الفصل السابع

مساعد الطبيب

كان الطبيب يتناول وجبةَ الأحد بضجر، عندما تعالى رنينُ الهاتف في الغرفة المجاورة. دائمًا ما كانت هذه الاستدعاءات الملحَّة تُشعِره بالإثارة والترقُّب؛ وفي عينيه، تصبح سماعةُ الهاتف، التي على هيئة زهرة توليب، شيئًا نابضًا بالحياة، يهتف طلبًا للمساعدة؛ ولا يجد بأسًا في إجابة ندائها بنفسه، في أي وقت من الليل أو النهار. ويكون ذلك ضروريًّا في الليل؛ إذ يكون آل بارتون نائمين في قبو المنزل كالموتى، لكن لا يختلف الأمر على الإطلاق في أثناء تأديتهم مهامَّهم، كما هو الحال في اللحظة الراهنة. أعاد مقعده الكرومويلي إلى الوراء، حيث كان على رأس طاولة ذات مسندٍ وحيدة عارية. كان المتحدِّث المتحمس، الذي بدا قريبًا رغم بُعده المكاني، لا يقبل إلا الردود الموجزة السريعة. وعاد دولار إلى وجبته الموضوعة أمامه بشهية كبيرة.

وقال: «أرسِل بوبي إلى المرأب، يا بارتون، ليطلب السيارةَ على الفور. دعه يخبر ألبرت أنني سأكون مستعدًّا للخروج بمجرد قدومه، لكن عليه إحضار مصباحيه الأماميين ويملأ السيارة بالوقود.» وكرَّر أوامره بصرامة أبوية مستترة. وأضاف: «والآن، يا بارتون، أحضِر دليلَ الطريق الأحمرَ الصغير، وابحث عن «باكس مونكتونز» في براري مقاطعة سُري. لا يمكن أن تكون سوى قرية صغيرة. جرِّب البحثَ عن قرية كوبام إن لم تجدها في الفهرس.»

تطلَّب هذا جهدًا أكبرَ … تطلَّب خريطةَ مسح تفصيلية وعيني الطبيب مع عيني بارتون، قبل أن يعثرا على «باكس مونكتونز تشيس» مطبوعة طباعةً مجهرية، وكانت هناك بعض النقاط متخللة للون الأخضر الفاتح، في إشارة إلى وجود أشجار على ارتفاع ثلاثمائة قدم فوق مستوى سطح البحر.

قال دولار، وهو يعقِد رباط حذائه البني، قبل احتسائه القهوة: «لم أسمع بها من قبل، ولا بالرجل، ولا اسمه المُرَكَّب. تحقَّق من ديل-بولمر في دليل الأعلام.»

ولكن، مرةً أخرى، لم تفلح محاولاتُ بارتون؛ حينها صرَفه الطبيب رغم أن إخفاقه لم يكن خطأه ولا ناجمًا عن افتقاره للحماسة غير الأنانية لخوض واحدة من المغامرات المحتملة، التي كان يكره السائق لاشتراكه الدائم فيها، ويلعن الواجبات التي أبعدت الآخرين عنها.

سأل: «هل ستأخذ قنِّينتك، يا سيدي؟»

أجاب: «لا، بالطبع! فلن أذهب إلى القطب الشمالي.»

قال: «ولا … ولا أحد تلك المسدسات، يا سيدي؟»

أجاب: «وما فائدته بحق السماء؟ كما أن هذه المسدسات ليست ملكي؛ مكانها الذي يجب أن تكون فيه هو المتحف الأسود في سكوتلاند يارد.» كانت نواةَ متحف فرعي آخذة في التشكُّل في شارع ويلبك. تابع: «كُفَّ عن الاستياء يا بارتون! لن أفعل شيئًا سوى زيارة رجل متلهف لرؤيتي على ما يبدو، لكن ما كنت لأذهب إليه لو كان لدينا أيُّ مرضَى في الطابق العلوي. يمكن لثلاثتكم الاستمتاع بوقت الظهيرة أينما تريدون؛ ولا تتعجلوا بالرجوع قبل عودتي؛ اذهبوا واستمتعوا بأوقاتكم.»

وانطلق في طريقه كأنه ذاهب في رحلةٍ ترفيهية مدروسة؛ لكن ضحكة عفوية خافتة في الصوت عبْر الهاتف، والتلميح إلى وجودِ مفاجأة، واحتمال وجود خُدعة ما، كل ذلك جعله يُعمِل فِكره بعد ركودٍ طال على مدار أيام الصيف الخانقة الحرارة؛ إذ بدا له أن وقتَ الظهيرة العليل في شهر سبتمبر مُعَدٌّ خصوصًا للتنزه بالسيارة لمن يملك فسحةً من الوقت. كان هذا ما أخذ دولار يفكر فيه عندما تلقى هذا الاتصال؛ أن ما يحتاجه هو هدفٌ ما لإضفاء إثارة على نزهته الترفيهية، وبقية التفاصيل تأتي لاحقًا. ولا تهم عبثية النهاية أو المهمة ما دامت الوسيلة والرحلة نفسها ستؤديان إلى استمتاعه باليوم.

كان الطقس دافئًا، لكنه كان منعشًا للروح، والسيارة تسير بسرعةِ ثلاثين ميلًا في الساعة؛ كما كان صافيًا جليًّا، وضبابٌ خفيف لا يعكِّر صفوَه يلوح من بعيد؛ وغلب على الأشجار اللونُ البرونزي الذي لا يكاد يتحول إلى الأحمر قبل أوانه، وفي كثيرٍ من الأحيان يتحول إلى الخضرة الزاهية التي يتَّسم بها منتصف الصيف؛ لكن على طول الطريق كانت هناك مسحة خريفية فضية في أشعة الشمس. وهكذا انقسم ذهن دولار بين التلذُّذ الحسي بهذه اللوحة الفنية الريفية البديعة، والتخمينات الحالمة نوعًا ما بشأن القضية التي تنتظره. كانت أفكار بعض الأشخاص حول مهامِّ طبيب الجريمة أكثرَ توسعًا بكثير حتى من أفكاره هو نفسه؛ ففي غالبية الأوقات لا يسَعه الذهاب إلى مكانٍ بعيد دون أن يخوض ذلك الحديث البغيض بشأن تحديد قيمة أتعابه مسبقًا.

هذه الظهيرة كان مستعدًّا لفعل أي شيء تقريبًا بلا مقابل يُذكر؛ وبعد عشرين ميلًا قضاها في الجلوس، وقف على قدميه بشكلٍ متكرر في الميلين أو الأميال الثلاثة التالية، يسأل عن الطريق في النُّزل المُحتملة، أو الجماعات المارة من الفلاحين الحليقي اللحية، الذين يرتَدُون أفضلَ ثيابهم ليوم الأحد ويدخنون السجائر.

في نهاية المطاف، قال شخصٌ بدا أنه قد سمع باسم القرية من قبل: «باكس مونكتونز تشيس؟ امضِ إلى الأمام بقدْر ما تستطيع، وستجده أول نُزل على الجانب الأيسر. لكن لا أحد هناك.»

كرَّر الطبيب كلامه: «لا أحدَ هناك! أتقصد أن النُّزل خاوٍ من الناس؟»

قال: «أقصد أنك ستجد عمالًا هناك خلال أيام العمل الرسمية، لكنك لن تجد أيَّ أحد اليوم، إلا إذا ذهب المالك الذي اشتراه بسيارته إلى هناك.»

