أثر على حيادية هذا الجانب بأكمله. وعلى الرغم من حقيقة أن كل دراسة (بالأحرى مثل نماذج الكفاءة المعاصرة) توصلت إلى سمات مختلفة تمامًا، فإن الافتراض ظل قائمًا بأنه فقط إذا بحثنا بعناية فسوف نكتشف الورقة الرابحة وهي القائمة «الحقيقية فعلًا» للسمات. ولكن بما أننا نادرًا ما نقارن بين القادة الناجحين وغير الناجحين، وبما أننا نادرًا ما نمتلك دليلًا دامغًا على أن أفعال القادة تترك تأثيرًا على الأداء المؤسسي يمكن قياسه بموضوعية، فإننا لا نزال نواجه مشكلتين.
أولى هاتين المشكلتين هي: هل اختبارات الكفاءة موضوعية؟ على سبيل المثال: نظام اختبار الذكاء الذي وُزِّعَ من خلاله المدنيون على الوحدات المختلفة في الجيش الأمريكي خلال الحرب العالمية الثانية كان عرضةً للخطأ مثل أي اختبار تعليمي أو فكري آخر؛ فقد ذكرت نتائجه أن ربع من خضعوا للاختبار أميون، ويقل العمر العقلي لنصف البيض و٩٠٪ من الأمريكيين من أصول أفريقية عن ١٣ سنة. ولكن بما أن الاختبارات احتوت أسئلة مثل: «سكروج كان شخصية في أي من الآتي: «دار الغرور»، أم «ترنيمة الميلاد»، أم «رومولا»، أم «هنري الرابع»؟» وأيضًا «ما المصطلح الذي يطلق على المنظور المكاني في فن عصر النهضة؟» يمكننا أن نتأكد أن الموضوعية العلمية والثقافية لم تكن نقطة محورية فيها. ولكن التبعات الواقعية كانت تتمثل في إبعاد معظم الجنود الأمريكيين ذوي الأصول الأفريقية عن وحدات القتال المباشر وذلك حتى فترات متأخرة من الحرب.

والمشكلة الأخرى هي أننا لم نفكر حتى في الأتباع. ما الذي سيحدث إذا كان لدينا قائد موهوب على نحو مذهل — من زاوية نظرية السمات — ولكن لدينا مجموعة من المرءوسين لا يهتمون أبدًا باتباع هذا القائد؟ من هذا، يمكن صياغة المشكلة الثانية كالآتي: السمات هي ممتلكات لفرد، ولكن القيادة علاقة. هذا يشبه قليلًا شراءك أفضل سمكة زينة من سوق الكائنات البحرية مع نسيانك أنه ليس لديك حوض تضعها فيه.

