عهد «مرنبتاح» ونهاية الأسرة التاسعة عشرة

(١) مقدمة

كان عهد «رعمسيس الثاني» العظيم — على الرغم مما أنجزه من أعمال ضخمة داخل البلاد، وما سار عليه من سياسة خارجية قويمة، استردَّ بها كثيرًا من مجدها وسيادتها — يحمل في تضاعيفه عند نهايته بذور الوهن والضعف والركود، فقامت الثورات في أنحاء الإمبراطورية المصرية الآسيوية، كما طمع اللوبيون فأغاروا على الحدود المصرية الغربية، وناصرهم أقوام البحار بعد أن قويت شوكتهم وعظمت قوتهم، فهاجموا مصر في ممتلكاتها، وأغراهم بها أنهم ظلوا عهدًا طويلًا لم يروا جيوش الفرعون تكيل لهم الضربات وتنزل بهم الهزائم، وتشعرهم بقوَّة مصر ومنزلتها الممتازة بين دول الشرق بعامة.

fig1
شكل ١: الفرعون مرنبتاح.

ولا غرابة في ذلك، فقد كان «رعمسيس الثاني» في أواخر حكمه الطويل قد بلغ من العمر أرذله، كما أسرف في أموال الدولة ومواردها إلى حدٍّ بعيد لإشباع شهواته التي كانت لا تقف عند حدٍّ في إقامة العمائر الدينية، ونحت التماثيل الضخمة لنفسه ولآلهته، حتى ملأ بها البلاد وحشدها في المعابد، وقد أفضى ذلك إلى نضوب أموال الدولة في نهاية حكمه، حتى اضطرَّ في آخر أمره إلى نحت تماثيله وإقامة مبانيه من المواد الرخيصة التي لا تكلفه إلا قليلًا من المال الذي نضب معينه في البلاد، وقلَّ وروده من الخارج بصورة بارزة محسة؛ يمكن أن يُشاهدها المؤرخ بعينه ويلمسها بيده إذا وازن بين ما تمَّ في باكورة حكمه، وما أنجزه في أخريات أيامه من الأعمال الباقية. وتدل شواهد الأحوال على أن هذا الفقر المادِّي قد شعرت به البلاد المجاورة، كما فطنت له الممتلكات المصرية في آسيا وغيرها.

وقد زاد الطين بلة أن دولة «خيتا» القوية، التي يرتبط بها وبمصر مصير الشرق قد انحدرت في طريق الانحلال والانهيار، بعد أن كانت صاحبة السيادة على معظم ولايات آسيا الصغرى، فقد أعقب موت عاهلها «خاتوسيل» أزمة داخلية لم تحدثنا الآثار الباقية حتى الآن بشيء كثير عنها، بيد أنه من المحتمل جدًّا أن هذا التدهور قد يرجع إلى هجوم جديد قام به أقوام البحر.

(١-١) بلاد «خيتا»

فقد تولى عرش الملك بعد «خاتوسيل» الملك «توداخليا»١ الرابع حوالي عام ١٢٥٥ق.م، وفي عهده وعهد خلفه ظل السلام مخيمًا على دولتي «مصر» و«خيتا»، وقد حدَّثتنا وثائق «بوغازكوى» (عاصمة الملك) عن نشاط بلاد «خيتا» في تلك الفترة، فعلمنا أن والدة الملك «توداخليا» قد أمضت المعاهدة مع مصر في صدر حكمه، وقاسمته السلطان في البلاد بوصفها وصية عليه، وكذلك علمنا أن ابن «توادخليا» المسمى «أرنواندا» قد أدار سكان البلاد بمساعدة والدته «تاواسي» Tawasi. والمعتقد أنه في أواخر عهد دولة «خيتا» العظيمة كان ملوكها قد نهجوا نهج ملوك مصر بأن يتزوج الملك من أخته (راجع H. R. Hall. The Ancient History of the Near East (London and 3rd Edit 1916) P. 374).
وتدل شواهد الأحوال على أن الحروب الطويلة التي شنتها مصر على هذه البلاد قد استنفدت مواردها؛ ففي عهد الملك «توداخليا» نشاهد أن «توكولتي-أنورتا» (١٢٦٠–١٢٣٢ق.م) ابن ملك «آشور» المسمى «سلمانزار salamansar» قد أغار على بلاد «سوريا» العليا حليفة «بوغازكوى» وفصلها عنها، وقد انتهز هذا الملك فرصة نضوب معين بلاد «خيتا» وأخضع بلاد «بابل» حوالي عام ١٢٤١ق.م، وقد خلف «أرنواندا» الرابع ملك آخر يُدعى «توداخليا» الخامس على عرش «خيتا»، الذي انتهى عهده الخامل حوالي ١٢٠٠ق.م، وقد انقطعت عنا فجأة سجلات «بوغازكوى» وتمزقت إمبراطورية «خيتا»، دون أن نعرف على وجه التأكيد الأحداث التي أدَّت إلى تدهورها وسقوطها من بين دول الشرق العظيمة في تلك الفترة، وإن كان في استطاعتنا أن نصل عن طريق الظن إلى الأسباب التي أدَّت إلى ذلك السقوط، فقد كانت دولة «خيتا» — في «بوغازكوى» عاصمتها — يدير شئونها طائفة اسمها «النيزيون»، ولم تصل إلى درجة هامَّة بين دول الشرق القديم إلا في عهد الملك «شوبيليوليوما»، وقد كانت عملية توحيد البلاد حتى عهد هذا الملك، ومنذ وصول أهل «خيتا» الآريي الجنس إلى آسيا الصغرى حوالي عام ١٢٥٠ق.م سائرة على قدم وساق، وتدل الوثائق التي وصلت إلينا من سجلات «بوغازكوى» على أنه كان لا بد من صراع عظيم لتأليف هذه الدولة وتوسيع ممتلكاتها، وهذه الفترة الطويلة التي استغرقت عدَّة قرون للوصول إلى مثل هذه النتيجة العظيمة يمكن تفسيرها بالأحوال التي كانت تجري في هذا العهد، فقد كان «النيزيون» قليلي العدد؛ ولذلك لم يكن في استطاعتهم الاستيطان في البلاد التي فتحوها، كما لم يكن في مقدورهم أن يتركوا فيها حاميات كافية للمحافظة عليها، هذا بالإضافة إلى أنه لم تكن لديهم طرق معبدة تسمح لهم بالقيام بحركات حربية سريعة، ويمكن الإنسان أن يفهم أهمية طرق المواصلات إذا اخترنا مثلًا من الأمثلة القريبة منا مثل حروب «فندي Vendee» إذ إن أعداءها تعبوا على قوَّتهم؛ لجهلهم بطرقها التي يسلكونها في الفرار ونقل القوَّات والأمتعة.

على أن هذه القرون الطويلة التي سلخت في سبيل توحيد آسيا الصغرى تحت سلطان ملوك «خيتا» ليست من الأمور الشاذة؛ إذ نجد أن أول دولة عظيمة قامت في «مسوبوتاميا» — ما بين النهرين — وهي دولة «سرجون آجادا»؛ لم تمكث فترة طويلة وقد قطعت قرونًا عديدة قبل تكوينها في الاستعداد وفي محاولات عنيفة لتكوينها. وتدل قوائم الأسر التي وصلت إلينا — على الرغم من الخرافات التي تتخللها — على جهود طويلة مستمرة بُذلت في تكوينها.

ولنا أن نتساءل هل كان هذا الاتحاد وثيقًا ثابتًا؟

والجواب على ذلك بالنفي؛ لأن كل هذه القبائل التي تتألف منها الوحدة الخيتية كانت قد اتحدت — على كره منها — بضغط من الحكومة المركزية التي كانت تقبض على أجزاء الاتحاد بيد من حديد، ولم تندمج — يومًا ما — في وحدة قوية، بل كانت كل ولاية تحافظ على مطامعها وشخصيتها، وهذا هو السبب في أن دول الشرق العظيمة كانت — ولا تزال — تتفكك عراها وتتلاشى وحدتها أمام المغير القوي كما حدث «لآشور» و«بابل» ودولة «أخميدة»٢ وهذا هو بعينه ما أصاب بلاد «خيتا» التي كانت في ظاهرها دولة قوية مترامية الأطراف وفي داخلها متفككة العرا لا يربط أجزاءها صلة قوية؛ فقد أخذت كل القبائل التي أخضعت بالقوة تستعيد استقلالها عند سنوح الفرصة، هذا إلى أن أقوام البحار قد أتوا معهم في هجرتهم بجيوش جرارة جديدة للهجوم على آسيا الصغرى.

وقد رأينا كيف أن ملك «خيتا» «مواتالي» قد استعمل الأقوام الهمج في محاربة مصر، وكيف أنه — بتوجيههم لفائدته — قد أمكنه المحافظة على كيان إمبراطوريته، بيد أن الموقف في هذه المرة كان أشد خطورة، فقد كان هجوم «الإيليريين» الذين استوطنوا الشمال الغربي من شبه جزيرة البلقان سببًا في هجرة الدوريين الذين يؤلفون جزءًا من سكان بلاد «البلوبونيز» واستيطانهم جزر «سيكليد» وجزيرة «كريت»، وقد طغت مدنيتهم على المدنية المسينية التي حلت بذورها محل الثقافة المنوانية (كريت)، وقد كانت قبائل «تراقيا» قد وصلت إلى آسيا الصغرى عن طريق البسفور (هلسبونت)، وأخذت أقوام «ماسا» و«دردانيا» وغيرها تنضم إلى حركة هذه الهجرة، وكانت قد بدأت موجة جديدة من «الآخيين» تشق طريقها، فقضت على كل هذه الفيالق التي كانت تؤلف جزءًا من أقوام البحر بزحفهم على مملكة «النيزيين» (خيتا) في «بوغازكوى» عاصمة ملكهم، وهي التي كانت قد تألفت فيما مضى بفضل حركة هجرة مماثلة وإن لم تكن في ضخامتها تشبه التي نحن بصددها الآن.

وقد كانت بلاد «آشور» حتى هذا الوقت تعيش في سلام وأمان مع «خيتا» القوية، ولكن عندما تولى زمام الأمور فيها الملك «توكولتي إنورتا» (١٢٦٠–١٢٣٢ق.م) ورأى أن الانحلال قد أخذ يدب في أرجاء بلاد «خيتا» بسبب الثورات الداخلية التي قامت فيها؛ أخذ في الحال يعمل على مدِّ حدود بلاده على حساب جارته، وقد أنجز ذلك بمهارة وحذق، فتحاشى مهاجمة البلاد التي كانت تحت سلطان ملك «خيتا» مباشرة، كما أنه لم يمس البلاد التي كانت تدين لمصر بالطاعة والولاء، بل هاجم بلاد «سوبار»٣ التي كانت تمتد على الشاطئ الأيسر لنهر «الفرات» وجنوب بلاد «المتنى»، وقد أوغل في هجومه حتى «بابل» وأفلح في الاستيلاء عليها زمنًا. ويدل ما لدينا من معلومات على أن «خيتا» ومصر لم تتدخلا في وقف بلاد «آشور» عند حدها؛ لأن الهجوم كما يظهر لم يكن موجَّهًا لواحدة منهما بالذات، ولا شك في أن ذلك من الأخطاء السياسية العظيمة التي ارتكبها كل من الدولتين. والواقع أن الخطر الأكبر الذي يهدد كيان «مصر» و«خيتا» هو الغزوات التي قامت بها أقوام الهند الأوروبية، وترجع بدايتها إلى الحملات التي شنَّها اللوبيون بمساعدة قبائل الهند الأوروبية في عهد كل من «سيتي الأوَّل» وابنه «رعمسيس الثاني» كما ذكرنا ذلك من قبل (راجع مصر القديمة ج٦).

غير أن هذه الحملات لم تكن حتى نهاية عهد «رعمسيس الثاني» تُعدُّ خطرًا مباشرًا يهدِّد كيان الدولة المصرية أو ممتلكات بلاد «خيتا»، والواقع أن ملك «مصر» كان أحيانًا يستعمل أولئك الأقوام الوافدين جنودًا مرتزقة كما حدث في موقعة «قادش»، فقد رأينا جنود «شردانا» يؤلفون جزءًا مختارًا من جيش «رعمسيس الثاني» عند هجومه على «خيتا»، وكذلك استعان ملك «خيتا» هؤلاء الأقوام في حروبه مع مصر، وقد كان من السهل على كل من الدولتين القضاء على أية قبيلة من هؤلاء الأجانب إذا قامت بعصيان أو ظهر منها أنها خطر يهدِّد كيان البلاد.

ويدل ما لدينا من وثائق تاريخية على أنه — في المدة الأخيرة من عهد «رعمسيس الثاني» — ظهرت حركة هجرة في إقليم بلاد «البلقان» والبحر الأسود قام بها عدَّة أقوام وكان لها أثر سيء في الشرق الأدنى.٤

وكانت هذه الهجرة كالسيل الجارف، فانتشرت في «آسيا الصغرى» وفي جزر «بحر إيجا» وفي بلاد «الإغريق» كما أسلفنا، حتى وصلت إلى بلاد «لوبيا»، ولم تكن هناك قوة في العالم تستطيع وقف هذا الزحف الجبار، فقد كان المهاجمون يصلون إلى تلك الجهات جماعات عن طريق البر والبحر كلما هيأت لهم الظروف، جالبين معهم نساءهم وأطفالهم وأمتعتهم. ومن ثم نعلم أن غرضهم الأول كان استيطان تلك البقاع الخصبة الغنية، ولم تستقر فئة منهم في جهة حتى تدهمها أخرى من المهاجرين وتضطرها إلى النزوح نحو الجنوب. وقد كانت «خيتا» أول بلد أغار عليه هؤلاء الهنود الأوروبيون، وقد ذكرنا من قبل احتمال أن يكون هذا الغزو السبب المباشر في الأزمة التي حدثت في داخل بلاد «خيتا» وأدَّت إلى الانهيار السريع الذي حاق بهذه الدولة القوية بعد موت عاهلها «خاتوسيل»، ومن المحتمل أن قوم «خيتا» قد حاولوا بادئ الأمر صدَّ تيار هؤلاء الغزاة الذين أتوا عن طريق البحر ونجحوا فعلًا بعض الشيء في استيطان بلادها، وإذا كان بعض أهل هذه القبائل الهندية الأوروبية قد تمكن من خرق الحصار الذي ضربه أهل «خيتا» في طريقهم إلى الجنوب والوصول إلى إقليم «سوريا» و«فلسطين»، فإلى «خيتا» يرجع الفضل العظيم في تأخير الهجوم العنيف الذي قام به هؤلاء الأقوام على هذه الجهات.

ومما يؤسف له أن «رعمسيس الثاني» في تلك الفترة كان في أواخر أيام حياته كما كانت بلاده على غير استعداد للقيام بأية حروب على هؤلاء الغزاة.

ولو كان في استطاعة «رعمسيس الثاني» أن يتدخل في صد هؤلاء المهاجرين من أقوام البحر لقضى على الخطر الذي هدَّد كيان الشرق الأدنى كله، ومن ذلك نرى أن الفرعون المسنَّ قد ترك لابنه وخليفته «مرنبتاح» إرثًا مثقلًا بالمصاعب والمشاكل داخل البلاد وخارجها.

وقبل أن نتحدث عن هؤلاء المهاجرين وأصلهم يجدر بنا أن نتحدث بإيجاز عن نشأة الفرعون «مرنبتاح» الذي كان من نصيبه منازلة هؤلاء الأقوام الذين اجتاحوا الشرق من البر والبحر، فضلًا عن خطر اللوبيين الذي كان يلوح من جهة الغرب.

(٢) «مرنبتاح» قبل تولي الحكم

كان ترتيب الأمير «مرنبتاح» في القوائم التي تركها لنا «رعمسيس الثاني» بأسماء أولاده الذكور الثالث عشر، وأمه هي الملكة «است نفرت»، وقد اختاره والده ولي عهد لعرش بلاده في السنة الخامسة والخمسين من حكمه، وذلك بعد موت الأمير «خعمواست» الذي ظل وليًّا لعهد المملكة المصرية مدَّة طويلة.٥
وقد وصل «مرنبتاح» إلى مرتبة الكاهن الأعظم للإله «بتاح» (الكاهن سم) وكان يقوم بالمراسيم الدينية في جبانة «السرابيوم» «بسقارة» للعجل أبيس٦ وقد وجد اسمه — فيما عدا تلك القوائم التي عددت أسماء أولاد «رعمسيس الثاني» — على آثار «تل بسطة» و«تانيس» و«هليوبوليس»؛ ومن ثم نعلم أن ذكر اسمه كان محصورًا في آثار الدلتا في الأغلب الأعم. (راجع مصر القديمة ج٦).
وقد نشر الأستاذ «كيمر» نقوش جعران باسم هذا الأمير من الأهمية بمكان عن حياته قبل تولي الملك. وقد قال بائعو هذا الجعران: إنه عثر عليه مع مجموعة جعارين أخرى مستخرجة من مكان ما شمالي «فاقوس»، والجعران المنقوش باسم «مرنبتاح» في هذه المجموعة من الجعارين مصنوع من حجر «استيتيت» المغطى بطلاء مائل للخضرة وقد جاء عليه المتن التالي:٧

الأمير النائب عن «جب» إله الأرض (أي الملك)، والنطفة الإلهية (أي الابن الإلهي) الذي أنجبه الثور القوي ومن في يده تجمع السهل والحزن (أي البلاد الأجنبية)، واليقظ القلب لتقديم العدالة لأبنائه (أي أسلافه) وللآلهة كلهم، والوحيد الذي لا مثيل له، ومن كل البلاد الأجنبية تحت سلطانه، الكاتب الملكي، وقائد الجيش الأعلى، والابن الملكي «مرنبتاح» المخلد أبدًا.

ومن هذا النقش الهام نعلم أن الابن الملكي «مرنبتاح» كان يشغل وظيفة الكاتب الملكي، وأهم من ذلك أنه كان القائد الأعظم للجيش.

ولا نزاع في أن هذا النقش يشير إلى السنوات الأخيرة من عهد «رعمسيس الثاني» عندما كان طاعنًا في السن، وهو العهد الذي تولى فيه ابنه الثالث عشر «مرنبتاح» القيادة العليا لجيش الفرعون بعد موت إخوته الاثني عشر الذين كانوا أكبر منه سنًّا، ونحن من جانبنا نعلم أن الفرعون «رعمسيس الثاني» بعد حروبه التي شنها في النصف الأوَّل من حكمه جنح للسلم وأخذ يحكم البلاد في هدوء مستمر أربعين عامًا تقريبًا. والظاهر أنه في شيخوخته قد اعتزل كل سياسة تؤدِّي إلى الحرب، وترك أمر حراسة حدود إمبراطوريته بطبيعة الحال لابنه. وتدل شواهد الأحوال على أن هذا الجعران قد عُثر عليه في إحدى المدن الكبيرة التي كان يتخذها الفرعون مقرًّا له في الدلتا، وهذه المدينة بلا نزاع هي «بررعمسيس» (قنتير الحالية)، فإذا كان هذا الاستنباط صحيحًا وأن هذا الجعران قد وجد فعلًا مع غيره في إناء واحد كما ادعى التاجر الذي باعه، فإنه يجوز لنا أن نتصور أن عظماء القوم في مصر كانوا يقتنون مجاميع تذكارية من الجعارين. وقد لاحظ البعض كثيرًا أن الجعارين التذكارية كانت تُقتنى كما تُقتنى التحف التذكارية الآن.٨ وهذه الموازنة يمكن أن تكون لها قيمة أعظم من ذلك إذا أمكن البرهنة على أن المصريين كانوا يجمعون هذه الجعارين التذكارية كما نجمع نحن الآن المداليات وطوابع البريد.

والواقع أن لدينا برهانًا مقنعًا قد يكون معضدًا لنظريتنا هذه؛ وذلك أننا نجد بعض الجعارين التذكارية مجموعة معًا أحيانًا كما توجد مجاميع المداليات التذكارية معًا، وهذا ما حدث فعلًا في المجموعة التي وجد فيها جعران الأمير «مرنبتاح»، فقد وجدنا من بينها جعرانًا تذكاريًا للملك «أمنحتب الثالث» الذي حكم قبل «رعمسيس الثاني» بمدة.

والآن يتساءل الإنسان عن تلك المناسبة التي أراد «مرنبتاح» إحياء ذكراها بنقش هذا الجعران الذي لم يصل إلينا منه حتى الآن إلا نسخة واحدة.

والظاهر أن هذه الذكرى كانت بمناسبة تنصيبه وليًّا للعهد وقائدًا للجيش، كما يدل على ذلك لقب «الأمير الوراثي» (ربعتي) الذي كان يعني في هذا الوقت نائب الفرعون وولي العهد في آن واحد كما شرحنا ذلك من قبل (راجع مصر القديمة ج٥).

ويوجد في متحف «برلين» الآن تمثال للإله «بتاح» وعليه اسم «رعمسيس الثاني» وقد كُتب عليه متنان «لمرنبتاح» بوصفه أميرًا، ومن المحتمل أنه كان قد أهداه لهذا الإله في حياة والده.٩

(٣) الفرعون «مرنبتاح» وحروبه مع لوبيا وأقوام البحار

يدل ما لدينا من وثائق على أن اختفاء «رعمسيس الثاني» من مسرح الحياة لم يحدث لها أي أثر ظاهر في حالة البلاد، بل سارت الأمور في مصر على ما كانت عليه في عهد والده، ومنذ ذلك العهد استولى «مرنبتاح» على كل السلطات التي كانت في يده عندما كان وليًّا للعهد، ولما حضرت والده الوفاة لم يكن فتيًّا بعد، إذ يُحتمل أنه كان قد وُلد حين كان أبوه في السادسة والعشرين من عمره، وهي السنة الثامنة من سني حكمه على وجه التقريب، ولم يتولَّ «مرنبتاح» عرش الملك إلا وهو في نحو الستين من عمره، وليس لدينا ما يدل على أنه كان مشتركًا مع والده في الملك كما اشترك «رعمسيس الثاني» مع والده «سيتي الأوَّل».

وآخر أثر لدينا من عهد مؤرخ بالسنة الثامنة من سني حكمه. بيد أن «مانيتون»، على حسب ما نقله عنه «يوسفس»، يقدِّر سني حكمه بتسعة عشر عامًا وستة أشهر؛ أو بعشرين عامًا على حسب قول «أفريكانوس»، ولا بد لنا من أن نقبل هذا التقدير مؤقتًا بشيء من التحفظ حتى تنكشف الحقيقة عن مدة حكمه بما تجود به الآثار الدفينة في تربة مصر، ومن ثم نرى أن ملكًا طاعنًا في السنِّ قد خلفه آخر بلغ أرذل العمر، والبلاد في هذه الفترة بالذات في حاجة شديدة إلى فرعون فتيٍّ ينهض بها، ويدافع عن حدودها المعرضة للخطر، والخطر في هذه المرة بخاصة لم يكن من ناحية آسيا كما اعتاد القوم، بل كان من ناحيتي بلاد «لوبيا» وأقوام البحر؛ لأن العلاقات التي كانت بين الفرعون وممتلكاته وقتئذ في «سوريا» كانت على غاية من الود والصفاء كما يبدو، ولا أدل على ذلك من أن الفرعون قد أرسل الغلال لحليفته «خيتا» في أثناء القحط الذي اجتاح «سوريا».١٠
وقد قابل المصريون تولية «مرنبتاح» بالفرح والسرور كما جاء في قصيدة أنشأها لهذه المناسبة وهي:
افرحي أيتها الأرض قاطبة، قد جاء زمن الخير؛ فقد أُقيم سيد على كل الممالك وأتى الشهود إلى مكانه، وهو الذي يحكم ملايين السنين، عظيمًا في ملكه مثل «حور نبن رع» محبوب «آمون» الذي يفيض على مصر بالأعياد، ابن «رع» «مرنبتاح» منشرح بالصدق. إيه! يا أيها الأتقياء، تعالوا وشاهدوا! قد قضى الصدق على الكذب وخرَّ المذنبون على وجوههم، وولى الطامعون أدبارهم، والماء ثابت لا ينقص، والنيل يحمل فيضانًا عظيمًا، والأيام أصبحت طويلة، والليالي لها ساعات معدودات، والشهور تأتي في مواقيتها، والآلهة منشرحون سعداء القلوب، والحياة تمر في ضحك وعجب.١١
وتدل شواهد الأحوال على أن الأمور في مصر نفسها بعد تولية «مرنبتاح» الملك كانت هادئة كما يقول «إدوردمير»:١٢ إن «مرنبتاح» في سني حكمه الأولى قد وجه اهتمامه إلى توطيد النظام في ممتلكاته الآسيوية؛ إذ كانت الأحوال قد اضطربت بعض الشيء على أثر التغيير الذي حدث في عرش الملك، وكما يحدث عادة في مثل هذه المناسبات بقيام الأمراء المحليين ببعض الثورات. وقد استند في زعمه هذا على ما جاء في الجزء الأخير من قصيدة النصر التي أُلفت بمناسبة انتصاره على اللوبيين ويقول: إن هذه القصيدة قد أُرخت بتاريخ يوم الانتصار على اللوبيين وهو اليوم الثالث من الشهر الحادي عشر من السنة الخامسة، ولكنها أُلفت بطبيعة الحال فيما بعد، ويظهر أن الحوادث التي ذُكرت في هذه القصيدة قد حدثت في زمن قبل زمن تاريخ اللوحة، وإذا كانت قد وقعت واقعة بعد انتصاره على اللوبيين لفصل لنا القول فيها كما هي العادة. أما قول «برستد» على حسب ما جاء في يوميات موظف حدود مؤرخة بالسنة الثالثة من حكم هذا الفرعون:١٣ إن الفرعون كان في ذلك الوقت في «فلسطين».

فكلام من الصعب تصديقه، والواقع أن مكان الملك الملك والذي كانت ترسل إليه فيه الرسائل هو مدينة «رعمسيس» بالدلتا وهي «برعمسيس» (قنتير الحالية)، وفضلًا عن ذلك قد وصل إلينا مصادفة عدد عظيم من أوراق البردي من السنين الأولى من حكم «مرنبتاح» تصف لنا هذا المقر كما ذكرنا ذلك من قبل (راجع مصر القديمة ج٦).

وعلى الرغم من وجاهة ما قاله الأستاذ «إدوردمير» في هذا الصدد ظن بعض المؤرخين أن ما جاء من وصف عن حالة البلاد المقهورة في آخر قصيدة النصر لا يخرج عن كونه مجرد تفاخر اعتاده الفراعنة منذ أوَّل عهود تاريخهم وأصبح أمرًا موروثًا.

وصاحب هذه الفكرة وقائدها هو الأستاذ «إدورد نافيل»، إذ نجده بعد أن استعرض التراجم المختلفة للجزء الأخير من قصيدة النصر الذي أحرزه «مرنبتاح» على اللوبيين١٤ يقول: «إنه لا يوجد بين هذه التراجم ما يؤدِّي المعنى الحقيقي للجمل الأخيرة من هذه القصيدة.» وقد تناول ترجمتها الأستاذ «برستد» وغيره وقالوا عنها إنها تعني أن «مرنبتاح» كان مثله كمثل والده، قد قام بحملة مظفرة في «سوريا» و«فلسطين»! وهذا الزعم لا تحققه صيغة المتن ومحتوياته، بل إن هذا النقش لا يخرج عن كونه مديحًا خاصًّا بالانتصار العظيم الذي أحرزه «مرنبتاح» على اللوبيين وهزيمة رئيسهم «مريي»، وهذا المديح كان قد كُتب بعد الفوز بزمن قليل. ففي السنة الخامسة في الشهر الثاني من الفصل الثالث جاء رسول إلى الفرعون يخبره بهجوم اللوبيين. ويقال إن النقشين العظيمين في مديح الفرعون كانا قد نُقشا في الشهر التالي، وأحدهما في الدلتا والآخر في «طيبة»، وقد وجدت كذلك صورة على لوحة في معبد الكرنك ومما يُؤسف له أننا لم نعثر إلا على جزء منها. وهذه القصيدة تشبه قصائد الأعياد التي كانت — في العادة — تُنشد بعد إحراز انتصار عظيم، أو إشارة إلى الخلاص من كارثة؛ والأمثلة على ذلك كثيرة في التوراة. والظاهر أنه من البعيد جدًّا غزو «مرنبتاح» «سوريا» قبل محاربة اللوبيين؛ إذ لو كان الأمر كذلك لوجدنا إشادة بأعماله العظيمة التي قام بها هناك غير هذه الكلمات القليلة التي جاءت في نهاية متن هذه اللوحة.

ولقد كان من الضروري أن يتحدث المؤلف عن المذبحة العظيمة التي قام بها الفرعون وعن قطع رءوس الأمراء هناك، وكان لا بد له أن يدون لنا الوصف المفخم العادي عن انتصارات «مرنبتاح»، هذا فضلًا عما قاله «مكس مولر» بحق: «إن «مرنبتاح» الذي عاش في سلم مع «خيتا»، والذي كان مهددًا في ملكه «بلوبيا» لا يمكن أن يكون قد قام بفتوح في «سوريا» في السنين الأولى والثانية من حكمه.» وقد أخذ بعد ذلك «نافيل» يفند ما استنبطه «برستد» من يوميات موظف حدود من وقوع حملة في السنة الثالثة قام بها «مرنبتاح» على «سوريا»، ففند ما جاء في هذه الخطابات بطريقة غير التي استنبطها «إدوردمير» كما أسلفنا.

وقد ختم «نافيل» مقاله بالكلمات التالية:

وهكذا نرى أن الأسطر الأخيرة من لوحة النصر تدل على أن سلامة البلاد كانت تامة، ففي الجانب الأفريقي كان نصره مبينًا حاسمًا، ومن جانب «خيتا» كانت هذه البلاد معه في سلام منذ حكم والده، أما الممالك الأخرى التي يصح أن تصبح أعداء له فقد صارت لا حول لها ولا قوة.

وليس هناك أية إشارة تدل على أن هذه الحالة كانت نتيجة لانتصار الملك؛ إذ لم يذكر هناك بوصفه فاتحًا، ولم يَقُلْ إنه شخصيًّا قد فعل أي شيء في تخريب «عسقلان» أو «إنواما Inuamma»، ولا نزاع في أنه من غير المعتاد في المتون المصرية كما نعرفها أن يتغاضى كاتبها عن الأعمال الطبيعية التي قام بها مليك البلاد؛ إذ إن كل نصر وكل نضال كان يُعزى إلى الفرعون نفسه. وفي مصر نجد الأساليب التاريخية لا تزال تحمل الصبغة التي نجدها في أصل التاريخ، فقد بدأ المصري كتابة التاريخ بالتراجم والنقوش التاريخية في مصر — وكذلك سرد الحوادث في التوراة — لا نجد فيها إلا تراجم للملوك أو حوادث متعلقة بأشخاصهم، وفي يوميات الموظف التي أشرنا إليها لا نجد فيها سرد فتح للفرعون «مرنبتاح» في «فلسطين»، بل إن الحملة المظفرة المنسوبة إليه في «فلسطين» لا تخرج عن مجرد نظرية تستند على متنين لا يمدنا واحد منهما بأية إشارة عن هذه الحروب، كما أنهما خاليان من أي برهان إيجابي، ومن أجل ذلك يجب أن تُمحى هذه الفكرة جملة من تاريخ «مرنبتاح».

والواقع أن ما أدلى به الأستاذ «نافيل» قد يكون في ظاهره أقرب إلى الصواب، وبخاصة عندما نعلم أن لوحة نصر «مرنبتاح» كانت مكررة في المعابد المصرية كما سنرى بعد؛ فهي تصف ما كانت عليه البلاد في الداخل والخارج بعد حرب لوبيا وقبلها كما نرى ذلك في بعض القصائد، اللهم إلا إذا عُثر على متن جديد يؤيد ما فرضه «إدوردمير» وما ادعاه «برستد» في أمر غزوة «فلسطين».

(٣-١) لوبيا وأقوام البحر

والواقع أن الخطر الذي كان يهدد البلاد بعد فترة من حكم «مرنبتاح» قد أتى من ناحيتين:

الأولى من جهة بلاد لوبيا، والثانية من جهة أقوام البحر. وقد كان هذا الخطر موجودًا على حدود البلاد منذ زمن بعيد، بيد أن ما كان «لرعمسيس الثاني» من هيبة وسلطان قد عاق أمثال حملات اللوبيين وحلفائهم من الإغارة على التخوم المصرية، ولكن بعد موته بفترة وجيزة نشاهد العاصفة تهب في عهد ابنه «مرنبتاح» على البلاد من الغرب والشمال مما سبب جرحًا بالغًا لأرض الكنانة، وقد ترك لنا «مرنبتاح» نقشًا على جدران «معبد الكرنك» صور لنا فيه الخطر الذي كان يحوم حول البلاد، كما مثل أمامنا المعدات التي أعدها لصد هذا الخطر والقضاء على العدو الذي تحالف أوَّلًا مع أقوام البحار لغزو مصر طلبًا للقوت والاستيطان.

والواقع أن السنين الأخيرة من عهد «رعمسيس الثاني» كانت سني تدهور مستمر، وقد انتهزت القبائل القاطنة على حدود مصر الغربية تلك الفرصة وأخذ جنودها يزحفون على الأرض الواقعة على حافة النيل الخصيب حتى وصلوا في زحفهم إلى جانب النيل. وقد مكثوا هناك عدة أشهر واحتلوا الواحة البحرية وخربوا «واحة الفرافرة»، وقد زاد الطين بلة أن هؤلاء اللوبيين قد ألفوا حلفًا مع أقوام البحر الأبيض المتوسط الذين أخذوا ينقضُّون على الدلتا من «سردينيا» وفي الجهات الغربية من آسيا الصغرى على الشرق، ويُعد ذكر هؤلاء الأقوام في الوثائق التي تركها لنا «مرنبتاح» أقدم ما عُرف من ظهور الأوروبيين في النقوش والمخطوطات المصرية.

وسنحاول هنا أن نأتي ببعض ما وصل إليه الباحثون في أصل اللوبيين ثم نتبعه بكلمة عن أقوام البحار.

ولما كان اللوبيون لهم صلة وثيقة بمصر كالصلة التي بين مصر وأهل السودان كان من الضروري أن نفرد لتاريخهم هنا فصلًا خاصًّا مختصرًا يمكن الباحث أن يعرف منه مدى اتصال هذه البلاد بأرض الكنانة منذ أقدم العهود حتى عهد الأسرة التاسعة عشرة التي نحن بصددها الآن.

(٣-٢) تاريخ لوبيا

(أ) مقدمة

إن موضوع تاريخ «لوبيا» له أهمية خاصة في تاريخ مصر القديم وسنتناول بالبحث تاريخ «لوبيا» — لا بوصفها بلادًا أجنبية كانت علاقتها بمصر علاقته خارجية محضة، كما كانت علاقة آسيا وأقوام البحر الأبيض المتوسط بمصر بل للعلاقات الخاصة التي كانت تربطها بها، والواقع أن العلاقات التي كانت بين «لوبيا» ومصر كانت في ظاهرها مثل العلاقات التي كانت بينها وبين جيرانها من الأمم الأخرى وبخاصة في المنازعات الحربية أو في استخدام الجنود اللوبيين في الجيش المصري جنودًا مرتزقة، ولا نزاع في أن المصري منذ فجر التاريخ لم ينظر للقبائل اللوبية إلا بهذه النظرة، فكانت هذه البلاد في نظره كأي بلاد أجنبية أخرى يعلن عليها الحرب عندما كانت تريد توسيع رقعتها على حساب مصر، أو عند إغارة أهلها على الحدود المجاورة، ولكن العلاقات الداخلية الأصلية التي كانت تربط أحد البلدين بالآخر منذ عهد ما قبل التاريخ كانت تتعدى تلك العلاقات السياسية الظاهرة التي نراها في العهد التاريخي بكثير، وذلك أن المصري نفسه لم يكن يميز ذلك الشريط الضيق من الأرض الزراعية الذي كان يربط بلاده بجارتها «لوبيا» قط، وكذلك كانت الحال في أعين اللوبيين، فلم يكن في استطاعة لوبي أن يميز الحد الفاصل بين بلاده وبين مصر.

fig2
شكل ٢: لوبي.

ومن جهة أخرى نجد أن البحوث العلمية الحديثة قد بدأت تفحص تلك العلاقات الوثيقة التي كانت بين البلدين بعد أن كانت كلها موجهة إلى علاقات مصر بآسيا، ومن ثم أصبح من المهم أن نعرف كيف أن الثقافة المصرية كانت تضرب بأعراقها في ثقافة «أفريقيا» وتقاليدها، وكيف أن العلاقات الظاهرة ترجع في أصلها إلى «أفريقيا»، وذلك يُعزى بطبيعة الحال أوًّلًا على الظواهر التي كان لها ارتباط وثيق بحياة القوم الروحية منذ أقدم العهود من حيث الدين واللغة والجنس، وهي عوامل لها تأثيرها الفعال في تقدم القوم ونموهم، وسيتضح لنا مقدار أهمية ذلك عندما نعلم أن كلًّا من هذه العناصر الأصلية كان أفريقي النبعة في الأعم، وأن مصر بذلك قد لعبت — بجوارها المباشر لبلاد السودان جنوبًا وبلاد «لوبيا» غربًا — دورًا هامًّا في تاريخ البلدين.

على أننا — مع ذلك — لا زلنا بعيدين عن الإحاطة التامة بهذا الموضوع، فلا نستطيع إعطاء فكرة واضحة جلية عن العلاقة بين البلدين، وسنحاول مؤقتًا أن نضع هنا بعض الأحجار التي كان الغرض منها إقامة هذا البناء الذي سيقدم لنا عند إتمامه صورة كاملة عن أصل الحضارة المصرية وكيانها.

والواقع أننا — حتى الآن — نجد الاشتغال بالثقافة الأفريقية وعلم الإنسان الأفريقي من الأمور الضرورية في علم الآثار المصرية التي تجب العناية بها.

وفي الحق أنه من الوجهة الأثرية المصرية لم يجمع إلا النزر اليسير من المواد التي تمكننا من الكلام عن العلاقات بين «مصر» و«لوبيا»، فكل ما كتب في هذا الموضوع ينحصر في المصادر التالية:
  • (1)
    Maciver and Wilken, Libyan notes.
  • (2)
    Oric. Bates. The Eastern Libyans.
  • (3)
    MÔller, Die Agypter and ihre Libyschen Nachbarn.
  • (4)
    Scharff: Vorgeschitliches zur Libyerfrage (A. Z. 61, 16 ff).
  • (5)
    Wilhelm HÔlscher: Libyer und Ägypter.
وهذه المصادر تحوي كل ما كُتب عن هذا الموضوع بالإضافة إلى ما كُتب عن الجبانات النوبية التي كشف عنها كل من الأثري «فرث»، والأستاذ «ريزنر»، وهو خاص بعصر ما قبل التاريخ، وكذلك نجد بعض المادة فيما كتبه الأستاذ «يونكر» والأستاذ «استايندورف» في هذا الصدد (راجع The Archeological Survey of Nubia, Report for 1907-8, 1908-9, 1909-1910, 1910-1911 and also by C. M. Firth.)

ولا شك في أن الإنسان إذا أراد بحث العلاقات الثقافية والجنسية بين مصر و«لوبيا» وتصوير الروابط التي تربط بعضهما بالبعض الآخر، استدعى ذلك بحث ثلاث مسائل كبيرة تختلف كل منهما عن الأخرى اختلافًا بينًا في المصدر، كما أن الوصول إلى صورة كاملة من مجموعها لا يزال من الأمور الصعبة المنال، يُضاف إلى ذلك أن كل مسألة من هذه المسائل في الوقت نفسه تبعد عن الأخرى بمدة طويلة، ومن يطلع على كتاب «أورك بيتس» يفهم بسهولة هذه الصعوبات.

وأول الموضوعات في بحث العلاقات بين البلدين مصدره الوحيد هو المواد الأثرية وحدها؛ لأنه من عالم ما قبل التاريخ وخاص بأقدم العهود المصرية التي يمكن الباحث أن يطلق عليها اسم «العصر الأفريقي» ونقصد بذلك الوقت الذي كانت فيه مصر مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالثقافة الأفريقية المبكرة، أي عندما كانت مولية وجهتها غربًا وجنوبًا، ولم يكن ذلك من الوجهة الجغرافية وحسب، بل من الوجهة الثقافية أيضًا التي كانت تتألف منها ثقافة شرق أفريقيا.

والواقع أن مصر في هذا العهد لم تكن قط حدًّا فاصلًا بين ثقافتين، بل كانت ثقافتها مختلطة، وتعد بمثابة حصن لأفريقيا تحميها من الشرق الذي لم يتسرب منه تأثير ثقافي ما. أما من جهة الغرب فالأمر كان مختلفًا؛ إذ تدل الأبحاث الأثرية التي في متناولنا حتى الآن على أنه في هذا الوقت، أي حوالي منتصف الألف الرابعة قبل الميلاد، لم يكن بين مصر وغربيها أية حدود، بل كانت ضمن دائرة ثقافية تشمل جزءًا من شمال الصحراء وشرقيها.

ومنذ منتصف الألف الرابعة قبل الميلاد تطوَّر موقف مصر هذا بالنسبة لجيرانها من أساسه؛ إذ اختفت الحدود بينها وبين الشرق (آسيا). وقد أغلقت الحدود التي كانت مفتحة بينها وبين البلاد الغربية منها، ومن ثم ابتدأ عصر انفصال مصر عن الأمم الغربية المجاورة لها، وكذلك ابتدأ عصر ثقافة مصرية قائمة بذاتها خلافًا للعصر السابق لهذا التاريخ الذي كانت تُعد فيه الثقافة المصرية جزءًا من الثقافة الأفريقية أو نوعًا منها، ومن ثم أخذت العلاقات بينها وبين الغرب تتغير من أساسها، فأصبح منذ ذلك العهد أقوام غرب النيل يُعدُّون أعداء مصر المتوحشين؛ لأنهم كانوا يهدِّدون أرض الكنانة، ومن أجل ذلك اضطرَّت حكومة البلاد المصرية — محافظة على بقائها — أن تعمل على الفتك بكل من يهدِّد كيانها أو يمس سلطانها.

والواقع أن علاقات مصر بالبلاد الغربية منها وقتئذ كانت علاقات عداء تتمثل إما في السعي لتوسيع رقعة بلادها، وإما في الدفاع عن كيانها من هجمات أقوام هذه البلاد.

أما الروابط الثقافية مع أقوام الغرب فقد أخذ نفوذها يقل منذ تلك الفترة، ومن ثم أصبح نمو مصر وتقدمها يأخذ مجرًى مختلفًا تمام الاختلاف عن الثقافة اللوبية، فأصبح من الصعب معرفة ثقافة تلك البلاد أو جنسيتها؛ ففي الوقت الذي كانت مصر تسير فيه بخطًى واسعة في تقدمها ونموها كانت ثقافة البلاد الغربية منها راكدةً ركودًا تامًّا، فإذا شاهدنا في العصر التاريخي المصري بعض أشياء جديدة قد يعزوها الإنسان إلى أصل لوبي فلا يمكن أن يُعد ذلك علامة على فوق الثقافة اللوبية على الثقافة المصرية، بل يرجع السبب الظاهري إلى العلاقات السياسية الخاصة بذلك العهد، والواقع أن هذا النمو الثقافي المتعدد النواحي ليس إلا نتيجة لحكومة مصرية منظمة مقابل نظام بدوي ساذج.

وتتمثل لنا العلاقة الجديدة بين البلدين جليًّا عندما نجد في المتون المصرية أن مصر تتحدث عن «لوبيا» بوصفها بلادًا أجنبية معادية كغيرها من البلاد الأخرى، ولا شك في أن اللوبيين كانوا قد أصبحوا بالنسبة لمصر قومًا أجانب وقتئذ، وتُمدُّنا المصادر التاريخية الأثرية بمعلومات عن هذا العهد، غير أن ما تحدثنا به وما يهم المؤلف يختلف عما تُحدثنا به الآثار التي من عصر ما قبل التاريخ؛ إذ تقص علينا — بالكلام والصور — ما جرى من حوادث تاريخية كالحروب التي شنها الفرعون على بلاد «تحنو» (لوبيا) الثائرة وهزمهم، كما تقدم لنا صور المعارك الحربية أو سوق الأسرى المختلفين في صفوف مكبلين بالأغلال. ومن هذه المصادر نعرف حقائق عن تاريخ مصر من جهة، ومن جهة أخرى نعلم أشياء عن القبائل اللوبية المختلفة التي ربطتها بمصر علاقة ما فنعرف أسماءها ومظاهرها. ومن المهم أن نرى سكان غربي مصر الذين كانوا يقطنون على حدوها ليسوا من سلالة واحدة، بل إن أجناسهم وقبائلهم كانت تؤلف سلالات مختلفة، ومن ثم يظهر لنا السبب في صعوبة البحث في تاريخ هؤلاء القوم في عصر ما قبل التاريخ بل في عصر التاريخ أيضًا.

وفي البحث الذي سنتناوله هنا عن هذه البلاد، لا يمكننا حتى الآن أن نعرف إلا من باب التخمين من أي القبائل اللوبية يرجع أصل القبائل التي من عصر ما قبل التاريخ؛ وعلى المرء هنا أن يكتفي حتى الآن — بوجه عام — بالتعبير عن هؤلاء القوم بأنهم من اللوبيين إلى أن تنكشف الأحوال أمامنا، ويمكننا أن نتحدث على ضوء معلومات محدودة عن كنههم، بيد أن الموضوع يختلف عندما نقرأ أن «بيتس» قد عثر في «مرسى مطروح» على مقابر لوبية، أو أنه قد وجد في الحفائر التي عملت في جبانات بلاد النوبة آثارًا تثبت وجود علاقة بين «لوبية» والنوبة، ولهذا لا يمكن الأخذ بذلك تمامًا عندما يتحدث الإنسان عن علاقات وثيقة بين أقدم التاريخ المصري وبين اللوبيين في ذلك العصر؛ وذلك لأن القبائل اللوبية تختلف في فروعها الأصلية، وأنها ليست متساوية الجنسية؛ لأننا لا نعرف إلى أي قبيلة منها يُنسب هذا الشيء أو من أين أتى.

ومن المهم لموضوعنا تحقيق الجنسية الحديثة لسكان شمال أفريقية — وإن كان من الصعب جدًّا ذلك — لأن العلاقات في خلال ألف السنة الأخيرة قد تغيرت تغيرًا كبيرًا جدًّا حتى أصبح من الحزم ألا نقرن بين هذه السلالة الحديثة والسلالة القديمة، أو نستخلص من ذلك أية نتيجة، وعلى هذا سيكون بحثنا هنا بوجه عام قاصرًا على تاريخ هذه البلاد وبخاصة في عهد الدولة الحديثة وهو ما حدا بنا إلى بحث موضوع «لوبيا». وقبل أن نتناول بحث هذا الموضوع يجب أن نقول كلمة عن استعمال كلمة «لوبيا»؛ إذ الواقع أن الكلمة التي نستعملها اليوم وهي بالمصرية — ريبو أو ليبو — ليست صحيحة؛ لأنها لا تعني إلا قبيلة خاصة من سكان شمال أفريقيا، وهم الذين يقطنون الإقليم المسمى الآن «سرنيكا» في البقعة المرتفعة من برقة، وهي أقرب جزء من أفريقيا لبلاد اليونان، وكان قد نزل فيها الإغريق وأطلقوا عليها اسم «ليبون»، وقد أطلق هذا الاسم كُتَّاب اليونان القدامى على سكان شمال أفريقيا وشرقيها غربي وادي النيل. وينبغي أن نحافظ هنا على هذه التسمية وإن كان معناها الإغريقي في الواقع لا يُطلق إلا على الأقوام القاطنين غربي مصر، وهذه التسمية ليست لها معنًى من حيث الجنس،١٥ بل الواقع أنها تُطلق على القبائل الحامية التي تفرَّع منها عشائر بيض البشرة ومن بينها قبيلة لوبيا. على أن الخلط في استعمال هذا الاسم على هذا النحو في الكتابات الحديثة لم يكن فيه للمصريين القدامى أية جريرة؛ إذ إن المصري في عهد الدولة الوسطى كان يستعمل كلمة «تحنو» للدلالة على هؤلاء القوم، كما أن أهل الدولة الحديثة كانوا يعبرون عنهم باسم «التمحو» بالمعنى الذي يُعبَّر به الآن عن اللوبيين، وعلى ذلك فإننا سنستعمل كلمة «لوبيا» ولوبيين في معناها الجغرافي العام، أو في الحالات التي لا يمكن فيها التحقق من قبيلة من قبائل هؤلاء القوم، ولكن عندما نكون على ثقة من أصل كل قبيلة فإننا سنذكرها بالاسم الدال عليها مثل «اللوبيين» و«التحنو» و«التمحو» و«المشوش».

(ب) التحنو

تدل المصادر المصرية التي في متناولنا حتى الآن على أن مجموعات السلالات الرئيسية التي يتألف منها قوم اللوبيين تُنسب إلى أربع سلالات وهي: «التحنو» و«التمحو» و«المشوش» ثم السلالات «اللوبية»، وسنبحث هنا تاريخ هذه السلالات بقدر ما تسمح به الكشوف الحديثة لأهميتها بالنسبة لمصر. وترجع معلوماتنا عن سلالة «تحنو» إلى عهد فجر التاريخ المصري؛ إذ لدينا أثر من مقبرة لملك يُدعى الملك «وازي» ( لم تُبْقِ منه الأيام إلا على جزء صغير محفوظ الآن «بالمتحف المصري» وهذا الأثر مصنوع من الإردواز، وينقسم الجزء الباقي منه أربعة صفوف أفقية؛ نُقش في الثلاثة الأولى منه صور ثيران وحمير وغنم على التوالي، ونُقش في الصف الرابع صور شجر، وعلى يمين الشجر نُقشت علامة فُسِّرت بأنها رمز للفظة «تحنو».١٦ وقد عثر على أثر آخر يرجع عهده إلى عصر الملك «نعرمر» أحد أخلاف الملك «وازي» السابق الذكر، وهذا الأثر هو أسطوانة من سن الفيل نُقش عليها اسم الملك «نعرمر» وأمامه أعداء مكبلون بالأغلال نُقش فوقهم لفظة «تحنو» وقد مُثل على هذا الأثر سكان بلاد «تحنو».
والواقع أنه لولا وجود شواهد أخرى من العصور التالية لما أمكننا أن نصدر حكمنا على حقيقة سحنات هؤلاء القوم بصفة قاطعة. وأهم أثر كشف لنا النقاب عن كنه هؤلاء الناس هو ما عُثر عليه من نقوش في معبد الملك «سحورع»١٧ أحد ملوك الأسرة الخامسة، ولكن مما يؤسف له جد الأسف أنه لم يَبقَ لنا من الوثائق الخاصة بهؤلاء القوم إلا جزء يسير، ومع ذلك فإن البقية الباقية تقدم لنا صورة صادقة عن هؤلاء القوم؛ إذ قد جاء في النقوش الخاصة بهم العبارة التالية: «ضرب تحنو».١٨ وكذلك وُجد في معبد الملك «بيبي الثاني»١٩ أحد ملوك الأسرة السادسة نسخة أخرى من المنظر الذي وُجد على جدران معبد «سحورع». والظاهر أن تمثيل هذا المنظر على جدران المعابد قد أصبح من المشاهد الرمزية المألوفة الدالة على قوة الفرعون وتغلبه على ما جاوره من البلاد الأجنبية المعادية لمصر، ويُشاهد في هذا المنظر كذلك الفرعون وهو يضرب الأعداء بمقمعه، كما يُشاهد فيه صورة الغنائم التي غنمها من قوم «تمحو»، وتشمل الثيران والحمير والغنم، هذا فضلًا عن قطعان من الماعز لم تُمثل في المنظرين السابقين الخاصين بالعهد العتيق. ويُشاهَد كذلك فوق هذه الغنائم وتحتها صور أسرى مكبلين نُقش فوقهم اسما إقليمين وهما: «باش» و«يكت»، وتدل الظواهر على أنهما إقليمان من بلاد «تحنو»، وفي أسفل الصورة نرى أقارب أمير هذه البلاد، وهم: زوجه وابنته وولداه، كما يُشاهَد في الركن الأعلى على اليمين من هذا المنظر خلف الأسرى صورة إلهة الكتابة والحساب «سشات» تكتب وتحصي عدد الأسرى، كما يدل على ذلك اللوحة التي وضعت أمامها. وكذلك نشاهد في أسفل المنظور خلف أسرة أمير «تحنو» إلهين آخرين وهما إله الغرب والإله «عش» سيد بلاد «تحنو»، وقد منح هذان الإلهان الفرعون كل خيرات البلاد الأجنبية، وليس من شك في أن هذا المنظر على جانب عظيم من الأهمية؛ إذ يضع أمامنا صورة واضحة كل الوضوح مثلت فيها سحنات هؤلاء القوم وشكل ملابسهم، ومن أجل ذلك يُعد مصدرًا عظيمًا يُعتمد عليه في هذا الموضوع، وسنصف أولًا ملابس هؤلاء القوم؛ فأول ما يُلاحظ فيها أن الرجال والنساء كانوا يلبسون لباسًا واحدًا مشتركًا، وهذه ظاهرة تدعو للغرابة والدهشة، فيرتدي كل من الرجل والمرأة شريطًا عريضًا على الصدر من الجلد مُحلى بورود صغيرة ومزخرفًا بالأشكال الدقيقة، ويتدلى طرفاه على الظهر عموديًا ثم يلف كل الجسم ويتمنطق بحزام مزين بخطوط عمودية وأفقية، وكذلك يرتدي كل فرد كيسًا خاصًّا بعضو التناسل، ويلبس في وسطه شريطًا عريضًا مستديرًا مُحلًّى من جهة الحزام اليسرى، ولا نفهم الغرض من هذا الملبس الأخير، وقد اعتقد البعض أنه كيس تُوضع فيه السهام وليس ذلك محتملًا، والظاهر أنه مجرد حلية، أما النحر فقد حُلي بعقد ذي خيوط طويلة تختلف في سمكها نُظمت فيها خرزات بيضية الشكل، ويظهر شعر الواحد من هؤلاء القوم طويلًا متموجًا خفيفًا ومسبلًا إلى ما فوق الكتف، ويُشاهد على الجبين خصلة صغيرة نُظمت منتصبة، أما الفرق الوحيد الذي كان يُلاحَظ بين ملابس الرجال والنساء — خلافًا للحية — فهو ذيل حيوان يتحلى به الرجل، وكانت الأميرة ترتدي ميدعة قصيرة ربما كانت مجرد حلية للزينة وحسب.

ومن المدهش أن الأميرة الوحيدة الممثلة في هذا المنظر كانت تلبس تحت كيس عضو التناسل ميدعة قصيرة ربما كانت بمثابة حلية قد أضافها المثال من خياله هو.

أما الأطفال فكانوا يرتدون اللباس الأساسي الذي يحلي الجزء الأعلى من أجسامهم، ولم يُشاهَد واحد منهم يرتدي حزامًا أو كيسًا لعضو التناسل أو ذيل الحيوان، وهي التي كان يرتديها الرجال والنساء، على أن ما يسترعي النظر في هذه الملابس شيئان:
  • أولًا: أننا لا نجد في المناظر المصرية ملابس للزينة وحدها.
  • ثانيًا: يظهر عليها أنها كانت ذات صبغة سحرية؛ إذ لا نجد من بينها قطعة واحدة حيكت للوقاية أو للمحافظة على الجسم من تقلبات الجو، أو للوقاية من حيوان مهاجم، هذا إذا استثنينا حزام قراب عضو التناسل، أما سائر الملبس فليس له غرض عملي ظاهر بل كانت كلها تُلبس لمجرد الزينة أو لأغراض دينية، أو لتمييز مكانة الرجل بين أفراد قومه.

على أن تمييز الرجال بالتحلي بذيل الحيوان لم يأتِ من باب الصدفة، بل يرجع إلى عقيدة سحرية خاصة بالصيد؛ ولذلك أصبح التحلي به موقوفًا على الرجال وحدهم، وفضلًا عن ذلك نشاهد أن البالغين من الرجال كانوا يلبسون كيس عضو التناسل والحزام، والظاهر أن ذلك كان له علاقة بالختان الذي كان عادة متبعة في مصر عند الرجال الذين لم يبلغوا الحلم، غير أن المدهش في ذلك أن هذا الكيس كانت تلبسه النساء أيضًا وهذه ظاهرة واضحة على الآثار تمامًا.

وقد فسرها بعض علماء الآثار بأن الغرض المقصود من لبس هذا الكيس عند قوم «التحنو» قد نُسي، غير أن الأستاذ «مولر» يقول إن لباس الرجال كانت تلبسه الأميرات من نساء «التحنو» وذلك لإظهار مكانتهن، بيد أنه لا يمكن تصديقه؛ لأن الغرض الأول من لبس كيس عضو التناسل هو الإشعار بختان هذا العضو.

وفي اعتقادي أن النسوة كن يلبسنه دلالة على ختانهم أيضًا — كما هي الحال في مصر حتى يومنا هذا إذ نجد الفتيات الصغيرات يُختن. يُضاف إلى ذلك أن الختان كان علامة على الطهارة والنظافة فضلًا عن دلالته على العشق والغرام، فإذا لبسته المرأة كان غرضها أولًا إظهار طهارتها مع إشباع شهواتها وميولها الغزلية.

أما الأمر الثاني الذي يسترعي النظر فهو ما نلاحظه من التشابه بين حلية ملوك مصر وحلية أهل «تحنو»، وقد بدا ذلك واضحًا على آثار معبد الملك «سحورع»؛ إذ نشاهد في ملابس هؤلاء القوم الذيل المعلق في الحزام يرتديه البالغون منهم، وهذا نفس ما نشاهده في ملابس ملوك مصر الذين كانوا يتحلون بتعليق الذيل، وهو من أمارات الملك، يُضاف إلى ذلك أن اللوبي كان يتحلى بخصلة من الشعر نظمها وصفها على جبينه بصورة تحاكي صورة «الصل» المقدَّس الذي كان يتحلى به الفرعون ليحميه شر الأعداء إذا هاجموه.

ويقول الأستاذ «مولر» عن خصلة الشعر التي تزين الجبهة إنها توجد كذلك عند الحاميين الذين يسكنون جنوبي مصر وكذلك عند أهل «كريت»، هذا فضلًا عن أننا نراها حتى يومنا هذا في شرق آسيا، وقد ظنَّ البعض في أول الأمر أن هذه الخصلة هي الصل نفسه، بيد أن من ينعم النظر يجدها خصلة شعر وحسب.

سلالة التحنو

ولا نزاع في أن أوجه الشبه التي ذكرناها هنا بين ملابس ملوك مصر، أو بعبارة أخرى حليتهم وحلية قوم «تحنو»، قد برهنت بحق على وجود علاقة وثيقة بين المصريين والتحنو من بعض الوجوه، غير أن هذا التشابه لا يتعدى الملابس أي إنه ليس بين الشعبين أوجه شبه في الملامح إلا كما يدعي «إدوردمير» أن المصريين يرجع أصلهم إلى الجنس اللوبي، وهم الذين وفدوا على وادي النيل في بادئ الأمر واستوطنوه بوصفهم صيادين ورعاة مواشٍ، ثم أصبحوا فيما بعد زرَّاعًا،٢٠ وفضلًا عن وجهي الشبه اللذين ذكرناهما بين ملابس ملوك مصر وبين ملابس التحنو فإن لدينا بعض حقائق أخرى تحدثنا عن أصل هؤلاء القوم، فنلاحظ في نقوش الفرعون «سحورع» السالفة الذكر أن الأمراء المغلوبين على أمرهم من «التحنو» قد أُطلق عليهم لقب «حاتي تحنو» أي «أمير تحنو» وقد عثر على أثر نقش عليه هذا اللقب كذلك منحه أمير من هؤلاء القوم في عهد الفرعون «منتوحتب» في بلدة «جبلين»٢١ والواقع أن منح أمير أجنبي هذا اللقب يُعد أمرًا غريبًا في بابه، إذ جرت العادة على أنه لا يُعطاه إلا أمير مصري، هذا إلى أن الأمراء الأجانب كانوا في العادة يلقبون «حقاو» وفيما بعد «ور»، يُضاف إلى ذلك أن النقش القصير الذي نجده أمام إلهة الغرب في آثار الملك «سحورع» السالف الذكر يقول:

إني أمنحك أمراء تحنو.

وهذا التعبير غريب في بابه؛ وذلك لأن من يمنح في العادة هم القوم أنفسهم لا الأمراء.

ولدينا متنان قديمان يفسران قيمة هذا التعبير وأهميته وعلاقته بأهل تحنو؛ عُثر على المتن الأول منهما في مدينة «هابو» بين نقوش يرجع عهدها إلى عصر «تحتمس الثالث» وعهد «أمنحتب الثالث». وهذا النص خاص بتقديم معبد فيقول فيه:
لقد شحنت سفنه بأقوام من بلاد «إيونتو» من أصقاع النوبة ومن أهل «مونتيو» من بلاد آسيا ومن أهل «حاتيوعا» من بلاد لوبيا.٢٢
أما المتن الثاني فيرجع إلى عهد الأسرة الحادية عشرة وهو مقتبس من متون اللعنة التي نشرها الأستاذ «زيته»،٢٣ وقد جاء فيه ذكر «حاتيوعا» (أهل «تحنو») وعلى ذلك يمكن القول بأن «أهل تحنو» كانوا في ذلك الوقت أو في وقت معلوم يسمون بهذا الاسم. وعلى الرغم من أن هذا الاسم كان يطلق على قوم «تحنو» فإنه كان في الوقت نفسه ضمن الألقاب المصرية التي كانت تُخلع على حاكم المقاطعة أو أميرها كما كان لقب شرف، ويعتقد الأستاذ «زيته» أن هذا الاسم قد أُطلق على جيران مصر من باب السخرية؛ لأن خصلة الشعر التي تحلي جباههم مشكلة في هيئة الصل الفرعوني والذيل الذي يعلقونه كانا من خصائص ومميزات ملوك مصر. وهذا التفسير مقبول في شكله ولكن هل من تفسير آخر يوضح لنا أصل هؤلاء القوم؟

فهل يكمن أن يكونوا من أصل لوبي أو أنهم يرجعون إلى أصل مصري؟

والواقع أنهم قد عُدوا منذ زمن بعيد من أرومة مصرية، ويقوي هذه الفكرة اشتراك البلدين في زي واحد، هذا إلى المشابهة في البشرة الخارجية والوجه في كلا السلالتين، يُضاف إلى ذلك أنه قد وُجد اسمان من أسماء أمراء «تحنو» لهما نظائرهما بين الأسماء المصرية وهما: «وني» و«خوتفس»، فالأول اسم قائد معروف عُثر على لوحته العظيمة في «العرابة المدفونة» التي يرجع تاريخها إلى الأسرة السادسة (راجع مصر القديمة ج١).

