الفصل السادس

الممسوس

كان الفريق نيفيل دايسون، المهندس الملكي، الحائز ميدالية صليب فيكتوريا، أولَ شخص رفيع الشأن يأتي لاستشارة طبيب الجريمة عن طريق حجز موعد اعتيادي في مواعيد العمل. فضلًا عن مآثره العسكرية التي جلبت له أعلى الأوسمة التي تشرئبُّ إليها الأعناق، شغل الفريق ذو الجسد الضخم، بصدره العريض وقامته المنتصبة وفحولته البادية في كل شعرة فضية من رأسه الأشيب المرفوع، تلك العيادةَ الصغيرة في شارع ويلبك، فصغر الأثاث العتيق، مقارنةً بحجمه، مثلما لم يحدُث مع أحدٍ من قبل. لكنَّ صوته كان رقيقًا، بل مرتعشًا، يُنذر على نحوٍ مثيرٍ للشفقة بقلب منفطر يتوارى خلفَ كلِّ هذه المظاهر.

استهلَّ كلامه على الفور، قائلًا: «لقد قدِمتُ إليك، أيها الطبيب دولار، كي أستشيرك بشأن أكثر سرٍّ مأساوي يمكن أن يخفيَه إنسان في طيات صدره. ولولا أنني أعلم قداسة خصوصية المريض عند جميع الأطباء — النفسيين منهم على وجه التحديد — لأرديت نفسي صريعًا لتفوهي بالكلام الذي يتعيَّن عليَّ الإفصاحُ عنه، ألا توافقني الرأي فيما أقول؟»

ردَّ دولار بلطف: «آمُل أن نكون جميعنا متفقين على المبدأ نفسه فيما يتعلَّق بسِرِّية المريض.» كان قد اعتاد سماعَ هذه المقدمات الحزينة من مرضاه.

هتف الفريقُ وهو يرفع منديله إلى جبهته النضرةِ وملامحه الوسيمة بشكلٍ لافت للنظر، كأنه يمسح حُمرةَ وجهه المفعم بالحيوية: «لا يصح أن أفضيَ إليك بهذا السرِّ؛ لكنه لا يتعلَّق بي تقريبًا؛ لذا ينتابني شعورٌ بأنني وغدٌ جبان! مريضتك، كما آمُل بكل صدق، هي زوجتي المسكينة، التي يتراءى لي حقًّا أنها تكاد تفقد عقلَها»، وخانه صوتُه فلم يستطِع إكمالَ الجملة.

قال دولار: «ربما يمكننا أن نردَّه إليها»، مزدريًا التفاؤلَ المهني الوقِح الذي يُلحَظ في ردودٍ تُقال بتسرُّع في تلك المواقفِ من قبيل «في كثيرٍ من الحالات يضل عقل المرء ولا يُجَنُّ حقًّا.»

وتغلَّب الثاني أخيرًا على آخرِ ما كان لديه من إحجام. برفقٍ وجَّه إليه الطبيب بضعة أسئلة مهمة، وردَّ هو عليها ببساطة، مسترسلًا ببراعة في حديثه، الذي لم يزِد انقطاعٌ عارضٌ فيه حسَّه المرهفَ إلا فضلًا.

أعلن الفريق بنبرةٍ تأكيدية: «لا. ينبغي أن أقول إن هذا المرض لم يظهر على زوجتي إلا في الأشهر القليلة الماضية. لم تكن تعاني أيَّ شيء من هذا القبيل في العشرين سنة تقريبًا التي أمضيناها في الهند، ولا في السنة الأولى بعد تقاعدي. كل هذا البلاء … هذا البلاء حلَّ عندما اشتريت منزلي في قريةِ أشجارِ الصَّنوبر. إنها تُسمى «فالسوجانا»، كما ترى في بطاقتي؛ لكن لم يحدُث هذا قبل أن نذهب إلى هذا المكان. أطلقنا عليها هذا الاسم؛ لأنها ذَكَّرَتنا بمقاطعة تيرول النمساوية، التي تشبهها شبهًا يفوق الوصف، والتي … حسنًا، كان لنا فيها الكثير من الذكريات السعيدة أيها الطبيب دولار.»

جفَلَت عيناه الزرقاوان، وهما تتطلعان عبْر النافذة الفرنسية المفتوحة، إلى الحافة المجاورة من الطوب والمِلاط، ومنها إلى الأسطح الناتئة للمنازل الأخرى، التي خفَّفَ الضباب الخفيف، المُنذر بجوٍّ حارٍّ، من بروزها قليلًا. بذل الرجل جهدًا مضنيًا كي يعيدَ عينيه إلى غرفة الاستشارات الصغيرة المظلمة نسبيًّا، بألواحها القديمة الباردة من السنديان، ونباتات السرخس الصيفية التي اختفى موقد المدفأة خلفها.

تابع الفريق كلامَه: «لطفٌ منك أنك سمحت لي أن أتمهَّل في حديثي، أيها الطبيب، لكن لا يمكنني إهدارُ وقتك الثمين أكثرَ من هذا. ما قصدته هو أن أعطيَك فكرةً عن الأجواء التي نعيش فيها؛ لأنني أعلم أنها تُؤخذ في الاعتبار في مثلِ هذه الحالات. نحن نعيش بين أشجار البلوط والتنُّوب. بعض الناس تصيبهم الأشجار بالاكتئاب، لكن بعد ما شهدناه في الهند، كانت الأشجار هي بالضبط ما أردناه، وحتى هذه اللحظة لا تسمح لي زوجتي بقطع شجرة واحدة منها. لكن الاكتئاب ليس التوصيف الصحيح لحالة زوجتي العقلية؛ فما تشعر به أقربُ إلى الملنخوليا، وفي الآونة الأخيرة صارت عُرضة ﻟ… لهلاوسَ … هلاوسَ تؤثِّر على شخصيتها وأفعالها بكاملها بطريقة مقلقة للغاية. نواجه صعوبةً، لأول مرة في حياتنا، في الإبقاء على الخدَم؛ حتى إن ابن أختها، الذي قدِم للعيش معنا، يتحمَّل من أجلي فحسب، يا له من فتًى مسكين! وفيما يخصُّ التحكُّم في انفعالاتي … حسنًا، حمدًا للرب، كنت أحسب أنني لا أملِك أدنى قدْر من التحكم في انفعالاتي أثناء خدمتي بالجيش؛ لكني أجد بعض الصعوبة في تقبُّل أن نكون … أن نكون في حالتنا هذه … في تلك المرحلة من حياتنا!» تورَّد وجهه بشدة. وأضاف: «ما هذا الذي أقوله؟ الأمر أصعبُ عليها بآلاف المرات! كانت تتطلع إلى هذه الأيام منذ سنوات.»

أراد دولار أن يعتصرَ إحدى هاتين اليدين المضطربتين البنِّيتين العظيمتين. سأله عن طبيعة هذه الهلاوس.

هتف الفريق: «أنا على استعدادٍ لأن أدفع عشر سنين من عمري عن طِيب خاطرٍ مقابل أن يكون بوسعي إخبارك عن طبيعتها!»

قال الطبيب: «أيمكنك أن تخبرَني بالشكل الذي تتخذه هذه الهلاوس؟»

قال الفريق مغمغمًا: «لا مناصَ من ذلك، بالتأكيد؛ فهذا سببُ قدومي إلى هنا على أي حال.» رفع رأسه وصوته في آنٍ واحد. وتابع: «حسنًا، أولًا، اقتنت كلب بُلدوج مفترسًا ومسدسًا.»

لم يختلج الطبيب أدنى اختلاجة. وقال: «أظن أن وجود الكلاب ضروريٌّ في القرى، خاصةً في حالة عدم وجود أطفال. وإن كان لا بد لك من اقتناء كلب، فالبُلدوج أفضل خِيار. هل يوجد أيُّ سبب يدعو إلى اقتناء مسدَّس؟ بعض الأشخاص ينظرون إلى الأمر على أنه ضرورة من ضروريات العيش في القرى.»

قال الفريق: «هذا لا ينطبِق على حالتنا … فضلًا عن أنها تحمِله معها.»

سأل الطبيب: «أليست هذه عادةَ النساء في الهند؟»

قال: «لم تحمِله في الهند قط. والآن …»

قال الطبيب: «والآن ماذا، أيها الفريق؟ أتحمِله معها دائمًا؟»

أجاب: «ليلَ نهار، في سوارِ سلسلةٍ حول رُسغها!»

