الفصل الثاني

الهراوة

اشتهرت الليدي فيرا مويل بسبب مشاركتها في قضيةٍ حقَّقت بعضَ النجاح بفضل دعمها. فهي من أقنعت وزيرَ الداخلية بمغادرة بالاس يارد معها، وتركته ليباشر مهامَّه الجسام وشارةَ الاتحاد الذي يبغضه مُثبتة على ظهره على غفلةٍ منه. صحيح أن مبرِّرات بعض تصرفاتها المتطرِّفة لم تكن تشفع لها، لكنها اقترفتها كلها بحماسةِ امرأة تقية، ما يعكس المقولةَ التي تقول إن آل مويل هم سلالة من المتمردين الإيرلنديين الذين صاهروا القديسين. وهكذا جمعت الليدي فيرا بين تمرُّد أجدادها والسلوك القويم لزوجاتهم، ونفَّذت أعمالها الشيطانية، وتحمَّلت عواقبها، بصرامة وحيوية وبأسلوب جذاب.

لكن لم تكن الليدي فيرا مويل في أفضل حالاتها عندما ذهبت لزيارة الطبيب دولار عشيةَ عيد الميلاد المجيد؛ إذ كان قد مضى شهران فقط على الإغارة الخريفية، التي كانت قد تسبَّبت في انسحابها وبعض من أصدقائها السياسيين من الشأن العام، في تلك الفترة تحديدًا. فيما عدا ذلك كانت الإغارة الخريفية انتصارًا للمُغِيرين بفضل الضباب الكثيف الذي أرسلته العنايةُ الإلهية، والذي حارب في صفوفهم كما حاربت النجوم في مساراتها سيسرا من أجل واحد من أولِ المحاربين في تاريخ البشرية. لم يكن قد حدث من قبل أن دُمرت ملكياتٌ خاصة على نطاق كبير مع وقوع القليل من الإصابات في جانب الملائكة المُدَمِّرين؛ لكن كانت هناك شائبة غير ضرورية في الأحداث، كان المغيرون أوَّلَ من أنكرها وأدانها.

لم يكتفِ رجلٌ وضيع من الطبقات الإجرامية العادية باستغلال الفرصة لنهبِ واجهة متجر مجوهرات كسرتها سيدةٌ بريئة، بل قتل بدم بارد شرطيًّا كان قد تدخَّل للحيلولة دون تنفيذه لجريمته الأنانية. ولحسن الحظ تمكَّنت الشرطة من العثورِ على هذا الشقي، من خلال تعقُّب الحلي الذهبية الصغيرة المسروقة، وأُودِع السِّجن وأُدين بسرعة، وهو الآن في انتظار أن تُوَقَّع عليه أقصى عقوبة وهي الإعدام. لم يشكَّ عاقلٌ واحدٌ في جُرمه لكنَّ البعض سعى إلى إلقاء مسئوليةِ ما حدث على النساء! كانت تهمةُ التورُّط الأخلاقي التي روَّج لها بعضُ الصحفيِّين وخطباء المنابر وصمةَ عارٍ في جبين سالفي الذكر وأظهرتهم بمظهرٍ أحمق، وعلى الرغم من الضغوط التي مورست على وزيرِ الداخلية لإرجاء تنفيذ الحكم، فقد أبقى مصيرَ القاتل طيَّ الكتمان، وأصدر الأمرَ بتنفيذ الحكم بإعدام القاتل في آخرِ لحظة. ومع صلابة السيد فينسون إلا أنه عانى بشدة في ظل هذا الوضع المعقَّد: ومن حسن حظه أنه كان على وشْك المغادرة لتمضية عطلة عيد الميلاد.

أمضى وزير الداخلية آخرَ ساعاتٍ له في المدينة في ظروف بائسة سلبته الراحةَ بسبب معذِّبته العنيدة، الليدي فيرا مويل. كانت ناكرةُ الجميل قد احتفلت بإطلاق سراحها بمحاولة انتهاك حُرمة مكتب وزارة الداخلية والترصُّد للوزير في شارع وايت هول. أحبط حارس، لم تنتبِه له الليدي، محاولتها في مهدِها؛ لكن دفع ذلك توبام فينسون إلى احتساء الشامبانيا في ناديه، الذي سار إليه يتأبَّط ذراعَ نصيره الأخير ومستشاره السري الطبيب جون دولار الذي يقطن في شارع ويلبك. وقبل حلول الظلام كان الطبيب قد تعرَّض بدوره لهجوم من الليدي.

استهلَّت الليدي فيرا حديثَها بدقةِ خطيبٍ متمرِّس يعرف ما يجب أن يقوله: «يتعيَّن عليك أن تُلقيَ باللائمة على وزير الداخلية على هذا التطفُّل. فقد رفض، كما سمعتَ، الإصغاءَ إلى ما أردتُ أن أقوله هذا الصباح؛ لكن أبلغني التَّحَرِّي الخاص الذي كان يختبئ في الأرجاء أنك لست صديقًا للسيد فينسون فحسب وإنما طبيب خبير في علم الجريمة. لذا تضاعفت حاجتي للمجيء إليك، أيها الطبيب دولار، ولو عاملني السيد توبام فينسون باللباقة المعتادة ما استلزم الأمر التصرُّف على هذا النحو.»

ردَّ الطبيب بأكثرِ نبرةٍ استرضائية ممكنة: «أنا في غاية السرور لتصرُّفك على هذا النحو يا ليدي فيرا. فالسيد فينسون، لأكون صريحًا معك، ليس في حالةٍ ملائمة لمواجهة أي فضيحة أخرى، وهو ما خشي أن تتسبَّبي فيه. إنه يعاني حالةَ توتُّر شديد مع ما يملكه من قوة في الشخصية. ويُلزِمني تحري الصدق، أيتها الليدي فيرا، أن أضيف أنكِ وأصدقاءكِ كان لكم علاقةٌ بهذا الأمر، لكن السبب المباشر هو القضية التعِسة التي حسمها للتو.»

امتُقع وجهُ الليدي فيرا، المحاط بمعطفها الشتوي من فراء السمُّور وقبَّعتها غير المناسبة نوعًا ما للموسم، وهتفت: «هل حسمها بالفعل؟»

أجاب الطبيب دولار بجِدِّية بالغة: «أجل، هذا الصباح.»

سألت: «لن يشنق ذلك الرجل المسكين، أليس كذلك؟»

لم يتسلل نفَسٌ من بين الشفتين المفتوحتين اللتين كانتا شاحبتين وجافتين بسبب معاناة السجن، ولكنهما لم ترتعشا فيما انحنى الطبيب.

قال الطبيب: «إذا كنتِ تقصدين ألفريد كروتشر المُدان بجريمة قتل العريف سيمبكن في أثناء اضطرابات المطالبين بحق المرأة في التصويت، فليس بوسعي إلا أن أقول إن إيقاف التنفيذ سيكون سابقةً من الممكن أن تؤديَ إلى إلغاء عقوبة الإعدام من الأساس.»

أجابت الليدي فيرا وهي تُحكِم السيطرة على أعصابها: «أيها الطبيب دولار، من أجل هذه القضية تحديدًا، ولا شيء آخر، أردت التحدُّث إلى وزير الداخلية. لم أسمع مطلقًا عن القضية حتى صباح اليوم؛ إذ كنت مبتعدةً عن قراءة الجرائد، كما قد تعلم؛ وليس سهلًا أن يستوعب المرء قضيةً كاملة من خلال قراءة واحدة سريعة. هل تمانع أن تخبرني عن سببِ تأكُّد الجميع من أن الرجل هو القاتل؟ هل رآه أحد وهو يرتكب الجريمة؟»

ابتسم طبيب الجريمة وهو يهزُّ رأسه.

