الفصل الخامس

ناظر مدرسة بالخارج

١

يتوافد إلى سويسرا في عطلةِ عيد الميلاد أناسٌ قليلون. وهم في معظمهم ينتمون إلى طبقةٍ اجتماعية بعينها تُزوِّد الطبيبَ دولار بالجزء الأكبر من قضاياه. لذا لم يكن متفاجئًا، ليلةَ وصوله إلى فندق إكسلسيور الفاخر في بلدة وينتروالد، بتلك اللمسةِ المختلفة على كتفه، ووجْه أحدِ أحدث مرضاه الذي لفَحَتْه الشمس.

كان جورج إيدنبورو قد اختار وينتروالد وجهةً لقضاء شهر العسل، وعندما التقى بطبيب الجريمة، لم يكن هناك ما هو أحبُّ إليه وعروسه ذات الشعر البني الغامق من أن ينضمَّ إلى طاولتهما. شعر الطبيب ببعض الحرج من دعوتهما، لكن كان لديه من الأسباب ما يمنعه من الرفض القاطع. أعدَّت العروس الطاولةَ بحيوية مبهِجة، فيما اختار زوجُها زجاجةَ نبيذ تليق بالمناسبة، وشرح الوافد الجديد أنه وصل إلى سويسرا في قطارِ ما بعد الظهيرة، لكنه لم يأتِ إلى الفندق مباشرةً.

قالت السيدة إيدنبورو: «إذن لا بد أنك لم تسمع عن مغامرتنا المثيرة، وأخشى من أنها لن تروقك عندما تسمعها!»

ردَّ دولار بتأنٍّ متعمَّد: «إن كنتِ تقصدين مسألةَ سُمِّ الإستركنين، فقد سمعت روايةً عنها قبل وصولي إلى هنا بساعة. لا يمكنني القول إنني أحببتُ ما سمعت. لكني أحب معرفةَ رأيكما بخصوص هذه المسألة.»

أعاد إيدنبورو قائمةَ النبيذ للنادل، وأملى عليه أوامره بجدية شديدة.

سأل إيدنبورو عروسَه بسرعة: «هل تحكين له عن فضيحتنا الطبية؟ ستصيبك هذه الرواية بالقشعريرة أيها الطبيب العزيز. لقد وصف الطبيبُ العام المحلي لأحد المرضى حبوبَ الإستركنين الكفيلةَ بقتل متعاطيها في غضون عشرين دقيقة!»

قال طبيب الجريمة بنبرةٍ جافة: «هذا ما سمعْته.»

واصل إيدنبورو حكايته توقيرًا للطبيب الذي جلس أمامه بهدوءٍ يفوق ما هو معهود من الأطباء البريطانيين: «عانى المتوحِّش المسكين إجهادًا شديدًا بسببِ الإفراط في العمل. يقولون إنه ظل مستيقظًا لمدة ليلتين متواصلتين الأسبوع الماضي؛ ويبدو أنه الطبيب الوحيد في المكان، والفنادق ملأى بالأشخاص الذين يبذلون غايةَ وُسعهم للوقوع في المخاطر. في هذا الأسبوع وحدَه شهدنا إصابتين بارتجاج في المخ وإصابة بكسر مضاعف. لكن أن تعطيَ مريضَك مادةَ الإستركنين بجرعة تزيد مائة مرة عن الجرعة التي كنت تنوي أن تعطيَها له …»

أوقف إيدنبورو نفسه بعدما رأى أن الموضوع الذي تناوله في البداية بسبب توتُّره لا أكثر، له صلة مباشرة بطبيب الجريمة في كل الأحوال.

سأل الطبيب بمهارة: «قل لي، ماذا عنَّ للمريض؟ لو أن جزءًا مما سمعته صحيح، فما كان موته ليصبح خسارة كبيرة.»

قالت لوسي إيدنبورو بنبرة استهجان: «يؤسفني أن أقول إنها ما كانت لتصبح كبيرة.»

هتف إيدنبورو وهو يلمس كأسَه: «كان زميلي في المدرسة الخاصة، وهو لم يتجاوز الحادية والعشرين بعدُ، ويتصرف بحماقة كبيرة. يا له من أمرٍ مثيرٍ للشفقة. لقد كان جاك لافريك فتًى طيبَ المعْشَر.»

أقرَّت العروس: «بدا لطيفًا جدًّا عندما جاء إلى هنا العام الماضي، ولا يزال رياضيًّا. إذ فاز بنصف سباقات الزلَّاجات في الموسم السابق وتعامل مع الأمر بروحٍ مرحة؛ لكنه صار الآن شخصًا مختلفًا، والأمر الأهم أنه يتصرَّف بغرور شديد. ومع ذلك، أتوقَّع إما أن يفوز السيد جاك لافريك بكل السباقات أو أن تُدَقَّ عنقُه دون ذلك. من الواضح أنه ليس مقدَّرًا له أن يموت مسمومًا.»

سأل الطبيب: «هل صادف إخفاقًا العامَ الماضي يا سيدة إيدنبورو؟»

أجابت: «كادت أن تُقطَع إحدى أذنيه عندما اختل توازنُه فوق المضمار الثلجي. هذا ما قيل؛ لكنه عاود التزلُّج في اليوم التالي.»

أضاف إيدنبورو، في نفس الوقت الذي وصلت فيه زجاجة الشامبانيا: «في ذلك الوقت اعتنى به الطبيب ألت عنايةً جيدة، حسبما سمعت. لكن آمُل أن تتولَّى «أنتَ» رعايته! لقد كان حقًّا شابًّا خلوقًا، لكن الأمر سيستغرق منك وقتًا طويلًا، أيها الطبيب دولار، حتى تردَّه إلى سابق عهده.»

ابتسم طبيب الجريمة وهو يرفع كأسه ويردُّ على كلمات الثناء بمثلها. كانت ابتسامته تُنبئ عن أن لديه من القضايا الهامة ما يغنيه عن الانشغال بتلك المسألةِ البسيطة. لكنه كان هو من تطرَّق إلى موضوع الشاب جاك لافريك مرةً أخرى، مستفهمًا عمَّا إذا كان لديه معلِّم أو شخص آخر يُعنى بأمره، ولماذا لا يقوم بوظيفته على الوجه الأكمل.

على الفور انقلب الزوجان إيدنبورو على صديقهما. لم يكن السيد سكارث المسكين يستحقُّ اللوم! فقد كان، فيما يبدو، هو ناظرَ المدرسة الإعدادية التي التحق بها جاك لافريك وجورج إيدنبورو في صباهما. كان شخصًا رائعًا وذائع الصيت في الفندق، لكنه لم يكن يستحق سوى الشفقة في تلك المسألةِ قيدِ النقاش. كان الشاب قد بلغ سنَّ الرشد، ولديه من الصلاحيات ما يتيح له طرده في أي لحظة، كما كان يهدِّد دائمًا في لحظات سُكْره. لكن فيما يخص السُّكر كان الشاب يعاني مشكلةً كبيرة؛ فكأس واحدة من الخمر كانت تكفي لأن يفقد رُشدَه، وهو الأمر الذي لم يكن خافيًا على أحد.

قالت السيدة إيدنبورو بنبرةٍ تشي باسترجاع ذكرياتٍ ماضية: «لكن لم يكن يحدث شيء من هذا القبيل في العام الماضي؛ على الأقل، على حدِّ علمي. ولهذا يجد السيد سكارث المسكين صعوبةً كبيرةً في التعامل مع هذا التغير الطارئ.»

أعلن دولار عن شوقه للقاء السيد المسكين؛ تبادل الزوجان النظراتِ ثم أخبراه بأن ينتظر حتى الانتهاء من الحفلة الموسيقية التي كان ينبغي له ألا يفوِّتها. هل ستكون هناك حفلة موسيقية؟ ظهر الامتعاض على وجهِ الطبيب إزاء هذه الدعوة، لكنَّ عينَي العروس التمعتا في استمتاع. لم تكن لتقبلَ برفضه الحضور، بل أخذتها الحماسةُ فأنهت العشاء مبكرًا، كي تحجزَ مقاعدَ جيدة للحفلة الموسيقية. كانت امرأةً قويةَ الإرادة واسعةَ الحيلة، وسرعان ما وجد دولار نفسه جالسًا بين الزوجين في شرفةٍ تُطِلُّ على قاعة رقص فسيحة، حيث تقع خشبة المسرح في طرفها البعيد.