هذه المرة لم تكن توجد أيُّ تبريرات مهنية. قال بشفقة متحفِّظة: «لا عجبَ في أنكما واجهتما مشكلات مع الخدم.»

تابع الفريق: «قد لا تستطيع رؤيته، أيها الطبيب، عندما تأتي إلى منزلنا، وهو ما أرجوك من كل قلبي أن تقبله. ولأجل هذا الغرض، حصلت على قَصَّةٍ معيَّنة لأكمامها، وهو أصغر مسدَّس يمكن أن يشتريَه المرء. لكني أعلم أنه معها دائمًا … وهو مذخَّر بصفة مستمرة.»

أخذ دولار يعبث قليلًا بمسطرةٍ من الفولاذ غريبة الشكل بسيطة التصميم، لم تكن تتلاءم مع ممتلكاته الأخرى، وإن كان لها هي الأخرى ماضٍ يخصُّها. كانت المسطرة في وضعٍ عمودي قبل أن يدعَها تسقط ويرفع ناظريه.

قال: «لا بد أن هناك سببًا أو أساسًا لهذه الهلوسات أيها الفريق دايسون. هل وقعت أيُّ حادثة مفزِعة منذ استقراركما في … «فالسوجانا»؟»

أجاب: «لم يحدُث شيء يمكن للأسلحة النارية أن تحولَ دون وقوعه.»

سأل الطبيب: «أيمكنك أن تخبرَني بما حدث؟»

قال: «وقعت حادثةٌ مأساوية في فصل الشتاء؛ حادثة انتحار في المكان الذي نقطن فيه.»

هتف الطبيب: «فهمت!»

واصل الفريق: «شنقَ البستانيُّ الخاصُّ بها نفسَه. وأقول «الخاصُّ بها» لأن الحديقة مسئولية زوجتي. وتقع على عاتقي فقط مسئولية دفْع راتب العامل المسكين.»

قال الطبيب: «حسنًا، بالله عليك، أيها الفريق، هذا يكفي لإصابة أي أحد بالاكتئاب …»

قال الرجل: «لكنها لم تأمر حتى بقطعِ تلك الشجرة أو تبتعد عن المكان من أجل التغيير، ولو ليلة واحدة في البلدة!»

صحبت هذه المقاطعةَ حرارةٌ شديدة تدفَّقت إلى الغرفة، ما دفع الفريق إلى استخدام منديله. تناول دولار المسطرةَ الفولاذية الأنبوبية، وصوَّبها إلى الحِبر مثل منظار مُقرِّب، وأغلق إحدى عينيه بحرصٍ كأن الحقيقة تقع في أعماق الحِبر ذي اللونين الأسود والأزرق.

سأل الطبيب: «أهناك أيُّ سبب أو مبرِّر للانتحار؟»

أجاب الفريق: «هناك سببٌ ما لا أرغب في الإفصاح عنه.»

فتح الطبيب عينه المغلقة ليجد الفريقَ مُطرقَ الرأس. قال: «أظن أنه قد تفيدنا معرفةُ السبب أيها الفريق. إن زوجتك قوية الشخصية كما هو واضح، وأي شيء …»

هتف الرجل البائس: «إنها كذلك، الرب يعلم! صار الجميع على علمٍ بحالتها العقلية — ولا سيما الخدم — رغم المعاملة الحسنة التي تلقَّوها منها فيما مضى. عجبًا، في الهند … لكن لنكتفِ بهذا القدْر إذا كنت لا تمانع. لقد قدمتُ دعمًا ماليًّا لأرملة الرجل.»

انحنى دولار فوق مسطرته الفولاذية، لكنه نحَّاها جانبًا بسرعة هذه المرة، فتدحرجت وسقطت من فوق الطاولة. نهض الفريق دايسون، وأطلَّ على الطبيب بقامته الطويلة، وهو يمدُّ يده لمصافحته.

قال بصوت مبحوح: «لا يمكنني قول المزيد. لا بد أن تحضُر إلى منزلنا، وتراها بنفسك؛ حينها، يمكنك سؤالها عما تريد … دون أن أشعر أنني وغد لعين! بحق الرب، سيدي، إنه أمرٌ مريع أن يتحدَّث المرء عن زوجته بهذه الطريقة، ولو كان ذلك لمصلحتها! بل هو أسوأ مما تخيَّلت. أعلم أن الأمر مختلف في حالة طبيب … لكن … لكن أنتَ جنديٌّ قديمٌ مثلي، أليس كذلك؟ لقد سمعت أنك ذهبت إلى الحرب، هل هذا صحيح؟»

أجاب الطبيب: «نعم.»

هتف الفريق فيما تلألأت عيناه الزرقاوان بمكر بسيط: «حسنًا إذن. لقد التقينا في الحرب! وتقاطعت طرقنا مرةً أخرى، ودعوتك إلى منزلي في عطلة نهاية الأسبوع القادم! أيمكنك المجيء؟ هل أنتَ متفرغ؟ سأحرِّر لك شيكًا من أجل أتعابك في الحال … إن شئت … إذ لا يمكن أن أفعل شيئًا من هذا القبيل هناك. لا تمانع أن تتظاهرَ أنك النقيب دولار مرةً أخرى — إن كانت هذه رتبتك — أمام زوجتي، أليس كذلك؟»

أحدَثت حماسته المثيرة للشفقة ووفاؤه الرقيق — وحتى لهفتُه الحريصة والمفاجئة في عملية النصب الخيِّرة التي طرحها — بينهما انجذابًا لا يُقاوم. وجد دولار نفسَه يفكر: إن غرفَ الطابق العلوي ملأى بالمرضى؛ لكن إحداها لا تحوي قضيةً مثيرةً للاهتمام على النحو الذي بدت عليه هذه القضية. ومن ناحية أخرى، لا بد أن يحافظ على توازن بين الاهتمام بالجوانب الشخصية والشعورية من حياة مرضاه والالتزام بمبادئ مهنته. ربما يلقِّبه الآخرون بالتجريبي — وفي هذا مدعاةٌ للفخر أيما مدعاة — لكن هذه التجربة لا بد أن تظل محصورةً في اتجاه واحد فحسب. فالأبحاث النفسية لم تكن تلائمه … كما أن لقصة دايسون نكهة نفسية.

في نهاية المطاف، قال بصراحة كبيرة: «آمُل ألا تشيرَ إلى وجود شبحٍ وراء كل هذا، أم إنك ستفعل أيها الفريق؟»

هتف المحارب بضحكة متوترة: «أنا؟ يا إلهي، لا! لا أومن بوجود الأشباح.»

سأل الطبيب: «هل أشار إلى ذلك أيُّ أحد من أهل بيتك؟»

أجاب: «ليس … الآن.»

كرَّر الطبيب مستفسرًا: «ليس الآن؟»

قال: «لا. وأنا متأكد من قولي هذا.» لكن شيئًا ما كان يقلقه. تابع بصراحة جذابة ناجمة عن تخليه عن تحفُّظه: «أيضًا قد يكون من الصواب والإنصاف — وحيث إنك ستأتي إلى المنزل حسبما فهمت — أن أخبرك أن شخصًا، كان يعيش معنا، كان يزعم رؤيته للأشباح. لكن كلامه كان مجرد تُرَّهات لا أكثر. ادَّعى رؤية شياطين بنية ترفُل في أرديةٍ انسيابية، لكن لا أدري ما الذي كان قد تعاطاه قبل أن يراها! لم يمكث معي فترةً طويلة لنتعارف جيدًا. لكنه لم يكن خادمًا فحسب، وكان هذا قبل حادثة انتحار البستاني المسكين. كما هي عادةُ المحاربين القدماء المتقاعدين، أيها الطبيب دولار، أنا بصدد تأليف كتاب، وأوظِّف سكرتيرًا متواضعَ الإمكانيات؛ سكرتيري حاليًّا هو جيم بيلي، ابنُ أخت زوجتي؛ والحمد لله أنه يتسم بالعقلانية مقارنةً بنظيره السابق.»