(٢) المناهج السلوكية/الأسلوبية

بينما كانت قوات الحلفاء مشغولة بوضع قائمة بسمات اختيار ضباطها، كان كيرت لوين، الذي هرب من ألمانيا النازية، قد بدأ مجموعة من التجارب لمعرفة هل سلوك القائد، فضلًا عن سماته، يصنع فارقًا في النجاح المؤسسي. ففي تجربته الشهيرة المعروفة باسم «تجارب نادي الصبية»، خلص لوين إلى أن الصبية (الأتباع) يذعنون بشكل عام للقادة المستبدين، عندما يكون هؤلاء القادة موجودين، ولكنهم يتجنبون العمل عندما يغيب القادة. وعلى النقيض، فإن القادة الذين يتبنون منهج «عدم التدخل» يحصلون على قليل من العمل من الأولاد سواء أكان هؤلاء القادة حاضرين أم غائبين، بينما يستطيع القادة الديمقراطيون جعل نصف الأولاد (تقريبًا) يعملون بشكل منتج سواء أكانوا — القادة — موجودين أم لا. تمثلت النتيجة النهائية للتجربة في أن القادة الديمقراطيين يولدون أعلى مستوى من الرضا بين الأتباع، ولكن لاحظ أن الأتباع الأكثر إنتاجية هم الذين يعملون تحت إكراه القادة المستبدين.
fig16
شكل ٦-١: الشبكة الإدارية لبليك وموتون.
شكل الانقسام بين الرضا والإنتاجية أساسًا للكثير من الدراسات منذ ذلك الوقت. فأشارت دراسات جامعة ميشجن إلى أن القادة إما «يركزون على الإنتاج»؛ حيث يعتبرون الأتباع ضمن عناصر الإنتاج، أي يرونهم وسيلة تؤدي إلى غاية، وإما «يركزون على الموظفين»؛ حيث يرون الأتباع موردًا رئيسيًّا. ونتج عن الدراسات التي أجرتها جامعة ولاية أوهايو على سلوك أطقم الطيران هذا التقسيم الأساسي للمهمة/الأشخاص (مع أنهم أطلقوا عليه «البنية الأَوَّلِيَّة» و«المراعاة») وخلصت إلى أن القادة بإمكانهم القيام بكلا النشاطين بدلًا من اختيار أحدهما. واستطاع بليك وموتون تصوير هذا التقسيم بشكل جدي في الرسم البياني بعنوان «الشبكة الإدارية»، التي يوضحها الشكل ٦-١. وهنا يمكن للقادة أن ينفصلوا عن المهمة والأشخاص، ويظهروا أسلوبًا «ضعيفًا»، أو بإمكانهم إظهار اهتمام كبير بالأشخاص وليس بالمهمة — كما لو كانوا يقودون ناديًا محليًّا أنشئ من أجل منفعة أعضائه فحسب، أو بإمكانهم أن يركزوا على المهمة فحسب على حساب الأفراد — وهو أسلوب إذعان إداري سلطوي، وبإمكانهم بالطبع أن يقبعوا في وسط الرسم البياني، أو بإمكانهم، أخيرًا، أن يظهروا اهتمامًا كبيرًا بالمهمة والأفراد ويكون القائد «قائد فريق». وما يثير الاهتمام هو أن هذه الشبكة اشتهرت منذ أول ظهور لها في منتصف ستينيات القرن العشرين، ولكن عليها، مع ذلك، أن تقدم دعمًا تجريبيًّا كبيرًا لافتراضها الرئيسي بأنه من الممكن أن يوجد قادة فرق، بل إن هذا هو الوضع الأمثل.

(٣) نظرية الاحتمالية

في الوقت الذي بدأت تنتشر فيه الشبكة الإدارية، تحول آخر في المنهج أصبح واضحًا، حيث انتقل التركيز من اختيار الأسلوب عن طريق القادة (المهمة أو الأشخاص) إلى أهمية السياق في تحديد أي أسلوب سينجح، وكانت هذه هي بداية نظرية الاحتمالية .
بدأ فريد فيدلر هذا التحول بمنهج زميله «غير المحبب إليه» الذي حافظ على تقسيم المهمة/العلاقة. افترض فيدلر أن القادة إما توجههم المهمة أو العلاقة ولا يمكن أن يتغيروا، ولكن فعالية التوجه تعتمد على نوعية الموقف. وهذا بدوره يتحدد من خلال:
  • «قوة منصب» القائد، أي سلطة القائد الشرعية لتقييم الأداء والإثابة عليه، والعقاب على الأخطاء، وتنزيل رتبة أعضاء المجموعة.

  • «بنية» مهمة الفريق، عدد ومدى وضوح القواعد واللوائح والإجراءات اللازمة للقيام بالعمل؛ كلما كانت أعلى، كانت سيطرة القائد أعلى.

  • علاقة «القائد-الأفراد»: إيجابية أم سلبية.

وهذه المتغيرات بدورها سوف تخلق مواقف ملائمة، أو غير ملائمة، أو مواقف معتدلة.

تتضمن مواقف القيادة الملائمة:
  • مهمة عالية التنظيم.

  • قوة منصب كبيرة.

  • علاقة جيدة بين القائد والأفراد.

هنا تتوقع المجموعة إخبارها بما عليها القيام به ولا تتوقع أن تُسْتشار، لذا من الأفضل أن يكون القائد من القادة الذين يركزون على المهمة.

وتتضمن مواقف القيادة غير الملائمة:
  • مهمة غير منظمة.

  • قوة منصب ضعيفة.

  • علاقة سيئة بين القائد والأفراد.

وهنا أيضًا تتوقع المجموعة أن تؤمر بما يجب عليها القيام به، ولا تتوقع أن تُسْتَشَارَ، لذا (مرة أخرى) من الأفضل أن يكون القائد من القادة الذين يركزون على المهمة. وفي المواقف المعتدلة فحسب — وهي التي تقع بين المواقف الملائمة وغير الملائمة، والتي يتحلى فيها القادة بقوة متوسطة ويتمتعون بدعم متوسط ويواجهون مهمة معقدة — تكون الاستشارة ضرورية لضمان المشاركة. وهنا، وهنا فقط، من الأفضل أن يكون القائد من القادة الذين يركزون على العلاقة.

