الفصل السادس

الكواشف: الكاميرات وآلات الزمن

يستعرض هذا الفصل قرنًا من العمل بالكواشف. كانت غرف الفقاعات عظيمة الفائدة منذ خمسين عامًا، لكن الإلكترونيات الحديثة تَعِد بما هو أكثر بكثير. أيضًا يستعرض الفصل غرف الشرارات وسلالتها، واللفائف السويسرية في مصادم الإلكترونات-البوزيترونات الكبير، بالإضافة إلى كواشف بحجم السفن الحربية من أجل مصادم الهادرونات الكبير. كما يستعرض الفصل الصور المأخوذة بهذه الكواشف، وكيف تميِّز بين الأنواع المختلفة للجسيمات وتمكِّننا من فك شفرة التصادمات.

***

الطرق المبكرة

إن وسائل الكشف عن الجسيمات دون الذرية أكثر شيوعًا مما يعتقد الكثير من الناس. وما طقطقة عداد جايجر، والضوء المنبعث حين تضرب الجسيمات المشحونة كهربيًّا — كالإلكترونات — موادَّ مجهَّزَة على نحو خاص، بحيث تكوِّن صورة على شاشة التلفاز؛ إلا مثالان فقط.

اكتشف رذرفورد نواة الذرة من خلال تأثيرها على حزم جسيمات ألفا، التي تشتَّتت عبر زوايا واسعة. وقد استخدم موادَّ وامضة كي يكشف عنها بينما تتشتت مرتدة عن نواة الذرة. وقد استخدم رذرفورد وزميلاه أعينَهم لرؤية الومضات وعدها، وبحلول خمسينيات القرن العشرين أتمتت المكونات الإلكترونية عملية عدِّ الومضات الصادرة عن المواد الوامضة البلاستيكية الحديثة.

حين يتحرك جسيم مشحون عبر أحد الغازات فإنه يخلف وراءه أثرًا من الذرات المؤينة. ويعتمد نطاق كامل من كواشف الجسيمات — من الغرف السحابية إلى غرف الشرارات السلكية — على استشعار هذا الأثر من الذرات المؤينة بالطريقة عينها.

منذ قرن تقريبًا تمكَّنَ رذرفورد بواسطة هذه السبل من الكشف عن جسيمات ألفا المنبعثة من الراديوم، جسيمًا جسيمًا.

تمثلت السمة المحورية في أن الكاشف يمكنه أن يعظِّم على نحو بالغ مقدار التأين الضئيل الذي يسبِّبه مرور جسيم ألفا واحد. وكان الكاشف يتكوَّن من أنبوب نحاسي مفرَّغ منخفض الضغط يمر في مركزه سلك رفيع. كانت تُمرَّر شحنة قدرها ألف فولت بين السلك والأنبوب، وهو ما ينشئ مجالًا كهربيًّا. في ظل هذا الترتيب، حين يمر جسيم مشحون عبر الغاز المخلخل، تنتج الأيونات. تنجذب الأيونات نحو السلك، وبينما تتزايد سرعتها فإنها تؤين المزيد من الغاز، مما يعظم الأثر المبدئي. ويمكن لأيون واحد أن ينتج ألف أيون، وكل هذا ينتهي به المطاف في السلك المركزي، منتجًا نبضة من الشحنة الكهربية كبيرة بما يكفي كي يلتقطها مقياس كهربي حسَّاس موصل بالسلك.

في «عداد جايجر» الحديث، المجال الكهربي عند السلك ضخم للغاية لدرجة أن إلكترونًا منفردًا في أي مكان في العداد يمكنه أن يسبِّب موجة هائلة من التأيين، بحيث إن أقل قدر من التأيين ينتج إشارة.

رغم أن هذا يكشف عن وجود إشعاع، فإنه بعيد للغاية عما هو مطلوب للكشف عن الجسيمات في التجارب العالية الطاقة الحديثة. وهذه الكواشف تُستخدَم بالتوازي مع كواشف أخرى. ولمعرفة كيف يتم هذا، من المفيد أن نلقي نظرة على تطور عملية الكشف عن الجسيمات.

أول الكواشف القادرة على إظهار آثار الجسيمات المشحونة كانت الغرفة السحابية، التي هي غرفة غاز مزوَّدة بمكبس ومملوءة ببخار الماء، وحين نسحب المكبس بسرعة فإن التمدد السريع يبرد الغاز وتتكون سحابة في هذا الجو البارد الرطب، وحين تعبر جسيمات ألفا وبيتا الناتجة عن النشاط الإشعاعي فإنها تؤين الذرات الموجودة في البخار وتتكون قطيرات غائمة على الفور حول مسارها، وحين تضاء الغرفة، تبرز هذه المسارات كما تظهر ذرات الغبار في شعاع الشمس.

استُخدِمَت الغرفة السحابية للكشف عن الجسيمات في الأشعة الكونية، وقد تحسنت كفاءتها من خلال الجمع بينها وبين عداد جايجر. فإذا وضعنا عداد جايجر أعلى الغرفة وآخَر أدناها وانطلق كلاهما في الوقت عينه، فمن المرجح بشدة أن شعاعًا من الأشعة الكونية قد مرَّ بينهما، وبالتبعية من خلال الغرفة. ويمكن توصيل عدَّادَيْ جايجر بآلية حركة بحيث إن النبضة الكهربية الناتجة عن التفريغ المتزامن للعدَّادين تسبِّب تمدُّد الغرفة السحابية، وتمكِّن ومضة ضوء من التقاط المسارات على فيلم تصوير.