سأل الطبيب: «ومع ذلك أُصيبَ بالاكتئاب؟»

أجاب الفريق: «هو معذور في ذلك. لو تصرَّف أصدقاؤك وأقاربك مثل الممسوسين …» وأمسك عن الكلام مرةً أخرى؛ وهذه المرة وجدت يدُه طريقها إلى يد الطبيب وقبضت عليها مرتجفةً. سأل: «ستأتي، أليس كذلك؟ يمكنني أن أنتظرَك في محطة القطار يوم السبت أو في أي يوم آخر يناسبك. أنا … من أجلها أيها الطبيب … في بعض الأحيان أشعر أنه من الأفضل لها أن تبتعد عن المكان بعض الوقت. لكنك ستأتي وتراها بنفسك، أليس كذلك؟»

قبل مغادرته، أخذ وعدًا من الطبيب بزيارته؛ لو أن رجلًا ذا قلبٍ أقسى كان في مكان دولار لانتهى به الأمر إلى أن يقطعَ على نفسه هذا الوعد، ولأعطى القضيةَ الجديدة الأولويةَ على جميع القضايا يوم السبت. لكن طبيب الجريمة، في الحقيقة، لم يكن متشوقًا لرؤية مريضته المستقبلية فحسب، كان يشعر بانجذابٍ مسبق إلى المشهد، وإلى كل المنخرطين في هذه المسرحية الدرامية المؤكَّدة، التي انتهى على أقل تقدير فصلٌ من فصولها المأساوية.

لم يكن هناك داعٍ للقائه في أي محطة قطار؛ إذ كانت أمٌّ غنيةٌ لمريضٍ، قدِم حديثًا إلى عيادته، قد أصرَّت على أن تهبَه سيارة تالبويز بقوة خمسة عشر حصانًا، فقبِل هديَّتها في نهاية المطاف، بل انتقاها بنفسه (بناءً على مساعدة مختصة محدَّدة) بوصفها مساهمة قيِّمة من أجل «قضيته». بالفعل أسهمت السيارة مساهمةً هائلة في زيادة رقعة مسرح عمله؛ وفي كل مهمة ميدانية، كان قلبه يمتلئ فرحًا وإيمانه يزداد قوةً بحالة السائق الشاب الرائعة الذي كان يجلس مشدودَ القامة أمام عجلة القيادة بجواره. في البداية، كان يجلس في وضعيةٍ مترهلة كأسوأ ما يكون عليه سائق؛ ولم تكن الأوامر ولا التوبيخ ما قوَّم جِلسته وأصلح مظهرَه الخارجي وحاله بشكل عام. كان هو الشخص المنشود لجون دولار؛ المريضِ غير الواعي الذي لا يعلم أحدٌ تاريخه المَرضي، الذي لا يتخيَّل هو نفسه أن تاريخه كلَّه معلومٌ للرجل الذي يعامله كأخيه.

كان الفتى قد زُجَّ به في السِّجن بسبب خيانة الأمانة؛ فأعطاه الطبيب ثقتَه بحذر، وهكذا تعلَّم الفتى أن يثق بنفسه. كان قد قدِم في شهر مارس، أبلهَ متجهمًا مثيرًا للريبة؛ والآن في شهر يونيو صار يتحدَّث عن الكريكت والطبعات ذات الست بنسات من خطوط ترام هونسلو إلى أن اجتاز البوابةَ البيضاء الكبيرة وخاض غابةَ بيركشاير؛ حيث لاح من بعيد منزلٌ محتجب خلف أشجار للبلاب اتقاءً لأشعة الشمس.

لكن عند المدخل، عاد الفريق دايسون إلى حياة الطبيب، وبعد توجيه السائق، الذي كان قد شغل حياةَ الطبيب بمحادثته طوال الساعة الأخيرة، إلى موقف السيارات، رحل عنها مدة الأربع والعشرين ساعة التالية.

همس المضيف تحت الأشجار التي سُمع حفيفها في الأرجاء: «أريدك أن تسمع خبرًا مني مباشرةً، حتى لا يُذكر ويصيبك بالدهشة أمام الآخرين. حدثت لنا مأساة أخرى — لكنها ليست مريعة كالسابقة — وإن كانت أسوأ من ناحيةٍ ما. أطلقت زوجتي النار على كلبها وقتلته الليلة الماضية!»

حاول دولار ألا تظهر علامات الدهشة على شفتيه المنفرجتين.

تجمَّد في مكانه وسأل: «في الليل؟»

أجاب الفريق: «حسنًا، بين الساعة الحادية عشرة والثانية عشرة.»

سأل الطبيب: «في غرفتها أم أين؟»

أجاب: «خارج المنزل. لا تسألني عن تفاصيل الحادثة؛ لا أحدَ يعرفها على ما يبدو، و«أنت» لا تعرف شيئًا عنها حتى تذكرها هي بنفسها.»

كان وجهه الوسيم يتصبَّب عرقًا؛ لكن بدا أنه كان ينتظر الطبيبَ بهدوء تحت الأشجار؛ إذ لم يكن متهدِّج الأنفاس، على الرغم من كبَر سنه. لم يوجِّه له دولار أيَّ سؤال على الإطلاق؛ توقفا عن ذكر الموضوع في ممر السيارات. على الرغم من سطوع الشمس في مكانٍ ما بعيد، كان الوقت حينئذٍ في أواخر عصر يوم من أيام شهر يونيو الطويلة، واصطُحِب الضيف إلى غرفته مباشرةً.

كانت الغرفة تقع في زاويةٍ من المنزل، لها نافذة إطارية تحيط بها أشجار اللبلاب فتحول دون عبور أشعة الشمس وتُطِلُّ على حديقة ظليلة، والنافذة الثانية تواجه أشجار التنُّوب والقسطل، التي كان يصعب على المرء ألا يصيبه التوجُّس عند النظر إليها. لكن بدا على الفريق أنه كان قد نسي مآسيه، وفي اللحظة الراهنة كادت عيناه الزرقاوان تضفيان بهجةً على المشهد الكئيب، وراحتا تتأملانه بفخر عفوي.

سأل: «ألا ترى الآن التشابه بين هذا المكان وتيرول؟ ضع جبلًا خلف تلك الأشجار؛ وهناك كان يوجد واحد في المرة الأولى التي رأينا فيها المنزل! لم يكن سوى سحابة رعدية لكنها بدت مثل سلسلة جبال دولوميت. وأعاد ذلك إلى أذهاننا … لم نحظَ بسُحُب أخرى عندئذٍ!»

وجد دولار نفسَه وحيدًا؛ أُفرغت حقيبته، ورُصِّع قميصه بأزرار معدنية، ووُضع غطاءٌ على صفيحة المياه الساخنة النحاسية، فشعر بفرحةٍ كبيرة كأنه لم يمكث بمنزل ريفي من قبل. أيمكن أن يكون الحال في غاية السوء في بيتٍ يعلم أفرادُه ما يجب تقديمه للضيف وما يجب ألا يُقدَّم؟

وكان الأمر على نفس الشاكلة مع بقيةِ وسائل الراحة؛ وكان هذا يعكس أداء الخدَم لوظائفهم على النحو الأمثل، رغم قِصَر فترة خدمتهم؛ ووجود خدمٍ يجيدون توفيرَ وسائل الراحة للضيوف في كثير من الأحيان لا يعني أن سيدة المنزل أو المضيِّفة، التي كان دولار قد تجهَّز للقائها، تُحسِن ذلك. ارتدى دولار ملابسه، وبداخله شكوك منطقية وإثارة شديدة؛ وكانت هذه هي أسعد لحظاته في «فالسوجانا».

كانت السيدة دايسون في منتصفِ عمرها لكنها بدت امرأةً عجوزًا، أما الفريق فكان مسنًّا وإن بدت على ملامحه مظاهرُ أوائل منتصف العمر. بل اكتمل هذا التناقضُ بين الزوجين بغير ذلك من التفاصيل المثيرة للحسد، لكن دولار لم يكترث بوجه المرأة المسكينة من ناحية جمالية بحتة. كانت بشرتها وعيناها كافيتين بالنسبة إليه؛ فقد اصطبغت كلتاهما بصبغة داكنة، مع مسحة هندية مفرِطة لدى الكثير من الهنود الإنجليز. لاحظ دولار على الفور ذلك التحفُّظ الشرقي.

عندما تحدثت، لم يجد بأسًا في حديثها؛ وكان القليل الذي قالته مجرَّد كلمات مقتضبة عفوية متعاطفة. وأكسبها العشاء البسيط ذلك الثناء الذي لم يكن دولار مستعدًّا له بعد؛ لكنها تولَّت دفةَ الحديث مرةً واحدة، وحدَث هذا بحدة بالغة بهدف تغيير الموضوع الذي كانت هي أول من تطرَّقت إليه.