أجاب: «قلَّة من القتلة يُشاهدون في أثناء ارتكابهم جُرمهم يا ليدي فيرا؛ ومع ذلك فهذا الرجل كان سيصبح من هؤلاء القلة لولا أن الضباب حال دون رؤيته. شُوهد كروتشر بوضوح عبْر نافذة محل المجوهرات وهو يسرق، ثم شُوهد يتعارك مع العريف السيئ الحظ.»

سألت: «هل شُوهد العراك بوضوح مثل السرقة؟»

أجاب الطبيب: «ربما ليس بوضوح، لكن أدلةَ ارتكابه للجريمتين مُقنِعة بالدرجةِ نفسها. ولقد عُثر على بعض البضائع المسروقة في حوزة كروتشر؛ كما أن الطريقة التي حاول أن يبرِّر بها حيازته للمسروقات، حينما كان على منصة الشهود، كانت أقل سوءًا من محاولته المفجِعة للادعاء بعدم وجوده في مسرح الجريمة.»

هتفت الليدي فيرا، ربما بقدْرٍ أقلَّ من الشفقة والكثير من نفاد الصبر: «يا له من أحمقَ مسكين! لقد كان هناك بالطبع؛ فقد رأيته!»

أخذ تعليق الليدي الطبيب على حين غِرة.

سأل: «هل كنتِ هناك بنفسكِ يا ليدي فيرا؟»

أجابت: «أجل، كنت هناك!»

سأل الطبيب: «أأنتِ المرأة التي كسرت الواجهةَ من أجله؟»

أجابت المرأة: «بالطبع كنت أنا! لكن لم يطلب مني أحدٌ الإدلاء بشهادتي! وبسبيل المصادفة المحضة خرجت من السِّجن في الوقت المناسب كي أنقذَ رجلًا بريئًا من حبل المشنقة، فهو بريء من كل التُّهم المنسوبة إليه فيما عدا السرقة. أنا على يقين من ذلك!»

لم يعُد صوتها هادئًا على نحوٍ غير عادي؛ وكان ثمَّة انفعال شديد في نبرتها جعل قشعريرةً تسري في جسد الطبيب دولار. حدَّق إلى المرأة التعِسة بهلع، ونظر إلى مِعطفها الفاخر المتدلي إلى قدميها، في ضوء مصباحه الكهربائي الشديد السطوع؛ وحتى وهو ينظر إليها — ويقلِّب في ذهنه كلامها — ذاب كلُّ رعبه متحولًا إلى مشاعرَ عميقة لم يشعر من قبل. كانت هي أوَّل من استطاع الكلام وبدا صوتها أكثرَ هدوءً عن السابق.

قالت: «لديَّ سؤال آخرُ بشأن المحاكمة. ما هو السلاح الذي من المفترض أنه استخدمه في ارتكاب الجريمة؟»

أجاب الطبيب: «سكِّينه.»

عقَّبت السيدة: «لكن أليس الجُرح صغيرًا على أن تُحدثه سكين؟»

ردَّ الطبيب: «كان لها نصل صغير.»

سألت السيدة: «ولكن هل كانت هناك أيُّ آثار دماء على السكين؟»

اضطرت إلى الضغط على الطبيب للحصول على مزيدٍ من التفاصيل؛ ولم تظهر عليها أيُّ دلائل تردُّد مثلما ظهرت عليه رغم أنه طبيب!

قال: «أجل. كان لدى كروتشر تفسير، ولكنه لم يكن مُقنعًا.»

قالت الليدي فيرا بمرارة: «عادةً لا تكون الحقيقة مقنعة. قد تندهش إذا علمت أن الضربة لم تحدُث بسكين على الإطلاق. بل … بهذا!»

أخرجت يدها اليمنى من فراء تدفئة اليدين اللامع؛ لكنها لم تكن تحمل سيفًا برَّاقًا وإنما هراوة سوداء قصيرة مدبَّبة الرأس مستديرة، ناولتها للطبيب دون أن تضيف كلمةً أخرى.

هتف جون دولار: «لكن جمجمته لم تكن مهشَّمة!» ثم نظر للحظة إلى ضيفته بعين طبيب نفسي. وأضاف: «كان هناك ثقب في الشريان السباتي ولا يمكنكِ فِعل ذلك بهذه الأداة إن حاولتِ.»

قالت الليدي فيرا: «اضرب الهراوة في الأرضية، ولكن لا تمسكها من طرفها.»

انحنى دولار متبعًا توجيهات السيدة؛ وفور أن ضرب الأرض بالهراوة، انبثق خنجر من الطرف المقابل للرأس المدبَّب؛ وعلِق النصل بكمِّه.

تابعت الليدي فيرا: «هذا ما حدث بالضبط. وأنا الفاعلة، أيها الطبيب دولار!»

سأل بصوت مبحوح: «أكان ما حدث قتلًا خطأ؟» نظر إليها كما لو أن الحادثة لم تكن مميتة؛ لكنه كان أقل سيطرةً على نبرة صوته.

أجابت باستسلام: «أراها كذلك؛ لكن قد لا يتفق القانون مع هذه التسمية. ومع ذلك لم أكن أعلم أنني أمتلِك مثلَ هذا السلاح من قبل؛ فقد اشتريته على أنه هراوة لا أكثر، من محل رهنٍ، صادف أن مررتُ بواجهته صباح يوم الاضطرابات. اخترت الهراوةَ لأنني رأيت أنها أداةٌ مناسِبة لتحطيم النوافذ، خاصةً مع الحبل الرفيع الذي يُلف حول الرُّسغ. كما فكَّرت — لا أمانع في أن أعترف لكَ — أنني لو عُوملت بغلظة يمكنني استخدامها كي أدافعَ عن نفسي؛ إذ لا يمكنني استخدامُ مطرقة على نحو جيد.»

كانت تتكلم بلا خجل مثلما لا يخجل الجندي من حربته بعد المعركة؛ ونظر الطبيب إليها نظرةً متفهمة. انهمك الطبيب في فحصِ آلية عمل الهراوة بذهن شارد. كان هناك زُنْبُرك مكسور. وهذا يفسِّر لماذا استحالت الهراوة إلى خنجر عند كل ضربة، وليس فقط عندما تهزُّها بشدة.

سأل الطبيب متلهفًا: «وهل عاملَكِ العريف سيمبكن بخشونة؟»

أجابت بتردُّد واضح: «بخشونة بالغة. لكن أظن أن الرجل المسكين كان منفعلًا مثلي تمامًا عندما حاولت ضربه لإبعاده.»

سأل الطبيب: «أظن أنكِ لم تكوني على دراية مطلقًا بما كنتِ تفعلينه، أليس كذلك يا ليدي فيرا؟»

ردَّت: «ليس هذا فحسب، أيها الطبيب دولار، ولكنني لم أعرف ما فعلته.»

هتف الطبيب: «حمدًا للرب على ذلك!»

واصلت السيدة: «ولكن ألا يمكنك تصوُّر ما حدَث لثانية واحدة؟ تلك هي المسألة برُمَّتها، وتفسير جميع ما حدث. انتهى الأسوأ في غضون لحظات، وسط الضباب المريع الكثيف، لكن، بالطبع لم أتصوَّر مطلقًا ما اقترفتُه. ظننت أنني طرحته أرضًا. ولم يخطُر ببالي ما حدث حتى صباح اليوم.»

سأل الطبيب: «هل كنتِ قريبة من الواجهة المهشمة حينها؟»

أجابت: «كنتُ قريبة جدًّا من الواجهة لكن بعيدة عن الأنظار بسبب الضباب.»