والثاني معنى اسمه «المحمي من والده» هو اسم كثير التداول بين الأعلام المصرية؛ يُضاف إلى ذلك أن نفس لفظة «تحنو» ترجع إلى أصل مصري معناه «البراق» — وقد تعزي هذه التسمية إلى الملابس البراقة التي كان يرتديها القوم — وكلمة «تحنو» معناها — كذلك — «زجاج» أو «قاشاني»، وقد استُعملت لفظة «تحنو» لتدل على الزجاج كما أن كلمة «صيني» تطلق على «القاشاني» المجلوب من الصين أولًا. والآن يتساءل المرء كيف يتسنى للإنسان أن يبرهن على اشتقاق كلمة «تحنو» بالحجة الدامغة؟

ويمكننا أن نقرر أنها «مصرية»؛ وذلك لأن «التحنو» يختلفون عن اللوبيين الذين يقطنون بجوارهم، ومما له أهمية في هذا الصدد ما نلحظه من أن قوم «تحنو» لا يتحلون بالريشة المميزة للوبيين وهي شعارهم الخاص، هذا إلى أن أسماء الأقوام الآخرين الذين يسكنون هذه الجهات لا يمتون للمصريين بصلة، بل هم في الواقع لوبيون، في حين أن «التحنو» كانت لهم صلات بمصر، وعلامات مشتركة بين السلالتين، كل ذلك يوحي بالتفكير في أن «التحنو» كانوا في الأصل مصريين، وأنهم سكنوا الوجه البحري؛ ثم هاجروا منه في وقت ما نحو الغرب وسكنوا إقليم «تحنو» الواقع على الحدود المصرية. حقًّا لم يصل إلينا حتى الآن أي أثر من بلاد الدلتا يحدثنا عن هذه السلالة من الناس، بيد أننا في الوقت نفسه لا يمكننا أن نعد الأثرين اللذين وجدناهما خاصين ببلاد «تحنو» وهما الأثران المنسوبان للملك «وازي» والملك «نعرمر» مجرد صدفة، بل هما في الواقع أثران قد أُقيما ليحدثانا عن انتصار هذين الملكين على هؤلاء القوم، وقد كان ذلك النصر بطبيعة الحال قبل توحيد الوجه القبلي والوجه البحري، وفي استطاعتنا القول بأن أمير هؤلاء القوم الذي كان يُعد أميرًا صغيرًا بمثابة حاكم مقاطعة «حاتي عا» قد أصبح يطلق عليه «أمير التحنو»، وبتقادم الزمن أصبح هذا اللقب يطلق على كل هذه السلالة التي هجرت موطنها الأصلي، وقد كان هؤلاء القوم الجدد في موطنهم الجديد مخاطبين بأقوام لها ثقافتهم الخاصة، وبخاصة أنهم كانوا آنئذ قد انفصلوا عن مصر التي كانت ذات ثقافة راقية، غير أنهم قد أخذوا بعض الشيء عن ثقافة جيرانهم الجدد، ولا أدل على ذلك من أننا نجد اسم غيرهم في نقوش الفرعون «سحورع» وأعني بذلك قوم «وسا»؛ وعلى الرغم من هذا الاختلاط الجديد فإنهم قد حافظوا على شخصيتهم وتقاليدهم وملابسهم بخاصة.

أما استعمال كيس عضو التناسل فيمكن أن نعزوه إلى أصل لوبي؛ وذلك لأنه كان يُستعمل منذ الأزمان السحيقة هناك، وبقي استعماله مستمرًّا في حين أن استعماله في مصر كان قد اختفى منذ عهد مبكر ولم يستعمل بعد إلا في الأحفال الخاصة بالشعائر الدينية، فنشاهد مثلًا الملك «زوسر» يلبسه في حفل «شوط تقديم القربان»،٢٤ وفيما بعد نجد أن بعض الآلهة كانوا من وقت لآخر يلبسونه، فمثلًا نرى إله النيل يلبسه،٢٥ وكذلك الإله «بتاح تنن»٢٦ والإله «جب»٢٧ (إله الأرض)، هذا إلى بعض آلهة آخرين أقل درجة من السابقين قد ارتدوه.
أما ما قيل من أن الصيادين المصريين كانوا يلبسون هذا الكيس في أثناء الصيد، وأنهم اتخذوا ذلك عادة فقول مردود، وزعم لا يرتكز على مصادر يعتمد عليها، بل يرجع إلى فكرة خاطئة استند مدعوها على جدران مقبرة حاكم المقاطعة المسمى «سبني» في جبانة بلدة «مير»، ونحن نعلم من جانبنا أن «سبني» هذا وأسرته يُنسبون إلى أصل لوبي، وقد حافظ أفراد هذه الأسرة على تقاليدهم القومية الأصلية التي نقلوها من بلادهم.٢٨
وإذا كانت هذه الخصائص المميزة لقوم «تحنو» لا غبار عليها فلدينا أمثلة جديدة قد تعدُّ من الأمور السياسية التي يرجع استعمالها إلى احتفال البلاط بالانتصار على الوجه البحري عند توحيد البلاد، ومع ذلك فإنها لا تُنسب إلى أصل لوبي، فمثلًا نعلم أن شارتي السيادة الملكية في مصر وهما الصولجان والزخمة يعزيان إلى إله «بوصير» المسمى «عنزتي».٢٩

وكان الإله المسيطر على شرق الدلتا قبل توحيد البلاد بزمن بعيد، هذا بالإضافة إلى أن الإله «حور» الذي يمثل الملك كان يقطن المقاطعة الثانية الواقعة في غرب الدلتا، ومن ملابس هذا الإله نشأت عادة التحلي بذيل الثور الذي كان يعلقه الملك في الوجه البحري، ومن أجل ذلك ينبغي على الإنسان بهذه المناسبة أن يتساءل: هل «الصل» الذي يضعه الفرعون على جبينه كان صورة الإلهة «وازيت» التي كانت تمثل في هيئة صل، وأن قوم «التحنو» قد قلدوا ملوك الدلتا في ذلك؟ والجواب على ذلك أن هذا تفسير محتمل جدًّا.

أرض «التحنو» وموقعها

لقد أطلقنا حتى الآن اسم «تحنو» على أهل هذه السلالة التي ما زلنا نتحدث عنها حتى الآن، والواقع أن هذه التسمية ليست صحيحة، والصحيح أنها تُسمى «حاتيوعا»، أما كلمة «تحنو» فهي في الأصل اسم الإقليم الذي يسكنه هؤلاء القوم، ولا أدل على ذلك من المثلين القديمين اللذين ذكرناهما فيما سلف وجاء فيهما ذكر قوم «حاتيوعا»، هذا ونجد فضلًا عن ذلك أثرًا من عهد الملك «منتوحتب» أحد ملوك الأسرة الحادية عشرة جاء فيه ذكر هذه البلاد إلى جانب قومي «النوبيين» و«الآسيويين»، وكذلك جاء ذكرهم في قصة «سنوهيت» بأنهم الذين يسكنون بلاد «تحنو»٣٠ والآن يجب علينا أن نحدد موقع بلاد «تحنو»، ولا نزاع في أنها تقع غربي مصر، ويُذكر اسم هذه البلاد عادة عندما نسرد أسماء البلاد التي تقع غربي مصر منذ أقدم العصور، وكذلك عندما نذكر جيران مصر فإنها كذلك تذكر بموقعها الغربي منها، وقد ذكرنا في متني «تحتمس الثالث» و«أمنحتب الثالث» أنه تقع في الجنوب بلاد السودان، وفي الشرق بلاد آسيا، وفي الغرب من مصر بلاد «تحنو»، وهذه الأمثلة يمكن مضاعفتها في الأزمان التي تلت عهد هذه المتون، وكذلك نجد أن نقوش «سحورع» قد ذكرت لنا موقع بلاد «تحنو» بأنها في غربي مصر، ومع ذلك فإنه في استطاعتنا تحديد موقع بلاد «تحنو» على صورة أدق، فهذا الاسم يطلق غالبًا على المكان الذي كان يُجلب منه النطرون المستعمل في مصر القديمة لتحضير طلاء أشكال الخزف٣١ والزجاج، بيد أن هذه البقعة الصحراوية ليس فيها من الخيرات ما يصلح لسكنى عدد عظيم من الناس، وكذلك يُلاحَظ أن تصوير الأشجار ضمن الغنائم التي ظفر بها الملك كما شاهدناه في لوحتي الملك «وازي» والملك «نعرمر» يوحي إلينا بأن أرض «تحنو» لا تشمل بلادًا صحراوية وحسب، بل تشمل كذلك بقاعًا خصبة في غربي وادي النيل، وعلى ذلك لا يسع المرء إلا أن يفكر في وجود واحة في هذه الجهة قد تكون هي واحة «الفيوم»، وقد أكد لنا ذلك الأستاذ «بسنج»، إذ شاهد في نقش من عهد الفرعون «منتوحتب» أحد رؤساء «تحنو» معلقًا في حزامه صور سمك، ومن ثم استنبط أن «الفيوم» هي موطنه، ونعلم فضلًا عن ذلك أن الإله «سبك» (التمساح) منذ القدم كان يُقدَّس في «الفيوم»، وكذلك نجد أن الإله «سبك» في متن يرجع تاريخه إلى عهد الملك «طهراقا» يمثل بلاد «تحنو» كما أن الإله «ددون» كان يمثل بلاد «النوبة» والإله «سبدو» يمثل بلاد آسيا، و«حور» يمثل مصر.
ونشاهد الإله «سبك» نفسه مرات عدة ممثلًا بوصفه سيد بلاد «باش»، وهي كما تحدثنا نقوش الملك «سحورع» جزء من بلاد «تحنو»، وكذلك جاء ذكره في متون الأهرام بأنه «سبك» سيد «باش»، ثم ذكر بعد ذلك مباشرة أهل «أععوا» العظام جدًّا الذين في مقدمة «تحنو»،٣٢ وكذلك ذُكر اسم «سبك» في «كتاب الموتى» بوصفه سيد «باش» مرات عدة،٣٣ وقد تكلم الأستاذ «زيته» بإسهاب عن موقع بلاد «باش» بوصفها غربي مصر، وبعد مناقشة طويلة قال إنه يجب علينا أن نقرر من المادة التي أوردناها هنا — ما دام ليس هناك ما يناقضها وبخاصة نقوش الأسرة الخامسة — أن بلاد «تحنو» تقع في إقليم «وادي النطرون» و«الفيوم» وأن قوم «تحنو» استوطنوه.٣٤
وهذا الرأي الذي استعرضناه عن موقع بلاد «تحنو» هو ما أدلى به الأثري «هولشر»،٣٥ غير أن الأستاذ «جاردنر» قد تناول موضوع موقع بلاد «تحنو» بالبحث من جديد،٣٦ وسنورد فيما يلي رأيه لنستخلص من الرأيين نتيجة تقرب من الحقيقة إذا أمكن:

إن كلمة «تحنى أو تحنو» هذه هي اسم عريق في القدم عُثر عليه على لوحة تُنسب للملك «وازي»، وكذلك على أسطوانة لخلفه «نعرمر» وقد كانت كلمة «تحنو» أو «تيحنو» اسمًا يُطلق على سكان البلاد الذين يسمون «حاتيوعا» وهذا اللفظ كان يطلق على الأمراء المصريين، وهؤلاء القوم الذين نشاهد أزواجهم ورؤساءهم وأولادهم ممثلين على كثير من معابد الدولة القديمة سمر الوجوه كالمصريين، ويعلقون ذيولًا مثل التي كان يعلقها فراعنة مصر، ويحلون جباههم بخصلة شعر صوِّرت في هيئة الصل الذي كان يحلي به الفرعون جبينه، وهذا أمر يدعو إلى العجب والدهشة، وكذلك كانوا يرتدون قرابًا يضعون فيه عضو التناسل، وكان قدماء المصريين يلبسونه في عصور ما قبل التاريخ، وهذه الخصائص كانت تميزهم عن قوم «تمحو» (اللوبيين)، ويظهر أنه كانت بينهم وبين المصريين قرابة وثيقة، ويُلاحظ على لوحة الملك «وازي» أن اسم «تحنو» قد وُضع بين عدد من الأشجار. ويعتقد الأستاذ «نيوبري» أنه شجر زيتون. ومما له أهمية في هذا الصدد وجود نوع من الزيت قد ذُكر باسم «حاتت تحنو» أي «زيت من الدرجة الأولى». وقد كتبت هنا كلمة «تحنو» كما كتب بها اسم هذه البلاد. وقد برهن الأستاذ «نيوبري» على أن شجرة الزيتون تُعد من الأشجار المتوطنة في الشمال الغربي من أفريقية.

وعلى الرغم من أن ملاحظات الأستاذ «نيوبري» لم تساعدنا على تحديد موقع بلاد «تحنو» بالضبط، فإن رأيه القائل بأنها تقع مباشرة في الغرب من الشمال الغربي للدلتا يتفق مع الحقائق التي نعرفها، ففي الحملة التي قام بها الملك «سنوسرت الأول» على أرض «تمحو» نلحظ أنه قد أحضر معه أسرى — هؤلاء الذين هم في أرض «تحنو» — هذا فضلًا عن إحضاره ماشية كان من المستحيل أن تجد ما يلزمها من طعام إلا في أراضٍ على شاطئ البحر الأبيض المتوسط. هذا ولدينا عدَّة معبودات تربط بلاد «تحنو» بغرب الدلتا، منها الإله «تحنوى» أي «صاحب تحنو» فإنه يوجد ضمن آلهة آخرين من آلهة الوجه البحري، ويمكن توحيده بالإله «حور تحنو» الذي ذُكر في مناسبات مماثلة في كتاب «نافيل» المسمى «قاعة العيد».٣٧

وقد وحد الأستاذ «كيس» هذا الإله بالإله «حور تحنو» صاحب الذراع العالية، وقد ذُكر مرات عدَّة في عهد الدولة القديمة، وكذلك نجد الإلهة «نايت» صاحبة «تحنو» قد ذُكرت مرة. ولا بد لنا من أن نفحص هنا بعض الحقائق التي دعت «زيته» وتبعه فيها «هولشر» إلى القول بأن «الفيوم» يمكن أن تكون في الأزمان القديمة ضمن بلاد «تحنو»، فقد دوَّن في مناظر المعبد الجنازي للملك «سحورع» كلمة «باش» وهي المعروفة كثيرًا في النقوش المصرية بلفظة «باخو» أيضًا. وهذا الاسم على الرغم من أنه أطلق فيما بعد على جبل يُعرف بأنه الأفق الشرقي لمصر كان في الأصل جبلًا في الغرب، وكان إله «باخو» هو الإله «سبك» الذي يمثل في صورة تمساح.

ولم تكن عبادة الإله «سبك» قاصرة على «الفيوم»؛ إذ نجد في قائمة مقاطعات القطر المصري الكبرى أنها تصف إله المقاطعة الرابعة من مقاطعات الوجه البحري، وكذلك نرى الإله «سبك» بوصفه ابن الإلهة «نايت» كان يُعبد في المقاطعة الصاوية — نسبة إلى صا الحجر— ومع ذلك فإنه على الرغم من العلاقات الوثيقة التي نجدها بين آلهة الدلتا المختلفين وبين بلاد «تحنو» لا نجد لدينا براهين قاطعة تدل على امتدادها بعيدًا جهة الجنوب.

ونشاهد في نقوش «سحورع» أن الأسرى من بلاد «تحنو» كانوا يقدمون للفرعون بوساطة إله الغرب وبوساطة الإله «عش» سيد «تحنو». وكل ما يمكن استنباطه مما سبق هو أن تحنو تقع في غربي مصر. ومما يلفت النظر في هذه النقوش أنه قد احتفل بالاستيلاء على الغنائم العظيمة التي تشمل ثيرانًا وحميرًا وماعزًا وغنمًا، وأن الماعز كانت غير مذكورة في اللوحة التي كانت من عهد الملك «وازي». وما يستنبط من كل الحقائق السابقة هو أن «تحنو» الدولة القديمة وما فيها من آلهة من الوجه البحري، وكذلك ما فيها من أسماء مصرية الأصل، وملابس رؤسائها التي تتفق تمامًا مع كل مظاهر الملابس المصرية، يدل على أن بلادهم كانت تشمل التخوم الغربية للدلتا، أو كانت تقع على حدودها تمامًا.

والمصادر الخاصة «بالتحنو» في الدولة الوسطى قد فصل فيها القول الأثري «هولشر».٣٨ أما عن غزوات كل من الفرعونين «مرنبتاح» و«رعمسيس الثالث» — وسأتحدث عنها فيما بعد — فنلاحظ أن كلمة «تحنو» وعبارة «قوم تحنو» أو «أرض تحنو» قد استعملت كلها غالبًا في معنى تقليدي مبهم، ولكن لما كانت نقوش الكرنك العظيمة التي تركها لنا الفرعون «مرنبتاح» تقول إن أمير «لوبيا» قد انقض على أرض «تحنو» فإنه من الممكن أن نعد التعبير يدل على أن هذا الإقليم ما زال هو الملاصق للدلتا مباشرة من جهة الغرب، وفي هذه الفترة كان سكان «تحنو» يُعدون أجانب بالنسبة لمصر، ومن المحتمل أنهم كانوا دائمًا يعدون من أصل لوبي ذوي بشرة بيضاء، ويتكلمون لغة بربرية.

التغير في معنى اسم «تحنو»

أشرنا فيما سبق إلى أن استعمال كلمة «تحنو» بمرور الزمن قد طرأ عليه تغير يُذكر فقد كان لتلك البلاد في بادئ الأمر أهمية جغرافية. ويُلاحَظ أنه في عهد «منتوحتب الأول» كان سكان هذه الجهة يدعون سكان «تحنو»، وقد بدأ التغير الجديد عندما ظهرت سلالة جديدة من اللوبيين يسمون «تمحو»، والظاهر أنهم استوطنوا بكثرة على طول ضفة وادي النيل من الجهة الغربية، والظاهرة الجديدة في استعمال كلمة «تحنو» نلحظها في قصة «سنوهيت» في عهد الملك «سنوسرت الأوَّل»، فقد ذكر لنا أن ولي العهد قد أرسله والده في حملة إلى ساحة الميدان في بلاد «تمحو» ليقضي على هؤلاء «التحنو». ومما يُلحظ هنا أن كلمة «تحنو» لم تخصص بعلامة الإقليم، وأنه أحضرهم من بلاد «تمحو»، وعلى ذلك فإنه يقصد من لفظي «تحنو» و«تمحو» قومًا واحدًا بعينهم، ولما كانت بلاد «تحنو» حتى الآن تُعد أقرب بلاد في الغرب متاخمة لمصر فقد أصبح يُطلق عليها مجرد كلمة «الغرب». ومن ذلك نكون قد وصلنا إلى نقطتين هامتين؛ أولاهما: أن اسم البلاد أصبح يُطلق على سكانها، وثانيتهما: أن استعمال كلمة الغرب أصبح يُطلق على بلاد «تحنو»، ومن ثم أُطلق على أهل البلاد «سكان الغرب».

وسنرى بعد أن كلمة «تحنو» تدل على اللوبيين. والواقع أنه لم يكن في الإمكان أن نميز بعد الأسرة الخامسة سكان هذه الجهات على وجه التأكيد، ففي نقوش الفرعون «منتوحتب» نجد أن مميزات ملابسهم قد اختفت، ونجد أن المصادر المكتوبة لا تحددهم لنا، والأمثلة على ذلك كثيرة جدًّا.

فإذا أخذنا مثالًا واحدًا من نقوش الملكة «حتشبسوت» اتضح صحة ما نقول، فقد ذكرت لنا هذه الملكة في نقوش قاعدة مسلتها بالأقصر أن الجزية من بلاد «تحنو» كانت سبعمائة سن فيل، وذلك ينطبق بطبيعة الحال على سكان بلاد نائية موقعها في الجنوب.٣٩

وبعد ذلك البحث الطويل في قوم «تحنو» يجدر بنا أن نوجه أنظارنا إلى القوم الذين يُسمون بحق «لوبيين» وهم قوم نشأوا في البلاد بطبيعتها ذُكروا لنا في الأزمان التاريخية، ويحق لنا أن نطلق عليهم هذا الاسم بسبب إقامتهم الطويلة ونموهم القومي، ويجب أن نؤكد هنا مرة أخرى أن «التحنو» كانوا يُعرفون عند المصريين منذ أقدم العهود من الآثار بأنهم اللوبيون في أوسع معاني الكلمة.

(ﺟ) قوم «تمحو»

كانت دائرة نفوذ مصر في عهد الدولة القديمة قد تخطت حدودها السياسية؛ ولذلك ينبغي لنا أن نقتفي الأثر الذي تركه سقوط الأسرة السادسة فيما جاورها من البقاع اللوبية.

والواقع أن ما جلبه الارتباك السياسي الذي حدث في مصر حوالي نهاية الأسرة السادسة قد شلَّ كل مرافق البلاد، وأطمع الأقاليم التي حولها فيها، وقد ظهر ذلك جليًّا عندما شاهدنا الأقوام الذين كانوا يسكنون غربي مصر قد تحرروا من أغلالهم وما فرضته عليهم من سلطان، وأصبحوا في أمان وحرية، ولا نزاع في أن هذا التحرر الذي ناله سكان غربي مصر قد مهد الطريق لهم حتى في عهد الأسرة السادسة — للاختلاط بالمصريين. ولا أدل على ذلك من أننا نجد اسم هؤلاء القوم يظهر للمرة الأولى في عهد هذه الأسرة باسم «تمحو»، وهم يؤلفون نسبة عظيمة من سكان «لوبيا». وهؤلاء القوم ذوو البشرة البيضاء من أهل البربر (شمال أفريقيا)، ونعلم أنهم في العهد الكلاسيكي كثروا حتى إنهم كانوا يؤلفون الجزء الأعظم من السكان، يدل على ذلك ما كتبه كثير من المؤلفين الكلاسيكيين (pseudoskulax, 110, kallimachos hymni II. pp. 85-86 & Lukan Phars X. 129–131)، وهؤلاء القوم ذوو البشرة البيضاء الذين يسكنون شمال أفريقيا وصحراء «لوبيا» لا بد أنهم كانوا قبل أن يظهر اسمهم في المتون المصرية معروفين لدى الشعب المصري؛ لأنه في عهد الأسرة الرابعة قد عُرف أفراد يُنسبون إليهم مُثلوا على الآثار المصرية. والواقع أنه قد صادفنا حالة واحدة لم تتكرر بعد، ولكن تدل شواهد الأحوال على أن هؤلاء «التمحو» هم الذين تتمثل فيهم الثقافة اللوبية. (راجع Hölscher Ibid p. 25).

والآن يتساءل المرء عما إذا كان العنصر الهام في تاريخ مصر قبل الأسرات، وهو الذي يُطلق عليه «عهد الثقافة اللوبية»، ينسب معظمه إلى هؤلاء «التمحو»؟ وسيكون مدار بحثنا فيما يلي إيجاد بعض الأسباب والعوامل التي تحل لنا هذا السؤال؛ وهو ذو أهمية كبيرة للحكم على الثقافة المصرية.

أقدم الأدلة على وجود قوم التمحو

صادفتنا كلمة «تمحو» للمرة الأولى في النقوش المصرية التي ترجع إلى عهد الملك «بيبي الأول» أحد ملوك الأسرة السادسة، ذكرها لنا العظيم «ونى» قائد الجيش الذي سار لمحاربة قبائل آسيا، وكان جيشه مؤلفًا من فرق مختلفة، من بينها فرقة من قوم «تمحو» ثم جاء ذكرهم بعد ذلك في عهد الفرعون «مرنرع» في النقوش التي خلفها لنا الرحالة «خوفوحر» في حملته الثانية الكشفية (راجع مصر القديمة ج١).

ولم تكن علاقة مصر وقتئذ ببلاد «التمحو» وثيقة. ولا يمكن أن نفهم من وجود فرقة من هؤلاء «التمحو» في الجيش المصري إلا أنهم كانوا خاضعين للسيطرة المصرية، ولكن من المحتمل أنه كان يوجد جزء منفصل من قوم «التمحو» يعملون في الجيش المصري. والظاهر من حديث «خوفوحر» أن هؤلاء القوم كانوا يسكنون بعيدًا عن وادي النيل؛ وذلك لأن الرحلة من «إلفنتين» حتى بلاد «يام» التي أشار إليها «خوفوحر» في كلامه والعودة منها كانت تستغرق مدة تتراوح بين سبعة وثمانية أشهر. ويدل المتن على أن بلاد «تمحو» كانت غربي بلاد «يام».

وقد ذكر لنا المصري القديم في نقوشه مبلغ العداوة التي كانت بينه وبين أهالي «تمحو» في العصر الذي يقع بين سقوط الدولة القديمة وقيام الدولة الوسطى على حسب ما جاء في متن «إبور» أو «تحذيرات نبى»، إذ قد جاء ذكر «النحسى» (النوبيين) و«التمحو».٤٠

ومما يؤسف له أن المصادر التي في متناولنا عن «التمحو»، وعن «اللوبيين» في عهد الدولة الوسطى ضئيلة. فلا نجد غير ما جاء في قصة «سنوحيت» أي مصدر تاريخي ذي شأن يحدثنا عن علاقة مصر بهذه البلاد، وبخاصة عن تسرب اللوبيين إلى مصر في ذلك العهد الذي كان يُعد بلا شك الفترة التي حدث فيها هذا التسرب. وقد قيل إن اللوبيين قد اختفوا بعض الشيء في عهد الدولة الوسطى، وهذا الزعم لا أساس له من الصحة. ولما كانت المصادر قليلة لدينا في هذا الموضوع فسنحاول أن نضع فكرة عن أحوالهم بقدر ما تسمح به النقوش القليلة التي وصلت إلينا عن اللوبيين في هذا العهد.

لم نعثر على اسم اللوبيين في هذا العهد إلا قليلًا جدًّا؛ فلدينا غير ما ذُكر في «متون اللعنة» وهي ليست متونًا تاريخية ذات قيمة، ومتن تنبؤات الحكيم «نفرو رهو» وهو تحذير أدبي كُتب في عهد «أمنمحات الأول» (راجع كتاب الأدب المصري القديم الجزء الأول) ثلاثة مصادر أخرى جاء فيها هؤلاء القوم؛ الأول: المتون التي من عهد «منتوحتب» وهي التي تكلمنا عنها فيما سبق، والثاني: ما جاء في قصة «سنوهيت» التي يرجع تاريخها إلى بداية الأسرة الثانية عشرة، وهي تقرير مختصر عن حملة قام بها هذا الفرعون على «التمحو» وقد كان قائدها أكبر أبنائه وهو الأمير «سنوسرت» الذي أصبح فيما بعد الفرعون «سنوسرت الأول»، على أن ما جاء عن هؤلاء القوم في هذه الجملة، وما ذُكر عن هزيمتهم كما تنبأ به «نفرو رهو» يذكرنا بالحالة الميئسة التي وصفها لنا الكاتب «إبور» في تحذيراته. أما المصدر الثالث: فهو متن لموظف يُدعى «خعوى» من عهد الفرعون «سنوسرت الثالث» عُثر عليه في «وادي حمامات»٤١ وكان قد أرسله الفرعون ليحضر له طرائف من بلاد «تحنو».
وليس لدينا غير هذه المصادر عن «لوبيا» شيء يذكر، اللهم إلا بعض متون ليست لها علاقة بهؤلاء القوم مباشرة. فمثلًا لدينا «لوحة الكلاب»٤٢ المشهورة المنسوبة للأمير «أنتف»، وقد أثبت الأستاذ «شارف» في بحثه عن أصل اللوبيين أن بعض أسماء الكلاب التي ذُكرت على هذه اللوحة هي أسماء لوبية، وقد حقق منها اسمين وهما: «بحكى» أي (باهك) ومعناه: الغزال، و«إبقور» (أباقر) ومعناه: كلب صيد. والظاهر أنهما اسمان أُطلقا على هذين الكلبين على سبيل التدليل فحسب.
وقد عُثر في «الدير البحري»٤٣ على نقش صُور عليه أسرى من «التحنو»، والظاهر أنه من المناظر التقليدية، وكذلك لدينا منظر مُثل فيه حاكم مقاطعة «القوصية» المسمى «سبني» من عهد «أمنمحات الأول» وقبره في جبانة «مير» نُقش نقشًا جميلًا، فنشاهد على أحد جدرانه حاكم المقاطعة يصحبه تابع يحمل أسلحته وهو في طريقه إلى الصيد، وملابس هذين الرجلين تلفت النظر؛ إذ يرتدي كل منهما كيس عضو التناسل، وكذلك يُلحظ أن «سبني» يلبس على صدره شريطًا على هيئة صليب كالذي يلبسه النوبيون (راجع Blackman Meir I p. 29 note 6).

هذا إلى أن تابعه كان يتحلى بريشة في شعره وهي المميزة للوبي، وقد ظن أن هذا الكيس من مميزات ملابس الصيادين في الدولة الوسطى، وهذا زعم خاطئ كما شرحنا ذلك من قبل.

وهذا الكيس لم يصادفنا في النقوش المصرية إلا في حالة واحدة وهي التي نحن بصددها الآن، وكذلك في قبر ابنه «وخب حتب».٤٤ وقد وضع أمامنا «فرشنسكي» التفسير الحقيقي الذي يعزو فيه «سبني» وأسرته إلى أصل لوبي، وهم الذين يميزون بلبس كيس عضو التناسل. وعلى ذلك يكون لبس هذا الكيس عادة من العادات التي جلبت إلى مصر من أفريقيا، وأن أسرة «سبني» قد دخلت مصر في العهد الإقطاعي الأول، وبقي أفرادها محافظين على تقاليدهم الأفريقية. ومن ثم يجب أن نعترف بوقوع هذه الهجرة اللوبية إلى مصر. ويعضد ذلك أنه قد عُثر على تماثيل في مقابر هذا العهد تبرهن على وجود هؤلاء القوم في مصر في عهد الدولة الوسطى؛ إذ قد وُجد٤٥ تمثال صغير يبلغ حجمه خمسة عشر سنتيمترًا مصنوع من الخشب في مقبرة من مقابر «بني حسن» وهو لامرأة «خادمة» وقد قرنه الأثري «جارستانج» بالصور التي في مقبرة «خنوم حتب»٤٦ التي وُجدت على جدرانها صور اللوبيين، ووجد أنه يشبه اللوبيين، غير أن القول بأن هؤلاء القوم الذين مُثلوا على جدران مقبرة «خنوم حتب» هم من الأسرى اللوبيين الذين استولى عليهم كل من «أمنمحات الأول». وابنه «سنوسرت الأول» كما ذكر لنا «إدواردمير»؛٤٧ قول ينطبق على الحقيقة. هذا إلى أنه ليس لدينا أدلة تاريخية تثبت أن الصدرية المنسوبة إلى «سنوسرت الثالث» وهي التي قد مُثل عليها هذا الفرعون وهو يطأ اللوبيين لها أصل تاريخي، بل هي محض تقليد.٤٨

اللوبيون البيض وملابسهم في الأزمان القديمة

اتفقت الآراء منذ ما كتبه الأستاذ «مولر»٤٩ عن سلالة «التمحو» ذوي البشرة البيضاء أنهم يُنسبون إلى قبائل البربر القاطنين في شمال أفريقية، وأنهم لا صلة لهم بسلالة «تحنو» ذوي البشرة السمراء، وأن «التمحو» ليسوا فرعًا من «التحنو» كما أن «التحنو» ليسوا فرعًا من «التمحو»، وبحثنا في أصل «التحنو» يؤكد لنا ذلك. وتدل المعلومات التي أدلى بها الأستاذ «مولر» على أنه لا يعلم الشيء الكثير عن «التمحو» غير أن الواقع يناقض ذلك؛ فإن هذه السلالة تُنسب بلا شك إلى البيض، أما من جهة تحقيق ملابسهم ونسبتهم إلى لوبيي شمال أفريقيا الآخرين فإن ما لدينا من معلومات لا يرتكز على أساس متين. وسنترك الحكم على ذلك لما سنورده من مادة تاريخية خاصة بهذا الموضوع.
والواقع أننا قد وجدنا أناسًا ذوي بشرة بيضاء يظهر أنهم ينسبون إلى هذه السلالة في مصر منذ عهد الدولة القديمة. وأقدم مثال لدينا عن ذلك يرجع إلى عهد الأسرة الرابعة، إذ نجد في مقبرة الملكة «مريس عنخ» الثالثة بالجيزة صورة والدتها «حتب حرس الثانية» وهي بنت الملك «خوفو»، وهذه الصورة الأخيرة تُميَّز بخاصتين؛ أولاهما: أن «حتب حرس» تختلف في نفس الصورة عن «مريس عنخ» الواقعة معها في نفس المنظر، كما تختلف كذلك عن أولادها الذين مُثلوا معها؛٥٠ فلون بشرة محياها قد مُثل باللون الأبيض الناصع، ولون شعرها قد مُثل باللون الأشقر المزين بخطوط حمراء أفقية، ويحلي جبينها خصلة قصيرة. وفي ثانيتها نلحظ أن ملابسها تسترعي النظر؛ لأنها بعيدة عن الزي المصري ولا تمت له بصلة، فتتألف من جلباب أبيض ضيق محبوك بشريطين ملفوفين على الصدر ومربوطين على الكتف بعقدة بارزة، وهذا الطراز من الملابس ليس له نظير في مصر، ولم يُعثر على مثله إلا مرة واحدة في رسوم «جبانة الجيزة» في مقبرة «خوفو خعف»؛٥١ فنشاهد صورة هذا الأمير — وهو أحد أولاد خوفو — تتبعه والدته لابسة نفس الملابس التي كانت ترتديها «حتب حرس الثانية» في قبر «مريس عنخ» وليس بينهما فرق إلا أن رداءها ليس له إلا عقدة واحدة بدلًا من اثنتين بارزتين على الكتف، ولدينا مثال آخر لهذا الملبس إذ نجد الحظية «مريت نفس» تلبسه (راجع Marriette Mastaba p. 565) وعلى أية حال فإن ملابس هذا الأمير لا يمكن أن يكون لها أية علاقة بملابس «التحنو».

والآن يتساءل المرء عن هذه المرأة، أهي زوجة «خوفو»؟ وأنها هي نفس «حتب حرس» أخت هذا الملك أم لا؟ وقد يزكي ذلك أن ملابسها متشابهة. وبذلك يكون الأمير «خوفو خعف» و«حتب حرس» أخوين؟

وعلى أية حال ليست لدينا صور لأفراد بيض البشرة يمكن نسبتهم إلى اللوبيين، وأول صورة نشهدها من هذا النوع يرجع عهدها إلى الدولة الوسطى. وقد كان «مولر» أول من صادفه أقدم مثال مصور «للتمحوا» في منظر على جدار مقبرة للأمير «خنوم حتب» حاكم مقاطعة «بني حسن» في عهد الفرعون «أمنمحات الأول»،٥٢ وهذا المنظر يمثل قافلة مؤلفة من رجال أجانب ومعهم نساؤهم وأولادهم وماشيتهم، وكانوا بطبيعة الحال يقدمون إلى سيدهم حاكم المقاطعة، وأشكال هؤلاء الأجانب مدهشة جدًّا؛ فالرجال والنساء على السواء بشرتهم بيضاء، وشعورهم سوداء، وعيونهم زرقاء، ويرتدي الرجال جلابيب طويلة، وكانت الذراع اليسرى لكل منهم مغطاة والذراع اليمنى معراة وكذلك الرقبة، وشعورهم قصيرة، ويحلي رأس كل فرد منهم أربع أو خمس ريشات، ولكل منهم مقصوص قصير وعثنون، وكان حلي الرقبة يتألف من تعويذة مدلاة بخيط، وهذه التعويذة على حسب قول «فرنشنسكي» محارة عادية تكون أحيانًا بيضية الشكل،٥٣ وسلاح الرجل منهم كان يتألف من عصا رماية مصنوعة من الخشب يحملها على الجهة اليمنى من صدره. ويحمل على الجهة اليسرى ريشة ضخمة.
أما النساء فكن يلبسن أثوابًا مزركشة أطرافها، ومعقودة من الوسط، وكانت شعورهن مرسلة على القفا وملفوفة من أطرافها، وكن يحملن أطفالهن في سلات على ظهورهن، كما يُشاهد ذلك في أفريقيا حتى الآن،٥٤ على أن هذه العلامات التي نجدها مميزة «للتمحو» يمكن الأخذ بها على ظاهرها بسبب ما بينها من تشابه في الطراز، وفي لون الجلد والشعر فيما نشاهده في «تمحو» الأزمان التي تلت هذا العصر. ولكن إذا أردنا أن نثبت أنهم أفريقيون أو آسيويون أو غير ذلك؛ فليس لدينا حجة دامغة، ومما يُؤسف له أن هذه الصور لم تُشفع بمتون مفسرة كما يحدث أحيانًا. هذا إلى أن لفظة «لوبيين» لم يأتِ ذكرها في نقوش مقبرة «بني حسن» هذه، أما ما اتخذه «مولر»٥٥ دليلًا ليبرهن به على أن هؤلاء القوم من «التمحو» — وهي الصورة التي وجدها في الدير البحري، وقد كُتب عليها «رقص التمحو» — فيمكن أن تُتخذ دليلًا عليه لا له؛ إذ إنَّ هؤلاء الراقصين مصريون، ويمثلون رقصة هؤلاء القوم وحسب، هذا فضلًا عن أن وجه الشبه بين اللوبيين الممثلين في مقبرة «خنوم حتب» وبين هؤلاء الراقصين ضعيف جدًّا وبخاصة إذا لاحظنا أن أول ظهورهم في العهد الإغريقي يختلف عن الصور القديمة اختلافًا بينًا. ولا يصح أن نجزم في القول بأن لوبيي مقبرة «خنوم حتب» هم من «التمحو». إذ إن الموضوع لا يزال متعلقًا ويحتاج إلى درس جديد.

ملابس اللوبيين وأسلحتهم في عهد الدولة الحديثة

يُلاحظ في عهد الدولة الحديثة أن اللوبيين كانوا يرتدون ملابس جديدة، بيد أنها لا تختلف اختلافًا أساسيًّا عن ملابس الأقوام اللوبيين في مجموعها. والعناصر الهامة المؤلفة لهذه الملابس هي: عباءة فضفاضة، وكيس عضو التناسل، وميدعة؛ هذا إلى أن كل فرد كان يسرح شعره تسريحة خاصة، ويرسل ضفيرة على جانب صدغه. وهذه الملابس كان يرتديها أولًا — على حسب قول الأستاذ «مولر» — قوم «التمحو»، والواقع أنه يقصد الصورة التي تعرَّف عليها في مقبرة «خنوم حتب» «ببني حسن» وهي التي تحدَّثنا عنها فيما سبق. وحقيقة الأمر أننا قد تعرفنا على ملابس هؤلاء القوم للمرة الأولى في آثار الأسرة التاسعة عشرة. وأن «التمحو» هم الذين كانوا يرتدونها. وأقدم مصدر لدينا في هذا الصدد هو الصورة التي عُثر عليها في مقبرة «سيتي الأول»٥٦ وهي التي صُور عليها أجناس العالم الأربعة المعروفة عند المصريين.
وهذه الصورة تقدم تصويرًا يُعتمد عليه عن قوم «تمحو» الذين عرفناهم بالاسم فقط منذ عهد الدولة القديمة، أي منذ ألف سنة على ظهور اسمهم. ومن هذا الرسم نعرف للمرة الأولى أن «التمحو» كانوا بيض البشرة. وهذا يؤكد لنا الزعم القائل بأن لوبيي «مقبرة خنوم حتب» كانوا من «التمحو» وسنستعرض هنا شيئًا عن ملابسهم، وتتألف من عباءة فضفاضة تصل من أحد جانبيها إلى طي الساق وتغطي الكتف اليمنى وجزءًا من أعلى الذراع، وفي الجانب الآخر وهو الجانب الأيسر عقدة عريضة، والذراع كلها عارية. ورقعة العباءة قد زُخرفت بألوان مختلفة، وثُبت في ذيلها شريط مخطط عريض. وتحت هذه العباءة كيس عضو التناسل، ولون الشعر أشقر، لا بالطويل ولا بالقصير، وقد زين بخصل صغيرة مرسل بعضها على الجبهة، والبعض الآخر أسدل على القفا، ويحلي الأذنين قرط، ويزين الجيد صدرية، وله ضفيرة جانبية مرسلة على ظهره، وكان كل لوبي يحلي شعره بريشتين، ويرخي لحيته ويربي شاربه. والرجل اللوبي — كما ذكرنا — أبيض البشرة، أسود العينين، ويقول البعض إنهما زرقاوان مثل أعين «التمحو» الذين مُثلوا على جدران مقبرة «مرنبتاح»٥٧ وأذرعة اللوبيين وسيقانهم محلاة بالوشم بصور معينة الشكل، أو صلبان مستطيلة، وكثيرًا ما نشاهد في هذا الوشم صورة العلامة الدالة على الإلهة «نايت» كما تدل الصورة على أنهم كانوا حفاة الأقدام. غير أنه قد ذكر لنا في «نقوش النصر» التي تركها لنا «مرنبتاح» على جدران «معبد الكرنك» أنهم كانوا يلبسون أحذية؛ إذ يقول المتن: «إنهم قد تركوا ملابسهم، ومتاعهم، وكذلك أحذيتهم.»٥٨ ويُلاحَظ أن كل هذه الملابس كانت في مجموعها عليها مسحة أفريقية؛ فنجد أولًا أن العباءة السالفة الذكر هي بلا شك جلد ملوَّن، وقد كانت العباءة التي شاهدناها في ملابس اللوبيين في مقبرة «خنوم حتب» تشمل جلدًا، ولا بد أنها كانت هنا تقليدًا، وليس بالجلد الحقيقي، والجلد في الواقع لباس بدائي في كل مكان، ولا بد أنه كان محببًا في «أفريقيا» بوجه خاص، ولكنه في مصر كان قد أخذ يختفي تمشيًا مع تقدم مدينتها. ومع ذلك نجد صورته فقط في أقدم المقابر المصرية، كما نشاهد ذلك في مقبرة «الكوم الأحمر».٥٩ وفضلًا عن ذلك نجد أن هذا الجلد كما لا يزال حتى الآن يُتخذ رداء عند القبائل الأفريقية؛ إذ نرى أن قبيلة «توعرج Tuâreg» لا يزال أهلها يرتدون جلد الغزال.٦٠ وقد ذكر لنا كُتَّاب اليونان الأقدمون أمثال «هيرودوت» و«ديدور» و«سليوس إتاليكوس» الجلود بوصفها ملابس يرتديها أهل «أفريقيا» وذكروا لنا على وجه خاص جلود الماعز، وكثيرًا ما نشاهد هذه الجلود ملونة باللون الأحمر.٦١
ويرى الأستاذ «إدواردمير» أن كلمة «خنوتيو» المصرية التي وجدناها في نقوش «توبوس» ببلاد النوبة الخاصة «بتحتمس الأول» تدل على لابسي الجلود. وأنها تعني هنا أهل «تمحو».٦٢ ولكن حتى إذا كانت هذه الترجمة صحيحة، فإن نسبتها إلى اللوبيين فيها شك كبير. والواقع أن المقصود هنا هم النوبيون الذين كانوا يرتدون الجلود.٦٣
وعلى الرغم من أننا لا نجد الجلد مستعملًا لباسًا عاديًّا فإننا نجده في كثير من الأحوال يلبس مظهرًا من مظاهر الشرف، فمثلًا نجد رجال الطب كانوا يرتدون الجلد دلالة على عظمتهم.٦٤ وكذلك كان الحكام يرتدونه، وكان الكاهن «سم» يلبسه حتى آخر العهد الفرعوني.
ومما يلفت النظر بحق في مظهر هؤلاء القوم بعد ذلك ترجيل الشعر، مما لا نجده على الآثار المصرية، ومع ذلك فإن هذا الزي لا يزال من الأشياء المحببة جدًّا عند القبائل الأفريقية الموجودة الآن. والخاصية التي يمتاز بها ترجيل الشعر عند قوم «التمحو» هي تقسيم الشعر إلى خصلة منفصلة تكون أحيانًا مجدولة وأحيانًا على هيئة «شوشة»، كما يُشاهد ذلك الآن بين قبائل «الماساي Massai» أو قبيلة «كيكيوس Kikuyus».٦٥ أما عند أهالي «لوبيا» فنشاهد فقط «شوشة» مسدلة على جانب الرأس من وقت لآخر، فتكون الشوشة على كلا جانبي الوجه.٦٦ ولم توجد أولًا إلا شوشة واحدة على الجانب الأيسر في الجمجمة التي عثر عليها في «قاو الكبير» «زيو بوليس بارفا». وهذه الجمجمة تُنسب إلى لوبي، غير أن تاريخها غير مؤكد.٦٧ وثانيًا: عُثر على تمثال صغير من الخشب للوبي في «مجموعة بسنج» يحلي رأسه شوشة على الجانب الأيمن، وهذا التمثال يرجع تاريخه إلى العصر المتأخر من الدولة الحديثة٦٨ ويحدثنا كل من الأستاذ «مولر» والأثري «بيتس» بأن هذه الشوشة لا تزال تُرى حتى الآن في ترجيل الشعر بين القبائل الأفريقية الحالية، مثل قبيلة «أوموش جاه Imushgah» وقبيلة «فولبا Fulbe» القاطنتين في أسفل مجرى نهر النيجر حتى منتصفه٦٩ ومن المحتمل أن ما رواه «هيرودوت» في الفصل الواحد والتسعين بعد المائة في الكتاب الرابع عن ترجيل شعر اللوبيين يشير إلى ما ذُكر هنا. وليس ذلك مؤكدًا. أما ما قيل عن علاقة هذه الشوشة التي تمثل الطفولة عند المصريين فليس له أصل يُستند عليه،٧٠ وكذلك ليس لها علاقة بترجيل الشعر عند أهالي «كريت».٧١
ومثل الريشة كمثل الجلد والشوشة من الأشياء المحببة عند الأفريقيين بوصفها زينة يزين بها الرأس، فقد كان يتحلى بها الزنوج والنوبيون مثل اللوبيين أيضًا، غير أنها كانت ميزة خاصة عند أهالي «لوبيا» ومن ثم كانت ترمز عندهم منذ القدم للغرب. ولدينا العلامة الدالة على الغرب في اللغة المصرية القديمة ممثلة بصورة ريشة. هذا إلى أن مخصص الكلمة الدالة على بلاد «تحنو» في نقوش الملك «سحورع» هو ثلاثة رجال على رأس كل منهم ريشة. ونجد مخصص كلمة «منتو»٧٢ التي تدل على أعداء مصر ثلاثة رجال يحمل واحد منهم ريشة، وهذا يدل على أن أحد هؤلاء الأعداء كان من «التحنو» القاطنين غربي مصر. وأخيرًا يجب أن نلاحظ هنا أنه توجد في هرم الملك «نفركرع» حجرة في الجهة الغربية نقش عليها علامة الغرب وهي رجل وفي يده ريشة.٧٣ وإذا كان قوم «تحنو» كذلك يسكنون الغرب وحسب فإن الريشة لا تميزهم بوصفها جزءًا هامًّا من ملابسهم، في حين أنها من جهة أخرى تؤلف جزءًا رئيسيًّا من ملابس «التمحو» مميزًا لهم. أما «التحنو» الذين نراهم يلبسون الريشة في نقوش الملك «منتوحتب» فإن ذلك قد أتى من تأثير اختلاطهم «بالتمحو» اختلاطًا فعليًّا. والواقع أن أهالي «تحنو» لم يعرفوا الريشة بوصفها جزءًا من ملابسهم كما سنوضح ذلك هنا.
فالريشة لم يكن يتحلى بها اللوبيون وحسب، بل كان يلبسها السواد أيضًا، ومن ذلك نفهم أن الريشة لم تكن رمزًا لقبيلة، أو لباسًا خاصًّا لقبيلة بعينها، بل كانت علامة شرف أو وظيفة. ولم نشاهد في المواقع الحربية العظيمة التي نشبت في الدولة الحديثة بين المصريين واللوبيين إلا أقلية ممن كانوا يلبسون الريشة. والأمثلة المحدودة التي وصلت إلينا نجدها في السطر السادس من «لوحة إسرائيل» حيث يُقال عن الأمير اللوبي المهزوم المسمى «مريي»:

الأمير المعادي الذي يرى لحاله من اللوبيين قد هرب تحت جنح الظلام وحيدًا بدون ريشة على رأسه.

وفي السطر الثامن نقرأ:

وعندما وصل إلى وطنه شكا، وكل إنسان في بلاده كره مقابلة الأمير الذي اختطف منه الحظ ريشته.

وجاء في السطر التاسع من نقوش٧٤ الملك «بيعنخي» عند الحديث عن أمراء مقاطعات الدلتا في الأسرة الثالثة والعشرين:

كل الأمراء الذين يحملون الريشة.

ولا نزاع في أن المصري عندما كان يندد بفقد أمير «لوبيا» ريشته كان يعلم مقدار ذلك في نظر أهل «لوبيا»؛ فالرجل الذي كانت تُغتصب ريشته مثله كمثل الرجل الذي كان يُغتصب منه درعه، ولكن في أيامنا نجد في «أفريقيا» أن الريشة كانت تعد في الأصل حلية، وفي بلاد الصول تُعد علامة يحملها كل عدو مهزوم في شعره، وهذه عادة منتشرة في الهند.٧٥
ومن ذلك نعلم أن الريشة لم تكن جزءًا أصليًّا من ملابسهم، بل كانوا يحملونها في أوقات الحرب، وفي الصيد، ويؤكد ذلك أن المرأة لم تكن تلبس هذه الحلية قط سوى مثال واحد وُجد في «مقبرة خنوم حتب»، ولا يمكننا الجزم بأن الريشة كانت في الأصل تُعد في جملتها لباس حرب، ثم بدأت تدريجيًّا تُتخذ رمز الخدمات الخاصة، أو أنها كانت من أول الأمر قد اتخذت هذا المعنى. ونريد الآن أن نقرر بصفة قاطعة — بهذه المناسبة — الوقت الذي فكر الإنسان فيه في استعمال الرمز الهيروغليفي الذي يدل على معنى كلمة «قائد» وهو الرمز الذي مثل بصورة رجل راكع يحمل قوسًا ونشابًا ويلبس ريشة على قمة رأسه هكذا والواقع أننا نشاهد هذه الملابس الحربية ممثلة على الآثار المصرية منذ عهد ما قبل التاريخ٧٦ وقد أخذت هذه العلامات تختفي بتقدم المدنية بوصفها ملبسًا حربيًّا كما لاحظنا ذلك في اختفاء الجلود بوصفها ملبسًا، وكذلك كان شأن الريشة.

ومن الأشياء التي تصادفنا في وادي النيل منذ أقدم العهود قراب عضو التناسل وذلك منذ العهد الأفريقي، وهو علامة خاصة رئيسية يتميز بها الأفريقيون. والمسألة التي يجب أن نبحثها هنا الآن هي: هل منشأ هذه العلامة على الآثار المصرية المعترف بها هو قراب عضو التناسل أو عضو التناسل المنتشر؟

والواقع أننا نرى أحيانًا القراب فعلًا وأحيانًا نشاهد عضو التذكير مصوَّرًا منتشرًا في المناظر وفي التماثيل. ويمكن الإنسان أن يقرِّر هنا بحق أن قراب عضو التناسل كان مستعملًا منذ أقدم العصور في مصر وفي أفريقيا، ولدينا أمثلة من جبانة «نجع الدير».٧٧ وقد بقيت هذه العادة مستعملة عند قوم «تحنو» بعد أن انفصلوا عن مصر، وكذلك بقيت عند اللوبيين المجاورين لمصر وهم الذين اختلطوا بالمصريين في العهد التاريخي. وكذلك نجد في أفريقيا الحالية بعض القبائل تستعمل قراب عضو التناسل مثل قبائل «توجوس Togos» و«داهومي Dahomey» و«موبا Moba» و«تامبرما Tamberma» وكذلك في غربي وأواسط «كامرون» و«يوغندا» و«كوماي Komai» و«بافيا Bafia» و«دورا Durra»،٧٨ وسنتحدث عن معنى هذا القراب وأهميته عند الكلام على الختان في لوبيا.
والآن نتكلم عن الوشم الذي نشاهده في بعض الرسوم مثل الصور الجميلة التي نراها مصورة في مقبرة «سيتي الأول» وما نشاهده مرسومًا على قطع الخزف المطلي التي عُثر عليها في مدينة «هابو». هذا بالإضافة إلى الوشم الذي نجده على صور مناظرها.٧٩ ولدينا أمثلة أخرى من آثار «تل العمارنة» كانت تحلي شرفات الفرعون التي كان يطل منها عند إقامة الأحفال الرسمية،٨٠ والواقع أن الوشم كان عادة شائعة عند الأقوام البدائيين، والظاهر أن منشأه الأصلي اعتباره علامة مميزة وكان يتحلى به الرجال والنساء على السواء عند إقامة احتفالات خاصة مثل الاحتفال ببلوغ سن المراهقة؛ حيث كان يُوشم النساء والرجال دون استثناء، وكذلك في مناسبات الحزن والانتقام، وقد ذكر لنا «هيرودوت»٨١ أن اللوبيين كانوا يلونون أجسامهم باللون الأحمر، أما في مصر فإن الوشم كان لا يستعمل إلا نادرًا جدًّا ولا يستعمله إلا النساء، ففي التماثيل المصنوعة من الخزف التي عُثر عليها في «نقاده» نرى الوشم كان يُعمل على هيئة أشكال هندسية، وكان قاصرًا على النساء. وفي الأزمان التاريخية نجد الحظيات والراقصات يستعملن التزين بالوشم (راجع Kees Kulturgesch. P. 89).
وإتمامًا لموضوع وصف ملابس هؤلاء القوم يجدر بنا أن نتحدث بعض الشيء عن أسلحة اللوبيين في عهد الدولة الحديثة. والواقع أن اللوبي لم يعرف إلا القوس والنشاب٨٢ (راجع نقوش مرنبتاح بالكرنك سطر ١٣).
غير أن أقواسهم ليست بالأقواس الخشبية البسيطة، ولكنها كانت أقواسًا مركبة، ولا يمكننا أن نتحدث عن تركيبها بشيء من الدقة والتأكد؛ لأن الصور التي تُركت في المناظر التي خلفوها لنا يظهر أنها مختصرة، ولكن بوجه عام يظهر أن أقواسهم كانت من النوع الذي يُطلق عليه «القوس ذو الزاوية» (راجع Wresz. Atlas II. Pl 50 a).
ولم نجد في صور المواقع الحربية للوبيا واحدًا قد شد قوسه ليضرب به، بل نجد قوسه ملقًى على الأرض أو معلقًا على كتفه أو ممسكًا به في يده ومطلقًا لساقيه العنان (راجع Borchardt A. Z. 52, 109 a. e).
ولذلك لم نجد في مثل هذا الوضع للقوس السهم مركبًا فيه، ولا يمكن الإنسان إذن أن يحكم على صورة السهم عند اللوبيين، ولكن مع ذلك ينبغي علينا أن نعتقد أن السهم كان مصنوعًا من حجر النار، وأنه كان ذا أسنان وبخاصة أننا صادفناه بهذه الصورة فيما بعد.٨٣ ومن جهة أخرى نشاهد في المناظر مرات عدة صورة الكنانة وهي على هيئة قربة (Medinet Habu I, pl. 18, II. Pl. 68 and 70) وقد كان القوس هو السلاح الوحيد الوطني الذي يستعمله اللوبي وظل يستعمله، وهو سلاحهم الوحيد البعيد المرمى، ولم يُعثر قط في يد اللوبيين المحاربين — في الرسوم — على الرمح أو الحربة وهما سلاحان لم يكونا معروفين عندهم، وقد ترجم الأستاذ «برستد» كلمة «خت عا»٨٤ بكلمة «حربة» وهذا خطأ، ويُحتمل أن الترجمة الحقيقية عصا رماية؛ وذلك لأن نقوش الدولة الحديثة لم تظهر فيها هذه الكلمة بوصفها سلاح حرب، غير أن اللوبيين الذين وُجدت صورهم في مقبرة «خنوم حتب» كانوا يحملون عِصِيَّ رماية، وكذلك نجد في شعائر الإلهة «موت» أنه كان يستعمل هذا السلاح قوم «التمحو» للصيد، وهناك كان يُطلق عليه لفظ «قما» (Hölscher Ibid p. 39).
وأخيرًا يجب أن نعتقد أن هذا السلاح كان نادرًا جدًّا ولا يُستعمل إلا قليلًا في الحروب وبخاصة أنه لم يوجد منه إلا عدد قليل جدًّا في قوائم مدينة «هابو» عند تحديد الغنائم،٨٥ وقد فسر الأستاذ «ولف» هذا السلاح بأنه مقمعة، وهذا جائز أيضًا.٨٦
وكان اللوبي لا يستعمل المقلاع سلاح حرب، أما الضاربون بالمقلاع الذين نراهم ممثلين على آثار «بني حسن» وهم ذوو البشرة البيضاء فليسوا — بأية حال — من السلالة اللوبية،٨٧ وكان اللوبي يستعمل كذلك — غير القوس في عهد الدولة الحديثة — نوعًا من الأسلحة الجديدة، وأعني بذلك السيف، وكان استعماله قاصرًا على قبيلة «المشوش»، وهذا السلاح لم يكن أصيلًا عندهم، وذلك ظاهر من أنهم كانوا قومًا من البدو الرحل الذين يسكنون الصحراء، ولا بد أنهم قد أخذوه عن أقوام البحر عند اختلاطهم بهم. وهذا السيف يشمل نصلًا من المعدن ومقبضًا من الخشب، وكان طوله عظيمًا جدًّا، وكان يشبه السيف الذي كان يحمله جنود «شردانا».٨٨ وقد ذكر لنا «رعمسيس الثالث» في قائمة غنائمه سيوفًا طول الواحد منها ثلاث أو أربع أذرع، في حين أن طول السيف العادي يبلغ ما بين ستين وسبعين سنتيمترًا. هذا ونجد نادرًا جدًّا الخنجر مصورًا على الآثار الخاصة باللوبيين.٨٩
وبقي علينا أن نذكر أن اللوبيين في عهد «رعمسيس الثالث» كانوا يستعملون العربات، وقد ذكر لنا «رعمسيس الثالث» في قائمة غنائمه اثنتين وتسعين عربة.٩٠
وتدل شواهد الأحوال على أن اللوبيين لم يأخذوا العربات — مثلما أخذوا السيف — عن أقوام البحار كما يقول فرشنسكي (راجع Wresz Atlas II, pl 50 a).
وعربات اللوبيين تشبه العربات المصرية اللهم إلا أن عجلتهم لها أربع شوكات بدلًا من ست في العربة المصرية حينئذ، فلا بد من أن نسلم بأن اللوبي قد أخذ استعمال العربة عن المصري (راجع Moller Ibid p. 53)، هذا كل ما كان عند اللوبي من سلاح، ومن ذلك يرى الإنسان أنه كان ينقصه كل الأسلحة التي يحمي نفسه بها مثل الدرع والخوذة والزرد، وقد ادَّعى بعض علماء الآثار أن اللوبي كان يستعمل الدرع منذ عهد «رعمسيس الثاني» في موقعة «ستورنا»،٩١ غير أن ذلك لم يثبت بعد.

اختلاف الملابس في لوبيا وأهميته

نبدأ هنا الكلام على ملابس اللوبيين في عهد الدولة الحديثة بوصف ملابس «التمحو» الذين وجدناهم ممثلين على جدران مقبرة «سيتي الأوَّل»، وقد دلت الموازنة على أنهم مشابهون للوبيين الذين مُثلوا على جدران مقبرة «مرنبتاح»؛ على أن عدم وجود الريشة في لباس الرأس عندهم لم يكن بالأمر الهام كما تحدثنا عن ذلك من قبل. ومن أمعن في النظر إلى صور «التمحو» التي رُسمت في منظر الأجناس الأربعة في مقبرة «سيتي الثاني»٩٢ يجد أنهم لا يختلفون عن الآخرين على الرغم من رداءة الرسم.

وكذلك نجد بينهم وبين صورة مقبرة «رعمسيس الثالث» صلة، غير أنهم يختلفون عن اللوبيين الآخرين في أنهم بدلًا من لبس كيس عضو التناسل كانوا يلبسون قميصًا قصيرًا. وهذا الفرق على الرغم من أنه ضئيل قد لا يلفت النظر إلا أنه من الأهمية بمكان؛ وذلك لأنه يميز لنا بين سلالتين وهما «اللوبيون» و«المشوش» وقد ظهرت الأخيرة في منتصف الأسرة التاسعة عشرة وبدأت تلعب دورها في تاريخ بلاد «لوبيا» كما سنفصل القول في ذلك بعد.

وأوَّل شيء عرفناه عن ملابس «اللوبيين» و«المشوش» جاء عن طريق نقوش «رعمسيس الثالث» في مدينة «هابو»؛ لأن ما ذُكر مفصلًا عن حروب «مرنبتاح» مع اللوبيين من المتون لم يصحبه صور مفسرة للملابس.