وقد اكتُشِف أول الأمثلة على الجسيمات المضادة، البوزيترون، وأيضًا جسيمات عجيبة في الأشعة الكونية بواسطة الغرفة السحابية. ومع ذلك، فقد حل استخدام الأفلام الحساسة محل هذه الوسيلة.

الأفلام الحساسة

لعبت ألواح التصوير الفوتوغرافي دورًا بارزًا في أولى الأبحاث المجراة على النشاط الإشعاعي، بل إن الأشعة السينية والنشاط الإشعاعي اكتُشِفَا لأول مرة من خلال إعتامهما لألواح التصوير الفوتوغرافي.

في أواخر أربعينيات القرن العشرين، صارت أفلام التصوير الفوتوغرافي العالية الجودة متاحة، وحين أُخِذت هذه الأفلام إلى ارتفاعات عالية بواسطة المناطيد، أنتجت لنا أولى الصور الجميلة لتفاعلات الأشعة الكونية.

هذه الأفلام كانت حسَّاسة على نحو خاص للجسيمات العالية الطاقة، فمثلما يسبِّب الضوء الشديد إعتام ألواح التصوير الفوتوغرافية، يتسبَّب مرور الجسيمات المشحونة في الأثر عينه. وبمقدورنا الكشف عن مسار جسيم وحيد من خلال خط الحبيبات المعتمة الذي يخلفه على الفيلم الحساس بعد تحميضه. إن الجسيم يلتقط صورة لنفسه حرفيًّا، وتكفي مجموعة بسيطة من الألواح المغطاة بالأفلام الحساسة لجمع مسارات الجسيمات، بينما الغرفة السحابية — على النقيض من ذلك — جهازٌ معقَّدٌ يحتاج إلى أجزاء ميكانيكية متحركة حتى يكون بالإمكان التمدد في الغرفة وضغطها على نحو متواصل؛ ونتيجة لذلك صارت الأفلام الحساسة، ولا تزال، وسيلةً مفيدة في الكشف عن مسارات الجسيمات المشحونة وتسجيلها.

غرفة الفقاعات

تسبَّبَ ابتكار المعجلات في إنتاج الجسيمات العالية الطاقة، وهذا خلق تحديات جديدة تتعلق بعملية الكشف عن هذه الجسيمات، فالجسيمات المحمومة تتطاير في أرجاء الغرفة السحابية دون أن تتفاعل مع الذرات في الغاز الرقيق للغرفة. على سبيل المثال، يتطلَّب تسجيل الحياة الكاملة لأحد الجسيمات العجيبة — من الإنتاج وحتى التحلل، على طاقات قدرها بضعة جيجا إلكترون فولت — غرفة سحابية طولها مائة متر! إضافة إلى ذلك، الغرف السحابية بطيئة؛ فدورة إعادة الضغط بعد عملية التمدُّد يمكن أن تستغرق نحو دقيقة، وبحلول الخمسينيات كانت معجلات الجسيمات تنتج نبضات من البروتونات كل ثانيتين.

ما كنَّا بحاجة إليه هو كاشف يمكنه التقاط المسارات الطويلة للجسيمات العالية الطاقة، ويكون قادرًا على العمل بسرعة. كانت الغازات أضعف من أن تتمكَّن من أداء المهمة، وكانت السوائل أفضل؛ لأن كثافتها الأكبر تعني أنها تحتوي على عدد أكبر بكثير من الأنوية التي يمكن لكل جسيم عالي الطاقة أن يتفاعل معها؛ وهذا يأخذنا إلى غرفة الفقاعات. الفكرة الأساسية لهذه الوسيلة تنبع مما يحدث حين تُبقِي سائلًا ما تحت ضغطٍ، قريبًا جدًّا من نقطة الغليان، فإذا خفضت الضغط في هذه الظروف فسيبدأ السائل في الغليان، لكن إذا خفضت الضغط على نحو مفاجئ للغاية، فسيظل السائل سائلًا رغم أن حرارته الآن تعدَّتْ درجة الغليان. تُعرَف هذه الحالة باسم «فرط إحماء السائل»، ولأن السائل وقتها يكون غيرَ مستقرٍّ، لا يمكن لهذه الحالة أن تستمر طويلًا دون أن يحدث ما يسبِّب الخلل للسائل.

fig12
شكل ٦-١: قدمت الأشعة الكونية للفيزيائيين اللمحات الأولى عن الجسيمات دون الذرية، التي خضعت للدراسة لاحقًا بالتفصيل من خلال التجارب في معجلات الجسيمات. تظهر البوزيترونات والميوونات والبايونات والكاوونات في هذه الصورة المأخوذة من غرفة الفقاعات البالغ طولها مترين في مختبر سيرن.1

إذا استعدنا الضغط الطبيعي نستعيد الحالة الأصلية على الفور. والجسيمات التي تدخل السائل خلال اللحظات الحرجة للضغط المنخفض تسبِّب خللًا وتطلق عملية غليان، بينما تؤين ذرات السائل على امتداد مسارها، ولجزء من الثانية يتكوَّن مسار من الفقاعات في مكان مرور الجسيمات، والذي يمكن تصويره. ومن شأن الاستعادة الفورية للضغط أن تعيد السائل إلى ما دون درجة الغليان بالكاد، ومن الممكن تكرار العملية بسرعة.