لبَّت الحفلة الموسيقية توقُّعاته التهكمية، واستسلم لشعوره بالملل، الذي زاد من حدَّته السلوكُ الفج لبعض الشباب المتفكِّهين الأجلاف الجالسين في الصفوف الخلفية. توالت الأغاني المملة واحدة تلو الأخرى، وحظيت كلُّ أغنية منها بطلبٍ صاخب من الشباب الوُسَماء المرحين بإعادتها. بعد ذلك قصَّ روائي مشهور قصصًا مُغرِقةً في المحلية من ناحية اللهجة والثقافة؛ وأدَّت سيدة إلقاءً بروح مذهلة؛ كما عبث موسيقيٌّ بكمانه بنفس القدْر من الشجاعة؛ لكن خرجت الصفوف الخلفية في الشرفة عن السيطرة تمامًا عندما اعتلى سيدٌ أسمرُ البشرة خشبةَ المسرح، ولم يفتح شفتيه حتى لبِس الجالسون في الصفوف الخلفية عباءةَ التقوى وصفَّقوا بحماسة بريئة.

لاحظ دولار التغيُّر الذي طرأ على الصفوف الخلفية على الفور فسأل رفيقيه: «من هذا الرجل؟!» لكن حتى لوسي إيدنبورو لم تُجِب إلا بقولها: «صمتًا، أيها الطبيب!» ومالت للأمام بعينين متألقتين. ولو أن إبرة سقطت حينئذٍ على الأرض لسُمع رنينها للسكون الذي عمَّ المكان، قبل أن يبدِّد الممثل ذو البشرة الداكنة هذا الجوَّ المشحون وينهمك في تمثيل مشهد من رواية «مذكرات بِكوِك».

أدَّى الممثل مونولوجَ السيد جِنجل، في العربة المسافرة إلى روتشستر، وحاكى التُّرهات السرمدية بطريقة فذة. لم يكن هناك من يستطيع أداءَ دور ذلك الرمز الهزيل، سوى هذا الرجلِ الطويل الأسمر، ذي الشارب الأسود القصير، والأسنان اللامعة التي تخرج من بينها كلُّ كلمة بسرعة ودقة.

قال: «سيدة طويلة، وهي تأكل «الشطائر» … فنسيت الباب … طاخ … الأولاد يتلفتون حولهم … وإذا برأس الأم يطير عن جسدها، والشطائر في يدها … لم يعُدْ هناك فمٌ تدخل فيه …» وزاد تجهُّمه من مرحِ الجمهور وصخَبِه.

انتظر بعبوس حتى عمَّ الهدوءُ المكان، وأسهمت كآبته المتعمَّدة في زيادة استمتاع الجمهور. لكن عندما وصل الممثل إلى واقعةِ دونا كريستينا وغسيل المَعِدة، والاكتشاف الهام لجثة دون بولارو فزجيج في الأنبوب الرئيسي للنافورة العامة، استجلبت قهقهاتُ نصف الجمهور في نهاية المطاف سخطَ النصف الآخر الذين طالبوهم بالتزام الصمت. كانت زوجة جورج إيدنبورو واحدةً من الجمهور المشاغب الأكثرِ صخبًا. واضطُر جورج إيدنبورو نفسه إلى مسحِ عينيه من كثرة الضحك. ونسي طبيب الجريمة أن هناك شيئًا اسمه جريمة.

هتف الطبيب: «يا له من عبقري!» عندما لبَّى الممثل طلبَ الاستزادةِ من الجمهور بمقتطفات إضافية صغيرة من مشاهد السيد جِنجل كان قد احتفظ بها بمهارة. وأضاف الطبيب: «لكن من هو هذا الرجل يا سيدة إيدنبورو؟»

أجابت العروس بنبرةٍ متفاخرة ممتزجة بنشوة الانتصار: «إنه السيد سكارث المسكين!»

حينها ذهبت فرحة الطبيب.

قال: «أهذا هو الشخص الذي يعجز عن العناية بشابٍّ صغير بينما يمكنه أن يتحكم في جمهورٍ كهذا ويضعه في قبضة يده؟»

في البداية، بدا عاجزًا عن التصديق، ثم فجأة بدا وكأنه فهِم الأمر. آنذاك كان الزوجان إيدنبورو يدافعان بحماسةٍ عن بؤس السيد سكارث، ولم يسَعْ دولار سوى أن يعرِب عن رغبته في لقائه أكثرَ من ذي قبل.

ما كانت هذه الرغبة لتتحقق لولا واقعةٌ أخرى ومفاجأةٌ جديدة. كان جورج والطبيب في طريقهما إلى غرفة البلياردو قبل نهاية البرنامج الطويل، عندما وجدا مجموعةً من شبان المقاعد الخلفية واقفين على مدخل الغرفة، وسُمِع صراخٌ بذيء مرتفع في الداخل. أخذ صوتٌ وحيد في الارتفاع، وللأسف لم يكن من الصعب التعرُّف على صاحبه؛ كان صوتَ شخص مقهورٍ يُنفس عن نفسه بالتُّرهات المتذمرة. أخذ صراخ السيد جنجل الاستبدادي الحاد يخمُد شيئًا فشيئًا. توقَّف الصراخ في نهاية المطاف، وأفسح الرجال الواقفون في المدخل الطريقَ للسيد سكارث، الذي أسرع لإخراج الشاب الأشعث من المكان، بصرامةٍ مثيرة للإعجاب معهودة بين رجال الشرطة.

تأبط دولار ذراعَ مريضه السابق بخفة، في أثناء متابعتهما للمشهد بأناةٍ من مكانهما، وقال: «هل يحدُث هذا كثيرًا يا جورج؟»

أجاب جورج: «يؤسفني القول إنه يحدُث في معظم الليالي.»

قال: «وهل يفعل سكارث دومًا ما يحلو له بالصبي … بعد ذلك؟»

أعلن الشاب، دون أن يفهم مغزَى قول الطبيب: «دومًا؛ إنه من ذلك النوع الذي يتصرف كما يحلو له مع معظم الناس. ليتك رأيته في الحفلة الموسيقية الأخيرة عندما تصرَّف أولئك الحمقى الذين كانوا جالسين خلفنا بطريقةٍ أسوأ من الليلة! لم يكن دوره قد حان بعدُ، لكنه خرج إلى المسرح، وألزمهم الصمتَ في غضون لحظة، وأثار ضحكنا جميعًا في اللحظة التالية! نفس الشيء كان يحدُث في المدرسة؛ لذا كان الجميع يخشون موستن سكارث، الصبية والرجال على حدٍّ سواء؛ ولا يزال جاك لافريك يهابه، رغم أنه بلغ سنَّ الرشد ولديه الكثير من المال في حوزته، كما شهدت بنفسك الآن توًّا.»

سأل دولار: «ومع ذلك يسمح بتكرار الأمر؟»

أجاب جورج: «من الصعب للغاية أن يحول دون تكراره. إن كأسًا من الخمر لتكادُ تكفي ليفقد رُشده، كما قلت لك، كما أنه لا يسَعه مرافقته طوال الوقت في مكانٍ كهذا. لكنَّ بعضًا من أصدقاء جاك القدامى لقَّنوه درسًا قاسيًا. أتعلم ماذا فعلوا؟ سلبوا منه رابطةَ عنقِه القديمة الخاصة بمدرسة إيتون، وكانوا مصيبين في ذلك!»

سأل الطبيب: «ألم يحدُث أيٌّ من هذا كلِّه العامَ الماضي؟»

أجاب: «هذا ما تقوله لوسي. لم أكن موجودًا هنا. السيدة لافريك كانت موجودة، بالمناسبة؛ وربما كان من الممكن أن تُحدِث فارقًا. لكنَّ ترْكَ حريةِ التصرُّف له بلا رقيب أدَّى إلى فساده. سكارث هو الشخص الوحيد القادر على كبْح جِماحه، إلا … إلا إذا قرَّرت أن تضمَّه إلى جناحك أيها الطبيب! لقد … لقد أنقذتَ حالاتٍ أكثرَ صعوبةً من هذه، كما تعلم!»

جلسا في الاستراحة بضع دقائق. لم يكن يوجد أحدٌ بالقرب منهما؛ علا وجهَ الشاب البِشرُ والسرور وتألَّقت عيناه. تأبَّط دولار ذراعَه مرة أخرى، وسارا معًا صوب المصعد.

قال دولار: «في كل الأحوال لا بد أن أتعرفَ على صديقك سكارث. هل تعرف رقم غرفته؟»

كان إيدنبورو يعرف رقم الغرفة — كان رقمها ١٤١ — لكنه بدا متشككًا في إمكانية استقبال الرجل طبيبًا آخرَ بعد الفاجعة التي كانت ستقع في الغرفة المجاورة.

