٣

خرجت في الغروب، ترتدي بلوزة قطنية، مزينة بورود صغيرة، وبنطلونًا، وحذاءً خفيفًا، تحمل في داخلها شوارع الحي، واختلاط مشاعر الحنين والشوق واللهفة. تعد نفسها لرؤية ما خلفته في أعوام ما قبل السفر، اقتصرت رؤيتها، أو كادت، خلال السنين الماضية، على الجبال الصخرية والخلاء والخيام، ما يغيب في القاهرة.

قالت شوقية سالم: هل كنت ترتدين هذا الزي في مسقط؟

قالت هالة: العُمانيات يرتدين العباءة، ونحن نرتدي ما لا يخرج عن الحشمة.

الزحام في سوق نور الظلام بمطرح — لم تسأل عن التسمية إن كانت عمانية، أم من الوافدين — تشعر أنها في التربيعة والخيامية والموسكي والحمزاوي، الشوارع التي اعتادت السير فيها بمفردها، أو مع أمها، وأحيانا مع صفاء. هو الزحام نفسه في شارع محمد علي. الاختلاف في نوعيات البشر، المرة الأولى التي رأت فيها هذه الأعداد من السحن واللهجات والأزياء، الجلباب، والعباءة، والدشداشة الخليجية، والبدلة، والسفاري، والجلباب القصير السوداني. خليط من الخليج ومصر والسودان والبنغال والهند والفلبين وكوريا، بلاد كثيرة ينتمي إليها السائرون في السوق. البضائع تشمل ما لم تجده في أسواق القاهرة؛ السجاد الشيرازي والكاشاني والتبريزي، المصنوعات النحاسية والفخارية، مشغولات الفضة والذهب والملابس التقليدية، الأثواب، القماش المتعدد الألوان، الملابس الداخلية، أحذية جلد التمساح، الخناجر الفضية المطعمة بالأحجار الكريمة والشيلانات والسبح والساعات والأقلام وبضائع أخرى، كثيرة، من بلاد الدنيا.

حاولت — وهي تعد أيام إقامتها في مسقط — أن تطبع كل ما تراه في ذاكرتها، تستعيده إن جاء التذكر، أو ناوشها الحنين. أبطأت خطواتها في الأرض الترابية، معظم البيوت على جانبيها من طابقين، الحارات الضيقة، المسقوفة، البيوت القديمة، الظلمة الشفيفة، رائحة البخور، المصاطب — أمام الدكاكين — يجلس عليها التجار والزبائن، وتصف البضائع، تتوقع أن تلتقي هارون الرشيد وعلي بابا والسندباد ومعروف الإسكافي وعلاء الدين وشاه زمان ومرجانة وقاسم وبودان وزمرد وسلطان جزر الهند وشواهي ذات الدواهي والجارية تودد وشخصيات أخرى غيرها، قرأتها في ألف ليلة وليلة.

تأتي إلى بالها — كالأصداء — أيام المناصرة، الصباح والظهيرة والعصر والأصيل والمغرب والسهر حتى مطلع الفجر، صوت المناشير، دقات الشواكيش، رائحة الغراء، النداءات، الدعوات، الموسيقى والدندنات المترامية عبر النافذة، حتى خناقات أمها وأبيها ترف على شفتيها ابتسامة لتذكُّرها.

وهي تميل من محمد علي إلى السوق، شعرت أنها في سوق مطرح، الباعة والبضائع وزحام الزبائن، أعادتها اللهجات المغايرة، واختفاء العباءات والدشاديش والخناجر والحرير والشاهي، والصناديق المطعمة بالصدف، إلى ما هي فيه، أدركت أن المكان تشابه عليها، هي الآن في الموسكي، تلحظ تبدل خطواتها، تفارق التعثر، وتوقع النظرات الغريبة.