ملابس اللوبيين

ولدينا تفاصيل عن ملابس اللوبيين في مناظر الحروب الأولى التي نشبت بينهم وبين «رعمسيس الثالث»، ونرى في هذه المناظر أن ملابس اللوبيين موحدة، وتشمل عباءة فضفاضة تلف الجسم ويظهر منها أحد الكتفين عاريًا، هذا إلى قميص قصير يُلبس تحتها، وكان يحلي الرأس «شوشة» جانبية كما كان يزين ذقنه عثنون، وبهذه الصورة كان يُمثَّل الأمير اللوبي في المنظر الذي رُسم على البرج العالي في مدينة «هابو» مع غيره من الأمراء الأجانب المأسورين.٩٣ وقد ذكرنا من قبل أنه يندر وجود اللوبي أو «المشوش» في الحروب يلبس الريشة، وليس لدينا إلا أمثلة قليلة من ذلك مما يدل على أن الريشة كانت رمز شرف خاص، فنجد أنه كان يتحلى بها كل أمير من الذين صُوروا على جدران البرج العالي في مدينة «هابو». على أننا لم نشاهد أحدًا يتحلى بها في نقوش جدران المعبد الأخرى إلا مرة واحدة.٩٤ هذا ويُلاحَظ أن اللوبيين كانوا زرق العيون كما يدل على ذلك أحد المناظر في مدينة «هابو» (راجع Ibid I. pl. 23.)

(د) أصل قوم المشوش وملابسهم

يقول الأثري «بروكش» إن «المشوش» سلالة من اللوبيين الموحدين بقوم «الماساي»، وهم الذين قال عنهم «هيرودوت»٩٥ إنهم كانوا يقطنون بجوار «تونس». وتدل البحوث على أنهم ذُكروا للمرة الأولى في خطاب المساجلة الهجائية الذي يرجع عهده إلى الفرعون «رعمسيس الثاني»، وهو المعروف «بورقة أنسطاسي الأولى». (راجع كتاب الأدب المصري القديم). وكذلك ذُكر معهم بعض جنود «الشردانا» و«القهق» و«النوبيين»، وقد كانوا يؤلفون فرقة في الجيش المصري، وهذا يدل على أنه ربما تكون قد حدثت حروب لوبية أُخذ فيها أسرى من قوم «المشوش» في عهد «رعمسيس الثاني» أو قبله. أما في عهد «مرنبتاح» فقد اشتركوا فعلًا في الحروب التي شنها أمير لوبيا على مصر، كما سنتحدث عن ذلك فيما بعد. غير أنهم في هذه الحروب، وفي الحروب الأولى التي شنها «رعمسيس الثالث» لم يقوموا إلا بدور ثانوي، ولكن في الحروب التي قام بها هذا الفرعون فيما بعد — ولم تكن من الحروب العظيمة — نجد أنهم قد قاموا بالدور الهام فيها، ومنذ ذلك العهد نسمع عنهم بازدياد مطرد، في حين أن نجم اللوبيين كان آخذًا في الأفول.
وكان الملك «شيشنق» الذي اعتلى عرش مصر عام (٩٣٠ق.م) من سلالة «المشوش»،٩٦ ومن ثم نجد كثيرًا من الأمراء الصغار كانوا يحملون لقب «أمير» مستعملين إما كلمة «ور» (العظيم) أو كلمة «مس» (الأمير)،٩٧ وغالبًا ما كانوا يكتبون كلمة «مشوش» باختصار «مي». وقد ذكر لنا «برستد» هؤلاء الرؤساء،٩٨ وفي عهد الأسرة الثانية والعشرين كانوا قد استوطنوا «الواحة الداخلة»،٩٩ وكذلك داخل مصر. وأحدث إشارة لهؤلاء «المشوش» — إذا استثنينا الإشارات التاريخية كالتي ذكرها الأثري «دي مورجان» في قائمة جغرافية ترجع إلى العهد الإغريقي الروماني في مصر١٠٠ — هو ما نقرؤه على اللوحة العظيمة التي تركها لنا الفاتح العظيم الأثيوبي «بعنخي» — في أواخر القرن الثامن قبل الميلاد حيث نجد — على أقل تقدير — ستة من أمراء «مي» قد ذُكرت أسماؤهم بوصفهم حكامًا لمدن «الدلتا» ومن بينها مدينتا «بوصير» و«منديس».١٠١
وعلى الرغم من أن «المشوش» كانوا من الجنس اللوبي — كما يدل على ذلك التشابه العام في مظهرهم الخارجي في النقوش — إلا أنه كانت توجد فروق مميزة لهم عن اللوبيين في بعض الملبس، فملابس «المشوش» تكاد تكون موحدة بملابس اللوبيين إلا في شيء واحد، وهو أن اللوبيين كانوا يلبسون تحت العباءة السالفة الذكر قميصًا كما ذكرنا ذلك من قبل، في حين أن «المشوش» كانوا يلبسون بدلًا من هذا القميص كيس عضو التناسل، وخلافًا لذلك نجد أنهم كانوا يلبسون الريشة أحيانًا في شعرهم. وقد ذكر لنا «هيرودوت» كذلك أنهم كانوا يلوِّنون أجسامهم.١٠٢ على أن هذا الفرق لم يكن من باب الصدفة؛ إذ قد دلت عليه المتون المفسرة للصور، فنجد — فوق المناظر التي مُثل فيها المحاربون بالقميص — أنهم «لوبيون» أو «تمحو»، في حين أن التي كان فيها المحاربون يلبسون كيس عضو التناسل كانوا يدعون «المشوش».١٠٣

أهمية الفرق بين ملابس اللوبيين والمشوش والطهارة عند اللوبيين وكيس عضو التناسل

نعود مرة أخرى إلى ذكر العلاقة بين «اللوبيين» وبين «المشوش»، فقد رأينا أن ملبسيهما لا يختلفان في ظاهرهما، بل يتشابهان كثيرًا جدًّا. وأن الفرق الوحيد هو أن اللوبي يلبس القميص بدلًا من كيس عضو التناسل الذي يلبسه «المشوش» وهذا الفرق أساسي وليس من باب الصدفة، وأن القميص كان عنصرًا أساسيًّا في ملبس اللوبي، ولم يأت من تأثير الملابس المصرية كما ذكر «مولر».١٠٤ وعلى ذلك فلبس اللوبي القميص لا كيس عضو التناسل كان عن قصد. وتدل متون «معبد الكرنك» التي تركها لنا «مرنبتاح» عن حروبه مع اللوبيين، وكذلك بعض النقوش التي تركها لنا «رعمسيس الثالث» في مدينة «هابو»١٠٥ عن تقديم الأسرى له في حروبه الأولى التي شنها على اللوبيين، تدل على أن من يلبس القميص كان لا يُختن قط، وتلك كانت عادة شائعة عند اللوبيين، وأن المصري كان يقطع عضو التذكير عند أي فرد لم يُختن في الحروب لأن صاحبه كان يُعد نجسًا، ولذلك نشاهد أن اللوبيين وحدهم وهم الذين لم يكونوا يختنون كانت تُقطع أعضاء تناسلهم لأنهم نجسون، وقد كان بتر عضو من أعضاء الأعداء المقتولين يُعد فقدًا مشينًا لا يتأتى مع رجل قد خُتن. وقد كانت الغنيمة العادية التي يحملها المحارب لهذا السبب هي يد القتيل الذي قتله، وكان اللوبي النجس هو الذي يقطع ذكره.
والواقع أن الطهارة كانت عادية عند هؤلاء القوم، حتى إنه لم يكن من الضروري أن يُتحدث عنها بوصفها شعيرة ضرورية، كما إنه كان من المفهوم أن عدم الختان يُعد رجسًا، ولذلك تقص علينا نقوش الملك «بعنخي» أن أمراء الدلتا، الذين كان من بينهم في ذلك الوقت بطبيعة الحال أمراء من أصل لوبي، لم يسمح لهم بالمثول بين يديه لأنهم لم يُختنوا، فهم نجسون ومن آكلي السمك. وقد كان ذلك من الأشياء الممقوتة لبيت الملك، ولم يُسمح لأحد بالمثول أمام «بعنخي» إلا «نمارت»؛ لأنه كان طاهرًا نقيًّا ولم يأكل أي سمك.١٠٦

ولنعد الآن إلى موضوعنا الخاص بالفرق بين ملابس «اللوبيين» و«المشوش»، لنقرر أن اللوبي الذي لم يُختن كان يلبس قميصًا تحت العباءة لأنه لم يعرف شعيرة الختان، وعلى العكس كان لابسو كيس عضو التناسل هم «المشوش» وغيرهم يعرفون هذه الشعيرة ويقدرونها، فكأنهم كلهم قد أجروا عملية الختان.

وقد كان المفروض في بادئ الأمر أن كيس عضو التناسل يُلبس لضرورة حفظ هذا العضو من الإصابة بأي أذًى، من حشرات، أو جروح، أو غير ذلك من أنواع الأذى. غير أن ذلك ليس هو السبب في حالة هؤلاء القوم؛ وذلك لأن كيس عضو التناسل له أولًا أهمية سحرية وشعيرية، وأحيانًا تكون له علاقة قوية بموضوع الحب والغزل، أما استعمال هذا الكيس للمحافظة على هذا العضو من الأذى فليس له أي دخل في ذلك، ويعضد هذا الرأي أنه يُلبس أحيانًا عند بعض القبائل تحت ملابس أخرى، وهذه هي نفس الحال عند اللوبيين الذين يلبسون فوقه عباءة طويلة. ويميل «هولشر» إلى الاعتقاد بأن سن البلوغ — على الأقل — كان يلعب دورًا هامًّا فاصلًا في لبس هذا الكيس، دون أن يكون له أية علاقة بالأمور الجنسية، وذلك أن الولد عندما كان يبلغ سن المراهقة يُختن ثم يلبس عقب ذلك كيس عضو التذكير.١٠٧ وهذا يذكرنا بالرسوم التي على معبد «سحورع» حيث نجد الأطفال لا يلبسون كيس عضو التناسل والبالغين منهم كانوا يلبسونه، ولا نجد هنا أن الغرض من هذا الكيس هو تغطية هذا العضو استحياء، بل على العكس كان يُعد بمثابة زينة لهذا العضو، عندما يكون الغرض الأول من لبسه هو العشق والغرام. وفي اعتقادي أن لبس المرأة كيس عضو الإكثار يعد بمثابة إعلان على أنها قد خُتنت، وأنها طاهرة وناضجة للزواج أيضًا، لا كما يقول البعض أنها كانت تلبسه بسبب عادة سيء استعمالها.

(ﻫ) «تمحو» الدولة الحديثة هم «لوبيو» نفس هذه الدولة

إن موضوع فحص ملابس «اللوبيين» و«المشوش» قد أصبح مرتبطًا بظهور القميص في ملابس «التمحو» في مقبرة «رعمسيس الثالث»، التي نجد أن «التمحو» فيها يختلفون عن الذين وجدناهم في مقابر الملوك الآخرين، والمناقشة في هذين البابين ينبغي أن يستفاد منها في تحديد اسم «تمحو».

وقد رأينا فيما سبق أن اسم «تحنو» في مجرى التاريخ قد أخذ يدل على اللوبيين تدريجًا، وعلى ذلك فليس من العجيب أن نجد في الدولة الحديثة أن اللوبيين في ملابس «التمحو» يدعون «تحنو»١٠٨ على أنه يكون من المدهش إذا حدث العكس فيُدعى اللوبي وهو مرتدٍ ملابس «التحنو» القديمة في الكتابات المفسرة «تمحو».١٠٩
وأخيرًا نجد أنه منذ العهود الأولى كان الملبسان مختلطين بعضهما بالبعض الآخر. فنجد في بعض الرسوم مثلًا أن لباس الرأس الجديد الذي كان يُحلى بشوشة جانبية كان يصحبه الشريط الذي يحلي الصدر على هيئة صليب قديمًا.١١٠ وهذا دليل على اختلاط القومين بعضهما بالبعض الآخر. ولا نزاع في أن اختلاط الملبس كما يظهر على الآثار لم يأتِ عن طريق النقل، بل جاء عن اختلاط الاسمين في التعبير وتوحيدهما. وعندما نرى بعد أن ملبس «التمحو» الجديد الذي عرفنا كل تفاصيله أولًا في عهد الأسرة التاسعة عشرة في مقبرة «سيتي الأول»، وفي عهد الأسرة العشرين كان بالضبط نفس الملبس الذي يلبسه قوم «المشوش». ومن جهة أخرى وجدنا أن ملابس «التمحو» في مقبرة «رعمسيس الثالث» هي نفس ملابس اللوبيين. ويمكننا أن نستخلص من ذلك أن «التمحو» في تلك الفترة لم تكن قبيلة ثالثة بين «اللوبيين» و«المشوش» بل إنها تمثل فكرة جامعة أصبح يُعبر بها باختصار عن «لوبيي الدولة الحديثة» وعلى ذلك يكون مثل «اللوبيين» كمثل «المشوش» يُعدون من «التمحو» كما يُعد عندنا الآن أهل الصعيد وأهل الدلتا مصريين.
على أنه ليس ثمة ما يعوقنا عن أن نرى في مقبرة «سيتي الأول» أن «التمحو» المصور على جدرانها من قوم «المشوش» الذين نعلم بوجودهم منذ عهد «تحتمس الثالث» وإن كان الأستاذ «جاردنر» لا يقبل هذا الرأي.١١١ وبخاصة لأن «سيتي الأول» في حروبه مع «اللوبيين» كان — على ما يظهر — على صلة بقوم «المشوش» كما يُفهم من قبر «رعمسيس الثالث» أنهم هم نفس اللوبيين، وقد ظهروا قبل حكمه بنحو ثلاثين سنة في عهد «مرنبتاح».

والواقع أن أسلوب الكتابة والتعابير العامة التي نشاهدها في النقوش الملكية، لا يمكن أن تقدم للباحث معلومات دقيقة يمكنه أن يستخلص منها استعمال اسم «تمحو». فإذا فحص الإنسان عبارة المتون، وجد بنفسه قيمة استعمال اسم «اللوبيين» و«المشوش» وغيرهما من أسماء الأقوام. فمثلًا نجد أن «رعمسيس الثالث» بعد حروبه الأولى مع «اللوبيين» يصف نفسه بأنه «صادُّ التمحو»، وبعد نهاية الحرب الثانية معهم نجده يصف نفسه «بمهلك المشوش». وهذا القول في ظاهره يبرهن على عكس وجهة النظر المنتظرة؛ إذ إنه من البدهي أن الملك قد اكتفى في هجمته الأولى على قوم من أهل لوبيا، وأطلق عليهم الاسم العام وهو «اللوبيون»، ولكن لما كان اسم «التمحو» يظهر كثيرًا في التقارير الخاصة بتلك الحروب فإنه ذكره في حربه الثانية ليميزها عن الحرب الأولى. والواقع أن اسم «التمحو» كذلك قد اختفى تقريبًا في المتون والإيضاحات الخاصة بالحرب الثانية التي شنها «رعمسيس الثالث»، وفُضل عليه اسم «المشوش»، ونجد في قوائم القتلى والأسرى التي تركها لنا كل من «مرنبتاح» و«رعمسيس الثالث» ما يقوي هذا الرأي بصفة قاطعة، وكذلك في المناظر المفسرة بمتون تتبعها، وهي التي نشاهد فيها — الأسرى اللوبيين يخاطبون الفرعون — أن اسم «التمحو» لم يُذكر، بل كان يُذكر فقط اسما «اللوبيين» و«المشوش».

وأهم من ذلك الحالات التي نجد فيها في الأزمان القديمة اسم «التحنو» قد استُعمل بدلًا منه في الدولة الحديثة اسم «التمحو» في متن قصة «سنوهيت» التي يرجع تاريخ كتابتها إلى الأسرة العشرين، أو الواحدة والعشرين، وكان في النسخة الأصلية التي يرجع عهدها إلى الدولة الوسطى يُذكر «تحنو». غير أننا لا نعلم تاريخ مثل هذه التغييرات، كما لا نعلم العهد الذي يمكن أن تكون قد حدثت فيه. وكل ما نفهمه هو أن كاتب الأسرة الواحدة والعشرين قد أراد أن يصحح لكاتب الدولة الوسطى — على حسب المعلومات التي لقنها في عهده.

موطن التمحو وهجرتهم

أرسل الفرعون «مرن رع» أحد ملوك الأسرة السادسة الرحالة «خوفوحر» أحد أمراء «إلفنتين» كما ذكرنا من قبل لاستمالة أمير «يام» ومصالحته — وإقليم «يام» يقع في جهة شمال الشلال الثاني — وعندما وصل «خوفوحر» وجد أنه ذهب ليشن حربًا على أرض «التمحو».١١٢ والظاهر أنه من ضروب المستحيل توحيد أرض «التمحو» هذه بالإقليم الشمالي الذي يحمل هذا الاسم الذي سمعنا عنه فيما بعد، وأحسن نظرية وأجرؤها نقترحها هنا هي أن عبارة «أرض التمحو» كانت تُطلق على أي إقليم يغتصبه اللوبيون ذوو البشرة البيضاء، فمثلًا من الجائز أن الجنود الذين جندهم القائد «وني» من أرض «تمحو» في جيشه كانوا قد أتوا من الواحة الخارجة؛ لأنهم لم يذكروا في الجزء الأول من نفس الفقرة التي تتحدث عن الدلتا. ولكنهم ذكروا في الوقت نفسه مع قبائل نوبية عدة، بيد أن مما يدعو إلى الحيرة والارتباك كثيرًا الإشارة في ترجمة «خوفوحر» لنفسه١١٣ حيث يذكر لنا كيف أنه لما أُرسل للمرة الثالثة إلى بلاد «يام» شمالي «وادي حلفا» وجد أن رئيس هذه القبيلة قد سافر إلى بلاد «تمحو» ليضرب «تمح» حتى الركن الغربي من السماء.

والظاهر أن قيام رئيس قبيلة صغيرة من النوبيين بحملة إلى «الواحة الخارجة» يُعد مشروعًا مستحيل المنال، هذا فضلًا عن أن «الواحة الخارجة» في اتجاه مخطئ مخالف لموطن «خوفوحر» وهو «إلفنتين» كما أنها بعيدة جدًّا من «يام». وعند وصوله إلى هناك وجد أن رئيسها قد ذهب لمحاربة اللوبيين الذين يُنتظر أن يكونوا على حسب ذلك في مكان أبعد في جهة الجنوب الغربي. وإذا سار الإنسان في هذا الاتجاه لا يصادف أماكن صالحة للسكنى حتى يصل إلى «دنقلة» كما أن واحة «سليمة» لا تكاد تكون في هذه المنزلة، وحتى «دنقلة» فإنه من غير المحتمل أن تكون أرض «التمحو» التي كان ينشدها «خوفوحر» أكثر من «الواحة الخارجة». والواقع أن هذه العبارة كما جاءت في نقوش «خوفوحر» لا يمكن تفسيرها. وأرض «التمحو» التي غزاها «سنوسرت الأول» كما جاء في قصة «سنوهيت» كانت تقع في الشمال الغربي من الدلتا. ومن الجائز إذن أنه في هذا الاتجاه الممتد حتى بلاد «طرابلس» يجب أن يكون موطن قوم «تمحو» الذين ذُكروا فيما بعد، ويُلاحَظ أن عبارة قوم «تمحو» في عهد الأسرتين التاسعة عشرة والعشرين كانت تستعمل على ما يظهر بمعنًى مبهم تقليدي في حين أن التسمية الأكثر دقة هي «ليبو (اللوبيون)»، و«مشوش» كما ذكرنا من قبل.

وإذا كان هناك أي فرق بين هذه العبارة والتعبير الآخر التقليدي أي «التحنو» فإنه ينحصر في أن أرض «تحنو» كانت تقرب إلى مصر من أرض «التمحو».

اسم «التمحو»

ذكرنا أن بلاد «التمحو» تمتدُّ على الحدود الغربية المصرية حتى «طرابلس» وكذلك في بلاد النوبة، غير أن «مولر» يعتقد أنهم كانوا يسكنون في غربي «مريوط». وعلى ذلك يرى أن «التمحو» الذين ذُكروا في قصة «سنوهيت» قد بقي اسمهم هنا حتى العهد الإغريقي في لفظة «درماح» ومنه اشتُق الاسم اللوبي «دورماح-ثورناح» وفي المصرية القديمة «ترماح».١١٤
والواقع أن هذا الاشتقاق في ظاهره مغرٍ وبخاصة عندما نعلم أن الكلمة اليونانية الأصلية «إترماخ» معناها «أزرق العينين» كما ذكر لنا «فروبينوس»١١٥ غير أن هذا الاشتقاق لا يرتكز على قواعد علمية صحيحة كما ذكر لنا ذلك «هولشر»١١٦ ولا نعلم من جهة أخرى إذا كان حجر «تمحى» له علاقة باسم «تمحو» إذ لا يزال الموضوع معلقًا.١١٧
والواقع أنه لا يوجد للآن اشتقاق يُرتاح إليه، ومما تجدر ملاحظته أنه يوجد اشتقاقان قوميان قديمان لهذه الكلمة؛ وذلك لأن الكتابة المعتادة لهذا الاسم تتركب من ثلاثة حروف ساكنة «تمح» كما نشاهد ذلك في نقوش «خوفوحر» وفي قصة «سنوهيت»، ونجد من جهة أخرى في عهد الدولة الحديثة في حالات قليلة اختلافًا بسيطًا في الكلمة مع المحافظة على الأصل، فمثلًا نجد أن الكلمة تُكتب في مقابر الملوك في «متن الأجناس الأربعة» بلفظة «تمحو». وقد قال «بروكش» إن اللفظة الأخيرة مشتقة من «تامح» أي أرض الشمال، وعقب على ذلك بأنه اشتقاق غير صحيح، وقال إنه إما اشتقاق عامي، أو من الجائز أن يكون نوعًا من التورية. ويؤكد صحة هذا الزعم ما جاء في التورية بين كلمتي «تمح» و«تاتمح» في اسمي الأميرتين اللتين من أوائل عهد الأسرة الثامنة عشرة، وهما «أحمس» سيدة تمحو — أي بلاد التمحو. و«أحمس» سيدة تامح — أي أرض الشمال الدلتا — وقد تحدثنا عن ذلك الموضوع بالتفصيل في الجزء الرابع من هذا المؤلف (راجع مصر القديمة الجزء الرابع). وقد ناقش «بروكش» هذا الاسم، وما فيه من تورية في ترجمته لمتن الأجناس الأربعة التي كان يعتقد المصريون أن العالم يتألف منها وهي: «رمث» (المصريون)، و«العامو» (الآسيويون)، و«النحسيو» (السودان)، ثم «التمحو» وهم (سكان الغرب). (راجع A. Z, 29, p. 56 ff).

جولان التمحو وخزفهم الذي عُثر عليه في بلاد النوبة على ضوء الكشوف الحديثة

في صيف سنة ١٩٢٣ وجد الرحالة «نيوبولد» في رحلته داخل وادي «هوى» وما جاوره عددًا عظيمًا من قطع الفخار١١٨ تذكرنا بمجموعة فخار «س» التي كشف عنها الأستاذ «ريزنر» في بلاد النوبة.
ويقع وادي «هوى» هذا على مسافة أربعمائة كيلومتر في الجنوب الغربي من الشلال الثالث، وقد وُجدت قطع فخار أخرى مماثلة لها في رحلة ثانية قام بها بعض العلماء١١٩ سنة ١٩٣٢، وبعد ذلك بعام واحد قام الأثري «فوربينيوس» برحلة أخرى، وتدل شواهد الأحوال على أن الكشوف الأخيرة من هذا الفخار تشبه فخار مجموعة (س) التي كشف عنها كل من «ريزنر» و«فرت» و«استايندورف» و«يونكر»١٢٠ في بلدة «كرما» وغيرها من بلاد النوبة، وعلينا الآن أن نلقي نظرة على موضوع قوم «التمحو» فيما يخص الأماكن التي وصلوا إليها في جولانهم وهو موضوع له مساس بوجود الجنس الأشقر الذي يسكن شمالي أفريقيا. وقد اتفقت معظم الآراء في أيامنا على أن هؤلاء القوم كانوا قد قاموا برحلة أو هجرة من الشمال إلى الجنوب، وهذه النظرية المقبولة في ظاهرها قد أدلى بها «فايد هرب»١٢١ و«بروكا». أما النظرية القائلة بأن أقوام البربر البيض الذين يقطنون شمالي أفريقيا يرجع أصلهم إلى قوم الفندال — وهي النظرية التي نجدها في الكتابات العامة التي لا تستند على أسانيد علمية صحيحة — فقد أصبحت نظرية كاذبة من أساسها، وبخاصة بعدما ظهر أنه وُجد في الصور المصرية أناس ذوو بشرة بيضاء.
fig3
شكل ٣: آنية من الفخار من «مدنجن» في شرق «هانوفر» بألمانيا.
fig4
شكل ٤: آنية من الفخار من المستجدة بالقرب من البداري.
والواقع أنه لا بد من القيام ببحث جدي يرتكز على مواد أثرية تظهر لنا الرابطة التي ربطت أوروبا بشمال أفريقيا ومصر، وقد عملت في هذا السبيل بعض ملاحظات تقرب فهم الموضوع بعض الشيء، مثال ذلك ما كتبه الأستاذ «شارف» عن أشكال الفخار الأوروبية التي وجد نظائرها في مصر مثل الإبريق الزنبقي الشكل والكئوس والآنية الأنبوبية الشكل التي وُجدت في «نقادة» و«تاسة» وقد كُشف في الثقافة التاسية في قرية «مستجدة» القريبة من «البداري» آنية من الفخار تشبه إلى حد بعيد آنية عُثر عليها في شرق «هانوفر» من عصر البرنز،١٢٢ وقد ظل الرأي السائد منذ عشرات السنين يميل إلى الاعتقاد بأن مباني شمال أفريقيا المنسوبة للعصر الميجاليني (الحجري) من أصل أوروبي وأنها تُنسب للجنس الأشقر الذي يسكن هذه البلاد. فهذه الحقائق مضافة إلى العثور على الإبريق الزنبقي الشكل تُعد القنطرة الموصلة إلى المادة الأثرية التي سنتحدث عنها باختصار هنا.١٢٣
ففي مجموع الفخار المصري نجد أن الأواني المحززة قليلة جدًّا لا توجد حزوزها إلا نادرًا في عصر ما قبل التاريخ على الأواني السوداء وهي المعروفة بفخار «بتري» الأسود المحزز وإليه يُنسب الإبريق الزنبقي الشكل، وأهم أشكاله على هيئة كأس مختلفة العمق.١٢٤ وأهم مجموعة من الفخار المصري المحززة نراها للمرة الأولى في عهد الدولة الوسطى — وهو العصر الذهبي النوبي الذي يُطلق عليه مجموعة C، والشكل السائد في هذه المجموعة هو الكأس العميق وكذلك الصحن، وعلى الرغم من الفروق الزمنية الكبيرة. فمن الجائز أن نبحث الروابط بين هذا الفخار والفخار الأوروبي، وبخاصة العلاقة بين المجموعة C وفخار الشمال، وقد كتب الأثري «بيتز» فصلًا ممتعًا عن بعثة ثقافة مجموعة C في الصحراء الغربية، وقال: «إن وجود الفخار هناك يُعزى إلى قبيلة من أصل لوبي هاجرت إلى هناك، ويرى أنها من قوم «التمحو».»١٢٥ وقد كان سنده الأكبر في ذلك هو التشابه العظيم بين الجماجم التي وُجدت في مقابر مجموعة C والتي وُجدت في المقابر الميجالينية في شمال أفريقيا، وقد عضد هذا الرأي الأثري «هولشر» ببعض البراهين أهمها ما يأتي:
(أولًا) يمكن تحديد تاريخ المجموعة C من أواخر الأسرة السادسة حتى الأسرة الثامنة عشرة، وهذه الفترة تُعد العصر الذهبي الهام في تاريخ قوم «التمحو». وعندما نؤكد أن «التمحو» على ما يظهر قد سلكوا طريقهم من الجنوب الغربي للصحراء متجهين نحو الشمال فإن الكشوف الجديدة تدعم ذلك؛ فعلى مسافة حوالي أربعمائة كيلومتر في الجنوب الغربي من الشلال الثالث يقع في الجهة الشمالية الشرقية منها المكان المسمى وادي «هوى».١٢٦
وهذه البقعة الواقعة في صحراء لوبيا الغربية كان قد زارها بعض الرواد مرات فيما بعد، ولكن في السنين الأخيرة قامت صوبها عدة بعوث كان للكشوف التي تمت فيها على يد هذه البعوث أهمية في الحكم على مجموعة C وسنتحدث هنا عنها:
ففي صيف سنة ١٩٢٣ وجد الرحالة «نيوبولد» في أثناء رحلته في مجاهل وادي «هوى» وما جاوره عددًا عظيمًا من قطع الخزف تذكرنا نقوشها وأشكالها بنقوش وأشكال مجموعة C، وقد عثر الميجر «باجنولد» في أثناء بعثته التي قام بها في ربيع سنة ١٩٣٢م على قطع أخرى مماثلة للأولى،١٢٧ وبعد ذلك بسنة جاء كشف الأثري «ليوفروبينيوس Leo Frobenius» والكشوف الأخيرة تشبه مجموعة C الخزفية بصورة مدهشة من حيث الشكل والنقش، وقبل أن نبحث هذه الكشوف لا بد أن نذكر كشفًا آخر ذكره «نيوبولد» إذ يصف لنا مبنًى قد كشف عنه فيقول: إنه يشمل جدران حاميات من الأحجار المسطحة المنحوتة كانت قد اختيرت بدقة، وقد تخللها فراغ مُلئ «بالدبش» (الأحجار الصغيرة) وعلى الجانب الشمالي الشرقي يُوجد جداران صغيران متجهان نحو السور من جهة الجدار الرئيسي.١٢٨
وهذا الوصف لا يدع مجالًا للشك في أن هذا الطراز من المباني هو طراز القبر الخاص بشمال أفريقيا المعروف.١٢٩ وقد أُقيم هنا في المساكن الشمالية الشرقية لا في المساكن الجنوبية الشرقية كما هي العادة هناك.
fig5
شكل ٥: أوانٍ، وقطع أوانٍ من وادي «هوى».

والآن نعود إلى التحدث عن الخزف الذي عُثر عليه في هذه البقعة:

فقد عثر «فروبينيوس» على ثلاثة أوانٍ سليمة؛ وهي طبق كبير شكل رقم ٥ وقدر شكل رقم ٥ وآنية كرية الشكل ذات حافة غائرة شكل رقم ٥. أما القطع الصغيرة التي عثر عليها هناك فلا يمكن الحكم منها بطبيعة الحال على حجم الآنية أو شكلها بصفة مؤكدة، فلدينا مثلًا قطعة من حافة إناء شكل رقم ٥، يمكن الحكم منها على أن طولها يبلغ حوالي نصف متر وأنها كانت بسيطة جدًّا في هيئتها وأن فتحتها كانت كبيرة، وهذه الأواني تنقسم مجموعتين لكل منها نقش خاص، فواحدة تشمل فخارًا صغيرًا مائلًا للحمرة لطيف المنظر مطليًّا بطبقة رقيقة من نفس اللون، وهذه المجموعة تمتاز بطراز من الزخرف يمثل في شكله جدل السلات المختلفة الأنواع شكل رقم ٥، وقد يصادف أن يكون بين القطع المجموعة من هذه الجهات واحدة تفوق الأخرى في العدد بما فيها من قطع خشنة وهشة ذات لون أحمر مائل للسمرة، أو رمادي أسود تكون الزخرفة السائدة عليها خطوطًا، وغالبًا ما تكون الحافة مزخرفة أو بارزة بوجه خاص. وفي كلتا المجموعتين تكون «العينات» مطبوعة غائرة، ووجه الشبه بين الأواني التي نحن بصددها الآن وبخاصة المجموعة الثانية وبين حرف مجموعة C لا يمكن تجاهله وبخاصة القعب شكل رقم ٥؛ فإن الإنسان يمكنه أن يقرنه بما جاء في تقرير «ريزنر» لوحة (٦١ ب رقم ٥).١٣٠
وعلى الرغم من التبادل في الشكل بين خزف وادي «هوى» وخزف مجموعة C وما يمكن الإنسان أن يستخلصه منه من نتائج فإنه لا يكون مفيدًا وذا قيمة إلا إذا كان مقرونًا بتأريخ ما كُشف عنه من خزف في وادي «هوى». ولكن مما يؤسف له أن هذه الكشوف لم توجد في طبقات معينة من سطح الأرض بل وُجدت كلها سطحية؛ ولذلك لا يمكن تأريخها على حسب الطبقات التي كانت توجد فيها، وبخاصة أن الآلات التي عثر عليها «فروبينيوس» مع هذا الفخار وهي المصنوعة من الحجر قد وُجد أنها من أزمان مختلفة؛ إذ قد عُثر على خنجر من العهد الشلياني كما عُثر على بلطة من العهد النيوليتيكي وأخرى مما يوجد مثلها على شاطئ النيل منذ العصر النيوليتيكي حتى عهد الدولة الوسطى،١٣١ وقد وُجدت بلطة كذلك في عهد مجموعة C.١٣٢
وعلى ذلك يمكن أن تكون القطع المستخرجة من وادي «هوى» من نفس عصر الخزف الذي وصفناه، غير أن ذلك ليس بالأمر المجزوم به، أما كون صناعة أواني وادي «هوى» أقل دقة وأخشن صنعًا من صناعة مجموعة C فإن ذلك لا يؤثر شيئًا في تاريخها بل كل ما هناك يدل على أنها صناعة ريفية إذا ما قُرنت بالأواني النوبية، وكذلك لا يؤثر كونها مطبوعة بدلًا من أن تكون غائرة فإن ذلك لا يمكن الاستفادة منه في تحديد زمنها، فمثلًا في بلاد النوبة وجدنا في باكورة العصر التاريخي أواني خزف مطبوعًا عليها زخرفها.١٣٣
ونجد أن الخزف الأثيوبي والخزف الذي خلف مجموعة C قد أُبدل فيه النموذج الغائر بالنموذج المطبوع.١٣٤
وإذا عجزنا عن معرفة زمن كشف وادي «هوى» فلا يكون ذلك عقبة في طريقنا وإن سبقت في التبكير مجموعة C؛ لأن مكان الكشوف يحمل في طياته الشيء الكثير، ومن الأهمية بحيث يمكننا أن ننتزع منه نتيجة عن موطن فخار مجموعة C؛ وذلك لأننا إذا أخذنا بالرأي القائل إن الطريق التي سلكها جالبو هذا الفخار المتقدم في الصناعة كانت من الشرق إلى الغرب في الصحراء؛ كان ذلك من الأمور المستحيلة تقريبًا، هذا فضلًا عن أننا في هذه الحالة نقف أمام سؤال هام تجب الإجابة عنه، وهو ما مصير هؤلاء الذين قاموا بهذه الهجرة؟ وبخاصة أننا لا نجد لهم أي أثر! … وعلى ذلك فالواقع إذن أن هجرة الأقوام الأفريقية العامة في مدَّة ألف السنة هذه كانت تسير من الغرب نحو الشرق.
ولا تزال معلوماتنا عن تحديد جنس قوم مجموعة C غير واضحة، ويرى الأستاذ «ستايندورف» أن هذا الموضوع لم يُفصل فيه بصورة قاطعة بعد، ولذلك يقول لنا ما معناه: ونحن نقف هنا أمام سؤال لم تصل فيه البحوث إلى حلٍ مُرضٍ فيجب علينا أن نقنع بأننا نبحث في أصل قوم يخيم على سرهم الأصلي ضباب لا يمكن اختراق حجبه، كما أن تاريخه لم يُكتب بعد.١٣٥ أما الأثري «فرث» فإنه يميل إلى فرض احتمالات مختلفة في تفسير هذا التاريخ١٣٦ وأما الأستاذ «يونكر» فيقول: إن قوم مجموعة C قد قفوا في هجرتهم من الجنوب الشرقي مجرى النيل الأزرق ونهر الأتبرة طريقًا طبيعية إلى وادي النيل النوبي، أي إنهم هاجروا من بلاد الحبشة الحالية، وهذا ما يخيل لي أنه الطريقة التي انتشر بها قوم مجموعة C الذين وُجدت جبانتهم الجنوبية في «فرس» أي شمال الشلال الثاني. وهذا القول يعضد الرأي الذي يرجحه الأستاذ «ستايندورف» إذ يقول إن قوم مجموعة C قد أتوا من الجنوب الغربي من «كردفان» واستوطنوا أولًا جهة الشلال الثاني للنيل.١٣٧ فليس من المدهش أن نجد صناعة الخزف في كل مكان في «النوبة» وفي «كردفان» ولا يمكن فصلها عن صناعة مجموعة C؛ ولذلك فليس لدينا أي شك في أن هذه الصناعة تعد خلفًا للصناعة القديمة.١٣٨ على أن جهود الباحثين عن موطن صناعة مجموعة C في هذه الأصقاع، أو في أقصى الجنوب تقف في وجهها مشاهدات علم الأجناس، إذ — على حسبها — أصبح من المعلوم أن العنصر الزنجي في قوم مجموعة C قليل نسبيًّا، وعلى ذلك لم يستطع هذا العلم أن يلعب دورًا معلومًا. والواقع أن كل أصقاع شمال السودان كانت ممرًّا حيث نجد أن هجرة أصحاب الخزف الغائر قد تركت فيها بقايا منه، ويعضد ذلك ما جمعه «نيوبولد» من خرافات قبائل السودان وتقاليدهم الخاصة بنزوحهم من الشمال،١٣٩ ففي مثل هذه الأساطير التي انتشرت حتى غربي بحيرة «تشاد» نجد هنا وهناك أفرادًا شقر الشعر، حمر العيون، وهؤلاء يمكن أن ينعكس في وجودهم ما قام به في الأزمان الغابرة الجنس الأبيض من هجرة عظيمة. ولا يوجد شك في الرابطة التي بين أصحاب الشعور الشقراء وهذه التقاليد، ومن هذا يمكن تفسير وجود الجنس الأبيض في أفريقيا. وكما يقول «نيوبولد» إن هذه الحقيقة في نظره بعيدة عن الشك.
وأخيرًا يجب أن نضيف إلى بحث هذين النوعين من الخزف الملاحظات التالية أيضًا: مما لا شك فيه أنه لا توجد أوانٍ سابقة مباشرة لأواني فخار مجموعة C في بلاد النوبة، بل قد ظهرت فجأة كأنها نبتت من الأرض. فلا بد أن نقبل الرأي القائل بضرورة وقوع غزوة أجنبية، غير أننا وجدنا في منطقة مجاورة أواني مماثلة ربما كانت معاصرة لها ولا يوجد شيء بجوارها كما شاهدنا في الحالة الأولى، ويحتمل أنها قد لا تكون في موطنها الأصلي، بل هي في الواقع في محط في طريق المهاجرين، أو الجالسين للفخار النوبي. ونعتقد أننا لسنا على خطأ إذا قلنا إن الآثار التي عُثر عليها في «وادي هوى» هي برهان على فكرتنا في أن هذا كان في طريق هجرة «التمحو». وقد نذهب بعيدًا إذا تساءلنا عن آخر ما وصل إليه هذا الخزف؟ وهذا يتطلب بحوثًا أثرية خاصة، ومع ذلك فإن النتيجة التي نستخلصها من مثل هذا البحث كما يظهر لنا هي: لا بد أن تكون الصلة المسلم بها بين «التمحو» — وهم سكان شمال أفريقيا الشقر — وبين هذه الأواني الفخارية ثابتة لا غبار عليها؛ لأنه بعد استطاعتنا الموازنة التي بها عرفنا أن الفخار المصري كانت الزخرفة الغائرة فيه أجنبية كما أوضحنا ذلك فإن ذلك يحدو بنا بطبيعة الحال إلى الموطن المحتمل للقوم الذين نحن بصددهم؛ ونعتقد أن يكون إما «أوروبا» أو إقليم البحر الأبيض المتوسط؛ وذلك لأن الفخار المصري فوق أنه يمتاز بزخرفة خاصة وهي التلوين بوضع طبقة من الدهان كان يفضل من جهة أخرى فخار البحر الأبيض المتوسط، وكذلك غربي وشمالي أوروبا في عهد ما قبل التاريخ؛ بسبب الزخرفة المحززة.

والواقع أن هناك صلة مدهشة من حيث الشكل والزينة بين هذا النوع من الزخرفة وبين الزخرفة الأفريقية لا يمكن أن تكون وليدة الصدفة أو توافق الأفكار. ولا شك في أنه توجد هنا روابط عظيمة قديمة لها أهميتها وضرورتها البالغتان؛ لأنها تجعلنا نطل على دور لعبه هؤلاء القوم لا بظهوره في حالات خاصة في الثقافة المصرية وحسب، بل كذلك في إقامة بنيانها.

وعلى الرغم من القليل الذي نعرفه اليوم في هذا الموضوع فإن المكانة الهامة الخاصة التي يشغلها قوم «اللوبيين» في أعماق التاريخ المصري لها قيمتها التامة.

حقًّا توجد أشياء عدة ليست مصرية في مظهرها في العصر التاريخي تمامًا، بل يجب أن تعبر كذلك عن الثقافة المصرية تعبيرًا صريحًا، ومع ذلك فإنها تُنسب إلى أصل لوبي. ولكن يعوقنا عن التعرف عليها والوصول إلى كنهها قلة المادة التي لدينا عن «لوبيا» في عصر ما قبل التاريخ، ويُلحظ ذلك بصفة بارزة في الديانة حيث نجد أن العلاقة في الأزمان الموغلة في القدم بعيدة الوصول إليها، فلدينا علاقات مختلفة خاصة بالآلهة المصرية، والآلهة اللوبية مثل الإلهة «نايت» والإله «ست» وعلى وجه خاص الإله «آمون» في مظاهره الدينية المختلفة، وكل هؤلاء الآلهة كانوا يُعبدون في «لوبيا» وفي الصحراء بداهة، ولكن لا بد من إيضاحات أخرى عن عبادتهم في هذه الأصقاع أكثر مما نعلمه حتى الآن لنفهم الصلات الأساسية التي تربط هذه الآلهة ببلاد «لوبيا».

(٣-٣) هجرة أقوام البحر الأبيض المتوسط وهجومهم على وادي النيل

ذكرنا في الجزء السادس من «مصر القديمة» أن أقوامًا من البحر الأبيض المتوسط ظهروا في مصر، وبخاصة قوم «شردانا» وقلنا إن ظهورهم لا بد أن يكون قبل عهد «رعمسيس الثاني» ويحتمل أن يرجع عهد هؤلاء القوم بالذات إلى أوائل الدولة الحديثة، وقد فصلنا القول بعض الشيء في تاريخهم، وأنهم لم يأتوا إلى مصر في أوَّل الأمر إلا لغزوها. ولا نزاع في أن أقوام البحر الآخرين كانوا على اتصال بمصر منذ أزمان سحيقة في القدم، وتدل شواهد الأحوال على أنه منذ أوائل الألف الثالثة قبل الميلاد قد وفدت من «أوروبا» والبحر الأبيض المتوسط أقوام من الغرب إلى الشرق.

وكانت أوَّل موجة وصلت إليه في أواخر الدولة القديمة، وكانت قد بُذرت في هذه الفترة أولى بذور العداء بين المصريين واللوبيين، ولم تُعد بعد الحملة التي قام بها «سحورع» على قوم «التحنو» ضمن هذا العداء؛ لأن هذه الحملة لم يقم بها «التحنو» بدون شك، بل كان غرض «سحورع» منها توسيع نفوذ مصر، ومد حدودها من جهة الغرب. وعلى الرغم من أن المصادر المصرية — حتى عهد الدولة الوسطى وعهد الانحطاط الذي تلاه — ليست واضحة، وعلى الرغم من أن المسابقة بين الأقوام الوافدين من الغرب كانت غاية في الأهمية، فمن المسلم به أن الحدود المصرية قد هدَّدت؛ فقد كانت هناك هجمة لوبية محسة في العهد الإقطاعي الأوَّل — وإن كانت المصادر قد سكتت عنها، وقد كان زحفهم حتى بداية الدولة الحديثة لا ضرر فيه نسبيًّا، ولم يكن صده يحتاج إلى مجهود كبير، وقد بدأت الهجرة بصورة جدية مستمرة من الشمال الغربي في عهد الدولة الحديثة فزحفت أقوام كثيرة على وادي النيل، وواجهت مصر في عهد الأسرتين التاسعة عشرة، والعشرين أخطر الصعاب في صد هجومهم. وقد كان هجوم اللوبيين في هذا الوقت يسير جنبًا إلى جنب مع الهجرة العظيمة التي كانت قائمة في ذلك الوقت في أصقاع شرق البحر الأبيض المتوسط، وهي التي كان يطلق عليها «هجرة أقوام البحر الأبيض المتوسط»، وقد جاءت في نهاية عهد الثقافة «المنوانية» في «كريت». وفي «بلاد اليونان» كان قد بدأ الزحف الإغريقي الخاص في العهد الذي يطلق عليه «الهجرة الدورية».

والواقع أن البقاع التي حول البحر الأبيض المتوسط في ذلك الوقت كانت في حركة هائلة. ومن المحتمل أن يسلم الإنسان بأن الهجرة «الإليرية» التي كانت متجهة نحو احتلال الأراضي الواقعة حول البحر الإيجي، وهي «البلقان» و«تراقيا» و«آسيا الصغرى»، وكذلك سيل الهجرة الذي كان يتدفق عن طريق بوغاز «جبل طارق» وانتشر في شمال «أفريقيا» — يرجع كله إلى نفس الأصل أي إنه كان هجرة لقوم جدد وفدوا من قلب «أوروبا».١٤٠
ومن المدهش أن هؤلاء الأقوام الذين يدعون «بأقوام البحر» في المتون المصرية التي يرجع عهدها إلى الدولة الحديثة لم يتسن لنا أن ندرس أسماءهم إلا عن طريق قرنهم بما جاء في متون «العصر الكلاسيكي»، أي بعد كتابة النقوش المصرية بنحو ألف سنة تقريبًا. وهذه الموازنة كانت مفيدة بطبيعة الحال لأنها توحي — عندما نقابلها في الوثائق المصرية — بأسماء بعض القبائل الآتية من شمال البحر الأبيض المتوسط، ومن «آسيا الصغرى» — وكانوا يهاجرون إلى المواطن التي سينالون شهرة فيها، مثال ذلك قوم «شردانا» وقوم «شكلش» وقوم «بلست» (فلسطين) وقوم «أقابواش» وقوم «مشوش» وهجرتهم جعلت تحديد موطنهم على وجه التحقيق في آسيا الصغرى مستحيلًا، لأنه عند حلول العهد الكلاسيكي كان كثير من أسماء هؤلاء الأقوام قد ازدوج. فنجد واحدًا في الشمال الغربي، وآخر في الجنوب، أو في الجنوب الشرقي. فمثلًا نجد «الكليكيين» في «الطرواد» وكذلك نجدهم في «كليكيا» كما نجد «بداسوس» في «الطرواد» و«بداسا» في «كاريا»، وكذلك نجد مملكة «ليسيا» على الساحل الجنوبي والبلاد التي حول نهر Aesepus في «طروادة» وكانت تسمى «ليسيا». وقد أصبح من المستحيل الآن أن نحدد من هذه الأسماء المكان الذي بدأ منه قراصنة البحر، أو أقوام البحار عندما نجدهم يقتحمون «سوريا» و«مصر».
غير أنه في السنوات الأخيرة كان لحل رموز اللغة «الخيتية» شأن كبير في الكشف عن عدد كبير من أسماء أقوام البحر. ولا شك في أن الحقائق التي سنحصل عليها من اللوحات «الخيتية» عند درسها تمامًا ستكون مرضية أكثر من التي وصلنا إليها من المتون الكلاسيكية؛ وذلك لأن الوثائق «الخيتية» معاصرة للوثائق المصرية. وكثيرًا ما نعرف منها الأقوام المجاورين لهذه الممالك التي نحن بصددها، وهذه المعلومات ستساعدنا يومًا على تحديد هذه البلاد زمن حروبهم مع مصر. وصعوبة الموضوع الآن تنحصر في أن درس جغرافية «آسيا» في طفولتها لا يزال غاية في الارتباك، فمثلًا نجد أن «إخيخياوا Ahhiyawa» قد حدد موقعها كل من الأستاذين «ماير» و«جارستانج» في «كليكيا».١٤١ وقد رأى رأيهم الأستاذ «سومر» كذلك،١٤٢ في حين أن «فورر» قد وضعها في بلاد اليونان.١٤٣
أما «جوتز» فوضعها في «طروادة» مع إبداء الشك. وقال عنها «هورزنى»: إنها «رودس».١٤٤ وقد كان اقتراح «فور» الأول أن يضعها في «بمفيليا» كما فعل «إدوردمير»، غير أن ذلك لم يقبل،١٤٥ وهكذا نرى بلبلة في تحديد هذه الأماكن. وسنتأكد من مواقع هذه الأقاليم على مر الزمن كما حُدد موقع «قزواتنا» أخيرًا، فقد كانت في وقت من الأوقات تُوضع على ساحل البحر الأسود، وقد حُدد موضعها الآن على وجه التأكيد بأنها «كاتاؤنيا» في الجبال الواقعة في الشمال الشرقي من «كليكيا» كما ذكرنا ذلك من قبل (راجع الجزء السادس)، وقد ذكرنا كذلك في الجزء السادس عند التحدث في موقعة «قادش» عن أسماء الأقوام الذين حاربوا «رعمسيس الثاني» مع ملك «خيتا» ووازنا أسماءهم — كما ذُكرت في النقوش المصرية — بنظائرها في النقوش الخيتية. وتدل الموازنة على أن كل الأسماء المصرية التي وُجدت لها نظائر في الوثائق الخيتية هي أسماء حلفاء «خيتا» على «رعمسيس الثاني» في موقعة «قادش» وعلى أية حال نجد أن «لوكي» أو «لوكا» (ليسيا) قد ذُكرت قبل ذلك بمائة عام في خطابات «تل العمارنة»، كما أنها ذُكرت بعد «قادش» بخمسين سنة في عهد «مرنبتاح» أما القبائل الأخرى التي لم تظهر أسماؤها في موقعة «قادش» فهي «أقايواشا» (أخخياوا) وقد هاجمت «مرنبتاح» ثم «تورشا»، وقد هاجمت هذا الفرعون ومن بعده «رعمسيس الثالث» كما سنرى بعد.
fig6
شكل ٦: فلسطيني.
وفضلًا عن ذلك فإنه مما يدعو إلى الدهشة أن نجد بعض القبائل البارزة جدًّا في الوثائق المصرية لم تذكر على ما يظهر في المتون الخيتية، ونخص بالذكر منها «شردانا» و«بلست» (فلسطين). وقبائل «شردانا» — كما نعلم — كان لها أهمية تفوق أية قبيلة أخرى، وكان يحارب منهم عدد عظيم في صف مصر، أو عليها في فترة من الزمن تبلغ حوالي مائتي سنة. أما قبائل «بلست» وهم الفلسطينيون الذين ذُكروا في التوراة فلم يأتوا إلا متأخرين؛ إذ لم يظهر اسمهم إلا في عهد «رعمسيس الثالث». وقد كان لهم أهمية عظمى في ذلك الوقت.١٤٦ أما القبائل الأخرى الباقية التي لم يأتِ ذكرها في النقوش الخيتية فلم تكن من الأهمية بمكان، وهي «الشكلش»،١٤٧ و«المشوش»، وأخيرًا قبيلة «تكر» أو «ثكل»١٤٨ (زكاروا) ثم قبيلة «وشش» وقد ظهرت قبيلتا «الشكلش» و«مشوش» بوصفهما محاربتين «مرنبتاح» و«رعمسيس الثالث» في حين أن «ثكر» (زكاروا) و«وشش» قد ظهرتا بعد في الحروب التي شنها أقوام البحار على «رعمسيس الثالث».
ومما سبق يمكن تقسيم أقوام البحار الذين ذُكروا على الآثار المصرية قسمين؛ الأوَّل يشمل الأقوام الذين كانوا معروفين عند دولة «خيتا»، والثاني هم الأقوام الذين لم يُذكروا في النقوش الخيتية، وقد ذكرنا هؤلاء الأقوام الذين كان «لخيتا» بهم صلة، وكان معظمهم بطبيعة الحال حلفاءها في موقعة «قادش» (راجع مصر القديمة ج٦). أما أولئك الأقوام الذين أتوا من وراء أفقهم أقوام «دنى» أو «دنونا»١٤٩ «وشردانا» «دردنى» و«إروننى» و«شكلش»، و«مشوش» و«بليست» و«ثكل» (زكارو) و«وشش». وإذا استثنينا قومي «ثكل» و«وشش» وجدنا أن كل هؤلاء قد ظهروا قبل «عهد رعمسيس الثالث» أي قبل الوقت الذي استولى فيه على «بوغازكوى» عاصمة «خيتا»، وانتهت بعدها وثائق الدولة الخيتية، وعلى ذلك ينبغي أن يكون اسمها في الوثائق الخيتية إذا كانت دولة «خيتا» لها معاملة معهما. ولكن لما لم نجدهما مذكورين فمن حقنا أن نقرر هنا أنهما لم يكن لهما مع خيتا أي اتصالات سياسية، ومن جهة أخرى نرى بعض هذه القبائل قد حذف اسمه لأنه لم يكن له أية أهمية تُذكر. ومن الجائز أن هذا ينطبق على الفلسطينيين؛ لأنه لم يصبح لهم شأن يذكر حتى عهد «رعمسيس الثالث» أي عند سقوط «بوغازكوى». وقد كان عدد الفلسطينيين على الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط لا يُذكر كما يدل على ذلك صورة الحامية عند «قادش» غير أن هذا القول لا ينطبق على «شردانا»؛ لأن قومهم كانوا قد برزوا على مسرح التاريخ منذ ما يقرب من مائتي سنة.
وتنقسم أقوام البحر قسمين؛ الأوَّل هم الذين ذكرهم المصريون و«الخيتا» على السواء، والثاني هم الذين لم يُذكروا، وهذا يكشف عن حقيقة هامة ذلك أننا إذا تركنا جانبًا قوم «لوكى» أو «لوكا»، وحلفاء «خيتا» في موقعة «قادش» وجدنا أن القومين اللذين جاء ذكرهما مشتركًا في المتون المصرية والخيتية هما: «أقايواش» و«تورشا». ومما يستحق الذكر هنا أنهما حاربا «مرنبتاح». ومن المعترف به الآن لدى علماء الآثار أن «أقايواش» هم قوم «الأخيين Achaens» إحدى ولايات بلاد اليونان (أخيا) وهي «أخخيياوا Ahhiyawa»، ومن المحتمل أن قوم «تورشا» — في المتون المصرية — هم «تارشا» في المتون «الخيتية». ويوجد تفسير آخر عن موقع هذه القبيلة وهو مقبول في ظاهره، وهو الذي يجعل «تورشا» و«أقايواش» متقاربين في المكان. وذلك إذا قبلنا توحيد «تورشا» المصرية بقبيلة «تارشا» الخيتية، وقد ذكرت مع «آدانيا» على حدود «قزوادنا». وعلى ذلك تكون بلا شك هي «ترسوس» الواقعة في «كليكيا»١٥٠ وإذا كان هذا الزعم صحيحًا أصبح من الحقائق الهامة أن عددًا من العلماء يريدون أن يضعوا «آخياوا» في «كليكيا» كما ذكرنا آنفًا، وأن أهالي «كليكيا» كانوا يُسمون قديمًا «هيباخيين».١٥١ وعلى ذلك يصبح من الممكن أن تكون «تورشا» في المتون المصرية تمثل أهالي «ترسوس» لا أهالي «طروادة». على أن كل ذلك من باب الاستنباط وحده. والواقع أننا لا زلنا بعيدين عن الوصول إلى الحقيقة، وقد ذكرنا كل الاحتمالات في مواقع هذه الأقاليم عند الكلام على موقعة «قادش».١٥٢ ولقد كانت هذه القبائل في الوقت الذي ظهرت فيه الوثائق الخيتية والمصرية تسكن حول جبال «تورس» وخلفها — وبخاصة على الشاطئ الجنوبي «لآسيا الصغرى». ولا نزاع في أنهم قد بدءوا زحفهم من هناك على «سوريا» ومصر، غير أننا لا نعلم إذا كانوا قد اتخذوا دائمًا موطنهم هناك، أو أنهم قد أتوا من مكان آخر، وإذا كان الأمر كذلك فمن أين؟ ومن المحتمل أن بعضهم أتى في زمن مبكر عن هذا من أقصى الشمال الغربي للقارة.

والإنسان بعد هذا الاستعراض يجد أنه لا يزال أمامنا كثير لتحقيق مواقع هذه الأماكن، والدور الذي لعبته كل قبيلة أو إقليم في غزوهم لمصر في عهد كل من «مرنبتاح» و«رعمسيس الثالث».

ونعود الآن بعد هذا البحث الطويل في شرح الأقوام الذين كانت تتألف منهم بلاد «لوبيا»، وكذلك الأقوام الذين حاربوا ملك مصر في عهد الأسرة التاسعة عشرة — وبخاصة أقوام البحر في عهد الفرعونين «مرنبتاح» و«رعمسيس» إلى بحث المصادر التي تركها لنا «مرنبتاح» عن حروبه مع «لوبيا» وأقوام البحر الأبيض المتوسط كما تسميها المصادر المصرية، ثم استخلاص ما يمكن استخلاصه منها. وسنبدأ أولًا — كما هي عادتنا — بوضع هذه المصادر أمام القارئ، ثم التعليق عليها.

(٤) حروب «مرنبتاح» مع «لوبيا»

تنحصر المصادر التي نستند عليها في فهم حروب الفرعون «مرنبتاح» مع «لوبيا» في أربعة مصادر أصلية. وهي:
  • (١)

    نقوش «الكرنك» الكبيرة.

  • (٢)

    عمود القاهرة.

  • (٣)

    لوحة «أتريب».

  • (٤)

    أنشودة النصر.

(٤-١) نقوش «الكرنك» الكبيرة

يُعد هذا المتن من أطول الوثائق المحفوظة على جدران المعابد المصرية، ويقدم لنا — على ما به من تهشيم — أتم وصف باقٍ عن انتصار «مرنبتاح» على «لوبيا» وقد كانت هذه الوثيقة في الأصل تشمل ثمانين سطرًا نُقشت على داخل الجدار الشرقي من جهة الغرب الذي يربط «معبد الكرنك» الأصلي بالبوابة السابعة. ولكن مما يؤسف له أن نهايات الأسطر العليا من هذا المتن قد فقدت بما يقدر بنحو خمس كلمات في آخر كل سطر. وقد كان أول من نشر هذا المتن بأكمله «دميخن»،١٥٣ وقد نشره فيما بعد «مريت»١٥٤ ثم «دي روجيه».١٥٥ غير أنه لا توجد واحدة من هذه النسخ صحيحة تمامًا؛ إلى أن جاء «برستد» فنقل هذا المتن بإتقان إلى حد ما؛ ووضع ترجمة له، وقد عثر «لجران» على بعض القطع الضائعة،١٥٦ وكذلك نقله «مولر»،١٥٧ وهي أحسن نسخة نُقلت حتى الآن. وهاك الترجمة حرفيًّا مع بعض تعديلات بسيطة في ترجمة «برستد».١٥٨

العنوان

(بداية النصر الذي أحرزه جلالته في «لوبيا») … «أقايواش» «تورشا»، «لوكا»، («ليسيا») «شردانا»، «شكلش»، الشماليون الزاحفون من كل البلدان.

شجاعة «مرنبتاح»

(٢) … شجاعته في قوة والده «آمون» ملك الوجه القبلي، والوجه البحري «بررع مري آمون» بن «رع» «مرنبتاح حتب-حرماعت» معطي الحياة، تأمل هذا الإله الطيب النضر … (٣) … (والده) كل الآلهة دروعه، وكل مملكة في خوف عند النظر إليه، الملك «مرنبتاح» (٤) … أقفرت، وصيرت خرابًا، وآمرًا أن كل من يغزو حدًّا من حدود مصر يمني نفسه في زمنه … (٥) … وكل خططه، وحكمه نفس الحياة، وقد جعل كل الناس خالين من الهموم في حين أن الرعب من قوته كان في … (٦) …

الاستعداد للدفاع

… ليحمي «هيلوبوليس» بلدة «آتوم»، وليحمي «انب انى» بلدة «بتاح تاتنن» ولينجي … من الشر … (٧) … لأنهم (ضربوا) الخيام أمام «بوبسطة» (بربرست) وجعل مسكنهم في بقعة «آتى».١٥٩

اعتداء اللوبيين

… (٨) … لم يعتنِ بها، وقد تُركت لتكون مرعًى للماشية بسبب أقوام «الأقواس التسعة»، وقد تُركت خرابًا منذ زمن الأجداد، وكل ملوك «الوجه القبلي» يسكنون في أهرامهم (٩) … وملوك «الوجه البحري» ظلوا في وسط مدنهم محصورين في القصر الحكومي لقلة الجنود، ولم يكن لديهم رماة ليجيبوا عنهم.

تولي «مرنبتاح» عرش الملك واستعداداته

وقد حدث … (١٠) استولى على عرش «حور»، وقد نُصب ليحفظ بني الإنسان أحياء، وقد رُفع ملكًا ليحمي عامة الشعب، وقد كان لديه القوة ليفعل ذلك بسبب … في (١١) … «مابارا» (اسم بلدة أجنبية) ونخبة رماته قد صُفوا، وفرسانه قد أُحضروا من كل جانب، وكان طليعة جنوده في … في (١٢) … ولم يحفل بمئات الألوف في يوم النزال، وقد تقدم مشاته، ووصل الجنود المجهزون بالأسلحة الثقيلة في مظهر جميل قائدين الرماة على كل أرض.

خبر تحالف اللوبيين «وأقوام البحار» على مصر

… (١٣) … الفصل الثالث قائلين:

إن رئيس «لوبيا» الخاسئ «مريي» بن «دِد» قد انقض على إقليم «تحنو» برماته (١٤) … «شردانا» و«شكلش» و«أقايواش» و«لوكا» و«تورشا» آخذًا كل محارب حسن، وكل رجل قتال في بلاده. وقد أحضر زوجه وأولاده، (١٥) … قواد المعسكر، وقد وصل إلى الحدود الغربية في حقول «بر-إر Pirire».