اقترح إيدنبورو على الطبيب باحترام في المصعد: «أليس من الأفضل أن أقدِّمك إليه في الصباح؟ أنا — أنا أكره تَكرار الكلام، لكن أريد أن يستلطف أحدكما الآخر، وقد سمعت سكارث يقول إنه قد ضاق ذرعًا بالأطباء!»

ابتسم دولار.

قال: «لا عجب في ذلك.»

عقَّب إيدنبورو قائلًا: «ومع ذلك لم يكن موستن سكارث هو من فضح الطبيب ألت.»

سأل دولار: «حقًّا؟»

هزَّ إيدنبورو رأسَه علامةَ الإيجاب فيما كانا يغادران المصعد معًا. تابع: «أجل أيها الطبيب. من فضحه هو الصيدلاني الذي يعمل هنا، واسمه شِكل؛ لولاه لقضى جاك لافريك نَحْبه؛ ولولاه أيضًا ما علِم أحدٌ بنجاته من الموت بأعجوبة. لقد اكتشف الخطأ ثم بدأ في نشر الشائعات.»

قال الطبيب وهو يومئ برأسه: «أعرف.»

استرسل إيدنبورو: «لكنه كان خطأ فادحًا! استُخدِمَت وحدةُ الديسجرام بدلًا من المليجرام حسبما سمعت. وهذه كمية مفرطة من الإستركنين في القرص الواحد.»

قال جون دولار بهدوء: «أنت على حق. الوصفة الطبية قابعة في جيبي.»

قال إيدنبورو: «أهي معك، أيها الطبيب؟»

أجاب دولار: «لا تغضب مني يا صديقي العزيز! أخبرتك أنني سمعت روايةً عن الحادثة كلِّها. كانت رواية ألت. إنه أحدُ أصدقائي القدامى، لكنك ما كنتَ لتتفوَّه بكلمة بشأنه لو أخبرتك بذلك في البداية، كما أنني ما زلت لا أريد أن يشيع أمر صداقتنا.»

قال إيدنبورو: «يمكنك أن تثق بي، أيها الطبيب، خاصةً بعد كلِّ ما أسديته إليَّ.»

قال الطبيب: «حسنًا، لقد أحسن إليَّ ألت ذاتَ مرة. وأريد أن أفعل شيئًا من أجله، هذا كلُّ ما في الأمر.»

كانت لا تزال براجِمه تؤلمه من تأثير قبضة الشاب، فيما كانا يطرُقان برفقٍ بابَ الغرفة رقم ١٤٤ على الفور.

٢

فُتح الباب بضع بوصات بواسطة موستن سكارث. كان لا يزال مرتديًا ملابسَ الحفل، لكن وجهه كان أشد قتامة من آخرِ مرة رآه فيها طبيب الجريمة.

سأل بحدَّة، ليس بطريقة السيد جِنجل، وإنما بالطريقة المتوقَّعة من معظم الناس في هذا الموقف: «هلَّا أخبرتني بمن تكون وماذا تريد؟»

أجاب الطبيب: «اسمي دولار، وأنا طبيب.»

كان تعريف الطبيب دولار بنفسه موجزًا ومباشرًا، وكان تأثيره متوقعًا، ولكن خفَّفته طريقةُ الطبيب المتَّسمة بالثقة.

قال سكارث: «أشكرك شكرًا جزيلًا. ولكني اكتفيتُ من الأطباء.»

وكان الباب يُغلق عندما نطق دولار المتطفِّل بكلمةٍ حالت دون ذلك.

قال: «بالضبط!»

عبْر الفرجةِ الصغيرة التي أظهرت عينيه فحسب، قطَّب سكارث حاجبيه. كانت نبرة المتطفِّل هي ما أوقف يدَه في الهواء ومنعها من غلق الباب.

سأل برباطة جأش أكبر: «ماذا تقصد؟»

ردَّ دولار ردًّا مخالفًا لطبيعته: «أقصد أنني أريد رؤيتك بشأن الطبيب الآخر، هذا الرجل الألماني.» لكن العبارة التي قيلت بطريقةٍ مدروسة جعلت سكارث يسمح له بالدخول.

قال سكارث بنبرةٍ خافتة فيما يوصد الباب خلفهما بهدوء: «حسنًا، لا ترفع صوتك. أظن أنني رأيتك بالأسفل خارج الحانة. لذا أريد أن أوضح لكَ أنني جعلت الشابَّ الواعد يخلُد للنوم توًّا، على الجانب الآخر من هذا الباب القابل للطي.»

وجد دولار نفسه يتساءل عن الغرفة الأخرى، وهل هي جيدة مثل غرفة سكارث، التي كانت أكثرَ اتساعًا وأفخمَ أثاثًا من غرفته. لكنه جلس إلى الطاولة البيضاوية، تحت الثريا، ودخل في صلب الموضوع مباشرةً.

استهل كلامه، قائلًا: «بخصوص الوصفة الطبية»، وأخرجها من جيبه فورًا.

سأل الآخر، بنبرةٍ فضولية، فيما كان يجلس إلى المائدة هو الآخر: «حسنًا، ماذا عنها؟»

قال: «تجمعني بالطبيب ألت صداقةٌ قديمة جدًّا يا سيد سكارث.»

تغيَّر وجهُ موستن سكارث تغيرًا طفيفًا لكن عفويًّا يليق بالحال والمقام. ولانت عيناه المتجهِّمتان بشفقة واضحة؛ لكنها زادت من جدِّية ملامحه.

تابع دولار: «إنه ليس صديقي فحسب، وإنما أمهرُ وأفضل الأطباء الذين أعرفهم. وكلامي في حقه ليس نابعًا من شعوري بالوفاء له فحسب؛ إذ كان طبيبي الخاص قبل أن يكون صديقي. لقد أنقذ، يا سيد سكارث، ما هو أكثرُ من حياتي، في وقتٍ حارت فيه عقولُ كل الأطباء في شارع هارلي في حالتي. تخلَّى جميع البارونات عني؛ لكن المصادفة أو القدَر من أتى بي إلى هنا، وأجرى هذا الطبيب الصغير المغمور تلك المعجزة، حين تهرَّب الجميع من أدائها، وصنَع مني رجلًا جديدًا على مسئوليته الخاصة. وددِتُ أن يأتيَ إلى لندن ويجنيَ ثروة طائلة؛ لكن عمله كان هنا، ولم يشأ أن يتركه؛ وهنا وجدته في محنة. أتستغرب من رغبتي في التدخل والدفاع عنه يا سيد سكارث؟»

ردَّ موستن سكارث بودٍّ بالغ يتناسب مع ظروف القضية المطروحة: «على العكس، أدرك بالضبط الشعورَ الذي لا بد وأنه يخالجك، وأنا سعيد للغاية أنك أفرغتَ لي مكنون صدرك. لكني لم أتسبب في هذه المحنة، أيها الطبيب دولار، وإن كنتُ بطبيعة الحال أشعر بالسوء بشأنِ ما حدث. لكن لولا شِكل، لربما كنت أُوَدِّع تابوتًا إلى إنجلترا في هذه اللحظة! فهو من اكتشف الخطأ الطبي، وأثار الكثير من اللغط منذ ذلك الوقت.»

سأل دولار بهدوء: «هل أنت متأكد من أن ما حدَث كان خطأ طبيًّا؟»

هتف الآخر بدهشةٍ عارمة: «وماذا يكون غير ذلك؟ وحتى شِكل لم يُلمِح في كلامه على الإطلاق إلى أن الطبيب ألت كان يحاول ارتكابَ جريمة قتل!»

ردَّ دولار بنبرةٍ حادة ذات مغزًى: «حتى شِكل؟ أتلمِّح إلى أن ثمة عداوةً بينه وبين الطبيب ألت؟»

أجاب: «لم أكن ألمِّح إلى ذلك، بالتأكيد.» كان سكارث لا يزال مذهولًا. وأردف: «لا. لم يخطر هذا ببالي ولو للحظة.»

قال دولار: «لكن هذا مكان صغير، وأنتَ تدرك طبيعةَ الأماكن الصغيرة. أمن المحتمل أن يشيع أحدٌ شيئًا كهذا حول شخصٍ آخرَ إلا إذا كانت هناك كراهية بينهما؟»

لم يستطِع سكارث أن يردَّ. فما قاله بشأن الأماكن الصغيرة كان صحيحًا، وبدا تبريرًا منطقيًّا. أثار هذا الاقتراحُ اهتمامه حقًّا. استشعر تلميحًا في كلام طبيب الجريمة أثارَ فضوله، وجعله راغبًا في معرفة المزيد. فاقترب رأس أحدهما من الآخر عبْر طرَف الطاولة والتقت أعينهما في تفحُّص متبادل.