قال الطبيب: «ألم تريْ كروتشر إطلاقًا أو تشهدي تدخُّله في هذه المسألة؟»

أجابت: «لا، لم أرَ شيئًا بعدما فعلتُ ما فعلت. لقد فعلتُ فحسب ما شرحتُ سابقًا. أنا واثقة من أنه الرجل الضخم المذكورة أوصافه. لكنني سمعت كلَّ شيء بينما كنا نتعارك. سمعت دوي صفَّارة الشرطة وصراخَ: «لصوص!» أتذكَّر أنني حينها تمنيت لو أن الشرطي سمع هذه الصفَّارة وأطلق سراحي. لكن أظن أنه كان في شدة الغضب مثلي تمامًا.»

قال الطبيب محاولًا ألا يكزَّ على أسنانه من الغضب: «وماذا فعلتِ بعدما حررتِ نفسك؟»

أجابت: «هربتُ بالتأكيد! عرفت أنني تجاوزتُ كثيرًا ما كنت أنوي فِعله؛ لكن هذا كلُّ ما عرفته، أو ظننته، حتى عندما وجدت الخنجر المريع مُشهرًا في يدي. حاولت إغلاقه مرة أخرى لكن بلا جدوى. لذا أخفيته في ردائي، وركضت في شارع دوفر باتجاه النادي الخاص بي، وهناك خبَّأته مباشرةً في حقيبةٍ كنتُ أحتفظ بها. ثم عدَّلت هندامي، وخرجتُ مرةً أخرى، بمطرقة مناسبة.»

زمجر الطبيب؛ فقد فاق الأمرُ قدرتَه على التحمُّل. كان هذا أولَ استهجان مسمُوع يصدر عنه؛ إذ كان قد أحكم السيطرةَ على أعصابه وهي تلقي على مسامعه أسوأ جزءٍ في القصة؛ وكشف وجهُ الفتاة عن ملاحظتها للتغيُّر الطارئ على ملامحه. تسلَّلت الحُمرة إلى وجهها أخيرًا. فحتى هذه اللحظة، حينما كانت تسرُد أخطاءها المُتعمَّدة كأنها إنجازات، لم تبالِ مطلقًا برأيه فيها أو في أفعالها. لم تكن ثمَّة عدوانيةٌ في الأمر؛ ظنَّ فقط أنها لم تكن تبالي بآرائه في هذه المسألة. لكن تبيَّن له أنه مخطئ في اعتقاده؛ فقد أظهر لها ما خشيت فقدانه، ولم تفلح صراحتها في إخفاء أثرِ ذلك في نفسها.

قالت بحرصٍ شديد: «لا تنسَ أنني لم أدرك فداحةَ ما فعلته. ولم أعرف ما حدث حتى هذا الصباح، حين سمعت عن القضية لأول مرة، ولاحظت بُقَع الدم على الخنجر، التي كنتَ تبذل غايةَ جهدك لئلا تنظر! انظر إلى البقع أيها الطبيب دولار. ليس هناك أدنى شك في طبيعتها، لكن سيسرني كثيرًا أن تُثبت وجودها بما يرضي جميع الأطراف.»

سأل الطبيب: «هل تشعرين بسعادة بالغة بذلك يا ليدي فيرا؟»

تبادلا النظرات بضعَ لحظات. ظهرت أمارات البؤس على وجهها؛ لكنها ترفَّعت بإخفاء مشاعرها فحسب. ولولا عيناها لبدت عديمةَ الرحمة وقاسيةً على نحوٍ غير معهود؛ فقد اتسعت عيناها الأيرلنديتان الزرقاوان وتلألأتا بحزن بلا دموع.

قالت بتوتر: «لا شيء سيغيِّر من حقيقة وقوع هذه الجريمة النكراء أيها الطبيب دولار، وإن كنتُ آمُل أن أعيش طويلًا حتى أعوِّض ما حدث حسب قدراتي البشرية المحدودة. لكن لا بد في هذا الاتجاه الآخر من إصلاح الأمور على الفور. لا فائدة من التفكير فيما لا نستطيع تغييرَه حتى نغيِّر ما نستطيع إن تصرَّفنا بسرعة! ولهذا السببِ حاولت الذهابَ إلى وزير الداخلية مباشرةً ثم أتيتُ إليك. خُذني إليه، أيها الطبيب دولار، وساعدني في أن أقنعه أن ما أخبرتك به هو الحقيقة كاملةً ولا شيء آخر! تحقَّق من وجود بقع الدماء، إن كنت تظن أن هذا سيجعل من إقناع الوزير أمرًا سهلًا. ثم يمكننا أن نذهب إليه بالخنجر.»

أجرى الطبيب اختبارًا أوليًّا على البقعة. انحنى على المدفأة، وسخَّن الفولاذ بين أعمدتها، ثم تركه يهدأ في النافذة المفتوحة، قبل أن يتناول مقياسًا ويفحصه تحت المجهر برهةً من الزمن. فعل كلَّ ذلك بحماسةٍ شديدة، خفَّفت حدَّتَها دقةٌ ومهارة شديدتان. تابعت الليدي فيرا العمليةَ باهتمامٍ حيادي لكنها تأثَّرت رغمًا عنها بالطبيب الذي صبَّ كاملَ تركيزه على مهمته، فرحًا بوضوح بانشغاله بأي مهمة. لكنه عندما رفع عينيه من المجهر، هزَّ كتفيه بما يشبه الغضب.

هتف كما لو أنها صاحبة الاختبار: «لا جدوى من إجرائه، بالطبع، كما تعلمين! فسيستغرق الأمر ساعات لإعداد التحليل المطلوب.»

سألت الليدي: «ما الذي توصَّلت إليه حتى الآن أيها الطبيب؟»

أجاب: «ما توصَّلت إليه — وهو غير قانوني أو طبي بالمرَّة — أن هذه البقعةَ تشبه بقعةَ دماء يا ليدي فيرا.»

قالت: «إنها بقعةُ دماء بالتأكيد. هناك أمرٌ آخرُ سيساعدنا.»

قال الطبيب: «وما هو؟»

ردَّت السيدة: «إنها واحدة من أفضل نقاط الدفاع، حسبما توصَّلت إليه في هذا الوقت القصير، بشأن سكين السجين. إذا أخذنا هذا الخنجرَ، إما إلى وزير الداخلية، أو إلى سكوتلاند يارد إن كان وزير الداخلية لا يزال يرفض مقابلتي …»

قاطعها الطبيب مصعوقًا من حماستها الانتحارية: «ليدي فيرا! أتدركين خطورةَ وضعكِ؟ لن تضطري إلى مواجهة الموقف فحسب؛ وهو ما فعلته على نحوٍ ممتاز! لكن ألديك أيُّ فكرة عن العواقب؟»

أجابت مبتسمة: «أظن ذلك. لا أعتقد أنهم سيشنقونني؛ لا يمكنني التظاهر بعكس بذلك، وإلا كان من قبيل التصنُّع. لكن هذا شأنهم بالطبع؛ ما يهمني هو أن أتبادل الأماكنَ مع رجل بريء.»

ردَّ الطبيب بدفء: «لن تفعلي ذلك أبدًا. ليس هناك رجل بريء في القضية؛ فكروتشر هذا لصٌّ وشاهدُ زور؛ بالإضافة إلى أنه سجين سابق أمضى نصفَ حياته في السِّجن! وسيحصل على عقوبة خمس سنوات بسبب السرقة وحدَها دون اعتبار لجريمة القتل؛ وسيرسلونه إلى دارتمور أو بورتلاند إن أنقذنا حياته البائسة. وهذا ما سنفعله بلا شك؛ لكن يا له من ثَمن، يا له من ثَمن!»

قالت الليدي فيرا، مشفقةً على الطبيب مما يشعر به من كدرٍ: «لا أريدك أن تزعج نفسك بأي شيء آخر سوى أن توصلني بالسيد فينسون. ولنترك البقيةَ عليه، كما يقولون؛ على أي حال لن يكون أمرًا مريعًا جدًّا لي. فأنا سجينة قديمة، إذا كنت تذكر!»