ماذا يحدث إذن عندما يجد القادة أنفسهم في موقف «غير مناسب»؟ حسنًا، بما أن القادة لا يستطيعون تغيير توجههم — وفقًا لنظرية فيدلر — فكل ما يمكنهم محاولة فعله هو تغيير الموقف. ولماذا؟ لماذا يحتاج الأتباع إلى قيادة تركز على المهمة عندما يكون الموقف ملائمًا أو غير ملائم؟ كانت إجابة فيدلَر أنه لا يمكن إيجاد تفسيرات لكل هذا؛ فهناك بالفعل «صندوق أسرار أسود» في العمل، ولذلك لا نعرف لماذا ينجح ذلك، ولكنه ينجح. حسنًا، إنه ينجح بدرجة ما؛ على الأقل أصبح الموقف الآن في بؤرة الضوء — وهكذا أصبح لدينا حوض لسمكة الزينة الخاصة بنا — وهذا يشير ضمنًا إلى أنه ربما كان من الصعب على القادة أن ينجحوا في كل المواقف. ولكن ليس واضحًا أن وجود لمحة عن الشخصية يمكن أن يمنحنا القدرة على التنبؤ بالسلوك، ناهيك عن النجاح في القيادة، ولا نزال نبدو غير مهتمين كثيرًا بطبيعة الأتباع أو بعلاقتهم مع القادة. علاوة على ذلك، كما رأينا في الفصل الثاني، فإن جزءًا من نجاح القادة يكمن في قدرتهم على إعادة تأطير «المواقف» لكي يظهروا بشكل مختلف ومن ثم ينهجون طرقًا مختلفة.

أقرت نظرية القيادة الموقفية لهيرسي وبلانشارد بكل تأكيد أن هناك متغيرات متعددة في القيادة، ولكنها أشارت إلى أن القادة لا يستطيعون أن يأملوا في أن يتعاملوا مع هذا المستوى العالي من التعقيد، ومن ثم ينبغي أن يركزوا على المتغير الأهم — العلاقة بين القائد والأتباع — لأنه إذا قرر الأتباع ألا يتبعوا القائد، فليس لأي شيء آخر قيمة. وقد قادهم ذلك إلى الإشارة إلى أن سلوك القائد ينبغي تعديله وفقًا لمستوى نضج الأتباع، الذي يتغير بمرور الوقت ويميل لأن يتبع المسار الآتي:
  • (١)

    غير قادر وغير راغب، الأقل نضجًا: أسلوب القيادة يستند إلى الأوامر/التوجيه.

  • (٢)

    غير قادر ولكن راغب: أسلوب قيادة يستند إلى الإقناع/التوجيه.

  • (٣)

    قادر ولكن غير راغب: أسلوب قيادة يستند إلى المشاركة/الدعم.

  • (٤)

    قادر وراغب، الأكثر نضجًا: أسلوب قيادة يستند إلى التفويض.

أثبتت هذه النظرية أنها إحدى أنجح النماذج في المجال التنفيذي؛ فهي حدسية وبسيطة ويسهل فهمها، ولكنها، نكرر ثانيةً، لا تتمتع إلا بالقليل للغاية من الدعم التجريبي الذي يثبت صحتها. أحد أسباب ذلك يتمثل في أن النموذج يتضمن مخاوف بشأن المستوى الإجمالي التراكمي لنضج الأتباع، الذي ربما لا يكون له وجود؛ وبعبارة أخرى، يجسد الأتباع مستويات مختلفة من المسئولية، ولا يعكسون معيارًا مركبًا فحسب. وسبب آخر قد يتمثل في أن معنى «النضج» ليس واضحًا حقًّا؛ هل يرتبط بالثقة، أم المهارة، أم الجهد، أم الحماس، أم السكون؟ وإذا كان كذلك، ما ثقل كل متغير من هذه المتغيرات؟ علاوة على ذلك، أي تفسير لنضج التابع نستخدمه هنا: تفسير القائد أم تفسير الأتباع؟ وماذا عن نضج (عدم نضج) القادة؛ مَنْ قال إنهم خارج هذه المعادلة؟