قال دولار: «أيمكنني أن أأتمنك، يا سيد سكارث، على الفكرة التي تدور في رأسي؟»

أجاب: «هذا أمرٌ متروك لك وحدَك أيها الطبيب دولار.»

قال: «لن أخبر أحدًا آخرَ بها — ولا حتى الطبيب ألت — إلى أن أتيقن منها.»

ردَّ سكارث: «يمكنك أن تأتمنني عليها أيها الطبيب. ليست لديَّ أدنى فكرة عما ستقوله، لكن سأبقي حديثنا سرًّا.»

قال دولار: «إذن سأأتمنك إلى حدِّ مناقضة ما قلتُه للتو. أنا متأكد — وهذا بيني وبينك — أن الوصفة الطبية التي بحوزتي الآن نسخةٌ مزورة بإتقان!»

مدَّ سكارث يدَه ليأخذ الوصفة من الطبيب. لو كان التصريح أكثرَ عفوية لربما أثار دهشته أكثرَ مما فعل؛ ومع ذلك بدت على وجهه أمارات عدم التصديق بوضوح وعاين الطبيب بفتور.

سأل السيد سكارث: «ما هو الدافع وراء تزويرها، أيها الطبيب دولار؟»

أجاب الطبيب: «لن أدعيَ معرفة الجواب. أنا أذكر الحقائق فحسب — في سرية تامة. أنت الآن تنظر إلى عملية تزوير سافرة.»

رفع سكارث رأسه ورمقه بعينين متألقتين. وقال: «لقد رأيته بأمِّ عيني، وهو يكتبها يا طبيبي العزيز!»

سأل دولار: «هل أنت متأكد مما تقوله؟»

قال السيد سكارث: «بالطبع، أيها الطبيب! هذا الصبي، جاك لافريك، صعبُ المراس؛ ودون طبيب يقذف الرعب في قلبه من حين لآخر، ما كنت لأستطيع التعامل معه. لقد يئست عائلته من إصلاحه، لكن هذا شأنٌ آخر. ما كنت أود قوله فقط هو أنني أخذته إلى الطبيب ألت بنفسي، وهذه هي الوصفة الطبية التي رفض الصيدلي تركيبها. ربما يُكِنُّ شِكل الكراهيةَ للطبيب ألت، كما ألمحتَ، لكنه إن كان مزورًا، فلا يسعني القول إلا أن المظاهر لا تدُل على ذلك.»

قال طبيب الجريمة: «الدليل الوحيد الذي أعتمد عليه هو هذه الوصفة القابعة في يدك.»

قال السيد سكارث: «لكنها مكتوبة على ورق الطبيب ألت.»

ردَّ الطبيب: «بوسع أي شخص الوصولُ إلى أوراقه.»

سأل السيد سكارث: «ولكن ألم تُلمِّح إلى وجود عداوة بين ألت وشِكل؟»

قال الطبيب بابتسامة، تبدَّدت من شفتيه، وهو يُخرج عدسةً مكبِّرة: «هذه ملاحظة أفضلُ من سابقتها يا سيد سكارث، ملاحظة أفضل كثيرًا. اسمح لي بإشعال المصباح الكهربائي القائم، وأسدِ إليَّ خدمة بفحص خط اليد بهذه العدسة؛ هي ليست قوية جدًّا، لكنها أفضلُ ما أمكنني العثور عليه في متجر التصوير الفوتوغرافي.»

قال سكارث بعد معاينة دقيقة: «إنها بالتأكيد ليست قوية بما يكفي، كي تكشف عن أي شيء مريب، لشخص غير خبير مثلي.»

قال الطبيب: «والآن انظر إلى هذه.»

أخرج وصفةً طبيةً أخرى من الجيب نفسِه. للوهلة الأولى بدت الوصفتان متطابقتين.

سأل سكارث، بمسحة سخرية خفيفة تسلَّلت إلى نبرته لأول مرة: «أهذه مزورة هي الأخرى؟»

أجاب الطبيب: «لا. إنها الوصفة الطبية الصحيحة، أعاد ألت كتابتها بناءً على طلبي، بنفس الكيفية التي هو متيقن من أنه كتبها بها في الأصل.»

قال سكارث: «فهمت الآن. هناك صفران زائدان مختلطان بالطلاسم الأخرى.»

قال الطبيب بجِدية: «شكَّل هذان الصفران الفارقَ بين الحياة والموت. لكنهما ليسا بأي حال من الأحوال الاختلافَ الوحيد هنا.»

قال سكارث: «يجب أن أقرَّ بأنني لا أرى اختلافًا آخر.» ورفع ناظريه، فيما أطرق دولار بعينيه من تحت حاجبيه الداكنين العريضين.

أجاب دولار: «الاختلاف الآخر، يا سيد سكارث، هو أن من خَطَّ الوصفة الطبية التي فيها مادة الإستركنين بوحدة الديسجرام القاتلة رسمَها بطريقة معكوسة، أجرى فيها القلم من اليمين إلى اليسار، بدلًا من كتابتها بالطريقة المعتادة.»

انتهت حملقة سكارث بابتسامة.

وقال: «هلَّا تشرح لي ذلك كلَّه مرة أخرى، أيها الطبيب دولار؟»

أجاب الطبيب: «سأشرح لك الأمر. كُتبت الوصفة الأصلية بالطريقة المعتادة — أي إن القلم كان يجري فيها بانسيابية وبلا تردُّد. لكن النسخ المزوَّرة لا تُكتب بالطريقة الاعتيادية، فضلًا عن أن القلم لا يجري فيها بانسيابية؛ بل تُكتب أفضل النسخ المزورة بطريقةٍ معكوسة أو بالأحرى، مقلوبة. جرِّب أن تنسخ كتابةً مكتوبة بخط اليد كما هي، وستجد إرادتك تتسلل عفويًّا وتفسد محاولتك؛ ثم جرِّب أن ترسمها بالمقلوب وفي الاتجاه الخطأ، كأنك ترسم كلامًا لا تفهمه، عندئذٍ لن تتحكم فيك طريقتك في رسم الحروف، لأنك لا تُشَكِّل حروفًا على الإطلاق. كلُّ ما تفعله هو أنك تنقل رسمًا من النسخة التي أمامك يا سيد سكارث.»

هتف السيد سكارث، مع ضحكة أخرى: «تعني بهذا أنني أستمد معلوماتٍ قيمةً من خبير خطوط.»

ردَّ دولار، بقليل من الفتور: «لا يوجد خبراء في هذا المجال. المسألة كلها قائمة على الملاحظة المجردة، وهي متاحة لكلِّ من له عينان يبصر بهما. لكن يتصادف أن هذه حيلة استخدمها مزور قديم؛ جرِّب هذه الطريقة بنفسك، كما فعلتُ أنا، وستندهش عندما ترى الاختلاف الكبير الذي تُحدثه.»

قال سكارث: «لا بد أن أفعل. لكن لا يمكنني أن أتصوَّر كيف لاحظتَ حدوث تلاعب في هذه الحالة.»

ردَّ دولار: «أحقًّا لا يمكنك ذلك؟ انظر إلى مقدمة الوصفة، «السيد لافريك»، وخاتمتها، «الطبيب ألت». يتوقَّع المرء أن يرى كلمة «السيد» مكتوبة بحبر ثقيل، أليس كذلك؟ وكذا كلمة «لافريك»، حسبما أظن، ثم يقِلُّ الحبر شيئًا فشيئًا حتى يمُلأ القلم بالحبر مرة أخرى. في الوصفة الصحيحة، المكتوبة بناءً على طلبي اليوم، ستجد الحال كذلك. في النسخة المزورة، كان الحال هو العكس بالضبط؛ فحرف «التاء» في كلمة «ألت» مكتوبٌ بحبر ثقيل، ثم تجد الحبر يقل شيئًا فشيئًا، حتى يُعاد ملؤه مرة أخرى في منتصف كلمة «غداء سعيد» في السطر الذي يسبقها. فالمزوِّر، بالطبع، يغمس قلمه في الحبر أكثرَ ممن يجري قلمه بانسيابية.»

انحنى سكارث في صمتٍ على العدسة المكبِّرة وتغضَّن وجهه الداكن. وفجأة دفع بمقعده إلى الوراء.