تألَّق وجهها بجرأتها الشهيرة؛ لكنه كان أشبه بتألُّق الزهور على شواهد قبر. لم يتملك الرعب من الأشياء التي ستحدث من عينيها الباسلتين مطلقًا، لكنه مسَّهما مسًّا خاطفًا سرعان ما تبدَّد دون أن يلاحظه الطبيب دولار. أدرك معنى نظرتها. وكان قد هدأ من رَوعِها بشأن الرجل المسجون، غير أنه أثاره في نهاية المطاف فيما يتعلَّق بالراقد في قبره. أصابها الأسى بعجزٍ لم يُصبْها به الرعب؛ فالسجون يمكن اقتحامها، لكن ليس السِّجن الذي أُودِع فيه أخٌ في الإنسانية جراء ما اقترفته يداها. ومع ذلك سيطرت على شعورها بالأسى، ودفنته في أعماقها أمام عينَي الطبيب، حتى حينما كان خِطابها الطائش يُدَوِّي داخله بوصفه أكثرَ الخُطب التي سمعها يومًا ما شجاعةً.

دوَّى كلامها في عقله بنداءٍ واضح وقاطع. عرف ما يريد وإن لم يكن بنفس السرعة التي اخترق بها عقلها. على مدار كل سنوات حياته، لم يعرف ما يريد جيدًا، بقدْر ما حدث عندما أعادت النظر في كلامها السابق الذي كان قد أنار عقله، وواصلت الحديث بنبرة مختلفة: «والآن، أيها الطبيب دولار، هلَّا تتوِّج مساعيك العظيمة باصطحابي إلى وزير الداخلية على الفور؟»

هتف بانزعاجٍ غيرِ مُبرَّر: «ما جدوى طلب الأمور المستحيلة يا ليدي فيرا؟ لا يمكنني اصطحابُكِ إلى توبام فيسنون، وإن أردتُ ذلك. فسيبدأ في التشكيك في قواكِ العقلية؛ وستواجهين كلَّ أنواع الصعوبات السخيفة. بالإضافة إلى أنه خارج المدينة.»

كشفت ملامحها عن شعورها بالاستياء بمجرد إدلائه بالمعلومة.

سألت: «هل أنت جادٌّ أيها الطبيب دولار؟»

أجاب: «تمامًا.»

سألت: «أنسيت أنني رأيتكما معًا في تمام الساعة الثانية تقريبًا؟»

أجاب: «أظن أن الوقت لم يكن متأخرًا هكذا. فقد غادر وزير الداخلية يوستن في الساعة ٢:٤٥.»

سألت: «إلى أين؟»

وبدت مذعورة.

أجاب الطبيب: «سأخبركِ، يا ليدي فيرا، إن تعهدتِ بألا تلاحقيه في القطار التالي.»

سألت: «متى سيتحرك القطار التالي؟»

أجاب: «ليس قريبًا. يوجد قطارٌ آخرُ واحدٌ فقط؛ فقد تناقشنا بشأن القطار الذي ينبغي أن يستقله. لكن لا تركبي القطار الآخر يا ليدي فيرا؛ يجب أن تتركي الأمرَ لي. أريدكِ أن تتركي المسألة كلَّها لي من اللحظة الراهنة إلى أن أتواصل معكِ من جديد.»

سألت: «متى سيكون ذلك أيها الطبيب دولار؟»

أجاب: «حالما ألتقي بالسيد فينسون.»

قالت: «هل ستضطلع بمسئولية نقْل جميع التفاصيل إليه؟»

ردَّ: «سأنقل إليه جميعَ التفاصيل بدقةٍ كما أخبرتِني بها.»

سألت: «هل ستبدو موثوقة من مصدرٍ غير مباشر؟»

قال: «ستكون موثوقة بما يكفي لتبرير تأجيل تنفيذ الحكم. هذا هو الهدف الأول؛ وهذه هي الخطوة الأولى لتحقيقه، صدقيني! لدينا مُتَّسع من الوقت … حتى الثلاثاء القادم.»

ردَّت بازدراء واضح لتردُّده الذي ينمُّ عن حُسن نيته: «أوه! أعلم ذلك. لكن لا يمكننا إهدارُ لحظة بينما ذلك الرجل المسكين ينتظر الموت.»

قال الطبيب: «لا أظنه ينتظر الموت يا ليدي فيرا. فقد صدَّق الوزير على الحكم حديثًا؛ ولن يُعلن عنه إلا بعد غدٍ. لا أعتقد أنهم سينقلون إلى كروتشر نبأ التصديق على إعدامه في عيد الكريسماس.»

قالت: «يمكنهم نقْل البشرى إليه بدلًا من ذلك. أين السيد فينسون؟ لا تقلق، لن أحاول أن أعترض طريقه حتى تفعلَ أنتَ. هذا وعد؛ ولن أخلف وعدي مثلما أفعل مع النوافذ!»

تجاهل جون دولار تباهيها بصعوبة. كان بوسعه رؤيةُ ما يتوارى خلْف هَزْلها التراجيدي كما لو كانت مصنوعةً من البلور الشفَّاف، وانفطر قلبه انفطارًا وجد صعوبةً شديدة في إخفائه في نفسه؛ لكن هذا كان آخرَ شيء تطلبه منه الليدي فيرا على ما ظهر. أعطاها المعلومات التي تريدها بصوتٍ أقلَّ ثباتًا من صوتها. وظن أنه لمح إشارةً طفيفة في عينيها تدُل على أنها أدركت الجهدَ الذي يبذله للسيطرة على مشاعره.

عقَّبت: «ظننت أن الدوق نفض يدَه من ابن اخته السيئ السمعة. حسنًا، أخشى أننا سنضطر إلى إزعاج هذا الاجتماع العائلي.»

قال الطبيب: «هذه مهمتي يا ليدي فيرا.»

قالت: «وأنا لم أشكركَ من قبلُ على الاضطلاع بها نيابةً عني! ولن أفعل أيها الطبيب دولار؛ فعبارات الشكر لا تتوافق مع قضيةٍ كهذه!» وأمسكت بيده بجرأة واضحة؛ كانت يده أكثرَ حرارة وثباتًا من يدها. تابعت: «ماذا عن القطار الذي ستركبه أنتَ؟»

قال الطبيب: «أخشى أنه لا يوجد قطار قبل السابعة. قد ذكر فينسون أنه سيركب هذا القطارَ في البداية.»

أكَّد الجدول الزمني مخاوفَه؛ فألقى بالجدول على الأرض، وسارع إلى دليلِ الهاتف بدلًا من ذلك. راقبته الليدي فيرا عن كثَب. ألقى نفسه في مقعده القديم من خشب السنديان، وفضح لمعانُ الطاولة القديمة وجهَه، كما لو كان منحنيًا على صفحةِ ماءٍ بُنيَّة صافية. لاحظت علامات القلق على وجهه لأول مرة؛ إذ لم يسمح لها بأن تتسرب إلى ملامحه قبل ذلك.

سألت: «ما رأيك في ملاحقة القطار بالسيارة؟»

تلعثمت للمرة الأولى.

أجاب دون أن يرفع نظرَه عن دليل الهاتف: «هذا ما أنوي فِعله بالضبط. سأتصل هاتفيًّا لأطلب سيارةَ أجرة.»