قال الطبيب: «ألا يعيش المالك هناك؟»

أجاب: «ليس بعدُ؛ فالنُّزل خاضع لإصلاحات وتغييرات في الوقت الحالي؛ لا أعلم أين يعيش، بل لا أعرف شيئًا عنه، سوى أنه يذهب بسيارته إلى هناك أيام الأحد.»

شعر دولار بالإحباط، حتى تذكَّر أن يستمتع بأحد الاحتمالات الضئيلة التي لم يأتِ مستعدًّا لها على الإطلاق. هذه المفاجأة المبكِّرة وغير المتوقَّعة على الإطلاق منحته بعضَ الأمل. لكنها أفقدت باكس مونكتونز تشيس أثرَه المرغوب عندما عثَر الطبيب عليه. وسلبت النُّزل الكئيب قيمتَه من حيث كونه مكانًا مثيرًا للفضول؛ فبدا مكانًا فسيحًا ومعزولًا بلا فائدة، واستراحة حجرية موسمية فاخرة لكنها مجرد أبراج باهتة وشرفات مهجورة مُفرَّجة شاهقة في خلفية من سماء فضية، حيث توقفت الشمس عن البريق في الميل المتعرج الأخير.

كان مما يبعث على السرور رؤيةُ رجلٍ ملتحٍ ودود متورِّد الخدين، ويضع ربطة عنق مُنقَّطة مُلتفة مرتين حول عنقه الكبير البالغ قطره تسع عشرة بوصة، وعلى شفتيه ابتسامةٌ مُرحبة، وهو واقف تحت القوس الموجودة عند المدخل. عرَّف الرجل نفسه باسم ديل-بولمر، وهو اسم مُرَكَّب طويل صِيغ على نحوٍ يجعل من السهل على اللسان نطقه. افتُتِن دولار بطرافة وبساطة خطابه وسلوكه. كان هناك سائق أنيق ينتظر بجوار سيارة من سيارات الأثرياء على ممر السيارات. وباستثناء ذلك لم تكن هناك علامات حياة أخرى في أرجاء المكان.

قال ديل-بولمر بنبرةٍ دافئة معتذرة: «سررت كثيرًا بقدومك. توقَّعت مجيئك، مما سمعته عنك، كما أنك أظهرت تحمسًا لدعوتي عندما هاتفتك. لم ألقَ شخصًا يتكرَّم بالقيام برحلة منذ أن غادرت الأدغال.»

سأل الطبيب بتعجُّلِ الأطباء المألوف لبدء المحادثة وإن كان متشوقًا للغاية لمعرفة سرِّ استدعائه: «أنت أسترالي؟»

أجاب الرجل: «نعم! أنا قادم من هذه البلاد المستنيرة، حيث يسيطر حزبُ العمال على زمام الأمور وتمتلك النساء حقَّ التصويت. في الحقيقة …» وأضاف الرجل الضخم بضحكة كبيرة كالتي أطلقها عبْر الهاتف: «هذا سببُ قدومي من أستراليا، كما أعلنت كالأحمق في لقاء في هذه الأنحاء أول من أمس. لكن يبدو أنني كنت كالمستجير من الرَّمْضاء بالنار.»

علَّق دولار بنبرة حليمة مهذَّبة: «يؤسفني سماع ذلك.»

قال ديل-بولمر: «في الواقع، ليس الأمر كذلك بالضبط»، وضحك ضحكته تلك بعنقه الضخمة مرة أخرى. ثم قال: «تفضَّل إلى الداخل، وسترى بنفسك.» قاد الطبيب إلى ممرٍّ مركزي رحْب مكتظ بالسلالم الخشبية ومعدَّات البنائين، والمواسير والأنابيب، وأعمدة الستائر، وكومة من الألواح؛ لكن كان هناك ثمَّة نظام بالمكان مقارنةً بالفوضى التي كان بوسع المرء رؤيتها عبْر الباب المفتوح الذي وقف على عتبته. كانت هناك روافد عارية لا تجعل من السهل التحرُّك على الأرضية، والعديد من السقَّالات المنصوبة تمتد من الأرضية إلى السقف الجصي المتقاطع. قال الرجل الأسترالي: «انظر هنا!» وهو يشير إلى كومةٍ من الشَّعر المحلوق على الجزء الفارغ المتبقي من الأرضية.

تنهَّد دولار، وهو يهزُّ رأسه بطريقة متكلفة؛ إذ تبعثر صندوق أعواد ثقاب في الأرجاء: «يا له من دنيء مهمل، العامل البريطاني.»

هتف الآخر بجرأة: «لا بد من شنق العامل البريطاني! فلديه عملٌ هنا سيزوده بالجِعَة وأموال للقمار حتى عيد الميلاد المجيد وبعده حسب قدراته في إدارة الأمر. هذه تسليةٌ من نوعٍ آخر— تتوق المرأة البريطانية إلى الحصول على حق التصويت في الانتخابات!»

سأل دولار، وإن كان أراد أن يسأل إن كان هناك المزيد: «حسنًا! ولكن هل أنت متأكد؟»

أجاب الرجل: «قطعًا. لقد قابلت بعضهن، على الدرَّاجات، خارج حدود أرضي مباشرة. هذا ما أستحق الحصول عليه لقاء الدفاع عن حقوقهن أول من أمس.»

قال الطبيب: «لا أرى نشراتهن ولا أشم رائحة الكيروسين.»

ردَّ الرجل: «ستجده في تلك الزجاجة على رف الموقد. لا بد أن شيئًا ما قد أثار رعبَهن في اللحظة الأخيرة، باستثناء امرأة واحدة.»

سأل الطبيب: «ماذا عنها؟»

قال ديل-بولمر بإثارة جادة: «لقد أمسكتُ بها.»

قال الطبيب: «هل أرسلتها إلى السِّجن؟»

أجاب: «هذا ما يجب أن يحدُث! لقد قبضت عليها وهي تحاول إضرامَ النار في كومة الشَّعر المحلوق، وليس لديَّ خرطوم مياه واحد في المنزل! أعواد الثقاب المبعثرة على الأرضية تلك مِلْكها؛ كانت عازمة على تنفيذ مهمَّتها قبل مغادرة المكان ولم تتوقف حتى أمسكت بها متلبِّسة! فلا تنتظر مني أن أسمح لها بمغادرة المكان كأن شيئًا لم يكن!»

لم يسَع دولار سوى التحديق في الوجه المرِح المجعَّد بسبب الابتسامة التي كشفت عنها وجنتاه المتوردتان، لكنه لم يعُد خاليًا من القلق ووخز الضمير الجادَّين الممتزجَين بالفكاهة.

قال دولار: «لكن، يا سيدي العزيز …»

قاطعه الرجل متوسلًا: «لا تنتقدني! كان لا بد أن أفعل شيئًا؛ لو لم تخطر ببالي، وبعض الأشياء الطيبة التي سمعتها عنك، أيها الطبيب، لكنتُ هاتفت الشرطة؛ لكن ما جدوى وضْع هؤلاء الشابات في السِّجن، ليُفرج عنهن في غضون أسبوع؟ سمعتُ أنك تدير دارَ رعاية للمجرمين، أفضل من كل سجون العالم.»