يرتبط عمل غرفة الفقاعات عن كثب بدورة عمل المعجل الذي يزوِّدها بالجسيمات، فالجسيمات تدخل الغرفة حين يكون المكبس مسحوبًا إلى حده الأقصى، ويكون الضغط في أدناه، ويكون السائل في حالة فرط الإحماء، بعد ذلك بنحو واحد مللي ثانية يومض قوس ضوئي، مضيئًا مسارات الفقاعات المتكوِّنة بفعل الجسيمات المشحونة. والتأخير بين درجة الضغط الدنيا والوميض يمكِّن الفقاعات من أن تكبر بصورة كافية بحيث يمكنها الظهور على الصور الفوتوغرافية. في الوقت ذاته، يتحرك المكبس عائدًا في اتجاه الغرفة، مزيدًا الضغط مجدَّدًا، وينتقل فيلم التصوير أوتوماتيكيًّا إلى الإطار التالي، بعد ذلك تحتاج الغرفة نحو ثانية واحدة حتى «تتعافى» وتكون جاهزة لعملية التمدد التالية. وهكذا تبيِّن غرفة الفقاعات الموضعَ الذي كانت فيه الجسيمات، وهو ما يمكِّننا من دراسة سلوكها على مهل.

fig13
شكل ٦-٢: مسارات العديد من الجسيمات المشحونة تظهر بوضوح في هذه الصورة المأخوذة من التجربة NA35 في سيرن بجنيف. تظهر الجسيمات من تصادم لأيون أكسجين مع نواة ذرة في هدف من مادة الرصاص في الطرف السفلي من الصورة. تكشف الأشرطة الصغيرة الساطعة عن مسارات الجسيمات بينما تمر عبر تأثير مجال مغناطيسي، بحيث تنحني الجسيمات الموجبة في اتجاه، فيما تنحني الجسيمات السالبة في الاتجاه الآخَر. أغلب الجسيمات تتحرك على نحو محموم؛ لذا لا ينحني مسارها إلا قليلًا، لكن على الأقل يكون لجسيم واحد طاقة منخفضة، وهو يلتف حول ذاته عدة مرات في الكاشف، محاكيًا صَدَفة الحلزون.2

في مجال مغناطيسي، سينحني مسار الجسيم المشحون، ويكشف اتجاهه عما إذا كان الجسيم موجب الشحنة أم سالبها، كما سيكشف قطر القوس عن زخمه. وهكذا يمكننا استنتاج كلٍّ من الشحنة والزخم، وإذا علمنا زخم الجسيم وسرعته، يمكننا حساب كتلته ومن ثَمَّ التعرُّف على هويته.

إحدى طرق تحديد السرعة بدقة تستخدم «عدادين» وميضيين ينتجان ومضة من الضوء في كل مرة يمر فيها الجسيم عبرهما، ثم يتم تحويل كل دفقة صغيرة من الضوء إلى نبضة كهربية، التي تُضخَّم بعد ذلك لإنتاج إشارة. وبهذه الطريقة، يمكن لعدادين وميضيين أو أكثر أن يكشفا عن مسار حركة الجسيم بينما ينتج ومضات في كل عداد منهما، وبواسطة الزمن المستغرق في الحركة بين العدادين يمكن تحديد سرعة الجسيم المعني.

ومع ذلك، لم تساعد مثل هذه الوسائل في حل لغز التعرُّف على الهوية في حالة الصورة المأخوذة من غرفة الفقاعات، وعادة ما كانت الطريقة الوحيدة هي تعيين هويات مختلفة للمسارات المختلفة، ثم إضافة الطاقة والزخم لكل الجسيمات الناتجة عن التفاعل. وإذا لم تتساوَ هذه القيمة مع القيم المعروفة قبل التفاعل، يكون من المؤكد أن الهويات المفترضة خاطئة، ويجري اختبار هويات أخرى، إلى أن يتم الوصول إلى صورة متسقة. كانت هذه عملية مضيعة للوقت، لكنها كانت أحدث الوسائل الممكنة نحو عام ١٩٦٠. إن تحديد هويات الجسيمات من خلال الحسابات القائمة على المحاولة والخطأ هذه لَهي عملية متكررة تبرع أجهزة الكمبيوتر في القيام بها، واليوم تخلت غرف الفقاعات عن مكانتها لصالح كواشف الإلكترونات التي تتوافق على نحو أفضل مع التحليل الحاسوبي.

من غرف الفقاعات إلى غرف الشرارات

تستطيع غرفة الفقاعات تقديمَ صورة كاملة عن التفاعل، بَيْدَ أن لها بعضًا من أوجه القصور؛ فهي حساسة فقط حين تكون المحتويات في حالة فرط إحماء، بعد حدوث تمدُّد سريع. ويجب أن تدخل الجسيمات الغرفة في هذه الفترة الحرجة البالغ مدتها بضعة مللي ثوانٍ، قبل أن يعاد الضغط إلى مستواه الطبيعي مجدَّدًا من أجل «تجميد» نمو الفقاعات.