خطاب «مرنبتاح»

تأمل، لقد كان جلالته ثائرًا كالأسد على تقريرهم، (١٦) وجمع رجال بلاطه، وقال لهم: اسمعوا أمر سيدكم. إني أعطي … كما ستفعلون. قائلًا: إني أنا الحاكم الذي يرعاكم، وإني أصرف وقتي في البحث عن (١٧) … أنتم كالواحد الذي يحفظ أولاده أحياء، في حين أنكم تنزعجون كالطيور، وأنتم لا تعلمون فضل ما يفعله. هل من أحد مجيب في (١٨) … هل ستخرب البلاد وتهجر عند غزو كل بلد في حين أن أقوام الأقواس التسعة ينبهون تخومها، والثوار يغزونها كل يوم؟ كل … يأخذ (١٩) … لينهب هذه الحصون، ولقد نفذوا إلى حقول مصر مرات حتى النهر العظيم، ولقد نزلوا وأمضوا أيامًا كاملة وشهورًا قاطنين (٢٠) … ولقد وصلوا إلى تلال الواحة واستولوا على صقع «تا-إحه» أي «واحة الفرافرة»، وقد كانت منذ عهد ملوك «الوجه البحري» في سجلات الأزمان الأخرى، ولم تكن معروفة (٢١) … كالديدان لا يهتمون بأجسامهم، بل كانوا يحبون الموت ويحتقرون الحياة، وقلوبهم متعالية على أهل مصر (٢٢) … رؤساؤهم، وقد صرفوا أقواتهم يجوسون خلال الديار محاربين لإشباع بطونهم يوميًّا، وقد أتوا إلى أرض مصر ليبحثوا عن طعام لبطونهم، وقد كان غرضهم (٢٣) … أن أحضرهم كالسمك الذي وقع في الشبك على بطونهم، ورئيسهم كالكلب، فهو رجل تفاخر، خلو من الشجاعة، فهو لم يمكث (٢٤) … وقد أفنيت «بد-تي-شو» (الآسيويين) الذين جعلتهم يحملون حبوبًا في السفن للإبقاء على حياة بلاد «خيتا» (يشير هنا إلى أن «خيتا» كانت ضمن الحلف الذي كان يحاربه) تأمل، إني من الآلهة — كل نفس (٢٥) … تحيى الملك «مرنبتاح» معطي الحياة، وبحياة حضرتي، وبأل — كما أفلح بوصفي «حاكم الأرضين»، فإن الأرض ستصير (٢٦) … مصر. وقد أوحى١٦٠ «آمون» بالموافقة عندما تكلم الواحد (الملك) في طيبة، وقد ولى كشحه عن «مشوش» ولم يلتفت إلى أرض «تمحو» عند ما يكون (٢٧) …
  • بداية الحملة: … (والظاهر هنا أن خطاب الفرعون قد انتهى في الجزء الضائع من المتن وبدأ بعد ذلك سير الجنود):

    ويقود الرماة في المقدمة هناك ليهزموا أرض «لوبيا». وعندما انقضوا كانت يد الله معهم، وحتى «آمون» كان معهم درعًا لهم، وقد أمرت أرض مصر قائلًا. (٢٨) … مستعد للسير مدة أربعة عشر يومًا.

حلم «مرنبتاح»

وبعد ذلك رأى جلالته فيما يرى النائم كأن تمثال «بتاح» واقف أمام الفرعون له الحياة والفلاح والصحة، وكان مثل ارتفاع (٢٩) … فتكلم إليه: خذه أنت عندما مد إليه يده بالسيف، وأقص عنك أنت القلب الخائف، فتكلم إليه الفرعون له الحياة والفلاح والصحة: تأمل (٣٠) …

اقتراب الجيشين

المشاة والفرسان قد عسكروا بعدد عظيم أمامهم على الشاطئ أمام صقع «برإر»، تأمل إن رئيس «لوبيا» الخاسئ … في مساء اليوم الثاني من الشهر الثالث من الفصل الثالث (أي الشهر الحادي عشر) عندما سمح الضوء بالتقدم نحوهم. وقد حضر رئيس «لوبيا» الخاسئ المهزوم في تاريخ اليوم الثالث من الشهر الثالث من الفصل الثالث. وقد أحضر (٣٢) … حتى وصلوا. وقد انقض مشاة جلالته وخيالته سويًّا وكان «آمون رع» معهم، والإله «ست» صاحب «أمبوس» يقدم لهم يد (المساعدة).

الواقعة

وكل رجل (٣٣) … ودمهم ولم يوجد فارٌّ من بينهم، تأمل فإن رماة جلالته قد أمضوا ست ساعات يخربون بيوتهم وقد أسلموا للسيف على (٣٤) … للبلاد. تأمل: وعندما كانوا يقاتلون … وقد وقف خاسئ «لوبيا» وقلبه خائف وانسحب ثانية ووقف ثم ركع (٣٥) … نعلاه وقوسه وكنانته بسرعة خلفه وكل شيء كان معه … وساقاه، وجرى رعب عظيم في أعضائه (٣٦)، تأمل فإنهم ذبحوا … ممتلكاته، وعدته، وفضته، وذهبه، وأوانيه من البرنز، وأثاث زوجه، وعرشه وأقواسه وسهامه، وكل ممتلكاته التي أحضرها من بلاده (٣٧) مشتملة على ثيران، وماعز، وحمير، وكل ذلك قد حُمل إلى القصر ليوضع فيه الأسرى، تأمل! فإن خاسئ «لوبيا» كان مسرعًا ليهرب بنفسه، في حين أن (٣٨) كل الناس بين الضباط … وبين من جرحوا بالسيف. تأمل: فإن الضباط الذين كانوا على جياد جلالته اقتفوا أثرهم … وسقطوا بالسهام (٣٩) وحُملوا قتلى …

لفتة إلى الماضي

لم ير ذلك إنسان في تاريخ ملوك «الوجه البحري» (لأن الحرب كانت في الدلتا) تأمل! إن أرض مصر هذه كانت في يدهم، في حالة ضعف في عهد ملوك «الوجه القبلي» (٤٠) وعلى ذلك لم يكن من المستطاع صد يدهم … هؤلاء … حُبًّا لابنهم العزيز ليحموا مصر لربها، ولنجاة معابد مصر ولتعلن (٤١) قوة الإله الطيب الجبارة …

  • هرب رئيس «لوبيا»: وقد أرسل قائد حصن الغرب تقريرًا إلى بلاط الفرعون له الحياة والقوة قائلًا ما يأتي:

    إن «مريي» المهزوم قد حضر، وإنه قد أرخى لساقيه العنان جبنًا منه، وقد مر بي في جنح الظلام في سلام (٤٢) … حاجة، وإنه قد سقط وكل إله في صف مصر، وإن الافتخارات التي فاه بها أسفرت عن لا شيء، وكل ما قاله فمه قد عاد على رأسه هو، وحالته ليست معروفة أميت هو أم حيٌّ … وإنك … من شهرته فإذا كان لا يزال حيًّا فإنه لن يقود (الجنود) ثانية؛ لأنه قد وقع عدوًّا لجنوده هو. وإنك أنت الذي أخذتنا لتجعلنا نذبح. (٤٤) … في أرض «تمحو» (ولوبيا) وقد نصبوا في مكانه آخر من بين إخوته، وهذا الآخر يحاربه عندما يراه، وكل الرؤساء حانقون (٤٥) …

العودة المظفرة

ثم عاد ضباط الرماة، والمشاة، والفرسان، وكل فرقة في الجيش سواء أكانوا من المجندين، أو من الجنود حملة الأسلحة الثقيلة (٤٦) (وحاملين الغنيمة …) وسائقين حميرًا أمامهم تحمل أعضاء التناسل التي لم تُختن (دلالة على عدد القتلى) من بلاد لوبيا ومعها الأيدي (التي قُطعت دلالة على الموتى) من كل بلد كانت معه (مثل السمك على الكلا) والممتلكات (٤٧) … أعداء بلادهم. تأمل: لقد كانت كل البلاد مبتهجة حتى عنان السماء وقد رحبت المدن والأقاليم بهذه العجائب التي حدثت. والنيل (٤٨) … بمثابة جزية تحت الشرفة (أي شرفة القصر الملكي التي كان يطل منها الفرعون على الشعب) ليجعل جلالته يُشاهد انتصاراته.

قائمة بالأسرى والقتلى

قائمة بالأسرى الذين سبقوا من أرض «لوبيا» هذه، والبلاد التي أحضرها معه، وكذلك المتاع (٤٩) … بين قصر «مرنبتاح حتب حرماعت» (مهلك «التحنو») الذي في «برإر» حتى المدن العليا من البلاد مبتدئًا ﺑ … الخاصة «بمرنبتاح حتب حرماعت» (٥٠) أولاد رئيس «لوبيا» الذين قطعت وأحضرت أعضاء تناسلهم غير المختونة، ٦ رجال.

أولاد الرؤساء، وإخوة رئيس «لوبيا» الذين قُتلوا، والذين أُحضرت أعضاء تذكيرهم … (٥١) … «اللوبيون» الذين حُملت أعضاء تناسلهم غير المختونة: ٦٣٥٩.

مجموع أولاد الرؤساء العظماء:

(٥٢) … «شردانا»، و«شكلش» و«إقوش» من ممالك البحار الذين لا غلفة لهم (أي مختونين):

شكلش ٢٢٢ رجلًا.

المجموع ٢٥٠ يدًا.

ترشا ٧٤٢ رجلًا (في لبسيوس ٧٥٠).

المجموع (٧٩٠) يدًا؟

شردانا (٥٤) … … … …

المجموع … … … … …

الإقوش الذين خُتنوا وهم المقتولون الذين حُملت أيديهم لأنهم (٥٥) (مختونون) … في أكوام الذين حُملت أعضاء تذكيرهم إلى المكان الذي فيه الفرعون ٦١١١ رجلًا … …

فيكون مجموع أعضاء التذكير غير المختونة (٥٦): … …

والذين حُملت أيديهم ٢٣٧٠رجلًا.

و«الشكلش» و«التورشا» الذين أتوا بوصفهم أعداء تابعين «للوبيا» (٥٧) … … …

«قهق» و«لوبيون» الذين سيقوا بوصفهم أسرى ٢١٨ رجلًا.

نساء خاسئ «لوبيا» المهزوم اللائي أحضرهن معه أحياء ١٢ امرأة لوبية.

المجموع الذي أسر (٥٨) … ٩٣٧٦ من الناس.

قائمة الغنائم: أسلحة الحرب التي كانت في أيديهم، وحملوا غنيمة: سيوف نحاس خاصة بالمشوش ٩١١١.

(٥٩) … ١٢٠٢١٤ (أسلحة صغيرة؟).

الخيل التي أتى بها — وهي التي كانت تحمل خاسئ «لوبيا» المهزوم — وقد جيء بها أحياء أزواجًا: ١٢.

(٦٠) ممتلكات … «مشوش» التي استولى عليها جيش جلالته له الحياة والفلاح والصحة الذي حارب مهزوم «لوبيا»: ماشية مختلفة ١٣٠٨ ماعز (٦١) … … … مختلفة ٦٤.

كئوس شراب من الفضة: (تركت فضاء في الأصل).

أواني «ثا-بور»، أواني «رهدت» وسيوف، ودروع، وسكاكين وأواني مختلفة ٣١٧٤.

وقد حملوا (٦٢) … وأشعلت النار في المعسكر، وخيامهم المصنوعة من الجلد.

مظاهر النصر في القصر

وقد ظهر سيدهم الملك له الحياة والفلاح والصحة في القاعة الواسعة من القصر في حين كان البلاط يرحب بجلالته له الحياة والفلاح والصحة في القاعة الرحبة من القصر في حين كان البلاط (٦٣) يرحب بجلالته له الحياة والفلاح والصحة مبتهجين عند ظهوره الذي فعله. وخدم جلالته صاحوا فرحًا حتى عنان السماء، والحاشية على كلا الجانبين …

خطاب «مرنبتاح»

(٦٤) (وقال جلالته) … بسبب الخير الذي فعله «رع» لحضرتي، لقد ألقيت خطابهم متكلمًا بوصفي إلهًا يُعطى قوة، ومن مرسومه قد جعل الملك «مرنبتاح» له الحياة والفلاح والصحة … (٦٥) … يجب أن يضم … بمثابة رعايا في وسط مدنهم، وكذلك بلاد «كوش» تحمل جزية المقهورين، وقد جعلته يراها في يدي في … (٦٦) … رئيسه محضرًا جزيته كل سنة في … مذبحة عظيمة قد وقعت بينهم، ومن يعيش منهم سيملأ المعابد (٦٧) … ورؤساؤهم المهزومون هاربون أمامي، وقد وضعت في … ذبحه، وقد عمل شواء اصطيد كطير بري، وقد أعطيت الأرض (٦٨) … لكل إله. وقد وُلدوا من فم سيد مصر الوحيد، والمتعدِّي قد سقط … (٦٩) … … ومنتصر «رع» وجبار على أقوام الأقواس التسعة، والإله «ستخ» يعطي النصر والقوة «لحور» الملك مبتهجًا بالعدالة، وضاربًا — الملك «مرنبتاح» له الحياة والفلاح والصحة — وإني (٧٠) … القوي، لم يؤخذ. وقد تآمر «اللوبيون» على أشياء أثيمة ليرتكبوها في مصر. انظر إن حماتهم قد سقطوا، ولقد ذبحتهم وقد عملوا (…) (٧١) … ولقد جعلت مصر تفيض بنهر، والناس تحبني كما أحبهم، وأعطيهم نفسًا لمدنهم، واسمي يُفرح به في السماء والأرض (٧٢) … وجدوا، وزمني قد نفذ فيه أشياء جميلة في أفواه الشباب على حسب عظم ميزة الأشياء التي أنجزتها لهم وإنها صحيحة كلها (٧٣) … عابدًا السيد الممتاز الذي استولى على الأرضين. الملك «مرنبتاح» له الحياة والفلاح والصحة.

جواب البلاط

قالوا: ما أعظم هذه الأشياء التي حدثت لمصر! … (٧٤) … و«لوبيا» كالمتوسل الذي قد أُتي به أسيرًا، ولقد جعلت أهلها كالجراد؛ لأن كل طريق قد امتلأت بأجسامهم … مانحًا مؤنك إلى فم المحتاج، وإنك تنام مرتاح البال في أي وقت إذ لا يوجد (٧٦) …

(٤-٢) عمود القاهرة

جزء من عمود الجرانيت محفوظ الآن «بمتحف القاهرة»، وقد كان أول من لاحظه في ساحة بناء وزارة المعارف في القاهرة هو «بروكش» الأثري.١٦١ وقد نُقل بعد ذلك إلى المتحف، ونشره أولًا «ماسبرو» بدون صور.١٦٢ وتحتوي نقوش هذا العمود على ملخص مختصر عن إعلان الغزو للفرعون، وبذلك يصير النقش الذي نجده في نقوش «الكرنك» الكبرى التي تسبق إعلان الحرب.
والمحتويات التاريخية لهذه الوثيقة هي ما يأتي:
نجد في الجزء الأعلى منظرًا يُشاهَد فيه «مرنبتاح» يتسلم سيفًا من إله يقول له: إني أجعلك تقطع رءوس رؤساء «لوبيا» الذين قد صددت غزوهم. وفي أسفل نجد نقشًا في خطوط عمودية لا يُرى منها الآن إلا ما يأتي:

(١) السنة الخامسة، الشهر الثاني من الفصل الثالث (الشهر العاشر) أتى إنسان ليقول لجلالته: إن رئيس «لوبيا» الخاسئ قد غزا مع … رجالًا ونساء من «الشكلش» (٢) …

(٤-٣) لوحة السنة الخامسة من حكم «مرنبتاح»

هذه اللوحة التي يسميها «برستد» «لوحة أتريب»١٦٣ ليس لتسميتها أصل. والواقع أن هذه اللوحة عُثر عليها في عام ١٨٨٢ في «الكوم الأحمر» التابع لقرية «شبرا، زنجي» على مسافة خمسة كيلومترات شرقي «منوف». وقد بقيت هذه اللوحة في مكانها مدة عشرة أعوام، وقد نُقلت بعدها بطريق ترعة «الباجورية» لتُوضع في «متحف القاهرة» غير أنها غرقت وبقيت في قعر القناة مدة خمس وثلاثين سنة، ورُفعت بعدها ووصلت إلى المتحف في يناير سنة ١٩٢٧ وقُيدت برقم ٥٠٥٦٨.
وهي لوحة من الجرانيت الوردي، وقد كُسرت وضاع جزء طولي منها، وهي منقوشة من كلا الجانبين، فعلى الوجه دُوِّن عشرون سطرًا، وعلى الظهر دُوِّن واحد وعشرون سطرًا، وقد نشر «ماسبرو» هذه اللوحة من صورة «شُفت» من الأصل Stempage١٦٤ إلا بعض أسطر نشرها أخيرًا «لفبر» بإتقان بعد مراجعتها على الأصل.١٦٥ والجزء الأعلى المستدير من هذه اللوحة قد حُلي على كلا الجانبين بمنظرين متناسبين ظهرًا لظهر حيث نجد الملك واقفًا أمام إله.

فعلى الوجه نجد من جهة اليمين الإله «آمون رع»، ومن جهة الشمال يُحتمل أنه الإله «بتاح» والمنظر الذي على اليسار غير تام، ولم يبقَ منه إلا جزء من صورة الإله «بتاح»، وعلى ظهر اللوحة نجد على اليمين الإله «آتوم»، وعلى اليسار الإله «حوراختي» يقبض بيده على سيفه، ويلبس التاج الأزرق (خبرش) ويلوِّح بالسيف، ويقدم إلى الإله «حوراختي» أسيرًا راكعًا. وفي المنظر الذي على اليمين لم تبقَ إلا صورة الإله «آتوم». وهاك ترجمة اللوحة مع ما فيها من نقص في كلا الجانبين.

(٤-٤) متن وجه اللوحة

السنة الخامسة، الشهر الثالث من الفصل الثالث، اليوم الثالث (١) في عهد جلالة «حور» الثور القوي الذي يبتهج بالعدل، ملك الجنوب والشمال (… …) (٢) صاحب السيدتين، والذي ينفذ قوَّته على أرض «تمحو» والملك يصد أعداءه (… …) (٣) والمهزومين بالخوف الذي ينبعث منه، ملك الجنوب والشمال «بان رع مري آمون بن رع مرنبتاح حرماعت» (… …) (٤) انتصاراته. ويتحدث عن أعمال شجاعته لبلاد «مشوش» (… …) (٥) «مرنبتاح حتب حرماعت» معطي الحياة، وهو الذي جعل مصر تستسلم للنوم حتى الإصباح، وعلى ذلك فإنه يأخذ (… …) (٦) الرعب، كل يوم بسبب الخوف الذي يبعثه في النفوس جاعلًا بلاد «لوبيا» تصير تحت قوة الخوف الذي ينبعث منه ملك الجنوب والشمال (… …) (٧) محوِّلًا معسكرهم إلى مكان قفر، ومستوليًا (… …) (٨) وكل عشب تنبته حقولهم. ولم يبقَ حقل بعد خصبًا ليعيش منه. (… …) (٩) والصهاريج مختنقة كالناس العطشى. كالثور القوي الذي يحارب على الحدود (… …) (١٠) وقد نطق «رع» نفسه باللعنات على الناس منذ أن تعدوا (… …) (١١) بفم واحد وهو تابع للسيف الذي في يد «مرنبتاح حتب حرماعت» الابن الذي خرج من جسمه (… …) (١٢) «مرنبتاح حتب حرماعت» معطي الحياة. وقبائل اللوبيين منتشرون على الجسور مثل الفئران (… …) (١٣) قابضين عليهم مثل الطيور المفترسة ولم نجد منهم من قد أفلت ومحل (… …) (١٤) مثل الإلهة «سخمت»، وسهامه لا تطيش عن غرضها في أجسام أعدائه، وأيًّا كان قد تبقى منهم (… …) (١٥) فإنهم يعيشون على الأعشاب مثل الأنعام، والواقع أنه سيد الآلهة، رب «طيبة» هو الذي (… …) (١٦) ابنه الذي يحبه، يتمتع باسمه … … (… …) (١٧) ابن «رع» «مرنبتاح حتب حرماعت» وهذا ما فعله «آمون رع» سيد تيجان الأرضين القاطن في الكرنك (… …) (١٨) ذبح (؟) سكان الصحاري … … (… …) (١٩) «مرنبتاح حتب حرماعت» … (… …) (٢٠) وهو …

النقوش التي على ظهر اللوحة

(١) (… …) نهاية الحدود، ملك الجنوب والشمال «بان رع مري آمون بن الشمس مرنبتاح حتب حرماعت» الأسد ذو النظرة النافذة، المملوءة بالفزع (٢) (… …) … … في موضوع قومه وقبائل الأقوام التسعة أمامه مثل نساء الحريم ملك الوجه القبلي والوجه البحري «بان رع مرنبتاح» بن «رع حتب» «حرماعت» المتوج (٣) (… …) منشرحًا عند مشاهدة الانتصارات (التي تشمل) ما أحرزه سيفه البتار جاعلًا رجال حاشيته ينظرونها (٤) (… …) مثل الأسرى والشاطئان خلفهم مهللين، ومصر في عيد (٥) (… …) قوم «مشوش» قد هُزموا أبديًّا بقوة المحارب الشجاع، والثور القوي الذي يهزم الأقواس التسعة (٦) (… …) تعداد الأسرى الذين أحضرهم سيف الفرعون البتار له الحياة والصحة والقوة بين الأعداء اللوبيين (٧) (… …) الذين كانوا في الجزء الغربي من (الدلتا) الذين أعطاهم «آمون رع» ملك الآلهة، و«آتوم» سيد الأرضين صاحب «عين شمس» و«حوراختي» و«بتاح القاطن جنوبي جداره» سيد «منف» و«ستخ» (٨) (… … للملك) «بان» (رع مري آمون ابن «رع» «مرنبتاح حتب حرماعت») وقتلى صاروا أكوامًا من الجثث بين قصر (٩) (مرنبتاح …) الذي في «برإر» وجبل نهاية الأرض §.

(٤-٥) قائمة هؤلاء الناس

أولاد رئيس الأعداء اللوبيين الخاسئ (١٠) (… …) ستة رجال.

أولاد الرؤساء وإخوة الخاسئ رئيس «لوبيا» المعادي الذين ذُبحوا وحُملوا بوصفهم اﻟ.

(١١) (… …) أسر «لوبيا» الذين قُتلوا والذين أُحضرت أعضاء تناسلهم ٦٢٠٠ وفي «متن الكرنك ٦٣٥٩» (١٢) (… …) أسر لوبية قُتلوا وأُحضرت أعضاء تناسلهم … (… …) رجالًا (١٣) (… …) … مائتي رجل «إقوش» وأقوام البحر الذين أحضرهم معه الرئيس الخاسئ (١٤) (… …) وهم الذين أُحضرت أيديهم، ١٢١٣ رجلًا، وهذا العدد يخالف ما ذكره «مسبرو» وهو ١٢٠١ ومن «شكلش» ٢٠٠ رجلًا، ومن «طرشا» ٧٢٢ رجلًا (وهذان العددان السابقان قد ذُكرا في متن الكرنك ٢٢٢، ٧٤٢ على التوالي في السطر ٥٣) (١٥) (… …) … عشرة + س رجلًا مجموع «اللوبيين» و«الشردانا» الذين ذُبحوا (… …) رجلًا (١٦) (… …) …: ٣٢ رجلًا.

نساء الخاسئ رئيس لوبيا (… …) امرأة (في نقوش الكرنك سطر ٥٧: ١٢ امرأة) (١٧) (… …) الأعداء اللوبيون رءوس مختلفة (؟)٩٢٠٠.

(١٨) (… …) …: ٨٢٢٤ أقواس …: ١٠٠٠ (+ س) ذكر «مسبرو» في نسخته ٢٠٠٠ (١٩) (… …) آنية «قبت» واحدة وآنية «تبو» من الذهب ٢٠ (+ س) … (٢٠) (… …) مازا (؟) (٢١) (… …) …: ١٥٩٠ …

(٤-٦) قصيدة عن انتصار «مرنبتاح»

(راجع كتاب الأدب المصري القديم الجزء الثاني) هذه القصيدة منقوشة على لوحة تذكارية من الجرانيت الأسود وهي المسماة «لوحة إسرائيل»، وقد أُقيمت في معبد الملك الجنازي، وكذلك على لوحة في معبد «الكرنك» كما يُستدل على ذلك بقطعة وُجدت هناك، وقد كانت بلا شك قصيدة ذات أهمية كبرى لدى الملك، وهي في مجموعها فخار بالنصر العظيم الذي أحرزه الملك على اللوبيين في السنة الخامسة من حكمه ١٢٣٠ق.م، وبه نجت مصر من خطر عظيم، والقصيدة تزخر بالاستعارات والتشبيهات المختارة مما أسبغ عليها صورة أدبية، وقد وصف فيها الشاعر هزيمة الأعداء بمهارة تدعو إلى الدهشة فكأنها صورة رسمها المثَّال أمامنا غير أن هذه صورة ناطقة، يُضاف إلى ذلك أن الشاعر وسط هذه المدائح وتلك الأعمال الجسام التي قام بها «مرنبتاح» للذود عن حياض بلاده وتخليصها من غارات «اللوبيين» وكسر شوكتهم لم يَفُتْهُ أن وصف الفرعون بالاستقامة والعدل، فهو يعطي كل ذي حق حقه، فالثروة تتدفق على الرجل الصالح، أما المجرم فلن يتمتع بغنيمة ما، وما أحرزه الإنسان من ثروة أتت عن طريق غير مشروع تقع في يد غيره لا في يد أطفاله، ثم نرى الشاعر ينتقل إلى وصف السلام والطمأنينة والرخاء التي سادت البلاد بعد هذا الانتصار بصورة هي المثل الأعلى لما يتطلبه الإنسان في الحياة الدنيا، فحتى الحيوان قد تُرك جائلًا بدون راعٍ، في حين أن أصحابهم يروحون ويغدون مغنين، وليس هناك صياح قوم متوجعين. ولا شك في أن هذا هو عين السلام الذي يتطلبه الإنسان في كل زمانٍ ومكان. وفي ختام هذه القصيدة الرائعة يعدد لنا الشاعر القبائل أو الأقاليم التي أخضعها «مرنبتاح» ومن بينها قبيلة بني إسرائيل، وهذه أول مرة ذُكر فيها هؤلاء القوم في المتون المصرية، ولذلك سُميت هذه اللوحة باسمهم، وكذلك قيل عن «مرنبتاح» إنه فرعون موسى الذي ذُكر في القرآن وغيره من الكتب المقدسة، وهذا طبعًا لا يرتكز على حقائق تاريخية.

(أ) المتن

التحدث عن انتصاراته في جميع الأراضي، وكل الأراضي جميعًا قد أخبرت بذلك، وصارت تشاهد جمال أعمال الفروسية.

الملك «مرنبتاح» الثور القوي الذي يذبح أعداءه، جميل الطلعة في ميدان الشجاعة حينما يهاجم.

إنه الشمس بدَّدت الغيوم التي كانت تخيم على مصر، وقد جعل «تامرى»١٦٦ تشاهد أشعة الشمس.

وهو الذي أزاح تلًّا من النحاس من فوق ظهور الشعب حتى يتمكن من منح من كانوا في الأسر الهواء.

وهو الذي جعل أهالي «منف»١٦٧ يفرحون على أعدائهم، وجعل «بتاح تنن» يبتهج ويشمت بخصومه، وهو الذي فتح أبواب «منف» بعد أن كانت قد أُغلقت وجعل معابدها تتسلم أرزاقها.

وإنه الملك «مرنبتاح» الواحد الفرد الذي يبعث القوة في قلوب مئات الألوف، ويدخل نفس الحياة في أنوفهم عند رؤيته.

بلاد «التمحو»١٦٨ كُسرت في مدة حياته، وأدخل الرعب أبد الدهر في قلب «مشوش»، وإنه الذي جعل «اللوبيين» الذين وطئوا أرض مصر ينكصون على أعقابهم، والوجل العظيم في قلوبهم من مصر، وزحفهم قدمًا قد انتهى، وأقدامهم لم تقوَ على الوقوف فولوا هاربين.
والمحاربون منهم بالسهام ألقوا بأقواسهم، وقلب المسرعين منهم قد أعياه المشي وفكوا قرب مائهم، ثم ألقوا بها على الأرض، وحقائبهم قد مزقت وألقي بها.١٦٩
ورئيس «اللوبيين» التعس المهزوم١٧٠ هرب تحت ستار الليل وحيدًا، والريشة ليست على رأسه،١٧١ ولكن قدميه قد خانتاه (؟) وأزواجه قد اغتُصبن أمام وجهه، ومأكولات وجبته قد استُولي عليها، ولم يكن لديه ماء في القربة ليعيش منه.

وكان محيا إخوانه يبدو مفترسًا يريد الفتك به، وقد تحارب ضباطه فيما بينهم وحُرقت خيامهم وتحولت إلى رماد، وكل متاعه صار طعامًا للجنود.

وقد وصل إلى بلاده محزونًا، وكل فرد قد تخلف في أرضه كان يستشيط غضبًا (؟) … الذي عاقبه القدر هو الذي يحمل الريشة الحقيرة!

هكذا كان يتحدث أهل كل مدينة عنه، وأنه صار تحت سلطان كل آلهة «منف» ورب مصر قد لعن اسمه، وأصبح «مريي»١٧٢ لعنة «منف» يتناقلها ابن عن ابن من أسرته إلى الأبد، و«بن رع» محبوب «آمون»١٧٣ يقتفي أثر أولاده، و«مرنبتاح» منشرح بالصدق قد نصبه القدر له.
وقد أصبح «مرنبتاح» أسطورة «للوبيين» ليتحدث بها جيل عن جيل بانتصاراته قائلين:
هل سيكون ضدَّنا ثانية … «رع»؟ وهكذا يقول كل شيخ لابنه: «وا أسفاه على «لوبيا» لقد أصبح أهلها لا يعيشون بحالتهم الطيبة يمرحون في الحقول. ففي يوم واحد قضى على تجوالهم، وفي عام واحد فنى «التحنو»، وقد حول الإله «ستخ»١٧٤ ظهره عن رئيسهم وخربت مساكنهم بسلطانه، ولا يوجد عمل لحمل … في هذه الأيام،١٧٥ إنه لحسن أن يخبئ الإنسان نفسه، ففي الكهف سلامته.»

إنه رب مصر العظيم والقوة الشجاعة متاع له، فمن يجسر على الحرب الآن وهو يعلم كيف يخطو قدمًا؟

إن من ينتظر هجومه لغبي أحمق، ومن يتعدَّ على حدوده فلا يعلم ما يخبئه له الغد.

ويقول الناس منذ زمن الآلهة: إن مصر هي الابنة الوحيدة «لرع» وابنه هو الذي يجلس على عرش «شو»١٧٦ ولن يشرع أحد في التعدِّي على سكانها، وعين كل إله سترقب كل من ينهبها، ولا شك في أنها ستقضي على أعدائها، ويقول … عن نجومهم وكل العقلاء عندما ينظرون إلى الريح.١٧٧ وقد حدثت أعجوبة كبرى لمصر فكل من يهاجمها يصير أسيرًا في يديه (؟) بقرار مجلس الملك الذي يشبه الإله وهو الذي حكم له بالفوز على أعدائه في حضرة «رع».١٧٨ و«مريي» الخبيث الفعل، ولعنة كل إله في «منف»، هو الذي قد حوكم في «عين شمس» ووجده التاسوع مجرمًا.
وقد قال رب العالمين:١٧٩
أعط السيف١٨٠ ابني المستقيم القلب، الشفيق «مرنبتاح» محبوب «آمون» الذي عنى «بمنف» ودافع عن «عين شمس»، وفتح البلاد التي أُغلقت ليطلق سراح الجم الغفير من المعتقلين في كل إقليم، وليتمكن من تقديم قرابين للمعابد، وليجعل البخور يدخل أمام الآلهة وليتمكن من السماح للعظماء ليحفظوا ممتلكاتهم، ولصغار القوم ليعودوا إلى مدنهم.
وهذا ما يقوله أرباب «عين شمس» خاصًّا بابنهم «مرنبتاح» محبوب «آمون»:

سيكون له عمر كرع ليدافع عن الضعيف أمام كل أرض أجنبية، وجعل مصر فوق … للذي نصبه ليكون ممثله الدائم ليتمكن من تقوية سكانها.

انظر إن الإنسان يعيش في أمان في عصر (الملك) الشجاع، ونفس الحياة يأتي من يد الواحد القوي، والثروة تتدفق على الرجل الصالح، ولن يمتع مجرم بغنيمته (؟) والثروة التي يحرزها الإنسان من طريق غير مشروع تقع في يد غيره لا في يد أطفاله.

وقد قيل هذا:

حينما أتى التعس الساقط «مريي» اللوبي ليغزو جدران «تنن»١٨١ الذي جعل ابنه الملك «مرنبتاح» يعتلي عرشه عندئذ قال «بتاح» عن خاسئ لوبيا:
«لتنقلب كل ذنوبه جميعًا على رأسه، وليسلم إلى يد «بتاح» ليجعله يتقايأ ما ابتلعه كالتمساح» انظر! إن الأسرع عدوًّا يلحق بالسريع، والملك يوقع في أحبولته من يعرف قوته. إنه «آمون» الذي يحطمه بيده ليقدمه إلى روحه١٨٢ في «هرمنتس»١٨٣ إلى الملك «مرنبتاح» قد أشرق السرور العظيم على مصر، وانبعث الفرح من بلدان «الدميرة» (مصر) وتتحدث الناس عن الانتصارات التي أحرزها «مرنبتاح» على «التحنو» (اللوبيين).

ما أعظم حبهم للأمير المظفر، وما أكثر تعظيمهم له بين الآلهة، ما أسعده حظًا رب القيادة، آه! إنه لحسن أن يجلس الإنسان يتحدَّث والناس تغدو وتروح ثانية دون عائق ما في الطريق، وليس هناك أي خوف في قلوبهم.

وقد تركت المعاقل وشأنها، وأصبحت الآبار مفتحة،١٨٤ ومسالكها سهلة. ومعاقل الحوائط أصبحت هادئة، ولا يوقظ حراسها إلا الشمس، وجنود «المازوي»١٨٥ نيام راقدون بلا حركة، أما «النياو» «والتكتن» فإنهم يطوفون بالحقول على حسب رغبتهم، وماشية الحقول قد تُركت تذهب جائلة بدون راع وتعبر ماء النهر.١٨٦

وليس هناك نداء لليل: قف قف؟ بلغة الأجانب.

والناس يروحون ويغدون مغنين، وليس هناك صياح قوم يتوجعون، والمدن أصبحت كرة أخرى معمورة، وذلك الذي زرع غلة سيأكل منها أيضًا.

ولقد وجهه «رع» إلى مصر ثانية، وقد ولد مقدَّرًا له حمايتها، هو الملك «مرنبتاح».

ويقول الرؤساء مطروحين أرضًا: السلام.

ولم يعد يرفع واحد من بين قبائل البدو تسعة الأقواس١٨٧ رأسه «التحتو» قد خربت.

وبلاد «خاتي» أصبحت مسالمة.

و«كنعان» أُسرت مع كل خبيث.

وأزيلت «عسقلان».

و«جيزر» قُبض عليها.

و«بنوم» أصبحت لا شيء.

وإسرائيل١٨٨ خربت وليس بها بذر.١٨٩
«وخارو»١٩٠ أصبحت أرملة لمصر.

وكل الأراضي قد وجدت السلم.

وكل من ذهب جائلًا أخضعه ملك الوجه القبلي والوجه البحري «بن رع» محبوب «آمون» ابن الشمس «مرنبتاح» منشرح بالصدق.

معطي الحياة مثل «رع» كل يوم.

(٥) الموقعة الكبرى التي دارت بين اللوبيين والفرعون «مرنبتاح»

سردنا فيما مضى ترجمة حرفية للمصادر التي في متناولنا حتى الآن عن الحرب التي قامت بين «مرنبتاح» وبين غزاة «لوبيا» وحلفائهم من أقوام البحار، وكذلك تحدثنا عن أقوام البحر هؤلاء بقدر ما وصلت إليه معلوماتنا، ويُلاحظ في كل ما سردناه أن معظم هذه المصادر قد وصلت إلينا من جهة مبتورة مشوَّهة بفعل الزمن، ومن جهة أخرى لم نجد فيها من الحقائق التاريخية الخالصة ما يمكن المؤرِّخ من وضع صورة صادقة عن سير الموقعة، ويرجع السبب في ذلك كله كما هي الحالة في كل النقوش المصرية — إلى أنها وضعت لتكون عقود مدح للفرعون معدِّدة ما قام به من أعمال خارقة للمألوف، ومع كل ذلك ففي استطاعة المؤرخ الذي خبر المتون الفرعونية أن يميز منها ما يدخل حيز التاريخ، وما وُضع عقود مدح وثناء لا يمت إلى التاريخ بصلة، وسنحاول هنا أن نضع صورة عن حروب «مرنبتاح» مع هؤلاء «اللوبيين» الذين فصلنا القول في تاريخهم بعض الشيء لصلتهم الوثيقة بأرض الكنانة في كل عصور التاريخ، كما شرحنا ذلك شرحًا وافيًا.

فقد تحدثنا في الجزء السادس عن حروب «سيتي الأوَّل» ومن بعده «رعمسيس الثاني» مع «لوبيا» (راجع مصر القديمة ج٦).

والواقع أن حكومة «رعمسيس الثاني» القوية، وما كان لها من نفوذ بين دول العالم كان له تأثير على ما جاورها من الأمم حتى إن قيام هجمات معادية كرة أخرى من جانب «اللوبيين» لم تكن لتحدث في تلك الفترة، ولكن نجد بعد موت هذا العاهل العظيم أنه قد هبت العاصفة، وبخاصة أنه في أواخر أيام «رعمسيس» كان قد بدأ الانحلال والوهن يدبان في أرجاء الإمبراطورية المصرية، وقد كان على ابنه «مرنبتاح» أن يتحمل تبعة ما خلفه له والده من إرث مثقل بالصعاب والأخطار المحدقة، وبخاصة إذا صدَّقنا ما يزعمه بعض المؤرِّخين من قيام ثورات في أوائل حكمه في آسيا، وأنه كان له بعض المنازعين على عرش البلاد كما أشرنا إلى ذلك من قبل.

(٥-١) النقش العظيم الذي تركه لنا «مرنبتاح» على جدار معبد الكرنك

والنقش العظيم الذي تركه لنا «مرنبتاح» على جدران معبد الكرنك يضع أمامنا صورة عن الخطر الذي كان يتهدد البلاد، كما يصف لنا الاستعدادات التي اتخذها «مرنبتاح» لصدِّ أعداء البلاد المغيرين بصورة لا بأس بها.

وتدل ما لدينا من معلومات على أنه قد ظهر مع قومي «مشوش» و«قهق»١٩١ للمرَّة الأولى قوم «اللوبيين» الذين تحالفوا مع قوم البحار لاقتحام أرض الكنانة، وقد كان عدد جنود قوم «قهق» بالنسبة «للوبيين» و«المشوش» قليلًا، إذ قد انسحبوا من بينهم على ما يظهر غير أننا نجد أنهم كانوا لا بد يؤلفون جزءًا لا يُستهان به من الجنود المرتزقة في الجيش المصري ولعبوا فيه دورًا هامًّا، ولا أدل على ذلك من أنه في ورقة «أنسطاسي» الأولى التي من عهد «رعمسيس الثاني» نسمع عن جيش يتألف من خمسة آلاف مقاتل منها ١٩٠٠ من المصريين، و٥٢٠ من جنود «شردانا» و٨٨٠ من «السود» ومائة من «المشوش» و١٦٠٠ من جنود «قهق» (راجع Pap Anast I, 17, 4)، وكذلك جاء ذكر جنود «شردانا» وجنود «قهق» في ورقة «هاريس» الكبرى مرتين وأنهم يسكنون في مصر بكثرة،١٩٢ ولا نعلم غير ذلك عن هؤلاء القوم شيئًا.

وقد تألف بقيادة الأمير اللوبي المسمى «مريي بن دد» حلف معادٍ لمصر في السنة الخامسة من عهد الملك «مرنبتاح» في بلاد «تحنو»، ثم زحف على مصر، وتؤكد العبارة التي جاءت في متن «الكرنك» الكبير في السطر الثاني والعشرين وهي: «وقد أتوا إلى مصر ليبحثوا عن طعام بطونهم.» أن الغرض من هجومهم هو البحث عن مواطن جديدة، ووسائل للحياة التي نضب معينها في بلادهم.

والواقع أن لدينا هنا كتلًا بشرية كانت منذ مائة سنة في حركة مستمرة لا يستقرُّ بها مكان، مما لا يسمح لنا عند التحدُّث عنها القول بأنه كانت توجد للأقوام التي تتألف منها حكومة أو مملكة مستقرَّة في «لوبيا». وقد كان الفرعون «مرنبتاح» قد ذهب إلى الجنوب الشرقي من الدلتا ليحصن الجهات الواقعة في منطقة «تل بسطة» — لا «بلبيس» — كما برهن على ذلك الأستاذ «جاردنر»، وكذلك أقام تحصينات في «هليوبوليس» على ما يظهر، لمقاومة زحف البدو من الصحراء، وهناك وصلت إليه الأخبار بالخطر الداهم من تقدُّم «اللوبيين» نحو بلاده، وقد فهم بحق الأستاذ «إدوردمير» أن التصريح الذي جاء في السطر السادس من نقوش «الكرنك» وهو:

إنه قد وصل إلى «هليوبوليس» بلدة الإله «تاتنن» ليحفظها وليقيها الشر عند المكان المسمى «ترعة إتي» … لأنهم كانوا قد ضربوا خيامهم أمام «بوبسطة» واتخذوا مساكنهم في أرض «إتي».

لا يمكن أن يكون ذا علاقة بموضوع الحرب مع «اللوبيين»، بل إن تاريخ هجوم هؤلاء القوم يبتدئ في هذا المتن بالسطر الثالث عشر وما بعده، وفضلًا عن عدم صحة الرأي القائل بأن «اللوبيين» لم يكن لديهم عائق عن الإيغال بعيدًا في داخل مصر، فإن نقوش السطر التاسع عشر تدل بصراحة على أنهم وصلوا فقط حتى النهر الكبير، أي إنهم وصلوا حتى فرع النيل «الكانوبي»، وهذا هو المكان الذي وقف عنده الهجوم اللوبي الذي حدث فيما بعد، وفي السطر الثلاثين حُكي عن الجيش المصري:

إن مشاته وفرسانه قد عسكروا هناك في عدد عظيم، وكان أمامهم على الشاطئ بالقرب من المكان المسمى «برإر».

ومن ذلك نفهم أن جيش لوبيا المعادي لم يقتحم قط أرض الدلتا.

وقد قام «مرنبتاح» على جناح السرعة بالاستعداد للقيام بهجوم مضادٍّ للعدو في مدة لا تتجاوز أربعة عشر يومًا. وفي اليوم الثالث من الشهر الثالث من فصل الفيضان صمم الفرعون على منازلة العدوِّ في مكان يقع بين «برإر» وجبل «وب تا»، وقد شجعه على ذلك — كما يحدثنا الملك — حلمٌ رأى فيه الإله «بتاح» يقدِّم له سيفًا، وقد كانت أقوى فرقة مهاجمة من جنود العدو هي فرقة قوم «إقوش» ثم يليها فرقة «الترشا» ثم «الشكلش» و«الشردانا» في حين أن قوم «لوكا» (ليسيا) كان لا يمثلهم في هذه الحرب إلا عدد قليل. أما «اللوبيون» أنفسهم فكان معظم الجيش منهم، وقد انضم إليهم عربات «المشوش» ثم قلة لا تُذكر من قوم «قهق»، وأما تعداد الجيش فإن ما ذكره «مرنبتاح» في نقوشه عن مقدار قتلى الموقعة يعطينا فكرة تقريبية عنه، فيذكر أن من صُرع في ساحة القتال من اللوبيين يبلغ ٦١١١ — وفي رواية أخرى ٦٢٠٠ رجلًا. أما أقوام البحر فبلغ عدد قتلاهم ٢٣٧٠ رجلًا، وكان مجموع عدد الأسرى نحو ٩٣٦٧ رجلًا وامرأة، وعلى ذلك يكون قوام الجيش اللوبي وحلفائه حوالي ثلاثين ألف مقاتل، وهذا يدل على أن غزوة «اللوبيين» لمصر لم تكن للسلب والنهب — كما كانت حال الهجمات التي قاموا بها من قبل — بل كان جيشًا له قيادته العليا، ولا شك في أن غرضه الأول كان استيطان مصر واحتلالها.

وقد شجع «مرنبتاح» رؤياه التي رآها في منامه فقام بالهجوم على العدو فعلًا، واستمرَّت الواقعة ست ساعات حمي خلالها وطيس الحرب وانكشفت عن اندحار العدو اندحارًا مشينًا، وما بقي منهم أرخى لساقيه العنان مع قائدهم وأميرهم «مريي»، وقد وصف لنا «مرنبتاح» هذه الهزيمة وصفًا شيقًا في قصيدة النصر التي ذكرناها من قبل. وهكذا أمكن «مرنبتاح» أن يعود إلى عاصمة ملكه مظفرًا بعد أن حفظ مصر من خطرٍ كان يهدد كيانها لم تكن قد رأت مثيله منذ حوالي خمسمائة سنة، أي عندما غزا «الهكسوس» أرض الكنانة.

وتدل البحوث الأخيرة على أن «برإر» على الأرجح تقع في المقاطعة الثانية من مقاطعات الوجه البحري (راجع Hölscher Ibid p. 63) أما المكان الذي أطلق عليه هنا جبل «وب تا» فلا يمكن تحديد موقعه على وجه التحقيق.

(٦) قصة خروج بني إسرائيل من مصر وأنشودة انتصار «مرنبتاح»

رأينا في القصيدة الرائعة التي نقشها «مرنبتاح» تخليدًا لذكرى انتصاراته على أقوام لوبيا والبحار وما جاء فيها من وصف خلاب لمدى هذا الانتصار، وما صارت إليه حالة أمير «لوبيا» وأسرته من بؤس وشقاء، وكذلك حالة الأمن والطمأنينة التي سادت البلاد بعد أن أبعد خطر الغزو عنها، هذا وقد جاء في آخرها وصف شامل يدل على استتباب السلام في أنحاء الإمبراطورية المصرية آنئذٍ وخضوع أهلها لمصر خضوعًا تامًّا، وقد كان أهم ما لفت نظر المؤرِّخين في هذه الأنشودة هو ذكر قوم بني إسرائيل، وبخاصة لأنه المثل الوحيد الذي عُثر عليه على الآثار المصرية بل لم نجدهم يذكرون بعد ذلك على الآثار إلا بعد انقضاء أربعة قرون من ذلك التاريخ وذلك في الكتابات المسمارية، يُضاف إلى ذلك أن الجملة التي جاء فيها ذكر هؤلاء القوم قد لفتت الأنظار بصورة مدهشة لما فيها من إشارة خفية وإبهام سُكب في تفسيره والإماطة عن أسراره مدادٌ يغرق ما تبقى من بني إسرائيل في أيامنا. وهذه العبارة هي: «وإسرائيل قد خربت وانقطعت بذرتها.» وعلى الرغم من وجود هذه العبارة في اللغة المصرية القديمة في غير هذا المكان، فإن استعمالها بالذات هنا بالنسبة لبني إسرائيل كان ذا أهمية عظيمة جدًّا في بحث موضوع خروجهم من مصر — سواء أكان في ذلك الوقت أم قبله.

وتاريخ بني إسرائيل في مصر لم نجده في النقوش خلافًا للإشارة التي جاءت في الجملة السابقة، ولكن تاريخ هؤلاء القوم كما ذكره مؤلف التوراة — وهو إسرائيلي المنبت — قد أضفى على حوادثه أهمية لم يخطر ببال مؤلف مصري أن يسبغها عليه في هذا العهد بعينه، بل ربما كان لا يعرف شيئًا عنها، وحتى إذا كان يعلمها فإنها كانت في نظره من الحوادث التافهة التي لا تستحق ذكرًا أو تدوينًا، إذ إن كل ما كان يهم المؤرِّخ المصري في عصوره التاريخية كلها هو تدوين انتصارات الفرعون ومفاخره، وما قام به للآلهة الذين كانوا يؤازرونه وينصرونه في المواقع كلها.

وما ذكره لنا كتاب التوراة عن إقامة إسرائيل في مصر ينحصر في العهدين اللذين شملا حياة كل من «يوسف» و«موسى». وإذا كان «موسى» هو المؤلف لهذا التاريخ كما يدَّعي كل من الأستاذ «نافيل» والأستاذ «سايس»١٩٣ فإنه من الطبيعي أن تكون محتويات هذا الكتاب كما هي. أما بالنسبة لعهد يوسف، فإنه كان من الطبيعي أن نرى أعمال بني إسرائيل غير مذكورة في الوثائق المصرية في عهده، إذ إن «يوسف» على الرغم من أنه كان ذا مكانة في حكومة الفرعون غير أنه لم يتعدَّ أن كان وزير مالية وحسب — كما يُقال — وأن كل عمل عظيم يقوم به ويستحق التسجيل كان لا بد من نسبته إلى الفرعون الذي كانت النقوش تهدف إلى تعظيمه والإشادة بذكره؛ لأن كل شيء كان من وحيه هو، وعلى ذلك فإن اسم «يوسف» لم يكن ليظهر بطبيعة الحال.

وكان «موسى» من الوجهة المصرية أقل شأنًا من «يوسف»؛ فقد كان كما تقول التوراة لقيطًا في قصر الفرعون ثم هاربًا من وجه العدالة ثم متكلمًا عن عبيد غرباء.

أما عن الإسرائيليين أنفسهم في أرض «غوشن» (وادي طميلات) فلم يكن لهم مكانة اجتماعية أو سياسية تُذكر، فقد كانوا في عهد «يوسف» من رعاة البدو، وكان كل راعٍ يعدُّ في نظر المصري لعنة، وفي زمن موسى كان الإسرائيليون فوق ذلك كله عبيدًا، ومن ذلك نفهم أنهم لم يكونوا بأية حال من هؤلاء الناس الذين كانوا يعنون عادة بتدوين أعمالهم في السجلات الرسمية، غير أنه وُجدت حادثة واحدة تتصل بإقامتهم في مصر كان لها من الوجهة المصرية أهمية سياسية واقتصادية، وذلك أن قيامهم بعمل مشترك وهو قصة خروجهم جملة من الديار المصرية — إذا كان هذا قد حدث فعلًا — كان يهم الحكومة وقتئذ لما كانوا يقومون به من أعمال السخرة للفرعون في إقامة مبانيه، وعلى ذلك فإن الإشارة إليه في السجلات الحكومية الخاصة بهذا العصر ممكنة، وبخاصة إذا كان هؤلاء القوم يقومون بأعمال جسيمة كبيرة مفيدة للبلاد عامة وللفرعون خاصة، كما نوَّهنا بذلك.

وبخروج بني إسرائيل من مصر انتهت إقامتهم في تلك الديار على وجه عام، وعلى ذلك تكون هذه الحادثة التي جاء ذكرهم فيها في المتون المصرية من الأهمية بحيث استرعت اهتمام المؤرخ المصري وكانت في الوقت نفسه آخر ما ذُكر عنهم، ولذلك كان من الطبيعي أن نستنبط من ذلك كله: أنه إذا كان هناك ذكر للإسرائيليين في تلك النقوش المعاصرة لإقامتهم في مصر، فإن ذلك لا بد يشير إلى خروجهم، وفضلًا عن ذلك فإنه ينتظر من المتن أن يسجل لنا انقطاع علاقة هؤلاء القوم بمصر.

وإذا كان ما ذكرناه هنا من فروض مقبولًا في منطقه فإن اللوحة التي كشف عنها الأستاذ «فلندرز بتري»١٩٤ (انظر عهد «مرنبتاح» ونهاية الأسرة التاسعة عشرة) وهي التي دُون عليها الأنشودة السالفة الذكر تكون قد ذكرت لنا إسرائيل للمرة الأولى والأخيرة أيضًا، وعلى ذلك ننتظر أن تكون الإشارة إلى هؤلاء القوم هنا تشير إلى حادثة الخروج، وعدم وجودهم في مصر. على أن صحة هذا الاستنباط يمكن الوصول إليه بفحص أمرين هامين؛ الأول: العلاقة بين تاريخ الخروج وتاريخ نقوش اللوحة. والثاني: معنى الجملة التي جاءت في الأنشودة خاصة بإسرائيل. وليس لدينا شك في تاريخ النقوش؛ إذ قد وُجد في متن اللوحة التي نُقشت كما ذكرنا لتخليد الانتصار الذي أحرزه «مرنبتاح» على اللوبيين وأقوام البحر الذين غزوا أرض الكنانة في السنة الخامسة من حكم «مرنبتاح».
أما تاريخ خروج بني إسرائيل فلا يمكن تحديده بصفة قاطعة، ومن هنا جاء الاختلاف في وضع تاريخ هذه الحادثة في أزمان متباعد بعضها عن بعض بسنين عدة أحيانًا، فقد وضعه البعض قبل عهد «أمنحتب الثالث»، ووضعه آخرون في عهد «رعمسيس الثاني»، غير أن كلًّا من الأستاذ «نافيل» و«بتري» و«سايس» وغيرهم قد اتفقت آراؤهم على أن خروج بني إسرائيل قد حدث في عهد الفرعون «مرنبتاح»؛ فيقول الأستاذ «نافيل»:١٩٥

إني لا أزال مسلمًا بوجهة النظر التي أدلى بها «لبسيوس» عن موضوع خروج بني إسرائيل — وهي التي يقتفيها معظم الأثريين — أن مضطهد اليهود هو «رعمسيس الثاني» الذي كان حكمه الطويل بداية انحلال الإمبراطورية المصرية، وأن الفرعون الذي يُنسب إليه خروج بني إسرائيل هو ابنه «مرنبتاح.»

أما الأستاذ «سايس» فيقول:

إن الآثار المصرية تحصر هذه الحادثة في حكم الفرعون «مرنبتاح».

ولدينا بين الأوراق البردية المحفوظة في «المتحف البريطاني» وثيقة تُعرف بورقة «أنسطاسي السادسة» وتشمل خطابًا من كاتب الملك «مرنبتاح» جاء فيه ما يأتي: (راجع مصر القديمة ج٦):

إن بعض بدو (شاسو) إيتام (إدوم) قد سمح لهم على حسب التعليمات التي لديه أن يجتازوا حصن إقليم «سكوت» (تل المسخوطة) في «وادي طميلات» ليتاح لهم رعي ماشيتهم بالقرب من بلدة «بتوم» في ضياع الفرعون العظيم.

وهذا الخطاب كُتب في السنة الثامنة من حكم هذا الفرعون «مرنبتاح»، ويظهر منه أن هؤلاء الشاسو كان قد سمح لهم بالاستيلاء على بعض أرض التاج في «غوشن» (وادي طميلات) ومن البدهي أن هذه الحالة لا يمكن أن تحدث إذا كان الإسرائيليون لا يزالون يقيمون في أرض «غوشن» في السنة الثامنة من حكم هذا الفرعون، وعلى ذلك فلا بد أن تكون حادثة الخروج قد وقعت في وقتٍ ما قبل هذا التاريخ، وهذا يجعل تاريخ الخروج على أية حال قريبًا من تاريخ نقش اللوحة، وهذا البرهان لا يسمح بتقريب زمن خروجهم أكثر من ذلك، بل يجوز أنه قد يتقدم بهم وسنتحدث عن ذلك بعد.

وقد جاء في بحوث تاريخ الخروج أن غزو اللوبيين لمصر في السنة الخامسة من حكم «مرنبتاح» يحتمل أن يحدث أمورًا في شرقي مصر حيث توجد أرض «غوشن» تساعد على هروب الإسرائيليين، وقد كانت الأحوال وقتئذ تتطلب أن تُسحب الحاميات التي على الحدود الشرقية لتقوية الجيش الذي كان يقوم بصد المغيرين من جهة غربي الدلتا وشماليها، وبذلك لا تُترك إلا قوة قليلة لحماية الحدود، وهذا برهان — إذا صح — يعضد الرأي القائل إن الحادثتين — حرب لوبيا والخروج — قد وقعتا في زمن واحد.

والآن نعود لبحث العبارة التي جاءت عن إسرائيل في لوحة أنشودة «مرنبتاح»، وقد تناول بحثها الأستاذ «نافيل» في مقالٍ خاص، والعبارة الخاصة بإسرائيل قد اقتبسها بعض المحققين دلالة على أن إسرائيل كانوا في الوقت الذي كُتبت فيه اللوحة في «فلسطين»، وقد رأى هذا الرأي الأستاذ «بتري»،١٩٦ غير أن برهانه ليس مقنعًا، وقد عاضد «بتري» الأستاذ «إدورد مالر»١٩٧ أما الأستاذ «نافيل» فإنه في مقاله السابق قد عارض كل ما قاله زميلاه، وبرهن على أن هذا النقش لا يقدم أي برهان على النتيجة التي وصل إليها الدكتور «إدورد مالر» عندما يقول:

لا بد أن نعترف نتيجة للوحة التي كشف عنها «فلندرز بتري» حديثًا بأنها تدل على أن بني إسرائيل قد خرجوا من مصر قبل «مرنبتاح»، كما أنه لا يعترف باعتقاد «بتري» أن نقش اللوحة يشير إلى حرب وقعت في «سوريا» انتصر فيها الفرعون «مرنبتاح»، وأن الإشارة إلى إسرائيل تدل على أنه كان يوجد في «فلسطين» وقتئذ بعض الإسرائيليين.

وقد ترجم علماء اللغة والآثار الجملة التي جاء فيها ذكر إسرائيل بأوجه مختلفة ننتخب منها ما يأتي:
  • (١)

    وإسرائيل قد أقفروا وبذرتهم قد انقطعت (برستد).

  • (٢)

    وقوم إسرائيل قد صاروا قفرًا، ومحاصيلهم قد ذهبت (جرفث).

  • (٣)

    وقوم إسرائيل قد أُتلفوا، وليس لديهم غلة (بذر) (بتري).

  • (٤)

    وإسرائيل قد مُحي وبذرته لا وجود لها (نافيل).

والواقع أن كلمة «بذرة» في ترجمة كل من «برستد» و«نافيل» تدل على الخلف، وهذا يطابق ما نجده في اللغات الأخرى بمعنى أن البذرة والنسل واحد، ولا نزال نسمع حتى يومنا هذا: إذا انقطع نسل واحد من الناس فإنه يُقال: «قد انقطعت بذرته»، وهذه الترجمة تخالف بطبيعة الحال ترجمة «بتري». ويُلاحَظ أن في الأصل المصري تفصيلًا في كتابة كلمة إسرائيل له أهميته؛ فحينما نجد في كتابة اسم قوم من الأقوام الذين ذُكروا مع إسرائيل مخصصًا في نهاية الاسم دل ذلك على البلاد الأجنبية، وهذا المخصص في كلمة إسرائيل غير موجود، بل كُتب بدلًا منه مخصص يدل على أنهم قوم أجانب. والنتيجة التي يمكن استخلاصها من كتابة هذا المخصص هي: أن إسرائيل كانوا أجانب لا وطن لهم، فقد كانوا كما تسميهم التوراة «أبناء إسرائيل» وأنهم ليسوا سكان هذه البلاد أو تلك، ومن ذلك نعلم أن عناصر النقش نفسه تعارض الرأي القائل: بأن الإسرائيليين كانوا يسكنون «فلسطين»، بل على العكس يميل إلى الرأي القائل بأن البلاد التي كانت تفيض بالمن والسلوى ولم تكن قد احتلت بعد، فقد كانت «كنعان» (فلسطين) لا تزال الأرض الموعودة لا الأرض المملوكة، وإذا اعترفنا بذلك بالإضافة إلى أهمية الرموز المختلفة المخصصة التي استُعملت للأقوام المختلفين الذين ذُكروا في النقش، وكذلك إذا قبلنا ترجمة الأستاذ «نافيل» ورأيه في كلمة «بذرة» فإنه يصبح من الطبيعي إذن أن يقول: إن النقش يشير هنا إلى خروج بني إسرائيل، وكذلك يعني أنه طُرد من أرض مصر جنس أجنبي من البدو يُدعى «إسرائيل»، ومعهم أولادهم وكل ما يتبعهم، ومن ثم أصبح لا وجود لهم بالنسبة لمصر (راجع Jer XXI, 3–6).
والواقع أن ما جاء في متن هذه اللوحة على ما يُظن يعدُّ سجلًّا معاصرًا لخروج بني إسرائيل مع حوادث أخرى، كما يدل دلالة واضحة على أنه قد وقع في السنة الخامسة من عهد «مرنبتاح» كما يعتقد «نافيل». ولا نزاع في أن نقوش اللوحة فضلًا عن تسجيل الانتصار على اللوبيين تحدثنا عن أحوال الممالك المجاورة بالنسبة لمصر؛ فتدل على أن العلاقات مع الممالك كانت مرضية فيما يمس أحوالها مع مصر، وبهذه المناسبة قُصد ذكر بني إسرائيل، ولا بد أن حادث خروجهم كان من الأهمية بمكان — إذا كان معاصرًا حقًّا للحوادث التي سُجلت على اللوحة — حتى أصبح من الطبيعي أن يحتل مكانًا في متنها، ولكن إذا نظرنا إلى هذا الموضوع من حيث الأسلوب الفرعوني فإن خروجهم من مصر يمثل في صورة طرد قوم بإرادة الفرعون لا هربًا منه، والواقع أن مؤلف هذه الأنشودة قد كتبها بوجهة نظر غير وجهة نظر مؤلف الرواية التي جاءت في التوراة، وعلى الرغم من ذلك فإن ترجمة الأستاذ «نافيل» لا تتعارض مع التعبير الذي استُعمل في سفر الخروج ١٢–٣١:

فدعا موسى وهارون ليلًا وقال: قوما فاخرجا من بين شعبي أنتما وبنو إسرائيل … الخ.