هتفت بابتهاج: «إذن لست بحاجة لأن تفعل ذلك! لدينا سيارتان على الأقل، في المرْأب، ستصدآن من قلةِ الاستخدام. سأعود إلى المنزل بسيارة أجرة وسأرسل إليك إحداهما مباشرةً، مع سائقٍ يعرف الطريق جيدًا، ومعطفٍ ستَعِدني بارتدائه أيها الطبيب دولار. جميع عائلتي خارج المدينة باستثناء أمي، ولن تعرف بغياب السيارة؛ فهي لا تتمتع بصحةٍ جيدة لاستخدام السيارات. لكن لا يجدُر بي الحديث عن أمي المسكينة وإلا سأجعل من نفسي أضحوكةً حقًّا. فسبب حالتها الحالية يرجع جزئيًّا إلى أفعالي، كما ترى، وبالطبع ستَزِيد المستجداتُ من سوء وضعها الصحي. لكنني لست متأكدة من ذلك، أيضًا! أمي من الشخصيات التي أخذت من الحداثة أمراضها، لا أفكارها المستنيرة، لكنها ستريني كيفيةَ التصرُّف عندما تتأزم الأمور. ستكون أول شخص يقدِّم الدعمَ لي في المسار الممكن الوحيد.»

لم تلقِ خطابَها بسلاسة تامة، حسبما قد يظن البعض، مع أن دولار لم يقاطعها إلا لطلب سيارة أجرة. توقَّف حديثها من تلقاء نفسه عندما ضلَّلتها نفسُها للحديث عن أمها المسكينة، السيدة أرماه، التي لا يخفَى على أحد انتقاداتُها الشديدة لمغامرات ابنتها. إذ كان دولار قد سمع من توبام فينسون في ذاك اليوم على الغداء أن مغامرةَ ابنتها الأخيرة أدَّت إلى تدهور صحتها تدهورًا شديدًا؛ ماذا ستفعل إذن عندما تسمع بالقرارات الوشيكة والفضيحة المأساوية على مدار تسعة أيام، والتي كانت أقلَّ ما يمكن أن تئول إليه هذه الأوضاع إلا إذا …

«إلا إذا!»

في عقل الطبيب كان هناك الكثير من الجمل المبتورة التي تبدأ بكلمات مضلِّلة، حتى صار لا يعي الكلماتِ الحقيقيةَ التي تفوَّهت بها الليدي، ولا يدري مما أجاب به إلا القليل. كان يشعر وكأنه في حُلم رأى فيه يدًا صغيرةً تُلَوِّح له بينما تختفي سيارة الأجرة عن الأنظار مُنعطفةً إلى اليمين؛ وفي الحُلم وجد نفسَه يصعد الدَّرج قافزًا ويخفي تحت مِعطفه السلاحَ الذي كانت اليد الصغيرة قد أنزلت به الموت؛ وأفاق ليجد نفسه مرتديًا أثقلَ ملابسه الشتوية ومعطفه الطويل، والسائق يطلب منه أن يضعَ فوق كل ملابسه معطفَ فِراء ملبَّد أرسلته السيدة مع السيارة.

بالفعل وصلت السيارة الطويلة السريعة — من نوع تالبويز المنيعة ذات الخمسة عشر حصانًا — إلى الباب في غمضة عين. أضاء المصباحان الأماميان أخاديدَ لندن الموحِلة؛ وخلفهما جلس رجلٌ يضع نظارةً مفلطحة، نفس الرجل الذي حمل المعطفَ والرسالة البالغة الأهمية. تكوَّر السائق الأنيق خلف عجلة القيادة؛ أما الراكب فجلس منتصبًا في المقعد المجاور له؛ شكَّل أفراد عائلة بارتون — رفاق الطبيب الأوفياء — لوحةً فنية ارتجالية في الخلفية. فوق دَرَج القبو، ظهرت الأم وطفلها — اللذان كانا قد ظهرا بمظهرٍ غيرِ لائق في السابق — مرتديةً ملابسَ الطاهية وخلفها طفلها مرتديًا ملابسَ الخَدم على عتبة الباب. أطل بارتون نفسه من إحدى النوافذ العلوية، وهو لا يزال يرتدي بدلته البيضاء — في أجواء عيد الميلاد الرطبة والحارة النمطية لأوائل القرن العشرين — ولكنَّ أثَر المسئوليات الثقيلة لهذه المنشأة الغريبة كان ظاهرًا على كتفيه البيضاوين بياضَ الثلج. ضغط السائق الأنيق على بوق السيارة بحَنَق. وانطلقت السيارة، ولم تتوقَّف إلا في شارع أكسفورد لزحام حركة المرور بسبب عيد الميلاد، لكن تحسَّن الوضع في إدجوير رود، وسرعان ما تحرَّكت باتجاه مدينة إدجوير نفسِها وإلستري وسانت ألبانز، وقطعت كل المُدن المضاءة والطرق الحالكة الممتدَّة في الليل بين عاصمة إنجلترا وأصغر مقاطعاتها.

بعدما قطعت السيارة بضعةَ أميال، قال السائق: «هناك القليل من المَطبَّات في هذا الاتجاه»؛ وانخرط في صمتٍ تام مدَّة خمسين ميلًا. لكنه قاد السيارة ببراعة، واستجابت ليديه الحاذقتين كما يستجيب حصانٌ يعرف سيدَه. أثبتت السيارة المكشوفة أنها يُعتمد عليها في الطرقِ غير الوعْرة باستثناء افتقارها إلى السرعات الفائقة؛ وأحسن السائق قيادتَها وانسابت عجلاتها فوق الطرق الممهَّدة كما ينساب الحرير من النَّول الصامت.

جلس دولار بجوار السائق محتميًا بالزجاج الأمامي الذي تلألأ وشكَّل إطارًا لمشهد الليل. اخترق الظِّلالَ الدقيقةَ عنقودٌ من الأضواء التي سرعان ما تبعثرَت وخبَت كشرارات غليون؛ بعد ذلك كسرت الظلامَ مصابيحُ الغاز التي أبقت الطريقَ أمام السيارة متوهجًا بين القرى. وكثيرًا ما كان طيفُ وجهٍ يظهر محلقًا على الطريق المنبسط أمام السيارة؛ لكنه لم يكن سوى وجهِ الطبيب القلِق، يُرى منعكسًا بغير وضوح على الزجاج الأمامي للسيارة.

ومع ذلك لم يكن الطبيب قلقًا في الحقيقة فيما قطعت السيارةُ أول خمسين ميلًا. في البداية شعر ببالغ الامتنان لانطلاقه في رحلته كما لم يخلُ الطريق مطلقًا من الاحتمالات المثيرة والمشتِّتة للانتباه. لكنهما توقَّفا في بيدفورد لتناول العشاء؛ خطرت هذه الفكرةُ للطبيب دولار فجأة، فيما كانت الساعة بين الثامنة والتاسعة مساءً؛ لكن السائق الخدُوم أعربَ عن استعداده للمضي قُدمًا بلا توقُّف، ولو وافقه الطبيب لكان خيرًا له. أدَّى توقُّف الرحلة إلى قطع السكون الحالم الناجم عن الهواء اللاذع والطنين الناعم الخافت للسيارة. وبين أحضان الفندق الدفيئة، بما احتوى من نباتات البهشية وبهجة أجواء الكريسماس، عاد الطبيب إلى الواقع بصورةٍ مباغتة وشغَلته مشكلته المُلحة بقيةَ الطريق.

في الوقت الحاضر، كان شغله الشاغل هو الوصول إلى وزير الداخلية في تلك الليلة؛ من تلك اللحظة فصاعدًا راح يستعيد المقابلةَ المنشودة ويصل إلى نتيجةٍ مختلفة كل مرة. كان يعرف، بالفعل، ما سيقوله؛ كان قد عرف ذلك قبل أن يودِّع الليدي فيرا مويل. لكن ماذا سيقول وزير الداخلية؟ هل ستكون الهراوة الملطَّخة بالدماء دليلًا كافيًا له؟ ستكون مدعومةً بقسَم رجل كان قد اختبر صدْق كلامه من قبل. هل هناك أدنى احتمال لأن يلغي ذلك الدليلُ غير المباشر تمامًا حكمًا قد اتُّخذ بالفعل، هذا إن افترضنا أن الرجل لم يُنقل إلى زنزانة الإعدام؟

كان مجرَّد التفكير في ذلك البائس التعِس الحظ يملؤه برعب واضح قوي. كان طبيب الجريمة قد حظي بفرصة النظر إلى زنزانة الإعدام ذات مرة؛ ولا تزال محفورةً في ذاكرته. كان الباب مفتوحًا فيما انشغل ساكن الزنزانة البائس بممارسة التمارين في الفِناء المجاور. نظر داخل الزنزانة. لم تكن كئيبةً بقدْر ما كان ينبغي أن تكون. كانت هناك كتابات على الجُدران، وتسلَّلت أشعة الشمس عَبر القضبان، وقبع كتابٌ كبير مفتوح على لوحٍ خشبي بالٍ نظيف مُثبت في الجدار.