لكن دراسة عدد كبير من التفاعلات النادرة يتطلب أسلوبًا أكثر انتقائية. وفي الستينيات، باتت غرفة الشرارات هي الأسلوب المثالي.

تتكون غرفة الشرارات الأساسية من ألواح معدنية متوازية تفصلها بضعة مليمترات بعضها عن بعض، مغمورة في غاز خامل (أقل تفاعلًا) كالنيون، وحين يمر الجسيم المشحون عبر الغرفة فإنه يخلف مسارًا مؤينًا في الغاز، تمامًا مثل الغرفة السحابية، وما إن يمر الجسيم، يمكنك تمرير جهد كهربي عالٍ بالتناوب في ألواح غرفة الشرارات، وتحت ضغط المجال الكهربي تتكون الشرارات على امتداد المسارات المؤينة. العملية أشبه بحدوث البرق خلال عاصفة كهربية. ومن الممكن تصوير مسارات الشرارات، أو يمكن تسجيل مواضعها من خلال مزامنة وصول الطقطقة المصاحبة لها إلى الميكروفونات الإلكترونية، وفي أي من الحالتين، من الممكن بناء صورة لمسارات الجسيمات من أجل التحليل الحاسوبي اللاحق.

أفضل ما في غرفة الشرارات هو أن لها «ذاكرة»، ومن الممكن التحكم في توقيت بدء عملها. ويمكن استخدام العدادات الوميضية الموضوعة خارج الغرفة، والتي تستجيب بسرعة، من أجل تحديد الموضع الدقيق للجسيمات المشحونة التي تمر عبر الغرفة. وشريطة أن يحدث كل هذا في غضون عُشْر ميكروثانية، فإن الأيونات ستظل موجودة في فراغات غرفة الشرارات، وستكشف الذبذبة ذات الفولتية العالية عن المسارات.

fig14
شكل ٦-٣: صورة لواحدة من أولى عمليات رصد البوزون — الجسيم المشحون الحامل للقوة الضعيفة — ملتقطة في الكاشف UA1 في سيرن عام ١٩٨٢. رصَدَ هذا الكاشف التصادمات المباشِرة بين البروتونات والبروتونات المضادة، والتي في هذه الحالة أتت من اليسار إلى اليمين كي تتصادم في مركز الكاشف. تُظهِر شاشة الكمبيوتر الجزء المركزي من الجهاز، والذي كشف مسارات الجسيمات المشحونة على مدار عملية التأيين التي التقطتها آلاف الأسلاك. كل نقطة على الصورة تتوافق مع سلك قام بتسجيل نبضة تأيين. نتج عن هذه العملية ما يصل إلى ٦٥ مسارًا، واحد منها فقط هو ما كشف عن تحلُّل البوزون ، الذي نتج على نحو لحظي خلال تصادم البروتونات بالبروتونات المضادة. يرجع المسار إلى إلكترون عالي الطاقة. وبجمع طاقات كل الجسيمات الأخرى اكتُشِفَ اختفاء مقدار كبير نسبيًّا من الطاقة في الاتجاه المعاكس لاتجاه الإلكترون، ومن المرجح أن يكون نيوترينو خفي هو ما تسبَّبَ في تبديد هذه الطاقة. معًا، يحمل النيوترينو والإلكترون طاقة مكافئة لكتلة البوزون القصير الأجل.2

بعد ذلك نقسِّم ألواح غرفة الشرارات إلى صفائح من الأسلاك المتوازية، بحيث يفصلها مليمتر أو نحو ذلك عن بعضها. تُستشعَر نبضة التيار المرتبطة بكل شرارة بواسطة السلك أو السلكين الأقرب للشرارة فقط، وبهذا من خلال تسجيل أي الأسلاك استشعر الشرارات ستعرف في حدود المليمتر الموضع الذي مرَّ منه الجسيم. لاحِظْ كيف يمكِّن هذا غرفةَ الشرارات السلكية من تقديم معلومات جاهزة للتلقيم إلى الكمبيوتر دون أي معالجة إضافية إلا القليل.

تستطيع غرفة الشرارات السلكية أن تعمل أسرع ألف مرة من أغلب غرف الفقاعات، وكانت تتوافق على نحو طيب للغاية مع الطرق الحاسوبية لتسجيل البيانات المطورة في الستينيات. ومن الممكن تلقيم الإشارات الآتية من كواشف عديدة — العدادات الوميضية، الغرف السلكية — إلى جهاز كمبيوتر صغير في الوقت الفعلي لصدورها، بحيث لا يقوم هذا الكمبيوتر بتسجيل هذه المعلومات على شريط مغناطيسي من أجل التحليل المفصل بعد انتهاء التجربة فحسب، وإنما يمكنه أيضًا تقديم المعلومات إلى الفيزيائيين أثناء إجراء التجربة. وتوفِّر مجموعات من الغرف ذات الأسلاك الممتدة في ثلاثة اتجاهات مختلفة معلوماتٍ كافيةً لبناء صورة ثلاثية الأبعاد لمسارات الجسيمات، ويستطيع الكمبيوتر حساب الطاقة والزخم الخاصين بكل جسيم والتحقُّق من هويته.