ردَّ الطبيب: «لكنني لا أجبر الناس على دخولها؛ لا بد أن يأتوا إليها بإرادتهم الحرة. ماذا فعلتَ مع هذه الشابة؟»

أجاب الرجل: «أنا؟ لا شيء؛ ما حدث هو صنيع يديها تمامًا. لقد اختبأت؛ ولم أفعل سوى أن أغلقت الباب بالمفتاح.»

سأل الطبيب: «هل حبسْتَها في غرفة من الغرف؟»

أجاب: «نعم، بشكلٍ أو بآخر، حبستُها.»

وضحك ديل-بولمر ضحكةً مذنبة متوترة نوعًا ما.

سأل الطبيب: «مكانٌ ما بالأعلى؟»

أجاب: «أجل، انظر هنا! كانت تلتقط أعوادَ الثقاب تلك، عندما لمحتها من هذا الباب، فلاذت بالفرار عبْر هذا الباب هناك. تعالَ وانظر إلى المسار الذي سلكته أثناء محاولتها الهرب، أيها الطبيب.»

أدَّى مسار هروبها إلى حجرة انتظار أو صالة داخلية أو حجرة بئر لدَرَجٍ قيد البناء، يرتفع من وسطها سلَّم طويل من الأحبال، لكنه لا يصل إلى بسطة الدَّرج الهيكلية للروافد ذات الفُرَج. رفع ديل-بولمر بصره عاليًا، وهو يهزُّ لحيته العريضة.

سأل الطبيب: «لم تصعد إلى هناك بالطبع، أليس كذلك؟»

أجاب: «بل صعدت مثل مُشعِّل مصابيح الشوارع أيها الطبيب! ذهبتُ من الطريق الذي نوشك على أن نسلكه سويًّا الآن، إن كنت لا تمانع.»

حملهما دَرَجٌ متشعبٌ رفيعٌ من الممر السفلي إلى نظيره العلوي. وهناك بدأ القائد يسير بتمهُّل، وهو يضع إصبعًا على شفتيه.

قال هامسًا وهو يشير إلى بابٍ مغلق في ممر جانبي: «تلك هي الغرفة. أظن … أظن أنني سأدعك تتعامل معها أيها الطبيب. هو ليس مغلقًا — أعني أنني لم أغلق الباب.»

سأل الطبيب: «ظننتُ أنها سجينتك، أليست كذلك؟»

أجاب: «بلى، لكنك سترى المكان الذي هي مختبئة فيه. لقد أدرتُ «ذلك» المفتاح، أيها الطبيب، ولكن ذلك كلُّ ما فعلته. لكني أُفَضِّل أن تُخرجها بنفسك.»

كان شعوره الغريب بالذنب بعيدًا كلَّ البُعد عن الفكاهة؛ فقد بدا خجِلًا للغاية من التدابير التي اتخذها بلا تفكير، كأنه تشكَّك كثيرًا فيما إذا كان يمكن اعتبار أفعاله شُجاعةً أو شريفة، وغشيه استحياءٌ من الانتقادات غير المنطوقة للرجل الذي أحضره من أقاصي الأرض في لحظةٍ من لحظات الاضطراب. لكن الحقيقة هي أن دولار لم يلُمْه على الإطلاق، وهو يدير مقبضَ الباب برفق، ويسمع وقْع خطوة فزعة تتراجع في الممر.

كانت الغرفة جيدةَ الإضاءة، مرتفعة السقف، ذات مشربية واسعة تُطِل على الحديقة؛ وفي الركن كان هناك مقعدٌ تحته صندوق خزانة، كان قد فُتح عَنوة؛ ومن الشظايا نهضت امرأة شابة، كما نهضت أفروديت من زَبد البحر، ويداها مرفوعتان إلى شعرها الأشعث، الذي قبَعت فوقه قبَّعة مائلة على ثياب قروية متسخة. كانت تتطلع من النافذة، بينما كانت تحاول إصلاح مظهرها الأشعث؛ لكن عندما انفتح الباب، استدارت وعلى وجهها تعبيرٌ يحمل مسحة احتقار خفيفة، ووقف الاثنان متجمدَين في مكانهما.

أفلتت منه شهقة رغمًا عنه، وهو يقول: «ليدي … فيرا!»

أحنت رأسَها انحناءةً بسيطةً مباغِتة؛ قبل أن يعود رأسها إلى نفس الزاوية الحادة التي اقتضتها القبَّعة المصنوعة من الموسلين، التي ارتداها بهدفِ إخفاء وجهها؛ وكانت عيناها تحت حافة القبَّعة مثل قطرات مطرٍ زرقاء كبيرة، يمتزج فيهما العبوس والفضول، لكن لم يكن بهما أيٌّ من ذلك الذهول المرتسم على ملامح الطبيب سوى القليل، ولا ذرة من الخجل الذي عصف بروحه.

تمتم كأنه يوجِّه الكلام لنفسه لا إليها: «لا عجب في أنكِ لم ترغبي في رؤيتي قَط! لم تجيبي ولو حتى بكلمة على رسائلي عندما كتبتُ إليكِ، ولم أفتُر أسأل نفسي عما فعلتُه! فكَّرت في كثير من الأسباب، لكن لم يخطُر هذا ببالي مطلقًا!»

هزَّت رأسَها بحركة مفاجِئة مثلما أحنتها له؛ وبدت عيناها الزرقاوان متجمدتين في مكانهما، لكن انفرجت الشفتان الصارمتان باندفاع. هيَّأه حَدْسه لحدوث شيء يفوق التصوُّر. لكنَّ ضبْطَها لنفسها كان درسًا له وتوبيخًا؛ وآخذًا هذا في الاعتبار ومنصتًا إلى ما لديها من كلام، توقَّف في اللحظة الراهنة عن التساؤل عما كانت تخفيه عنه، وما التهمة التي أجَّلت توجُّهها إليه.

قالت بنبرةِ صوتٍ لا تختلف عن تلك اللي استخدمتها في حالات الطوارئ الأخرى لكنها فقط كانت أبردَ نسبيًّا: «أخبِرني شيئًا واحدًا أيها الطبيب. هل كنت تلاحقني أم إن هذا من قبيل المصادفة المحضة؟»

أجاب: «ليست المصادفة وإنما القدَر!»

سألت: «هل لاحقتني إلى هنا، أم لا؟»

قال: «لم أفعل ذلك عن قصد. هل يبدو لكِ أنني كنت ألاحقكِ؟»

قالت بينما التمعت عيناها الزرقاوان الواسعتان فجأة: «تبدو كأنك رأيتَ شبحًا.»

هتف بحماسة فيَّاضة: «وقد فعلت! رأيتُ شبح كلِّ شيء تشبثتُ …»

قالت بهدوء: «شكرًا لك»، بينما حاول هو أن يتمالك نفسَه احتذاءً بها. وأضافت: «أعرف ما الذي لا بد أنه يدور بخَلَدك … ما الذي تمتلك حقًّا خالصًا في التفكير فيه … بعد مرور سنتين. لكن آمُل أن يمنعك كرَم أخلاقك من التفوه به! فهذا الوضع ليس مسلِّيًا مطلقًا لي، كما تعرف، ولا سيما بعدما دُفنتُ حيةً لساعات!» أدارت رأسها نحو المقعد المكسور عند النافذة، وتأمَّلت عيناه بنهمٍ جانبَ وجهها عندما سقط الضوءُ عليه. وسألت: «ماذا سيحدث لي؟ هل عدوِّي اللدود صديقك؟ هل أرسل في طلب الشرطة؟»

أجاب: «لا، لقد استدعاني بدلًا من ذلك.»