أما نظرية «العلاقة التبادلية بين القائد والتابع »، أو كما كانت تعرف في الأصل باسمها اللافت للانتباه «نظرية الاتصال الثنائية العمودية »، فإن القادة لا يطورون علاقة «معيارية» مع الأتباع، بل بدلًا من ذلك يكوِّنون علاقات مختلفة مع كل مرءوس، ولكن بمرور الوقت تنقسم هذه العلاقات إلى مجموعتين مختلفتين، تكونت كل منهما من خلال الفعل المبدئي للقائد. ففيما يتعلق بالمجموعة المترابطة، يوفر القائد استقلالًا متزايدًا ومسئولية متنامية في المهام غير محددة المعالم، وإذا استجابت المجموعة على نحو إيجابي، فإن الفعل التبادلي التالي يصدِّق على أن هذه المجموعة «نواب» للقائد. ولكن إذا لم يوفر القائد إمكانيات متماثلة للمرءوسين، أو إذا رأى القائد أنهم يستجيبون بشكل غير منضبط، فبمرور الوقت يصبحون «مجموعة مفككة»، ويصبحون كمجموعة من «العمال» بدلًا من أن يكونوا نوابًا للقائد. هذه المجموعة ترتبط بالقائد على أساس تعاقدي (أو تعاملي) صرف؛ فهم يذهبون إلى العمل، ويبذلون أقل جهد، ويحصلون على الأجر، ويعودون إلى المنزل، ولا يهتمون بالعمل. ومع ذلك، فإنهم إذا فقدوا ضغط المسئولية في العمل الذي يقع على المجموعة المترابطة، فإنهم سيعانون، مع ذلك، ضغط عدم اليقين تجاه وظائفهم؛ فهم أول من سيفقدون عملهم.

ومرة أخرى، ليس للمنهج الحدسي إلا القليل من الدعم التجريبي لافتراضاته، وربما يكون استياء الأشخاص المنفكين عن المجموعة هو الذي يلغي مزايا تطوير علاقة أفضل مع الأشخاص المرتبطين بالمجموعة. بالإضافة لذلك، وكما رأينا في الفصل السابق، فإن بناء مجموعة مفككة تجسد قليلًا من السمات المرتبطة بالنموذج الأصلي للمجموعة المترابطة، على الرغم من أنه يعيق فعالية المؤسسة ككل، فإنه من الممكن أن يكون رد فعل «طبيعيًّا» للمجموعات، إن لم يكن جانبًا حتميًّا من الحياة الاجتماعية. لذا، بالنسبة للقادة، هل تتمثل الحيلة الحقيقية في محاولة الالتفاف على هذه المشكلات بينما في الوقت نفسه يحشدون أكبر عدد ممكن من أفراد المجموعة؟

من الممكن ومن المحتمل أن يكون أكثر مناهج نظرية الاحتمالية تعقيدًا هو المنهج الذي يرتبط بنظرية المسار-الهدف لروبرت هاوس . وهنا تتمثل مهمة القائد في تسهيل مسار الأتباع نحو الهدف الجماعي عن طريق إزالة العقبات ونشر الحماس باستخدام نمط من أنماط سلوك القائد الأربعة:
  • (١)

    القادة الموجِّهون، الذين ينقلون التوقعات ويطلبون اتباع القواعد من أجل إنهاء العمل المحدد بوقت لتحقيق معايير الأداء المطلوبة.

  • (٢)

    القادة الداعمون، الذين يظهرون اهتمامًا بحاجات الأتباع ورفاهيتهم ويخلقون مناخًا يظهر الدعم ويولد الاحترام المتبادل.

  • (٣)

    القادة المشاركون، الذين يشركون الأتباع في سلطة اتخاذ القرار.

  • (٤)

    القادة المعنيون بالإنجازات، الذين يضعون أهدافًا تمثل تحديات ويتوقعون مستويات عالية للغاية من الأداء.

في المقابل فإن تأثير القائد يكون متوقفًا على مجموعتين من المتغيرات: الأولى؛ بيئة العمل (الموقف) بما يشمل بنية المهمة ومجموعة العمل، ونظام السلطة، والأخرى؛ الأتباع بما يشمل مستوى قدراتهم (وإدراك هذه القدرات)، وتوجهاتهم نحو فكرة السلطوية وحاجتهم للانتماء، وحاجتهم إلى بنية هيكلية، وموقعهم من المنظومة (أولئك الذين يتمتعون بموقع داخلي قوي من المنظومة يؤمنون أن الأمور تخضع لسيطرتهم ويفضلون القيادة بالمشاركة، أما أولئك الذين يتمتعون بموقع خارجي قوي في المنظومة فيؤمنون أن الأمور تتحدد بالقدر أو بالحظ أو بالآخرين ويفضلون القيادة التوجيهية).