في الستينيات، مكَّنَتْنا غرف الشرارات من جمع البيانات بسرعة حول تفاعلات بعينها، لكن من ناحية أخرى أمدتنا غرف الفقاعات بصورة أكثر اكتمالًا بكثير عن الأحداث، بما في ذلك نقطة التفاعل، أو «الذروة». كانت الكواشف «الإلكترونية» و«المرئية» يكمل بعضهما بعضًا، ومعًا مكَّنَتْ هذه الكواشف الباحثين من اكتشاف جسيمات لم تكن معروفةً من قبلُ.

غرف الفقاعات الإلكترونية

في معجلات الجسيمات الحديثة يكون عدد التفاعلات كبيرًا للغاية مقارَنَةً بتلك التي كانت موجودةً في أيام غرف الفقاعات، بل حتى غرف الشرارات المبكرة. تتضمن التطوراتُ الحديثة الغرفةَ التناسبية المتعددة الأسلاك وغرفة الحركة، اللتين تعملان على نحو أسرع وأكثر دقةً من غرف الشرارات السلكية. وعلى وجه التحديد، تُستخدَم غرف الحركة بأنواعها المختلفة في تتبُّع الجسيمات المشحونة في كل التجارب المجراة اليوم تقريبًا.

من الظاهر، تبدو الغرفة التناسبية المتعددة الأسلاك مشابِهَةً لغرفة الشرارات؛ إذ تتكون من ثلاثة ألواح من الأسلاك المتوازية الموضوعة داخل هيكل مملوء بالغاز، بَيْدَ أنها تختلف عنها من حيث إن السطح المركزي للأسلاك يمر به على الدوام جهد كهربي قدره ٥ آلاف فولت، مقارَنةً بالسطحين الآخَرين. تطلق الجسيمات المشحونة سيلًا من إلكترونات التأيين حين تمر عبر الغاز. والغرفة التي يفصل بين أسلاكها مساحة ١-٢ مليمتر تنتج إشارةً في غضون بضعة أجزاء من المائة من الميكروثانية حين يمر بها جسيم، وبمقدورها استيعاب مرور نحو مليون جسيم في الثانية عبر كل سلك، وهو أكبر بألف مرة من غرفة الشرارات.

الجانب السلبي للأمر هو أن تتبُّعَ مسارات الجسيمات داخل حجم كبير، لِنَقُلْ مترًا مكعبًا، سيحتاج إلى عدد كبير للغاية من الأسلاك كل منها مزوَّد بإلكترونيات لتضخيم الإشارات. علاوة على ذلك فإن مقدار الدقة محدود، يتم التغلب على هذه المشكلات بواسطة غرفة الحركة، التي تقوم فكرتها الأساسية على قياس الوقت — وهو ما يمكن عمله بدقة بالغة بالإلكترونيات الحديثة — من أجل الكشف عن المسافة. تتكون الغرفة أيضًا من أسلاك متوازية مشدودة داخل مقدار من الغاز، لكن بعض الأسلاك توفر مجالات كهربية تقسم بدورها الحجم الكبير إلى وحدات أصغر أو «خلايا»، وكل خلية تعمل عمل الكاشف المنفرد، بحيث يوجِّه المجال الكهربي الموجود فيها إلكترونات التأيين من مسار الجسيم المشحون وصولًا إلى سلك «مستشعر» مركزي، والوقت المستغرق كي يصل الإلكترون لهذا السلك يعطي قياسًا طيبًا لمقدار بُعْد المسار عن السلك المستشعر. تستطيع هذه الطريقة تحديد موضع الجسيم في حدود دقة قدرها نحو ٥٠ ميكرومترًا.

ميكروسكوبات السليكون

العديد من الجسيمات العجيبة تعيش لنحو ١٠−١٠ ثوانٍ فقط، وخلال هذه الفترة الوجيزة ربما تتحرك بسرعة تناهز سرعة الضوء وتقطع بضعة مليمترات. عبر هذه المسافات تخلف الجسيمات آثارًا يمكن قياسها، فالجسيم الذي يحتوي على كوارك ساحر أو آخَر قاعي يعيش في المعتاد لما لا يزيد عن ١٠−١٣ ثوانٍ، وقد يقطع مسافة ٣٠٠ ميكرومتر وحسب. ولرؤية هذه الجسيمات علينا التأكد من أن جزء الكاشف الأقرب من نقطة الاصطدام لديه أعلى دقة ممكنة. في الوقت الحالي، كل تجربة تقريبًا يكون بها كاشف «ذروة» من السليكون، والذي يمكنه الكشف عن العقد القصيرة التي تتشعب عندها المسارات، بينما تتحلل الجسيمات القصيرة العمر إلى جسيمات أخرى ذات مدى عمري أطول.

حين يمر جسيم مشحون عبر السليكون فإنه يؤين الذرات، محررًا الإلكترونات، ويمكن عندئذٍ للسليكون توصيل الكهرباء. أكثر الطرق شيوعًا باستخدام السليكون يتمثل في تقسيم سطحه خلال عملية التصنيع إلى شرائط رفيعة متوازية تبعد نحو ٢٠ ميكرونًا (جزء على المليون من المتر) بعضها عن بعض، وهذا يوفر دقة قياس لمسارات الجسيمات تتجاوز اﻟ ١٠ ميكرونات.