هتف برقَّة: «هذا رائع! أرى الآن كلَّ ما قلتَه. ولقد صرت مقتنعًا برأيك تمامًا، أيها الطبيب دولار. أود أن تسمح لي بإقناع ضيوف الفندق.»

قال دولار، وهو ينهض من مكانه: «ليس بعدُ، ولا حتى فيما يخص الحقائق الفعلية للمسألة. لا جدوى من أن نزيد الطِّينَ بَلَّةً، يا سيد سكارث، ولا من أن نأخذ حيلةً قذرة بجدية مفرطة. فلا يبدو أن هذا التزوير ارتُكب بغيةَ قتل الشاب لافريك.»

قال سكارث: «لم يخطر ببالي مطلقًا أنه كان بغيةَ ذلك!»

قال الطبيب: «أنت محقٌّ يا سيد سكارث. ففكرة مثل هذه لن تخطر ببالِ أحد. فمن المؤكد أن أي قاتل حاذق بما يكفي لتلفيق شيء كهذا أبرعُ من أن يضع صفرين إضافيين؛ كان سيكتفي بتغيير المليجرامات إلى سنتيجرامات، والمخاطرة باحتمال تعافي المريض. ما كان صيدلاني عاقل سيصرف الأقراص بوحدة الديسجرام. لكن محادثتنا بدأت الآن تحيد عن مناقشة الحقائق الفعلية للمسألة المطروحة، وقد وعدت الطبيبَ ألت بمقابلته في مناوبته الأخيرة. إذا أمكنني إخباره، بطريقة مبهمة، أنك على الأقل تظن أنه ربما كان ثمَّة خطأ ما، وأنه لم يرتكب الجُرم الذي نُسِب إليه، فسأذهب إلى حال سبيلي، وأنا أشعر ببعض الراحة بشأن تطفُّلي المستعصي على التعليل، والذي أؤكد لك أنني ما ارتكبته بنفس راضية.»

كان غريبًا التغيُّر الذي طرأ على شخصية سكارث في أثناء المقابلة التي صار هو نفسه متحمسًا الآن لإطالتها. خلع عن نفسه عباءةَ القائد المهيمن الذي كان قد روَّض الجمهورَ المشاغب فور ظهوره على خشبة المسرح؛ كما توقَّف منذ وقت طويل عن استخدام صوت السيد جِنجل الحاد. لكن كانت هناك إشارة أخرى واحدة فقط إلى تلك الشخصية الخالدة، في الصندوق المتداعي الذي أخرج منه حينئذٍ زجاجة ويسكي، كان قد خبأها جيدًا بعيدًا عن متناول لافريك. ولا يمكن أن يُنسَب ضَعف الإرادة إلى السيد سكارث الذي أقنع جون دولار بتوطيد تعارفهما بتجرُّع رشفة من الويسكي.

٣

وقعت الأحداثُ التالية في الساعات الأولى من الصباح في الأسبوع نفسه؛ استحوذت أكثرُ قضية معقَّدة قابلها طبيب الجريمة في حياته حتى اللحظة الراهنة على تفكيره. توخيًا للدقة، كانت هناك قضيتان، لكن إحداهما كانت وثيقة الصلة بالأخرى، بحيث كانت كلٌّ منهما تتطلب عقلًا راجحًا للنظر فيها على حدة، وإرادة قوية لعزل كل واحدة منهما في خلية عقلية منفردة تليق بها. ومع ذلك لم يكن الشاب لافريك أسهلَ القضيتين فحسب، وإنما أقربهما إلى قلب جون دولار، وأقلهما إثارة لأعصابه.

كانت قضية جاك في غاية السهولة. منذ عام كان الفتى في خيرِ حال، لا يتصرَّف بشقاوة إلا مع زلَّاجته، ولحسن حظه أفلت من طيشه ببضع غُرَز في أذنه لا أكثر. سمع دولار تفاصيلَ هذه الحادثة من الطبيب ألت، وتفاصيلَ كثيرة غيرها من مصادرَ أخرى عن حوادث جاك لافريك التالية. كانت القضية تليق بكرسي الاعتراف في عيادته في شارع ويلبك. كانت حياة جاك المهنية في جامعة أكسفورد قد انتهت نهايةً مشينة مباغتة. وخسِر رخصة قيادة المَركبات الآلية بسبب اعتياده القيادةَ الخطرة. وفي آخرِ مرة نجا بشِق الأنفس من أن يُزَج به في السِّجن بسبب حالته أثناء القيادة. ودفع أمَّه إلى أن تقول دون انفعال: «أُفَضِّل أن أراه ميتًا على أن يواصل العيش بهذه الطريقة المريعة»؛ وكانت قد قالت هذا كتابةً؛ إذ عرض سكارث على الطبيب هذا الخطاب المُوجَّه إليه منها باعتباره «أملها الأخير والوحيد» في إنقاذ جاك؛ ومع ذلك عجز سكارث نفسه عن منْع ذلك الابن الساقط من «التهرُّب من واقعه بالعجرفة والخمر» في أغلب الليالي. وحتى في الليلة السابقة، تكرَّر الأمر، في الحفلة الموسيقية التنكرية، عشيةَ السباقات التي جرَت صباح هذا اليوم! من سيكون المسئول إن قتل نفسه في أثناء التزلج على الجليد في نهاية المطاف؟

تأثَّر دولار بشدة بملابسات هذه القضية وهو يقلِّبها في عقله؛ لكنها لم تكن هي القضيةَ التي أتت به من إنجلترا، ولا السبب الذي دفعه إلى الإقامة مدةً أطولَ من المدة التي كان قد تصوَّر أن يمضيَها عندما وصلته برقيةُ ألت. وفي الواقع، لم يذكر المسكين ألت في برقيته قضيةَ جاك لافريك على الإطلاق. ومع ذلك أدركا فيما بينهما أنهما، لو كانا قد تعاونا، لأمكنهما إحداثُ فارق كبير في حياة الشاب التعِس!

آلت القضية إلى دولار من جديد، دون أن يطلب أحدٌ مساعدته، بل لم يطلب أحدٌ مساعدة أيٍّ منهما!

ومع ذلك، بعدما قلَّب الطبيب كلَّ الاحتمالات في عقله، أو مع ألت، الذي لم يتَّفق كثيرًا معه في الرأي، توصَّل إلى أن قضية لافريك كانت الأقل خطورة في القضيتين؛ فحوَّل جون دولار اهتمامه إلى القضية الأخرى، وبدأ ينخرط فيها ويوليها كلَّ تركيزه، عندما انفتح باب غرفته بعنف دون استئذان، ونادى صوتٌ مضطرب اسمه.

واصل الصوت بهمس متسارع: «هذا أنا … إيدنبورو. أريدك أن ترتديَ ملابسك وتأتي إلى المضمار الثلجي بأقصى سرعة ممكنة!»

سأل الطبيب، وهو يثِب من الفراش، فيما انهمك إيدنبورو في فتح ستائر الغرفة: «لماذا؟ ماذا حدث؟»

أجاب إيدنبورو: «لم يحدُث شيء بعدُ. آمُل ألا …»

قاطعه الطبيب: «لكنَّ شيئًا ما حدث بالفعل! ما خطْب عينك؟»

ردَّ إيدنبورو: «سأخبرك وأنتَ ترتدي ملابسك، لكن حاوِل أن تُسرع قدْر الإمكان. أنسيتَ أن سباقات التزلج ستُجرى هذا الصباح؟ ستُعقد في الساعة الثامنة بدلًا من التاسعة، بسبب الشمس، والساعة الآن الثامنة إلا عشر دقائق. ألا يمكنك أن ترتديَ سروالًا قصيرًا وكنزةً صوفيةً فوقه؟ هذا ما فعلته … ليتني جئت إليكَ أولًا. سيستدعون طبيبًا آخرَ إن لم نسرع بالذهاب إليهم!»

قال دولار بعد أن ارتدى جوْرَبه الطويل: «آمُل أن تحكيَ لي عما حدث لعينك.»

ردَّ إيدنبورو، وهو يمضي إلى المرآة: «عيني على ما يرام. لا، يا إلهي، إنها متورمة أكثرُ مما ظننت، كما أن رأسي يئز مثل مِرجَل. لم يخطر ببالي أن بوسع لافريك أن يوجِّه هذه اللكمات القوية … ثملًا … أو … غير ثمل.»