تذكَّر دولار كلَّ تفصيلة بدقة سوداوية. كان قد سار إلى الداخل ليتفقَّد الكتابَ ووجده مُجلدًا من كتاب «الكلمات الطيبة»، مفتوحًا على سلسلةٍ جديرةٍ بالثناء لسيدة شهيرة آنذاك بين أصحاب الفضيلة. لكن قارئ هذا الكتاب كان مُدانًا في قضيةِ ذبحِ امرأةٍ في أثناء عِراك على شِلن، ورآه دولار يذرع الفِناء الضيق جَيئة وذهابًا في بهجة، ويلقي ببعض النكات على السجانين الحاضرين، بابتسامةٍ على شفتيه المتشققتين وفي عينيه الزرقاوين الجريئتين. كان بوسعه أن يستحضر صورةَ الرجل كما رآه لعشر ثوانٍ منذ سنوات مضت. لكنَّ شفقته على السجين الذي كان ينتظر هو الآخر حكمَ الإعدام على جريمة هو بريء منها لم تكن تُقارَن بشفقته وأسفه اللامتناهيين على المرأة التي ارتكبت الجريمةَ بلا وعي، مع أن العقوبة على جُرمها كان من المرجَّح أن تكون مخفَّفة نسبيًّا.

لكن هل ستكون العقوبة مخفَّفة؟ ليس بالنسبة إلى الليدي فيرا مويل على أي حال! فهي إما ستفلت من العقوبة أو تواجه عقوبةً هي أسوأ من الموت. قد يؤدي الوضع بسهولة إلى موت أمِّها؛ وتصير المأساة مأساتين في النهاية مع بقاء الليدي فيرا المسئولة الوحيدة عما حدَث. ليتها لم تكتشف ارتكابَها للجريمة! لن يكون موت كروتشر خسارةً للمجتمع؛ فالمجرمون الذين أمضَوا حياتهم في السِّجن مثله من الأفضل إزاحتهم عن الطريق سواء كانوا مجرمين أم لا. كان طبيب الجريمة مقتنعًا بذلك. كان يرى كروتشر من المجرمين الذين لا يُرجى شفاؤهم؛ لذا فالإبادة هي الحل الوحيد.

في بعض الأحيان كان يقول بجِدية بالغة: «سأغلق الإصلاحياتِ لكن سأوسِّع غرفة الموت.» لكنه لم يفلح لحظةً في أن يحمل نفسَه على أن التوصُّل إلى استنتاجٍ منطقي في القضية الحالية الخاصة بألفريد كروتشر والليدي فيرا مويل. كان بوسعه السَّماح بذهابِ مجرمٍ محترف، بريء من الناحية الفنية في هذه القضية بعينها، إلى المشنقة أو هكذا ظن حينئذٍ. لكنه في أعماقه لم يكن ليسمح بأن يعانيَ أعتى المجرمين بسبب ذنوب الليدي فيرا. كان العامل الشخصي الذي طرحته هو ما جعل الأمر مستحيلًا! يا له من حِملٍ ثقيل على روحها! وأيُّ عقوبةٍ أفضلُ من مواصلتها العيش مع هذا العبء!

عند كيترينج انعطف السائق يمينًا صاعدًا التلةَ ثم هبط إلى الوادي في روتلاند، وتوقَّف دولار عن التحديق في صورته المنعكسة على الزجاج الأمامي؛ ودفعته حاجةٌ ملحَّة إلى التحديق إلى ساعته بدلًا من القلق بشأن المستقبل. أخذت السيارة تدور حولَ أكثرِ الجدران الحجرية طولًا وسماكة في إنجلترا الإقطاعية والذي انقسم فجأةً إلى برجين توءمين ضمَّتهما بواباتٌ ثلاثية. فوق القوس المركزي قبَعت وحوشٌ رمزية بدَت وكأنها ترتفع لتلامس النجومَ بمخالبها؛ وتحت القوس تدلَّى مصباح لامع؛ كانت البوابات الثلاث مفتوحة، ووراءها امتد ممرُّ السيارات محفوفًا بالمصابيح الإرشادية. كان من الواضح أن هذه المصابيح هي مراسمُ احتفال كبير بالكريسماس يليق بقلعة ستكورشام.

بعد عدة أميال، أحاطت السيارات، في شبهِ دائرة، بالنسخة القروية من «موكب حراس الحصان» اللندني التي أطل عليها فندق فاخر بظلاله الوارفة؛ وأضافت السيارة التي كانت حقًّا قادمةً من لندن ومضاتٍ جذابة إلى منطقة الضوء. وأمام الرُّواق المُعمَّد البسيط نسبيًّا في هندسته المعمارية وقف خادم في غاية الأناقة، ونظر إلى معطف الطبيب المُستعار نظرةَ استهجان، لكنه اندهش رغمًا عنه عندما سأل الأخير بسرعة عن السيد توبام فينسون، ووافق أن يستعلم عنه بدوره.

قال الطبيب وهو يدُس نصف سوفرن ذهبي في يد الخادم خلسة: «اسأل عنه، بسرعة وهدوء، وأعطِه هذه البطاقة. أريد مقابلةَ السيد فينسون، لا أحدَ غيره، لأمرٍ طارئ يتعلق بوزارة الداخلية.»

بعد قليل جاء شخصٌ مهيبُ الطلعة حيَّاه السائق الأنيق بإجلال؛ حتى إن دولار لم يستطِع الجزْم هل هو الدوق أم رئيس خدمِه، إلى أن استُدعي إلى الداخل بترفُّع بارع من الخادم الرفيع الشأن. تقدَّم الطبيب دون أن يخلع معطفَه ذا الفراء ونظارته، يتبعه على بُعد ذراع رئيسُ الخدم، وعلامات الاستهجان بادية على ملامحه بصورةٍ طفيفة، والتي لم تغفلها عينا السائق اللندني القوي الملاحظة.

لربما كانت مراقبةُ السائق البارع ستبعث سرورًا لا متناهيًا لمن يعيره انتباهه. كان صموده وكفاءته المتَّسمان بالصمت، وحماسته الهادئة في مغامرةٍ قد تدخل في نطاقِ اهتمامه المهني، لكنها من الواضح لم تتسبَّب في إثارةِ فضوله بشكلٍّ فج، سماتٍ نالت حتى إعجابَ دولار المُعذَّب بين الحين والآخر في أثناء الرحلة. لكنه حينئذٍ فوَّت فرصةَ الحصول على مكافأة سخية. إذ كان السائق الشعبي منهمكًا في إدارة محرِّك السيارة عندما عاد الخادم الأول وتفوَّه بأشياء وسط الضوضاء. بعد ذلك نظر تحت غطاء السيارة وفحص المحرِّك بعناية بالغة. لكن بلغ الأمر ذروتَه عندما وصلت الشطائر على صينية فاخرة، وأُعيدت زجاجةُ البيرة وأُحضرت زجاجة شمبانيا لإشباع ذوق السائق المعاصر. لم يكد الخادم يقدِّم الشراب والطعام إلى السائق، حتى عاود الراكب الظهورَ في صحبةِ شخص آخر يخفي هيئته بملابسَ كثيرة مناسبة للقيادة بالإضافة إلى الدوق، الذي أشرف على وداعهما بنفسه، ولم يبدُ هناك فارقٌ بينه وبين رئيس الخَدم في نهاية المطاف.