لم يستطِع دولار أن يحدِّد تمامًا الكيفيةَ التي فُتِح بها الموضوع فجأة، خاصة مع الحفاوة التي حظيت بها مهنته السابقة ورتبتُه طوال زيارته. كان حتى قد نبَّه سائقه إلى عدم إفشاء مهنته الحقيقية هناك؛ ولم يكن من المحتمل أن يكون هو من أثار الموضوعَ بنفسه، لكنَّ شخصًا ما فعل ذلك كما يحدث دائمًا عندما يكون هناك موضوع بعينه لا بد من تجنُّب الحديث عنه. ربما يكون هذا الشخص هو ابنَ أختها الشاب اللطيف الذي علَّق بحسن نية على احتياج الفريق إلى الأصالة، مع الإشارة إلى بضعة أمور هي محلُّ نقد في الوقت الراهن؛ لكن لم يكن هو ولا دولار مَن ذكر أن القرود أكثرُ الكائنات المحاكية تطرفًا بحسب بطبيعتها … باستثناء المجرمين؛ وبالتأكيد كان الفريق هو من قال إنه لن يستغرب إن ذهب شخصٌ آخر وشنق نفسه في غابتهم. حينها تدخَّلت السيدة دايسون لتحويل دفة الحديث … ولا يمكن لدولار أن ينسى نظرتها حينها.

لأول مرة تقريبًا وجد نفسه مدفوعًا للتفكير في مسدسها. لم يكن ظاهرًا للعِيان؛ ومع أن كمَّيها الطويلين كانا منتفخين، كان من الصعب تصديقُ أن أحدهما كان يخفي أصغرَ مسدَّس صنعته يدُ بشر؛ لكن تدلَّى بالفعل قُفل ذهبي صغير عندما رفعت كوب الماء؛ وفي نهاية العشاء كان هناك مشهدٌ ثانٍ قصير، بلا كلمات هذه المرة، لكنه بدَّد أي شكوك كانت تساوره.

كان يمسك الباب ليبقيَه مفتوحًا للسيدة دايسون، عندما وقفت على العتبة لحظةً، تتفحَّص زوايا الغرفة البعيدة. رأى ما كانت قد نسيته … رأى أنها تذكَّرت ذلك الشيء وهي تستدير موليةً الغرفة ظهرها، وعلى وجهها نظرةٌ أخرى لا يمكنه نسيانها.

إما أن الفريق لم ينتبه لنظرتها تلك، أو تناسى عن عمدٍ همومه وتوتُّره وسط اضطلاعه بواجبات المضيِّف. كان قد أحضر بعضًا من النبيذ الفاخر احتفاءً بالطبيب؛ وجلسا يشربانه معًا، حتى كاد يحين وقت النوم. شرب دولار القليل من النبيذ، لكن الآخر تورَّدت وجنتاه كثيرًا، وكان من الجيد سماعه يتحدَّث بلا تحفُّظ أو تكلُّف. لكن كان ذلك غريبًا أيضًا؛ إذ انجرف من جديد إلى موضوعاتِ علم الإجرام، كما أن غياب إدراكه بعد العشاء زاد من ارتباك محدِّثه.

شعر أن كلامه، بالتأكيد، كان جزئيًّا من باب الإطراء لشخصه، بصفته طبيبَ جريمة؛ لكن، مما لا شك فيه، أن ذلك الموضوع البغيض كان يشكل شغفًا غيرَ سوي لدى الرجل المتحمس الجذاب. ولم يبْدُ افتتانًا متجذرًا؛ لكن الملاحظ الخبير رآه انجذابًا انعكاسيًّا لقدرٍ هائل من الرعب والنفور، فأخذه على محمل الجِد. بدا له أن أهون الشرَّين هو أن يسمح له باستجوابه في عموميات مهنية. كان هذا أفضل بلا شك من تشجيع الفريق على التنقيب في خبرته الطويلة بحثًا عن ذكرياتٍ عن أناس محترمين ارتكبوا أعمالًا شنيعة. وفوق ذلك ليطمئنه إلى أن حتى هؤلاء الأشقياء ربما كانوا سينجحون في تجاوز أفعالهم المشينة في إطارِ علاجٍ علميٍّ في عصرٍ أكثرَ استنارة.

لو كان لا بدَّ لهما من الحديث عن الجريمة، فليكن إذن عن «التعافي من الجرائم»! وهكذا قال الطبيب رأيه الصادق؛ واستمع إليه الفريق بإصغاءٍ متَّسمٍ برهبةٍ فاقت ما بدا عليه عندما كان يتحدث؛ وراح يطرح أسئلته همسًا، وينتظر بلهفةٍ إجابات الطبيب المدروسة. كان آخرُ هذه الأسئلة هو الذي استغرق أطولَ وقت في إجابته.

قال: «بحق الرب، أيها الطبيب، أجبني، أيٌّ من الجنسين لديه فرصة أعلى لتعافيه من الجريمة: الرجال أم النساء؟»

لم يسَع دولار سوى أن يقول: «ينبغي لي ألا أيأس من صلاح «أي أحد»، ارتكب «أي جريمة»، إذا كان لا يزال يملِك فِطنةً يمكن العمل عليها؛ وكلما زادت كان ذلك أفضل.»

لم يتفوَّه الفريق بكلمة أخرى، باستثناء «ليباركك الرب!» خارجَ غرفة الضيوف. ولم تَعُد زوجته تُرى في المنزل.

لكن أحسَّ دولار بوجودها في كل زاوية من زوايا مهجعه المُبهج؛ وكان للتناقض الحاد، الذي ربما كان من شأنه أن يزعزع أيَّ عقل بريء، تأثيرٌ عكسي عليه. كانت هناك مصابيحُ كهربائية موضوعة في جميع الأماكن المناسبة؛ كما كانت توجد كتبٌ وبسكويت وكوب من اللون، وحتى قنِّينة صغيرة وزجاجة مشروب شويبس الغازي. تنهَّد الطبيب وهو يملأ زنبرك ساعته ويضعها على الحامل الصغير فوق الطاولة المجاورة للفراش؛ لكنه انشغل بالتساؤل عما سيكتشفه قبل أن يعيد ملأها من جديد.

خارج إحدى النوافذ المفتوحة، كانت صراصير الحقل السعيدة تصدِر أصواتًا كأنها أصواتُ صُنُوج في تلك الأشجار المريعة. رفع الطبيب ستائرَ النافذة الأخرى؛ وعلى العشب، أظهر وهج سيجارة كان ينطفئ ويتجدَّد، لمحةً من مقدمة قميصٍ أبيض، وربطة عنق حريرية سوداء، والحافة المتدلية لقبعة من طراز بنما. كان ذلك هو الشابَّ اللطيف ابنَ أخت السيدة الذي كان قد انسحب إلى غرفته قبل احتساء النبيذ الفاخر. كان دولار لا يزال يفكِّر في ذريعة للنزول إلى الحديقة والانضمام إليه عندما سمع طرقات الشاب على باب غرفته.

وضَّح الشاب بيلي بنبرةٍ غير صادقة ساذجة: «أردتُ فقط التأكد من أن لديك كلَّ ما تحتاجه»؛ وأغلق الباب خلفه قبل أن تتحرك شفتا الطبيب وتدعوانه إلى الدخول. لكنه أوصد البابَ بهدوء شديد، وتسلَّل كاللص، واعتذر إلى الطبيب بأنفاسٍ لاهثة، قائلًا: «أنتَ أولُ شخص يقيم معنا منذ قدمتُ للعمل في هذا المنزل، أيها النقيب دولار!» وكانت ابتسامته الشابة الساخرة حزينةً مثل كل شيء في المنزل الحزين.

هتف دولار: «لقد أدهشتني!» بالفعل، لم يتوقَّع تعليق الشاب على الإطلاق. قال: «لمْ يخطر ببالي من قبل أن …» وجالت نظراته في لمح البصر في أنحاء الغرفة الفاخرة.

قال بيلي بإيماءة: «أعرف. أظن أنه لا بد أنهما بذلا غاية جهدهما في البداية باستعدادات وترتيبات خاصة لضمان راحة زوارهما. لكن لا يأتي أحد الآن. ليتنا يأتينا زائرون! فهذا المنزل بحاجة إلى وجودهم.»

سأل الطبيب: «جماعتكم صغيرة للغاية، أليس كذلك؟»

أجاب بيلي: «بل جماعتنا كئيبة! لكن عمي المسن هو أظرفُ رجل قابلته على الإطلاق.»