واشتق الشرح التفسيري للنموذج من نظرية التوقع التي نظرت إلى الحافز باعتباره خيارًا عقلانيًّا استنادًا إلى مستوى المجهود المبذول:
  • (١)

    احتمالية تأدية المهمة (التوقع).

  • (٢)

    احتمالية تلقي مكافأة نافعة (التكافؤ).

  • (٣)

    احتمالية تجنب نتائج غير مرغوب فيها.

في هذا المنهج، يمكن لأي قائد أن يتبنى أي نمط أو مزيج من الأنماط؛ بما يعني أنه ليس منهج سمات، ولكنه منهج تواؤمي سلوكي. ومع ذلك، فإن هناك ميلًا مفترضًا إلى أن أغلب الناس يفضلون الأنماط التي ربما تلائم أو لا تلائم متطلبات الموقف. إذا ما بدأت الآن في الارتباك بسبب كمية المتغيرات الكبيرة، فإن الشكل ٦-٢ يأتي كحزام أمان يقيك من الغرق.
fig17
شكل ٦-٢: نظرية المسار-الهدف.1
إن دلالات كل ما سبق هو أن سلوك القائد ينبغي أن يزاوج بين متطلبات التابع وسمات الموقف، وينبغي أن يختار نمط سلوك القيادة المناسب لمساعدة الأتباع على تحقيق أهدافهم. وعلى ذلك:
  • تتطلب المهام الغامضة قيادة موجِّهة من أجل تقليل الريبة وزيادة احتمالات تحقيق النتائج ورفع درجة جودتها.

  • تتطلب البيئات المتوترة، أو المملة، أو المضجرة، أو الخطيرة، قيادة داعمة، مما يزيد من الثقة بالنفس ويقلل من الانزعاج من أجل زيادة احتمالات تحقيق النتائج ورفع درجة جودتها.

  • عندما يكون الأتباع مستعدين لتفويض المهام لهم، حينها يكون هناك حاجة إلى القيادة بالمشاركة.

  • عندما يمتلك الأتباع توجهات نحو الإنجاز، فمن الملائم استخدام نمط القيادة المعني بالإنجاز.

يبدو هذا الأمر بديهيًّا إلى حد ما؛ فما الصعب هنا؟ الأمر الصعب هنا له ثلاثة أوجه: أولًا؛ تراكم الكثير من المتغيرات يجعل المهمة شبه مستحيلة؛ فإذا كنا قادرين على الحصول على تقييم موضوعي لكل متغير موجود، في الوقت الذي تراكمت فيه البيانات، فمن المحتمل أن يكون الموقف قد تغير بحيث يصعب التعرف عليه. ثانيًا: يشير ذلك ضمنيًّا إلى أننا نستطيع توفير درجة من الموضوعية في قياس السلوك البشري، ولكن يبدو أن هذا قد فاتنا. ثالثًا: ربما يرغب الأتباع بالفعل في أشياء متشابهة للغاية من قادتهم؛ فهم يحتاجون إلى التقدير والحماية. إن المشكلة هي أن القادة — وبالطبع كل القادة تقريبًا هم أتباع أيضًا على مستويات أخرى في التسلسل الهرمي — يدركون «واقعًا» مختلفًا. يميل القادة إلى الاعتقاد أن إتمام المهمة أمر حيوي، وبينما يكون القادة مهتمين بالأتباع، فإن نظرة القادة إلى أعلى (المرتبطة بالمهمة) يراها الأتباع على أنها عدم اكتراث بهم. والمفارقة تتمثل في أن هؤلاء القادة أنفسهم «غير المكترثين» غالبًا ما يعتقدون أن قادتهم يظهرون عدم اكتراث مماثل بأتباعهم. هل هذه النزعة العامة تفسر أيضًا السبب في استجابة الأتباع على نحو مختلف للقادة أصحاب الكاريزما؟