وفي سطر ٣٩ جاء:

لأنهم طُردوا من مصر ولم يقدروا أن يتلبثوا حتى إنهم …

وأقوى من ذلك ما جاء في سفر الخروج الفصل الحادي عشر السطر الأول:

وقال الرب لموسى قد بقيت ضربة واحدة أنزلها على فرعون والمصريين، وبعد ذلك يطلقكم من ههنا، وعند إطلاقه لكم جملة يطردكم من ههنا طردًا.

وإذا سلمنا بصحة النتائج التي استنبطناها مما سبق فإن الأجزاء المختلفة من تاريخ إسرائيل في مصر تتآلف بعضها مع البعض الآخر ظاهرًا، وتصبح متحدة تمامًا مع ما جاء في التوراة وما جاء على الآثار المصرية القديمة.

على أن كل ما ذكرناه هنا عن تاريخ خروج بني إسرائيل ومكثهم في أرض مصر لا يرتكز على حقائق تاريخية تشفي الغلة، إذ على الرغم من كل ما استعرضناه في هذا الموضوع فإن بعض علماء الآثار لا يزالون ينظرون إلى موضوع خروجهم وأنه حقيقة تاريخية تنطبق على بني إسرائيل — بعين الحذر والحيطة، ونخص من بينهم الأستاذ «جاردنر» فقد قام بينه وبين الأستاذ «نافيل» الذي استعرضنا آراءه فيما سبق نقاش طويل حول هذا الموضوع، وقد ادعى الأستاذ «نافيل» أن «جاردنر» لا يعترف بموضوع الخروج، ولا الطريق التي ساروا فيها، غير أن «جاردنر» في رده على هذا الادعاء لم ينكر طريق الخروج وقصته إنكارًا تامًّا إذ يقول: لم يدر بخلدي أن أتعرض لصحة تاريخية خروج بني إسرائيل أو عدمه. ولكن إذا فحصت الآراء التي اعتقدها في هذا الموضوع فسيكون ذلك من باب الإيضاح؛ إذ ليس هناك مجال لشك أي مؤرخ في أن الإسرائيليين كانوا في مصر في صورة ما، وذلك لأن أسطورة قوية تمثل لنا الأحوال الأولى لقوم في صورة لا يحسدون عليها لا يمكن إلا أن تكون انعكاسًا لضوء حوادث حقيقية قد وقعت مهما كانت الصورة التي وصلت إلينا عنها مشوهة، ولكن غزو الهكسوس ثم طردهم منها فيما بعد يمكن أن يكوِّنا مادة هذه الأسطورة، على أن ذلك لن يحدث فرقًا ما في هذا الزعم إذا أمكننا البرهنة على أن الهكسوس ليس بينهم وبين الإسرائيليين أي اتصال من جهة الجنس؛ وذلك لأن الأمم ترث بكل سهولة تقاليد البلاد التي احتلوها على مضي الزمن. أفلا يكون غريبًا حقًّا ألا يترك عهد الهكسوس أثرًا بل آثارًا في قصة العبرانيين؟ وفضلًا عن ذلك إذا لاحظنا أن مجيء يوسف على حسب التقديرات المعقولة كان قد حدث في عهد الهكسوس، فليس هناك كبير شك في أن حوادث عهد الهكسوس قد صُوِّرت بشكل ما في قصة خروج بني إسرائيل. غير أن ذكر مدينة «رعمسيس» (قنتير الحالية)، تدخل في القصة عنصرًا من عهد متأخر. وعلى ذلك فليس من المستحيل أن تكون الاقتباسات التي اقتبسها «يوسفس» من «مانيتون» و«كارمون» توحي بأن حوادث قد وقعت فيما بعد في أوائل الأسرة التاسعة عشرة، وأنها قد اختلطت بذكر حوادث الهكسوس، ولدينا مادة مفسرة تدل على مثل هذه العلاقات الموجودة بين مصر وقبائل البدو الذين يعيشون على تخومها ذُكرت في ورقة «أنسطاسي» السادسة، ولكن ليس لدينا أي أثر يبرهن على وجود احتلال جدي لأي صقع مصري تكون من نتائجه حدوث مأساة كانت مُثلت في كتاب الخروج، وإلى أن يظهر في الأفق براهين تختلف في شكلها عن التي في متناولنا حتى الآن فإني أؤمن بأن تفاصيل القصة يجب أن تُعد أسطورة، مثلها كمثل قصة بدء الخليقة المذكورة في سفر التكوين، وعلينا أن نسعى في تفسير هذه التفاسير على فرض أنها أسطورة.

وعلى ذلك فإني بعيد عن القول بأن كل قصة الخروج خرافية، وقد أوضحت وأكدت بكل صراحة اعتقادي بأن القصة في مجموعها تعكس لنا صورة حادثة تاريخية معينة وهي طرد الهكسوس من مصر، ويجب أن أضيف هنا بأن هذه النظرية ليست جديدة، فقد دافع عنها الدكتور «هول» في كتابه «تاريخ الشرق الأدنى القديم».١٩٨

والقول بكذب القصة من أولها إلى آخرها شيء، وكون تفاصيلها خرافية شيء آخر بالمرة، وإني على استعداد للاعتراف بأني إذا كنت قد ظننت أن تفاصيل قصة الخروج خرافية وحسب فإني أكون قد عرضت نفسي لنقد محق، غير أن الأمر على غير ذلك؛ لأن طريقة بحثي في هذا المقال كانت سليمة، إذ سألت القارئ أن يسلم بأن تفاصيل القصة من الجائز أن تكون خرافية … بل ذكرت استنباطاتي ثم برهنت على صحتها بطريق الحوار المعتادة.

ولا يفوتني هنا أن أشير — قبل الانتقال إلى التفاصيل — إلى كشف جديد يظهر أنه مضاد للفكرة القائلة بصحة الخروج التقليدي، وذلك أن الحفائر التي قام بها الأستاذ «فشر» في «بيسان» قد وجد فيها قلعة مصرية، وعثر فيها على لوحات من عهد «سيتي الأوَّل» و«رعمسيس الثاني»، وأهم من ذلك تمثال «لرعمسيس الثالث»، ويقول «فشر»: إن هذه الآثار المؤرخة تقدم لنا برهانًا كافيًا على أن البلدة قد بقيت في أيدٍ مصرية من عام ١٣١٣ حتى ١١٦٧ق.م. وعلى ذلك فإن اليهود كانوا قد هاجروا في عهد ملك ما وفلسطين في حوزة مصر، وعندئذ يكون مثلهم في ذلك كمثل المستجير من الرمضاء بالنار.(راجع J E A vol 10 p. 87 ff).

والواقع أن البرهان الأخير ليس ذا قيمة تُذكر؛ لأن بني إسرائيل قد هربوا من مصر، أو خرجوا منها أو طُردوا؛ لتذمرهم من أعمال السخرة التي كانوا يقومون بها للفرعون، وبخاصة في بناء المدن وإقامة المعابد، وهم إذا كانوا قد هاجروا إلى «فلسطين»، فقد كان ذلك هربًا من تلك السخرة.

وقبل أن نتحدث عن الطريقة التي سلكها بنو إسرائيل عند خروجهم من مصر إلى فلسطين، أريد أن أستعرض هنا رأي الأستاذ «أولبريت» في هذا الصدد، إذ إنه على ما يظهر يقرب من الحقيقة فهو يقول: «إن التقاليد التي نجدها في كتاب الخروج، الفصل الأول، وهي التي تُحدثنا بأن الإسرائيليين قد أُجبروا على السخرة في إقامة مباني مدينتي «بتوم» و«رعمسيس» اللتين كانتا تُستعملان مخازن، قد دلت الحفائر التي عملت في «تل رطابة» (بتوم) و«بررعمسيس»، على أن الأولى قد أُعيد بناؤها، وأن الثانية قد أُقيمت في عهد «رعمسيس الثاني».»

والواقع أن معلوماتنا الطوبوغرافية عن شرق الدلتا قد أكدت صحة الرواية التي جاء ذكرها في بداية سفر الخروج، كما جاءت في سفر الخروج نفسه ١٢–٣٧، ١٣–٢٠، يُضاف إلى ذلك أن الأستاذ «ألن جاردنر» الذي كان يعارض في صحة تاريخ هذا الحادث من الوجهة الطوبوغرافية قد اعترف بصحته أخيرًا كما ذكرنا من قبل،١٩٩ هذا ولدينا فضلًا عن ذلك كثير من البراهين على صحة هذا الخروج تاريخيًّا، وعن طواف هؤلاء القوم في أقاليم «سينا» و«مدين» و«قادش»، ويرجع الفضل في ذلك إلى التقدم المطرد، الذي حصلنا عليه من الوجهتين الطوبوغرافية والأثرية، ويجب أن نكتفي هنا بأنه قد أصبح من المؤكد ألا محل للنقد المبالغ فيه الذي كان يوجه إلى التقاليد التاريخية المبكرة لبني إسرائيل، هذا فضلًا عن أنه قد أصبح من المستطاع الآن تحديد تاريخ خروجهم في حدود مدة معقولة، وقد كان ذلك موضوع جدال طويل — كما ذكرنا من قبل — إذ في عام ١٩٣٧م كُشف في خرائب «لاجاش» (تلو الحالية) الكنعانية عن نقوش هيراطيقية مؤرخة بالسنة ١٢٣١ق.م — أو بعد ذلك بقليل، ولكن ليس قبل هذا التاريخ — مما يبرهن على أن سقوط هذه المدينة في يد الإسرائيليين كان في هذه السنة أو بعدها، وفضلًا عن ذلك فإن متن لوحة إسرائيل المعروفة من زمن بعيد — الذي سيء فهمه — مؤرخ بالسنة ١٢٣٩ق.م؛ وهذا يبرهن على أن إسرائيل كانوا فعلًا في غربي فلسطين، وكانوا أصحاب قوة، غير أنهم لم يكونوا قد استوطنوا بعد بصفة قاطعة، وإذا أضفنا مدة القرن أو الجيل الذي تتطلبه التقاليد الإسرائيلية لاحتلالهم شرقي فلسطين، وصلنا إلى تاريخ لا يتجاوز ١٢٦٠ لتاريخ الخروج، ومن المحتمل جدًّا أن نقدر جيلًا لاحتلال إسرائيل شرقي فلسطين وتقدمهم غربًا فيها بقوتهم، وعلى ذلك يكون تحديد خروجهم في باكورة القرن الثالث عشر في حد المعقول، وإذا وضعناه حوالي ١٢٩٠ق.م، فإنا لا نكون قد حدنا عن الصواب؛ وذلك لأن السنين الأولى من عهد «رعمسيس الثاني» كانت قد قامت فيها عمارة بلد «بررعمسيس» (قنتير الحالية) على قدم وساق وهي التي سماها الإسرائيليون «رعمسيس».٢٠٠

والواقع أن هذا الرأي على ما يظهر هو أصوب الآراء التي استعرضناها حتى الآن، غير أن الأستاذ «أولبريت» قد أخطأ في تفسير «بررعمسيس» «بتانيس»؛ إذ إنها هي «قنتير» الحالية، وسنرى بعد أن سير بني إسرائيل عند خروجهم كان من «قنتير»، وأن هذه كانت بداية الطريق المعقولة لخروجهم.

(٦-١) الطريق التي سلكها بنو إسرائيل عند خروجهم من مصر

تحدثنا فيما سبق عن آراء العلماء في موضوع طرد بني إسرائيل من مصر، وما ذُكر فيه من آراء متضاربة، وجدال لا يزال بابه مفتوحًا حتى الآن، ولم يثبت في التاريخ حدوثه بصفة قاطعة؛ لقلة المصادر الحاسمة في هذا الصدد، اللهم إلا ما جاء عن طريق الكتب المقدسة، أما مسألة الطريق التي اتخذها هؤلاء القوم عند مغادرتهم البلاد المصرية إلى فلسطين فقد ظهر أنها أكثر تعقيدًا من تحديد تاريخ خروجهم، وقد زاد تعقيدها أنه عند تطبيقه على ما جاء في الكتب الدينية، وما أظهره «موسى» من معجزات في أثناء سيره في طريقه إلى «فلسطين» وبخاصة اختراقه البحر يجعل المؤرخ الذي لا يستند إلا على آثار مادية أو كتابة معاصرة لها يقف مكتوف اليدين، معقود اللسان، لا يحير جوابًا شافيًا، ومن أجل ذلك كان هذا الموضوع الشائك هدفًا لبحوث طويلة، ونظريات خلابة عديدة طرحها الباحثون على مختلف أنواعهم، فنجد منهم الأثري مثل «بروكش» و«فلندرزبتري» و«نافيل» و«هول» و«جاردنر» و«أولبرايت». ومنهم المهندسون مثل «لينان دي بلفوند» و«ولككس» و«هنري براون». ومنهم الكيميائيون مثل «لوكاس». وكذلك منهم الضباط الحربيون مثل الكولونل المساعد «روبرتسون»، يُضاف إلى ذلك ما كتبه رجال الدين وعلماء طبقات الأرض. وقد كان آخر من تناول هذا الموضوع بالبحث الدقيق المهندس المصري «علي بك الشافعي».٢٠١ والواقع أنه قد جمع في مقاله الآراء التي أدلى بها في هذا الموضوع، وأضاف إليها ملاحظاته وبحوثه الخاصة، وخرج منها بنتيجة تُعد حتى الآن أحسن ما وصل إليه العلم الحديث في هذه المسألة الشائكة المعقدة، وقد ناقشت صديقي «علي بك» في هذا الموضوع، واقتنعت إلى حد بعيد بما جاء في مقاله، على الرغم من أن الموضوع في أساسه لا تزال تحوم حوله الشكوك من حيث تفاصيله، وإن كان قد أصبح من المسلم بصحته من حيث إنه واقعة تاريخية حدثت فعلًا، غير أن التقاليد والرواية قد حرفتها في كثير من نواحيها؛ وذلك لأن كتاب العهد القديم لم يصلنا بروايته الأولى التي وُضع عليها أولًا؛ إذ ليس له أسانيد يرتكن عليها، كما نجد ذلك في الأحاديث التي رُويت عن «محمد» — عليه السلام — وهي التي على الرغم من أسانيدها قد وصل بعضها محرفًا أو مدسوسًا.

وسنحاول هنا أن نضع صورة واضحة لهذه الطريق بقدر المستطاع، وسيكون أساسنا في ذلك المصور الجغرافي الذي وضعه «علي بك شافعي» شرحًا لمقاله الممتع الذي سنسير على هديه في كثير من النقط.

وتدل شواهد الأحوال — على الرغم من كل ما قيل عن طرد بني إسرائيل من مصر — على أن هذا الحادث لم يكن ذا تأثير مستمر في كراهية المصريين لشعب بني إسرائيل، فقد كان في المجتمع المصري طوائف يهودية منتشرة في طول البلاد وعرضها حتى «إلفنتين» (أسوان) جنوبًا في مصر القديمة، وقد كانوا أحرارًا في إقامة معابدهم وعبادة إلههم «يهوا» دون أية مضايقة أو اضطهاد من جانب المصريين، فقد جاء في الشكوى التي قدمتها طائفة اليهود عام ٤٠٧ق.م إلى حاكم اليهود المسمى «باغوس»، بسبب هدم كهنة الإله «خنوم» رب الشلال معبدهم، والتي قالوا فيها: إن معبد «يهوا» هذا كان قد أقامه آباؤهم في عهد ملوك مصر، وعندما سار «قمبيز» بجيشه على مصر وجد هذا المعبد مقامًا هناك، وعلى الرغم من أن كل معابد آلهة المصريين قد خربت فإنه لم يمد أي إنسان يد الأذى إلى المعبد السابق الذكر.٢٠٢

وأهم ما تجب ملاحظته في موضوع خروج بني إسرائيل واقتفاء الطريق التي سلكوها حتى وصلوا إلى «فلسطين»، أن تكون طوبوغرافية البلاد متمشية مع قصة الخروج، وكذلك الخطوات التي اتبعوها.

والواقع أن هذه القصة قد قُصت في وقت لم تكن الأحوال الجغرافية قد تغيرت في مصر فيه. فأسماء البلاد المصرية كانت عند خروج بني إسرائيل كما هي، وكذلك التفاصيل الصغيرة التي جاء ذكرها في سياق الكلام، مثل الطوار الذي كان بجانب حصن «دفنة» (إدفينا)، وهو الذي جاء ذكره في التوراة، فقد كشف عنه حديثًا «فلندرزبتري».٢٠٣

ويرجع الفضل إلى أعمال الحفر والبحوث التي قامت حديثًا في «قنتير» وتوحيدها مع «بررعمسيس» وما كتبه الأستاذ «جاردنر» و«بتري» في تسهيل عمل مصور جغرافي للطريق التي سلكها هؤلاء القوم في هجرتهم من مصر إلى «فلسطين»، وقد بدءوا طريقهم من بلدة «رعمسيس» (قنتير)، التي كانت وقتئذ مقر قصر الفرعون وكان موسى يحاور الفرعون فيها، ويلتمس منه السماح لقومه بالخروج من مصر، وقد أمضوا الليلة الأولى في بلدة «سكوت» (تل اليهودية)، وعسكروا الليلة الثانية في «إيتام» على حافة الصحراء، وبعد ذلك حوَّلوا طريقهم وضربوا خيامهم في الليلة الثالثة أمام المكان المعروف باسم «فم الحيروث» بين «مجدول» والبحر، وفي هذا المكان لحقهم الفرعون وجيشه في عرباته التي كانت تجرها الصافنات الجياد، يمتطيها الفرسان الذين كانوا من خيرة جنوده، وقد استولى الفزع على بني إسرائيل عندما رأوا الفرعون وجنوده، وعندئذ رفع موسى يده إلى الله فأرسل الله لإغاثته هو وقومه ريحًا شرقية عاتية هبت طوال الليل، وفي الصباح جف مجرى البحر المسمى آنئذ ببحر «يام سوف» — أي يم سوف أو بحر سوف، ومعنى كلمة سوف: البوص — وقد تُرجم خطأ بالبحر الأحمر أو بحر القلزم، فعبروه واستمروا في سيرهم، مما برهن على أن البحر لم يكن عميقًا ولا واسعًا، وقد قاس «علي بك شافعي» عرض خليج السويس قبالة الطور في المكان الذي عبر فيه الكولونيل المساعد «روبرتسون» ووجده حوالي ثلاثين كيلومترًا، مما يبرهن على أن اختراقه من المستحيل، وبعد ذلك ساروا في صحراء «إيتام» مدَّة ثلاثة أيام دون أن يجدوا ماء، وهذا يبرهن على أنهم لم يسلكوا المنطقة الرملية ذات العيون المائية المتعددة المتكونة من مياه المطر الساقط على الساحل، ولا بد أنهم كانوا قد ساروا جنوبًا، ومن البدهي أن موسى كان موليًا وجهه شطر «مدين» حيث كان حموه وزوجته. ومما سبق نلحظ أن القصة بسيطة في ذاتها إذا استطعنا أن نجد المدن والأماكن التي مروا بها، وكذلك إذا أمكننا في الوقت نفسه أن نبرهن على أنها تتفق مع متوسط المسافة التي تقطعها قبيلة في سيرها يوميًّا.

fig7

وهاك أسماء المدن والأماكن كما ذُكرت في التوراة:

(١) «رعمسيس»، (٢) «سكوت»، (٣) «بيداء إيتام»، (٤) «طريق الفلسطينيين»، (٥) «فم الحيروث»، (٦) «بحر سوف»، (٧) «مجدول»، (٨) «بعل زيفون».

وكل هذه الأماكن قد حققها «علي بك شافعي» ووضعها على مصوره الجغرافي الذي يتفق مع الأحوال التي كانت سائدة زمن الخروج بقدر المستطاع، وعلى حسب أحدث البحوث (راجع المصور الجغرافي). وهذه البحوث تشمل درس رواسب شمال الدلتا وتآكل البحر، كما أظهر ذلك على المصور الذي وضعه «بطليموس» عام ١٤٢ قبل الميلاد، وقد حُفظت منه صورة في «الفاتيكان»، وقد ساعد على وضع هذه الخريطة ما كتبه الأستاذ «جاردنر» و«فلندرزبتري» عن الطريق الحربية من مصر إلى فلسطين (راجع مصر القديمة ج٦).

وسنتناول بالبحث هذه الأماكن واحدًا فواحدًا على حسب ترتيبها الطبعي:

(أ) بلدة «رعمسيس»

برهنت البحوث الحديثة على أن هذه البلدة هي «بررعمسيس» التي وُجدت بقاياها في «قنتير» الحالية، وكان قد اتخذها «رعمسيس الثاني» مقرًّا لحكمه في شمال الدلتا، وقد أسهبنا القول في وصفها، والبحوث التي كُتبت عنها في الجزء السادس من مصر القديمة فلتراجع ثم. وقد كتب «جوتييه» عن هذه البلدة:٢٠٤ أنها كانت المقر الصيفي لكل من ملوك الأسرتين التاسعة عشرة والعشرين تقريبًا ومن بينهم «سيتي الثاني»، وقد وجد الأستاذ «حمزة» في «قنتير» لوحة باسم «سيتي الثاني»، وجاء في قصة الراهبة «أيثيريا» — وهي السيدة التي قامت بأداء فريضة الحج من «جاليا نربونس Gallia Narbunis»، وحفظت رواية أسفارها في البلاد المقدسة (٥٣٣–٥٤٠م) في مكتبة «أرزو»؛ أن بلدة «رعمسيس» تقع على بعد أربعة أميال من «أرابيا».٢٠٥

وبلدة «أرابيا» على حسب المصور الجغرافي الذي وضعه الأمير «عمر طوسن» باشا نقلًا عن وصف «جرجس القبرصي» الذي عاش في نهاية القرن السابع الميلادي هي «فاقوس» وكذلك جاء في قائمة الأبرشيات (المقاطعات) المحفوظة في «أكسفورد» أن «أرابيا» هي «فاقوس».

ونحن من جانبنا نعلم أن «فاقوس» تقع على مسافة خمسة أميال من «قنتير» بيد أن خرائب «تل الضبعة» ومعبد «أمنمحات الأول» وأحدهما على اليمين، والآخر على الشمال من ترعة «الديدمون» ويقع كل منهما على نفس المسافة من «فاقوس»، ومن المحتمل أنهما امتداد للخرائب التي لا نهاية لها التي تتحدث عنها هذه السيدة الحاجة، وهاك ما قصته: ولكن بلدة «أرابيا» على بعد أربعة أميال من «رعمسيس» ولكي نصل إلى «أرابيا» وهي محط رحالنا كان علينا أن نخترق وسط «رعمسيس»، وبلدة «رعمسيس» هذه تتألف من حقول لدرجة أنها لا تشمل مسكنًا واحدًا.

حقًّا إنها كانت ظاهرة للعيان لأن سورها كان ضخمًا وفيه مبانٍ عديدة، وعلى أية حال فإن مبانيها ساقطة على الأرض وتظهر الآن كأنها لا نهاية لها، بيد أنه لا يوجد شيء الآن منها إلا حجر ضخم طيبي قد نُحت فيه تمثالان ضخمان يُقال إنهما للقديسين «موسى» و«هارون»؛ لأنه يُقال: «إن بني إسرائيل قد وضعوهما هناك تذكارًا لهما.»

والرأي المرجح الآن هو أن «قنتير» كانت عاصمة الملك المسماة «بررعمسيس» وهذا يتفق مع الطريق التي سلكها بنو إسرائيل.

(ب) سكوت (تل اليهودية)

كانت أول مسافة قطعها بنو إسرائيل في هجرتهم من «قنتير» إلى «سكوت» وهي التي يجب أن نبحث عن موقعها بين الخرائب المجاورة للصالحية؛ إذ قد ذُكر في التوراة: أنهم لم يسلكوا طريق «فلسطين» (راجع سفر الخروج الفصل الثالث عشر السطر الثالث عشر):

ولما أطلق فرعون الشعب لم يصيرهم الرب في طريق أرض «فلسطين» مع أنه قريب؛ لأن الله قال: لعل الشعب يندمون إذا رأوا حربًا فيرجعون إلى مصر.

وهذه المسافة تبلغ نحو عشرين كيلومترًا، هذا مع العلم بأنهم قد بدءوا خروجهم في شهر أبريل. (راجع سفر العدد ٣٣: ٢).

وقد غادروا «رعمسيس» في الشهر الأول في اليوم الخامس عشر منه، وفي اليوم التالي للخروج ذهب بنو إسرائيل إلى الخارج بيد سامية أمام كل المصريين. وبعد الفيضان عندما يكون النيل في منسوب منخفض وكل الحياض جافة؛ يستطيع الإنسان أن يفهم كيف كان من السهل عليهم أن يسيروا دون أن يبتلوا، وكان كذلك في استطاعتهم أن يعبروا أية ترعة أو مصرف يعترضهم في طريقهم، والواقع أنه كان من الصعب على «موسى» وقومه، ومعهم قطعانهم أن يعبروا بهم في قوارب وقت الفيضان، ويقطعون في يوم واحد عشرين كيلومترًا.

وأهم برهانٍ يمكن الاستناد عليه في تحقيق موقع بلدة «سكوت» وأنه عند «الصالحية»؛ قد استقيناه من ورقة «أنسطاسي» التي يرجع عهدها إلى الأسرة التاسعة عشرة، وهي التي تصف لنا «سكوت» بأنها أرض متاخمة؛ أو على الحدود ويسكنها أجانب، وفيها قلعة تُدعى «ختم سكوت» ومستنقعات تُعرف باسم بحيرات «بتوم مرنبتاح» التابعة لبلدة «سكوت» وهذه البحيرات لا تخرج عن كونها بحيرة «مهيشر» ومستنقعات «سعده» و«أكياد» وقد كان الفراعنة مغرمين بالصيد والقنص في أعشاب هذه المستنقعات، وكانوا يستعملون قوارب من الغاب للسير فيها، ولا يبعد أنها كانت مخصصة لفراعنة الرعامسة الذين كانوا يسكنون «قنتير» على مسافة خمسة عشر كيلومترًا من الشمالي الغربي لهذه الجهة.

والطريق إلى «فلسطين» من «بررعمسيس» لا بد أن يكون بمحاذاة الشاطئ الأيمن للنهر؛ غير أن التوراة تقول:

إن بني إسرائيل لم يسيروا فيها على الرغم من قربها، ولما كان موسى يخاف على قطيعه وكذلك كان يخشى أن يتبعه الفرعون وجنوده فإنه اتخذ طريق الصحراء بدلًا من طريق «فلسطين».

وقد أسعفتنا وثيقة أخرى من أوراق «أنسطاسي» في تحديد بلدة «سكوت»، وهذه الورقة خاصة بهرب عبد من القصر الملكي جاء فيها (راجع كتاب الأدب المصري القديم ج١):

وبعد، فقد أرسلت من بلاط القصر الملكي وراء هذين العبدين في اليوم التاسع من الشهر الثالث من فصل الصيف وقت المساء. ولما وصلت إلى حصن «سكوت» في اليوم العشرين من الشهر الثالث علمت بأن أخبار الجنوب تقول: فَرَّا ذاهبين … اليوم … من الشهر الثالث من فصل الصيف، ولما وصلت إلى القلعة أخبرت أن السائس قد حضر من الصحراء (وأعلن أنهما تخطيا الحدود شمالي حصن «مجدول سيتي» … الخ).

وليس لدينا قصور ملكية إلا في «قنتير» و«سكوت» لا تبعد إلا مسيرة يوم واحد من «قنتير» وهي في اتجاه الصحراء، وهي الطريق الوحيدة التي يتمكن الهاربون من القصور الملكية من اتخاذها.

(ﺟ) سكوت (تل اليهودية)

والمرحلة التالية من سير بني إسرائيل هي من «سكوت» إلى «إيتام»، والأخيرة ليست بلدة بل «بيداء» كما وُصفت في التوراة (سفر العدد ٢٣: ٢):

وغادروا من أمام «فم الحيروث»، ومروا من وسط سطح البحر إلى صحراء، ومكثوا مسافرين في صحراء «إيتام» ثلاثة أيام، وضربوا خيامهم في «مارا».

ومن ذلك نعلم أن «إيتام» بيداء وهي العبرية «مدبار»، ومعناها صحراء أو بيداء حيث ترعى الغنم، وكان معسكرهم في «إيتام» على حافة الصحراء (راجع سفر الخروج ١٣: ٢٠):

ثم ارتحلوا من «سكوت» ونزلوا من «إيتام» في طرف البرية.

وهذا الوصف يؤكد لنا ماهية «إيتام» دون أي شك، وقد كانت أرض «إيتام» (إدوم) يسكنها العرب البدو الذين يسميهم المصريون «شاسو»، وقد كانوا ينزحون حتى الحدود المصرية جريًا وراء الكلأ عندما تتنكر لهم السماء وتحجب مطرها دونهم، وقد جاء ذكر أهل «إيتام» (إدوم) في ورقة «أنسطاسي» كما ذكرنا ذلك من قبل (راجع مصر القديمة ج٦).

(د) طريق الفلسطينيين

وصف لنا «سيتي الأوَّل» عودته المظفرة من أرض «كنعان» على جدران معبد الكرنك بعد حروبه التي شنها على «الشاسو» وقد أسهبنا القول في وصف هذه الطريق (راجع ج ٦).

وتدل شواهد الأحوال على أن الفرع الرئيسي للمواصلات بين مصر وفلسطين كان فرع «بلوزيم» فقد كان يمتد إلى ما وراء «دفنة» (إدفينا) و«هرقلة»، ومن ثم إلى «بلوزيم»، وقد كان هناك فرع يأخذ ماءه عند «دفنة» ويسير حتى «ثارو» (تل أبو صيفه). والمصور الذي وضعه لنا «سيتي الأول» ممثلًا بالصور تظهر فيه بلدة «ثارو» وقد جعل مكانها على مجرى فيه تماسيح ليبرهن على أنها عند نهاية الملاحة النيلية، وفي شرق «تل ثارو» توجد بلدة «مجدول»، وقد كانت أوَّل الأمر معروفة على الطريق المؤدية إلى «فلسطين»، ولا بد إذن أنها كانت على حافة الدلتا، وتحدثنا التوراة عن مكان يُدعى «سافنة» (أسوان) وآخر يُدعى «مجدول» بوصفهما الحدين لمصر جنوبًا وشمالًا، وسنرى بعد أن «مجدول» هذه هي «مجدول» التي عبر الإسرائيليون عندها الماء في طريقهم إلى فلسطين، والطريق التي اتخذها «سيتي» إلى «فلسطين» فيها عدد من الآبار في الصحراء (راجع مصر القديمة ج٦ حيث تجد وصفًا مسهبًا لهذه الطريق وعيون الماء فيها). والآن يتساءل المرء، لماذا لم يختر بنو إسرائيل طريق فرع «بلزيم» ثم يسيرون في محاذاة البحر؟ الواقع أن سبب ذلك يرجع إلى وجود مساحات جبلية على الساحل تُسمى جبل «كاسيوس»، وفي جنوب هذا الجبل توجد بحيرة «سربونيس» ويعتقد «علي بك شافعي» أن جبل «كاسيوس» كان يتألف من كثبان رملية تكدست هناك، كما يُشاهد في «بلطيم» وقد وصفها لنا لحسن الحظ المؤرخ «هيرودوت» كما وصف لنا البحيرة، ومن خليج «بلنثنيتيك Plinthinitic» حتى بحيرة «سربونيس» التي تمتد إلى سفح جبل «كاسيوس» واحد وثمانون ميلًا.٢٠٦
وبعد «يونيوس» أتى السورين ثانية وساروا حتى بحيرة «سربونيس» بالقرب من المكان الذي يدخل فيه جبل «كاسيوس Cassios» في البحر.

ولهذا السبب كانت بداية الطريق البرية إلى «فلسطين» هي قلعة «ثارو»، ويُلاحَظ أن غربي «ثارو» كان فرع النيل الصالح للملاحة حتى «دفنة» وكل بلاد مصر، وقد كان شاطئا النيل في تلك الأزمان هما الطريقان البريان، وكان الفرع المتجه نحو «ثارو» يُدعى «ماء حور» في حين أن الفرع البلوزي الأصلي كان يُسمى «ماء رع».

(ﻫ) فم الحيروث

كان «حور» الإله المحلي لبلدة «ثارو»، وكان يُسمى على الآثار التي عثر عليها هناك «سيد شاسو» أو «المستنقعات»؛ لأنها تقع بين بحيرات البلح وبحيرة المنزلة. وقد جففت «قناة السويس» هذه المستنقعات؛ لأن مياهها في مستوى ماء البحر، وقد منعت كل مياه النيل عن المستنقعات الواقعة شرقيها، والمقاطعة التي تقع فيها «ثارو» تُسمى «مسن»، وكان «حور» يُدعى هنا سيد «مسن».

وبلدة «ثارو» لا تقع على الفرع البلوزي كما يدل على ذلك مذكرات «أنتونين»، ولكن من جهة أخرى يقول إن بلدة «دافني» تقع عليه، وهذا هو السبب الذي جعل «جاردنر» يسمي هذا الفرع مياه «حور»، وقد جاء ذكرها في خطاب الكاتب «بيبسا» (راجع ج٦)، وكان الملح الذي يأتي منه يُستخرج من بحيرات البلح ومن الجزء الجنوبي الشرقي لبحيرة المنزلة، وكان ماء هذا الفرع من النيل يصب فيهما — ولم يكن لهذه البحيرات منفذ إلى البحر، ولذلك أصبحت مياهها ملحة، كما هي الحال في كل البحيرات التي لا منفذ لها إلى البحر، وهذا الملح هو الذي كان يتحدث عنه الكاتب «بيبسا» في خطابه، وفي عصرنا تُستخرج كميات عظيمة منه من بحيرة المنزلة عند «دمياط»، وقد رسمه «علي بك شافعي» في مصوره الجغرافي شمالي «ثارو» قليلًا فجعل مياهه تنصب في منخفض كتب عليه: «يمكن ملؤه بالماء إذا احتاج الأمر.» ويمكن ترجمة اسم مصب هذا الفرع من الإغريقية بعبارة «فم حور» وهذه التسمية لا تختلف كثيرًا عن تسمية «فم الحيروث». وجاء في التوراة: «تكلم إلى بني إسرائيل حتى يتحولوا ويعسكروا أمام «بيها هيروت»، بين «مجدول» والبحر.» وعلى ذلك كان على «موسى» ألا يسير في خط مستقيم؛ ولذلك وصل أمام «فم الحيروث» بعد مسيرة يوم واحد.

(و) بحر سوف («يام سوف»، أو «يم البوص»)

يعتقد كثير من الكتاب الذين تناولوا موضوع خروج بني إسرائيل أن «بحر سوف» هذا هو البحر الأحمر، بيد أن الحقائق التاريخية والبحوث الحديثة تكشف عن غير ذلك، وسنتحدث هنا عن كل ذلك ببعض الاختصار.

كُتبت التوراة في الأصل باللغة العبرية، وفي خلال القرن الثالث قبل الميلاد أمر «بطليموس» الثالث على ما يُقال بترجمة هذا الكتاب إلى اللغة الإغريقية، وهذه الترجمة تعرف بالترجمة السبعينية نسبة إلى الكهنة السبعين الذين ترجموها، ومما يؤسف له جد الأسف أنه لم تصل إلينا نسخة واحدة من الأصل القديم الذي ترجم عنه، وأقدم نسخة لدينا بالعبرية يرجع عهدها إلى القرن العاشر الميلادي، وبالموازنة بين النسختين وجد أنه لم تحدث اختلافات كبيرة بين نسخة القرن الثالث قبل الميلاد المترجمة ونسخة القرن العاشر بعد الميلاد. وحيثما وُجدت فروق فإنها أتت عن طريق المترجمين الذين أرادوا أن يتصرفوا في ترجمتهم بدلًا من تتبع الترجمة الحرفية، ومن ذلك أنهم وضعوا بدلًا من عبارة «يام سوف» (بحر سوف) عبارة «البحر الأحمر» أو «بحر القلزم»، ولا نزاع في أن هذا التغيير كان ذا أثر بيِّن فيما كتبه أولئك الذين فحصوا هذا الموضوع، كما ظهر أثره كذلك في بحوث علماء الآثار الذين قاموا بأعمال الحفر في خرائب «وادي طميلات»، فمثلًا نعلم أن وجود تمثال «رعمسيس الثاني» قد جعلهم يعتقدون أن خرائب «تل المسخوطة» هي «بررعمسيس»، وكذلك لما رأوا السور الضخم الذي بُني حول المعبد من اللبن في هذه البقعة تأكدوا أن الإسرائيليين كانوا مسخرين ههنا لصنعها.

وقد كان خروج بني إسرائيل من الموضوعات الخلابة في عصرنا لكل طائفة من العلماء الباحثين، فنجد مثلًا «لينان دي بلفون» الذي كان عمله الأصلي درس قناة السويس البحرية قد اندفع إلى درس خروج بني إسرائيل٢٠٧ ولكي يصل إلى حل مشكلة البحر الأحمر وعبوره جعله يمتد شمالًا حتى بحيرة التمساح ليجعل التفاصيل التي ذُكرت في التوراة مطابقة للواقع.

وفي عام ١٩٣٦ قام «روبرتسون» بعبر خليج السويس، ولكنه كان على نقيض «لينان»؛ إذ نجد الأخير قد رفع مستوى البحر الحمر وجعله يصل حتى بحيرة التمساح، على حين أن «روبرتسون» قد خفضه بما يتراوح بين خمس عشرة وعشرين عقدة ليجعل عبره من قبالة الطور ممكنة، وبذلك يقدم للناس اتساعًا معقولًا بين سلسلة الجبال المعروفة باسم «جلال» الشمالية والجنوبية، غير أن كل هذه النظريات السمجة المتكلفة قد تلاشت أمام الكشف الحديث الذي أثبت أن «بررعمسيس» هي «قنتير» الحالية، ونظرة بسيطة إلى المصور الجغرافي تفسر ما نقصده من ذلك.

ولا تزال كلمة «سوف» باقية في المتون العربية والعبرية، وتعني بالعبرية (البوص)، وهي نبات يكثر وجوده في المياه الضحضاحة في بحيرة المنزلة، وعند مصبات الترع والمصارف بخاصة، ولا يزال يعيش عليه حتى الآن قطعان من البقر عند فم مصرف بحر البقر، وقد ذكر لنا الكاتب «بيبسا» أن «بررعمسيس» كانت تأخذ حاجتها من البردي من المستنقعات، كما كانت تأخذ حاجتها من البوص من مياه «حور» والبردي الذي يُسمى الآن «سمار» ينمو عادة في المياه الحلوة نسبيًّا، ولكن البوص لا ينمو إلا في المياه الملحة تقريبًا كالتي في البحيرات، ولهذا السبب يقول الكاتب «بيبسا»: إن مياه «حور» كانت تنتج ملحًا، ولا تزال حتى يومنا هذا عادة إقامة أكواخ من البوص شائعة، كما يُشاهَد ذلك في «رأس البر» حيث يقيم عظماء القوم عششهم في فصل الصيف من هذا النبات لسهولة تخلل هواء البحر العليل سيقانه، وذكر لنا «بيبسا» أن البوص كان يُجلب من مياه «حور» مما يدل على أنه كان ينمو بكثرة في هذه الجهة وبارتفاع عظيم حتى إن بني إسرائيل سموا هذه البحيرة باسمه «يام سوف»، يُضاف إلى ذلك أن كلمة «سوفي» معناها بالمصرية القديمة «البردي» وهو نبات ينبت في الدلتا والحدائق وتُصنع منه الحصير، وهذه الكلمة لم تظهر في اللغة المصرية القديمة إلا في عهد الدولة الحديثة، ويُسمَّى كذلك بالعبرية «سوف»، وعلى ذلك فإن «يام سوف» يقع في شرقي «تانيس» و«بررعمسيس»، فقد ذُكر في التوراة أن الله أرسل ريحًا عاتية غربية ليبعد وباء الجراد فأقصته عن حقول «تانيس» إلى «بحر سوف» الذي تُرجم خطأ بالبحر الأحمر أو بحر القلزم:

فرد الرب ريحًا غربية شديدة جدًّا فحملت الجراد وطرحته في «بحر القلزم» ولم تبقَ جرادة واحدة في كل تخوم مصر

(راجع سفر الخروج ١٠: ٢٠).

ويُشاهَد على المصور الجغرافي الذي وضعه «علي بك شافعي» أن «يام سوف» تقع على نفس خط عرض «تانيس» وأن امتداده هو بحيرات البلح قبالة «قنتير».

(ز) مجدول

ذكرنا فيما سبق أن التوراة قد جعلت كلًّا من بلدتي «سفنة» و«مجدول» حدًّا جنوبيًّا وشماليًّا لمصر على التوالي، والمقصود بذلك الحد الجنوبي والشمالي لمصر من جهة بلاد «كنعان»، ويدل على ذلك مصور «سيتي الأوَّل» الذي وضع «مجدول» قبل بلدة «ثارو» على الطريق من «فلسطين» ولم يضعها على مجرى ماء قابل للملاحة مثل «ثارو» وقد كانت معروفة بأنها أول بلدة مصرية على الطريق المؤدي إلى «فلسطين»، وقد جاء ذكرها في مذكرات «أنتونين» على الطريق من «سرابيو» — الواقعة عند نهاية وادي طميلات حتى «بلزيو» — وقد جعل «بتري» «تل الهر» المكان الذي يُحتمل أن يكون هو موقع «مجدول» والقلعة العربية التي على هذا الموقع الآن لا بد أنها أقيمت على مبنًى قديم من هذا النوع يُسمى بالعربية «مجدل» أو «برج» (راجع ما كتبه علي بك شافعي عن هذا المكان).

(ﺣ) بعل زيفون

لقد بقي اسم «بعل زيفون» سرًّا غامضًا على أولئك الكتاب الذين كتبوا عن خروج بني إسرائيل إلى أن كشف حديثًا في «سقارة» عام ١٩٤٠م عن ورقة فينيقية في إحدى الآبار الأثرية ومعها أوراق ديموطيقية، وقد كتب عن محتوياتها الأثري «نويل جيرون».٢٠٨ ولما كانت إحدى الأوراق الديموطيقية قد ذكرت الملك «أحمس الثاني»، وكذلك كانت بعض مميزات الورقة الفينيقية تشير إلى أنهما من عهد واحد، فقد استنبط «جيرون» أن هذه الأوراق قد كُتبت خلال القرن الخامس قبل الميلاد. وتدل محتويات الورقة الديموطيقية على أنها خطاب شخصي يتضرع فيه كاتبه إلى الإله «بعل زيفون» وكل آلهة «دافني» (أدفينا)، وهذا يدل على أن «بعل زيفون» كان الإله الرئيسي لبلدة «دافني» وقد ختم «جيرون» مقاله بقوله إذا قبلنا النظرية القائلة: إن «مجدول» هي «تل الهر» وأن «يام سوف» هي بحيرة المنزلة فإن «بعل زيفون» كان إذن هو الإله الرئيسي لهذا المكان.

(٦-٢) خط سير بني إسرائيل من حدود مصر إلى فلسطين

هذا من جهة مصر، أما عن «سينا» و«نجب» فلسطين وهي الأماكن التي مرَّ بها بنو إسرائيل في طريقهم إلى الأرض الموعودة، فقد ألقت الكشوف الحديثة بعض الضوء على جغرافيتها، والواقع أنه لم يكن يوجد حتى ذلك العهد مدن ومعسكرات ثابتة إلا في «إيتام» على ما يظن، فقد كشف «نلسن جلوك» موطنًا ثابتًا يرجع عهده إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد، وكذلك في المكان القديم المسمى «إزيون جبر» الآن — وهو القريب من «العقبة» — دلت الحفائر التي قام بها الأثري (١٩٣٩-١٩٤٠) على أن أول مبانٍ كانت قد أُقيمت على أرض بكر في هذه الجهة يرجع عهدها إلى القرن العاشر ق.م. وفي «قادش برنيا» (عين القديرات) ظهر أن أقدم حصن فيها يرجع تاريخه إلى القرن العاشر أيضًا. أما في «سينا» نفسها فقد وُجدت مناجم من النحاس مشغولة في جهات متفرقة في «وادي مغارة» وفي «سرابة الخادم»، غير أن الأولى كانت — على ما يظهر — قد هُجرت بعد الدولة الوسطى في حين أن الأخرى كانت قد ثمرت بدرجة عظيمة في عهد الأسرتين التاسعة عشرة والعشرين حتى عهد «رعمسيس الخامس» حوالي عام ١١٤٠ق.م، وقد وُجدت للفرعون «رعمسيس الثاني» بوجه خاص نقوش كثيرة هناك، وقد كشف عنه «بتري» عام ١٩٠٥م، و«استار» عام ١٩٣٠. ونعلم من الفخار الذي جمعه «جلوك» من حول مناجم النحاس في «عرابة» الواقعة جنوبي «إيتام» أنه كانت تقوم هناك أعمال عظيمة في عصر الحديد المبكر، بيد أنه لا يمكن تحديد تاريخ بعينه لذلك. ولما كان إقليم «مدين» الواقع في الجنوب، والجنوب الشرقي من «العقبة» أغنى بكثير في النحاس الغفل من كل من «سينا» و«إيتام» فإنه لا يبعد أن يكون أهل «موسى» قد بدءوا تثميرها وبخاصة أنه كان بالقرب منهم عملاء ممتازون لشراء هذا المعدن، وأعني بذلك مصر وكنعان، وقد أصبح من المعروف على حسب التقاليد الإسرائيلية المعروفة أن «موسى» قد تزوج من ابنة كاهن مديني يُدعى «جنترو» أو «روئيل» على وجه التأكيد؛ إذ قد جاء ذكره في مناسبات مختلفة؛ هذا إلى أن أسرة «هوبان» بن «روئيل» وصديق «موسى» قد اعتنقا الديانة الإسرائيلية (راجع سفر العدد فصل ١٠ سطر ٢٩، وسفر القضاة ٤: ١١) وكانت عشيرة مدين فضلًا عن ذلك تُنعت كثيرًا بلفظ «القينيين» (أي النحاسين) جاء في سفر التكوين ٤–٢٢:

و«صلة» أيضًا ولدت «توبل قاين».

وهو أول صيقل لجميع المصنوعات النحاسية والحديدية.

وبالاختصار نفهم من كل ما سبق أن بلاد «سينا» وبلاد «مدين» كانتا في ذلك الوقت بعيدتين عن رعاة الجمال المتوحشين، وكان يسكنهما قبائل شبه متوطنة تربطهم بمصر وكنعان روابط صناعية وتجارية.

ومما يستحق الملاحظة هنا أن الجمال لم تُذكر في أسفار «موسى» الخمسة إلا مرة واحدة، هذا إذا ضربنا صفحًا عن ذكرها في بعض فقرات قليلة في غير موضعها التاريخي في سفر التكوين أو عند ذكرها مع الحيوانات النجسة، ومن ثم نعلم أن الإسرائيليين الذين شُردوا في الصحراء كانوا على وجه التأكيد يستعملون الحمير في أسفارهم، وعلى ذلك كانوا مقيدين بالسير في طريق مثل التي حددت لهم في سفر العدد ٣٣، حيث نجد أنهم لم يسيروا قط بعيدًا عن الواحات أو عن مراعي أرض «نجب» وشرق الأردن.٢٠٩
والآن بعد كل هذه الإيضاحات التي كان لا بد منها عن الأماكن التي مر بها هؤلاء القوم يمكننا أن نتتبع طريق خروجهم واقتفاء أثرهم يومًا فيومًا (انظر المصور الجغرافي Bull. Soc. Geog. XXi P. 27-6).

(أ) اليوم الأول

ثم ارتحل بنو إسرائيل من «رعمسيس» إلى «سكوت» بنحو ستمائة ألف ماشٍ من الرجال خلا الأطفال.

(سفر الخروج ١٢: ٣٧)
ويقول السير «فلندرزبتري» في كتابه عن إسرائيل:

والكلمة المترجمة هنا بلفظة ألف لها أحد المعنيين: ألف، أو أسرة.

وعلى ذلك يُخفض العدد إلى خمسين وخمسمائة وخمسة آلاف نسمة؛ وذلك لأن عيون الماء التي كانت في طريقهم لا تكاد تمون عددًا أكبر من ذلك، ويعضد هذا الرأي حادثة القابلتين اليهوديتين اللتين طلبتا أمام الفرعون:

وكلم ملك مصر قابلتي العبرانيات اللتين اسم إحداهما «شفرة» والأخرى «فوعه» وقال: إذا استولدتما العبرانيات فانظرا عند الكراسي فإن كان ذكرًا فاقتلاه، وإن كانت أنثى فاستبقياها.

(راجع سفر الخروج ١: ١٥-١٦)

وإذا فرضنا أن عددهم ستمائة ألف بغض النظر عن النساء والأطفال فإن عددهم في مجموعه لا بد أنه كان يبلغ حوالي ثلاثة ملايين نسمة، ونحن نعلم من جانبنا أن متوسط عدد سكان القرية المصرية على وجهٍ عام هو ألفا نسمة، فكيف يتسنى لقابلتين أن تقوما بخدمة مجتمع يبلغ ثلاثة ملايين نسمة، ولكن من المعقول أن هاتين القابلتين يمكنهما أن يرعيا شئون ستة آلاف أسرة، يُضاف إلى ذلك أن عيون الماء لم تكن كافية لمثل هذا العدد، بل إنه لم يكن في الصحراء من خشب الوقود للطهي ما يقوم بحاجة هؤلاء القوم.

وقد كان لزامًا على الإسرائيليين في أول مرحلة من سفرهم أن يعبروا مجاري مياه، ولذلك فإنهم لو بدءوا خروجهم وقت الفيضان لكان من الصعب عليهم أن يحصلوا على القوارب اللازمة لعبورهم، وقد كانت طريقة ري الحياض مستعملة وقتئذ، وعندما تكون الحياض ممتلئة يضطر الأهلون أن يسافروا على شواطئ الحياض إذا أرادوا ألا يلفتوا الأنظار إليهم كثيرًا، ولهذا السبب يظهر أنهم بدءوا خروجهم في شهر «أبريل».

رحوا من «رعمسيس» في الشهر الأول في اليوم الخامس عشر منه، في غد الفصح خرج بنو إسرائيل بيدٍ سامية على مشهد جميع المصريين.

(سفر العدد ٣٣: ٢)

(ب) اليوم الأول

وارتحلوا من «سكوت» ونزلوا «بإيتام» في طرف البرية.

(راجع الخروج ١٣–٢٠)

(ﺟ) اليوم الثالث

وفي اليوم الثالث كان محرمًا عليهم المسير نحو المشرق:

وكلم الرب «موسى» قائلًا: مُرْ بني إسرائيل أن يراجعوا وينزلوا أمام «فم الحيروث» بين «مجدل» والبحر، أمام «بعل زيفون» تنزلون تجاهه على البحر (راجع الخروج ١٤: ١-٢).

وهذا التحول عن الطريق المستقيم جعل المصريين يظنون أن الإسرائيليين قد احتبلوا في طريقهم، واستولى عليهم الخوف من أن يضلوا في البيداء، وعلى ذلك نزلوا عن فكرتهم؛ لأنه في اليوم الثالث كان سيرهم في دلتا النيل، وقد كان أثر ذلك هو:

وقسى الرب قلب فرعون ملك مصر فتبع بني إسرائيل، وبنو إسرائيل خارجون بيد سامية.

(راجع الخروج ١٤: ٨)

(د) اليوم الرابع

وكان «موسى» حذرًا؛ لأنه على الرغم من أنه قد حصل على إذن من فرعون بالخروج من البلاد مع أتباعه كان يخاف أن يغير رأيه، ولذلك سلك طريقًا غير الطريق المعتادة، فلم يأخذ طريق الفلسطينيين على الرغم من أنها كانت قريبة كما شرحنا ذلك من قبل.

وعلى الرغم من حذره فإن الفرعون غير رأيه فعلًا وتبع موسى وقومه في ستمائة عربة من خيرة عرباته يسوقها نخبة من فرسانه، وقد لحق المصريون بالإسرائيليين في معسكرهم بالقرب من «يام سوف» ومعناها العبري حرفيًّا «بحيرة البوص». واليم بالعربية: (البحر)، وخُص بنيل مصر كما جاء في لسان العرب ج٥، (ويمكن الإنسان أن يراها على المصور)، وتشغل منخفضًا قد بقي حتى الآن تحت مستوى البحر، وقد كُتب عليه في مصور المساحة المصرية «يمكن ملؤه بالماء إذا احتاج الأمر» أي إنه إذا عمل قطع في الشاطئ الشرقي من قناة السويس فإن ماء البحر يملؤه. وقد منعت قناة السويس مياه مصرف بحر البقر القديم من إمداده بمياه النيل مما منع نمو البوص فيه. ويمكن أن يؤخذ منه الملح كما كانت الحال أيام الكاتب «بيبسا»، وقد أصبح موسى بهذا الموقف في مأزق حرج، فقد كانت «بحيرة البوص» على يمينه، وحصن «مجدول» بما فيه من حامية أمامه، سادًّا الطريق من جهة الشمال، وعلى يساره مستنقعات فرع النيل البلوزي، وخلفه الفرعون وجنوده، فلم يكن لديه أية وسيلة غير طلب العون والرحمة من الله، وقد نالهما، وأشار بعصاه نحو البحيرة على يمينه، ثم أرسل الله ريحًا شرقية. وقد جاء في التوراة أنها ريح شرقية عاتية ظلت تهب طوال الليل، وهذه هي المعجزة، فكان الريح يهب في الاتجاه الصحيح في الوقت المناسب، وكان هبوبه شديدًا حتى جفف الأرض، وبذلك سار موسى وقومه على اليابس:

ومد «موسى» يده على البحر فأرسل الرب على البحر ريحًا شرقية طول الليل حتى جعل البحر جفافًا، وانشق الماء.

(راجع الخروج ١٤–٢١)

ولا يزال منسوب الماء حتى الآن متأثرًا بدرجة عظيمة بالريح في بحيرة «المنزلة» و«البرلس»، ويُلاحَظ أن الطريق من «بلطيم» حتى «برج البرلس» تُغطى بالمياه عندما يهب الهواء غربًا ثم تصبح جافة عندما يهب الهواء من الشرق، ويمكن الإنسان أن يسير عليها بالعربة.

أما موضوع غرق فرعون فهو أمر قد فُهم خطأ على حسب ما جاء في الكتب السماوية، والواقع أنه لا يمكن الإنسان أن يتصور غرق الفرعون وعربته ومن معه في ماء ضحضاح لا يزيد عمقه على قدمين أو ثلاث، بل المعقول أن خيل الفرعون وعرباته قد ساخت في الأوحال وسقط بعض ركابها مغشيًّا عليه، وهذا يفسر ما جاء في سفر الخروج ١٤–٢٥:

وخلع دواليب المراكب فساقوها بمشقة.

ومما سبق نعلم أن خرافة غرق الفرعون في البحر الأحمر وموته لا أساس لها من الصحة، وقد جاء كل ذلك الخلط من ترجمة «يام سوف» بالبحر الأحمر أو بحر القلزم، هذا فضلًا عن أن ما جاء في القرآن الكريم لا يشعر بأن الفرعون الذي عاصر موسى قد غرق ومات، بل على العكس نجاه الله ببدنه ليكون آية للناس على قدرة الخالق. والتعبير فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ يعادل التعبير العامي «خلص بجلده»، هذا ويُلاحظ أن كلمة «البحر» في اللغة العربية كما جاء في لسان العرب ج٥: «تطلق على الماء المالح والعذب على السواء»، وقد سبق أن قلنا إن اليم يُطلَق على النيل، وعلى ذلك يمكن فهم الآية القرآنية التي جمعت القصة كلها في اختصار رائع على حسب ما ذكرنا من إيضاحات وبراهين سابقة: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (سورة يونس الآيات ٩٠–٩٢).

fig8
شكل ٧: مومية مرنبتاح.

(ﻫ) الأيام الخامسة والسادسة والسابعة

وبعد عبر هذه البحيرة بالكيفية السابقة سار بنو إسرائيل في صحراء «شور» مدة ثلاثة أيام، وهكذا أحضر «موسى» إسرائيل من البحر، وذهبوا في بيداء «شور» ومشوا ثلاثة أيام في الصحراء، ولم يجدوا ماء.

والبيداء التي على الضفة الأخرى من «يام سوف» تُسمَّى «بيداء شور»، ونحن نعلم من جانبنا أن «مياه حور» التي ذُكرت في خطاب «بيبس» وهي التي كان يُستخرج منها الملح تسمى بالمصرية «شيحور» أي بحيرة (حور)، فمن المحتمل أن البيداء التي تقع شرقي هذه البحيرة كانت تسمى بيداء بحيرة «حور» (شيحور). أما باقي الصحراء التي ضل فيها الإسرائيليون ثلاثة أيام فتسمى في فقرة أخرى من التوراة «بيداء إيتام» وهذه البيداء هي الأرض الصحراوية التي على حدود الدلتا الشرقية، وكانت تسمى قديمًا عند المصريين «إدوم»، وكان يسكنها «الشاسو» أي البدو، ويدل ما جاء في التوراة على أنه الموقع الذي حدده «علي بك شافعي». وكانت مساكنهم من «حويلة» إلى «شور» التي تجاه مصر (راجع سفر التكوين ٥: ١٨). وكذلك جاء في سفر «صمويل الأوَّل» ١٥: ٧:

وضرب «شاول» عماليق من «حويله» حتى مجيئك إلى «شور» التي تقابل مصر.

وبعد ذلك سار بنو إسرائيل في شبه جزيرة سينا و«مدين» حتى وصلوا إلى أرض «كنعان» وكانت كل هذه الجهات معمورة كما ذكرنا قبلًا.

هذه هي قصة خروج بني إسرائيل كما حدثتنا بها التوراة وكما تتبعناها على الآثار الباقية بقدر المستطاع، ونريد هنا أن نكرر القول بأن هذا الحادث كان ثانويًّا بالنسبة للمصريين، حيويًّا عند الإسرائيليين، ولذلك لم نجده في النقوش المصرية إلا عرضًا على حين فصلت آياته في التقاليد العبرية تفصيلًا تامًّا، وتدل الأحوال كلها على أن هذا الحادث قد وقع فعلًا، غير أن تفاصيله قد دُونت على حسب العقل والتفكير والتقاليد الإسرائيلية، ولذلك يصعب علينا نخله وتمحيصه من الوجهة التاريخية المحضة.

(٧) آثار «مرنبتاح»

(٧-١) مقبرة «مرنبتاح»

أقام «مرنبتاح» لنفسه مقبرة في «وادي الملوك» على مقربة من مقبرة والده «رعمسيس الثاني» وقد نُهب قبره على ما يظهر بعد موته بقليل؛ ونُقلت موميته إلى مقبرة «أمنحتب الثاني» حيث وُضعت خطأ في تابوت الفرعون «ستنخت». وعندما كُشف عن المكان الذي خُبئت فيه المومية في عصرنا عُرفت شخصية هذا الفرعون من كتابة خشنة دُونت على لفائف موميته، وقد كان الكاشف لمومية هذا الفرعون الأستاذ «لوريه» عام ١٨٩٨م عندما كشف عن مقبرة «أمنحتب الثاني». وقد أُحضرت المومية إلى «المتحف المصري» عام ١٩٠٠م. ويقول الدكتور «إليوت سمث»:٢١٠ إنه حتى مع عدم وجود البرهان الكتابي على كتف هذا الفرعون باسمه فإنه توجد تفاصيل عدة تحتم وضع هذه المومية في طائفة موميات «رعمسيس الثاني» و«سبتاح» و«سيتي الثاني»، وكذلك تدل هيئة المومية نفسها على أن بينها وبين كل من «رعمسيس الثاني» و«سيتي الأوَّل» اتصالًا كبيرًا في الشبه؛ ولهذه الأسباب لا نشك في أن هذه مومية الفرعون «مرنبتاح». ويدل جسمه على أنه كان رجلًا طاعنًا في السن، ويبلغ طوله حوالي أربعة عشر ومائة مليمتر ومتر، ويدل رأسه على أنه كان أصلع تقريبًا؛ إذ لم يبقَ في رأسه إلا إطار ضيق من الشعرات البيض على القفا والصدغين، هذا إلى بعض شعرات سود مبعثرة على شفته العليا، وشعرات قصرت على الخدين والذقن.

ويدل منظر وجهه العام على أن محياه يشبه «رعمسيس الثاني» في قسماته بصورة ناطقة، غير أن شكل الجمجمة وأبعاد الجبهة تتفق إلى حد بعيد مع جده العظيم «سيتي الأول».

وتدل المومية على أن عملية التحنيط التي أُجريت فيها كانت ناجحة إلى حد بعيد؛ إذ كان الجسم محفوظًا لم يَشبه أي تشويه وخاليًا من اللون الأسود الذي نشاهده في موميات الأسرة الثامنة عشرة.

ويُلاحظ أن الجزء اللين من الأنف قد تفرطح بعض الشيء مما شوه منظر الوجه، وقد حشا المحنطون حفرة الجمجمة بعد استخراج نخاعها بقطع صغيرة من الكتان الجميل الصنع، وبعض البلسم، أما المنخران فقد حُشيتا بعجينة راتنجية، وكذلك وُضعت طبقة من نفس المادة على الفم والأذنين، كما وُضعت لطعة سوداء في مكان الحاجبين، وخلافًا لذلك وُضعت طبقة رقيقة من اللون الأحمر على الوجه، ويُلاحَظ أن هذا اللون قد ذهب في بعض المواضع، وظهرت تحته لطع بيضاء، وكانت أذناه مثقوبتين مدة حياته، غير أن الثقبين كانا صغيرين جدًّا.

ولوحظ أن فتحة التحنيط كانت في الجنب في المكان الخاص الذي كانت تعمل فيه الأسرات التاسعة عشرة والعشرين والحادية والعشرين أي أمام الحفرة الحرقفية، وبعبارة أخرى لم تكن بعيدة إلى الخلف أو عمودية كما نجد ذلك في بعض موميات الأسرة الواحدة والعشرين وما بعدها، وقد وُضع فوق الفتحة عجينة بلسم، ثم وُضع فوقها لوحة يُشاهَد جزء من طبعتها.