مضت في شوارع المناصرة الضيقة، الملتوية، والمتقاطعة، يخترقها إحساس بالحزن، وبالفقد، لكنها تنبهت إلى إحساس مغاير، كأنها نفضت عن نفسها عبئًا، كأنها استردت شيئًا غاليًا، تستعيد ملامح افتقدتها على أبواب الدكاكين، وفي النوافذ.

الزيارات المتباعدة، القليلة، إلى المناصرة، تركت — في ذاكرتها — كل شيء على حاله. عدا التغييرات التي لاحظتها، فإن الناس هم هم، من اعتادت العيش بينهم، تلاشى الخوف من ألَّا تعرفهم، حتى الذين غابوا والجيران الجدد لم يبدلوا الصورة القديمة.

تحرص، فلا تتلفت، لا تحول نظراتها إلا إذا تنبهت لاسمها في نداء من نافذة. ترد التحية، أو تتبادل حوارًا سريعًا، وتواصل سيرها.

هيأت ذاكرتها — في سني الابتعاد عن المناصرة — لتلاشي صور البيوت والمحال والشوارع والتقاطعات، ما اعتادته عيناها.

تشرد في التذكر. هل يتذكرونها؟

أطفال يلعبون، ولدوا في سني غيابها، تشي نظراتهم بأنهم يعرفونها، من بينهم أبناء عمومة وخئولة، المهنة الواحدة استدعت المصاهرة، وفرضت القرابة. ثمة سكان يطلون من النوافذ، يقفون على أبواب البيوت، وفي الورش الصغيرة.

المشهد أمامها لم يعد — كما كانت تراه من قبل — واحدًا، غاب التشابه، توالي الأيام ميز الملامح والتفصيلات الصغيرة.

هي الشوارع نفسها التي سارت فيها من قبل، وعرفتها جيدًا، الشوارع الضيقة، والمتقاطعة، تأملت البنايات والدكاكين واللافتات ومناشر الغسيل وما فوق الأرصفة. كل شيء على حاله، وإن خالط التذكر شيء ما، كأنها ترى ما حولها للمرة الأولى، تبينت الكثير من التفصيلات التي لم ترها من قبل.

لم تعد طوابق البيوت ولا شرفاتها ولا نوافذها بما ألفت رؤيته قبل أن تسافر في أولى رحلاتها. اعتاد سمعها مفردات: القادوم، الشاكوش، الأزميل، الفارة، المثقاب، السنفرة، المنشار، المطرقة، الزردية، الكماشة، السنيك، المتر المعدني، علبة المسامير، اعتادت وشيش وابور البريموس، ورائحة الغِراء والجملكة، واعتادت تشمم رائحة القلي في مداخل البيوت، والنسوة على العتبات ينشغلن بتنقية الأرز في الصواني الكبيرة، وبتقشير الخضر، ويتبادلن الأحاديث.

تغيرت الملامح والقسمات، تبدلت تمامًا. ران التغير حتى على الوجوه والتصرفات، وفي الدكاكين التي استبدلت بالطوابق الأولى دكاكين امتلأت بقطع الأثاث الجاهز، وما يعد للتجهيز، اختلاط روائح النشارة والغراء والأستر والكارينا.

أدركت — بتعرفها إلى الوجوه التي لم تكن رأتها من قبل — أنهم يسكنون البيوت الجديدة، الطوابق التي علت بها البيوت القديمة، من وقفتهم — بثياب النوم — على الأبواب، وفي النوافذ. حدست أنهم غير طارئين على المناصرة.

أغمضت عينيها، تستدعي مَن ألفت وجودهم في مشوارها اليومي بين البيت وشارع محمد علي: الخالة أم جمالات ساكنة الطابق الأول — أزيل ليحل محله دكان موبيليا — في استنادها إلى إفريز الشرفة بنهديها الكبيرين، يلامسان ذقنها المتهدل، أم حبيب بائعة الفجل والكرات والبقدونس في انحناءة درب المهابيل، جلسة الولد شكور على سلم جامع الشيخ منصور، يمضغ بين أسنانه ما لا تتبينه.