(٤) القيادة بالكاريزما

الكاريزما هي «موهبة أو قدرة فطرية» وأصلها الاشتقاقي نابع من الكلمة الإغريقية Kharisma، من kharis: «النعمة الإلهية» أو «المنة». في الواقع، يستخدم معظم الأشخاص هذا اللفظ الآن ليشير إلى شخص استثنائي يمتلك سمات أو قدرة تؤثر في أعداد كبيرة من الأشخاص أو تلهمهم. فبالنسبة لعالم الاجتماع الألماني ماكس ويبر ، الذي كان أول من كتب عن الكاريزما، فإن هؤلاء الأشخاص هم أصحاب النفوذ الذي يتخطى فهم معظم الناس وهم أيضًا نادرون جدًّا. ومن ثم فإن مفهوم ويبر عن الكاريزما — ما ينبغي أن أطلق عليه «الكاريزما القوية» — لا يدور حول الأشخاص ذوي الشخصيات القوية، بل حول الأشخاص الذين بإمكانهم حشد أتباعهم بطريقة سحرية. إنها بالأساس كانت ظاهرة غير منطقية وعاطفية ويمتلك حاملوها «رسالة» تفانٍ شديد حيال تحقيق الهدف. وقد يفسر ذلك أيضًا السبب في أنه من السائد أن يكون القادة أصحاب الكاريزما رجالًا؛ لأن أوقات الأزمات، التي ترتبط غالبًا بحرب ما، عادة ما تدعم قادة الجيش، الذين عادة ما كانوا ولا يزالون رجالًا. ومن النساء الشهيرات ذوات الكاريزما، بوديكا ، وجان دارك، وإليزابيث الأولى ، على سبيل المثال، وجميعهن يرتبطن بمعارك عسكرية. فعلى سبيل المثال: جان دارك لا ترتبط بالهزيمة العسكرية للإنجليز وحسب، بل ترتبط أيضًا بالمظهر الرجولي.
أفرد ويبر مساحة تصورية للقادة أصحاب الكاريزما من خلال التمييز بين القوة والسلطة — فالثانية دائمًا ما كانت مشروعة في أعين الأتباع، أما الأولى فلا تحتاج إلى أن تكون مشروعة — والتفرقة بين ثلاثة أنواع مختلفة من السلطة. تحدث السلطة التقليدية عندما يتبع الأتباع القائد؛ لأنهم دائمًا ما يفعلون ذلك، وربما أبلغ مثال على هؤلاء يتمثل في أتباع الملوك. وهناك السلطة القانونية الرشيدة ، المعروفة باسم البيروقراطية، التي يتبع فيها الأتباع القادة؛ لأنه من المعقول من وجهة نظرهم أن يفعلوا ذلك، لا لأنهم دأبوا على فعل هذا. والنوع الثالث هو السلطة القائمة على الكاريزما. ولكن الكاريزما لها قدرة متفردة على جذب الأتباع الذين يكونون متفانين لقوى الشخص الفائقة التي يبدو أنها توفر احتمالات حلول جذرية وغير معروفة حتى الآن لأزمة اجتماعية من نوع ما. في الواقع، أمثلة ويبر في الغالب يمثلها قادة دينيون، وهو يستفيد كثيرًا من رسالتهم، ومصيرهم، الذي يتجلى في إظهار المعجزات وتحقيق النبوءات. من وجهة نظر ويبر، القيادة بالكاريزما هي الصورة الوحيدة ﻟ «السلطة غير القهرية»، مع أنه من المريب افتراض أن الاختيار بين الجنة والنار الأبدية هو اختيار غير قهري. علاوة على ذلك، ولأن الكاريزما تتجسد في شخص، فإنها تموت مع هذا الشخص أو تصبح روتينية في المؤسسة، كما يحدث في الكنيسة.
مجرد أن قادة ويبر أصحاب الكاريزما يجيدون حشد الأتباع لا يعني أنهم بالضرورة ثوريون، ويمكن بالفعل أن يكونوا رجعيين يسعون إلى إعادة المجتمع إلى حالته السابقة، ولكنهم غالبًا ما يتسمون بالصفتين معًا؛ فيحاولون استعادة الماضي ولكن من خلال المضي قدمًا نحو مستقبل جديد فحسب. وهنا درس قيم للغاية لقيادة التغيير. إننا كثيرًا ما نفترض أن التغيير يتمحور حول المضي قدمًا نحو الأمام وترك الماضي وراء ظهورنا، ولكن وصف ويبر يشير ضمنًا إلى أن النجاح يرتبط بقدرة ذات وجهين على القيام بالاثنين معًا. يمكنك أن تجد مثالًا توضيحيًّا في الانتخابات الألمانية لعام ١٩٣٣. بينما كانت الأحزاب المحافظة تتذكر الأيام الخوالي، كان الحزب الديمقراطي الاشتراكي الحاكم يطلق حملة مفادها «الأمور لا تتحسن»، وكان الحزب الشيوعي ينظر بثبات نحو المستقبل الفاضل. كان النازيون فقط هم الذين جمعوا بين وجهات النظر الثلاث: يمكن لألمانيا أن تستعيد المجد السابق، ولكن ليس بالعودة إلى الوراء، وليس بالتجمد في مكانها، وبالطبع ليس من خلال التخلي عن الماضي لأجل مستقبل شيوعي غامض بديل. بل بدلًا من ذلك، سيتطلب الأمر رفض الحاضر، وتجنب المستقبل الشيوعي، وإعادة أمجاد الماضي من خلال استحضار جوهرها إلى مستقبل نازي بديل. ومن ثم، فإن قادة ويبر أصحاب الكاريزما — وقد حذر من أن القادة أصحاب الكاريزما قد يقوضون العالم الألماني القانوني الرشيد — كانوا غالبًا ثوريين محافظين، يرغبون في «استعادة الماضي من الحاضر خلال أوقات المحن».