وقد أُزيلت كل الأحشاء من الجسم إلا القلب على ما يظهر، ولا نعلم إذا كان المقصود هنا ترك القلب بأكمله في الجسم كما كانت العادة في عهد الأسرة الواحدة والعشرين أم لا. وعلى أية حال فلا يمكن الجزم بذلك.

وقد دل البحث على أنه كان مصابًا بالتهاب الأورطي إذ قد وُجدت لطع كلسية عليه ظاهرة.

ويدل الفحص على أنه الجسم قد عبث به اللصوص إلى حد كبير، وعلى الرغم من أن الجسم قد صار هيكلًا عظميًّا يغطيه الجلد وحسب، فإن ما يُلاحظ من غلظ جلد البطن والخدين يدل على أن صاحبه كان بدينًا بعض الشيء. وقد نُظفت مقبرة هذا الفرعون في أوائل القرن العشرين على يد الأثري «كارتر»، وقد كشف عن غطاء تابوته تحت التراب في حجرة الدفن وهو الآن ظاهر للعيان في مكانه الأصلي. وقد حُفر قبره في أعماق الصخر إلى مسافة بعيدة، ويُشاهَد على عتب الباب قرص الشمس وفيه الجعران الذي يمثل الشمس عند الفجر، وصورة إنسان في هيئة كبش يمثل الشمس عند المغيب. كما تُشاهَد الإلهتان «إزيس» و«نفتيس» كل منهما على جانب من جانبي الباب، وبعد ذلك يهبط الإنسان في ممر منحدر انحدارًا عظيمًا، ويُرى على اليسار منظر ملون جميل يمثل الفرعون يتعبد للإله «حور-ماخت». وبعد ذلك بقليل نُقشت ثلاثة أسطر عمودية تحتوي على عنوان كتاب مديح «رع» الذي كُتب على هذا الجدار كاملًا، وبقيته على الجدار المقابل، وبعد ذلك تُشاهَد صورة رمزية لقرص الشمس يمر بين الأفقين. وفي القسم الثاني من الممر يُشاهَد على اليسار صورة الإلهة «إزيس» راكعة وبالقرب منها صورة ابن آوى (آنوب) إله الجبانة، وتحدث «إزيس» الفرعون بأنها تمد حمايتها عليه، وتمنح خيشوميه النفس، وعلى الجهة المقابلة على الجدار منظر مماثل للسابق، تأخذ فيه الإلهة «نفتيس» مكان «إزيس». وفي الممر الثالث نشاهد على اليمين صورة جميلة لسفينة الشمس تخترق العالم السفلي يجرها الآلهة، وعلى الجدار المقابل نشاهد سفينة الشمس ثانية وفيها يقف الإلهان «حور» و«ست»، ومن ثم نعلم أن «ست» في هذا العهد كان إلهًا طيبًا لا إله الشر كما هو معروف عنه. وبعد ذلك يلتوي الممر ويؤدي إلى حجرة مُثل على جدرانها ملائكة وآلهة من عالم الآخرة، فنشاهد على اليسار عند نهاية هذه الحجرة صورة الإله «أنوب» يقف أمامه اثنان من الملائكة الذين يخدمون «أوزير»، وعلى الجانب المقابل صورة «حور» حامي والدته، وأمامه الملكان الآخران.

ويمر الإنسان بعد ذلك في حجرة يستند سقفها على عمودين، وشمال الإنسان مباشرة يُشاهَد الفرعون أمام «أوزير»، وفوق الجدار المتصل بذلك تُلاحظ قطعة ضخمة من الظران ناتئة من السقف لم يهتم العمال بإزالتها، والحجرة التي على اليمين لم تتم بعد، ثم نصل بعد ذلك بوساطة السلم إلى الحجرة التي فيها غطاء التابوت العظيم المصنوع من الجرانيت، والظاهر أن هذا الغطاء لم يُنقل من مكانه إلى حجرة الدفن بل تُرك حيث هو لصعوبة نقله. وبعد ذلك يمر الإنسان في ممر إلى قاعة الدفن المهدمة تهديمًا شديدًا، وكان سقفها المقبب محمولًا على ثمانية عمد محطم معظمها الآن، والمناظر التي على جدران هذه الحجرة قد عُبث بها كثيرًا، ولكن الشيء الذي يلفت النظر فيها بصفة خاصة هو غطاء التابوت الداخلي الذي لا يزال موضوعًا في مكانه الأصلي، فقد كانت مومية الفرعون موضوعة في تابوت من الخشب وكان هذا التابوت داخل تابوت من الجرانيت لم يبقَ منه إلا الغطاء، وقد كان المقصود وضع هذا التابوت في آخر لا يزال غطاؤه يُرى في مكانه في حجرة أخرى كما أسلفنا، وتدل شواهد الأحوال على أنه لم يكن لدى العمال ما يكفي من الوقت للقيام بهذا العمل.

فلدينا قطعتان من الاستراكا عُثر عليهما في «وادي الملوك» نُقش عليهما متون خاصة بقبر هذا الفرعون، والاستعدادات التي اتخذت لتجهيزه في السنة السابعة من حكمه، أي السنة التي توفي بعدها الفرعون على حسب بعض الأقوال، وقد كُتبت كل منهما من الوجهين، غير أنه مما يؤسف له ضياع الجزء الأول من أسطر إحداها من الوجه، ونهاية الأسطر من الظهر، وقد أُرِّخت بالسنة السابعة الشهر الرابع من حكم «مرنبتاح»، ومما تبقى من نقوش هذه الاستراكا نعرف بعض أسماء المؤلفين الذين كانت لهم علاقة بإنجاز هذا القبر، ونخص بالذكر منهم «بانحسي» الوزير، و«ثاي» مدير المالية.

أما الاستراكا الثانية فتبحث في نفس الموضوع، وقد ذُكر فيها حاكم المدينة والوزير «بانحسي» الذي كان يشرف على هذا العمل، وسنتحدث عنه فيما بعد، وكذلك ذُكر مدير المالية «ثاي». والمتن الذي على ظاهر هذه الاستراكا يتحدَّث عن الكاتب «امبو محب» وعن رئيسي الشرطة «نخت مين» و«حورا» اللذين ذُكرا على الاستراكا رقم ٢٥٢٣٧ «بالمتحف المصري» ومنها مؤرَّخ بالسنة السادسة والستين من حكم «رعمسيس الثاني»، وقد اختفى الاسم الأخير من أسماء هؤلاء الموظفين، بيد أن لقبه قد بقي دالًّا عليه، وهؤلاء الموظفون الثلاثة قد ظلوا إذن أكثر من ثماني سنين معًا في وظائفهم، وسنورد هنا ترجمة الاستراكا الثانية على الرغم مما أصابها من تهشيم ثم نفسر ما جاء عليها:

السنة السابعة الشهر الثالث من فصل الفيضان، اليوم الواحد والعشرون وهو اليوم الذي ذهب فيه مدير الخزانة «ثاي» … (٢) عند إغلاق حجرة الدفن لنداء العمال الذين كُتبت أسماؤهم في القائمة … (وقد أعطى) (٤) أربع عشرة جرة من الشراب لأيدي اﻟ … (٥) الاثنان والعشرون، وقد ذهب مدير الخزانة لأجل … (في السنة السابعة الشهر الرابع من فصل الصيف. اليوم الثاني عشر من الشهر، وفي هذا اليوم جرت التماثيل المقدسة إلى ملك الوجه القبلي وملك الوجه البحري «بان رع مري آمون» له الحياة والفلاح والصحة إلى مكانها في حضرة الوزير «بانحسي» (٧) (وفي اليوم الثالث عشر من الشهر الرابع) من فصل الصيف، في هذا اليوم ذهب الوزير «بانحسي» ولم يجد عمالًا في حجرة الدفن فقال: فلتُحمل إلى المصنع … قطعتان من الحجر لكي … (٩) وقال: فليؤت بالرؤساء مع … السنة السابعة اليوم الرابع والعشرون، الشهر الرابع من فصل الصيف. وفي هذا اليوم جاء إلى المصنع المشرف «رعمسو محب» والوزير «بانحسي» لكي يضعوا على المنزلق … لوازم التحنيط — اللفافات وغيرها من الأدوات اللازمة لتحنيط الجسم كالعطور ونحوه — الخاصة بالفرعون له الحياة والصحة والعافية في مكانها، وفي اليومين الرابع عشر والخامس عشر … أتى لإغلاق حجرة الدفن … وأمر الوزير «بانحسي» أن يكون العمال بالقرب منها.

النقوش التي على ظهر الاستراكا:

السنة السابعة، اليوم الثالث من الشهر الثاني من فصل الفيضان، وفي هذا اليوم جاء الكاتب «انبو محب» ورئيس الشرطة «نخت مين» وقال رئيس الشرطة (المازوي) «حورا»: المقابر … (٣) فلترفع الحراس، ثم قال عن إرسال الفرعون (له الحياة والفلاح والصحة والعافية) مدير الخزانة «مريوبتاح» وكاتب بيت التحنيط «حوى» … فليذهبا إلى حيث مدخل الوادي لكي يستقبلوا صديق الفرعون (له الحياة والصحة والعافية) (٥) الشهر الثاني من فصل الفيضان. اليوم الرابع عشر، لم يكن قد أتى الوزير «بن سخمت» مع رجال الشرطة فأمر حراس القبور الملكية بالاستمرار في حراستها (٦) إلى أن يعلن قيام رجال الشرطة بذلك، وقد ذهب في اليوم السادس عشر من الشهر الثاني من فصل الفيضان مع الكاتب «حوى» …

(وبقية المتن مهشم).

وهذا المتن على الرغم مما أصابه من تهشيم يكشف لنا عن عدَّة حقائق غاية في الأهمية؛ فمنه نعلم أن العمل في قبر هذا الملك كان قائمًا على قدم وساق وبخاصة لأنه كان متقدِّمًا في السن؛ وعلى الرغم من ذلك لم يكن في الإمكان إنجازه كما يدل على ذلك غطاء التابوت الخارجي الذي أُنزل في القاعة الخارجية، ولم يتم نقله إلى حجرة الدفن عند موت الفرعون الذي قضى في السنة الثامنة من حكمه على ما يظهر — وقد كانت كل أدوات التحنيط يؤتى بها في مكان خاص بالقرب من القبر حتى تتم عملية التحنيط بجوار مكان الدفن نفسه، كما شرحت ذلك في الجزء الثالث من أعمال الحفر بالجيزة.٢١١

والواقع أن آخر تاريخ لدينا على الآثار من حياة هذا الفرعون هو السنة الثامنة اليوم السابع والعشرون من الشهر الثالث من فصل الفيضان كما جاء على ورقة «بلوني» رقم ١٩٠٤ أي بعد ثلاثة وأربعين يومًا من التاريخ الذي نقرؤه على ظهر الاستراكا التي نحن بصددها الآن. وهذا يدل على أن الاستعداد لدفن الملك إذا صح أنه مات في العام الثامن من حكمه كان على وشك الانتهاء.

ويدل المتن من جهة أخرى على أن القائمين بإنجاز ذلك العمل هما الوزير ورئيس المالية وهما أكبر موظفين في الدولة، وكانت حراسة المقابر الملكية في يد الشرطة يتسلمونها من حراس الجبانة، وكان على الوزير كذلك أن يسلم المقبرة لرئيس الشرطة ليحافظ على ما فيها من أثاث ثمين خوفًا من عبث اللصوص بها حتى يأتي يوم دفن الملك فتغلق نهائيًّا.٢١٢
وغطاء التابوت الذي وُجد في حجرة الدفن يُعد من أجمل الآثار التي عُثر عليها للفراعنة في هذا العهد في هيئة طغراء (خرطوش)، وعلى هذه الطغراء صور سرير عليه صورة الفرعون مضطجعة ومتقنة النحت إلى درجة ممتازة، ويلبس الفرعون «كوفية» على رأسه يحليها الصل الملكي وذراعاه مطويتان على صدره. أما الجزء الأسفل من الجسم فعلى شكل مومية مزملة بالكتان، وقد رُسم عند رأسه الإلهة «نفتيس» راكعة على علامة الذهب رافعة ذراعيها، ونشاهد عند القدمين الإلهة «إزيس» كذلك على علامة الذهب بجناحين مبسوطين، وعلى كلا جانبي رأس الفرعون صورة الإلهة «ماعت» وعلى بطنه إلهة تحمل قرصين، وفي أسفلَ قاربان للإله «حور»، وبجانب ذلك نجد عدة مناظر ونقوش دينية تشغل سطح الغطاء كله، وقد كُرر فيها ألقاب الملك، ويبلغ طول هذا الغطاء حوالي خمسة وعشرين سنتيمترًا وثلاثة أمتار، وعرضه حوالي متر ونصف، وارتفاعه نحو متر، وقد عُثر في البقايا التي وُجدت في حجرة الدفن على أجزاء من أواني أحشاء مصنوعة من المرمر، وكذلك على بعض أجزاء من التماثيل المجيبة.٢١٣
وقد عثر اللورد «كارنرفون» و«كارتر» بالقرب من مدخل هذه المقبرة على أوانٍ هامة من المرمر ذات حجم كبير عليها اسم «مرنبتاح»، وقد كُتب على كثير من منها أسماء محتوياتها.٢١٤

(٧-٢) معبد «مرنبتاح» الجنازي

تقع بقايا معبد «مرنبتاح» الجنازي في شمال معبد «أمنحتب الثالث» على حافة الصحراء. والظاهر أنه أقام هذا المعبد على مقربة من معبد «أمنحتب الثالث» عن قصد؛ لأن الفقر الذي كان ضاربًا أطنابه في البلاد بحالة مزعجة بعد أن أنهكها والده بإقامة مبانيه الضخمة في كل جهات القطر وخارجه؛ جعله يقيم معبده الجنازي في جوار معبد «أمنحتب الثالث» الفخم ليستعمل أحجاره في إقامة معبده، فهشم ما فيه من لوحات وتماثيل، وانتزع أحجاره وأقام بها معبده، وقد ظهر ذلك بصورة مشينة عندما أخذ لوحة «أمنحتب الثالث» العظيمة (راجع مصر القديمة ج٦) واستعمل ظهرها لنقش أنشودة انتصاراته العظيمة التي ذكر فيها مفاخره وما أحرزه من انتصارات على الأعداء وهي اللوحة المعروفة بلوحة بني إسرائيل، ويبلغ ارتفاعها نحو عشر أقدام، وعرضها خمس أقدام. وقد بالغ «مرنبتاح» في إسرافه في استعمال مواد معبد «أمنحتب الثالث» حتى إنه استعمل اللبنات في بناء معبده.

وقد قلد النظام الذي اتخذه والده في بناء معبده الجنازي وهو المعروف باسم الرمسيوم، غير أنه لفقره لم يبلغ به إلا نصف حجم معبد والده. ومن عظات التاريخ وسخرية القدر وانتقامه أن نرى «مرنبتاح» يخرب في معبد «أمنحتب الثالث» ويعبث به إلى هذا الحد، بيد أن ذلك ليس إلا مثلًا سبقه إليه «أمنحتب الثالث» نفسه، إذ قد أظهرت الكشوف الحديثة أنه ارتكب مثل هذه الجريمة مع أسلافه من فراعنة مصر، ولا أدل على ذلك من أن البوابة التي أقامها «أمنحتب الثالث» هذا في معبد الكرنك، وهي المعروفة الآن بالبوابة الثالثة قد حشى داخلها بأحجار معبدين من أجمل المعابد التي خلفها لنا الفراعنة. فالأول: للملك «سنوسرت الأول» أحد فراعنة الأسرة الثانية عشرة، والثاني: للملكة «حتشبسوت» من فراعنة الأسرة الثامنة عشرة (راجع ج٥). وقد وُجد لحسن الحظ معظم أحجارها وأُقيم واحد منها في جهة من الكرنك ثانية، والثاني وشيك أن قام هناك، وهكذا يكون انتقام التاريخ، وسنرى أن ما جناه «رعمسيس الثاني» على آثار غيره من الملوك قد جناه «مرنبتاح» ابنه على آثار والده وجده، وقد كانت هذه هي الحال في كل عصور التاريخ المصري.

ولم يبقَ من معبد «مرنبتاح» إلا بعض أحجار وأكوام من الخرائب. والطريق من مدينة «هابو» إلى معبد الرمسيوم تمر الآن في وسط خرائب هذا المعبد، وقد كان في الأصل يشمل بوابتين أمام البناء، وقد اختفتا الآن، وخلفهما كانت توجد قاعة ذات ستة عمد على كل من جانبيها، وفي هذه القاعة لوحة «بني إسرائيل» المشهورة، وبعد هذه القاعة يمكن رؤية بقاياها حتى الآن، وخلفها كان الجزء الأصلي للمعبد، وقد كشف عن بقاياه الأستاذ «بتري» عام ١٨٩٦م،٢١٥ ولم يبقَ لنا منه سوى اللوحة التي اغتصب حجرها من معبد «أمنحتب الثالث» وإلا بقايا تمثالين من الجرانيت الرمادي حفظ لنا في واحد منهما أحسن صورة لهذا الفرعون.٢١٦ ومن الأشياء التي تلفت النظر في هذا المعبد وجود صهريج كبير خارج المعبد في الجهة الجنوبية يوصل إليه باب من المعبد نفسه.

(٨) آثار «مرنبتاح» الأخرى

رأينا أن نهاية عصر «رعمسيس الثاني» وما تم فيه من عمائر، وما أحدث فيه من فن كان ضئيلًا إلى حدٍّ بعيد! إذا ما قُرن بما أنجز من أعمال ضخمة في باكورة حكمه؛ ولذلك لما تولى ابنه «مرنبتاح» لم يجد إرثًا عظيمًا ينفق منه على إقامة المعابد والقصور كما فعل والده بادئ حكمه، ولذلك كان ما خلفه من مبانٍ عظيمة لا يكاد يذكر، وقد عوض ما فاته في هذا المضمار باغتصابه كل ما حلا في عينيه من آثار أسلافه، ولم يفلت منه والده ولا جده المباشر، وقد اتبع في ذلك طريقة وحشية خشنة تدل على انعدام الروح الفنية عنده وعند أولئك القوم الذين قاموا بتنفيذ تعليماته وخططه؛ فقد رأينا أنهم أخذوا ينقشون اسم «مرنبتاح» على كل أثر جميل بعد محو اسم صاحبه بصورة تزور عنها العين وتشمئز منها النفس، ويعافها الذوق السليم، ويأباها الفن الرفيع والوضيع معًا، فكم من تماثيل جميلة للملوك السالفين قد مُحي اسمها المنقوش نقشًا جميلًا، ثم كتب مكانها بحروف غليظة سمجة فجة اسم الفرعون «مرنبتاح» مما شوه الأثر وأضاع معالمه أحيانًا، وإن كان العلم الحديث قد استطاع إلى حد بعيد في كثير من الأحيان نسبة الآثار إلى أصحابها الأصليين بعد فحص دقيق، وتدل شواهد الأحوال على أن «مرنبتاح» أراد أن يقلد والده العظيم في تخليد ذكره على الآثار في كل مكان بأية طريقة ولذلك نجد اسمه على كل الآثار التي كانت باقية حتى عهده، فالأثر الذي لم يكن في استطاعته نسبته كله لنفسه كان ينقش اسمه عليه بجانب اسم صاحبه الأصلي أو المغتصب، إذ كثيرًا ما نشاهد والده قد اغتصب أثرًا من ملك سالف أو كتب اسمه عليه وحسب، ثم جاء من بعده «مرنبتاح» فمحا الاسمين ونقش اسمه، أو اكتفى بنقش اسمه وحده، ولذلك لا يدهش الإنسان عندما يرى اسم «مرنبتاح» في كل مكان أثري، وليس من عمل فيه إلا نقش اسمه. وسنذكر هنا الآثار التي قام بصنعها فعلًا، مفصلين القول فيها بقدر المستطاع، كما سننبه إلى الآثار التي اغتصبها من غيره أو اكتفى بكتابة اسمه عليها.

(٨-١) سرابة الخادم

يظهر أن «مرنبتاح» قد قام ببعض النشاط في «شبه جزيرة سيناء» إذ نجد في «سرابة الخادم» مصراع باب عليه اسمه، وكذلك وُجدت بعض الأواني التي عليها طغراؤه.٢١٧

(٨-٢) أبو قير

عُثر في هذا المكان على تمثال من الجرانيت الأحمر عليه اسم «مرنبتاح» ولكنه كان في الأصل لوالده «رعمسيس الثاني» وهو محفوظ الآن بالمتحف المصري.٢١٨

(٨-٣) الإسكندرية

وبالقرب من عمود السواري وُجد الجزء الأعلى لتمثال من الجرانيت الأسود عليه اسم «مرنبتاح»، ودل البحث على أنه اغتصبه من «سنوسرت الأول» أحد ملوك الأسرة الثانية عشرة، أما الرأس فقد عُثر عليه في الحي الغربي.٢١٩

(٨-٤) تانيس

لم يترك «مرنبتاح» في هذه العاصمة الدينية الكبرى من الأعمال الأصلية إلا تمثالين من الجرانيت.٢٢٠ أما ما اغتصبه من الآثار من سلفه في هذا البلد فكثير، نذكر منه ما يأتي:
  • أولًا: تمثال «بو الهول»، وهو محفوظ الآن «باللوفر» (S. 23) نُقش عليه اسم «مرنبتاح» على الصدر والكتف، ويرجع عهده إلى الدولة الوسطى، وكان قد اغتصبه من قبل «سيتي الأول» فكتب اسمه على قاعدته وكتفه،٢٢١ وكذلك كتب اسمه على تمثال يمثل «بو الهول» وهو الآن «بمتحف القاهرة»، وقد نقش «سيآمون» على كتف التمثال الأيسر اسمه، كما كتب «سيتي الأول» اسمه على القاعدة.٢٢٢
  • ثانيًا: ثلاثة تماثيل نقش عليها «مرنبتاح» اسمه، وكلها مغتصبة من «سنوسرت الأول» واحد منها في «برلين» والآخران «بمتحف القاهرة» وكلها من الجرانيت الأسود.٢٢٣ وكذلك وجد له في «صان الحجر» قاعدة تمثال ضخم من الجرانيت الرمادي جالس اغتصبه من «سنوسرت الأول».٢٢٤
    ووجدت له قطعة من الحجر عليها اسمه، وقد استعملها ثانية «سيآمون» في محرابه الذي أقامه في «صان الحجر»،٢٢٥ ووجد له تمثال في «تانيس» أيضًا،٢٢٦ وكذلك قاعدة تمثال وقطع صغيرة من مجموعة تماثيل تمثل «مرنبتاح» بين الإله «بتاح» وإلهة،٢٢٧ وأخيرًا وُجد له قطعة جرانيت باسمه مثل فيها وهو يتعبد أمام الإله «نفرتم» وأمام الإله «حور» الممثل برأس صقر.٢٢٨

(٨-٥) نبيشه

وفي «نبيشه» وُجد له أثر فريد في بابه وهو عمود من الجرانيت الأحمر ليس له تاج، ولكن على سطح قمته الأسطواني المنبسط يقف صقر يحمي صورة الفرعون الراكع، ويمكن قرن هذا الأثر بالأعلام التي على دعامات منصوبة على كلا جانبي التماثيل، والظاهر أنه دعامة ضخمة من هذا النوع نصب في هذا المعبد.٢٢٩

(٨-٦) تل بسطة

لم يُعثر للملك «مرنبتاح» في هذه البلدة إلا على قطع من تمثال جالس مصنوع من الحجر الجيري الأبيض ومعه ابنه «سيتي مرنبتاح» الذي أصبح فيما بعد «سيتي الثاني» وقد عُثر عليها في المعبد في قاعة «نخت حر حب» (نقطانب) في الجانب الشمالي من المدخل، وهذه القطع محفوظة الآن «بالمتحف المصري».٢٣٠

(٨-٧) تل الربع: (منديس)

وهي عاصمة المقاطعة السادسة عشرة من مقاطعات الوجه البحري، وجد فيها قطع ودائع أساس باسم «مرنبتاح».٢٣١

(٨-٨) تل المقدام

عُثر في هذا التل على الجزء الأسفل لتمثال من عهد الدولة الوسطى اغتصبه لنفسه «مرنبتاح» بعد أن كان قد اغتصبه «نحسي» أحد ملوك الأسرة الثالثة عشرة، وهو الآن «بالمتحف المصري» ويرجع عهده إلى الأسرة الثانية عشرة.٢٣٢

(٨-٩) تل أم حرب (أو تل مصطاي: بالقرب من محطة «قويسنا» (مديرية المنوفية))

وُجد في هذه القرية بقايا معبد من العهد المتأخر، وقد استُعملت في بنائه أحجار من معبد قديم كما تدل على ذلك الأحجار التي وُجدت منه باسم «رعمسيس الثاني» وكذلك باسم ابنه «مرنبتاح»، فقد جاء ذكره على ثلاث قطع مختلفة، وقد جاء ذكره مع والده مرتين، وربما يدل على ذلك أنهما كانا مشتركين في الملك غير أن ذلك لم يثبت بعد. (راجع A. S. XI p. 165 ff).

(٩) كفر متبول (مركز كفر الشيخ)

يُوجد في قلب هذه القرية مجموعتان من التماثيل، ملقاتان على الأرض تمثل كل منهما الملك «مرنبتاح» واقفًا على قاعدة وبجانبه إله واقف أيضًا ويبلغ ارتفاع كبراهما حوالي خمسة وسبعين سنتيمترًا ومترين، وعرضها حوالي متر واثنين وعشرين سنتيمترًا ١٫٢٢، ولا يقل وزن كل منهما عن اثني عشر طنًّا، وقد كان أول من رآهما وكتب عنهما «أحمد بك كمال» عام ١٨٩٣م، وقد زار المكان الأثري «جوتييه» عام ١٩٢٢م ونقل نقوشهما ثانية ووصفهما، فقال عن المجموعة الكبيرة إنها ملقاة على الأرض على ظهرها، وإن الكتابة التي على الظهر لم يكن في استطاعته مراجعتها بدقة، ويظهر فيها الفرعون على اليمين مرتديًا «الكوفية» وقرص الشمس المحلى بالصل يعلوه عقاب منتشر الجناحين، وذراعه اليمنى مطوية على صدره، ويقبض بيده على رمز من رموز الملك لم تمكن رؤيته، على حين أن الذراع اليسرى مرسلة على فخذه، ويقبض على جريدة نخل، وهي رمز السنين العدة التي حباه بها الإله، وقد كُتب عليها نقش يدل على كثرة الأعياد الثلاثينية للملك في سلام … الخ، وعلى سرة الفرعون نُقش طغراؤه، وعلى يمينه الإله «رع» برأس إنسان، ولباس رأسه مثل لباس رأس الملك وعلى ظهر المجموعة كُتبت ستة أسطر، مقسمة قسمين أعلى كل منهما مجموعة آلهة، ظهر كل منهما للأخرى، وفي كل مجموعة ترى الإله «رع» أو «آتوم» جالسًا يقدم رمز الحياة «لحور» الذي يمثل الملك، والنقوش تحتوي على الصيغ العادية، والألقاب الفرعونية لهذا الملك. أما المجموعة الثانية فأقل حجمًا من السابقة وهي ملقاة على الأرض بظهرها.

والظاهر أن الملك هو الذي على اليسار والإله على اليمين، وتدل شواهد الأحوال على أنهما ممثلان من حيث الملابس والشكل على نمط صور الفراعنة، ويلفت النظر في نقوش هذين التمثالين ظهور الاسم الحوري للفرعون بصورة جديدة لم تكن معروفة من قبل وهو المفيد «لرع» أو المفيد «لآتوم» وقد جاء في هذا المتن خلافًا للألقاب الفرعونية الصيغة الآتية:
إني أمنحك الأراضي الأجنبية تحت سلطان الخوف منك كل يوم.٢٣٣

(٩-١) بلبيس

وعُثر على قطعة من الجرانيت الأحمر منقوش عليها اسمه في «بلبيس».٢٣٤

(٩-٢) تل اليهودية

وفي «تل اليهودية» وُجد «لمرنبتاح» عمود عليه اسمه في المعبد الذي أقامه «رعمسيس الثاني» وهو مهدم الآن.٢٣٥

(٩-٣) هليوبوليس

وُجد في «هيلوبوليس» مجموعة تماثيل تمثل «رعمسيس الثاني» وابنه «مرنبتاح» والإله «أوزير».٢٣٦

(٩-٤) عرب الأطاولة

وُجد في «عرب الأطاولة» جبانة للعجول المقدسة عُثر فيها على تابوت للعجل «منفيس» مؤرخ بعهد «مرنبتاح» وهو محفوظ الآن «بمتحف بروكسل». (راجع Speelers. Rec. Des. Insc. Egypt p. 66 (277) and Porter and Moss IV p. 59).

(٩-٥) قها

عثر «دراسي» على قطعتين من مسلة باسم الفرعون «مرنبتاح» وهما محفوظتان الآن «بالمتحف المصري» ويبلغ طولهما نحو ستة أمتار تقريبًا، والنقوش التي عليهما تدل على كبرياء «مرنبتاح» وتشبهه بالإله «آتوم».٢٣٧

(٩-٦) أتر النبي

في عام ١٩٢٩ كشف «حمزة» بك عن تمثال مهشم للملك «مرنبتاح» لم يتبقَّ منه إلا الجزء الأسفل، ويمثل الفرعون راكعًا، قابضًا بين يديه على محراب صغير في داخله تمثال الإله «رع حور» برأس صقر، وعلى رأسه تاج مؤلف من قرص الشمس يكنفه ريشتان ويستند على قرنين، وعلى قمة المحراب صورة جعل مجسم يرمز به لإله الشمس «خبرى». وتدل تفاصيل قميص الفرعون وتفاصيل نعليه على فن جميل، ويبلغ طول التمثال حوالي متر، ومساحة قاعدته (٠٫٣٣ × ٠٫٥٧٥ مترًا) وقد كتب على واجهة المحراب لقبه الحوري وهو: «حور الثور القوي المبتهج بالعدالة»، ونُقش كذلك على مصراع المحراب الأيسر ألقابه المعروفة وهي: «المنسوب للإلهتين المشرق مثل «بتاح» في مقر مئات آلاف السنين، ملك الوجه القبلي والوجه البحري «بان رع مري نترو» (روح «رع» محبوب الآلهة) ابن «رع» «مرنبتاح» «حتب حرماعت» (محبوب «بتاح» المنشرح بالعدالة) محبوب «حعبي» (النيل) والد الآلهة.»

وعلى المصراع الأيمن نجد لقب «حور» الذهبي للفرعون، وهو: «حور الذهبي الذي يجعل مصر عظيمة …» — وهذا اللقب الخاص بحور الذهبي ليس له نظير في النقوش التي كشف عنها حتى الآن — ملك الوجه البحري … الخ.

وعلى الجانب الأيسر للمحراب نُقشت طغراء الفرعون يسبقها بعض نعوته. وعلى جانب المحراب الأيمن نقوش تماثل التي على الجانب الأيسر. وكذلك على ظهر العمود الذي يرتكز عليه تمثال الفرعون نُقشت طغراؤه وألقاب مماثلة.

وحول القاعدة نقش:

ملك الوجه القبلي والوجه البحري، والده «حعبي» (النيل) محبوب الآلهة … الخ.

وعلى قمة المحراب جعل كبير مجسم وهو رمز إله الشمس «خبرى» يكنفه طغراءان، والمهم في ذلك كله هو صورة الجعل الذي على قمة المحراب، وصورة الإله «رع حور» التي في داخله؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى المكان الذي وُجد فيه هذا التمثال الممثل بهذه الصورة الغريبة في بابها.

وإذا فحصنا عن هيئة التمثال والصورة الداخلية للمحراب والجعران الذي على قمته اتضح لنا جليًّا أن «مرنبتاح» كان قد قدمه في معبد من معابد الشمس، ولا بد أن المكان الذي وجد فيه وهو «أتر النبي» هو موضعه الأصلي؛ وتحتم شواهد الأحوال وجود معبد في هذا المكان للإله «آتوم» أقدم الآلهة الشمسية في منطقة «عين شمس»، وهذا الإله كان يوحد بإله الشمس «رع حور» الذي وُجدت صورته في قلب المحراب.

وقد حدث أن الأستاذ «جولنشف» زار هذا الموقع الذي وجد بجواره التمثال عام ١٨٨٩م، ورأى في مكان «الجنابية» القريبة من سكة الحديد بالقرب من المكان الذي وجد فيه التمثال بقايا لتمثال «بو لهول» بدون رأس (وبو لهول هو رمز الشمس) من الجرانيت الأحمر؛ وعليه طغراء الملك «أحمس الثاني» أحد ملوك الأسرة السادسة والعشرين كما وُجد كذلك قطع من الحجر الجيري عليها نقوش في نفس الجهة، وقد قال عنها ما يأتي: «وكل هذه البقايا الأثرية الخاصة بمبنًى قديم قد وُجدت عند سفح تلٍّ صخري ذي نتوء متجه نحو وادي النيل، ولا بد أن هذا المبنى القديم كان يستند على هذا النتوء، بل من الجائز أن هذا النتوء الصخري كان يؤلف جزءًا من المعبد الذي كان فيه تمثال «بو لهول» وقطع الأحجار الجيرية السالفة الذكر.»

وتدل الظواهر على أن الموقع الذي يحتله هذا المعبد القديم بالنسبة لمدينة «منف» هو «خرعحا» (أي مصر القديمة). هذا بالإضافة إلى أن هذا المعبد يحتمل أنه كان قد أُقيم عند «سفح التل» وقطع في جزء منه، وقد أوحى موقع هذا المكان بالرجوع إلى الفقرة التي جاءت في لوحة «بعنخي» الأثيوبي الأصل التي يذكر لنا فيها هذا الفاتح الحوادث التالية بعد استيلائه على «منف»:
وعندما أشرقت الأرض استأنف جلالته المسير شرقًا في الصباح المبكر، وقدم قربانًا «لآتوم» صاحب «خرعحا» وتاسوع «بربسزت» وكهف الآلهة الذين كانوا فيها.٢٣٨ ثم تقدم جلالته نحو «هليوبوليس» على جبل «خرعحا» على طريق «سب» حتى مدينة «خرعحا».

والواقع أن كشف هذا التمثال في «أتر النبي» في المكان الذي عثر فيه «جولنشف» على الآثار التي ذكرناها قد ألقى بعض الضوء على مكان المعبد الذي زاره «بعنخي» وهو الذي زخرفه فيما بعد الفرعون «أحمس الثاني»، وبعبارة أخرى يمكن أن نقول إن «أتر النبي» هو موقع «خرعحا» القديمة على وجه التأكيد؛ وكذلك معبد «بربسزت» حيث كانت معابد «آتوم» والتاسوع، وكذلك مكان الكهف. ولا نزاع في أن المحراب الذي يشمل في داخله صورة الإله «رع حور» وصورة الإله «خبرى» رمز الإله «رع» على قمته يجعل من الواضح أننا أمام موقع معبد لإله الشمس قد أهدى له التمثال الذي نحن بصدده الآن، وأن هذا المعبد هو كما ذكرنا معبد «آتوم» الذي زاره «بعنخي». وتدل الأحوال على أن معبدي «خرعحا» و«بربسزت» كانا موجودين قبل عهد «مرنبتاح»، كما تدل على ذلك لوحة «رعمسيس الثاني» المؤرخة بالسنة الثامنة من حكمه (راجع مصر القديمة ج٦). وقد جاء فيها: إن «رعمسيس» كان يتنزه في صحراء «هليوبوليس» جنوبي معبد «رع» وشمالي معبد التاسوع، وأمام معبد «حتحور» سيدة الجبل الأحمر. ولهذه التوضيحات الجغرافية أهمية عظيمة؛ لأنها تحدد لنا مكان معبد التاسوع بالنسبة لمعبد «رع» في «هليوبوليس». إذ تدل على ما يظهر على أن «رعمسيس» كان يتنزه في طريق هام معروف يربط «هليوبوليس» ببلاد المقاطعة الهليوبوليتية على الشاطئ الشرقي للنيل بما في ذلك «خرعحا» و«بربسزت» وهما اللذان زارهما «بعنخي».

والطريق التي ذُكرت في لوحة «رعمسيس الثاني» تقع بين «هليوبوليس» في الشمال، و«خرعحا» و«بربسزت» في الجنوب. والظاهر أنه كانت توجد طريق مقدسة تخترق الصحراء، وتربط هذه المدن التابعة لمقاطعة «هليوبوليس» بعضها بالبعض الآخر. وتذكر لنا اللوحة اسم هذه الطريق «طريق سب» إلى «خرعحا» (راجع ما كتبه حمزة بك عن هذا الطريق A. S. XXXVII p. 240 f). وبهذه المناسبة نذكر أن «مرنبتاح» قد أقام معبدًا في «هليوبوليس» نفسها يُدعى مقام «مرنبتاح حتب حرماعت في بيت رغ»، وهذا المعبد لم يأتِ ذكره إلا في ورقة «فلبور» ص٢٨، كما لم يأتِ ذكره على أي أثر آخر. أما «بحنو» الذي ذُكر اسمه مع ضياع هذا المعبد فهو مالك الأطيان التي جاء ذكرها في الصفحات ٢٨، ١٣، ٣١. (راجع Wilbour Papyrus Vol II p. 137 No 79).)

(٩-٧) منف

أقام «مرنبتاح» معبدًا لا تزال بقاياه في «كوم القلعة»٢٣٩ وقد عثر «كويبل» منه على عتب باب،٢٤٠ وقد استعمل «مرنبتاح» في إقامته أحجارًا من الأسرة الخامسة؛ وكذلك من آثار أخيه «خعمواست».٢٤١
هذا وقد نقش اسمه على جدران معبد «ميت رهينة»٢٤٢ كما ذكر ألقابه المعروفة ونقش اسمه على عمود في نفس البناء الذي أقامه «أمنمحات الثالث» وله قاعدة تمثال محفوظة الآن بمتحف «فرانكفورت» وُجدت في هذه الجهة.٢٤٣

(٩-٨) قصر مرنبتاح

وقد كُشف له عن بقايا قصر شرقي المعبد السالف الذكر. عُثر على بعض بقاياه في «كوم القلعة» وكان أول من كشف عن هذا القصر الأثري «إدجار».٢٤٤ وقد جاء كشفه عفوًا على يد بعض العمال الذين كانوا يستخرجون السماد من هذه الجهة عام ١٩١٤م، إذ عثر على بعض قطع منحوتة في الحجر الجيري الأبيض، وقد قام «إدجار» ببعض الحفائر في هذا المكان أدَّت إلى كشف قاعة كبيرة مؤدية إلى أخرى، وقد وجد على مصاريع الأبواب اسم الفرعون «مرنبتاح»، وكان أول شيء لفت نظر الكاشف في هذه الأحجار أن الرموز الهيروغليفية التي عليها كانت مرصعة بالخزف الأخضر على الأحجار، وهذه الصناعة الغريبة تعيد إلى الذاكرة زخرفة حجرات «رعمسيس الثالث» في مدينة «هابو» و«تل اليهودية» كما سنتحدث عن ذلك بعد، ومن ثم استنبط «إدجار» أن هذه الأحجار تدل على وجود قصر «لمرنبتاح»، وهذا القصر يقع فعلًا في الجنوب الشرقي من معبده الذي كشف عنه «بتري» في «ميت رهينة» عام ١٩٠٩، وقد كشف «إدجار» عن الباب الأصلي الواقع في الجهة الشمالية، ووجد في كل من الجدارين الجانبيين بابًا صغيرًا يؤدي إلى قاعة. وجدران هذا القصر من اللبن كما هي العادة في المباني الدنيوية، ولا يزال بعضها باقيًا حتى الآن. وتدل شواهد الأحوال على أنها كانت كلها ملونة، بيد أن الرطوبة قد طغت عليها، وكذلك كانت رقعة القاعة الرئيسية مكسوة بالحجر الجيري الأبيض، وكان ارتفاع سقفها حوالي خمسة أمتار ونصف متر، وكل نقوش العمد كانت مرصعة بالزخارف، على حين أن الصور التي كانت على قواعدها محفورة في نفس الحجر وملونة بالأزرق، وكان في وسط كل عمود صورة للفرعون محفورة حفرًا بارزًا تمثله وهو خارج من قصره، وتنحصر أهمية هذا الكشف أولًا في أنه قصر ملكي، وثانيًا في أن كل الزخرف الذي زينت به العمد والأبواب مرصع بالخزف بكمية وفيرة.
وقد قام الأستاذ «فشر» بالكشف النهائي عن كل هذا القصر، فكشف عن البوابة الجنوبية، وعلى جدرانها يُشاهَد الفرعون «مرنبتاح» يتقبل علامة العيد الثلاثيني من الإله «بتاح».٢٤٥
وقد وُجد في هذا القصر لوحة تذكارية لكاهن الإله «بتاح» المسمى «معي». وفي قاعة العرش نشاهد السدة الملكية محلاة بمناظر تمثل بعض الأجانب،٢٤٦ وكذلك وُجدت فيه بعض وحدات للموازين.٢٤٧
ومن المحتمل أن معبد «مرنبتاح» أو قصره هو الذي أشير إليه في ورقة «فلبور».٢٤٨

(٩-٩) أهناسية المدينة

وُجد في معبد الإله «حرشف» (حرسفيس) «بأهناسيا المدينة» بعض عمد من الجرانيت الأحمر من عهد الأسرة الثانية عشرة، وقد استعملها «رعمسيس الثاني»، وابنه «مرنبتاح» في مبانيهما.٢٤٩

(٩-١٠) كوم العقارب

وفي «كوم العقارب» القريبة من «أهناسيا المدينة» يوجد تمثالان ضخمان «لرعمسيس الثاني»، وقد كتب «مرنبتاح» اسمه على أصغرهما حجمًا، ويرجع عهده إلى الأسرة الثانية عشرة، ويبلغ طوله ٣٫١٧ مترًا، ويزن حوالي ٢٨٠٠ كجم، وهذان التمثالان قد أُقيما في معبد بُني في هذه الجهة، وهما الآن في «المتحف المصري»، والظاهر أنهما كانا في الأصل للفرعون «سنوسرت الثالث» وعلى الرغم من بعض التشويه الذي أصابهما فإنهما يُعدَّان من القطع الفنية التي تمثل الفن المصري في عهد الدولة الوسطى في الأسرة الثانية عشرة.٢٥٠

(٩-١١) الأشمونين

في عام ١٩٠١ عثر «شعبان أفندي» مفتش الآثار على تمثال للفرعون «مرنبتاح»، وقد صُوِّر على جانبه الأيسر صورة الأمير «سيتي مرنبتاح». ومعه الألقاب التالية: الأمير الوراثي، رئيس الأرضين، وكاتب الملك، وقائد الجيش الأعظم، بكر الملك المسمى «سيتي مرنبتاح». وهذه هي الألقاب التي كان يحلها ولي العهد في ذلك العصر، وقد خلف والده على عرش الملك، والتمثال نفسه ممثل واقفًا على قاعدة في هيئة «حب» وهي رمز العيد، ويلبس جلد الفهد، ويقبض في كل من يديه على إضمامة نقرأ على سمكها اسم «مرنبتاح»، وقد كُتب على قميصه: «يعيش الإله الطيب الذي يقيم الآثار، ملك الوجه القبلي والوجه البحري «مرنبتاح» بن «رع» «حتب حر ماعت مري آمون» محبوب «تحوت».» وعلى ظهر العمود الذي يرتكز عليه التمثال نُقش سطران عموديان وهما: (١) «حور الثور القوي» — ويُلاحظ هنا أن كلمة «ثور» معناها «السيد الشديد البأس» وهذا المعنى معروف في العربية. الذي يبتهج بالعدالة، وهي التي أعطاكها «رع» قربانًا، ملك الوجه القبلي والوجه البحري «بان رع»، محبوب الآلهة ابن «رع»، وسيد التيجان «حتب حرماعت»، محبوب «آمون» رب الأشمونين. (٢) حور الثور القوي الذي يبتهج بالعدل: إني أمنحك مكان صدق «رع» بوصفك ملك الوجه القبلي والوجه البحري، رب الأرضين «بان رع»، محبوب «آمون» ابن الشمس الخ. والظاهر أن «رعمسيس الثاني» كان يشعر بأنه سيُعامَل بمثل ما عامل الآخرين من اغتصاب آثاره، فنقش اسمه على رقعة قاعدة التمثال من أسفل حتى يظل اسمه باقيًا، وهكذا نرى أن الغاصب كان ابنه من صلبه.

وقد عُثر على هذا التمثال أمام المعبد الذي كشف عنه فيما بعد «شعبان أفندي»، وتدل النقوش التي عليه على أنه كان قد اشترك في بنائه عدد من ملوك الأسرة التاسعة عشرة.

وعلى واجهة المعبد من الجهة اليمنى الشمالية نشاهد «مرنبتاح» يقدم القربان للإله «تحوت» ولستة آلهة آخرين، وأسفل ذلك نقش طويل يشمل دعاء من الملك للإله «تحوت» رب «الأشمونين» وللآلهة الأخرى الذين معه، وقد عدَّد فيه القرابين التي قر بها لهم كما ذكر فيه مناقب الإله «تحوت» وصفاته.٢٥١
وفي هذه الجهة وُجدت كذلك قطعة من الحجر عليها بقايا اسم «مرنبتاح».٢٥٢

(٩-١٢) محاجر تل العمارنة

وُجد اسم «مرنبتاح» على محاجر «تل العمارنة».٢٥٣

(٩-١٣) السريرية

نحت الفرعون «مرنبتاح» محرابًا للإلهة «حتحور» في الصخور في هذه الجهة.٢٥٤ ويُشاهَد على أحد جانبي المدخل لهذا المحراب الملك، وعلى الجانب الآخر الإله «أوزير».٢٥٥ وعلى الجدار الأيسر للقاعة ثلاثة مناظر يُشاهَد فيها الملك والملكة (مهمشة) أمام إله وإلهة، وأمام «حتحور» وأخيرًا أمام «آمون رع». وكذلك نشاهد طغراء «سيتي الثاني» أسفله، وفي الجدار الخلفي ثلاثة تماثيل للملك والملكة و«حتحور»، وعلى الجدار الأيمن للقاعة نفسها يرى الملك وهو يقدم خبزًا للإله «أنوبيس» وصاحبها للإلهة «حتحور» ورمز العيد الثلاثيني للإله «بتاح».٢٥٦

(٩-١٤) العرابة المدفونة

وُجد لهذا الفرعون ثلاثة تماثيل أوزيرية الشكل، وقد ترك منها «مريت» اثنين في مكانهما، وواحد منهما بدون رأس محفوظ «بالمتحف المصري»٢٥٧ وقد أصلح «مرنبتاح» على يد كل من «أحمس» كاهن أوزير، و«يويو» الكاهن الأول لأوزير تمثال صقر «لأمنحتب الثاني» كان قد أهداه «أمنحتب» لهذا الإله (راجع ج٦).

(٩-١٥) طوخ (نبت)

يُوجد في هذه البلدة معبد للإله «ست» يرجع تاريخه إلى عهد الأسرة الثامنة عشرة، وقد أعاد بناءه «رعمسيس الثاني»، ولكنه الآن مهدم، وقد وُجد على بوابة «رعمسيس الثاني» نقش مُؤرَّخ بالسنة الخامسة من عهد «مرنبتاح».٢٥٨

(٩-١٦) معبد الأوزريون

(راجع مصر القديمة ج٦): تحدثنا عن هذا المبنى العجيب في الجزء السادس، وقلنا إن معظم النقوش فيه ترجع إلى عهد «مرنبتاح»، وتحوي فصولًا من كتاب البوابات، وكتاب ما في العالم السفلي، و«كتاب الموتى».

وقد نُقش على الجدار الغربي كتاب البوابات، وهو في الواقع رواية أخرى للنقوش التي على تابوت الفرعون «سيتي الأول» المحفوظ الآن «بمتحف ساوون». والواقع أن كل النقوش التي على هذا الضريح قد قام بها «مرنبتاح» إلا نقوش الحجرة الداخلية، ولا نزاع في أن هذا المبنى كما ذكرنا قد وضع تصميمه الفرعون «سيتي الأول» ليكون ضريحًا له.٢٥٩

(٩-١٧) معبد سيتي

وفي معبد «سيتي» في الجزء الذي أقامه «رعمسيس الثاني» نجد في القاعة الأولى منظرًا يمثل موكبًا يسير فيه أولاد «رعمسيس الثاني»، وتحته متن باسم «مرنبتاح»،٢٦٠ وعند مدخل باب هذه القاعة نجد بقايا متن على عتب وألقاب الفرعون على سمك المدخل الأيسر.٢٦١

(٩-١٨) دندرة

يوجد في الجهة الغربية من معبد «دندرة» القديم محراب صغير للإلهة «حتحور» سيدة «ايونت» (دندرة) أقامه الفرعون «منتوحتب الثاني» أحد ملوك الأسرة الحادية عشرة، وهذا المحراب يشمل حجرة صغيرة تبلغ مساحتها مترين وعشرين سنتيمترًا طولًا في مترين وخمسة وأربعين سنتيمترًا عرضًا. وبابها نحو الشرق، وكل نقوشها الداخلية من عهد «منتوحتب»، وتقدم لنا مثالًا رائعًا عن جمال الفن في عهد الأسرة الحادية عشرة (راجع مصر القديمة ج٣)، وقد أضاف «مرنبتاح» نقوشًا باسمه على مدخل هذا المحراب، وغير بعض الشيء أبعاده الأصلية، إذ نلحظ من الأحجار التي نقشها «منتوحتب» أن هذا المحراب في الأصل كان لا يزيد عرضه عن ١٫٣٢ مترًا، وطوله ١٫٨٠ مترًا، وبقية الأبعاد نقشها «مرنبتاح» بنقوش غائرة، غير أنها على ما يظهر لم تبقَ في مكانها، أو انتزعت منه.٢٦٢ والنقوش الباقية «لمرنبتاح» تشمل اسمه وألقابه وإهداء بابه للإلهة «حتحور» سيدة «دندرة» وربة السماء وسيدة الأرضين.

(٩-١٩) المدمود

عُثر في معبد «المدمود» على قطع من الحجر الرملي وعليها اسم «مرنبتاح».٢٦٣

(٩-٢٠) «طيبة» (الكرنك) معبد منتو

وُجد طغراء «مرنبتاح» وبقايا تاريخ على الجدار الخلفي لمعبد «منتو» بالكرنك،٢٦٤ وكذلك كُتب اسمه على مسلة «تحتمس الأول» الشمالية.٢٦٥

وفي الجزء الأوسط من معبد الكرنك نجد «مرنبتاح» مصورًا في صفين يقدم الأزهار «لآمون» و«امنت»، وكذلك أمام «آمون رع».

ووُجد لهذا الفرعون تمثال راكع في قاعة الأعياد التي أقامها «تحتمس الثالث».٢٦٦
وفي خبيئة «الكرنك» وُجد له تمثال من الجرانيت الأسود يبلغ ارتفاعه مترًا وخمسة وثلاثين سنتيمترًا، وهذا التمثال صناعته متقنة جدًّا إلا أنه مُثل في صورة جامدة خالية من الرشاقة، وتدل نقوشه على أن الفرعون كان قد أهداه إلى الإله «آمون» ملك الآلهة عندما ذهب ليرى والده الذي يحبه في السنة الثانية من حكمه.٢٦٧

(٩-٢١) الأقصر

نقش «مرنبتاح» اسمه في معبد الأقصر،٢٦٨ وكذلك وُجد له خارج قاعة «رعمسيس الثاني» تمثالان جالسان على كلا جانبي الباب الشرقي، هما الآن في «نيويورك» بمتحف «متروبوليتان».٢٦٩

(٩-٢٢) معبد الدير البحري

وفي معبد الدير البحري وُجد لهذا الفرعون الجزء الأسفل لمتن مؤرخ بالسنة الثالثة من حكمه في قاعة العمد العلوية،٢٧٠ وفي معبد الفرعون «سبتاح» وُجدت نقوش باسم «مرنبتاح» على آنية مؤرخة بالسنتين الثالثة والرابعة من حكمه.٢٧١
وبالقرب من معبد «الرمسيوم» وُجد «لمرنبتاح» تمثال في حفرة وهو الآن «بمتحف القاهرة».٢٧٢
وفي معبد مدينة «هابو» نشاهد له متنًا خارج المحراب مؤرخًا بالسنة الثانية من عهده.٢٧٣

(٩-٢٣) أرمنت

كانت علاقة «مرنبتاح» «بأرمنت» ومعبدها وثيقة، فقد أصلح سلسلة التماثيل الأوزيرية الشكل التي وُجدت في ردهات المعبد، كما أضاف اسمه على البرج.

ومن الطريف أن «مرنبتاح» محا اسم والده الذي كان على نقوش بوابة معبد «أرمنت» ووضع مكانها اسمه، غير أن طريقة المحو التي اتبعها كانت غير متقنة؛ إذ وضع طبقة من الجص فوق اسم والده، ثم كتب اسمه عليها، ولكن الجص سقط، وظهر اسم «رعمسيس الثاني» ثانية.٢٧٤

(٩-٢٤) السلسلة

نحت «مرنبتاح» لنفسه محرابًا في صخر السلسلة،٢٧٥ ويُعد هذا المحراب من الآثار الهامة التي تركها لنا «مرنبتاح»، ويحتوي على كوة واسعة مرتفعة مقطوعة في الصخر، وفي نهاية هذه الكوة لوحة كبيرة مُثل على جانبيها سلسلة آلهة، وعلى جانبي المدخل عمود رشيق المنظر، وقد حلى أعلى المحراب «كورنيش»، ولا تزال بقايا ألوانه الزاهية التي كانت تحليه ظاهرة بعض الشيء حتى الآن. وعلى قمة اللوحة التي في هذا المحراب يُشاهد «مرنبتاح» يتعبد لثالوث «طيبة» وهم «آمون» و«موت» و«خنسو»، ولثالوث آخر من «حرمخيس» و«بتاح» و«حعبي» (النيل). وقد أُرِّخ هذا المحراب بالسنة الأولى من حكم هذا الفرعون في متن أنشودة للنيل، أُشير فيها إلى تأسيس عيد للنيل يقدم له فيها قرابين كثيرة، أصدر بها الفرعون أمرًا خاصًّا، وعلى الجدار الشمالي نشاهد أربعة صفوف من الصور الإلهية، ففي الصف الأول يظهر الملك مقدمًا القربان «لأوزير» و«إزيس» و«رعمسيس الثاني»، وفي الصف الثاني يقرب القربان للإله «سبك» رب «أمبوس» وإلهة، وإلى «حور»، وفي الصف الثالث يقدِّم للإله «سبك» رب «السلسلة» و«حتحور» وإلهتين أخريين، وفي الصف الرابع نشاهد صورتين للإله «حعبي» (النيل).

وعلى الجدار الجنوبي نشاهد في الصف الأعلى الملك يقرب القربان «لرعمسيس الثاني» ولإلهين، وفي الصف الثاني يقرب للآلهة «أنحور» و«تفنوت» و«جب»، وفي الصف الثالث تقدم الملكة «است نفرت» للآلهة «تاورت» و«تحوت» و«نوت»، وفي الصف الرابع نشاهد صورتين لإله النيل «حعبي» ثانية.

وبين هذا المحراب والمحراب الذي يليه نُحتت لوحة صغيرة أخرى نشاهد عليها «مرنبتاح» يقدم صورة العدالة للإله «آمون رع». وخلف الفرعون ترى صورتين لعظيمين من كبار رجال دولته، أحدهما «بانحسي» وزيره المعروف.٢٧٦
وكذلك توجد لوحة لهذا الفرعون منحوتة في الصخر، يُشاهد فيها يتبعه «رومع روى» الكاهن الأول «لآمون» أمام الإله «آمون رع».٢٧٧

(٩-٢٥) أسوان

شُوهد تمثال ضخم من الجرانيت الأحمر يمثل «أوزير» بالقرب من معبد «الفيلة»، وكذلك وُجد متن فيه طغراء «مرنبتاح» يحتمل أنه قطعة من ظهر التمثال السالف الذكر.٢٧٨

(٩-٢٦) بلاد النوبة

يدل ما لدينا من كشوف حتى الآن على أن «مرنبتاح» لم يكن له نشاط كبير في بلاد النوبة، وكل ما وُجد له حتى الآن نقش على جدران مدخل معبد «أمدا» يتألف من ثلاثة عشر سطرًا، تشير إلى حملة قام بها هذا الفرعون على هذه البلاد. (راجع Rec. Trav XVIII p. 195).

(٩-٢٧) عمارة غرب

تقع بلدة «عمارة غرب» على الشاطئ الأيسر للنيل، على مسافة ١١٥ كجم جنوبي «وادي حلفا»، وقد وُجد فيها بقايا بلدة قديمة من عهد الدولة الحديثة، وتقع على تل عظيم بالقرب من النهر، وقد كُشف فيها عن معبد بقي من جدرانه الأجزاء الخارجية، وقد زُينت بالنقوش والمناظر، فنشاهد عليها صورة الإله «آمون رع» و«حور» و«مين» و«بتاح» و«رعمسيس الثاني». أما داخل المعبد فقد كان أحسن حفظًا من خارجه، إذ إن كل الصف الأسفل من النقوش محفوظ، وفي كثير من الأماكن بقيت ألوان الأشكال الأصلية محفوظة، ولم تُشوه الصور بيد أن الزمن قد عدا عليها، ومدخل هذا المعبد الرئيسي من الشمال. ونشاهد على نهاية الجدار الجنوبي للبوابة نقشًا أُرخ بالسنة السادسة من عهد «مرنبتاح»، ويقص علينا عودة جيش منتصر في السنة الخامسة، وهذا النقش بطبيعة الحال يشير إلى حروب «مرنبتاح» مع بلاد «لوبيا» وانتصاره عليها، والمتن نفسه يظهر أنه صورة مطابقة للوحة في معبد «أمدا».٢٧٩
وقد عُثر لهذا الفرعون على آثار أخرى مبعثرة في متاحف العالم، نخص بالذكر منها ما يأتي:
  • (١)
    جذع تمثال بدون رأس موجود الآن بمجموعة «مرى كوفر». (راجع Weidemann, Gesch. 497).
  • (٢)
    قاعدة تمثال في متحف تورين. (راجع Lanzone, Catalogue Turin 1382).
  • (٣)
    قطعة من تمثال في متحف كوبنهاجن. (راجع Schmidt Musee de’Copenhgne, 19).
  • (٤)
    لوحة يقدم فيها أسرى للإله «بتاح» محفوظة الآن بمتحف فلورنس. (راجع Schiaparelli, Catalogue, Florence 1601).
  • (٥)
    تمثال «بو لهول» باسم «مرنبتاح» من الجرانيت الأحمر بمتحف باريس. (راجع De Rouge Mon. Egyptien du Louvre, 23).
  • (٦)
    ذكر الأستاذ «جاردنر» عدة تماثيل اغتصبها هذا الفرعون وقد كتب عليها أنه محبوب الإله «ست» سيد «أواريس»، ونخص بالذكر منها تمثالًا ضخمًا يوجد الآن بمتحف برلين، اغتصبه من «أمنمحات الثالث». (راجع J. E. A. vol 5 p. 255).

(١٠) أسرة مرنبتاح

لم يُعرف حتى الآن زوجة للفرعون «مرنبتاح» غير الملكة «إست نفرت»، يُحتمل أنها التاسعة في ترتيب أولاد «رعمسيس الثاني» وقد ذكر اسمها على لوحات السلسلة وكانت تُلقب ربة الأرضين، وهذا يدل على أنها كانت الوارثة للملك.

وكذلك لم يكن من أولاد هذا الفرعون على الآثار على ما نعلم حتى الآن إلا ولد واحد وهو «سيتي مرنبتاح الثاني» الذي خلفه على عرش الملك على حسب إحدى الروايات كما سنفصل القول في ذلك بعد. هذا ولم يُعرف له من الإناث إلا ابنة واحدة تُدعى «إري نفرت» وقد جاء ذكرها على بردية إحصاء لتوريد الأغذية، وهاك ما جاء فيها خاصًّا بهذه الأميرة: توريد للحظية «إري نفرت» بنت الفرعون مرنبتاح: خمس فطائر «سعب» من الخبز الجيد، وخمسة أرغفة للأكل، وإناءان من الجعة (راجع Rec. Trav. XVII, p. 152).

(١١) عبادة مرنبتاح

لم نصادف في النقوش المصرية ما يدل على تأليه هذا الفرعون إلا لوحة واحدة عُثر عليها في معبد «السرابيوم» حيث نشاهده يُعبد عليها (راجع Petried, Hist. III, p. 106).
وقد وُجد له جعارين عدة مثل فيها مع «تحتمس الثالث» أو مع سلفه «رعمسيس الثاني» (راجع Petrie, Hist of Egypt III p. 106).

(١٢) الموظفون والحياة الاجتماعية في عهد «مرنبتاح»

(١٢-١) الوزراء في عهد مرنبتاح

(أ) وسرمنتو

كان «وسرمنتو» من أسرة عريقة في المجد يرجع عهدها إلى حكم الفرعون «رعمسيس الثاني» فقد كان والده يشغل وظيفة الكاهن الأول لمقبرة الفرعون «تحتمس الثالث» ويُدعى «خنسو»، وقد تزوج من خمس نساء رزق منهن بأسرة كبيرة العدد، كانت كلها تشغل وظائف هامة في الدولة (راجع مصر القديمة ج٦). وقد أنجبت زوجه «معيا» التي كانت تحمل لقب مغنية «آمون» «وسرمنتو» وكان يحمل لقب الأمير الوراثي، وحاكم المدينة، ولا نعلم عنه شيئًا غير ذلك.