صارت كواشف شرائط السليكون هي التقنية المعتد بها في المصادِمات؛ إذ تُعَدُّ بمنزلة «ميكروسكوبات» عالية الدقة تمكننا من النظر داخل أنبوب الحزم، حيث يمكن لذرى تحلل الجسيمات أن تحدث في موضع قريب من نقطة التصادم، وقد أثبتت أهميتها الخاصة في تعيين هوية الجسيمات القاعية، التي تحتوي على الكواركات القاعية الثقيلة. تميل الكواركات القاعية إلى التحلل إلى كواركات ساحرة، التي بدورها تتحلل إلى كواركات غريبة، والجسيمات التي تحتوي على أيٍّ من هذه الكواركات تتحلل في غضون ١٠−١٢ ثوانٍ، وتنتقل لبضعة مليمترات فحسب، حتى عند إنتاجها في المصادمات الأعلى طاقةً. ومع هذا، تتمكَّن «ميكروسكوبات» السليكون الموضوعة في قلب الكواشف عادةً من تحديد تتابع التحلل بدقة، بدايةً من الكواركات القاعية، مرورًا بالساحرة، وانتهاءً بالغريبة. في التيفاترون بفيرميلاب، لعبت هذه القدرة على «رؤية» الجسيمات القاعية دورًا حاسمًا في اكتشاف الكواركات القمية التي طالما سعى العلماء لاكتشافها، والتي تتحلل إلى كواركات قاعية.

الكشف عن النيوترينوات

من غير المرجح بشدة أن يتفاعل أي نيوترينو منفرد مع المادة داخل أي كاشف، لكن في وجود عدد كافٍ من النيوترينوات، والكواشف الكبيرة، من الممكن اصطياد بعض النيوترينوات. الفكرة الأساسية للكشف عن تلك النيوترينوات النادرة هي استغلال ميلها إلى التحول إلى لبتونات مشحونة كهربيًّا — كالإلكترون — حين تصطدم بالمادة، ووقتها يكون من السهل الكشف عن الإلكترون نظرًا لأنه يملك شحنة كهربية. هذه هي الكيفية التي عرفنا بها الكثير عن النيوترينوات التي تنهمر علينا كل ثانية من الشمس.

حين يمر الضوء عبر مادة ما، على غرار الماء، فإنه ينتقل بسرعة أبطأ مما لو انتقل عبر الفضاء الخاوي؛ لذا رغم أنه ليس بمقدور أي شيء التحرُّك بسرعة تفوق سرعة الضوء في الفراغ، فإنه من الممكن التحرك بسرعة تفوق سرعة الضوء داخل المادة. وحين يتحرك جسيم ما داخل المادة بسرعة تفوق سرعة الضوء، يمكنه أن يتسبب في موجة اصطدامية من نوعٍ ما تُعرَف باسم إشعاع شيرينكوف. يظهر إشعاع شيرينكوف بزاوية على مسار الجسيم، وكلما عظمت سرعة الجسيم، كبرت الزاوية. تهدف تجربة سوبر كاميوكاندي إلى الكشف عن النيوترينوات حين تتفاعل في الماء إما لتكوين إلكترونات أو ميوونات، اعتمادًا على نوع النيوترينو. هذه الجسيمات — على عكس النيوترينوات — تحمل شحنة كهربية، ولأنها تتحرك بسرعة تفوق سرعة الضوء داخل الماء، فإنها قادرة على إطلاق إشعاع شيرينكوف. وعن طريق التحليل الحريص لأنماط الضوء، يمكننا التمييز بين الميوونات والإلكترونات المتكونة داخل الكاشف، ومن ثَمَّ التمييز بين النيوترينوات الميوونية والنيوترينوات الإلكترونية.

يقع مرصد سادبري للنيوترينوات على عمق ٢٠٧٠ مترًا تحت الأرض في منجم للنيكل في سادبري بأونتاريو، وقلب هذا المرصد وعاءٌ من الأكريليك مملوء بألف طن من «الماء الثقيل»، الديوتريوم، والذي فيه يتحد نيوترون واحد مع البروتون الوحيد المكون لذرة الهيدروجين. في مرصد سادبري تتفاعل النيوترينوات الإلكترونية مع النيوترونات الموجودة في الديوتريوم لإنتاج بروتونات وإلكترونات، وتطلق الإلكترونات السريعة الحركة أقماعًا من إشعاع شيرينكوف بينما تنتقل عبر الماء الثقيل. يكوِّن ضوء شيرينكوف أنماطًا من الحلقات على السطح الداخلي لخزان الماء، تلتقطها آلاف الأنابيب الضوئية المصطفة حول الجدران.