سألت: «هل تعرَّف عليَّ من فوره؟»

هتف الطبيب بقوة: «لم يتعرَّف عليكِ سابقًا، ولا الآن، ولن يتعرف عليكِ أبدًا في المستقبل إلا إذا تطوعتِ بإخباره بنفسكِ! يا إلهي، يا فيرا، في الوقت الذي كنت أتوق فيه إلى رؤيتكِ، لتحذيركِ من أعدائكِ، أجِدُكِ واقعةً في قبضتهم أكثرَ من أي وقت مضى!»

التمعت عيناها تحت القبَّعة، في نظرة توبيخية غير واعية؛ إذ رفع الكلفةَ على غيرِ وعي منه؛ لكن هذا الرجل هو نفسه الذي توسَّل إليها في الماضي للموافقة على الزواج به، وعبَّرت هي عن رغبتها في ذلك لولا ذلك الثِّقل الجاثم على روحها. لكن الرسميات بينهما، على الأقل، كانت شيئًا انقضى منذ زمن. أكان وقوعها في المتاعب هو فحسب سببَ الحاجز القائم بينهما في الأشهر الأخيرة؟ انهمك في محاولة إجابة هذا السؤال عندما قاطعت أفكاره بسؤال من أسئلتها.

سألت: «من هم الأعداء الذين تقصدهم أيها الطبيب دولار؟»

ردَّ: «لن نتحدَّث عن العامين الماضيَين.»

قالت برعدةٍ كامرأة تحترم القانون: «كروتشر! لم أسمَع عنه منذ تلك الليلة في القطار.»

ردَّ الطبيب: «قلتُ لكِ إنك لن تريه مجددًا، لكني قلت أيضًا، إن كنتِ تتذكرين، إن كروتشر مثل آلة فتاكة. حسنًا، لقد وقع في قبضةِ من هو أشدُّ منه فتكًا، حسب معرفتي، وانتهى الأمر.»

لكن الأمر لم ينتهِ عند هذا الحد، وكانت الليدي فيرا تعلم بذلك. لم تَعُد زاوية قبَّعتها جذابةً الآن، والتمعت عيناها، بعد أن انجلت عنهما حافةُ القبعة، التماعًا أخَفَّ تألقًا جعلها تبدو مذهلةً فجأة في تجسُّدها الأخير. ظهرت مشاعرُ دولار على ملامحه من جديد؛ وقرأتها السيدة بابتسامة، أصابته بانقباض؛ إذ كانت شبيهة على نحو تهكمي بتلك الابتسامات التي لا تزال تغذي أحلامه.

قالت بنبرة تخمينية: «أتظنني سيئةً مثل أي واحدة منهن.»

ردَّ الطبيب بقوة، في دفاعٍ مستميت غريب أمام ذلك الجسد الضئيل، كأنه الجاني وهي القاضي: «أظن أن جريمةَ الإحراق المتعمَّد أسوأ من معظم الجرائم. وليس هناك عذرٌ لارتكابها على الإطلاق. ليتكِ متِّ، منذ عامين، بدلًا من أن ينحدِر بكِ الحال إلى هذا الحد!»

سمع وقْع خطوات خلفه، فخفض صوته؛ لكن الليدي فيرا رفعت صوتها، في الوقت الذي توقَّف فيه جسدٌ ضخمُ الجثة على عتبة الباب في إحراج؛ وتحدَّثت بنبرةٍ جديدة غير مألوفة.

قالت بنبرةٍ خطابية: «منذ عامين لم يكن السيدات يتلقَّين معاملةً بالغة السوء كهذه. ثم أتت هذه الحكومة البائسة …»

انتهرها ديل-بلومر نافضًا عنه خجلَه بقوة ليصبح محطَّ الأنظار: «اسمعي!»

كرَّرت كلامها ليسمعه: «منذ عامين لم تكن الحرب على أوجهها! أما الآن فإننا أمام حرب مستعِرة، وحيث إنه لا أحدَ يُعلي من صوت الحكمة، فلا سبيل سوى الدمار!»

هتف الرجل المتطرِّف بغضبٍ جامح: «أتظنين أنه يمكنكِ شقُّ طريقكِ إلى السياسة من خلال الحرائق؟»

ردَّت: «كلُّ ما نريده هو المشاركة السياسية.»

قال الرجل: «هذا أولُ مطلب والبقية تأتي! أعرف طينتَكم! فقد أتيتُ من بلد، بدأت فيه الاحتجاجات بنفس الطريقة!»

قالت الليدي فيرا بتنهيدةٍ قصيرة غاضبة: «كما أخبرتَ الحاضرين أول من أمس، إن كنتُ أتحدَّث إلى السيد ديل-بولمر.»

أجاب: «هذا أنا؛ ولهذا كاد منزلي يُحرق عن بكرةِ أبيه؛ وأنتن، يا سيدات، تحسبن أن هذه هي الطريقة المُثلى لطرح قضيتكن وإثبات قيمتكن للدولة! حسنًا، أظن أنكنَّ تدركن ما تفعلن أفضلَ من أي شخص آخرَ؛ لذا لا جدوى من محاولة التحدُّث معكن بالمنطق؛ لكن حقًّا ما حدث كافٍ لإثارة غضب أي أحد، ولا سيما بعدما قبضت عليكِ بالجُرم المشهود بالطابق الأرضي.»

هتفت الليدي فيرا ببساطة شديدة غير عادية: «ليتك لم تقبض عليَّ.»

لكن لم يتناقش معها أحد؛ إذ اكتفى الطبيب بهزِّ رأسه في يأس مهني، بينما استعاد صاحب المنزل الجريح هدوءه، وبدت المجرمة الصغيرة كأنها تحاول ألا تبدوَ المسيطرة على الموقف.

تابع ديل-بولمر كشخص لا يحقُّ له الحديث في الغرفة: «ما جئت إلا لأقول إنه عُثر على سيارة صغيرة مكشوفة في الفِناء خلف أحد الأكواخ الفارغة. وحسب معرفتي بأن صديقاتك كنَّ يركبن الدرَّاجات، خطر لي أنها قد تكون سيارتكِ، أليس كذلك؟»

أكان من طبيعة الرجل فحسب أن يغيِّر أسلوبَه كلَّه في لحظة، أم كان للمرأة الماثلة أمامه علاقة بهذا؟ بدا هو نفسه غيرَ واعٍ للتغيير الذي حلَّ عليه، وغير منتبِه لعودته إلى نبرته المتفهِّمة الودودة القريبة للاعتذار. لكن كشفت زاويتا فمها الصغير المتمرد أنه ما من شيء يغيب عن ملاحظة الليدي فيرا.

اعترفت بمرح غير لائق: «يبدو أنها سيارتي. لكن لا تقل لي إنكَ تشكُّ في احتمال اختباء امرأة أخرى في منزلك لأن السيارة يمكن أن تُقِلَّ فردين، أم إنك تشكُّ في ذلك؟ لقد قدِمْت إلى هنا وحدي، بالسيارة التي عثرْت عليها. ولا أدري من سيقودها عائدًا إلى المدينة!»

نظر ديل-بولمر إلى دولار بتحدٍّ، وبرقت عيناه.

هتف: «أنا أعرف. أنتِ!»