هذه الموجة العاطفية للداعمين تشير ضمنًا أيضًا إلى أن الكاريزما قوة غير مستقرة في حد ذاتها وتثير عدم الاستقرار بشكل كبير. ويمكن للأتباع، بدرجة ما، أن يشاركوا القائد الكاريزما الخاصة به عن طريق الانضمام إلى مؤسسته، مع أن طول الفترة الزمنية التي يمكن أن يدوم خلالها ذلك يعتمد على ما إذا كان القائد سيستمر في الإتيان بمعجزات بارزة كلما أراد أم لا. ويمكنك أن ترى تلك السمة بوضوح عندما نرى القادة السياسيين والمشاهير ومدربي الكرة ومقدمي البرامج الإذاعية ومن شابههم يشار إليهم بالبنان على أنهم هبة من الله في يوم، ثم في اليوم التالي يُحكم عليهم بالموت الرمزي (وفي بعض الأوقات بالموت الفعلي).

إلى جانب ذلك يجدر ملاحظة مدى تشبث الناس بالرغبة في الإيمان بقدرة القادة أصحاب الكاريزما على إنقاذهم في أوقات الخطر الشديد، وكيف أنه عندما لا يكون هناك مثل هذه الأزمات، نبتكرها في الأفلام والقصص (على غرار سلسلة هاري بوتر، وملك الخواتم ، وما شابه)، كما لو أن حياتنا ليست حياة عادية فقط بل أيضًا مملة على نحو لا يطاق. ولنفس هذه الأسباب يتذكر كثير من الأشخاص الذين شاركوا في المعارك الحربية «أيام مجدهم» عندما تستحوذ عليهم «الحاجة إلى المشاركة في معركة». وربما لهذه الأسباب كثيرًا ما يعتقد أصحاب الكاريزما أنهم يحملون قَدَرًا كتبه آخرون. وكما قال تشرشل عندما تولى منصب رئاسة الوزراء في عام ١٩٤٠: «لا يمكن أن يكون هذا الأمر مصادفة، إنه أمر مقدر. لقد خلقت لهذا المنصب.» وكذلك ربما تفسر الكاريزما مقولة اللورد أكتون في رسالته إلى الأسقف ماندل كريتون (١٨٨٧) التي تقول: «السلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة. ودائمًا تقريبًا ما يكون العظماء فاسدين.»
إذا كان ويبر قد ركز على الطبيعة الاستثنائية لما أطلقت عليه اسم الكاريزما «القوية»، فقد جادل الكثير من الدارسين والباحثين منذ ذلك الحين بأن مفاهيمه لا يمكن تطبيقها عمليًّا وتُستخدم بشكل ثنائي؛ إما أن تكون صاحب كاريزما أو لا، وليس هناك جدل حيال التصنيف. بدلًا من ذلك، اختار الكثيرون النظر إلى الكاريزما على أنها متسلسلة أقرب إلى الشخصية المنفتحة من البشر الاستثنائيين الذين كان ويبر مهتمًّا بهم. وفي هذه التفسيرات للكاريزما (الضعيفة)، تعتمد العلاقة بين الفرد (القائد) والأتباع على قيم أيديولوجية (وليست مادية) راسخة ومشتركة، حيث يحقق القادة أصحاب الكاريزما إنجازات استثنائية (وليست خارقة) من خلال الأتباع شديدي الإخلاص لقادتهم، الذين يثقون بهم بدرجة كبيرة. وفي خضم هذه الظروف، يكون الأتباع على استعداد للقيام بتضحيات شخصية من أجل تحقيق الرؤية المشتركة، وليس هناك ضرورة لوجود الأزمات المستمرة ولا المعجزات المستمرة.