fig15
شكل ٦-٤: الإلكترونات — أو أشعة بيتا — لها كتلة أصغر بكثير من كتلة جسيمات ألفا؛ ومن ثَمَّ فإنها تتحرك بسرعات أعلى بكثير على مستوى الطاقة نفسه. هذا يعني أن الإلكترونات السريعة لا تفقد طاقتها بالسرعة نفسها أثناء تأيين الذرات التي تمر بها. في الصورة نرى المسار المتقطع لإلكترون أشعة بيتا السريع. (المسارات القصيرة السميكة لا تسبِّبها أشعة بيتا، بل إن الأشعة السينية غير المرئية هي التي قذفت بها من ذرات الغاز الذي يملأ الغرفة، ومساراتها أكثر سمكًا لأنها تتحرك على نحو أبطأ من أشعة بيتا؛ ومن ثَمَّ فإنها أكثر تأيينًا للذرات، وهي تتمايل لأنها كثيرًا ما تنزاح إلى الجانب بسبب مرورها بتصادمات مرنة مع الإلكترونات الموجودة في ذرات الغاز.)3
إلا أن السمة الأساسية التي يتسم بها مرصد سادبري للنيوترينوات هو أنه قادر أيضًا على الكشف عن الأنواع الثلاثة من النيوترينوات كلها (انظر الفصل الثامن) من خلال التفاعُل الفريد لكلٍّ منها مع الديوتريوم. إن النيوترينو من أي نوع قادر على شطر ذرة الديوتريوم، محرِّرًا النيوترون، الذي يمكن بعدها لأي نواة أن تستحوذ عليه. تُكتشَف عملية الاستحواذ هذه عندما تتخلص النواة المنتفخة حديثًا بفعل هذا النيوترون، من طاقتها الإضافية عن طريق إطلاق أشعة جاما، التي بدورها تصنع إلكترونًا وبوزيترونًا يخلفان أنماطًا مماثلة لإشعاع شيرينكوف في المياه المحيطة.

بواسطة هذه التجارب أمكن حساب النيوترينوات الآتية من الشمس. وهذه التجارب تؤكِّد على أن الشمس هي بالفعل محرك اندماج نووي. هناك شك منذ وقت بعيد أن هذه هي الطريقة التي تستعر بها النجوم — كالشمس — إلا أن هذا لم يتأكد يقينًا حتى عام ٢٠٠٢.

الكواشف والمصادمات

أتت الكواشف الإلكترونية بأكثر ثمارها روعة في البيئات التي يستحيل فيها استخدام غرف الفقاعات، في مصادِمات الحزم التي تتلاطم فيها الجسيمات وجهًا لوجه داخل أنبوب حزم.

هذه الأجزاء المنفردة مدمجة اليوم داخل كواشف أسطوانية تحيط بنقاط التفاعل في معجلات الجسيمات. يحدث التصادم في المحور المركزي للكاشف، وبينما يندفع الحطام المتطاير فإنه يواجِه سلسلةً من الكواشف المختلفة، وكلٌّ منها له نطاق تخصصه في التعرف على الجسيمات.

في مصادم الهادرونات الكبير تمر مجموعات من الجسيمات بعضها خلال البعض ٤٠ مليون مرة في الثانية الواحدة، وفي كل مرة تتقابل يقع ما يصل إلى ٢٥ تصادمًا؛ أي إن العدد الإجمالي يصل إلى نحو مليار تصادم في الثانية الواحدة. ومعدل تجميع البيانات الناتجة المطلوب من هذه الكواشف يعادِل في حجمه معالجة المعلومات الخاصة بعشرين مكالمة هاتفية متزامنة من قِبَل كل رجل وامرأة وطفل على سطح الأرض.

تُوضَع كواشف ضخمة عند نقاط التصادم، وسيستكشف الكاشفان المسميان «اللولب المركب للميوون» و«أطلس» نطاقَ الطاقة الجديد بحثًا عن كل أنواع التأثيرات الجديدة، المتوقع منها وغير المتوقع. سيكون الكاشف أطلس بارتفاع خمسة طوابق (٢٠ مترًا)، وسيكون قادرًا على قياس مسارات الجسيمات حتى دقة قدرها ٠٫٠١ مليمتر.

fig16
شكل ٦-٥: أحد الكواشف في مصادم الإلكترونات-البوزيترونات الكبير وإلى جواره أربعة من العلماء، ويتضح من الصورة حجم الكاشف.4
fig17
شكل ٦-٦: آثار من الجسيمات والجسيمات المضادة كما تظهر على شاشة الكمبيوتر. قارِن الصورة على شاشة الكمبيوتر بالصورة الفعلية للكاشف في الشكل ٦-٥.2

يتبع كلٌّ من «اللولب المركب للميوون» و«أطلس» البناء الراسخ لكواشف الجسيمات الحديثة. أولًا هناك «متتبع المسارات» الذي يحمل اسمًا ملائمًا لوظيفته المتمثلة في تسجيل مواضع الجسيمات المشحونة كهربيًّا حتى دقة قدرها جزء على المائة من المليمتر، وهو ما يمكِّن أجهزة الكمبيوتر من إعادة بناء مسارات الجسيمات، بينما تنحني داخل المجالات المغناطيسية الشديدة. الطبقة الثانية هي مسعِّر مكوَّن من جزأين، وهو مصمَّم لاقتناص كل الطاقة الناتجة عن أنواع عديدة من الجسيمات. أما الجزء الداخلي فهو المسعِّر الكهرومغناطيسي، الذي يحتفظ بطاقات الإلكترونات والفوتونات ويسجلها.