هتف دولار فيما يرفع بصرَه عن رباط حذائه: «أتقصد ذلك المجنون؟ ألم يذهب إلى فراشه مبكرًا على غير عادته؟»

قال إيدنبورو بتجهُّم: «استيقظ مبكرًا، على أي حال؛ لكن سأحكي لك القصة كاملة، ونحن نصعد إلى المضمار الثلجي، لا أكترث كثيرًا لأن يسمع أحدٌ حديثي. فقد تبيَّن أنه شخص أرعنُ أكثر مما ظننا. لقد أمسكت به وهو يعبث بالزلاجات في الساعة الخامسة صباحًا!»

سأل دولار: «بأي زلاجات؟»

أجاب إيدنبورو: «بواحدة من الزلاجات التي يضعونها في المستودع، تحت نافذتنا مباشرة، في الجزء الخلفي من الفندق. كنت مستلقيًا في فراشي، عندما سمعت صوتًا. كان يشبه صوتَ بَرْدٍ، كأن شخصًا يحاول اقتحامَ مكانٍ ما. نهضت من الفراش، ونظرت من النافذة، وظننت أني رأيت ضوءًا. كانت لوسي تغطُّ في نوم عميق؛ ولم تستيقظ بعدُ بالمناسبة، ولا تعرف شيئًا عما حدث.»

قال الطبيب: «أنا جاهز. أكمِل كلامك عندما نخرج.»

كان صباحًا قاتمًا، بلا أي أثرٍ للشمس في الوادي، وبلا سطوع أو ظل ظليل فوق الغابة المتشابكة أو الصخور الناتئة. وفي مكانٍ ما خلف هذه القمم الوعرة لا بد أن الشمس قد أشرقت، لكن لم تحمل أيُّ واجهةٍ ثلجية أنباءَ ظهورها إلى وينتروالد بعدُ، ولم يكن من الممكن تمييزُ القمم الشاحبة من السماء للتشابه بينهما، وإن كانت الأخيرة أقلَّ بياضًا منها نوعًا ما.

لم يمثِّل شارع القرية أيَّ صعوبة لإيدنبورو الذي كان يلبَس حذاءً يقي القدَم من البرد الشديد ولا للطبيب الذي كان يلبَس حذاءً رياضيًّا ذا مسامير؛ لكن كان هناك أناس آخرون في الشارع، وكانت الأصوات تنتقل في الطقس البارد على الثلوج الصامتة. لم تكن المسامير كافيةً للسير في الدرب المتجمِّد بين الحقول الثلجية القابعة فيما وراء القرية، وتعثَّر دولار المبتدئ الذي كان قد اعتمد على المسامير وانزلق على الثلج، فيما زادت خبرةُ إيدنبورو في التزلُّج من سرعته.

قال إيدنبورو: «لقد كان هو بلا شك — جرِّب السيرَ على شفرة الحذاء، أيها الطبيب، فهي أقلُّ زلاقة. كان الشابُّ الفظ يرتدي عباءته التنكُّرية كأنه لم يأوِ إلى فراشه على الإطلاق، فيما كنتُ أرتدي منامتي، والنُّعاس يداعب عيني. كنا سنبدو ثنائيين مضحكين، اعتمد على ذراعي أيها الطبيب.»

قال دولار: «أشكرك يا جورج.»

واصل إيدنبورو: «لكن مصباحه الكهربائي كان هو الضوءَ الوحيد الذي يخترق الظلام. لم يحاول إطفاءه. وهمس: «أنا أضبط زلاجتي فحسب. تعالَ وألقِ نظرة.» لم أفعل، ولا أعتقد أنها كانت زلاجته؛ ربما كانت زلاجة الكابتن سترونج، أخطرِ منافسٍ له على الإطلاق؛ ولكن، كما قلت لك، كنت قد مضيت من فوري لأتفقَّد ما يفعله، عندما ضربني ذلك الشاب المتوحش ضربةً مباشرةً في وجهي، بلا سابق إنذار. ترنَّحت وسقطت أرضًا كالثور، لكن أظن أن مؤخرةَ رأسي ارتطمت بشيءٍ ما. وعندما فتحت العين السليمة المتبقية وجدت أن النهار قد طلَع.»

سأل الطبيب: «هل احتجزك؟»

أجاب إيدنبورو: «لا؛ كان في عجلةٍ من أمره؛ لكنني ببساطة لم أستطِع التحرُّك حتى سمعت أصواتًا تقترب، عندئذٍ زحفت خلف كومة من مقاعد الحديقة وما شابه. تبيَّن أنه سترونج بصحبةِ شخصٍ آخر؛ وقد أخذا يسُبَّان ويلعنان عندما وجدا المكان كلَّه مفتوحًا! كدت أخبرهما بمكاني، وأقص عليهما ما رأيت، لكن عدلت عن ذلك وأردت أن أخبرك أولًا.»

قال دولار: «حسنًا فعلتَ يا جورج.»

قال جورج إيدنبورو ببساطة: «أدرك اهتمامك بهذا الشاب؛ كما أنني ظننت أنه لن يحل أحدٌ غيرك هذه القضية. لكنني أبقيت نفسي حبيسًا في ذلك المكان إلى أن أُخرجَت آخر زلاجة من المستودع، وكلُّ ما آمله ألا يكون الأوان قد فات!»

تنفَّس جورج الصُّعداء عندما كشف منعطفٌ في المنحدر اللامع عن قمة المضمار الثلجي، ومجموعة من الرجال في كنزات صوفية بارزة شخوصهم أمام أشجار التنُّوب التي تغطي قمَّة المنحدر. بدا أن مجموعة الرجال تقف ساكنة جدًّا. ورفع بعضهم مرافقَهم المغطاة بطبقةٍ مبطَّنة ليقوا أعينهم من أشعة الشمس. لكن لم يكن هناك ما يدل على انطلاق أي زلاجة، كما لم يصدر أيُّ صوت من الفجوة المخفية للمسار الثلجي. والآن بدأ رجلٌ تلو الآخر ينفصل عن المجموعة، ويقفز على المسار الثلجي الفرعي، المخصَّص للصعود فحسب.

لكن لم يرَ جون دولار ولا جورج إيدنبورو أيًّا من هذا. إذ كان قد ظهر فجأةً في طريقهما شخصٌ متجهِّم الوجه، تبيَّن أنه موستن سكارث، وراح يستدعيهما بإشاراتٍ بذراعيه وهو في غاية الاضطراب.

صرخ عبْر المنحدر الثلجي: «إنه جاك! لقد تعرَّض لاصطدامٍ عنيف — في جسده وزلاجته — بسبب خللٍ في أحد نِعال الزلاجة. أخشى أنه قد أُصيب بكسرٍ في ساقه.»

هتف دولار: «ساقه فقط!»، ولكن دون أي قدْر من الارتياح في صوته. جعلت نبرة صوته إيدنبورو الذي كان يسير خلفه يجفل، وجعلت سكارث، الذي كان يسير أمامهما، يستدير كي ينظر إليه. بدا وكأن طبيب الجريمة ارتأى أن في موت جاك لافريك خيرًا للجميع.

كان لافريك مستلقيًا على حمَّالة من معاطفَ ثقيلة، تجمهر حشدٌ من الرجال حولها، ثم تفرَّقوا من تلقاء أنفسهم قبل وصول أول طبيب إلى موقع الحادثة. لم يكن لافريك فاقدًا الوعي، ولم تصدر عنه آهة أو أنين؛ لكن انكشفت شفتاه الشاحبتان عن أسنانه المطبقة، وبدت ساقه اليسرى في وضعيةٍ غريبة، كأنها لا تنتمي إلى جسده، مثلها في ذلك مثل السروال القصير والجورب اللذين كانا يغلِّفانها.

قال الفتى بصعوبة شديدة، فيما انحنى الطبيب دولار على الثلج: «أخشى أن ساقي تحطَّمت أيها الطبيب. تؤلمني؟ قليلًا، لكن يمكنني تحمُّل الألم.»

كانت الشجاعة هي السِّمة الوحيدة التي لم يفقدها الفتى أثناء العام الماضي؛ إذ كان قد أظهر شجاعة لا يمكن أن يدانيَه فيها أحد في أثناء المسيرة البطيئة والمؤلمة تجاه القرية، وهو مستلقٍ على زلاجة جماعية، يحملها أربعة رجال يسيرون بتعثُّر وسط الجليد؛ وأخذ الجميع يتهامسون تعجبًا من جلَده. فعل الجميع ذلك، باستثناء طبيب الجريمة، الذي قاد الموكبَ الصغير بوجهٍ يتماشى مع نبرة صوته القاسية التي جعلت إيدنبورو يجفُل ودفعت سكارث إلى النظر خلفه.