(ب) بانحسي

لم يُعثر حتى الآن على قبر هذا الوزير غير أنه ترك لنا بعض آثار تدل على مكانته عند الفرعون «مرنبتاح»، وكان يحمل الألقاب التالية: العامل بإرشادات جلالته، وحامل المروحة على يمين الفرعون، والوزير القاضي، ونائب «نخن» وكاهن «ماعت» وحاكم المدينة، والوزير، والأمير والوراثي، ورئيس الأرض قاطبة، ووالد الإله المحبوب (لقب كاهن)، وكاتم أسرار بيت المال، ومدير الملابس كلها، والمشرف على كهنة الآلهة كلهم، ومن يقترب من الملك (بجواره) ويعرف تعاليمه.٢٨٠
وقد نحت لنفسه مقصورة في المحراب العظيم الذي نحته لنفسه «حور محب» في جبل السلسلة، وقد تحدثنا عنه فيما سبق، وتقع مقصورة «بانحسي» في الجهة الجنوبية، ونشاهد على سمك المدخل في الجزء العلوي الفرعون «مرنبتاح» والملكة «است نفرت» والأمير «سيتي مرنبتاح» والوزير «بانحسي» أمام الإلهين «آمون رع» و«بتاح» يتعبدون لهما، وفي الجزء الأسفل نرى الفرعون «مرنبتاح» واثنين من حاملي المروحة ثم الوزير «بانحسي» أمام الإلهين «حوراختي» و«ماعت» وجزءًا من متن،٢٨١ وكذلك نشاهد عليها منظرين يتعبد فيهما «بانحسي» للفرعون «مرنبتاح».٢٨٢
ونشاهد في رواق محراب «حور محب» على الجدار في الجزء الأسفل لوحة تمثل عليها «مرنبتاح» يتبعه موظف واقف أمام الآلهة «آمون رع» و«منتو» و«سبك» و«حتحور» ونرى في الأسفل «بانحسي» راكعًا ومعه أنشودة للإله «آمون رع».٢٨٣
وكذلك نجد في هذا المحراب لوحة نشاهد عليها «مرنبتاح» تتبعه الملكة «است نفرت» حاملة الصاجات، والوزير «بانحسي» يقدم رمز العدالة للإله «آمون رع» و«موت»، وقد أُرخ هذا المنظر بالسنة الثانية من عهد هذا الفرعون.٢٨٤
ونشاهد من جهة أخرى هذا الوزير مُصورًا على جدران معبد «وادي حلفا».٢٨٥

وقد جاء ذكر هذا الوزير على الاستراكا التي تحدثنا عن أعماله في حفر مقبرة الفرعون «مرنبتاح» وتجهيزها بالأثاث وما يلزم من مواد لعملية التحنيط.

(١٢-٢) الكهنة في عهد «مرنبتاح»

يدل ما لدينا من نقوش على أن «رومع روى» كان يقوم بدور الكاهن الأول للإله «آمون» في عهد الفرعون «مرنبتاح» كما فصلنا القول في ذلك (راجع ج٦ مصر القديمة).

(أ) «أنحورمس» الكاهن الأكبر للإله «أنحور»

يُعد تاريخ «أنحورمس» بمثابة واحة من الواحات التي نصادفها في وسط مجاهل التاريخ المصري القاحل في كثير من نواحيه، وسنرى أن حياته تكشف لنا عن صفحة مجيدة من شئون هذا العهد المختلفة.

موقع قبره وأهميته

نحت الكاهن «أنحورمس»٢٨٦ الذي عاش في عهد الفرعون «مرنبتاح» قبره في سفح منحدر من الجبل المطل على الشاطئ الغربي للنيل، الواقع خلف قرية «نجع المشايخ»، وتُوجد في هذه الجهة قبور عارية من النقوش. ومن جهة أخرى نجد طائفة من المقابر بعضها من هذا العصر في جنوب الوادي الضيق الذي يقع خلف هذه القرية، فهناك نجد قبر الكاتب الملكي لأراضي الفرعون ويُدعى «ايمي سبا»، ويحتوي على بعض مناظر من الحياة الريفية. ومما يؤسف له أنه لم يُنشر شيء يستحق الذكر عن هذه المقابر المعروفة منذ زمن بعيد، وكل ما نعلمه هو ما نشره «مسبرو» ويشمل بعض أسطر ذكر فيها طائفة من ألقاب «أنحورمس».٢٨٧
وبعد ذلك زار الأثري «سايس» هذا القبر عام (١٨٨٣-١٨٨٤) واقتصر على تدوين بعض ملاحظات ضئيلة.٢٨٨ وقد قال في أول الأمر إنه ليس عنده من الوقت ما يكفي لنقل نقوش هذا القبر، وبعد ذلك قال إنه نقل ما بقي من نقوشه، ويقول «مسبرو» إنه منذ سنة ١٨٨١ قامت حفائر في قرية «نجع المشايخ» للكشف عن معبد أقامه «رعمسيس الثاني» وهو الذي جدده ابنه «مرنبتاح» وقد كُشف فيه عن تماثيل ولوحات كثيرة، ويذكر لنا «سايس» نقوشًا من عهد «أمنحتب الثالث» و«رعمسيس الثاني» في هذا المعبد وتمثالًا للإلهة «سخمت»، وهذه حقيقة هامة لمعرفة كنه المعبد. والواقع أن نتائج الحفر في هذا المعبد لم تسفر إلا عن ثلاث مجموعات للكاهن «أنحورمس» محفوظة «بالمتحف المصري» وحسب.٢٨٩
وكان ضمن ما عُثر عليه خلالها تمثال كاتب ملكي، ومدير ضياع «أوزير» ويُدعى «توري» ومعه زوجه (راجع مصر القديمة ج٦) وكذلك حامل علم يُدعى «منمس» من عهد «رعمسيس الثاني».٢٩٠
وفي يناير سنة ١٩١٣ قام الأستاذ «كيس» الأثري و«بسنج» بزيارة مقابر «نجع المشايخ» ونقلا جزءًا كبيرًا من النقوش هناك، وفي عام ١٩٣٧ زار الأستاذ «كيس» المقبرة مرة أخرى، ونقل باقي النقوش وصوَّر ما أمكن تصويره لصعوبة التصوير في هذا المكان، والواقع أن الشريط الضيق من الأراضي الزراعية الواقع على الشاطئ الشرقي للنيل قبالة «جرجا» حتى جنوبي «جبل طريف» يدخل ضمن مقاطعة «طينة»، وكذلك يدخل في نطاقها كل من «نجع الدير» و«نجع المشايخ». وقد كان هذا المكان في الأزمان القديمة يُدعى «بحدت».٢٩١
ويُرى في قوائم البلدان ثلاث مدن بهذا الاسم، فغير «بحدت» هذه «بحدت أدفو» و«بحدت» الشرقية الواقعة في غربي الدلتا، وقد سمى اليونان هذا المكان «ليبدو تنبوليس Lepidotonpolis» وهو اسم سمكة كان الأهلون يعبدونها في هذه الجهة،٢٩٢ وكانت المعبودة المحلية الخاصة في «بحدت» هذه هي زوج الإله «أنحور» رب «طينة» التي تُدعى «محيت» أو «منت» وتمثل في صورة لبؤة، وكانت تتصف بكل صفات الإلهة «سخمت» إلهة «هليوبوليس».٢٩٣
وقد اتخذت مكانها المختار هنا كما اتخذت مثيلاتها في الشكل أماكنها في «الكاب» و«دير الجبراوي» و«سبيوس أرتميدوس» و«طهنا» وكذلك في «أخميم» المجاورة. وقد دلت النقوش فضلًا عن تمثال «سخمت» الذي كشف عنه «سايس» في رقعة المعبد، على أن معبد «نجع المشايخ» كان قد أُقيم بنوع خاص للإلهة «محيت». وتشاهد صورة صغيرة لإلهة برأس لبؤة، وقرص الشمس بجوار اسم «رعمسيس الثاني» على تمثال «منمس» الذي عُثر عليه في «نجع المشايخ» سنة ١٨٨٨،٢٩٤ وقد كُتب على كتف تمثال «أنحورمس» الذي قدم نذرًا في عهد الفرعون «مرنبتاح» اسما الإلهين: «انحور – شو» بن «رع» و«محيت» القاطنة في «بحدت»، وكذلك نجد صيغة تقديم القربان الموجهة إلى الفرعون «أمنحتب الأول» الذي كان يحمل محراب تمثاله أمامه، وإلى الإلهة «محيت» القاطنة في بحدت لكي يقدم له كل المأكولات التي مُنعت عنه، وبدهي أن «أنحورمس» على الرغم من أنه كان صاحب سيطرة في عهد «مرنبتاح» بوصفه الكاهن الأول للإله «أنحور»، ورئيس كهنة كل آلهة «طيبة»، كان له علاقة وثيقة بالمعبد الجديد الذي أقامه «رعمسيس الثاني» للإلهة «محيت» صاحبة «بحدت» (نجع المشايخ) وهو يقع بجوار قبره مباشرة، في حين أن أسرة الكهنة الأول قد دُفنت كلها في عهد «رعمسيس الثاني» في «العرابة المدفونة»، ومن المحتمل أن «أنحورمس» نفسه الذي كان يحمل لقب «الذي يملأ قلب رب الأرضين، ومدير أعمال في كل آثاره»٢٩٥ هو الذي قام بالإصلاح الذي عُمل في عهد «مرنبتاح» في هذا المعبد، ولذلك وضع تمثاله فيه.
وتنحصر أهمية ترجمة «أنحورمس»، كما رواها هو عن نفسه، في أننا نجد فيها حالة ظاهرة تدل على أن موظفًا حربيًّا قد انتقل إلى وظيفة كاهن متقاعد يعيش منها، وهاك ترجمته لنفسه:

الكاتب الملكي وكاتب المجندين لرب الأرضين، والكاهن أعظم الرائين «لرع» في «طينة»، ورئيس الحجرة للإلهين «شو» و«تفنوت»، والكاهن الأكبر للإله «أنحور»، «أنحورمس» المرحوم، والذي يرجو لسيده الملك «مرنبتاح» الأعياد الثلاثينية والصحة، رب التيجان، معطي الحياة مثل «رع» أبديًّا يقول: لقد كنت الطفل النبيه عند الفطام، والمستقيم صبيًّا، والمدرب غلامًا، العارف فقيرًا. وكنت مسكينًا فأجيء في الفصل دون مخالفة، وكنت إنسانًا ألاحظ وأجيد «الحل»، وكنت محبوبًا من سيده «الفرعون» ومفيد الآلهة دون أن يمل قلبي العمل على نفعهما، وكنت يقظًا للسفينة فلم تسمح لي بأي نوم، وكان في استطاعة الحراس أن يناموا بسببي، وكنت شجاعًا في البر دون أن يصيبني إعياء وقطعت فيه مسافات عديدة إنسانًا يمشي على الأرض، وكنت كاتب الفرسان المجندين الذين يخطئهم العد ولا يقدر إنسان أن يحصيهم، وكنت ترجمانًا لكل أرض أجنبية لسيدي، وكاتبًا قويًّا في خدمته، وكان سيدي يخاطبني أمام الأرض قاطبة ممتدحًا، وكنت محظوظًا أمام الملك بسبب الاستشارات اليومية وبسبب إطرائه لي، ولذلك كان الرفاق يقولون: «ما أعظم حظوتك» وكنت إنسانًا نشأه قومه وحماه أتباعه منذ جعل الملك مكانتي قوية باختياري نديمًا له، وكنت كاهنًا وحاجبًا ملكيًّا للإله «شو» ملأت بيت ماله، وكنت مشرفًا على مخازن غلاله التي جعلتها طافحة بالغلال، وكنت نافعًا لبيت الإله، وقويًّا في الحقل … والناس الذين خُلقوا من أجل «شو». وكنت منتبهًا ومستعدًّا في كل يوم لخدمة سيدي، وكنت مفيد الرأي للآلهة و… على رأس (المجلس)، وكنت إنسانًا يسير على طريقة الإله دون اعتداء على «قوانينه»، وكنت امرأ ينحني عندما يدخل قدس الأقدس، وامتدح الإله مرات لا عداد لها، وكنت …

تعليق

  • طفولة «أنحورمس» ومدة دراسته: إن التقرير الذي قدمه لنا «أنحورمس» عن سني حياته الأولى غريب في تعبيراته؛ فقد ذكر لنا أدوار مدة رضاعه حتى فطامه، ثم تكلم عن حياته وهو طفل صغير فغلام، وكذلك تحدث لنا حتى عن فقره في صباه، أي إنه كان رجلًا لا وظيفة له ولا دخل يستولي عليه. والواقع أن افتخار القوم بالعدم كان من الأمور المألوفة التي جرى عليها العرف في عهد «تل العمارنة»، فكان موضع فخر لأولئك الذين وصلوا إلى مكانة عالية بعد فقر مدقع. فقد كنا نسمع في هذا العهد كثيرًا أنه مما يفخر به الرجال الذين كانوا بجانب الفرعون وقاموا له بأعظم الخدمات أنهم من أصل وضيع، وأنهم نالوا ما نالوه من رفعة ومكانة بجدهم واستقامتهم في خدمة الفرعون بما لهم من شخصية. ولدينا أمثلة ناطقة تحدثنا بذلك، وأهم ما يلفت النظر من أولئك: حامل المروحة على يمين الملك وكتاب الفرعون وكاتب المجندين والقائد «معي» (راجع الجزء الخامس) حيث يقول: كنت رجلًا وضيع الأصل أبًا وأمًّا، ولكن الأمير وطد مكانتي فقد جعلني أعظم … بفيضه عندما كنت رجلًا لا أملك شيئًا … الخ. وفي عهد الرعامسة الأول نجد مثالًا لذلك في كتابة رسام على لوحة محفوظة الآن في «ليدن Lyden VI» حيث لم يستعمل فيها كلمة «نمح» الدالة على الفقر في الأصل كما هي الحال في عهد العمارنة، بل استعمل الكلمة الكلاسيكية «حورو» (فقير الحال)، فيقول:

    لقد كنت إنسانًا فقير الحال من جهة أسرته وصغيرًا في قريته، ولكن سيد البلاد قد تعرف عليَّ … ورفعني على الندماء.

    ومما يجذب النظر في العلاقة بين هاتين الحالتين: حالة «انحورمس» وحالة الرسام أن الأب في كل من الحالتين كان يشغل وظيفة مماثلة للتي كان يشغلها الابن، فقد كان والد «انحورمس» المسمى «بن نب» يشغل وظيفة كاتب المجندين لرب الأرضين مثل الابن، وأن والد المفتن المذكور كان حفارًا مثل والده.

    ولكن مما لا نزاع فيه أننا بدأنا نجد في عهد الدولة الحديثة خروجًا عن العادة المعروفة التي كانت تخول للولد أن يرث والده في وظيفته أو عمله، وذلك عندما ظهر أفراد أخذوا يثيرون شخصيتهم ويخلعون عن أنفسهم قيود هذا التقليد الأعمى ويشقون طريقهم في الحياة كل على حسب استعداده وما أوتي من قوة وعزيمة ونفس طموح وشخصية ممتازة، وقد تحدثنا عن ظهور الفرد وشخصيته في مثل هذه الأحوال، وبخاصة عندما أخذ يناجي ربه ويظهر ورعه بشخصيته لا بالتعاليم التي ورثها عن آبائه وأجداده (راجع مصر القديمة ج٦).

  • حياته الحربية: تدل شواهد الأحوال على أن مدة خدمة «أنحورمس» في الجيش يقع معظمها في عهد «رعمسيس الثاني» وهذا فضلًا عن خدمته في مدة «مرنبتاح» التي لم تتجاوز عشرة الأعوام.

    وقد كانت وظيفته الرئيسية «كاتب المجندين الملكي لرب الأرضين»، ومن ترجمته لنفسه يمكننا أن نعرف الخطوات الأولى التي خطاها نحو العلا؛ فقد كان في بادئ الأمر يعمل في الأسطول في وظيفة ثانوية، إذ كان يعمل بوصفه مشرفًا على المجدفين، ثم ترك هذه الوظيفة واشتغل في الجيش البري، ثم تنقل فيه في أماكن عدة وأخيرًا ارتقى إلى وظيفة «كاتب مجندين» — وعلى ذلك لم يعد بعد جندي ميدان — لجنود عربات الحراس الخاص. وهناك قام بخدمات خاصة؛ إذ كان يعمل في جيش «مرنبتاح» الذي حارب اللوبيين وأقوام البحار، وكذلك عمل ترجمانًا في «فلسطين» وغيرها، وقد كانت خدماته المتصلة، والوظائف التي تقلب فيها نحو المجد سببًا في لفت أنظار الفرعون إليه وجعله ممتدحًا أمام الأرض كلها من شرفة قصره كما كانت العادة. هذا إلى أنه رفعه إلى رتبة «نديم».

    وفي ترجمة حياته لنفسه يذكر لنا قبل تقلده وظيفة الكهانة أنه كان «كاتب مجندين»، ونحن نعلم من تراجم حياة أفراد آخرين عدة أن وظيفة «كاتب مجندين» كانت ذات أهمية عظمى، وأن حاملها كان يعد من أقرب المقربين إلى الفرعون، وسنذكر فقط على سبيل المثال «أمنحتب بن حبو» الشهير الذي شغل هذه الوظيفة في عهد «أمنحتب الثالث» (راجع مصر القديمة ج٥)، والواقع أن «أنحورمس» كان يحمل أرفع ألقاب الدولة على حسب ترتيبها المعتاد، فكان يلقب «بالأمير الوراثي، والحاكم، وحامل خاتم ملك الوجه البحري، والسمير الوحيد»، هذا فضلًا عن أنه كان يُنعت «عين ملك الوجه القبلي، وأذني ملك الوجه البحري، والكاهن والد الإله المحبوب، ومن يملأ قلب سيد الأرضين.»

    ومن المعلوم أن الموظفين الحربيين ورؤساءهم كانوا في وقت السلم يكلفون بالأعمال المدنية العادية، ومن الجائز أن «أنحورمس» كان قد كُلف من قبل «رعمسيس الثاني» ومن بعده ابنه «مرنبتاح» بالقيام بتجديد معبد «نجع المشايخ»؛ ولذلك كان يُلقب «الذي يملأ قلب سيد الأرضين، ومدير الأعمال على كل آثاره.»٢٩٦

    والظاهر أنه كان ذا علاقة وثيقة بالفرعون «مرنبتاح»؛ نعلم ذلك من بداية الترجمة لنفسه وهو: «الذي يتمنى لسيده أعيادًا ثلاثينية وصحة.»

    ومثل هذه التعبيرات نصادفها كثيرًا في تراجم كهنة «آمون» في عهد الأسرة الثانية والعشرين «بالكرنك». فمثلًا نجد أن الرجل الذي يحمل النعوت: «عيني ملك الوجه القبلي في الكرنك» و«لسان ملك الوجه البحري» يتبع ذلك بذكر: «الذي يتمنى أعيادًا ثلاثينية لسيده بجانب الآلهة التي في هذه الأرض.»٢٩٧
    ويظهر ذلك جليًّا فيما يقوله كاهن آخر من كهنة «آمون» في نفس العصر:٢٩٨
    لقد قدمت إلى القصر في عيد تتويج الملك طاقة حملتها للفرعون من «طيبة» وتمنيت لرب الأرضين أعيادًا ثلاثينية.٢٩٩ ولا بد إذن أن هذا الرجل كان عضوًا في حفلة تتويج الملك في «منف» ضمن الكهنة الذين اجتمعوا من كل أنحاء البلاد حاملين طاقات الأزهار التي تحمل السعادة في طياتها من معبد «آمون» ليقدموها إلى الفرعون.

    وكذلك كانت الحال مع «أنحورمس» فلا بد أنه فكَّر في أن يقدم للفرعون طاقة أزهار لمناسبة عيد تتويجه أو لمناسبة أخرى، كما شاهدنا عظماء القوم يقدمون طاقات الأزهار إلى «سيتي الأول» حينما عاد منتصرًا من «سوريا» (راجع مصر القديمة ج٦)، وقد يجوز أن الفرعون كان يقوم في هذه الحالة بزيارة إلى «طينة» تلك المدينة المقدسة من قديم الزمان.

  • مجال حياته في الكهانة: ليس لدينا في ترجمة حياة «أنحورمس» ما يدل على أنه بعد أن ختم حياته في سلك الوظائف الحربية قد أصبح كاهنًا إلا فقرة مهشمة، ومع ذلك فإن فيها ما يكفي. ولدينا هنا برهان لا يتطرق إليه الشك في وجود وظيفة كهانة في معابد البلاد كانت تعطي معاشًا للموظفين الذين تقدمت بهم السن، وكان أول ظهور هذه الوظيفة في عهد الرعامسة، ولكي نحكم على «أنحورمس» في تقلده هذه الوظيفة يجب أن نعرف إذا كان لوالده أو لأمه أي حق في تقلد وظيفة دينية في «طينة» ومثل هذا الادعاء في أحقية وراثة هذه الوظيفة قد لعب دورًا حاسمًا في مصير أسرة «بنيتز» في «الهيبا» في العهد الساوي.

    وقد تحدثنا قبل (انظر مصر القديمة ج٦) عن أسرة في عهد الأسرة التاسعة عشرة شغل أفرادها منصب «الكاهن الأول» للإله «أنحور» مع وظائف أخرى ثانوية مدة أجيال عدة، ولا نعلم أية علاقة للكاهنين «حورا» و«منمس» وعلاقتهما بالكاهن «أنحورمس». ولا يمكن أن نقطع في الواقع إذا كان من باب الصدفة توافق اسمه «أنحورمس» مع اسم إله «طينة» الأكبر المسمى «أنحور» أم لا، وبخاصة أن «مرنبتاح» قد دعاه للقيام بإنجاز أعمال لهذا الإله، هذا على الرغم من أن والده «بن نب» لا يحمل على تمثاله المحفوظ «بمتحف القاهرة» أي لقب كهانة (رقم ١١٣٦).

    وقد كان الكاهن الأكبر لهذا الإله في عهد «رعمسيس الثاني» هو «منمس». وتدل شواهد الأحوال على أن «أنحورمس» كان رجلًا حديث العهد «بطينة» جيء به في عهد «مرنبتاح» ليشغل هذه الوظيفة، ولا نزاع في أنه عاش قبل ذلك العهد مع أسرته في «طيبة» وقد تزوج من اثنتين. ولدينا له في معبد «نجع المشايخ» تماثيل مثل عليها معها (القاهرة رقم ١٠٩٣)، وقد كانت إحداهما تُدعى «تاورت حتب» وتُلقب «ربة البيت» زوجته الأولى. وكانت كل من زوجتيه سواء أكانت المتوفاة أم التي مُثلت معه في مقبرته «بنجع المشايخ» وهي التي تُدعى «ربة البيت» «سخمت نفرت» — تحمل لقب «مغنية آمون» ملك الآلهة أو «آمون رع» سيد «الكرنك».

    وقد نالت «سخمت نفرت» زوجه لقب «رئيسة» حريم الإله «أنحور»، وهذا اللقب كان يحمله نساء وكهنة «أنحور» العظام، غير أن «أنحورمس» نفسه كان يحمل لقب الكهانة: صاحب اليدين الطاهرتين أمام «آمون رع»، ملك الآلهة في العاصمة الجنوبية. ويدلنا على العلاقة الوثيقة التي كانت بين «طيبة» و«أنحورمس» — وبخاصة المدينة الغربية — ما نشاهده في تمثاله الراكع (رقم ٥٨٢)، إذ يحمل محرابًا فيه صورة الملك «أمنحتب الأول» المعروف بأنه الإله الحامي «لطيبة الغربية». والواقع أن «أنحورمس» كان قد ترعرع في «طيبة» وتزوج هناك، ومن المحتمل أنه قام بأول خدمة كهانة فيها في عيد الوادي، وتدل الآثار على أن وظائف الكهانة في معبد «آمون» «بطيبة» كان يشغلها بعض رجال البلاط في عهد ملوك «اللوبيين» في الأسرة الواحدة والعشرين.٣٠٠

    وقد كان من نتائج الحكومة اللاهوتية التي كان فيها الإله هو المسيطر الوحيد على أقدار البلاد أن وجدنا علاقات أخرى له بالكهنة، ومن المهم هنا أن نعرف شيئًا عن كيفية تغذية الموظفين الحربيين في عهد الرعامسة.

    وورقة «هاريس» الكبرى تقدم لنا في هذا الصدد أمثلة كثيرة من عهد «رعمسيس الثالث» لم يلتفت إليها أحد حتى الآن أو كان قد أُسيء فهمها من قبل؛ فنقرأ في قوائم الهبات لمعابد الأقاليم التصريح التالي: «بيت رعمسيس» في ضيعة الإله «مين» صاحب «إبو» (أخميم) يقول «إنشفنو» مدير البيت — كان فيما مضى قائدًا٣٠١ — وفي ضياع معبد «وبوات» إله «أسيوط» نجد كذلك اثنين من القواد يعيشان من ضياع هذا المعبد وهما: «تحوت محب» و«إنشفنو» السالف الذكر، وقد فهم «شادل» المعنى المقصود من ذلك بأنهما كانا يعيشان من هبات الملك الحاكم «رعمسيس الثالث». ومن ثم نفهم أن مثل هذا القائد المسمى «إنشفنو» كان من الممكن أن يجمع بين وظائف أخرى هامة غير وظيفة «مدير البيت» التي كان يتقلدها، وإذا قرنا ذلك بحالة «أنحورمس» فإن وظيفة الإشراف التي كان من المحتمل أنه يشغلها في عهد كل من «رعمسيس الثاني» و«مرنبتاح» في إقامة المباني الجديدة في «نجع المشايخ» تكون مماثلة لذلك. ولا نزاع في أن تعيينه في وظيفة الكاهن الأكبر للإله «أنحور» صاحب «طينة» وكذلك تقليده منصب «المشرف على كل الكهنة في طيبة» يؤكد ذلك أو يتفق مع ما نقول إلى حد بعيد.

    وتدل شواهد الأمور على أن الطريقة في ملء وظيفة الكهانة في المعابد الرئيسية في عهد الرعامسة كانت تجري على حسب القاعدة القديمة الأصلية المبنية على توارث «وظيفة الكهانة» على وجه عام على شريطة أن يكون أمر الاختيار موكولًا إلى الإله نفسه، وهذا نفس ما حدث في اختيار «نب وننف» في عهد «رعمسيس الثاني» عندما انتخب رئيسًا لكهنة «آمون» في «الكرنك». وقد كان من الطبيعي أن يسلم المرء بوجهة النظر بأن كل عظماء بيته من أصغر موظف إلى القائد الأعلى في الجيش بما لهم من مكانة ومستقبل كانوا أهلًا لملء وظائف الكهانة، وأن يتقلدوا كل وظائف الكهانة الثانوية دائمًا، ومن جهة أخرى كان المنتظر إذن من الفرعون الذي يعين الكهنة للإله كما جاء في لوحة الإصلاح أن ينتخب الكاهن المطهر والكاهن خادم الإله حتمًا من أولاد أشراف، وأن يكون كل منهما ابن رجل معروف المكانة، وقد ذكرنا من قبل أن عهد «اخناتون» كان على نقيض هذه الفكرة، وأنه ترك المجال لكل شخص على حسب ما تؤهله له مواهبه الشخصية، وبذلك فتح طريق الرقي أمام كل فرد ذي مقدرة وفطنة، وقد كان «أنحورمس» يعمل على محو هذه الفكرة التي كانت لا تزال باقية في عهد «مرنبتاح»، فقد نال مركزه الديني فقط بما أظهره من إخلاص وتفانٍ للإله؛ ولما كان في الأصل من بيت فقير فإنه لم يكن له الحق في أن يُحتسب له معاش مثل أولئك الذين ورثوا الوظائف التي تخول لهم حق التمتع بمرتب دائم. وقد كان هذا الإجراء صحيحًا في دائرة ضيقة، والواقع أن القبول في المدارس التي كانت تعد الأفراد للوظائف الكبيرة كان لها شروط معلومة، وبخاصة من حيث مركز الوالدين، وبقيت هذه الحال كذلك إلى أن اتسعت دائرة حق التعليم لرجال الجيش وجنوده في عهد الدولة الحديثة عندما كان لرجال الجندية شأن يُذكر، ولكن على مر الأزمان وتغير الأفكار وتفاوت الطبقات بخاصة في العصور المتأخرة نشأت هذه الفروق الاجتماعية، وفاضلت بين طبقات الشعب، وقد ظهرت جليًّا عند التعيين في وظائف الكهنة، فكانت القيود القديمة من حيث الحسب والنسب لا بد منها، ولا أدل على ذلك من المثل الذي ذُكر في تقرير الطبيب العالم المسمى «وزاحور رسنت» عندما أراد أن ينشئ مؤسسة جديدة للطب في «سايس» في حكم «دارا الأول» ملك الفرس الذي فتح مصر إذ يقول: «إني أضع أساسها وكل تلاميذها من أولاد رجالٍ معروفين، فلا يكون فيها ابن فقير.» ومن ذلك نعلم أن التقديرات الرسمية لم تكن وحدها في مختلف الأوقات المتغلبة على ما يجب أن يكون، بل كان من البداهة أن نجد مستلزمات الحكم يكون لها القول الفصل بصفة بارزة، فنجد أنه كان بطبيعة الحال في أوقات الحرب؛ من المحتم أن ينظر نظرة خاصة لمعاش الجنود الذين قضوا زهرة شبابهم في خدمة البلاد للدفاع عنها.

    وفضلًا عن ذلك نرى أن الكاتب. على الرغم من أنه كان يمجد صناعته ويرفع من قدرها في عهد الدولة الحديثة؛ كانت الوظائف الحربية ووظائف الكهانة في رأيه ليست بعيدة عن وظيفته في قدرها وخطرها، حتى إنه عندما كان يدخل في خدمة المعبد يشعر بضيق داخلي في نفسه، وكانت هذه هي الحالة حقًّا كما نعلم من مجال حياة الكاهن الأكبر «باكنخنسو» في عهد «رعمسيس الثاني»، فقد كانت العادة الجارية آنئذ أن أبناء الكهنة بعد تمضية المرحلة الأولى من تعليم المدرسة؛ يقومون بتأدية خدمة حربية إلى حين. ويُلاحظ ذلك بوجه خاص مدة الحرب كما حدث في حالة خاصة معروفة اضطرت الشبان من الكهنة أن ينخرطوا في خدمة الجيش، كما يدل على ذلك عهد «مرنبتاح»، وقد كان لذلك تأثير لا بأس به، والواقع أنه من مثل هذه الأدوار المحددة يمكننا القول بأن معظم الكهنة ذوي الزعامة في أواخر عهد الرعامسة كانوا في الأصل موظفين.

    وقد أشرنا قبل إلى مستقبل «حرحور» وسلفه «أمنحتب بن حبو».

    وقد أبرز لنا «أنحورمس» في ترجمته لنفسه بوجه خاص إدارته لأموال معبد الإله «أنحور»؛ فقد ملأ خزانته، وجعل مخازن غلاله ملأى بالحبوب بوصفه «المشرف على المخازن». ولا نزاع في أن بيت المال ومخازن الغلال كانتا الإدارتين الاقتصاديتين اللتين يعتمد عليهما أمر المعبد وحسن سير الأمور فيه، وكذلك نجد الحال عند تنصيب «نب وننف» الذي كان عمله حتى لحظة تعيينه قاصرًا على الإشراف على كهنة الآلهة كلهم في الجنوب حتى «حراي حر-آمون» (طيبة الغربية) وشمالًا حتى «طينة»، فإن الملك قد نزل عن هاتين الإدارتين لكاهن «آمون» الأكبر الجديد، وقد ذكر صراحة؛ إذ يقول الملك له: «إنك الكاهن الأكبر «لآمون» وخزانة ماليته، وقد أصبحت تحت خاتمك مخازن غلاله.» (راجع مصر القديمة ج٦).

    ويشير أحد ألقاب «أنحورمس» الأخرى إلى إدارة أموال المعبد، وهو المشرف على مخازن غلال «أنحور»، وكذلك اللقب النادر: «المشرف على قرى الباب الكبير» (القصر) التابعة للإله «شو» بن «رع» في الوجهين القبلي والبحري. ومن ثم نعلم أن الكاهن الأول للإله «أنحور» كان القيم على ضياع «شو أنحور» في قرى القطرين جميعًا، وكانت هذه الضياع بدورها تحت إدارة «مدير بيت» محلي. وقد كان «أنحورمس» بوصفه أكبر كاهن في دائرة هذا الإله يحمل لقب المشرف على كهنة آلهة «طينه» كلهم أي مقاطعة «تاور» وما تحتويه من قرًى وبلدان وبخاصة «نجع المشايخ».

    وقد كان امتداد «الأبراشية» أو المقاطعة، يختلف في حدوده على حسب شخصية الكاهن الذي يديرها، وكان ذلك بطبيعة الحال وقفًا على إدارة الفرعون.

    ففي أوائل حكم «رعمسيس الثاني» مثلًا كان تحت إدارة «نب وننف» الذائع الصيت بوصفه رئيس كهنة هذه الجهة كل الإقليم الذي على الشاطئ الأيمن من «طينة» حتى «طيبة». وتشعرنا ألقاب أسرة كهنة «أوزير» في «العرابة» في عهد «رعمسيس الثاني» أن دائرة نفوذ مقاطعة «طينة» التابعة للعرابة لم تكن تحت إدارة الكاهن الأكبر للإله «أنحور» — إله «طينة»؛ وقد وصل إلينا من مقاطعة «طينة» في عهد «تحتمس الثالث» — وتلك حالة خاصة نوَّه عنها صراحة — أن الفرعون قد كلف كاهنها الأكبر للإله، «أوزير» صاحب «العرابة» بالقيام بأعباء هذه الوظيفة ست سنوات، على أن يكون في الوقت نفسه قائمًا بعمل رئيس كهنة الإله «حور» في معبد «مين» إله «أخميم» (المقاطعة التاسعة من مقاطاعات الوجه القبلي).

    والألقاب الثانوية التي كان يحملها «أنحورمس» بوصفه كاهنًا أكبر نجدها برمتها تقريبًا في ألقاب أسرة رؤساء كهنة هذا الإله في «طينة» وبخاصة الكاهنين «حورا» و«منمس» اللذين عاشا في عهد «رعمسيس الثاني» (راجع مصر القديمة الجزء السادس).

    وقد كان من نتائج التفسير القائل بأن الإله «شو» (أنحور) في عهد الدولة الحديثة — هو إله شمسي — أن نقل رؤساء كهنة «طينة» اللقب الهيليوبوليتي القديم: «أعظم الرائين» إليه، كما حدث ذلك في «أرمنت» و«الكرنك». ومنعًا للبس بإله «هليوبوليس» سموه «أعظم الرائين لرع في طينة».٣٠٢ وقد كان الكاهن الأكبر «منمس» يُسمى كذلك الكاهن «سم» أعظم الرائين في «طينة».

    ومن ألقاب كهنة «طينة» في الدولة الحديثة لقب ثانوي يدل على الرابطة التي بين الإله «أنحور» والإلهة «محيت» من جهة، وبين الإلهين القديمين «شو» و«تفنوت» من جهة أخرى، وهذا اللقب هو: سيد حجرة «شو» و«تفنوت». وهذا اللقب كانت تحمله أسرة «منمس» في عهد «رعمسيس الثاني» بصورة منتظمة، وبعد ذلك نجده منتشرًا جدًّا في الأزمان المتأخرة.

    ونعرف من جهة أخرى أن «أنحورمس» كان يُلقب «حاجب الإله «شو» عندما يظهر». وهذا اللقب كان يحمله موظف بوصفه المتكلم عن الفرعون، غير أننا لم نجد أحدًا من الآلهة يحمله.

    ومما يؤسف له أننا لا نعلم إذا كان «لأنحورمس» أسرة في «طينة» أم لا؛ والواقع أنه لم يُشاهَد له أي طفل ممثل أو مذكور على جدران قبره، بيد أنه في الدعاء الذي نُقش بجوار زوجته «سخمت نفرت» على جدار المدخل، نجد أن لها أمنية تخاطبه بها قائلة «أن تكافأ على ما فعلته، وأن يتسلم ابنك وظيفتك «الكاهن الأول للإله «أنحور».» ولكن هذا مجرد دعاء اعتاد القوم ذكره.

(ب) «ثانفر» الكاهن الثالث للإله آمون

وقبره في «ذراع أبو النجا» رقم ١٥٨، وقد عاش في عهد الفرعون «مرنبتاح»٣٠٣ وقد صور عليه «القبر» صورة مزار نفس القبر على الجدار الغربي من الحجرة الأولى على يسار تمثالين جالسين، وسنتكلم عنه فيما بعد.

(ﺟ) «رع إيا» الكاهن الرابع للإله «آمون»

وقبره في «ذراع أبو النجا» رقم ١٥٩، وليس في هذا القبر ما يلفت النظر من جهة الزخرف إلا سقفه المحلى بطيور جاثمة على نبات البشنين،٣٠٤ ومن جهة أخرى رسم على جداره الجنوبي صورة مزار صاحب المقبرة الجنازية، وهذه الصورة وغيرها مما وُجد على جدران مقابر هذا العصر تعطينا فكرة عن هيئة مزار القبر، وبخاصة عندما نعلم أننا لا نكاد نجد مزارًا حافظًا لصورته الأصلية الخارجية لما أصابها من التهديم والتخريب على كر الأيام الدهور. وقد عُني بجمع صور هذه المزارات التي صورها المصري بنفسه على جدران المقابر الأثري «ديفز» وكتب عنها مقالًا ممتعًا وضحه بالصور، بيد أنه لم يجزم بأن هذه الرسوم تمثل الحقيقة (راجع JEA vol. 24 p. 25 ff).

ومعظم هذه الرسوم يرجع عهدها إلى الأسرة التاسعة عشرة، وقد نقلها «ديفز» من مقابر «شيخ عبد القرنة» ومقابر «الخوخة» ومقابر «ذراع أبو النجا» ومقابر «قرنة مرعي»، هذا إلى رسمين من «دير المدينة».

وقد جمع أحد الأثريين مادة كافية أمكنه بها أن يعيد بناء مزار صغير أصبح في استطاعتنا به أن نتصوره كما كان على حقيقته، وهو من مزارات الأسرة الثامنة عشرة.٣٠٥
والواقع أن بداية هذه الأسرة لا تمدنا بأنواع مختلفة هندسية في هذا الصدد، إذ نجد المقابر المصورة في تلك الفترة لا تحتوي إلا على مجرد باب له إطار و«كورنيش» في أعلاه، وموضوع على طوار وأسكفة، ولكن في نهاية هذه الأسرة يظهر ضمن أجزاء المزار — كما يُشاهد في الصور — خط من المخاريط تحت «الكورنيش» (راجع Winlock. Bull. M. M. A. Fb. (1982 p. 6) & AZ. 70. p. 29).
وفي عهد الأسرة التاسعة عشرة نجد نموذج مزار صغير فوق بناء المزار، وتدل القطع التي عُثر عليها على أن هذه الأهرام كانت منتشرة في «دير المدينة».٣٠٦ لا نجد أثرًا لهذه الأهرام على منحدرات تل «شيخ عبد القرنة» على الرغم من أنها كانت تظهر في صور المقابر المتأخرة، ويوجد هرم في «العساسيف» يُحتمل أنه تابع لمقابر العصر الصاوي المجاورة. وفي ذراع «أبو النجا» سلسلة أهرامات مقامة من اللبنات على المرتفعات العلوية، ويمكن أن تكون في الأصل للأهرام المصورة في مقبرتي «رع إيا» و«ثا نفر» اللتين تكلمنا عليهما سابقًا. ونهاية قمة الهرم المصور كانت ملونة باللون الأسود وأحيانًا باللون الأزرق كما نشاهد ذلك في مقبرة «نفر رنبت» المسمى «كنرو» (راجع مصر القديمة ج٦). وحجارة قمة الهرم الأصلية التي وجدت في «دير المدينة» من الحجر الجيري، وقد نُقش عليها صورة إنسان يتعبد ويصلي للآلهة الشمسية.٣٠٧ وتُوجد كوة صغيرة في منتصف وجه الهرم عُثر عليها في نفس الجبانة، والمعتقد أنها كانت تنتظم صورة بارزة خلف لوحة ولها ما يقابلها في صورة وجه ينظر إلى المتفرج من فوق اللوحة الملونة فتظهر كأن رجلًا ممسكًا بها من الخلف، كما يُشاهد ذلك في مقبرة «باسر»٣٠٨ ومقبرة «نخت آمون» (رقم ٣٤١) على الجدار الجنوبي الغربي.٣٠٩

وقد كانت الواجهات ذات العمد معروفة في مقابر عهد الأسرة الثامنة عشرة، ولكن على قدر ما وصلت إليه معلوماتنا لم نجدها مصورة على جدران هذا العصر، ولكنها كانت منتشرة في عهد الأسرة التاسعة عشرة.

كما يُشاهَد ذلك في مقبرة «امنمأبت» رقم ٤١ وترجع إلى عهد «رعمسيس الأول» أو «سيتي الأول»،٣١٠ وكذلك مقبرة «ثاي»٣١١ وسنتكلم عنه فيما بعد، ومقبرة «ثانفر».٣١٢
وقد وُجدت اللوحات التي صُوِّرت عليها هذه المزارات في أثناء تنظيف ردهات المقابر، وكذلك وُجدت منحوتة على الجدران المصقولة خارج المقبرة أو في الداخل، وهذه اللوحات كانت تصور غالبًا كما نشاهدها في مقبرة «نفرر نبت» السالف الذكر٣١٣ وفي مقبرة «خنسو» رقم ٣١ وهي من عهد «رعمسيس الثاني».٣١٤
ولقد أصبح المكان العادي لرسم صورة المقبرة منذ عهد «أمنحتب الثالث» يُوضع في نهاية الموكب الجنازي عند النقطة التي كانت تؤخذ منها المومية من تابوت المتوفى وتُنصب أمام المزار، ويوضع أمامها وخلفها طاقات من الأزهار، وكانت النسوة الحزينات يعانقنها كما كان يسندها أحد المشتركين في الجنازة، ذكرًا كان أو أنثى أو كاهنًا في صورة الإله «أنوب» رب الجبانة، ويُشاهَد على جانبي المقبرة خط يمثل تل الصحراء المنحدر، وهو الذي كان يظن أن الحجرات الداخلية تخترقه، ومن هذا التل كانت تخرج إلهة الغرب وتمثل عادة في صورة امرأة، وأحيانًا تمثل في صورة البقرة «حتحور» كما يُشاهَد ذلك في مقبرة «نفر سخرو» كاتب القرابين المقدسة لكل الآلهة،٣١٥ وفي مقبرة «نخت آمون» رئيس المديح في «الرمسيوم» رقم ١٩،٣١٦ ويُلاحَظ أن الإلهة «حتحور» هنا كانت تمد ذراعيها مستقبلة المتوفى الذي يكون في هذه اللحظة قد نزع عن نفسه غطاء موميته وخرج من تابوته كأنه خارج من شرنقة، وعندئذ تُوضع عليه ملابس الأحياء ثانية ويدخل في الحياة الجديدة التي سيعيش فيها خلف القبر ويصل إليها من بابه، كما يُشاهَد ذلك في مقبرة «امنمأبت» السالف الذكر.٣١٧
ورسوم هذه المزارات يمكن ترتيبها كالآتي:
  • (١)
    إطار باب بسيط محلى بكورنيش وله مدخل في الوسط، وأحيانًا نجد صفًّا من المخروطات تحت الكورنيش، كما نشاهد ذلك في مقبرة «رع موسى» رقم ٥٥.٣١٨
  • (٢)
    نشاهد نفس الصورة السالفة، ولكن نجد على الباب صورة هرم، وأحيانًا نرى عمدًا تكنف الباب، وغالبًا ما نشاهد لوحة أمامه.٣١٩
  • (٣)
    نشاهد مبنًى له كورنيش وعلى قمته هرم وله مدخل على الجانب ثم لوحة.٣٢٠
  • (٤)
    نشاهد قاعة ذات عمد وبجانبها هرم قائم بذاته فيه باب على طوار ذي كورنيش بمثابة قاعدة يرتكز عليها.٣٢١
هذه نظرة عاجلة لأشكال المزارات في عهد الأسرة التاسعة عشرة، ومنها نعلم أن المصري لم يكن جامدًا في تطور المباني، بل كان يفكر ويخترع باستمرار. ونعود الآن إلى منظر المزار الذي في مقبرة «رع إيا» وقد نشره «بورخاوت» بمناسبة الكلام على الكرانيش المحلاة بقوالب مخروطية الشكل.٣٢٢
ونجد صورة المزار في هذا القبر على الجدار الجنوبي، ويُلاحَظ أنها تمتد حتى نهاية الجدار، ولذلك لم تكن هناك مسافة كافية لتستقبل إلهة الغرب المتوفى، أو لتمتد الصحراء إلى ما بعد باب المزار كما كان ذلك في غير هذه المقبرة، ويُلاحَظ هنا صفان من المخروطات عند قمة الهرم، وفي أسفل الكورنيش نشاهد طاقة من الأزهار مستندة على يسار المزار خلف موميتين تقفان على طوار. وحجرة الدفن قد مثلت أسفل الصورة.٣٢٣

(١٢-٣) «بن إزن» (ويسمى «رعمسو امبر آمون» أو «مر إيونو»)

يدل ما عُثر عليه من آثار لهذا الرجل على أنه كان ذا مكانة ممتازة في بلاط الفرعون «مرنبتاح»، وقد وُجدت له لوحتان؛ إحداهما «بمتحف القاهرة»، والأخرى بمتحف «بروكسل»، ويُرى على لوحة القاهرة يتعبد للإله «أوزير»، وقد أخطأ الأثري «رو» في قوله: إن «بن إزن» يتعبد للفرعون «مرنبتاح»؛ لأنه في الواقع يتعبد للإله «أوزير»، والطغراء التي بجواره لا تدل إلا على اسم الملك الذي عاش في عهده (راجع Gardiner, Wilbour Pap. II, p. 12 ff).

والمتن الذي نجده على لوحة القاهرة — وهو الذي ذُكر فيه اسم الفرعون «مرنبتاح» — يدل على ما يظهر على أن «بن إزن» قد وفد إلى مصر في عهد «رعمسيس الثاني» من بلدة «زار باسان» وهي بلا شك «زير بباشاني» التي ذُكرت في لوحات «تل العمارنة» أي «بيسان» الحالية، ويدل هذا المتن أيضًا على أنه في عهد «مرنبتاح» قد سُمي باسمين مصريين وهما «رعمسو امبررع» و«مر إيونو»، وتقلد مناصب «حاجب الفرعون الأول» و«حامل المروحة على يمين الفرعون» والساقي «طاهر اليدين أمام رب الأرضين» و«ساقي الفرعون الأكبر لحجرة القربان الفرعونية» و«ساقي الفرعون العظيم للجعة».

ويقول الأثري «رو» استنباطًا مما سلف: إن حياة «بن إزن» يمكن موازنتها بحياة «يوسف» الذي سماه الفرعون بعد دخوله مصر بوقت ما باسم مصري وهو «زافيناث» ورفعه إلى مكانة علية.٣٢٤
أما اسم والد «بن إزن» الآسيوي فلا يُعرف وقد سُمي باسم مصري، على أنه — على الرغم من ذلك — مخصص بعلامة تدل على أنه اسم أجنبي وهو «إي-باعا» ولا نعرف شيئًا عن أمه ولا اسمها.٣٢٥
وقد عُثر على نقش صغير محفوظ الآن بمتحف «بروكلين» عليه «رعمسو امبررع» يتعبد أمام الإلهة «حتحور» سيدة الجميزة الجنوبية، وكان والده يُدعى «إيوبا» الكبير كما يقول «كابار».٣٢٦ ويُحتمل أنه هو نفس «إيوبا» الذي كان يعمل خازنًا في عهد «رعمسيس الثاني».
وقد عُثر له كذلك على لوحة في «غراب»٣٢٧ قد رُسم عليها نفس هذا الموظف يتعبد أمام تمثال «تحتمس الثالث»، وإذا لخصنا ما في الوثائق السالفة عرفنا أن هذا الآسيوي كان يشغل منصبًا من أعظم المناصب في بلاط «مرنبتاح»، وقد أثبت تعلقه بمدينة «هيلوبوليس» المقدسة بتعبده للإلهة «حتحور» التي كان لها محاريب في كل عهد من عهود التاريخ المصري في آسيا وفي شبه جزيرة «سينا» وفي «ببلوص» (جبيل). وكذلك تعبد للفاتح الكبير «تحتمس الثالث» بوصفه الفاتح لآسيا والمحسن إلى أهلها؛ ولذلك كانت عبادته شائعة في مدنها، وقد أكد الأستاذ «إرمن» منذ زمن بعيد، الأهمية التي كانت لهؤلاء الساقين العظام والحجاب في بلاط ملوك الأسرتين التاسعة عشرة والعشرين.

وقد ذكر الأستاذ «شيرني» أنه نشر في سجل استراكا «المتحف المصري» وثيقتين جاء فيهما أن «رعمسيس امبررع» هذا كان مكلفًا مع الوزير بإعداد مقبرة «مرنبتاح» سيدهما.

ومن كل ما سبق نفهم أن هذا الآسيوي الذي كان مغمور الذكر قد أصبح في نظرنا شخصية بارزة.

(١٢-٤) «ثاي» ويُسمَّى كذلك «تا»

الكاتب الملكي لمراسلات رب الأرضين، وقبره في جبانة «شيخ عبد القرنة»٣٢٨ رقم ٢٣، وتُعد مقبرة هذا العظيم من أجمل المقابر التي بقيت لنا من عهد الأسرة التاسعة عشرة. وإن كان بعض مناظرها قد طُمس، فعلى جدران الردهة في الصف الأسفل نشاهد منظرًا يمثل الإدارة الملكية،٣٢٩ وفي أسفل هذا نشاهد قردًا يهاجم إوزة.٣٣٠ وفي الصف الأوسط نشاهد تكفين الموميات،٣٣١ وفي هذه الردهة نشاهد قاعدة لمشاعل مخروطية الشكل صُوِّرت في قاعة هذا القبر، وهي جديرة بالفحص لأنها غريبة في بابها حتى إنها لم يُفهم كنهها في بادئ الأمر، وقد ظهرت في عهد الرعامسة وأشرنا إليها في المقبرة رقم ٥١ (راجع مصر القديمة ج٦)، ولا غرابة في أن تظل غير مفهومة إذا علمنا أن كل مقابر عصر الرعامسة لم تُنشر بعد نشرًا علميًّا اللهم إلا المقبرتين اللتين نشرهما «ديفز» وتحدثنا عنهما ببعض التفصيل في الجزء السادس، وسنتحدث عن موضوع هذه المشاعل، أو المصابيح بعد الفراغ من ذكر بعض مناظر هذه المقبرة.
ففي القاعدة نشاهد منظرًا فوق مدخلها مُثل فيه سفينة الإله «آتوم» يقدم له «مرنبتاح» القربان.٣٣٢
وفي الصف الأعلى من جدار القاعدة نشاهد «ثاي» أمام «أمنحتب الأول» والملكة «أحمس نفرتاري» وهو يتعبد لهما، وقد كانا يُعدان من أكبر الآلهة الحامين لجبانة «طيبة» الغربية.٣٣٣ وفي ممر المقبرة نرى في الجزء الأسفل موكبًا جنازيًّا تنتحب فيه النسوة٣٣٤ ومعهن أقارب المتوفى.٣٣٥ وفي الصف الأعلى نقرأ متنًا للمتوفى وزوجه يقدمان للإله «أوزير» بوساطة الإله «حور» ابنه،٣٣٦ وفي الحجرة الداخلية نُقش على الجدار ألقاب المتوفى في منظر تطهير،٣٣٧ وفي المحراب نشاهد صورة الملكة «أحمس نفرتاري» وصورة «أمنحتب الأوَّل» وصورة «رعمسيس الثاني» أمام المائدة، كما نشاهد صورة البقرة «حتحور» خارجة من الغرب.٣٣٨

(١٢-٥) الشعلة

وموضوع المشاعل أو المصابيح في مصر القديمة له أهمية كبرى، ولذلك سنفحصه هنا على ضوء الشعلة أو الشمعة الجديدة التي ظهرت في مقابر الأسرة التاسعة عشرة، وهذه المشاعل التي سنتخذها نقطة البداية في بحثنا هنا توجد في مقبرة «وسرحات» رقم (٥١)،٣٣٩ وقد لُوحظ أنها موضوعة بجانب مائدة القربان بين صاحب المقبرة وزوجه، من جهة كاهن يقوم بتأدية واجبه بمبخرة وإناء ماء، وتحتوي على مخروطين أبيضين محليين بأشرطة حمر وصفر وموضوعين على عمودين قصيرين مثبتين في الأرض يكنفهما ثلاث فتائل مشعلة، كل منها مؤلف من ثلاثة خيوط مجدولة كالحبل ومربوطة من الوسط ومن النهاية بخيط، وكل حبل يظهر أنه يحتوي فتيلته الخاصة لوجود ثلاثة ألسنة من اللهب منفصلة فيه راجع شكل ٨.
fig9
شكل ٨: المشاعل (١).
ووجود هذين المخروطين من المشاعل المتقدة يجعلنا نستخلص من هذه الأشكال الهرمية المنظر نوعًا من المصابيح، وبخاصة عندما نرى في مقابر أخرى من عهد الرعامسة مصابيح هرمية الشكل مشتعلة عند نهايتها.٣٤٠

والأمر الذي لا يمكن الفصل فيه بصفة قاطعة هو فائدة هذه المخاريط التي أصبحت شائعة الاستعمال في عهد الأسرة التاسعة عشرة، وهل كانت للاستصباح مثل المشاعل التي معها أو كانت للتبخير، أو أنها كانت تُستعمل في كلتا الحالتين؟ ومن المدهش أنه على الرغم من أنها للإضاءة، أو للإيقاد، فإن الكيفية التي كانت توقد بها لم يستدل عليها قط، وحتى في عهد الأسرة الثامنة عشرة لم نعرف ذلك إلا عند ختامها، فقد رأينا المشعلة وهي توقد، ولا نعلم إذا كان المفروض في ذلك أن يقوم بذلك المتوفى في أثناء الليل، أو عند الأعياد المسائية، أو لسبب شعيري أو خرافي.

ولا بد أن الشريط كان لا يُستحب القبض عليه باليد عند استعماله، كما لا يمكن أن يستمر مشتعلًا طويلًا؛ ولذلك كان من الطبيعي أن يبحث الإنسان عن طريقة أفضل من كلتا الطريقتين السابقتين، وبخاصة عندما أصبح من المعتاد عند أصدقاء المتوفى أن يقدموا له الشعلة شخصيًّا. والفتائل التي استُعملت فيما بعد كانت كذلك أكبر من هذه، وأحيانًا تكون ثلاثية الشكل، وكانت تُنصب مستقيمة على قاعدة موضوعة على الأرض.

وفي خلال الأسرة الثامنة عشرة كان تقديم فتيلتين لإقامة الشعيرة يقوم به في العادة كاهن، كما نشاهد ذلك في رسوم مقبرة «بوم رع» (٣٩)، ومقبرة «حوى» نائب «كوش» (٤٠)، ومقبرة «حوى» نحات «آمون» (٥٤)، ومقبرة «قن آمون» مدير بيت الفرعون (٩٣). هذا إلى أنه في مناسبة الأعياد كان أهل المتوفى يمكنهم أن يقدموها مثنى مع علبة من الشحم لتموينها، وهذا هو ما يُعرف بتأدية شعيرة تقديم النور للمتوفى في الجبانة المظلمة.٣٤١ وهذه الشعيرة كانت تختلف منطقيًّا عن شعيرة تقديم إناء من البخور للتضميخ حيث نجد شريطًا يُوضع منتصبًا في القدح.٣٤٢ ونشاهد على الجدران الغربية لمقابر الأسرة التاسعة عشرة في «دير المدينة» شريطًا أو شريطين أو ثلاثة منتصبة في مسرجة واحدة يقدمها إله يُسمى «سزتي» يُنعت برب اللهيب للإله «أوزير» أو للإله «أنوبيس» عندما تغيب الشمس وراء التلال الغربية، وأحيانًا تمثل عين «حور» على مثل هذه المسرجة، وقد عُنْوِنَ ذلك في مقبرة (٢١٨) بالعبارة التالية: «إشعال نورٍ لك»، وفي هذه الحالات تكون المشاعل على هيئة فتائل أو أقراص مخروطية الشكل وتُضاء من طرفها راجع شكل ١٠.

أما الشمعدان الذي عُثر عليه حديثًا في مقبرة «توت عنخ آمون» فيشبه المسارج التي وصفناها فيما سبق، وهو شريط كالحبل منتصب في قدح له مقبض يُمون بالزيت على الدوام، أو يُصب فوقه الشحم، أو يُوضع في المسرجة. ولا نعلم على وجه التحقيق الغرض الأول من هذا الشمعدان الذي يشبه تمامًا الشمعدان الحديث، أكان للإضاءة أم للبخور؟ وإذا كان الغرض منه الإضاءة فإنه لم يكن يخلو من دخان ينبعث منه.

ولم تكن الفتيلة هي النوع الوحيد المستعمل للإضاءة حتى في الأسرة الثامنة عشرة، إذ نشاهد في المناظر التي على جدران المقابر مصابيح هرمية الشكل يؤتى بها للمتوفى للإضاءة، وإن كانت تظهر بأشكال قد يخطئ الإنسان تفسيرها بالنسبة لأشكال الإضاءة التي استعملت فيما بعد فهي معينة الشكل. ويظن الإنسان لأول وهلة أن كلَّا منها يحتوي على مخروط من الشحم مقلوب على مقبض مخروطي الشكل أيضًا. ولكن يُحتمل أن هذا لا يخرج من كونه كتلة من الشحم، أحد طرفيها مدبب ليوقد منه، والثاني مستطيل في وسطه عصا يُحمل منها، ولم يُرَ في الصورة أي نور يدلنا على طريقة إشعاله. وقد كان أول ظهوره في المقبرة رقم (٧٥) وهي مقبرة «أمنحتب ساسي» الكاهن الثاني للإله «آمون» في عهد «تحتمس الرابع»٣٤٣ انظر شكل ٨ (راجع مصر القديمة الجزء الخامس)، حيث نجد ثلاثة أو أكثر من هذه المصابيح محمولة خلف حامل أواني القربان، وكان الغرض منها أن تستعمل في وقت تناول المتوفى وجبته.
وأخيرًا نجد في مقبرة «موسى» كاتب الخزانة والمشرف على ضياع «تي» في أملاك «آمون» رقم (٢٥٤) — وقد عاش في نهاية الأسرة الثامنة عشرة — منظرًا قد رُسم رسمًا خشنًا نشاهد فيه بخورًا أحمر، أو شحمًا معطرًا يلقيه رجل على واحدة من ثلاث الشمعات المنصوبة فوق المائدة، اثنتان منها على هيئة فتيلتين عاديتين تحترقان، والثالثة على هيئة مخروط هرمي معين الشكل مضيء من أعلاه انظر شكل ٩، ومن ذلك نجد تقاربًا بين المصابيح والمشاعل التي ظهرت في عهد الأسرة التاسعة عشرة.
والصورة التي بدأنا بها البحث في المقبرة رقم (٥١) تُعد بداية عصر جديد لأشكال المصابيح التي وجدنا لها الآن نظائر في العصور التي قبلها، وفي هذه الحالة نرى أن الفتائل هي التي تحترق، لا المخاريط التي نلحظ عليها من الآن فصاعدًا أنها مسطحة القاعدة ومزينة بأشرطة أفقية، وما عدا ذلك نجد أشرطة ملفوفة حول المخاريط لتجعلها متماسكة، والشعيرة التي كانت تُستعمل من أجلها هذه المصابيح المخروطية الشكل كانت تُسمى «إيقاد النور»، وكان يتبعها تبخير القربان وتطهيره بالماء. ثم النساء النائحات على المتوفى، وكانت الشعيرة الأخيرة من الإضافات المميزة التي أُدخلت في عهد الرعامسة، وذلك على نقيض اشتراك أهل المتوفى في تناول وجبة رجوعه إلى الحياة التي كانت تُقام وسط مظاهر الفرح والابتهاج في عهد الأسرة الثامنة عشرة. والظاهر أن هذا النوع المتين من المشاعل أو المصابيح قد أصبح شائع الاستعمال، وأصبحت العادة بين أصدقاء المتوفى أن يأتوا بالمشاعل إليه مثنى مشتعلة ويثبتونها بوساطة مقابضها في الأرض أو على مائدة، وهذه الموائد كانت في الغالب على هيئة الأصص المصنوعة من الطين لغرس الأشجار فيها٣٤٤ انظر شكل ٨، ١٠ وكانت هذه في الواقع طريقة مناسبة لغرس مقابض المصابيح التي كان شكلها من باب الصدفة يشبه شكل الشجر، وهذا النخيل كان يعجب خيال المصري كثيرًا، وبخاصة إذا كانت هذه المشاعل مستعملة للتضميخ — حتى ولو كان ثانويًّا — لأن ذلك يعيد إلى خيال المصري صور الأشجار التي تحمل البخور، وهي التي أحضرها المصريون من بلاد «بنت» وزرعوها في أصص في معبد «الدير البحري» وغيره.
fig10
شكل ٩: الشعلة (٢).
والواقع أن المشاعل المخروطية الشكل لم تُصوَّر إلا في مقبرة «بنبي» خادم مكان الصدق. (راجع مصر القديمة الجزء السادس) انظر الشكل ٨، ٩ وقد عاش في عهد «رعمسيس الثاني» ولكنها لم تُرسم إلا على جدارين منها؛ لأن المقبرة كان يملكها مع رجل آخر يُدعى «كاسا»،٣٤٥ ويظهر من الدخان واللهيب اللذين يمكن رؤيتهما يتصاعدان من شكل رقم انظر الشكل ٨ أمام المشاعل المحمولة أن مخروطين أو فتيلتين قد ثبتا إما على المائدة أو بجانبها. ولا نعلم إذا كان الغرض منهما هو إحراق القربان أو الإضاءة. ويُلاحَظ في هذا المثل الذي ذكرناه أن العمود الأبيض الذي يُحمل على المخروط يمتد في داخله حتى القمة وأنه ملتهب في نهايته، ومن الجائز إذن أنه غابة سريعة الالتهاب، أو شعلة جامدة مستعملة بمثابة شريط وأن ما حوله من الشحم كان لتغذيته وجعله يضيء مدة طويلة.

ويُلاحَظ أن الشعلات المقدمة هنا لا يقدمها كهنة، بل يقدمها أطفال المتوفى بوصفها مظاهر إضافية لهدايا أخرى، لا بوصفها شعيرة دينية.

fig11
شكل ١٠: الشعلة (٣).