كثيرًا ما يُستخدَم زجاج رصاصيٌّ عالي الجودة — أشبه بالآنية البلورية الموجودة في أدوات المائدة — ككاشف؛ وذلك لأن الرصاص الموجود في الزجاج يجعل الإلكترونات والبوزيترونات تشع فوتونات، وأيضًا يجعل الفوتونات تتحول إلى أزواج من الإلكترونات والبوزيترونات. ويكون التأثير الصافي شلالًا منهمرًا من الإلكترونات والبوزيترونات والفوتونات، والذي يتواصل إلى أن تتشتت طاقة الجسيمات الأصلية كلها. تتحرك الإلكترونات والبوزيترونات في الزجاج بسرعة أكبر من سرعة الضوء، وتشع ضوء شيرينكوف، الذي تلتقطه أنابيب ضوئية. ويحمل مقدار الضوء المجمع دلالةً على مقدار طاقة الجسيمات الأصلية التي دخلت التفاعل.

fig18
شكل ٦-٧: نرى هنا نتيجة فناء الإلكترون والبوزيترون، وتظهر بالصورة ثلاث دفقات من الجسيمات. في البداية، أُنتج كوارك وكوارك مضاد، وعلى الفور تقريبًا أطلق أحدهما جلوون. والكوارك والكوارك المضاد والجلوون هي مصادر الدفقات الثلاث من الجسيمات المرصودة.2

أيضًا هناك آلاف الأطنان من الحديد تتخللها أنابيب مملوءة بالغاز بهدف التقاط البروتونات والبايونات وغير ذلك من الهادرونات؛ تلك الجسيمات المؤلَّفة من كواركات. هذا هو «مسعِّر الهادرونات» الذي يحمل هذا الاسم لأنه يقيس طاقة الهادرونات، مثلما يقيس المسعِّر في مجالات العلم الأخرى الطاقة الحرارية. للحديد الموجود في المسعِّر هدف مزدوج: فعلاوة على إبطاء الهادرونات وحبسها، يشكِّل الحديد جزءًا من المغناطيس الكهربي المستخدَم في إحناء مسارات الجسيمات المشحونة، وهو ما يكشف عن شحنتها ويساعد في تعيين هويتها.

تتكون الطبقة الخارجية من غرف ميوونات خاصة مهمتها تتبع الميوونات؛ الجسيمات المشحونة الوحيدة القادرة على الاختراق إلى هذا الحد. تشكِّل مجموعة مكونات الكاشف منظومةً متناغمةً مصمَّمةً لقنص أكبر عدد ممكن من الجسيمات بينما تظهر إلى الوجود من التصادم الحادث في المنتصف. نظريًّا، وحدها النيوترينوات المراوغة هي التي يمكنها الهروب من عملية الرصد بشكل كامل، بحيث لا يكون لها أثر على الإطلاق في أي من مكونات الكاشف. بَيْدَ أنه حتى النيوترينوات تخلف أثرًا يدل على وجودها؛ لأنها تفلت من عملية الرصد مستخدِمةً طاقةً وزخمًا، وكلاهما يجب أن يظل محفوظًا في أي تفاعل.

الكاشف بالكامل مصمَّمٌ لتسجيل الحطام الناتج عن التصادمات التي تقع بمعدل مليار مرة في الثانية الواحدة. وفي هذا تقدُّم عظيم مقارَنَةً بالأيام الأولى للغرف السحابية التي كانت قادِرةً على التسجيل مرة واحدة فقط في الدقيقة، أو حتى غرف الفقاعات التي تسجِّل مرة واحدة كل ثانية. وبين الحطام الناتج عن هذه التصادمات — على طاقاتٍ تتجاوز أي شيء جرى قياسه من قبل في أي معجل جسيمات قائم — تكمن الجائزة في ظاهرةٍ ما غير متوقعة. وكان أعظم الاكتشافات المُعلنة في يوليو من عام ٢٠١٢ اكتشاف بوزون هيجز (الفصل العاشر)، لكن هذا الجسيم، وكتلته ١٢٥ جيجا إلكترون فولت، من المتوقع أن يُنتَج بمعدل جسيم واحد كل ٢٠ مليون مليون تصادم تقريبًا. هذا يعني أنه في ضوء ما يصل إلى المليار تصادُم في الثانية الواحدة، من المفترض أن يظهر بوزون هيجز مرة واحدة في اليوم في كل تجربة يجريها مصادم الهادرونات الكبير. قيل إن العثور على إبرة في كومة من القش أيسر من مشاهدة بوزون هيجز واحد وسط مائة ألف مليار حَدَث آخَر، وسيمثل التعرف على بوزون هيجز وتسجيل البيانات الخاصة به وحدها على شريط مغناطيسي تحدِّيًا حاسوبيًّا.

كل هذا يوضِّح كيف أن قدرتنا على معرفة أصول المادة وطبيعتها إنما تعتمد على التقدم الحادث على جبهتين: بناء معجلات جسيمات أقوى وأقوى، وتطوير وسائل متقدمة لتسجيل التصادمات.

هوامش

(1) © Goronwy Tudor Jones, University of Birmingham/Science Photo Library.
(2) © CERN/Science Photo Library.
(3) © CTR Wilson/Science Museum/Science & Society Picture Library.
(4) © CERN.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