قال الطبيب: «لا أستغرب إعجابك به.»

قال: «أنتَ لا تعرف مآثره، أيها الطبيب دولار. فقد نال وسامَ صليب فيكتوريا، عندما كان في مثلِ عمري، في بورما، لكنه يستحقه عن كلِّ يوم يقضيه في حياته العادية في هذا المنزل.»

لم يعلِّق دولار؛ قدَّم الشاب له سيجارة، وشجَّعه الطبيب على إشعال واحدة أخرى لنفسه. ولم يحتَج إلى تشجيعٍ من الطبيب ليتكلم.

واصل الشاب كلامه، قائلًا: «المُضحك في الأمر أنه ليس عمِّي الحقيقي. أنا ابنُ أختها؛ وهي امرأة رائعة، أيضًا، بطريقتها الخاصة. إنها تدير المكانَ بأكمله بدقة ونظام وكفاءة كالكتاب؛ ومع ذلك لا تجد التقديرَ الكافي هنا. لكني أجد نفسي مدفوعًا إلى الاعتراف بأنني كنت سأحبها أكثرَ لو لم أكن أحبه!»

قال دولار: «بمناسبة الحديث عن الكتب، أخبرني الفريقُ أنه يكتب كتابًا، وأنك تساعده في هذا الأمر، أهذا صحيح؟»

سأل الشاب: «ألم يخبرك عن موضوع الكتاب؟»

أجاب دولار: «نعم.»

قال: «إذن لا يمكنني أن أخبرَك عنه. أتمنَّى لو كنت أستطيع. سيكون القول الفصل في موضوعٍ بعينه، لكنه لا يرغب في أن يعرفه أحدٌ حتى يكشف عنه. وهذا أحد أسباب توتره.»

سأل الطبيب: «هل الكتاب هو سببُ انزعاجه؟»

أجاب: «بلى، الكتاب وغيره. ألا يذكركَ برجل جالس فوق قنبلة موقوتة؟ لولاه، لحدث انفجار في الوضع كل يوم. وهذا ما لم يحدُث قط، مهما كان ما يجري!»

راقب دولار الشابَّ الشاحب وهو يستنشق دخان سيجارته.

سأل: «هل يتحدثان كثيرًا عن الجريمة؟»

أجاب: «طوال الوقت! لا يستطيعان تجنُّب التحدث بشأنه. ودائمًا ما تغيِّر خالتي إيسي دفةَ الحديث كأنها لم تكن سيئة مثل عمي تمامًا. لا شك في أنهما شهدا الكثير ليصبحا بهذه السوداوية. أظن أنك سمعت عن المسكين دينجل، البستاني السابق، أليس كذلك؟»

قال الطبيب: «عرفت بأمره مؤخرًا.»

تابع الشاب: «كان آخرَ شخص يخطر ببالك أن يُقدِم على هذا الأمر. وحدث هذا في تلك الأشجار القابعة بالخارج.» أصدرت صراصير الحقل أصواتًا أكثرَ ابتهاجًا عندما توقَّف الشاب عن الحديث. وتابع قائلًا: «لم يعثُر عليه أحد مدة يوم وليلة!»

قال دولار: «اسمع! لن أدعك تقصُّ على مسامعي هذه الحادثة.» لكن هذه المقاطعة المرحة كلَّفته الكثير من العناء. كان يريد سماع كل شيء عن حادثة الانتحار، لكن ليس من هذا الشاب المنهك، الذي ارتسمت على شفتيه ابتسامةُ رجل مسن. كان يعرف ذلك النوع ويحبه كثيرًا.

قال جيم بيلي: «آسف أيها النقيب دولار.» وبدت أمارات الأسف على وجهه. وأردف: «لكن، أنتَ على صواب! هل أخبرك الفريق عما حدث الليلة الماضية؟»

أجاب الطبيب: «حسنًا، أجل، لكن دون الخوض في أي تفاصيل.»

لم يُخفِ الطبيب فضولَه؛ فلم يكن موضوعًا يسَعه العزوف عن معرفة تفاصيله. كما أن هذا الحديثَ لن يثير ذكريات مفزعة قديمة؛ وسيعود الكلام في هذا الموضوع على الفتى بالنفع أكثرَ من الضرر.

قال: «ليس لدي الكثير من المعلومات عن الأمر. كنت أقلِّب في عقلي إمكانيةَ أن أخبرك بالأمر في أثناء وقوفي على العشب منذ قليل. وقعت الحادثة هناك، إن كنت تعلم.»

ردَّ الطبيب: «لم أكن أعلم ذلك.»

قال الشاب: «حسنًا، وقعت هناك، والغريب في الأمر أنني كنت هناك حين وقعت. اعتدت الخروجَ مع الكلب لتدخين سيجارة عندما يأويان إلى النوم؛ وفي الليلة الماضية، بلغت من الحُمْق أن غفوت في مقعد على العشب. كنت قد قضيت فترةَ بعد الظهيرة بأكملها في لعِب التنس، وخرجت في نزهةٍ طويلة بالدراجة ذهابًا وإيابًا. حسنًا، كلُّ ما أعرفه هو أنني استيقظت، وأنا أفكِّر أنني تعرَّضت لإطلاق الرصاص؛ ووجدت خالتي ممسكةً بالمسدس الذي تصرُّ على حمله معها في كل مكان، ومَجينز المسكين جثة هامدة.»

سأل الطبيب: «أقالت إنها كانت حادثة؟»

أجاب: «تصرفَتْ كما لو كانت كذلك؛ وأخذت تبكي على جثة الكلب المسكين.»

سأل الطبيب: «أكان كلبًا شرسًا؟»

ردَّ الشباب: «لم أظن ذلك قط. لكن الفريق لم يكن يحبه، ولا عجب في ذلك! هل أخبرك أنه عضه في كتفه؟»

أجاب الطبيب: «لا.»

قال: «حسنًا، لقد فعل، منذ بضعة أيام فقط. لكن هذا التصرُّف ليس غريبًا على الفريق. فهو لم يخبرني بما حدث حتى قُتل الكلب. ولن أستغرب إذا …»

قال الطبيب: «ماذا؟»

أكمل الشاب: «… إذا لم يكن لخالتي يدٌ في الأمر بشكلٍ ما. فقد كان مَجينز المسكين مصدرَ خلاف بينهما!»

سأل الطبيب: «أتظن أنه انقلب عليها في نهاية المطاف؟»

ردَّ الشاب: «لا أظن ذلك. فقد كان كالفرخ بين يديها، وا أسفاه على ذلك الحيوان المسكين!»

أشعل سيجارة أخرى؛ وأخذَ منها أنفاسًا عميقةً بلا مقاطعة.

سأل الطبيب: «أكانت السيدة دايسون وحدَها هناك، باستثنائك؟»

أجاب بتردُّد: «حسنًا … نعم.»

تابع الطبيب: «أيعني هذا أنها لم تكن بمفردها؟»

قال الشاب بيلي بصراحة: «صدقني، لا أعرف! قد يبدو ما سأقوله تُرهات، لكن لوهلة، ظننت أنني رأيت شخصًا يرتدي عباءةً تشبه عباءة الكاهن البيضاء. لكن لا أستطيع الجزم إلا برؤية خالتي إيسي، وكانت ترتدي منامتها، التي لم تكن بيضاء بالمناسبة.»

لم يخلد دولار إلى النوم على الإطلاق. جلس أولًا عند نافذة، يشاهد الأشجار السوداء تتحول إلى زرقاء، ثم إلى درجاتٍ متنوِّعة من الأخضر الزاهي؛ ثم سار وجلس عند النافذة الأخرى، وأخذ يحملق في مكان الحادثة القبيحة بذاتها، لكن زادها الغموض قبحًا فوق قبحها.