نسي الطبيب دولار قضيةَ الليلة المعقَّدة، وهذه القضية الملحَّة، فيما تذكَّر قضيته الشخصية التي كانت قد مضت عليها أعوام كثيرة. وجد نفسه يعود إلى وينتروالد الماضية، في عالَم يختلف عن هذا العالم. لم تكن وينتروالد الماضية أرضًا تنمو فيها أشجار عيد الميلاد المنبثقة من الجبال المطِلة على الأرض الثلجية؛ وذاب الثلج أمام عين خياله؛ وكان الطبيب متواريًا في الظلال في شارعٍ تتراصُّ فيه منازل لُعبة أسلمت مادتها الصمغية لشمس فصل الخريف، بين منحدرات خضراء تتخلَّلها أشجار صَنوبر داكنة، تحت سماء شديدة الزُّرقة. وكان مستسلمًا لليأس؛ لم يكن بمقدور أيٍّ من القاطنين في شارع هارلي جميعهم أن يفعل شيئًا من أجله ولو كان بمقدورهم ما كانوا سيفعلون. آنذاك … آنذاك … دفعه ألمٌ أو وجعٌ منسيٌّ إلى الذهاب إلى رجلٍ مغمور، رجل عظيم، في نفس ذلك المنعطف ناحية اليسار، في منزلٍ خشبي صغير، قابع في بقعة منزوية خلف المتاجر.

تذكَّر كلَّ المعالم البارزة بدقة شديدة؛ درابزين المنحدر، وشُرفة الكوخ الصغيرة، والدَّرَج غير المغطَّى، والسلَّم الذي يفصله بين الموت والحياة، وغرفة العمليات الخالية من أي زخرف بأدواتها الموضوعة في مكانٍ بارز واضحة للعيان! والآن في نهاية المطاف كان هناك، في قضيةٍ أخرى تشبه قضيته؛ القضية الثانوية التي تحرَّق شوقًا لإحضارها إلى هناك، وها هو ذا الطبيب ألت يقف لاستقبالهما بمعطفه الأبيض، وبنفس الملامح البسيطة مثلما كان في السابق!

ربما كان الرجال سيأخذونه إلى الفندق، حيث لا بد وأن سكارث ألحَّ في ذلك بشدة؛ لكن الفتى رفض أن ينقله الرجالُ ياردةً واحدة أخرى؛ مع أنه كان فيما عدا ذلك مثالًا في الشجاعة حتى النهاية.

هتف بوهن: «كلوروفورم؟ ألا يمكن إعادةُ تثبيت ساقي اللعينة من دون كلوروفورم؟ لن تبتروها، أليس كذلك؟ يمكنني تحمُّل أي شيء إلا ذلك.»

انسحب الطبيبان من أجل المزيد من النظر في مسألةٍ يتعارض رأيهما فيها.

قال دولار بنبرةٍ تشجيعية حارة: «إنها فرصة حياتنا، وفرصته الوحيدة. ليست عملية خطيرة، وسأتحمَّل المسئولية وحدي.»

قال الطبيب الآخر بنبرة معترضة: «لكني لست متأكدًا من صحةِ ما توصلتَ إليه. فلم يُصَب الفتى بارتجاج في المخ، العام الماضي. لم تتأذَّ سوى أذنه فحسب.»

ردَّ الطبيب دولار: «لا يزال هناك ورمٌ خلفها. ويعود تاريخ كل شيء إلى تلك الحادثة؛ هناك ضغط، في مكانٍ ما، جعل منه رجلًا آخر. حالته أبسطُ بكثير من حالتي، وقد نجحتَ في أن تشفيني. لو رأيت كيف تحدَّثت أمُّه عنه، يا ألت، لما ترددتَ على الإطلاق في إجراء العملية!»

قال الطبيب ألت: «من الأفضل أن نحصُل على موافقتها.»

ردَّ الطبيب دولار: «لا، لا حاجة لموافقةِ أي أحد؛ حتى الفتى نفسه لا داعيَ لإخباره مطلقًا. هناك عروس شابة ستتولى رعايته كالملاك الحارس، وستلتزم الصمتَ إلى يوم الدينونة. يمكن أن تؤتمن هي وزوجها على هذا السر، لكن لا أحدَ سواهما!»

وعندما استفاق جاك لافريك من الكلوروفورم، ليتحسَّس الوخز البارد، تحت الكومةِ المكوَّنة من أغطيةِ الفراش التي آوت بين طياتها ساقَه المكسورة، كان الألم أقلَّ صعوبةً مما توقَّعه. لكنه كان ألمًا عميقًا فاترًا في رأسه، دفعه إلى الشكوى لأول مرة، لأنه شيء لم يتوقَّع حدوثه.

سأل وهو يتحسَّس العمامة المستقرة على الوسادة: «ما السبب في لفِّ رأسي كلِّه بالشاش؟»

أجابت لوسي إيدنبورو بجدية: «ألم تعلم أنك أُصِبتَ بكسر في رأسك أيضًا؟ أظن أن ساقك كانت تؤلمك بشدة أكبرَ فلم تلحظ إصابة رأسك!»

٤

بعد مرور عشرة أيام، زار موستن سكارث عيادةَ الطبيب ألت، واستأذن في الدخول على جاك. كان قد تصرَّف برقيٍّ بالغ في المسألة بكل تفاصيلها؛ ولو كان شخصٌ غيره في مكانه لأحدثَ ضجةً كبيرة. لكن كان معلومًا أن إصاباتِ جاك لم تكن محصورةً في ساقه المكسورة، وكان مجرَّد موضع الضرر الإضافي كافيًا لرجلٍ عقلاني ليفهم خطورةَ الموقف. والقوي بحقٍّ لا يحب استعراضَ قوَّته. لم يتقبَّل سكارث الموقفَ فحسب، بل أخذ على عاتقه مسئوليةَ التواصل مع أم لافريك لضمانِ بقائها في النصف الآخر من أوروبا طوال الفترة الحرجة. وكان قد اشترط فقط أن يكون أوَّل من يرى المريضَ المتماثل للشفاء، وتقبَّل الأمرَ بنفسٍ راضية كعادته عندما رفض الطبيب دولار طلبه مجددًا.

قال دولار: «ليس هذا خطأنا هذه المرة يا سيد سكارث. يجب أن تلوم النساءَ اللائي يحظين بامتيازِ أن يغيِّرن آراءهن كما يحلو لهن. لقد وصلت أمُّ السيد لافريك بلا سابق إنذار. وهي الآن مع ابنها، وسيسرُّك كثيرًا أن تعلم أنها ترى أنه قد تغيَّر تمامًا أو بالأحرى عاد إلى طبيعته السابقة قبل زيارته لوينتروالد في العام الماضي. دعني أقول لك إن هذا تقريبًا هو انطباع المريض عن نفسه.»

هتف سكارث الذي بدا في هذه اللحظةِ مذهولًا نوعًا ما: «أنا سعيد! بل إنني في غاية السعادة؛ تغمرُني فرحةٌ عارمة! لا أبالي الآن إن رأيتُ جاك أم لا. هل تمانع في أن تعطيَه هذه المجلات والأوراق، مع خالص حبي؟ أشكر الرب أن التبعةَ الملقاة على كاهلي قد أُزيلت.»

ردَّ طبيب الجريمة: «وأنا أيضًا. سأعود إلى عملي في لندن، وضميري بحالةٍ أفضلَ مما كان عندما غادرتها، كما أشعر بالإنجاز وأنني أصلحتُ ما كان بحاجة إلى الإصلاح.»

ابتسم دولار لسكارث، عبْر الطاولة المتواضعة القابلة للطي، التي قبعَت فوقها الأعمالُ الأدبية المُهداة والمغلَّفة بأوراق تغليف زاهية باللونين الأصفر والأخضر؛ نظر سكارث إليه بلا ذرةِ استياء، بل التمعت عيناه الداكنتان ردًّا عليه.

قال السيد سكارث: «ألت يشعر بالنشوة … استعاد سمعتَه الحسنة … استعاد جاك شخصيته … وكأنه وُلِد من جديد … نُسي أمر المزوِّر … ألا يزال يباشر تزويره؟»

نطق السيد سكارث هذه الكلمات محاكيًا أسلوبَ السيد جِنجل بطريقةٍ ممتازة؛ كان، في الحقيقة، تقليدًا ساخرًا عفويًّا قاسيًا لأدائه التمثيلي ليلةَ وصول دولار إلى وينتروالد. لكن استمتع ذلك الناقد، الذي تتآلف روحه معه، بهذه النبرة التهكمية الأخرى، التي لم يسَعه إلا أن يأخذها على محملٍ شخصي.