تضاءلت أضواءُ ستكورشام الكثيرة وتبدَّدت وسط الظلام، ومرَّت المصابيح فوق السياجِ الدقيق من النباتات والأجمة السلكية عَبر القرى الميتة والمدن النائمة مرَّ السَّحاب في السماء. داخل الهيكل الطويل لسيارة تالبويز المنيعة جلس دولار خلْف رفيقه في رحلة الذهاب، وبجواره وزير الداخلية بسيجاره الضخم، وساد صمتٌ مشحون بالتوتُّر، فيما اجتازت السيارةُ مقاطعتين كاملتين، لكن قُطِع هذا الصمت بصورةٍ مباغتة عند تخوم المقاطعة الثالثة.

بحدَّةٍ سأل توبام فينسون كأنهما يواصلان حديثًا لم ينقطع قط: «ألا تزال ترفض الإفصاح عن اسمها؟» كان عُقْب سيجاره الثاني قصيرًا للغاية، فامتزج الغضب المنبعث من عينَي فينسون بغضبِ فمِه.

قال دولار بصوتٍ مكتوم فيما يشير إلى الكتفين المحدودبتين القريبتين منهما: «لا أستطيع.»

قال وزير الداخلية باستهزاء: «في تلك الحالة ليس لدينا أسرار. لكن ما الذي يجبرك على هذا يا دولار؟ يبدو أن المرأة لم تعاملك بأي تحفُّظ، لكن انظر إلى حالك وإلى تحفُّظك الشديد.»

قال الطبيب: «هذا سرٌّ من أسرار غرفة الاستشارة يا سيد فينسون؛ أنت تعلم جيدًا أن قداسة أسرار من يلجئون لاستشارتي بنفس درجة قداسة أسرار الذين يعترفون بذنوبهم.»

قال الوزير: «هل تتوقَّع أن ألغيَ الحكم الذي أصدرته بناءً على اعترافٍ من مصدرٍ مجهول غير مباشر؟»

قال دولار بنبرة قاطعة: «أجل … بدايةً. لن يضيرك التأجيلُ الفوري للحكم لكني لا أطلب منك هذا بناءً على كلامي غير المدعوم بدليل في ستكورشام. أنتَ تعلم ما يقبَع في جيب معطفك الطويل. سلِّمه إلى المحلِّل الخاص بك؛ واطلب فتْحَ القبر، إن شئت، لتتحقَّق من تطابُق السلاح مع الجُرح؛ وإن لم يتطابق معه، فأرسل الرجلَ إلى منصة الإعدام.»

ردَّ الوزير: «أشكرك على النصيحة الغالية. لكن لا بد من حسمِ القضية للأبد؛ لا نريد أن نزيدَ من معاناة الشقي المسكين؛ إذ يكفي ما لاقاه حتى الآن.»

سأل الطبيب: «أنسيت يا سيد فينسون أنك كنت ستحكم لصالحه حتى من قبلِ ظهور هذه التطورات التي قلَبت موازين الحكم؟»

ربما كان من السِّمات المنذِرة بالخطر في علاقتهما الآخذةِ في التطور سريعًا أن الرجل الأصغر سنًّا لم يكن قد سُمِح له بعدُ بإسقاط الألقاب الرسمية عند مخاطبة الوزير الذي يكبُره بعشر سنوات. لكنها لم تكن اللحظةَ المناسبة لرفع الكلفة التي تشجِّع عليها ظروفٌ أفضل. ومع ذلك تجرَّأ دولار على التربيت على يدِ الرجل العظيم في أثناء حديثه معه؛ كانت هذه الإيماءةُ مثلَ ثَلْم النقطة المستدقَّة في سلاح الشيش؛ إذ أطفأت هذه الحركةُ الذكية غضبَ الوزير فضلًا عن أنها حسَّنت مِزاجه على أي حال.

هتف الوزير في محاولةٍ لحسم السؤال العام على نحوٍ ودي: «لا جدوى من ذلك يا رفيقي العزيز! يجب أن أعرفَ اسم السيدة، إلا إذا كانت عازمة على إحباط مساعيها.»

سأل الطبيب: «أتقصد أن تقول إما اسمها وإما حياة كروتشر؟»

لم تكن نيةُ توبام فينسون أن يقول أيَّ شيء من هذا القبيل، وشعر بالاستياء من أن يُنسَب إليه قولٌ كهذا. لكنه كان قد أخذ على نفسه عدمَ الانزعاج منه بعد الآن. لن يجديَ هذا نفْعًا مع رفيقه دولار؛ على الأقل لم يُجدِ نفعًا في الوضع الحالي؛ لكن أيُّ أحدٍ قد يكون في وضعٍ غير مُواتٍ بعد التعرُّض لضغطٍ سياسي شديد، وخوض رحلة طويلة، وتناول عشاء فاخر، وإبلاغه بتطوُّر غيرِ مناسب من ناحية التوقيت وكذلك مُحرِج. عاد السيد فينسون إلى صمته متأسيًا على غير وعي منه بسلوك السائق المهذَّب. استدفأ بطيات دِثاره فيما دفن رأسه بين كتفيه. عندما بلغت السيارة تخومَ هارتفوردشير بدأ يتحدَّث من جديد.

قال معقِّبًا في نهاية المطاف: «فيرا مويل كانت تابعةً لفرقةٍ من فرق شارع أوكسفورد. وأنا على دراية بكل تحركاتها ليلةَ المعركة؛ وإلا لتعين عليَّ معرفتها الآن. لو خطر لي أنها كانت المرأة …»

قال دولار بخمول: «ما الأمر؟ كنتُ نعسانَ.»

لم يأتِ تعليقُ الوزير بالتأثير المطلوب بعدما كرَّره على مسامع الطبيب، لكنه أكمل جملته المبتورة بصرامة: «سأجعلها تتجرع كأسَ المرارة حتى آخر قطرة.»

ردَّ دولار بشفقة: «لا أستغرب ذلك.»

هتف الوزير: «مع هذا تطلُب مني أن أخاطر بمكانتي السياسية من أجل أشباهها!»

قال الطبيب: «لا أفهم ما تعنيه.»

سأل الوزير: «أتريد تعليقَ إعدام المجرم غير الحقيقي، وتدَع المجرمَ الحقيقي يواصل نضاله العسكري على الأرض؟»

أجاب الطبيب: «أرى أنها قد اكتفت من القتال.»

هتف الوزير: «قطعًا لا!»

قال الطبيب: «أنا كفيلها إن شئت. كانت حادثةً غيرَ مقصودة. لقد انفطر قلبها من جرَّائها، وأنتَ لا تعرفها، أما أنا فأعرفها! سأضمن ألا تخاطرَ بوقوع حادثة مثل هذه!»

قال الوزير: «وماذا لو انقلبت عليَّ؟ إن انتشر هذا الخبر، فستكون هذه نهايتي يا دولار.»

ردَّ الطبيب: «لن تفعل ذلك!»

تسلَّلت حماسةٌ واضحة إلى صوت الطبيب. لم يكن واعيًا لها، وكان توبام فينسون أكثرَ دهاءً من أن يجعله ينتبه ويأخذ حِذْره بقولٍ يستحثُّه فيه بوضوح على أن يُفضيَ بما عنده. لكنه غامر بطرح سؤال استدراجي، وفعل ذلك بلباقةٍ تُوحي بأنه لا يستجوب الطبيب.