كلب؛ مجرد كلب، هذه المرة؛ لكنه كلب سيدة المنزل! كانت هناك رقعتان من العشب الجديد في المكان الذي ظن أن هلاك الكلب كان فيه …

لكن من أو ما الشيء الذي رآه هذان الشابَّان؛ من هو الشخص الذي تحدَّث عنه الفريق، وكذا الفتى الصادق البعيد عن الشكوك الذي استجوبه هو بنفسه؟ لا بد أن الجملة، «شياطين بنية ترفُل في أردية انسيابية»، ليست إلا عبارة جمالية صاغها المحارب القديم؛ ربما تحولوا إلى اللون البني في عقله المتأثِّر بثقافة الهند؛ لكن ماذا عن وصف جِم بيلي: «شخص يرتدي رداءً يشبه عباءة الكاهن البيضاء؟» أكان ذلك «الشخص» بنيًّا أيضًا؟

في غابةٍ منذرة بأسوأ الشرور، تهيأت الطيور الصغيرة المبتهجة للغناء للنائمين، عند النافذة المفتوحة. بل بلغ الأمر بطائرٍ مغرِّد منفرد إلى قول: «جميل، جميل، جميل، جميل!» بصوتٍ رقيق عذب رنَّان. لكن طلقة حادة، أُطلقت منذ يوم وليلتين، كانت الصوت الوحيد الذي عبَر عتبة نافذة غرفة الضيوف …

كان المرحاض في الغرفة المجاورة؛ وفي ذلك المنزل المُثير للإعجاب، من الناحية المادية، كان هناك ماء ساخن يغلي في الساعة السادسة صباحًا؛ كما أعدَّ الخدَم الشاي عندما سمعوا جريان الماء؛ وكانت الحديقة قبل الفطور بهجةً للعين. ربما كانت شبيهة بجنة عدن … بل كانت كذلك … مع وجود شيطان يختبئ داخلَها!

فُتحت ستائر التعتيم، كما يفتح النائم جفونَه في الصباح، لتكشف عن أشجار اللبلاب الكثيفة العالية. ظلَّت الأعشاب شاحبةً تغطيها قطراتُ الندى؛ ولم تكن هناك أشعةُ شمس كافية في أي مكان، على الرغم من سطوع السماء. تجوَّل دولار داخل المنزل، وسار في المسار نفسه الذي اصطحبه فيه الفريق بالأمس. كان هذا الطريق يمرُّ من مكتبته. دائمًا ما تجذب المكتبات الاهتمامَ؛ فخزانةُ كتبِ شخصٍ ما، هي أكثرُ تشويقًا من الشخص نفسه؛ لأنها وصفٌ حي لعقله في بعض الأحيان. قضى دولار ساعة تقريبًا، في ذروة انتباهه، دون أن يُخرج مجلدًا واحدًا من مكانه. لكن هذا كان يرجع من جانب إلى أن الكتب المثيرة لفضوله كانت محفوظةً بأمانٍ في خزانة زجاجية موصدة. ويُعزى السبب من جانبٍ آخرَ إلى المشتِّتات المتوافرة المُتوِّجة للخزانة العتيقة ظاهريًّا التي احتوت الكتبَ، وقد خرج واحد من رفوفها العلوية واتخذه الفريق مكتبًا له.

كانت هذه المشتِّتات صنمًا مذهَّبًا بغيضًا على نحوٍ غير معهود، جالسَ القرفصاء ولسانه بارز من فمه كأنه يهزأ من المؤلِّف الهاوي، وسيفًا وثنيًّا معلَّقًا على الجدار خلف الصنم. لم يكن هناك المزيد؛ لكن دولار هو الآخر كان قد أمضى خدمته في الهند في فترة شبابه، وكان لديه فضول فطري وحماسة للمعرفة، عُزِّز بمعرفته المحدودة عن التراث الشعبي. كان لا يزال واقفًا فوق جريدة، على مقعد، عندما سمع صوتًا ينادي اسمه بنبرةٍ غير مرحِّبة.

قال الصوت: «ما هذا يا كابتن دولار؟! ليتني طلبت سُلَّمًا من الخدَم في أثناء تشييد هذه المكتبة!»

كان هذا بالطبع صوتَ السيدة دايسون، التي لم تكلِّف نفسها إخفاء استيائها. نزل دولار عن المقعد، معتذرًا إلى السيدة، لكنَّ اعتذاره لم يجعل وجهها الشاحب وقوامها النحيل يلين ولو قليلًا.

قال معترفًا: «ما فعلته كان تصرفًا مشينًا. لكني وقفت على الجريدة للمحافظة على المقعد. وأود أن أضيف أنني لم ألحظ أنها جريدة «فِيلد» لهذا الأسبوع.»

عَظُمَ خطأ الطبيب في عينيه، فبذل ما في وُسعه لإزالة آثار أقدامه من فوق غلاف الجريدة الخارجي وتسويتها. لكن تلكما العينين الدقيقتين، مثل بُقع الحِبر على ورق الرقِّ القديم، لم تَعُد مُنصبَّة على الطبيب المخطئ، الذي فوَّت من فوره نظرةً أخرى ربما كانت ستقدِّم له بعض العون في تحريه.

اكتفَت السيدة بأن قالت: «إن غرفة مكتب زوجي تكاد تكون حَرمًا مقدسًا، وما قَدِمْتُ إلا لأنني حَسِبتُ أنه هنا.»

حمدًا للرب أن من عادةِ الأيام ألا تمضي دومًا بنفس السوء الذي بدأت به؛ والأغرب من ذلك أن هذا اليوم تحوَّل إلى أكثرِ أيام الأحد مللًا وروتينيةً في المنازل الريفية.

أما الفريق دايسون نفسه فلم يكن ضجِرًا فحسب، بل ومتوترًا نوعًا ما، كما يليق برجل بريطاني كشف الكثيرَ عن حياته لرجلٍ غريب تمامًا في أثناء الليل. أما لباقته الفطرية التي كانت تصدُر عنه سجيةً وطبعًا فقد صارت متكلَّفة؛ وأدَّى دَور المضيِّف المتمسك بالمظاهر طوال اليوم؛ ووجد دولار نفسه مدفوعًا إلى قبول أنه، رغم قدومه بصفته طبيبًا، فقد كان ضيفًا عاديًّا، في منزلٍ يُتوقَّع فيه أن يحترم ضيوفُه قُدسيةَ يوم الأحد ويحفظوه. وهكذا توجَّهوا جميعًا إلى كنيسة القرية، حيث عزف الفريق البوق، وقرأ العِظات، وظل منتبهًا طوال الموعظة. كانت هناك مجاملاتٌ تقليدية مع أرستقراطيين متدينين آخرين في المنطقة؛ وقُدِّم لحمُ الخاصرة على الغداء كما هي عادة البريطانيين يوم الأحد، ولم يأتِ أحد على ذكرِ أي مواضيعَ حساسة يندى لها جبينُ المضيِّف أو تغضب المضيِّفة. وفي فترةِ ما بعد الظهيرة، تفقَّد الحاضرون كلُّهم جميعَ الحيوانات والخضراوات في المكان؛ وبعد احتساء الشاي، وصلت سيارة الضيف.

في الأصل، كان هناك كلامٌ كثير حول إقامة الطبيب إلى يوم الاثنين؛ وتظاهر الفريقُ بطريقةٍ تعوزها الحماسة بالضغط عليه من جديد، لكن دون أي مساندة من زوجته، التي كانت قد راحت تتعقَّبهما مثل ظلِّهما طوال اليوم. ولم يعقِّب هو على تصرُّفها، ولو بنظرة جانبية إلى دولار، أو يحتال ليختليَ بالطبيب ويتحدث إليه مرة أخرى. أما طبيب الجريمة، فقد أظهر تلهفًا متسمًا بالحساسية للمغادرة، بدلًا من أن يتذرع بأي ذريعة للبقاء وسَبر غور هذه الأسرار الجديدة.

رأى الطبيب مسلكًا مختلفًا من جانبِ ابنِ أخت السيدة، الذي بدا في غاية الاكتئاب لرحيله، وطلب منه أن يسديَ إليه أمرين. أولهما أن يبتعدَ عن تلك الحديقةِ المسكونة في الليالي القليلة القادمة، وأن يحاول أن يذهبَ إلى فراشه مبكرًا عن عادته؛ أما الثاني، فقد كان طلبًا غريبًا على رجلٍ متمدِّن في منتصف عمره، ولكن كان مستحبًّا للشاب وفيه إطراء له. كان الطلب الثاني هو إعارته قبَّعته من طراز بنما، حتى يرى صانع القبعات الذي يتعامل معه دولار إن كان بمقدوره أن يأتيَ إليه بقبَّعة فاخرة مثلها. كانت قبعة بيلي قابلةً للطي، وتوضع في كمِّ المعطف مثل المنديل العصري؛ وأوضح له الشاب أن الفريق العجوز قد أهداها إليه.