هتفت: «أنا يا سيد ديل-بولمر؟ والأغلال في يدي؟»

كانت الابتسامة التي بدت على وجهها، والتي حاولت كبْتَها، ابتسامةَ امتنان وتقدير لتصرفه النبيل الخجول.

قال بخشونة: «لا تتفوهي بالهراء! سيارتكِ تنتظركِ عند الباب.»

قالت: «حقًّا؟»

أجاب: «بالطبع! فقد دفنتكِ بالحياة، أليس كذلك؟» وانتقلت عيناه من المقعد المحطَّم بجوار النافذة إليها. «ألا يتناسب هذا مع دور الضحية الذي تلعبينه دائمًا؟» وسرَت لمعةٌ في عينيه مرة أخرى.

كانت تلك آخرَ نفحةٍ من نفحات سخائه. شكرته المرأة، لكن لم تتسلل ابتسامة إلى شفتيها، إلا عندما خرجت من المكان؛ الآن صار لديها سببٌ للابتسام، بعدما ظهر انحراف سلوك هؤلاء النسوة، وهذا تطوُّر غير مستغرَب! ولا يعني هذا أنها كانت تسلِّم بهذا التحوُّل العنيف؛ بل على العكس، لقد قلبَت الطاولة عندما عرَضَت أن تعوِّض عن الأضرار التي ألحقتها بالمقعد. وأكَّدت أن الحزب العسكري كان سيحثُّه على أخذِ تعويض كبير من شركة التأمينات التابع لها لو كان منزله قد تعرَّض للحرق. وأجابها هو بأسلوبه الأفضل، كأنه كان أحمقَ عندما أعاق مساعيها: «حينها كنت سأبني المنزل الذي أريده حقًّا بدلًا من محاولةِ تشييد منزل معاصر من هذه القلعة المهترئة!»

ولكن لم يكن هذا هو أسلوبه الأمثل؛ فلم يكن معبرًا عنه، مثلما لم تكن الأنانية الهادئة التي أظهرتها السجينة المحرَّرة في الدقائق الأخيرة وهي تبحث عن قفَّازها، وعندما عجزت عن العثور عليه، مدَّت يدها العارية في براءةٍ وقحة، دون مزيد من عبارات الشكر اللائقة بضيفٍ يودِّع مضيِّفه.

حتى جون دولار داهمه شعورٌ بالإحباط فجأة، والسيارة الصغيرة المكشوفة تبتعد بجهد جهيد، خارجَ مرمى السمع والبصر، تقطع تحت قمم الأشجار البرونزية ممرَّ السيارات المختفي، أما ديل-بولمر فقد دار على عقِبه أسفلَ القوس التي تغطي المدخل.

هتف ديل-بولمر مواريًا انزعاجَه بضحكة خفيفة ذليلة: «أليس هذا مزعجًا؟ أنَّ فتاة مهذَّبة — إن كانت لا تزال هناك فتيات مهذَّبة — تتصرف كالشيطان وتؤدي دورَه كملاكٍ صغير من ملائكة النور! هذا ما أصابني بالاستياء … كيفية تنفيذها لهذا الدور! أردتُ أن أعطيَها نصيحةً أبوية، وأخبرها ألا تجعل من نفسها حمقاء شريرة. لكنها لم تبدُ مستعِدةً لقبول النصيحة، أليس كذلك؟ لم أجرؤ على سؤالها عن اسمها، هل سألتها؟»

أجاب دولار بنبرة منزعجة: «لا. ولا أدري لمَ سمحتَ لها بالذهاب»؛ لكن في اللحظة الراهنة شعرَ بالكراهية تجاه ديل-بولمر لمحاولته انتزاعَ كلمات الامتنان العادية على حساب محبوبته الغالية.

هتف الرجل الشهم: «لماذا؟ ألم تخمِّن كيف عثرتُ على سيارتها؟»

ردَّ الطبيب: «كيف؟»

أجاب: «أبلغتني الشرطة بوجودها!»

تعجَّب الطبيب: «الشرطة؟ أكانت هناك شرطة في المنطقة؟»

سرَت قشعريرة في جسد دولار كأن محبوبته الغالية لم تقف وراء القضبان قط.

قال ديل-بولمر: «لاحظتُ وجودَ شقيَّين بعد أن تركتك كي تسويَ الأمر مع الشابة. وفسَّرا حضورها بمسألة السيارة عندما خرجت من المنزل كي أتمالك نفسي؛ أقسما أنهما قدِما من سكوتلاند يارد بحجة البلاغ عن وجود سيارة عندما تظاهرت بعدم التصديق. لم أصدِّقهما حتى قدْتُهما إلى الكوخ ورأيتها بأم عيني.»

قال دولار: «وماذا حدث بعد ذلك؟»

أجاب: «أقسمت بالطبع أنها سيارة أحد أصدقائي، وصرفتهما.»

قال الطبيب: «ولم تخبِرها بما حدث من باب الشهامة؟» ولم يسَعه قولُ أكثرَ من ذلك؛ إذ منعته كياسته من الإفصاح عن شعوره بالإجلال.

هتف الرجل: «شهامة؟ ما كنتُ لأدَع هذين الشقيَّين يدخلان المنزل ويفسدان عليك عملك!»

ثم أحسَّ أنه هو من أفسد عمله؛ فأطرق برأسه الكبير مثل عجوزٍ ضخمِ الجثة؛ وأدار ظهره العريض باختلاجةٍ فريدة، ووقف يرتجف من رأسه إلى أخمصِ قدميه، في انتحابٍ فرِح. انضم إليه دولار بصرخة أشعرت كليهما بالارتياح. وصاحا معًا حتى قدِم البواب الهزيل إلى المكان، بوجهٍ ارتسمت عليه علامات الارتباك البلهاء، فاهتزَّت صلابتهما الواهنة بصدمة أخرى.

قال ديل-بولمر بصوتٍ متأوِّه: «إنه يعيش في أعماق المنزل. إنه لا يدري بما حدث على الإطلاق. ولو كان قد علِم بالأمر، لكنتُ اضطُررت إلى مضاعفة أجرِه. كما أنني … كما أنني أرغب في زيادة أتعابك لثلاثة أضعاف!»

عادت الجِدية إلى ملامحه مرةً أخرى وسط شعوره بتأنيب الضمير، لكنه لم يكن يُقارن بالجِدية التي أظهرها الطبيب في غضون دقيقة.

قال دولار: «أنا على استعدادٍ لأن أدفع المالَ لأحل محلَّه حتى صباح الغد! أعني ما أقوله يا سيدي العزيز. إن كنت تشعر بأنك مَدين لي بأي ترضية بسيطة، فدعني أفعل هذا، لأشعرَ بالرضا!»

قال دولار هذا، ونظر إليه الآخرُ نظرةً طويلة، كأنه التقى به للتو. لقد جاء طبيب الجريمة أخيرًا.

سأل: «أتريد قضاءَ الليلة هنا أيها الطبيب دولار؟»

أجاب: «نعم … بمفردي.»

سأل: «لكن لماذا يا صديقي الطيب؟»

ردَّ الطبيب: «لا يمكنني إخبارك بالسبب؛ فقط اسمح لي بالإقامة، إن كنتَ تثق بي!»

قال الرجل: «تعلم أن الأمر لا علاقةَ له بذلك.»