إن هذا يحمل تشابهًا غريبًا مع القيادة التحويلية ، التي طورها بشكل أساسي ماكجريجور بيرنز ، الذي فرَّق بين هذه القيادة والقيادة بالكاريزما والقيادة التبادلية . فمن وجهة نظر ماكجريجور بيرنز، كانت القيادة التبادلية مقصورة على علاقة تبادلية بين القائد والتابع؛ بالرغم من أنه سواء أكان هذا التبادل اقتصاديًّا (مثل الأجور)، أو اجتماعيًّا (مثل الترقية)، أو نفسيًّا (مثل الصداقة)، أو كان أقل ملاءمة من كونه تبادلًا، فإنه شائع جدًّا، وهو محدود للغاية في تأثيراته. وعلى النقيض، لم تكن القيادة التحويلية عملية تبادلية على الإطلاق ولكنها حدثت عندما لجأ القادة التحويليون إلى قيم الأتباع متجاوزين اهتماماتهم الشخصية. بالطبع ربما يمتلك القادة أصحاب الكاريزما علاقة تبادلية أيضًا مع أتباعهم ولكنها علاقة تعتمد على تبادل الهوية. على الرغم من ذلك، فإن هذه القدرة على ترقية رؤية الأتباع من العادية إلى الاستثنائية تتطلب الكاريزما، ولكن ليس كل القادة أصحاب الكاريزما قادة تحويليين. فمن وجهة نظر ماكجريجور بيرنز ، القادة أصحاب الكاريزما الذين لا يتسمون بالتحويلية يعدون «ممارسين للسلطة»، أي قادة يحصلون على التزام من الأتباع يفي بمصالح القائد وليس بمصالح الأتباع. وأخيرًا، هذا النوع من القادة يميلون إلى بث مستوى عالٍ من التبعية بين أتباعهم، في حين يبدو أن القادة التحويليين يعملون بالمبدأ المعاكس، أي يمنحون سلطات لتابعيهم ولا يسلبونهم السلطة؛ حيث يضمنون التزامًا بمجموعة من المثل وليس التزامًا نحو شخص مثالي.
لقد حذا الكثيرون حذو ماكجريجور بيرنز، حيث ميَّز زاليزنيك بين القادة «الأصحاء» و«غير الأصحاء» من الناحية النفسية، في حين فضل هاويل تقسيم القادة إلى قادة «اجتماعيين» وقادة «شخصيين»، وقارن باس بين القادة «التحويليين الحقيقيين» والقادة غير الحقيقيين أو «التحويليين الزائفين». وتبدو لي المشكلة كامنة في أن كل هذه التقسيمات متأصلة في الأخلاقيات الشخصية للمراقب؛ فحيث إننا لا نعتمد نوعًا معينًا من القادة، فإننا نطلق عليهم قادة غير أصحاء أو زائفين وما إلى ذلك. ولكن هذا الأمر يغفل عن هدف الكاريزما: لا يهم هل المراقبون الأكاديميون غير متأثرين بتحذيرات المتعصبين دينيًّا أو الوحوش السياسيين أم لا، بل ما يهم هو هل الأتباع يتأثرون بها أم لا. وفي هذه الظروف، ليس الهدف تجاهل البعد الأخلاقي للقيادة بالكاريزما، ولكن الهدف هو سؤال أنفسنا: هل الأتباع يؤمنون بأن قادتهم أصحاب الكاريزما يتصرفون بشكل أخلاقي أم لا؟

يعني ذلك أيضًا أننا في حاجة إلى الحذر من القادة أصحاب الكاريزما. فربما يكونون ذوي أهمية في الأزمات، ولكن ربما يرغمون على إبقاء الأزمة مستمرة، إذا كانت تسوية الأزمة سوف تقوض نفوذهم. وربما يحققون مستويات استثنائية من حشد الأتباع، ولكن ربما لا يكون هذا الحشد دائمًا لأسباب قد نتفق معها. وربما يثبتون أهميتهم في التغلب على مأزق التذبذب أو الحيرة، ولكن عندما يموتون، هل تبقى إنجازاتهم أم أن أعمالهم هذه، على غرار الأشخاص الموهوبين، تضعف إمكانية القيام بأي عمل أو فعل باقٍ من قبل الغالبية العظمى من البشر؟ في الفصل التالي، أرغب في إلقاء نظرة على الطرف الثاني، الأتباع؛ هل لهم دور في كل هذه الأمور، وإذا كان لهم دور، فما هو؟

هوامش

(1) From “A Path-Goal Theory of Leader Effectiveness”, Administrative Science Quarterly, 16 (1971): 321–38.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