وتدل شواهد الأحوال على أن كل صور الشعل المخروطية التي كانت تُقدم في المقابر كانت تُرسم منتصبة على قواعد أو موائد، أو في أصص بالقرب من القربان، وكان معها فتيلتان. وأحيانًا كانت تبلغ الفتائل خمسًا كلها مضاءة.

وعلى الرغم من أن لدنيا براهين غير مباشرة على أن المخاريط — أو من المحتمل الفتائل أيضًا — كانت لها قوة التبخير، فإن هذه الشعيرة لم تكن تتم بإضاءتها فقط، إذ لم يكن بدٌّ من وجود كاهن، أو ابن للمتوفى يقوم مقام الكاهن ليبخر ويطهر القربان؛ ولذلك نجد أن تقديم الشعلة لا يصحبه عادة متن. ولكنا نجد في ردهة مقبرة «ثاي» رقم (٢٣) متنًا طويلًا مضافًا للمنظر يذكر لنا الصفات المفيدة التي تنجم عن وجود المضيء، وفي هذا المنظر كذلك نشاهد كاهنًا على اليمين يبخر ويطهر القربان أمام المتوفين — الرجل وزوجه — وبين القربان والمقرِّب لهما أُقيمت قاعدة شعلة انظر الشكل ٩، كما توجد كذلك قاعدة أخرى لقربان ومعها إناء عطور أو دهن، وإناء مشتعل للبخور موضوع على عمود ذي رأس بردي الشكل، وهاك ما جاء في هذا المتن: (أوله مهشم) …

للسنة الجديدة مقدمًا قربانًا «لأوزير» (تا) — (وهو اسم ثانٍ «لثاي» صاحب المقبرة) — كاتب سجلات رب الأرضين، في اليوم المذكور، معطرًا بزيت (مزت) ومشعلًا نورًا، وواضعًا قربانًا «لأوزير تا».

سلام عليك يا شعلة «أوزير تا»، سلام لك يا عين «حور»، يا من ترشدين الآلهة في الظلام، ويا من تقودين «أوزير تا» من أي مكان له إلى المثوى الذي يرغب أن يكون فيه روحه. وإني أمد مصباح «أوزير تا» الجميل بالشحم الجديد … والدك «جب» وأمك «نوت» و«أوزير» و«إيزيس» و«ست» و«نفتيس» حتى يضيئوا وجهك. ولكي يفتحوا بتلك الأصابع الخمس من الزيتون (خمسة مشاعل من زيت الزيتون؟) وهي التي يُفتح بها فم الإله، وقد أعطيت … وأعطى على الأرض، وقد أعطى في حقول «يارو» في ليلة عيد أول السنة السعيد (؟) إلى … وقد أعطيت ماء الآلهة العذب، وقد أعطاك الآلهة كذلك من الماء العذب اﻟ … النجوم الطاهرة التي لا تغرب، والنجوم الثابتة. ليت شعلة «أوزير تا» هذه الجميلة تكون سرمدية، وليت شعلة «أوزير تا» هذا تفلح كما يفلح «آتوم» سيد … في «هليوبوليس»، ليت شعلة «أوزير تا» الجميلة تفلح كما يفلح اسم «شو» وكذلك «تفنوت» و«جب» و«نوت» و«إيزيس» و«نفتيس» و«حور» و«وازيت» … و«تحوت». ليت هذه الشعلة الجميلة ملك «أوزير تا» تسعد في سفينة المساء، وفي سفينة الصباح، وليتها لا تخيب ولا تتلف أبدًا. إن «أوزير تا» قد ضوعف طهوره، وإن السماء مفتوحة لك، والسماء مدحوَّة أمامك، والطرق في الجبانة ممهدة لك، وإنك تروح وتغدو مع «رع»، وتمرح في مشيتك مثل أرباب الأبدية، وإن «حعبي» (إله النيل) هو الذي سيعطيك الماء، وإن «نبر» (إله الغلال) سيعطيك الخبز، و«حتحور» تقدم لك الجعة، والبقرة «حسات» (إلهة) تقدم لك اللبن، أنت يا «أوزيرثاي» يا من طهوره «مضاعف» ا.ﻫ.

ويُلاحظ في هذا المتن أنه موجه لشعلة واحدة جميلة، ولا بد أن ذلك يشير إلى الشعلة المخروطية الشكل، وأن الغرض منها هو الإضاءة، ومع ذلك نجد أنه قيل عن استعمالها الثانوي للتبخير إن له صدًى في نهاية هذا المتن حيث نلحظ أن الغرض المطلوب من إقامة هذه الشعيرة كان طهور المتوفى؛ ففي مقبرة «أمنمحات» رقم (٨٢) وهو كاتب «آمون» وحاسب غلاله، نجد — كما نجد هنا — أن العيد الذي كان يحتفل به هو عيد أيام النسيء الخمسة التي تأتي في آخر السنة،٣٤٦ فكانت إضاءة المشاعل مساء يوم رأس السنة من مظاهر هذا العيد الخاصة؛ ففي مقبرة «أمنمحات» نجد أنه قد استُحضرت خمس شعلات لهذه الأيام الخمسة التي كانت تُعد الأيام التي وُلد فيها «أوزير» و«حور» و«ست» و«إيزيس» و«نفتيس» على التوالي. وكذلك كانت تُجلب شعلتان أخريان ليوم رأس السنة، ولعيد اتحاد الأرواح، وكذلك الشعلة اليومية.٣٤٧ وهذه الشعلات الخمس قد أُحضرت في مقبرة «ثاي» ووُضعت على المنضدة؛ ولهذا نجد إشارة خاصة لأولاد «جب» و«نوت» الأربعة: «أوزير» و«ست» و«إيزيس» و«نفتيس». ومن المحتمل أن الشعلة المخروطية الشكل الكبيرة كانت مخصصة ليوم رأس السنة نفسه.

(١٢-٦) بنتاور

ويُلقب ساقي الفرعون
وقد وُجدت له لوحة في «العرابة» مؤرخة بالسنة الأولى من حكم «مرنبتاح» (راجع Marriette Abydos II, p. 49).

(١٢-٧) رعمسيس حرو

وُجدت له لوحة مؤرخة بالسنة الأولى من عهد «مرنبتاح» وهي محفوظة الآن «بمتحف اللوفر» وهي مهشمة، ويحمل عليها لقب «موظف حجرة الملك»، كما كان يُلقب «غاسل يدي سيده» (راجع Boreux, Guide. Cat. I, p. 92).

(١٢-٨) معي

مدير عيد «آمون» في كل أعياده (Champ. Notices Desc. I, 649 to 262 I, 18).

(١٢-٩) حورا

الكاتب المشرف على مائدة الفرعون (راجع Pierret Rec. Insc, 9) وُجد له تمثال محفوظ الآن «بمتحف اللوفر».

(١٢-١٠) خع امتير

وقبره في جبانة «شيخ عبد القرنة» (راجع L. D. III, 199, g).

(١٢-١١) قن حر خبشف

كان يُلقب كاتب القبر، أي إنه كان كاتبًا مكلفًا بالمراسلات الخاصة بالعمال الذين كانوا يشتغلون في مقبرة الفرعون «مرنبتاح» في «أبواب الملك»، كما كان مكلفًا بتموين العمال الذين يعملون في حفر هذه المقبرة. وقد عدد الأستاذ «شيرني» المصادر التي ذُكر فيها اسم هذا الكاتب، كما ذكر لنا ذلك الأستاذ «جاردنر» فيقول: إن الكاتب «قن حر خبشف» كان شخصية معروفة جدًّا. وقد ظهر بوجه خاص في النقوش التي على الصخور التي نقلها الأستاذ «اسبيجلبرج». والنقش رقم ٥٨٠ من هذه النقوش مؤرخ بالسنة الأولى من حكم «مرنبتاح»، وقد ذُكر هذا الكاتب مرتين في ورقة «صولت» رقم ١٢٤، ويرجع تاريخها إلى عهد «سيتي الأول» أو بعده بقليل، ولكنها على أية حال قبل عهد الفرعون «ستنخت»، وأقدم تاريخ للكاتب «قن حر خبشف» جاء على استراكا «بالمتحف البريطاني» بتاريخ العام الثاني والأربعين من حكم «رعمسيس الثاني» وقد جاء ذكره على عدة مجاميع من الاستراكا المحفوظة «بالمتحف المصري» (راجع No. 25779, 25780, 25783, 25784, 25785) وقد أُرِّخت بالسنين الأولى والثانية والرابعة ما بين حكم «مرنبتاح» و«سيتي الثاني» وفي استراكا «بمتحف القاهرة» (No. 25882. Rt) سطر «قن حرخبشف» الكاتب خطابًا للوزير «خعي» — وهو الذي كان يتولى الوزارة في عهد «رعمسيس الثاني» في السنة الثانية والأربعين، وكذلك في السنة الرابعة والأربعين، هذا وقد وُجد اسمه في القبر رقم ٢١٦ «بدير المدينة»، ويرجع تاريخ هذا القبر إلى عهد «رعمسيس الثاني»، ولا بد أن قبره كان في «دير المدينة» أيضًا غير أنه قد خرب تمامًا أو أنه لا يزال قائمًا ضمن المقابر التي لم يُعرف اسم صاحبها للآن، وقد ذكر الأثري «بليت» أن قبره يرجع إلى عهد الأسرة العشرين.٣٤٨
وقد عثر على بعض آثار باسمه، ولا شك في أنها من قبره؛ منها مائدة قربان،٣٤٩ وحوض قربان،٣٥٠ وعارضة باب،٣٥١ وحوض قربان آخر.٣٥٢ وفي «متحف القاهرة» عدة استراكا يظهر أن كاتبها هو «قن حرخبشف»؛ ويدل الخط المكتوب به ظهر ورقة كتاب الأحلام على أنه من تحبيره.

وقد وصل إلينا منه خطاب كتبه للوزير «بانحسي» الذي تحدثنا عنه فيما سبق والجزء الخاص بالتحيات للوزير والثناء على الفرعون من هذا الخطاب سهل الترجمة، ولكن الجزء الذي يتحدث عن مطالب العمال ورؤسائهم تظهر فيه صعوبات لغوية لم يمكن التغلب عليها، هذا بالإضافة إلى أن المتن فيه فجوات، وهاك ما أمكن ترجمته: إن الكاتب «قن حرخبشف» لمقبرة الملك «بان رع» العظيمة، محبوب «آمون بن رع» «مرنبتاح» المسرور بالصدق في بيت «آمون» يرسل أخبارًا سارة لسيده حامل المروحة على يمين الفرعون وعمدة المدينة ووزير الوجهين القبلي والبحري «بانحسي» في حياة وسعادة وصحة، وهذا خطاب لإعلام سيدي، وإخباره بما يسر، ذلك أن المكان العظيم (القبر الملكي) للفرعون الذي تحت سلطان سيدي في نظام حسن، وجدرانه في أمان ولم يصبه أي ضرر. وفضلًا عن ذلك فإن العمل في المكان العظيم للفرعون يسير بنظام تام، ويعمل الإنسان فيه على حسب إرادة الفرعون، سيده الطيب، وقد أنجز البناء الأبدي بإتقان. ليت الفرعون سيدي يمضي حياته بوصفه سيد كل أرض، وليته يحكم كما حكم «رع» والده مسيطرًا على كل ما يحيط به قرص الشمس، في حين أن كاتب الملك الحقيقي محبوبه وحامل المروحة على يمين الفرعون، والفم الذي يهب الطمأنينة في الأرض قاطبة، وصاحب الحظوة الأولى عند جلالته، والستار العظيم للأرض جمعاء، والبوابة العظيمة الحامية لجلالته، ومن أوامره مطاعة كلها، ومن مشاريعه كلها لا يخطئ واحد منها، عمدة المدينة والوزير «بانحسي» في حظوته كل يوم. أخبار سارة أخرى لسيدي إذ إننا لسنا … بالمعاول والجبس وعمال الفرعون قد أنجزوا … المعاول التي كانت في أيديهم، وأرجو أن يقصها على المشرف على خزانة الفرعون ويكتب إلى «بياي» وكيل خزانة الفرعون، وأرجو أن يورد معاول ومكاتل، وليته يكتب إلى وكيلي العمال ليمدانا بالجبس، وليته يكتب إلى الكتاب ليجعلهم يعطوننا أرزاقنا؛ لأن المشرف على مائدة القربان المسمى «بياي» كان هنا حتى اليوم ولم نرهم … وبسبب بعد المسافة عنهم التي من أجلها سيدنا الفرعون يكون …

والأسطر القليلة الخاصة بحاجيات العمال في مقبرة «مرنبتاح» لها أهمية عظيمة، وقد كشفت لنا بحوث علماء الآثار الحديثة في هذا الصدد كثيرًا عن حياة هؤلاء القوم وشخصياتهم، غير أننا لم نعلم إلا القليل عن كبار الموظفين الذين كانوا يشرفون عليهم والمسئولين عن إطعامهم.٣٥٣

(١٣) حالة البلاد بعد «مرنبتاح»

يدل ما لدينا من الآثار الباقية على أن «مرنبتاح» لم يمكث على عرش الملك أكثر من ثماني سنوات، وليس لدينا حتى الآن ما يثبت أنه قد حكم عشرين عامًا كما ذكر لنا «مانيتون» (راجع مصر القديمة ج٦)، وتُعد الفترة التي تلت موت «مرنبتاح» فترة اضطراب وقلاقل في داخل البلاد بسبب الثورات التي قامت من أجل عرش الملك والتطاحن عليه بين أفراد أسرة هذا العاهل. وهذه الفترة من الزمن في حكم البلاد تشبه الفترة التي مرت علينا في تاريخ التحامسة بعد موت «تحتمس الأول»، وهاتان الفترتان من تاريخ البلاد لا زالتا غامضتين على الرغم مما بذله المؤرخون والأثريون للوصول إلى كشف النقاب عنهما.

والواقع أن البلاد بعد عهد «مرنبتاح» كانت في حالة إعياء وفقر داخلي بالغين؛ فقد كانت — قبل عهد «مرنبتاح» — منهمكة في الحروب التي شنها «رعمسيس الثاني» على البلاد المجاورة، كما أنه كذلك كان قد استنفد مواردها في إقامة المباني الدينية والتماثيل الهائلة التي ملأ بها البلاد من أقصاها إلى أقصاها، حتى إن ابنه «مرنبتاح» أي ابن «رعمسيس الثاني» لما تولى عرش الملك لم يجد من المال ما يمكنه من إقامة آثار لنفسه، فاغتصب آثار أسلافه كما ذكرنا، وقد زاد الطين بلة تألب بلاد «لوبيا» عليه ومهاجمة ممالك البحر لمصر، ولم يكن في استطاعته صدهم عن احتلال الدلتا إلا بشق الأنفس، ومع ذلك نجد أن هؤلاء الأقوام كانوا قد أخذوا يتسربون إلى البلاد ويتخذون لأنفسهم مساكن فيها، بل وكانوا يشغلون أيضًا بعض وظائف الدولة الهامة، ومن أجل ذلك نجد أنه لما تُوفي «مرنبتاح» كانت الأمور مهيأة لقيام الاضطرابات وتأليف الأحزاب التي نجدها تنمو وتترعرع في مثل هذه الأحوال لانعدام الشخصية القوية التي تضرب على أيدي العابثين والنفعيين؛ وقد بقيت البلاد حقًّا في اضطراب مستمر منذ نهاية حكم «مرنبتاح» حتى مجيء «رعمسيس الثالث» الذي خلصها زمنًا من الفوضى التي كانت تهدد كيانها وتسير بها نحو الانحلال أولًا ثم الفناء آخرًا.

وتتجلى مظاهر الفوضى في البلاد في تلك الفترة فيما نشاهدها من انعدام الآثار التي تحدد لنا تتابع الملوك الذين جاءوا بعد «مرنبتاح»، ولا يزال المؤرخون مختلفين في أمرهم في هذا الشأن حتى الآن، وقد طلع علينا الأثري «إمري» برأي جديد لحل بعض المشكلات التي تجعل ترتيب أواخر ملوك هذه الأسرة هو الرأي الذي أخذ به «بتري» مقبولًا، وأن ما اتبعه «مسبرو» من ترتيب لا يتفق مع الواقع،٣٥٤ وقد أصبح الترتيب المتفق عليه حتى الآن مؤقتًا عند معظم المؤرخين وعلماء الآثار المصرية هو:

(١) سيتي مرنبتاح (سيتي الثاني)، (٢) «منموس»، (٣) «رعمسيس سبتاح»، وأخيرًا: (٤) الملكة «توسرت».

وتدل البراهين التي أوردها «إمري» على أن ترتيب «بتري» هو الصحيح (راجع Petrie Hist. of Egypt III, p. 120 ff)، ومع ذلك فإن وجود طغراء «سيتي الثاني» منقوشًا على اسم «رعمسيس سبتاح» لا يمكن أن يتفق مع ترتيب «بتري» في تتابع أسماء هؤلاء الملوك، وقد فسر «مسبرو» ذلك بقوله: إنه عند موت «سبتاح» تزوجت «توسرت» الفرعون «سيتي الثاني». وقد أكد هذا الرأي الأساور الفضية التي وُجدت لها باسم هذا الملك، والنظرية المعقولة بالنسبة لخلافة الملوك وتتابعهم في تلك الفترة تتوقف على أمر واحد كما يقول «إمري» وهو: هل كان هناك ملك ثالث يُدعى «سيتي»؟ ونحن من جانبنا نعلم بوجود أمير على بلاد «كوش» في تلك الفترة يُدعى «سيتي» (راجع مصر القديمة ج٥). وقد شغل هذه الوظيفة في عهد «سبتاح» إلى أن تولى وظيفته هذه آخر يُدعى «حورا» (راجع مصر القديمة ج٥) في السنة السادسة من حكم هذا الفرعون، ويتساءل «إمري» هل تزوجت الملكة «توسرت» بعد موت «سبتاح» من «سيتي» نائب بلاد «كوش» وجعلته شريكًا لها على عرش البلاد؟ فإذا كان الرد بالإيجاب فإنها تكون نظرية مقبولة تحل المشكلة، وعلى ذلك يمكن أن يكون القبر رقم ١٥ للملك «سيتي الثاني» وأن الطغراءات التي وُضعت زورًا في مقبرة «توسرت» رقم ١٤ «بأبواب الملوك» لحاكم بلاد النوبة «سيتي» زوجها أي «سيتي الثالث»، وبذلك يمكن تفسير وجود مقبرتين لملك واحد. وكذلك تشير الأساور الفضية إلى «سيتي الثالث» — حاكم بلاد النوبة. وعلى هذا الزعم يمكن تفسير السبب الذي من أجله نجد أن الزوجة الملكية العظيمة التي نقشت عليها هي «توسرت» لا «تاخعت»، وهذه النظرية التي طلع علينا بها «إمري» براقة خلابة في شكلها جذابة في موضوعها غير أنه ينقصها السند التاريخي الصحيح، وسيبقى الموضوع معلقًا إلى أن تجود الآثار المغمورة تحت الأرض في منطقة «أبواب الملوك» ببرهان جديد لا يحتاج إلى فروض.
١  راجع: G. Contenau, La Civilisation Des Hittites et Des Hurrites Du Mitanni P. 107 ff (Paris 1948).
٢  راجع: Maspero, The passing of the Empires p. 455 ff.
٣  «سوبار» و«سوبارتو». وهذه التسمية قد أُطلقت فيما بعد على «سوريا» الشمالية ومنها اشتُق على ما يظهر اسم «سوار» و«سوارا» وأخيرًا «سوريا» (راجع Hrozny, Histoire De L’Asie Anterieure p. 12).
٤  راجع: Ed. Méyer Gesch II, 1 pp. 544 ff.
٥  راجع: مصر القديمة الجزء السادس.
٦  راجع: Mariétte Serapéum III, p, 21.
٧  راجع: A. S. XXXIX p. 105 ff.
٨  راجع: J. E. A. V. p. 131.
٩  راجع: Aegyptische Inschriften II Berlin p. 85 (7553).
١٠  راجع: Mariette, Karnak Pl. 53.
١١  راجع كتاب الأدب المصري القديم ج٢.
١٢  راجع: Ed. Meyer Gesch II, 1 pp. 557.
١٣  راجع: Br. A. R. III § 630 ff.
١٤  راجع: J. E. A. vol. 2 pp. 195 ff.
١٥  راجع: Le page Renouf, (P. S. B. 13 p. 599).
١٦  راجع: A. Z. 52, p. 57 ff.
١٧  راجع: Borchardt, Sahure II. Pl. 1.
١٨  راجع: Urkunden I. p. 167.
١٩  راجع: A. S. 27 p. 57.
٢٠  راجع: Hölscher, Libyer und Ägypter p. 16.
٢١  راجع: Bates, p. 15 note 2.
٢٢  راجع: Dûmichen, Hist. Insch. II. Taf. 36, d L. 8 f; & Mem. Miss Tr. 15, pl 12, L. 9 ff.
٢٣  راجع: Sethe, Achtung. 26.
٢٤  راجع: A. S. 27 p. 108 pl. 3.
٢٥  راجع: Borchardt, Sahure I, p. 50 & pl. 24.
٢٦  راجع: Daressy, Statues de Divinités Cat. Gen. No. 38068 pl. 6.
٢٧  راجع: J. E. A. vol. 12 p. 163.
٢٨  راجع: Blackman, Mier I. pl 6.
٢٩  راجع: Sethe, Urgeschichte 79 f.
٣٠  راجع: Bissing, Denkm. Taf 33 Aa; and Sinuhe, Gardiner Notes pp. 10 and 153, and JEA 22, p. 35.
٣١  راجع: Lucas, Ancient Egyptian materials & Industries p. 106.
٣٢  راجع: Sethe, Pyramiden Texte L. 456 a.
٣٣  راجع: Naville, Totenbuch kap. 125 Schlussrede.
٣٤  راجع: Hölscher, Ibid. p. 21 f.
٣٥  راجع: Gardiner, Onomastica I. p. 116 ff.
٣٦  راجع: Gardiner, Onomastica I. p. 116 ff.
٣٧  راجع: Naville, Festival Hall pl. 7, 20.
٣٨  راجع: Hölscher, Ibid p. 19.
٣٩  راجع: Urkunden, IV p. 373.
٤٠  كتاب الأدب المصري القديم، الجزء الأول، Gardiner, Admonitions. P. 90 texts 14, 13.
٤١  راجع: L. D. II, pl 136 a.
٤٢  راجع: Lange-schafer, Grab and Denkstein des Mittleren Reiches II (cat. Gen) No. 20512; Capart L’Art Eg. II pl. 139.
٤٣  راجع: Naville, The XI Dynastie Temple at Deir-el Bahri III pl. 13, 2-3.
٤٤  راجع: Blackman Ibid pl. 8.
٤٥  راجع: Garstang, Burial Customs p. 139 f, pl. 138.
٤٦  راجع: Newberry, Beni Hassan I, pl. 45.
٤٧  راجع: Ed. Meyer, Gesch I, 2 p. 280 f.
٤٨  راجع: De Morgan, Fouilles à Dahshur pl. 19 and 20.
٤٩  راجع: Möller, Ibid p. 38.
٥٠  راجع: Boston Bull. 25 Nr 151 p. 67 pls. 5 & 7.
٥١  راجع: Boston Bull. 32 Nr 189 p. 9 fig. 9.
٥٢  راجع: Newberry, Beni Hssan I pl. 45 and 47, Tomb 14.
٥٣  راجع: Wreszinski, Atlas II, pl 50 a.
٥٤  راجع: Capart; Art Primitif. p. 168; Wresz. Atlas p. 167 and Hölscher Ibid p. 30.
٥٥  راجع: Möller Ibid p. 45 note 1.
٥٦  راجع: L. D. III, 136 a.
٥٧  راجع: Rosellini, Mon, Stor, pl. 159, 1; L. D. Erg Bd Taf 48 b. and Text III p. 201.
٥٨  راجع: Br. A. R. III § 584.
٥٩  راجع: Quibell, Hierakonpolis II. Pl 76.
٦٠  راجع: Lyon, Travels in Northern Africa p. 110 pl 9 f; Môller Ibid p. 46 Note.
٦١  راجع: Herodot. IV, 189; Diodor III, 49, 3; Silius Italicus III, 278.
٦٢  راجع: Ed meyer. Gesch II, 1 p. 81.
٦٣  راجع: Davies and Gardiner, Tomb of Huy pl. 23.
٦٤  راجع: Junger, Kleidung und Umwelt pl. 3. 3 and 9, 1.
٦٥  راجع: Negertypen Abb. 33–38, Junger Ibid PI. 9, 4.
٦٦  راجع: Medinet Habu I. Pl. 18.
٦٧  راجع: Petrie, Diospolis Parva pl. 25.
٦٨  راجع: Hölscher. Ibid p. 34. N. 6.
٦٩  راجع: Max Müller. Eg. Research II. P. 121; and Bates p. 131.
٧٠  راجع: Ed. Meyer, Gesch. I, 2 p. 52; Max Müller Ibid p. 50 note. 1.
٧١  راجع: Palace of Minos II, p. 33 ff.
٧٢  راجع: Wb. III. P. 462.
٧٣  راجع: Borchardt, Nefererkara p. 47.
٧٤  راجع: Urk III, 11.
٧٥  راجع: Ed Meyer, Gesch I, 2, p. 52; Max Müller. Eg. Res II p. 121 Note 2.
٧٦  راجع: A. Z. 61, 21 Taf. 2, 2; Maciver-Mace, El-Amrah and Abydos pl. 14, D 46.
٧٧  راجع: Mace, Naga-ed-Der p. 48 and pl. 47 d.
٧٨  راجع: V. Luschan, in Globus, and Junger Kleidung and Umwelt p. 107 ff.
٧٩  راجع: A. S. 11 pl. 3, 9 and 10 p. 49 ff. Medinet Habu 1, pl. 1.
٨٠  راجع: Davies, El Amarna V, Frontispiece.
٨١  راجع: Herodot. IV, 171.
٨٢  راجع: Hölscher Ibid. p. 39 note 10.
٨٣  راجع: Hölscher, Ibid p. 39 note 10.
٨٤  راجع: Br. A. R. IV § III.
٨٥  راجع: Br. A. R. IV § III.
٨٦  راجع: Wolf, Bewaffung p. 32.
٨٧  راجع: Wresz. I. pl. 50 a note 15; Bonnet Waffen p. 139.
٨٨  راجع: Medinet Habu I, pl. 39.
٨٩  راجع: Ibid I, pl. 18.
٩٠  راجع: Ibid II pl 72; 75.
٩١  راجع: A. Z. 51, p. 106 ff.
٩٢  راجع: L. D III 204 b.
٩٣  راجع: Wresz. Atlas II Taf 160 a.
٩٤  راجع: Medinet Habu II, pl. 74.
٩٥  راجع: Herodot. IV, 191.
٩٦  راجع: J. E. A, XXVII p. 83 ff.
٩٧  راجع: A. Z, XXI, p. 69; J. E. A, XIX p. 23.
٩٨  راجع: Br. A R. V, Index. pp. 53, 88.
٩٩  راجع: J. E. A, XIX p. 19 ff.
١٠٠  راجع: Kom. Ombos. No. 168.
١٠١  راجع: Urk III, 11, 46.
١٠٢  راجع: Herodot IV, p. 191.
١٠٣  راجع: Medinet Habu I, pl. 19; Ibid II, 74, 77.
١٠٤  راجع: Möller Ibid, p. 50.
١٠٥  راجع: De Rouge, Insc Hierog. Pl. 179–198; and Medinet Habu I, pl 22-3.
١٠٦  راجع: Urk. III, 54 L. 149 ff.
١٠٧  راجع: Ed. Meyer, Gesch I, 2 p. 55.
١٠٨  راجع: Medinet Habu II pl. 118 b.
١٠٩  راجع: Ibid fig. A.
١١٠  راجع: Wresz, Atlas II, Taf 50 and 50 a.
١١١  راجع: Gardiner, Onomastica p. 119.
١١٢  راجع: Urk I, 125 f.
١١٣  راجع: Ibid. I, 125, 13 ff.
١١٤  راجع: Herodot, IV 168; Ptolemaios IV, 5, 22.
١١٥  راجع: Frobenius, Volks-Mârchen der Kabylen I, p. 17; Moller Ibid p. 84.
١١٦  راجع: Hölscher, Ibid p. 50.
١١٧  راجع: Brugsch, Dic. Geog. des Alten Agypten, Leipzig (1852) II p. 78.
١١٨  راجع: A Desert Odyssey of a Thousand Miles in Sudan notes and Records 7, No. 1, 43 ff. pls. 1–3.
١١٩  راجع: Geographical Journal 82, 103 ff, J. E. A, 22 p. 47.
١٢٠  راجع: Hölscher, Ibid p. 55.
١٢١  راجع: Bull, De la soc. D’anthrop. II series 8, 6058; Rev. d’Anthrop. 5, 393 ff.
١٢٢  راجع: Hölscher, Ibid p. 54. Abb. 4 a and 4 b.
١٢٣  راجع: Scharff, Grundzüge p. 45 note 6 and p. 24 note 5.
١٢٤  راجع: Petrie, Prehistoric Egypt Corpus, 26.
١٢٥  راجع: Bates, ibid p. 245 ff, Appendix 1.
١٢٦  راجع: J E A, 22, 49 (Map).
١٢٧  راجع: Sudan Notes and Records 7 No. 1, 43 ff 1–3.
١٢٨  راجع: Sudan Notes and Records 7 No. 1, 79.
١٢٩  راجع: Bates, p. 247 fig. 92.
١٣٠  راجع: Hölscher, Ibid p. 55.
١٣١  راجع: Scharff. Altertumer, d. Vor und Fruhzt I p. 47 f.
١٣٢  راجع: Sudan Notes and Records 7 No. 61 ff and pl. 4.
١٣٣  راجع: Griffith, Oxford Excav. In Nubia in L. A. A. A. 8 pl. 5.
١٣٤  راجع: Maciver-Woolley, Buhen pl. 69, and Reisner, Kerma IV. P. 382.
١٣٥  راجع: Steindorff, Aniba I, p. 6.
١٣٦  راجع: Firth II p. 19.
١٣٧  راجع: Steindroff, Ibid, and Erman in ZDMC, 46, 577.
١٣٨  راجع: Sudan Notes and Records 7 No. 2, 18 ff.
١٣٩  راجع: Ibid 7 No. 2 P. 29 ff.
١٤٠  Hölscher Ibid p. 59.
١٤١  راجع: British School of Archeology in Jerusalem 1923. Supplementary Papers 1. Index of Hittite Names p. 3.
١٤٢  راجع: Die Ahhijava Urkunden p. 327. Pub. In Abh, München. Phil-Hist. Abt. 1923.
١٤٣  راجع: Forschungen 1, p. 95.
١٤٤  راجع: Arch. Orient. 1, 333 ff.
١٤٥  راجع: Kretschmer in Glotta 21 pp. 214, 215, 224.
١٤٦  و«بلست» أو «بلستي» (فلسطين) قد جاء ذكرها أولًا في النقوش التي من عهد «رعمسيس الثالث»، وقد جاء ذكر البلد على تمثال مغتصب في عهد غير مؤكد. ويظن «ستايندورف» أنه عهد الأسرة الثانية والعشرين، وقد اغتصبه شخص يُدعى «بيتز» رسول «كنعان» «لفلسطين». وقد ذكرها في نقوش «رعمسيس الثالث» حيث نجد أن القوم الذين يحملون هذا الاسم من أقوام البحار الذين غزوا مصر وسوريا من الجزر وكانوا متصلين بصفة خاصة بقوم «ثكر» الذين كانوا يماثلونهم في الشكل والأسلحة، وكانوا يلبسون لباس الرأس نفسه المحلى بالريشة مسلحين بالحراب والدرع المستدير والسيوف الطويلة العريضة، والخناجر المثلثة الشكل التي كان يستعملها قوم «شردانا» ولما كان قوم «ثكر» في قصة «ون آمون» (راجع الأدب المصري القديم ج١) التي يرجع عهدها إلى الأسرة الواحدة والعشرين؛ يقطنون بلدة «دور» فإننا لا نكون قد حدنا عن جادة الصواب إذا اقترحنا أن «بلستي» أي (الفلسطينيين) كانوا يسكنون على الساحل من جهة الجنوب بعد «دور» حتى إذا لم يكن هناك براهين تعضد هذا الزعم. يُضاف إلى ذلك أن قرن «بلست» بكنعان على التمثال السالف الذكر يمكن أن يعضد هذا الزعم بعض الشيء، والآن يجب أن نحاول هنا تلخيص البراهين التي ترمي إلى تحديد موطن الفلسطينيين الأصلي قبل ذلك العهد، فالتقاليد العبرية تتفق هي والتقاليد الإغريقية على أن الفلسطينيين من جنس أجنبي، وقد كانوا لا يُختنون، وهم في ذلك يختلفون عن الساميين، ولا يفوتنا أن نذكر هنا أن الأدلة القليلة التي لدينا تشير إلى أن «بلستي» أو فلسطيني عصر «رعمسيس الثالث» لم يهاجموا من مصر من جهة البحر وحسب بل تدل الشواهد كذلك على أنهم قد ساروا برًّا مخترقين آسيا الصغرى على ما يظهر قاصدين شمالي «سوريا». والظاهر أنه في هجرتهم هذه كانت نساؤهم وأولادهم يستعملون العربات التي تجرها الثيران المسمنة التي نراها مصورة في الموقعة البرية في نقوش مدينة «هابو».
وأخيرًا لم نجد أي شيء يتعارض مع ما جاء في متون مدينة «هابو» عن أن الفلسطينيين كان مثلهم كمثل حلفائهم قد بدءوا غزواتهم من جزر البحر الأبيض، هذا إلى أننا لم نجد ما يدحض التقاليد التي وردت في التوراة أو فيما كتبه الإغريق من أن الفلسطينيين قد جاءوا إلى فلسطين عن طريق «كريت». ولكن فروق التسليح التي بين المنويين (كريت) والفلسطينيين مضافًا إليها قرص «فياستوس» الذي كانوا يلبسونه قد جعل من المحقق أن «كريت» لم تكن الموطن الأول للفلسطينيين مهما كان طول مدة إقامتهم هناك في طريقهم إلى مصر و«فلسطين» أما موطنهم الأصلي فيمكن أن يُبحث عنه في مكان ما في شمال بحر إيجه، ومن المحتمل أن احتلالهم للجزر هناك كان إحدى مراحل هجرتهم وقد أخذ بعض المؤرخين حديثًا يربطون اسم «بلستي» باسم «بلاسوي» لما بين الاسمين من التشابه اللفظي، غير أنه من المستحيل إعطاء رأي قاطع في ذلك الأمر (راجع Gardiner, Onomastica, 205.)
١٤٧  الشكلش: هم أهل «صقلية» وعلى حسب ذلك الظن تكون الغزوات التي وقعت في عهد كل من «مرنبتاح» و«رعمسيس الثالث» قد بدأت من غربي البحر الأبيض المتوسط، وهذا الرأي يوافق ما جاء عن علاقتهم باللوبيين، وكذلك وُجدت تماثيل صغيرة من الرنز في «سردنيا» وكذلك كأس من الفضة عُثر عليه في «شيويزى» وقد رُسم عليه بعض الخوذات التي تشبه خوذات «شردانا» ويقول الأستاذ «مسبرو» أن هؤلاء القوم قد هاجروا من «ليديا» وأن الشردانيين كذلك من أصل آسيوي، غير أن قوله هذا لا يرتكز على سند (راجع Onomastica 1, p. 197.)
١٤٨  الثكر: أحد أقوام البحر الذين هاجموا «مصر» و«سوريا» في عهد «رعمسيس الثالث» ومن المحتمل أنهم قوم من سكان الجزر، جاءوا في عهد الغزوة الكبرى، وفي قصة «ون آمون» نعلم أن «ثكر» كانوا يحكمون بلدة «دور» الواقعة على الساحل الفينيقي، وهي جنوبي «الكرمل» وقد ذُكروا فيما بعد بأنهم قراصنة بحر، ثم اختفوا بعد ذلك من مسرح التاريخ، وقد عُملت محاولات لتوحيد قوم «ثكر» بقوم أو مكان مذكور في التوراة بلدة «رفلاح»، ويقول الأستاذ «هول» الذي ذكر هذا الاقتراح أن «ثكل» أو «ثكر» يجوز أن تعدها «صقلية» أحسن من أن تكون «شكلش» ويحبذ هذه الفكرة كذلك الأستاذ «ألبريت» وهذه الموازنات لا ترتكز إلا على مشابهة الصوت، ولذلك لا يعتمد كثيرًا عليها (راجع Onomastica 1, P. 199 ff.)
١٤٩  دنى: وتُكتب عادة «دنونا». وهذا الاسم يُطلق فقط على قبيلة تعيش في سهل «أرجوس» من بلاد اليونان، ولكن تُستعمل في «الإلياذة» دلالة على اليونان عامة، ولا نجدها في النقوش المصرية إلا في متن «أمنئوبي» وفي متون «رعمسيس الثالث» أي إن هؤلاء القوم لم يُذكروا بين حلفاء «خيتا» الذين حاربوا «رعمسيس الثاني» هذا ولم نجده كذلك بين أقوام البحار الذين تحالفوا على مهاجمة «مصر» مع أمير «لوبيا» في عهد «مرنبتاح» وقد ذُكروا فقط أربع مرات في حروب «رعمسيس الثالث» وفي الملخص التاريخي الذي كتبه «رعمسيس الثالث» نجده يقول: لقد ذبحت قوم «دنونا» في جزرهم (راجع ورقة هارس). والجملة التي بعد ذلك تشير إلى أقوام «ثكر» و«بلست» و«شردانا» و«وشش» من سكان البحر، ونجد في صور مدينة «هابو» صفًّا من أهل «دنونا» مُثلوا بلباس رأس فيه ريش يرتدون قميصًا مخططًا كالفلسطينيين الذين صُوروا في الصف الأسفل منهم، وفي المتن الخاص بهذا المنظر نقرأ: «إن سيفي قد طرح هؤلاء الذين أتوا ليفخروا بأنفسهم وهم «بلست» و«دنونا» و«شش».»
وفي النقوش الكبيرة الخاصة بحروب السنة الثامنة من عهد «رعمسيس الثالث» جاء ما يأتي:

وحلفهم كان يشمل «بلست» و«ثكل» و«شكلش» و«دنى» (دنونا) و«وشش».

ونزيد على المعلومات السابقة أنه يُحتمل توحيد «دنونا» مع «دانون» من حيث الهجاء المحض. أما من حيث التاريخ فيُحتمل أنها كانت موحدة بها، وبخاصة أن ذكرها مع «فلسطين» يتطلب قومًا لهم أهمية، وتدل أسطورة حروب «طروادة» على أن حركة «دانا» نحو الشرق من بلاد الإغريق نفسها كانت من الأمور المعروفة، هذا فضلًا عن أننا إذا استثنينا الإشارة التي وردت عنهم في ورقة «هاريس» فليس لدينا ما يدل على أنهم كانوا يسكنون في جزر (راجع Onomastica 1, 124–27.)
١٥٠  راجع: Gotze, A. J. A, 40, 213.
١٥١  راجع: Herodot VII, 91.
١٥٢  راجع مصر القديمة الجزء السادس.
١٥٣  راجع: Dumichen, Historische Inschriften 1, 2–6.
١٥٤  راجع: Mariette, Karnak 52–55.
١٥٥  راجع: De Rouge, Insc. Hierog pp. 179–98.
١٥٦  راجع: A. S. IV, pp. 2–4.
١٥٧  راجع: Max Möller, Egypte Research I pl. 17–32.
١٥٨  راجع: Br. A. R. III § 574 ff.
١٥٩  راجع: J. E. A. Vol. V. P. 258.
١٦٠  أي هز رأسه بالموافقة، وذلك من عمل الكهنة طبعًا.
١٦١  راجع: Brugsch, Geschichte p. 577.
١٦٢  راجع: A. Z. 1881, d. 118.
١٦٣  راجع: Br. A. R. III § 596.
١٦٤  راجع: A. Z. 1883 p. 65–67.
١٦٥  راجع: A. S., 27, p. 19 ff.
١٦٦  مصر.
١٦٧  لأن الضغط عليهم كان شديدًا، إلا أن «بتاح» ظهر للملك في الحلم وأمره بأن يتشجع.
١٦٨  من القبائل اللوبية.
١٦٩  حتى يسهل الفرار.
١٧٠  صفة لازمة على الدوام للرؤساء الأجانب المهزومين.
١٧١  العلامة المميزة للوبيين.
١٧٢  اسم الرئيس.
١٧٣  اسم الملك.
١٧٤  اسم آخر للإله «ست» الذي أخذ الآن مظهرًا حربيًّا.
١٧٥  قد يكون هذا عمل الليبيين السلمي فقد كانوا حمالين للقوافل.
١٧٦  إله الهواء وهو ابن «رع».
١٧٧  يحتمل أن الفقرة كلها فاسدة التركيب ويحتمل أن المقصودين هنا هم المنجمون والسحرة.
١٧٨  كل القطعة تتفق مع محاكمة «حور» و«ست» في «هليوبوليس» حيث قامت براءة «حور» وإدانة «ست».
١٧٩  «رع».
١٨٠  وازن ذلك بما جاء في النقوش البارزة التي تمثل إلهًا يعطي الملك هذا السلاح الذي يشبه المنجل.
١٨١  «منف» مدينة «بتاح تنن».
١٨٢  يعتبر الملك كجزء من الشخص الإلهي.
١٨٣  أرمنت.
١٨٤  المقصود محاطات الآبار المحصنة في الصحراء.
١٨٥  اسم قبيلة نوبية يشتغل رجالها جنودًا وشرطة عند المصريين.
١٨٦  الذي يحدُّ مراعيها، ولم تُسرق كذلك على الجانب المقابل لهذه المراعي.
١٨٧  اسم قديم لجيران مصر المعادين لها.
١٨٨  هذا هو أول عهدنا باسم إسرائيل، بل هي المرة الأولى التي ذُكر فيها الاسم في نصر مصري، وبموازنته بأسماء أخرى نجد أن كلمة إسرائيل كتبت لتدل على شعب لا على بلد، وعلى ذلك فإن الكاتب قد عد الإسرائيليين قبيلة بدوية تقيم في فلسطين.
١٨٩  تشبيه كثير الاستعمال لبلدة خربت.
١٩٠  سوريا.
١٩١  «قهق» أو «جهج»: والكتابة الأولى لهذه الكلمة هي المتفق عليها (راجع Gauth. Dic. Geogr. V, 160 f). وقد أصبح من المعلوم أن بلاد «كهك» التي أحضر منها «أحمس بنخبت» غنيمة في عهد «أمنحتب الأول» (راجع Urk IV, 36, 4) تُعد أرضًا أخرى يحتمل أنها في بلاد النوبة، وعلى ذلك فإن ما جاء في ورقة «أنسطاسي» الأولى (Anst. 1, 17, 4) من ذكر «الشردانا» و«القهق» و«المشوش» و«النحسيو» (النوبيون) بوصفهم فرقًا في الجيش المصري يُعد أقدم إشارة لهؤلاء القوم. وفي متون الفرعون «مرنبتاح» التي نحن بصددها الآن قد جاء ذكر «القهق» مع اللوبيين بوصفهم أسرى (راجع Muller. Eg. Research, I pl. 28 I. 57). وفي ورقة «هاريس» (78,5) نجد أنهم قد ذُكروا مع «الشردانا» بوصفهم محاربين في الجيش المصري، وهذان الطرازان من الجنود الأجانب قد جاء ذكرهما في نفس الورقة (Ibid 78–10) بأنهم يعيشون في أمان في بلاد ملكهم، ومما يلفت النظر أن «القهق» لم يُذكروا ضمن قائمة أقوام «لوبيا» الذين اقتحموا الدلتا وغزوها قبل عهد «رعمسيس الثالث» (Ibid 77, 3) وعلى ذلك فإنه خلافًا لذكرهم في عهد «مرنبتاح» ليس لدينا من يبرر الرأي القائل بأنهم من اللوبيين. وفي «متحف تورين» بعض متون يُقال إنها كُتبت بلغة «القهق» في متن سحري (راجع Plyte and Rossi pap. Turin, 138, 2).
١٩٢  راجع: Pap. Harris 1, 76, and 78, 10, Comp. Ed. Meyer Gesch II, 1 p. 584f.
١٩٣  راجع: Naville, Archeology of the Old Testament 1913; Sayce The Higher Creticisim and The Monuments, 1915.
١٩٤  راجع: Hall, The Ancient History of the Near East 10th Ed. P. 408 ff.
١٩٥  راجع: Archeology of the old Testament 1913 p. 93.
١٩٦  راجع: Petrie, Israel in Egypt p. 35.
١٩٧  راجع: Journal of the Royal Asiatic Society. Jan. 1901.
١٩٨  راجع: Hall, The Ancient History of the Near East 1st Edition p. 408–9.
١٩٩  راجع: J E A XIX p. 127.
٢٠٠  راجع: Albright. From the Stone Age to Christianity p. 194 ff.
٢٠١  راجع: Bulletin de la Societe Royale de Geographie D’Egypt Tome XXI, 231 ff. Historical Notes on the Pelusiac Branch, The Red Sea Canal, and The Route of the Exodus.
٢٠٢  راجع: Peet, Egypt and The Old Testament p. 196-97.
٢٠٣  راجع: Petrie Tanis II, Nebesheh and Defenneh p. 50.
٢٠٤  راجع: A. S. XXXII, p. 115–128.
٢٠٥  راجع: J. E. A. V, p. 263.
٢٠٦  راجع: Bull. Soc. Geogr. Ibid p. 267.
٢٠٧  راجع: Memoires Sur les principaux travaux d’ utilité publique executés en Egypte par Linant de Bellfonds p. 198.
٢٠٨  راجع: A. S. L. Part II p. 433–460.
٢٠٩  راجع: Albright From The Stone Age to Christianity p. 195.
٢١٠  راجع: A. S. VIII p. 108.
٢١١  راجع: Excavation at Giza Vol III, p. 69.
٢١٢  راجع: A. S. XXVII p. 167-8.
٢١٣  راجع: A. S. VI p. 116–118.
٢١٤  راجع: J. E. A. Vol VI p. 221.
٢١٥  راجع: Weigall, Guide p. 248.
٢١٦  راجع: Petrie Hist. of Egypt III, fig. 41 p. 108.
٢١٧  راجع: Weill, Recueil Insc. Sinai 117, 130–4.
٢١٨  راجع: Borchardt. Stat. Und Statuetten II pl. 98. Pp. 122.
٢١٩  راجع: Ibid II pl. 60 pp. 3-4.
٢٢٠  راجع: Petrie, Tanis II pl. VII.
٢٢١  راجع: Porter and Moss, IV p. 15.
٢٢٢  راجع: Ibid p. 15.
٢٢٣  راجع: Berlin Mus N, 7265; Cairo Mus. N. 37465, 37482.
٢٢٤  راجع: Petrie, Tanis I pl. II, (8 o. b.) cf p. 6, II pp. 16-17.
٢٢٥  راجع: Porter and Moss, IV p. 20.
٢٢٦  راجع: Rifaud, Voyage p. 125.
٢٢٧  راجع: Montet: Les Nouvelles Foulles pl. LXVI p, 116.
٢٢٨  راجع: Petrie Nebesheh p. 31.
٢٢٩  راجع: Petrie Nebesheh p. 31.
٢٣٠  راجع: Naville, Bubastis pl. XXXVIII D of p. 45.
٢٣١  راجع: Naville, Ibid p. 18.
٢٣٢  راجع: Mariette, Mon. Divers pl. 63 c and Borchardt Ibid II. Pl. 89, pp. 87-8.
٢٣٣  راجع: A. S. XXIII p. 166–9.
٢٣٤  راجع: A. S. XIII p. 279.
٢٣٥  راجع: Petrie, Hyksos and Israelite Cities pi. XVI. XVIa, and Naville, Mound of the Jews and Griffith Tell el Yahudiyeh p. 41.
٢٣٦  راجع: Griffith, Ibid pl XXI p. 65.
٢٣٧  راجع: A. S. XIX p. 131.
٢٣٨  راجع: Piankhi, Stela I, 100-101.
٢٣٩  راجع: Porter and Moss, III p. 116.
٢٤٠  راجع: A. S. VIII, p. 20.
٢٤١  راجع: Porter and Moss, Ibid p. 223.
٢٤٢  راجع: A. S. III p. 26.
٢٤٣  راجع: Brugesh, Thesaurus p. 1066.
٢٤٤  راجع: A. S. XV p. 97 ff.
٢٤٥  راجع: Jr. Egyptian Expedition in Pensylvania University Museum Journal VIII (1917) figs, 77–89 pl id. Ib. p. 215 fig. 79 and 224 fig. 84.
٢٤٦  راجع: Ibid p. 221 fig. 82.
٢٤٧  راجع: J E A, 27, p. 47.
٢٤٨  راجع: Welbour Pap. II p. 13.
٢٤٩  راجع: Porter and Moss IV p. 118.
٢٥٠  راجع: A. S. XVII p. 33–38.
٢٥١  راجع: A. S. VIII p. 211–223.
٢٥٢  راجع: Porter and moss, III p. 168.
٢٥٣  راجع: Petrie, Tell el Amarna p. 4.
٢٥٤  راجع: Porter and Moss, III p. 120.
٢٥٥  راجع: L. D. III p. 198 b. a.
٢٥٦  راجع: L. D. III p. 198 e, e.
٢٥٧  راجع: Borchardt, Cat II pl. 94 pp. 104-5.
٢٥٨  راجع: Petrie, and Quibell Nagada and Ballas pp. 68, 70.
٢٥٩  راجع: J. E. A. XII p. 160.
٢٦٠  راجع: Lefebvre, Fouilles à Abydos A. S, XII pl. 206–8.
٢٦١  راجع: Ibid p. 206.
٢٦٢  راجع: A. S. XVIII p. 226.
٢٦٣  راجع: Rapport, Medamoud 1931 & 1932 p. VII (2) figs 33–5, p. 58-9.
٢٦٤  راجع: Champ. Notices Desc. II p. 272.
٢٦٥  راجع: Ibid p. 129.
٢٦٦  راجع: Weigall, Guide p. 104.
٢٦٧  راجع: Legrain, Cat. Gen No. 42148 Vol II p. 13-14.
٢٦٨  راجع: Jeqiuer, L’Architecture I. pl. 10.
٢٦٩  راجع: Winlock, Metro. Bull. Nov. 1922 pp. 227, 230, 231.
٢٧٠  راجع: L. D III, 199 b.
٢٧١  راجع: A. Z. LVIII p. 27.
٢٧٢  راجع: Borchardt, Ibid II pl 110, and p. 156-7.
٢٧٣  راجع: L. D. III 199 c.
٢٧٤  راجع: Temple of Armant p. 4; 5, 165 pls XI, XVII, XVIII, CV.
٢٧٥  راجع: Porter & Moss V p. 217.
٢٧٦  راجع: Weigall, Guide p. 370 ff.
٢٧٧  راجع: L. D. III, 2ooa; Champ. Mon. C. 11 (1).
٢٧٨  راجع: Porter and Moss, V, 229.
٢٧٩  راجع: J. E. A, 24, p. 154.
٢٨٠  راجع: Die Veziere Des Pharaonen Reichs, Von Arthur Weil, p. 104.
٢٨١  راجع: Porter and Moss II, p. 210.
٢٨٢  راجع: L. D. Text IV p. 85 g.
٢٨٣  راجع: Champ. Notices Desc. 1, 647-8 and II, 19, 23.
٢٨٤  راجع: Baedeker’s Egypt p. 360; Porter and Moss V, p. 212.
٢٨٥  راجع: Rec. Trav. XVII, 162, 163 Pillar 14.
٢٨٦  راجع: A. Z. 73, II, p. 77 ff.
٢٨٧  راجع: Mariette, Mon Divers pl. 78.
٢٨٨  راجع: P. S. B. A. (1885) p. 172.
٢٨٩  راجع: Borchardt. Cat. Gen II, Stat. & Statuetten 582, 1093, 1136.
٢٩٠  راجع: Ibid, 1141, 548.
٢٩١  راجع: Kees, Horus and Seth II p. 73.
٢٩٢  راجع: Kees, in Pauly Wissowa Re und Ebenda Thinis. Thinites.
٢٩٣  راجع: Junker, Onoris Legende p. 56 f.
٢٩٤  راجع: Borchardt, Stat. U. Statuetten II, 548.
٢٩٥  راجع: Mariette, Mon. Divers pl. 78 b Architrave.
٢٩٦  راجع: Mariette, Mon. Divers pl. 78 b and p. 79.
٢٩٧  راجع: Borchardt, Stat. u. Statuetten II p. 559.
٢٩٨  راجع: Legrain, Stat, III p. 74.
٢٩٩  راجع: Kees. Kulturgeschichte p. 67.
٣٠٠  راجع: Kees Zur Innenpolitik der Saitendynastie p. 105.
٣٠١  راجع: Pap. Harris 1, 61 a, 12;61 b, 1-2. H. Schaedel Die Listen des Grossen Pap Harris Leipzig Agyptol. Stud H. 6. P. 72.
٣٠٢  راجع: Kees, A. Z. 53, p. 82; Anthes A. Z. 67, p. 2 ff.
٣٠٣  راجع: Champ. Notices Desc. I, p. 537; and L. D. III, p. 240.
٣٠٤  راجع: Northampton, Spiegelberg and Newberry, Theban Necropolis p. 9 fig 6.
٣٠٥  راجع: Rapport Sur Les Fouilles de Dier el Medineh (1927 and 28) pp. 118, 119, and A. Z. 70 p. 29.
٣٠٦  راجع: Rapport. Dier el Medineh (1928) (1929 p. 95 fig 53).
٣٠٧  راجع: Ibid, 1922-3 (1924) pl. XV, XCI.
٣٠٨  راجع: Porter and Moss I, 132, 134. And Davies Ibid fig. 9.
٣٠٩  راجع: Davies Ibid fig 10.
٣١٠  راجع: Porter and Moss I, p. 74; Davies Ibid, fig. 7.
٣١١  راجع: Davies Ibid, fig. 13.
٣١٢  راجع: Ibid, fig. 15.
٣١٣  راجع: Ibid, fig. 8.
٣١٤  راجع: Ibid, fig. 11.
٣١٥  راجع: Porter and Moss, I, p. 167.
٣١٦  راجع: Ibid, p. 182.
٣١٧  راجع: Davies, Ibid, 7.
٣١٨  راجع: Davies, Ibid, 1, 2.
٣١٩  راجع: Davies, Ibid, 4, 5, 10, 12, etc.
٣٢٠  راجع: Davies, Ibid, 6, 8.
٣٢١  راجع: Davies, Ibid, 7, 15.
٣٢٢  راجع: Borchardt, A. Z, 70, p. 28 fig 1.
٣٢٣  راجع: Borchardt, Ibid fig 1.
٣٢٤  راجع: JEA. X p. 200.
٣٢٥  راجع: A. S. XL. P. 45 & pl. VIII.
٣٢٦  راجع: Chronique D’Egypte, 21 p. 37 ff.
٣٢٧  راجع: Loat, Gurob pl. XV.
٣٢٨  راجع: Porter & Moss I, p. 63 plan. 59.
٣٢٩  راجع: A, Z. XLIV p. 59 ff.
٣٣٠  راجع: Wresz. I, 123 B.
٣٣١  راجع: Ibid p. 124.
٣٣٢  راجع: Dumichen, Hist. Insch. II, XLIV f.
٣٣٣  راجع: L. D. III, p. 199 d.
٣٣٤  راجع: Wresz, I, 123 (A).
٣٣٥  راجع: L. D. III, 199 g.
٣٣٦  راجع: Dumichen, II, XLIV, e, 11, 1–4.
٣٣٧  راجع: Ibid XLIV C.
٣٣٨  راجع: L. D. III, 199 e, cf. Txet III, p. 253 & L. D. III, p. 119 h.
٣٣٩  راجع: J. E. A. X, pl. V, p. 9.
٣٤٠  راجع الصور ٨، ٩، ١٠.
٣٤١  راجع: Gardiner, The Tomb of Amenmhat, Pl. XXIII; Ibid, p. 97 in Pl. XLVI.
٣٤٢  راجع: Theban, Tombs Series III, pl. XVII.
٣٤٣  راجع: JEA, 10 pl. V, fig. 2.
٣٤٤  راجع: Ibid. fig 11, 14.
٣٤٥  راجع: Ibid. fig 7, 8.
٣٤٦  لا تزال عادة الاضاءة عند القبور في الأعياد شائعة حتى الآن.
٣٤٧  راجع: Gardiner, The Tomb of Amenmahat pl. XIV p. 97.
٣٤٨  راجع: Plyte and Rossi, Pap. De Turin 3 bottom line.
٣٤٩  راجع: Rapport Dier el Medineh (1923-24) Pl. XII.
٣٥٠  راجع: Ibid (1924-5) p. 49.
٣٥١  راجع: Op. Cit p. 195.
٣٥٢  راجع: Ibid 1929 p. 67.
٣٥٣  راجع: Hieratic Papyri in the British Museum Third Series Chester Beaty, Vol I, text p. 24 ff.
٣٥٤  أما «إدورد مير» فيقول في شأن تتابع هؤلاء الملوك ما يأتي: «إننا نعرف من هذا العهد ثلاثة ملوك لهم مقابر في «وادي الملوك»، اثنان منهم يُعدان غير شرعيين، وقد مُحي اسماهما من الآثار القليلة التي ظهرا عليها، وأولهما هو «منمس» وهو مغتصب؛ لأنه ليس من دم ملكي، فأمه «تاخعت» كانت لا تحمل إلا لقب الأم الملكية العظيمة، وعلى ذلك لم تكن زوجة ملكية أو بنت ملك على الأقل مثل زوجه الوحيدة «بكنور» وأنه ذكر لنا في «معبد القرنة» الذي نشاهده فيه يمجد آمون «وسيتي الأوَّل» «ورعمسيس الثاني»، وهنا وضع «سبتاح» اسمه فوق اسمه، أنه هو ابن آمون، والبذرة المقدسة التي خرجت من أعضائه، وابن «حور» المحبوب مثل ملك الوجه القبلي، والجميل مثل ملك الوجه البحري الذي أرضعته «إيزيس» في بلدة «خميس» (في الدلتا مثل حور) ليحكم هذه الأرض.» وعلى الرغم من أن هذا الوصف يمكن أن يُقال عن كل ملوك مصر فإن الأستاذ «برستد» (Br. A. R. III, 641) يفسر ذلك بأن هذا المدعي كان ملكًا حقيقيًّا مثل «حور» عندما كان مستترًا عن عيني «ست» وترعرع في عهد مطاردة «ست» له، وبعد ذلك تولى عرش مصر منتصرًا، والظاهر أن «مرنبتاح» قد طوح به غير أنه لم يمكث على العرش طويلًا وقبره قد هدم تهديمًا شاملًا وقد أسقطه بدوره «مرنبتاح سبتاح» وجلس مكانه على العرش على حسب ما جاء في النقوش حتى السنة السادسة من حكمه، وقد اشتركت معه زوجه «توسرت» ولها قبر عظيم وقد حفر بجوارها وزير ماليته «باي» لنفسه قبرًا عظيمًا، ولا بد أنه كان قد لعب دورًا هامًّا في ولاية العرش في ذلك العهد. وقد خلفه على العرش «سيتي الأوَّل» وقد محا اسم سلفه في حين أنه على ما يظهر قد تزوج من «توسرت» وبنى لنفسه قبرًا بجانب قبرها وبقي يحكم معها، وقد عده أخلافه ملكًا شرعيًّا. ومات في السنة السادسة من سني حكمه؛ وتدل نقوش على قطعة من الحجر الجيري دُوِّن عليها يوميات عن العمل في قبره، على أن خليفته على العرش هو «رعمسيس سبتاح»، وأنه بعد وقف العمل أربعة أيام في قبره حدادًا عليه استمر دون عائق، ومن ذلك نفهم أنه لم تحدث أية قلاقل من جراء تغيير الجالس على العرش. والملك الجديد لا يُعرف له إلا آثار قليلة، ويُلاحَظ هنا أن سجل اليوميات السالف الذكر قد نشره «دارسي» (راجع Rec. Trav. 34, (1912)) وبحث معه النقوش الأخرى المتعلقة بهذا الموضوع وقد استنبط بحق أن «رعمسيس سبتاح» لا يمكن توحيده مع «مرنبتاح سبتاح»؛ وذلك لأن لقب عرش كل منهما كان مختلفًا عن الآخر تمامًا. ومن المدهش أن «رعمسيس بتاح» قد ولى في السنة الأولى من حكمه نائب ملك في «كوش» يُدعى «سيتي»، وقد كان هذا الموظف بعينه يشتغل هذه الوظيفة مدة ثلاث سنوات في عهد «مرنبتاح سبتاح» — ولا يمكن توحيد «سيتي» هذا حاكم «كوش» «بسيتي الثاني» كما يسلم البعض بذلك — والملك الذي يتلوه على الآثار هو «ستنخت» والد «رعمسيس الثالث» وهذا كل ما جادت به علينا الآثار الخاصة بهذا العصر، والواقع أنه لا يمكننا أن نجزم على وجه التحقيق بعلاقة الملوك بعضهم ببعض ولا ندلي بالأسباب التي تعضد ادعاء كل منهم لذلك. وهاك ترتيب ملوك هذه الفترة كما رتبهم «إدوردمير»:
  • (١)

    مرنبتاح: حكم ٨ سنوات على الأقل.

  • (٢)

    امنمس: حكم ما يقرب من سنتين.

  • (٣)

    مرنبتاح سبتاح: حكم ٦ سنوات.

  • (٤)

    سيتي الثاني: حكم ٦ سنوات.

  • (٥)

    رعمسيس سبتاح: عدة سنوات.

  • (٦)

    أرسو: عدة سنوات.

أي إنهم حكموا حوالي ٣٢ سنة تقريبًا (١٢٣٢–١٢٠٠).
هذا الترتيب هو الذي اتبعه «درينون» و«ڤنديه» (راجع Ed Meyer Gesch II, p. 585 note 1 and Peuple D’Onient, Egypte p. 600).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