ردَّ الطبيب: «دعني أفعل ذلك إذن! هذا ليس من أجلك … ولن أتظاهر بأنه كذلك … ولكن ماذا لو كانت هناك محاولة ثانية لإحراق المنزل؟ حينها قد أستحق الأتعاب التي تحدثتَ عنها، وإلا فلا أستحق بنسًا واحدًا! ما كنتُ لأفوِّت القضيةَ لأي سبب حتى في وضعها الحالي. كما أنكَ سبقتني في استخدام العلاج الذي كنت سأصِفُه لك؛ لقد فعلت الشيء نفسه الذي كنت سأرجو منكَ أن تفعله، وأنا الآن أتوسَّل إليك أن تدَع المكان تحت مسئوليتي الليلة.»

سأل الرجل: «ألا تريد أن يصحبك الحارس ليعتنيَ بك؟»

أجاب: «لا أريد هذا الرجل بعينه! فقد خطرت لي فكرةٌ بسببه … إنه يماثلني في الطول والحجم … لذا يمكننا تبادل الأدوار على نحوٍ مثالي. أريد من الحارس أن يرتديَ قبعتي ومعطفي ونظارتي الواقية، ويرحل بسيارتي بعيدًا عن المكان، بحيث إذا كان هناك متلصصون، فسيظنون أنني غادرت.»

سأل الرجل: «لكن من سيتلصَّص على المنزل؟ أنتَ بالتأكيد لا تقصد تلك الشابة …»

قال: «لا سمح الله! لكن ربما أحدٌ من جانبها … أو ربما شخصٌ يلاحقها. أشعر بالفضول بشأن هذين المحقِّقين؛ لكنَّ المسألة كلَّها مليئة بالغموض؛ لذا فإني أتحرَّق شوقًا للتحقيق فيها في هدوء، دون أن يعلم أحد بوجودي. ليس هناك سبيلٌ آخر؛ وهذا هو المعروف الوحيد الذي يمكنك أن تقدِّمه لي يا عزيزي ديل-بولمر!»

أذعن الرجل الملتحي لطلبه كرهًا. كان يشعر أنه لو كانت هناك فرصةٌ ضئيلة للحصول على المزيد من الإثارة، فلا داعيَ لتنحيته، ولا سيما أنه مالك المنزل، وكان يعيش حياةً رتيبة، منذ أن أجبرته إجراءات حزب العمال والحركة النسوية على مغادرةِ أستراليا والعودة إلى وطنه. لكن الرجل القوي الإرادة بدا صادقًا غايةَ الصدق في ادعائه بأن ثمَّة سماتٍ للقضية يريد دراستها لأغراض شخصية ومهنية بحتة؛ وأنه لا داعي للقلق من الأشخاص الذين كانوا يُعتبرون في السابق خصومًا؛ لكن لا بد أن يكون شخصٌ ما على أهبةِ الاستعداد، وهو الرجل المنشود للقيام بهذه المهمة. بدا كلامه صادقًا؛ لكن لولا قلق دولار الغريب بشأن المسألة، واكتشاف ديل-بولمر فجأةً أن هناك حولًا بسيطًا في عينِه، لحصلت الخطة على الموافقة في وقتٍ أبكرَ. لكن انتهى النقاش بورود مكالمة هاتفية، في توقيت مثالي، من منزله المفروش في إيشر، تسأله عما إذا كان أيُّ شيء قد حدث له، وهل يفكِّر في الابتعاد عن باكس مونكتونز تشيس؟

وهكذا قاربت الساعة على الخامسة قبل أن يختليَ طبيب الجريمة بنفسه، في نهاية المطاف، في الكوخ البسيط الذي كان مزودًا بطعام وشراب أبسطَ من الكوخ نفسه، لكن كانت كل زاوية وشبر من القصر الريفي تحت تصرُّفه حتى صباح اليوم التالي. وقد تميَّز الموقف بالجاذبية التي تتَّسم بها كلُّ مناوبات الحراسة المنفردة؛ وحتى لو كان من المرجَّح ألا يكون ثمَّة نفعٌ يُرجى من تلك المناوبة، فإن تأهُّبه المستمر لوقوع أحداث شائقة، يجعل الموقف مثيرًا أكثرَ من الإثارة نفسها. كما أن المسألة كلها كانت تروقه بشدة؛ وليس ثمَّة ما يشفي غليله مثلها؛ وعلى الرغم من تطلُّعه لقدوم الليل، وما قد يجلبه الليل من أحداث، إلا أنه لم يحتَلْ للبقاء في المنزل الفارغ لهذا السبب وحدَه. بل كان الجزء المتبقي من النهار هو ما دفعه للبقاء، لِما يوفِّره من إمكانية إجراء تحريات منهجية.

فور أن انغلق الباب الأمامي خلف ديل-بولمر، ورحل السائقان ومعهما الحارس النحيف المُدثر بملابسه في سيارته، بدأ جون دولار تحرياته بحذر، مثل بحَّار تُرك على جزيرة مهجورة، يتحسَّس طريقه مخافةَ أن يهجم عليه أحد. ابتعد السائقان عن البناية المتلاشية، التي بدت موحشةً للغاية وسط الغسق، وخرجا من مرمى السمع والبصر دون أن يتبعهما أحد. لكن سرعان ما بدا للرجل الذي بالداخل وكأن المنزل كلَّه يُصدِر دندنةً متواصلةً بصمته المُطبق، وأنفاس الرجل الهادئة مثل صوت مزعج خشن يخترق هذا الهدوء الممل.

شرع في بحثه بتفتيش الغرفة غير المؤثَّثة التي كانت ستُضرَم فيها النيران. ممَّا لا شك فيه أنها نجت من عملية الحرق المدمِّرة بأعجوبة. ولربما كانت هذه المحاولة ستصبح ناجحة على نحوٍ شيطاني قاطع؛ إذ كانت السقَّالات مثل أعمدة في موقد ضخم؛ ومنظم الهواء هو العارضات المكشوفة بعد نزع الأرضية؛ وتكوَّنت المدخنة الطبيعية من بئر المصعد المجاور، الذي كان على ارتفاع شاهق، ما يجعل السلالمَ العادية تقصُر عن الوصول إلى بسطة الدَّرج … كانت كلُّ هذه الأشياء مثل المنفاخ والمصطلى، مع توافر أفضل وقودٍ للإشعال. وها هو ذا شَعر الحلاقة مجموع في كومة منظَّمة، وأعواد الثقاب نُثرت في اللحظة الأخيرة؛ بينما انهمك دولار في إعادة أعواد الثقاب إلى الصندوق، تاقت أنامله للمعرفة التي ربما كانت ستكتسبها من تلك الأعواد التي أمسكتها، للحقيقة الكاملة حول اليد المذنبة التي تركت علبة الثقاب تسقط على الأرض.

كانت الحقيقة الكاملة هي ما يسعى للوصول إليه، وهو جالس على ركبتيه في الرُّكام بين العارضات؛ انهمك في التفتيش عن حقيقة جديدة، لا تزال غير مُدرَكة باعتبارها اكتشافًا ملموسًا، وقلبه مفعم بالأمل علَّه يجدها ويقارنها بالحقائق الأخرى التي لا خلافَ عليها. الحقائق لا يمكن أن تكون كاذبة، لكنها قد تكون مبالغًا فيها؛ من المؤكَّد أنه، في مكانٍ ما، يوجد شيء يخفِّف من جِدية الجريمة، أو يسوِّغ هذه المحاولة الشنيعة، وليت الجدران الصامتة تتحدَّث دفاعًا عن التي لم تدافع عن نفسها على الإطلاق!