جرَّب دولار ارتداءَ القبعة بعدما توارت «فالسوجانا» عن الأنظار، فيما تساءل سائقه الشاب عما ارتكبه من خطأ دفع سيده إلى الجلوس في المقعد الخلفي. وكان تصرفًا مضحكًا منه، في اللحظة التي كان من الممكن أن يخبره فيها الشاب عن بعض الأمور التي سمعها في منزل الحوذي. ولكن بلغ التشويق ذروته، عندما عادا إلى المدينة في تمام السابعة مساءً، وأمره الطبيب بتعبئة السيارة بالبنزين حتى يقوما بنفس الرحلة مرة أخرى.

أضاف: «لستُ بحاجة لأن أخبرك بأن تمسك عليك لسانك بشأن أي شيء ربما تكون قد سمعته في منزل الفريق دايسون. فأنا أعلم أنك ستفعل ذلك، يا ألبرت.»

في لمح البصر، انطلق الطبيب وسائقه في رحلتهما من جديد، جالسَين جنبًا إلى جنب.

لكن في «فالسوجانا» كانت ليلة أخرى من تلك الليالي الحالكةِ السواد، التي يصعب فيها على المرء أن يتلمَّس طريقه، خاصةً إذا كانت معرفته ضئيلة بالمنطقة. وللمرة الأولى شعر دولار بالغبطة لموت الكلب، وهو ينهي مسلكَه الملتوي، بالتسلُّل عبْر الأجَمة النائية، ويتجه ناحية كتل الضوء المتعرجة على نوافذ غرف النوم التي تطوِّقها أشجار اللبلاب؛ وكان الظلام سائدًا بالفعل في الطابق السفلي.

ها قد وصل إلى الأراضي العشبية الجديدة الباهتة؛ رآها للتو، وإن أحسَّ تحت قدميه بعدم تناسقها قبل أن تراها عيناه. شكَّل لهيبُ سيجارته نقطةَ الضوء الوحيدة في الحديقة كلِّها، وإن كان كلُّ نفَس يأخذه يترك طرَف قبَّعة جِم بيلي على بُعد بوصة من عينيه، ويبسط نسيجها الفاخر كالبساط الخشن أمام عينيه. أما المقعد الذي كان جيم بيلي قد جلس عليه يُدخِّن في هذا الوقت في الليلة السابقة، وغفا فيه في الليلة قبل السابقة عندما أزعجته طلقةُ النار وأيقظته من نومه، فكان في نفس المكان الذي توقَّع أن تجده ساقاه فيه؛ وأصدر الخُوص صريرًا بينما كان جون دولار يجلس فوقه.

قلَّت حاجته لإصدار الأصوات بعدما وصل إلى المكان؛ لكنه التزم الهدوء قدْر الإمكان، مع سكون الأجواء ورطوبتها في الليل، خاصة مع عدم إحداث سكَّان الحديقة أي ضجة كالليلة السابقة. بدا كأن الطبيعة أوقفت جوقتها الموسيقية، لشعورها بالاشمئزاز من المكيدة والمكيدة المضادة، اللتين تُدَبَّران بليل في مسرحها المظلم. ألقى دولار بعُقب سيجارته بعيدًا؛ ربما بدا الأمر مثل سقوط حجر على العُشب، وكاد دولار يسمع أزيزها وسط حبَّات الندى. كانت أذناه مشحوذتين لسماع الأصوات الدقيقة الخافتة؛ فما كانت أذناه الحادتان ستفوِّتان صوت ذبابة على حافة قبَّعة بنما المتدلية … ومن ثَمَّ كان من المستبعَد أكثرَ أن تفوِّتا وقْع أقدامٍ سريعة هادئة تلمس العشب الرطب بخفةٍ أخيرًا!

لم يكن هذا صوت وقْع أقدام فحسب؛ فقد أعقبه حفيفُ ثوب طويل ينجر على الأرض الرطبة جرًّا؛ كانت هذه الأصوات تدنو منه؛ ثم توقَّفت بغتةً. كان دولار قد خفض رأسه بتثاقل كأنه نائم؛ وحرَّك رأسه للأعلى؛ وبدا أن رأسه سينخفض مرة أخرى في نوم عميق.

تعالى الآن صوتُ وقع الأقدام وحفيف الثياب فصار كهدير الرعد. لكن حينئذٍ كانت عينا الطبيب مرتخيتَين مثل طرَف القبعة فوقهما؛ وفي نطاق الضوء الذي يتخطى حدودَ حاسته البصرية، بدا كأن عينيه تشاهدان هالةً مرعبةً حول الجسد الماثل أمامهما. كان شخصًا متدثرًا بدثار، في وضعيةٍ مفزعة، وكأنه على وشْك الهجوم. وكان قد بسط ذراعيه المغطاتين بخرقة أو شريطة راحت تلتف حولهما وتضيق مع كل خطوةٍ واسعة يخطوها؛ وبين كتفيه المستديرتين برز العنقُ الطويل والوجه الداكن للفريق دايسون.

خطا الفريق خطوةً واسعة أخيرة، قبل أن يستديرَ على عقبيه، كأنه يريد الرجوع خلف المقعد، في ذلك الحيز الضيق بينه وبين الشجرة. حفَّ ثوبُه برأسِ دولار، وهو يبسط ذراعيه بشدة، لكنهما في الواقع لم تلتفا حول عنقه؛ إذ سرعان ما خفض الطبيب رأسه واستدار للخلف، قبل أن يوجِّه بكل قوَّته لكمةً صاعدة لمهاجِمه. شعر باحتكاك يده بلحية خفيفة لم يمضِ على نموها سوى خمس عشرة ساعة، وسمع صوت اصطكاك أسنان؛ اهتزَّ العشب وهبطت كومةٌ من القماش الأبيض على الأرض في فوضى بلا حَراك.

انحنى دولار على ركبته فوق الفريق يتحسَّس نبضَه، وهو يدني مصباحًا كهربائيًّا من عينيه اللتين انفتحتا، ويسرع بوضع شيء آخرَ بالقرب من فتحتَي أنفه اللتين اتسعتا.

قال صوتٌ ليس ببعيد بنبرةٍ مرتعشة: «أوه جِم!» كان الصوت حادًّا ومنكسرًا، بل كان مثل صرخة رعب، لكنه لم يشبه أيَّ صوت كان يعرفه.

هبَّ الطبيب ليواجه زوجة الفريق.

قال: «لستُ جيم يا سيدة دايسون. إنه أنا … الطبيب دولار. سيكون على ما يرام سريعًا!»

سألت: «أأنت كابتن … دولار؟»

أجاب: «لا، ينادونني بالطبيب دولار هذه الأيام، وقد استدعاني دون أن تخفى عليه حقيقةُ مهنتي. والآن عُدْت على مسئوليتي الخاصة و… خدَّرته بالكلوروفورم؛ لكني لم أعطِه الكثيرَ منه؛ بحق الرب، دعينا نتحدث بصراحةٍ ما دمنا نستطيع!»

كانت جاثيةً على ركبتيها، تتأكد من صحةِ كلامه دون أن تنبِس ببنت شفة. وتراجعت بظهرها للخلف، وهي باقية على حالها، معقودة اللسان، بينما واصل هو الكلام: «أنتِ تعرفين حقيقته مثلما أعرفها يا سيدة دايسون؛ اشكري الربَّ أن طبيبًا عثر عليه قبل أن تجدَه الشرطة! فالهوس الأحادي لا يدخل في نطاق اختصاصهم، ولا اختصاصكِ أنتِ أيضًا. لقد حَمَيْتِ زوجكِ بطريقةٍ ليس بمقدور أحد إلا امرأة أن تحميَ بها رجلًا؛ آن أوانُ أن تجعليه يأتي ليتلقى العلاج على يدي.»

بدأت نبرته الواثقة تترك أثرًا عليها؛ لكنها تجاهلت اليدين اللتين كانتا ستُساعِدانها في النهوض واقفةً؛ وعقدَت يديها أمامها لكنها لم تكن تتضرَّع إلى الرب.