قال دولار: «لم أنسَ أحدًا يا سيد سكارث.»

سأل سكارث: «إذن هل اكتشفت هوية المزوِّر؟»

أجاب دولار: «كنت أعرفها طوال الوقت.»

سأل سكارث: «هل واجهته بجرمه؟»

أجاب دولار: «منذ أيام!»

بدا سكارث مصدومًا. سأل: «وماذا حدث له، أيها الطبيب؟»

أجاب الطبيب: «لا أعلم.» وهزَّ كتفيه بطريقته الفريدة. وأردف: «فالأمر لا يدخل في دائرة اختصاصي؛ وإن جاز القول، فقد باشرتُ كلَّ عمل التحري، الذي أكرهه.»

هتف: «أتذكَّر ذلك. لن أنسى الطريقة التي عاينتَ بها الوصفةَ الطبية، كأنك كنت تشاهد المزوِّر وهو ينفِّذ جريمته! لستَ خبيرًا، أيها المتواضع، كفاك تظاهرًا!»

ضحك دولار مرةً أخرى من الطريقة التي هزَّ بها السيد جِنجل رأسه، على الرغم من النبرة اللاذعة الطفيفة التي لاحت في كلامه كما في السابق.

أجاب دولار: «كان ذلك أسهلَ جزء في القضية، وإن كنت تجعلني أشعر بالإحراج وأنا أقول هذا. كان الجزء الصعب هو ذلك الذي يسميه النقاد الروائيون ﺑ «الدافع».»

قال سكارث: «لكنك وجدت الدافعَ في كراهية شِكل للطبيب ألت.»

ردَّ دولار: «لم يكن قويًّا بما يكفي ليرضيني.»

سأل سكارث: «إذن ماذا كان الدافع، أيها الطبيب؟»

قال دولار: «قتْل الشاب لافريك.»

هتف سكارث: «هذا هراء!»

أجاب دولار: «ليته كان ذلك يا سيد سكارث.»

سأل سكارث: «لكن من في وينتروالد الذي يريد تنفيذَ هذه المكيدة؟»

أجاب دولار: «حسبما أفهم، كان يوجد أكثرُ من ألفي زائر في عيد الميلاد.»

لكنها لم تكن إجابةً كافية لموستن سكارث. فقد بدت على وجهه أماراتُ عدم التصديق بشكلٍ فظ، فضلًا عن شعوره بالصدمة، والغضب أكثر مما كان يبدو عليه. لكن الفكرة بأكملها كانت تُلقي بظلِّها على رعايته للشاب التعِس. وهذا ما أفصح عنه بكلمات، كانت تشبه أسلوبَ السيد جِنجل، في إيجازها وحِدَّتها واقتضابها.

هتف سكارث: «حدِّثني عن «الدافع»! … أشكرك، أيها الطبيب، على التعرض لهذا الأمر، لكن سيزيد شعوري بالامتنان إن أشرتَ إلى الدافع في فرضيتك. ويا لها من طريقةٍ لقتل إنسان! يا لها من طريقة خطيرة ملتوية!»

علَّق الطبيب: «كانت عملية تزوير متقنة حتى إنَّ ألت نفسَه وجد صعوبةً في تصديق أن الوصفة الطبية مزورة.»

همس سكارث فجأة، فيما انحنى للأمام وتألَّقت عيناه: «أهو الرجل الذي حددتَ هويته؟»

ابتسم طبيب الجريمة بشكلٍ غامض. وقال: «ربما يكون من حسن حظِّه، يا سكارث، أنه على الأقل لم يكن من الممكن أن تكون له أيُّ صلة بالمحاولة الثانية لقتل مريضه.»

سأل سكارث: «عن أيِّ محاولةٍ ثانية تتحدَّث؟»

أجاب: «اليد التي زوَّرت الوصفةَ الطبية يا سكارث، بنيَّةِ تسميم الشاب لافريك، هي نفس اليد التي عبثت بالزلاجة على أملِ كسر عنقه.»

هتف موستن سكارث، وهو يهزُّ رأسه بألم: «ما تقوله أيها الطبيب العزيز هو جنون محض!»

ردَّ دولار بجدية: «ليتني يمكنني وصفُ المجرم بالجنون. لكنه ماهر بشدة؛ حتى إنه أجرى عملية البرد بطريقةٍ عبقرية — لو كان فاعلها لصًّا ما زاد عليه شيئًا — بينما يرتدي عباءةَ جاك لافريك التنكرية التي كان قد خلعها قبل ذلك بفترةٍ وجيزة!»

سأل: «كيف علِمت أن جاك كان قد خلع عباءته؟ كيف علِمت أن هذا العمل لم يكن من حيَل جاك التي كان ينفِّذها في أثناء سُكْره؟»

سأل الطبيب: «عن أي عمل تتحدَّث؟»

أجاب سكارث بنفادِ صبرٍ: «العمل الذي ذكرته؛ محاولة العبث المزعومة بزلاجته.»

قال دولار: «أوه! حسِبت أنك تقصد أمرًا آخرَ.» ثم توقَّف برهة. وأضاف: «ألا تشعر بأن الجو حارٌّ هنا، يا سكارث؟»

وافقه الزائر على ذلك، وكأنما كان دولار هو صاحب المنزل، ومنعه حُسن الأدب من أن يتبرع بهذه الملاحظة: «بلى! هذه السخونة بسبب الموقِد كما أن النافذة المغلقة زادت من حرارة الغرفة. أشكرك كثيرًا على هذه الملاحظة أيها الطبيب!»

ثم مسح بعنايةٍ وجهَه الحليق، ذا اللون الداكن، والملامح البارزة؛ كان وجهه من النوع الذي يحتاج إلى حلاقته أكثرَ من مرة يوميًّا، إلا أنه بدا لامعًا دائمًا بسبب شفرة الحلاقة؛ وقد لمَّعه من جديد بمنديل حريري يمكن أن ينفذ من سَمِّ الخياط من شدة نعومته ودقةِ سُمكه.

استطرد، متقبلًا على سبيل الجدل فكرةَ وجودِ مجرمٍ أثيم: «وماذا تفعل حيال ذلك … الوحش؟»

أجاب دولار: «لا شيء يا سكارث.»

هتف سكارث: «لا شيء؟ ألن تفعل شيئًا على الإطلاق؟»

كان سكارث قد جَفَل، للمرة الأولى؛ لكنه جَفَل واقفًا على قدميه، وهو يتفوَّه بهذه الكلمات، كأنه يشعر باشمئزازٍ طاغٍ.

أجاب طبيب الجريمة الذي نهض واقفًا بدوره: «لن أفعل شيئًا ما دام خارج إنجلترا. ولكني أتساءل هل هو متعقِّل بما يكفي لأن يفعل ذلك؟»

التقت أعينهما دون أن تطرِف، وتفحَّص أحدهما الآخرَ طويلًا.

قال سكارث بتأنٍّ: «ما أتساءل عنه هو أكان هذا الوحش موجودًا في الواقعِ أم في خيالك، أيها الطبيب دولار؟»

أعلن الطبيب: «أوه! إنه موجود بالتأكيد. لكنني أستخدم قرينةَ الشك وأفترض أنه مجنون، على الرغم من طريقته ودافعه.»

سأل سكارث ساخرًا: «هل أخبرك بدافعه؟»

أجاب دولار: «لا؛ لكنَّ جاك أخبرني. يبدو أنه كان واقعًا تحت سيطرة ذلك الرجل — تحت تأثيره — لدرجةٍ غيرِ عادية. لقد بلغ به الأمر أنه ترك له مبلغًا كبيرًا من المال في وصيةٍ كتبها عندما بلغ سنَّ الرشد. ولست بحاجة لأن أخبرك أنه كتب الآن وصيةً أخرى، وأبطل …»

هتف موستن سكارث بعد أن فقدَ صوابه في نهاية المطاف: «لا، لستَ بحاجة لأن تفعل! كفاني ما سمعته عن أوهامك ووحوشك الخيالية. أتمنى لك صباحًا سعيدًا ومستمعين أكثرَ سذاجةً المرة القادمة.»

ردَّ الطبيب وهو عند الباب: «ذلك أمرٌ يمكنني أن أُعَوِّل عليه. يسهُل إقناعهم بأي شيء … في سكوتلاند يارد!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