كان دافعًا طفوليًّا، أو تلهفًا في غاية الصبيانية لإبطالِ ما حدث، لكن هذا كان منشأ تلك الرغبة الشديدة في البقاء بالمنزل مهما كلَّف الأمر. ثم راوده شعور خافت، مثل ألمٍ خفيف؛ تحوَّل الآن إلى قناعة شديدة وثابتة، بأنَّ ثمة سرًّا لا بد من إماطة اللثام عنه، وأنه هو الرجل المنشود للتوصل إلى ذلك الأمر؛ وأنَّ لدى واحد من تلك الجدران ما يفصح عنه له، وله وحدَه.

لكنه لم يكن أيٌّ من أسطح الطوب والمِلاط الجديدة التي كانت بحاجة إلى طبقة دهان أولية؛ لم يكن تحت السقف المرتفع للصالة البارونية الهادئة حيث لم تُترك للبَنَّاء حرية التصرُّف، كما لم يترك أي متطفل أثرًا خلفه؛ ولم يكن في الغرفة المستديرة الممتلئة بأول دفعة من أثاث ديل-بولمر، ولا بأي موضع في الطابق الأرضي، على الرغم من الحكاية التي ترويها نافذةُ غرفة غسل الأطباق بصوت يصمُّ الآذان. من هذه النافذة دخلت النساء المحاربات، بعد كسر لوح من الألواح، مثل اللصوص المحترفين. وهربن على الفور دون ضابط عبْر الباب. لكن ماذا فعل النسوة غير ذلك؟ وإلى أين اتجهن تاليًا داخل حدود هذه الجدران الصامتة على نحوٍ تهكمي؟

هل ذهبن إلى الطابق العلوي قبل أن تركض فيرا مويل صاعدةً السلَّم الخشبي؟ عاد دولار إلى تلك البقعة التي كان يمكن منها استنتاج بعض الأمور، وصعد بخطوات حذرة، في غاية الحزن على شجاعتها التي أساءت استغلالها. كانت الفجوة بين أول درجة والبسطة الجديدة مُزعجة بالنسبة إليه على الرغم أنه أطول من المرأة الحمقاء الضئيلة بحوالي قدم على الأقل. يا لها من حمقاء ضئيلة! كانت هذه طريقة جميلة للتفكير بها حتى في الوضع الراهن؛ لكن كانت هناك طريقة أخرى أسوأ؛ لكن لا تزال هناك طريقة أفضل تطارده بشكل غامض، سرعان ما انكشف في الغرفة التي رآها فيها بشحمها ولحمها. شعر أنه يمكنه رؤيتها هناك مرة أخرى. لم تواجهه مثل امرأة حمقاء لكن كبطلة، ليسامحها الرب! ذهب عنها تجهُّمها بشأن احتجازها المرعب تحت مقعد النافذة! ولم تفقد كبرياءها للحظة حتى بعد ما حدث؛ كما لم تفقد ثباتَ أعصابها ولو لثانية. كانت تقف بشموخ وتلتمع عيناها في ظل قبعتها الصغيرة اللعينة!

هنا، تحديدًا، كان قد رآها تتطلع من تلك النافذة إلى الضيعة، ثم تتسلَّق عيناها المنزل في هذا الجانب، وتتغلَّب على حاجز الأمواج للسياج المطموس أسفله مباشرة، حيث ينبسط الشراع المورق على آخره. كان هناك ظبيٌّ على مسافة بعيدة وطيور السنونو تتحرك بسرعةٍ أمام النافذة، كبكرات النول تغزل المشهد بالحرير، وتعيد الصورةَ يابسةً خصبة. لكن السماء الرحبة كانت لا تزال مثل سماء البحر، وكانت قد سطعت مرةً أخرى مع اقتراب المساء؛ وصار للسُّحُب حوافُّ فضية، بينما انتشل جون دولار نفسه من هذا المشهد الساحر.

كاد ظلام الليل أن يرخيَ سدوله، عندما عاد دولار من المنزل منتشيًا، بملامحَ يبدو عليها البِشر والسرور، ووجهٍ كاد من نوره أن يضيء قبرًا معتمًا. كانت يداه تقبضان على قفازين صغيرين نقيَّين، لم يكن من الصعب العثور عليهما ولا من السهل تحديد مالكتهما الضئيلة المحبوبة. لكن ذلك لم يكن كل شيء. باح جدار بكلام، في كتابةٍ أزالها أحدهم على عجل، وحكى المرحاض حكايةً أبلغ من السابقة!

بعد مرور ساعات، كان أثرُ الحديث لا يزال على الجدران، يبعث موسيقاه العذبة عبْر الممرات، ويملأ الغرفة الكريمة بعزفٍ مبهج، للرجل المسحور الجالس على المقعد المكسور بجوار النافذة، في ظلمة الليل الساكن. ربما كان في السماء قمر؛ لم يكن يعرف. ربما كان ثمَّة تحرُّكات خفية، في نظامٍ يتسم بتباعد الأفراد على مسافة كبيرة — بالاختباء خلف أشجار متباعدة — وتوحيد للقوى هناك في الظلمة، التي لم تكن ظلمةً حالكة لمن اعتاد عليها. لكن دولار كان قد أمضى ساعاتٍ يتأمَّل بعمق في ذاته، الأمر الذي أغشى بصيرته حتى إنه ما كان ليرى أيَّ شيء لو تطلَّع إلى خارج ذاته؛ كان قلبه لا يزال يغني أغنيته الخاصة بصوتٍ عالٍ حجَب عنه جميع الأصوات بالطابق السفلي، حتى حدثت جلبة كافية لإيقاظ نائم لا حالم غارق في أحلامه.

حتى حينئذٍ كان لا يدري ما الذي دفعه فجأة للنهوض على قدميه اللتين تسلل الخَدَر إليهما، لكنهما كانتا أقل خَدَرًا من عقله السابح في فرح داخلي لا نهائي بسببِ ما اعتقد أنه اكتشفه مع قفازَي حبيبته الغالية. كان لا يزال قابضًا على المخلفات المقدَّسة بيده، ويتمسك في قلبه بذلك الاعتقاد العزيز، عندما نبَّهته أصواتٌ أعلى بمهمته تجاه الأحياء. كانت أصوات أشخاص تتردَّد في المنزل الفارغ. فنزع حذاءه، وسار ببطء إلى الباب، قبل أن يفتحه بهدوء شديد ويقف مرخيًا السمع في فزع شديد. تبيَّن أنها أصوات نساء مصحوبة بأصوات أقدام نساء تركض على الأرض!

في غمضة عين، لكن بحذرٍ غريزي، وصل إلى بسطة الدَّرج. وهناك، تحديدًا، انتهى حُلم يقظته الجميل بصحوة مقيتة كالكابوس؛ إذ كانت امرأة تقف على البسطة القابعة في منتصف شعبتَي الدَّرج المنفرج؛ كانت تقف في تحفُّز كأنها في نوبة حراسة؛ والتمع شعرها بأشعة القمر الفضية المتسللة من نافذة الدَّرج، واحدودب كتِفاها بتركيز، لكن رأسها مال جانبًا، كأن شيئًا استرعى انتباهها بغتةً، وبانت في ضوء القمر القبعةُ المميزة اللعينة لليدي فيرا مويل.