قال متبجِّحًا: «لا أحاول الوصولَ إلى ما أريده بطرقٍ ملتوية. فقد تخلَّيت عن محاولةِ استخراج المعلومات منك، يا دولار؛ لكن هل ستحدُث فضيحة كبيرة إن تعيَّن علينا أن نلصقَ التهمة بالسيدة الشابة؟»

أجاب الطبيب الذي لم ينتبِه لمحاولةِ الوزير لاستدراجه: «لا يمكنني الإجابةُ عن مسألة الفضائح. من الممكن أن يؤديَ هذا الإجراء إلى انفطار قلوب — وربما إلى الموت — وسيجعلها هذا تعتقد أنها أجرمَت مرتين، والرب وحدَه يعلم العواقبَ الأخرى التي قد تنجُم! ولن يعود هذا بأدنى نفعٍ على أي أحد؛ لأنه سيبقى متعينًا عليك أن تحكم على كروتشر بحكمٍ مناسب في جنايته الأصلية.»

كانت الساعة الثالثة في صبيحة الكريسماس عندما أبصرا أضواءَ لندن من فوق تلَّةِ بروكلي؛ وبعد دقيقة وصلا إلى خطوط الترام عند السفح وما لبثا أن بلغا تخومَ المدينة.

أبتِ الرحلة أن تنتهيَ دون تصرُّفٍ دالٍ على شخصيةِ السيد فينسون المتفرِّدة. فورَ أن بلغا ميدا فيل، أعلن الوزير فجأةً عن رغبته في التحقُّق من الهراوة، في تلك الساعات الأولى من الصباح، من خلال متجر الرهونات الذي كان قد باعها صباح يوم الإغارة الخريفية. أصاب هذا الإعلان طبيبَ الجريمة بالهلع؛ إذ ربما يتذكَّر الرجل بيعَه للهراوة لليدي فيرا مويل. كانت السيدة ذائعةَ الصيت بكل تأكيد؛ وكان أمله الوحيد هو أنه هو نفسه لم يكن قد قابلها قبل ذلك اليوم. راح الطبيب يتذرَّع عبثًا بذرائعَ مختلِفة؛ إذ جابهه الوزير بحججه السابقة بشأنِ عواقبِ التعطيل الفوري لإعدام ألفريد كروتشر، فخشي أن يلحَّ عليه أكثرَ من ذلك. لم يكن الطبيب يعلم سوى اسمِ الشارع الذي يقع فيه متجر الرهونات، لكن نباهة السائق الشعبي تدخَّلت مرةً أخرى، ووجدا نفسيهما يطرقان البابَ الحديدي للمحل الصحيح في الساعة الثالثة والنصف صباحًا. لاحت الأضواء في النافذة العلوية، ورُفع إطارها، ومنها انبثق وجهٌ غاضب.

قال أحد الرجلين المتدثِّرين بنبرةٍ كئيبة: «اسمي توبام فينسون. أنا وزير الداخلية، لكن لا يمكنني إجبارك على النزول والتحدُّث إليَّ لمجردِ أنني وزير الداخلية. سأجزل لك العطاءَ بشكلٍ أو بآخر إن فعلت ذلك.»

انشغل الوزير بالتنقيب عن حقيبته التي تحتوي على عملات السوفرن الذهبية وهو يتحدَّث إلى الرجل. في غضونِ دقيقة كان باب المكان قد أُغلق خلفهما، وجرَّ كائنٌ مُتذلل قدميه أمامهما فيما يريهما معتكَفه الخاص الذي كان لا يزال يتضوَّع برائحة توابل نفاذة.

قال الرجل ذو الرأس الأشعث البارز من الدِّثار: «أتذكر أنني رأيتها في المتجر. لكن لا أعلم كيف وصلت إلى هنا، يمكنني أن أقسمَ على ذلك في المحكمة يا سيدي! إنها أداة وحشية بغيضة، لكن أقسم لك أنها كانت موجودةً قبل أن أتولى زمامَ أمور المتجر.»

قال توبام فينسون وهو يحصي عملات السوفرن الذهبية في الحافظة الذهبية المتصلة بالساعة التي تحمل قيمةً عاطفية أو ذكريات لا علاقة لها بالوضع الحالي: «لا أبالي كيف أو متى جاءت إلى هذا المكان. ما أريد أن أعرفه هو هل تتذكَّر بيعَ هذه الهراوة؟»

أجاب الرجل: «أجل!»

سأل الوزير: «متى؟»

ردَّ الرجل: «قد يكون … دعني أتذكَّر … في وقتٍ ما في شهر أكتوبر أو نوفمبر.»

سأل الوزير: «أتتذكَّر من اشتراها؟»

أجاب الرجل: «أجل … سيدة شابة!»

تنفَّس دولار الصعداء. لم يكن الرجل يعرف اسمَها؛ في البداية خشي بشدة أن يتذكَّر الرجل هيئةَ السيدة. لكن الطبيب ساعده واقترح عددًا من السِّمات البارزة التي لا تمتلكها الليدي فيرا مويل دون أن يؤنِّبه ضميره على هذا التدليس. سقط الرجل في الفخ مباشرة، وتذكَّر أوصافَ المرأة التي هي من بنات خيال دولار، ونال في النهاية قطعةً ذهبية كبيرة، من خلال الربط بطريقة مقنعة جدًّا بين بيع الهراوة وتوقيتِ المداهمةِ الواسعةِ للنساء. بدا السيد فينسون في غاية الصرامة وهو يقود الطبيب إلى الشارع؛ وكان هو من أيقظ بخشونةٍ السائق، الذي كان يغطُّ بصوتٍ عالٍ فوق عجلة القيادة.

تمتم الوزير: «يعجبني ذلك الفتى. إنه يؤدي عملَه على أكمل وجه. وهكذا أنا! هلَّا تنزلني أولًا في ميدان بورتمان؟»

أصدر دولار أمرَه للسائق، وانسابت السيارة عَبر الطرقات الفارغة بحيوية ونشاط، كأن السائق والسيارة غادرا المرأب من فورهما. لم يكن هناك مخلوق واحد في ميدان بورتمان، وكانت نوافذ المنازل كلُّها مظلِمة باستثناء منزل وزير الداخلية. كان قد ورد اتصالٌ إلى منزل الوزير من ستكورشام بعد مغادرته، وفُتح الباب أمام الوزير فيما نقد هو السائقَ بعملات السوفرن الذهبية المتبقية، قبل أن يقبض على يد دولار بحرارة.

قال توبام فينسون: «لا يمكنني أن أدعوك إلى الداخلِ هذه المرة. فعلاوة على تأخُّر الوقت لا بد أن أُجريَ بعض الاتصالات العاجلة وأتواصل مع بنتونفيل، وأقُضَّ مضجعَ الحاكم!»

شهق الطبيب: «هل تأجَّل الحكم؟» كانت هذه هي العبارةَ الوحيدة التي خرجت من شفتيه.

أومأ وزير الداخلية إيجابًا بتجهُّم بالغ، لكن ارتسمت على محيَّاه ابتسامةٌ فيما أغلق الباب بسرعة حتى لا يقبض جون دولار على يده مرةً أخرى. سُمِع من الداخل صوتُ إغلاق المزلاج على عجلٍ.

استدار دولار ببطء، وهو يتساءل إن كان بوسعه أخيرًا أن يخبر السائقَ عن مغامرةِ الليلة التي أدَّى فيها دورًا بطوليًّا. لكن لم تكن ثمة حاجة إلى ذلك. نظر إليه السائق ببلاهةٍ ثم انهار فوق عجلة القيادة مرةً أخرى. لكنه لم يكن نائمًا هذه المرة، وإنما فاقدًا للوعي تمامًا؛ وكانت نظارة القيادة مائلة تمامًا على وجهه، وتدحرجت قبَّعته عن مكانها، وتناثر شعره فوق رأسه.

كان شعر فتاةٍ، وكانت الفتاة هي الليدي فيرا مويل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