هتفت بشراسة: «وماذا بوسعك أن تفعل سوى أن تأخذه بعيدًا عني؟»

أجاب الطبيب: «سأجيبك عن نفسي فحسب. سأسيطر عليه، وهذا ليس في مقدوركِ، وسأعلِّمه كيف يتحكم في نفسه بقدْرِ ما يستطيع أي إنسان. أعمل طبيبًا نفسيًّا متخصصًا في الجريمة، يا سيدة دايسون، كما كان زوجكِ يعرف، قبل أن يأتيَ لاستشارتي بدعاوى كاذبة متقنة لا داعيَ للخوض فيها. ووثق بي بما يكفي لدعوتي إلى هنا؛ وأظن أنه كان يتلمَّس طريقه، ليرى ما إذا كان يمكنه الثقةُ بي ثقةً تامة، في مواجهة هوسه الأحادي المريع، لكنه الليلة الماضية أعطاني معلوماتٍ أكثرَ مما أراد؛ لذا ما كان لينطق بكلمة اليوم. لم أخمِّن سرَّه إلا هذا الصباح، عندما ارتبتِ في أنني فعلت! ثقي أن سرَّه سيكون في أمانٍ معي. لكن كيف أتحمَّل مسئولية الحفاظ على سرِّه إن بقي منفلتًا كما هو حاله الآن؟»

قالت السيدة ديسون: «لا تستطيع. أنا الوحيدة التي يمكنها ذلك.»

كانت نبرتُها حالمة، لكنها قاسية وقاطعة في الوقت نفسه؛ وكانت ذراعاها، في أكمام منامتها الواسعة، لا تزالان معقودتين بشدة. شيءٌ ما دفع دولار إلى الاقتراب من الرجل الفاقدِ الوعي والانحناء فوقه بانتباه شديد.

واصل الطبيب: «سيعود مباشرةً إلى حالته المعتادة، أو تقريبًا إلى حالته المعتادة، ولا أشكُّ في ذلك! ربما نسي ما قد حدث؛ يجب ألا يجدني هنا حتى لا يتذكر. هناك شيء واحد يجب أن يعرفه، وأنتِ من ستحملينه إليه، ثم تقنعينه بالمجيء إليَّ. لكنك لن تجدي ذلك سهلًا، يا سيدة دايسون، لو أدرك أنني خدعته. من الأفضل أن يظن أن من رآه هو ابن أختك. تقبع سيارتي في الممر الموجود خلف هذه الأشجار؛ دعيه يظن أنني لم أغادر على الإطلاق، وأننا تآمرنا سويًّا، وأنني تركت نفسي تحت إمرتكِ. سيصدِّق ذلك بعدما حدث، أليس كذلك؟ سأنتظر بكل شوق لمعرفة الجواب!»

قالت السيدة دايسون، بعدما نهضت من مكانها دون مساعدة، ودفعته ناحيةَ الأشجار: «قد تعرف الجانب الأسوأ لزوجي المسكين أو لا تعرفه، لكنك ستعرف جانبي الأسوأ الآن. آمُل أن تأخذ هذا المسدس وتحتفظ به! لقد نجوت بحياتك مرتين الليلة.»

خلَّصت رُسغها من المسدس البالغ الصِّغر المتدلي؛ فتحسَّس الطبيب المسدس، وسط الظلام، وتركه يتدلى.

هتف دولار بعد أن فهِم المرأة في نهاية المطاف: «سمعت أنكِ تملكين مسدسًا. فقد أخبرني زوجك. ظننت أنك تحملينه لحمايتك الشخصية!»

أجابت: «لا. لم يكن لهذا الغرض»، وعرف الطبيب أنها كانت تتبسَّم وسط دموعها. أضافت: «لقد أنقذتُ حياته — عندما أنقذ كلبي المسكين حياةَ جيم — لكني حملت هذا المسدس للحفاظ على السر الذي سأستأمنك عليه!»

لم يسَع دولار سوى أن يتناول يدَها في يده. وقال لها بنبرة مطمئنة: «ما كنتِ ستطلقين النار عليَّ أو على أي رجل غيري.» وتابع، محدِّثًا نفسه وهو يسير وسط الأشجار: «لكن، يا لحماقتي، كيف أنسى «أنهم» ما قتلوا نساءً قط!»

صارت الأجواء شبه باردة بجوار السيارة في الممر؛ لذا أعطى الطبيب سائقه القليلَ من البراندي، وراحا يتمشيان معًا، في الساعات الأولى من الصباح، ويتجاذبان أطرافَ الحديث عن الرياضة والروايات. انسلَّت النجوم متواريةً عن صفحة السماء، وبدأت الطيور تزقزق وتغرد، وصاح نفس الصوت الساخر: «جميل، جميل، جميل!» بأعلى نبرة رنانة. وأخيرًا، بعد وقت طويل، أتى الصوت الآخر، الذي كان دولار ينتظره بفارغ الصبر. ثم استدار عائدًا إلى الغابة المسكونة مع جيم بيلي.

تحدَّث ابن الأخت المسكين — الذي كان لا يزال هادئًا من صدمته — بفصاحة تقطُر ألمًا مثل زوج شاب فقدَ زوجته. تحدَّث عن الفريق دايسون كأنه ميت، واستخدم ألطفَ الكلمات في صيغة الزمان الماضي. كان الفتى يعتبره ميتًا. اعترف الفتى اعترافًا مروعًا، ألقاه فيما بدا بنفس القدْر من البرود الذي كرَّره به بيلي على مسامعه.

قال: «ظن أنني طرحته أرضًا، واضطُررت ألا أصحِّحَ خطأ ظنَّه! أصرَّت خالتي إيسي على ذلك؛ إنها امرأة عجيبة على أي حال! جعله هذا يخبرني بأمورٍ أجد صعوبةً في تصديقها … لكنه أراني حبلًا مثل ذلك الحبل تمامًا … كان قد جهَّزه لقتلي!»

سأل الطبيب: «أتقصد الحبل الذي شنق به البستاني نفسه؟»

أجاب: «أجل. هو من شنقه، وأقَسَمَ على ذلك … لاحقًا. سيخبرك بذلك بنفسه … يريد أن يخبرك. يقول إنه أولًا … لا أستطيع أن أنطِق بالكلمة!» وأظهرت زلةُ لسانه، باستخدام الزمن المضارع، أنه لا يزال متأثرًا عاطفيًّا بالموقف.

قال الطبيب: «مثل الخناقين؟»

ردَّ بيلي: «أجل، مثل تلك الطائفة من المتعصبين المتوحشين الذين كانوا يشنقون من يجدونه في طريقهم! «هؤلاء» من تحدَّث عنهم في كتابه. كيف عرفت؟»

قال: «من صنم «بهافاني» — إلهة هذه الطائفة — القابعِ أعلى خزانته، بالإضافة إلى أن لديه «مذكرات سْلِيمان» وغيرها من الأدبيات المروعة في الأرفف التحتية المُقفلة. إن العكوف على دراسة هذه الأمور في حياةٍ صارت فجأةً فارغة، وفي مثل هذا المكان النائي المنعزل، كفيلٌ بإصابة أي أحد بجنون مؤقت. وعندما يضل رجلٌ قوي الطريقَ يتمادى ويفعل أمورًا مروعةً لا يعدو بقيتنا عن أن يفكروا فيها ولكن لا يفعلونها أبدًا!»

أطبق بيلي على عُضد دولار بشدة، ووقف الاثنان بلا حَراك وسط أغاريد الطيور الرنَّانة المبتهجة فيما انطوى على مفارقة.

سأل الشاب بصوتٍ متهدِّج: «أتقول إن جنونه مؤقت؟ «مؤقت» فحسب؟»

قال الطبيب بصوتٍ مرتجف مشفق: «هذا ما آمله، بكل صدق. كما ترى، بسبب هذه النقطة تحديدًا … ورغم ما هو فيه … أعتقد أنه أراد بالفعل أن يبعِد زوجته عن طريقه، ولأجل سلامتها أيضًا!»

قال الشاب: «لكن أتعرف ما يقول؟ إنه ينوي إخبارَ العالم بأسرِه، ويتركهم يشنقونه، ويُنْزِلون به ما يستحق من العِقاب؛ هذا ما يقوله! وهو الآن بكامل قواه العقلية مثلنا تمامًا، باستثناء أنه يبدو أهدأ وأكثر استرخاءً!»

هتف دولار وهو ينظر إلى السماء المشرقة: «هذه علامات إضافية على جنونه المؤقت! لكننا لن نسمح بذلك. لن يصلِح ذلك ما أفسده، كما أنه فعل كلَّ ما في وُسعه للتعويض عن أفعاله وعما تسبَّب فيه من ضرر.»

«… هيَّا يا بيلي! أريد أن أعود به بسيارتي. لقد انبلج الصبح.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