سقط قفازها من بين يديه. أسمعت صوتَ سقوطه؟ بدا أنها سمعته؛ لم يملك الشجاعة للتأكد. بل لم يملك الشجاعة لمواجهتها وانتقادها قبل البقية … وهي في أسوأ حالتها كطرَفٍ غيرِ فعَّال في الجريمة … في الوقت الذي كانت رفيقاتها الأكثر إجرامًا منهمكاتٍ في مهمتهن الوضيعة بالطابق الأرضي. كان السلَّم الخشبي هو وسيلته الوحيدة! يمكنه ترويعُ هؤلاء النسوة أولًا، دون أن يضطرَّا، هو وهي، إلى المواجهة مطلقًا. إنه يفضِّل ألا يلقاها أبدًا عن أن يلقاها في هذه اللحظة الحاسمة الشنيعة! كان يفضِّل الموتَ نفسَه عن موت حُلمه!

تسبَّب الرجل في فرار جماعي، وهو يعود إلى بسطة السلَّم بخطواتٍ واسعة ثقيلة، وصاح بصوتٍ عالٍ وهو يفرِّق «النسوة الأبالسة». هذا هو اللقب الذي أعطاهن إياه في أثناء ركضه؛ إذ جررن معهن امرأةً ملائكية لهذه الجريمة. سمعته النسوة، وسمع هو أيضًا … وقْع خطواتهن المتعجِّلة الحادة في أثناء فرارهن السريع.

هذه المرَّة، كان بوسع النسوة الهرب؛ لم تخفق محاولتهن الثانية كالأولى. كانت بسطة الدَّرج الجديدة مثل مشواةٍ على الوهج المرتعش الذي انبعث من بئر الدَّرج بالأسفل. ألقى دولار بجسده كلِّه على الحافة … فتدلَّى من إبطه … وتأرجح في مكانه ممسكًا بالسلَّم مثل صبيٍّ يقف على شريط أفقي وتحته حشية. لم يجد الدرجة العلوية على الفور في اندفاعه المتهور؛ ثم تعيَّن على يديه تبادُل الأماكن مع قدميه؛ وكانت مهمةً خطرة لجسدٍ غير خفيف الوزن، في خضم الإثارة، فوق قمة السلَّم المتأرجح المتمايل مع الهواء. لكن طيشه هذا أوصله بطريقةٍ ما للأسفل، دون كسور في عظامه، وعلى عتبة الغرفة المحترقة قبل أن تلتهمها النيران كاملة. ولم يقتحم الغرفةَ على الفور؛ وقف هناك في إحجام بسبب الضوء الأحمر الذي كان يشع بالداخل.

وذلك لأنه، مجددًا، تخلَّفت امرأة واحدة عن بقية النسوة؛ ومن خلال أعمدة السقَّالات الكثيرة، ودُوَّامة الدخان والبخار، رآها في ضوء الوهج الذي ينطفئ بيدها، تحت هسيس زخَّات مياه تُلقى يمْنة ويَسْرة، في دوائرَ وحلزوناتٍ متلألئة، كما يسقي البستاني الأعشاب في هدوء. كان هذا حُلمه بالضبط، يتحول إلى حقيقة في النهاية! وقف دولار هناك يتحاشى النظر إلى وجه فيرا مويل من شعوره بالخجل … بعد أن خشيَ لوهلة أن يكون ما يراه مجرد حُلم!

لكن الزَّخات الأخيرة سُلطت عبْر الظلام والدخان إلى عتبة باب الغرفة عند قدميه، وهتف صوتٌ خالٍ من المشاعر: «أراك بوضوح! رأيتك بالطابق العلوي؛ تعالَ وأخبرني عن سبب فرارك.»

لم يفرِّط في ثانية للالتفاف حول النيران. وذهب إليها مباشرةً عبْر الشرارات والشظايا في جوربه، ولم يعُد يشعر بالألم وغمرَته راحة، عندما وقف بجوارها على ألواح الممر الباردة، تعانق يداها يديه.

دمدم قائلًا عبْر الدخان: «ربما أكون قد توقَّعت ذلك! بل ربما أكون قد عرفته من البداية!»

ردَّت الليدي فيرا بصوتها الحاد الخالي من المشاعر: «من سوء الحظ أنك عرفت كل شيء. بصراحة، لا أفتخر بذلك.»

سأل دولار: «ألا تفخرين بإحباط جريمة وحشية؟»

هتفت السيدة بانفعالٍ أكبرَ لم يشهده منها من قبل: «لا أفتخر بخيانة رفقتي السابقة، ولم أخُنها أيضًا. أشعر بكل حرفٍ قلته بالأعلى. أرى أننا نتلقى معاملةً أكثرَ دناءة من ذي قبل. ولا ألوم النساء أدنى لوم على إقدامهن على هذا …»

قال: «أنتِ تخونينهن بالفعل يا فيرا … أنتِ تعرفين ذلك!»

أجابت: «لا أفعل! كيف يمكنني ذلك؟ ربما أظن أنهن يبالغن كثيرًا، وربما أحبطتُ مخطَّطهن …»

قال مبتهجًا، وهو يشدُّ على يدها، دون أن يدريَ أنه يؤلمها بهذه الطريقة: «هذه ليست المرة الأولى!»

قالت، بضحكةٍ مفاجئة تهدَّج لها صوتها: «ذلك شأني وحدي. هذا أقلُّ ما يمكنني فِعله … بعد ما حدث منذ عامين.»

أسرع هاتفًا: «وكنت أعرف ما فعلتِه. عرفته قبل ساعات، وإن كنتِ قد قذفتِ الرعبَ في قلبي مرة أخرى للتو. عثرتُ على خرطوم المياه في المرحاض، مع قفازك، ورسالة النسوة البغيضة التي أزلتِها من فوق الحائط! عرفت أنكِ أنتِ من وضعتِ الخرطوم؛ لأنه كان قد قيل لي إنه لم يكن يوجد أحد في المنزل. لكنني كنت أبحث عن شيءٍ من هذا القبيل. عرفتُ أن ثمة دليلًا في مكانٍ ما، وأن الأمر لم يكن كما يبدو. ومنذ ذلك الحين كانت تلك أسعدَ ليلة في حياتي، وغطَّت على أتعسِ ساعة خبرتُها من قبل!»

قالت الليدي فيرا بضحكةٍ خفيفة أخرى: «سأعيدك بالسيارة إلى المدينة لأعوضك عما حدَث. أنا … أنا آسفة لأنني لم أخبرك بذلك بعد ظهيرة اليوم.»

قال: «أما أنا فلست آسفًا!»

قالت: «نوعًا ما لم أشعر أن ذلك منصفٌ للبقية وإن كنت، بالتأكيد، آمُل أن تدرك أنني ما أتيت بعدهن إلا كنوع من الترويع. لا أدري بالطبع إن كان سيذهب عنك البؤس قليلًا على الأقل إن صرتَ …» وتوقَّفت عن الكلام.

سأل: «إن صرتُ ماذا؟»

هذه المرة كانت هي من تناولت يديه بسرعةٍ أكبر … عبْر هوَّة من الظلام مثل حائط صلب … وعانقتها بحنان ذكَّره بأنه لا يوجد شيء آخر … لكن بوجهٍ مشرقٍ أكثرَ قربًا من العناق.

همست: «إن صرت على الأقل أسعد قليلًا، عجبًا، بالتأكيد كانت خطتك فحسب، أيها الطبيب، التي حاولتُ تنفيذها!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