رحل من كانت تعرفهم. حل بدلًا منهم ناس آخرون، هم الآن جيرانها الجدد، أو أنها — بعد سني الغياب — جارتهم الجديدة.

بنايات جديدة، قليلة، حلت في مواضع بيوت تهدمت، بقية البيوت على حالها، وإن اختلفت الطوابق الأرضية في تحولها إلى دكاكين ومخازن ومعارض موبيليا. اختفت نوافذ الطوابق الأرضية، واحتل الأثاث والكارينا وألواح الخشب مداخل البيوت بما يعيق حركة الصعود والنزول. تابعها اختلاط أصوات فتح أبواب وإغلاقها، وأصوات منفردة لآلات موسيقية؛ كمنجة، ناي، ساكسفون، ونداءات، وضحكات مكتومة، وصرخات، وشتائم، وصرير عجلات يد، وتلاقي الأذان من المساجد والزوايا القريبة. على الجانبين ورش النجارين والخراطين والصناديقية والأويمجية والقشرجية والأسترجية والمذهباتية والكرسجية والمنجدين.

سألت عن عطية.

مالت من سكة المناصرة إلى درب الفحم. خطوات، ثم مالت ناحية درب الدقاق، طالعها البيت في انحناءة الطريق إلى الدرب، طوابق ثلاثة، شغل الطابق الأرضي دكاكين، متلاصقة. أشار الرجل في المعرض المواجه إلى المدخل في الشارع الجانبي.

صعدت على السلم، بلا منور يطل عليه، أضاء السكان — في توالي الطوابق — لمبات خافتة، تساعد على تبين الدرجات. تسللت إلى أنفها روائح مياه الغسيل والتقلية والخبز والدهن والبصل والدخان. أصوات شارع بورسعيد تترامى من النوافذ المفتوحة.

ومضت صورة البيت المطل على شارع السلطان قابوس، هدوء فرضته المسافة الفاصلة بين سكن المدرسات، والشارع، وقلة المارة.

البناية أقرب إلى المدرسة: الساحة المتربة والحجرات المتلاصقة في الطابقين المتقابلين، والطرقة الدائرية، والأصوات كالهسيس، يصعب تمييزها.

تلقي السلام على عم مرهون الحارس، وهي تدخل البيت، أو تخرج منه.

أهملت — في البداية — تسلل الملل إلى نفسها من رتابة الأوقات، ما يحدث في يوم، يتكرر حدوثه في الأيام التالية: الصحو، الوقوف في الطابور أمام الحمام، الصعود إلى الباص، الدوام المدرسي، غالبية وقت بعد الظهر تقضيه في السكن، عدا النزول إلى روي أو مطرح لشراء احتياجاتها. تعلمت ترتيب سريرها، غسيل ملابسها، وكيها، إعداد طعام تعلمته من خالتها. قدوم الليل يعمق إحساسها بالوحدة.

أصعب اللحظات عندما تتناوب دورة المياه، كل واحدة تدس قدميها في شبشب منزلي، وتضع على ذراعها فوطة، وتنتظر دورها. مها الصبان تحرص على الحمام الساخن كل صباح، لا تستبدل به المياه الباردة أوقات الصيف. ميسون النداف تهمل ملاحظات المدرسات بأنها تترك باب دورة المياه مفتوحًا، تعتذر بالخوف من الأماكن المغلقة.

لم تعد حياتها تقتصر على المدرسة وسكن المدرسات. إذا نزلت إلى سوق مطرح، أو سوق روي، أو ضاحية السيب، فساعات الغياب محددة، تحاسبها مشرفة البيت على الدقائق الزائدة. تلمِّح برفع مذكرة إلى وزارة التربية والتعليم. الحال في القاهرة يختلف، نزلت — بمفردها أو مع عطية — إلى شوارع وسط البلد، قضت سهرة في الحسين، شاهدت فيلمًا لعادل إمام في سينما راديو، تمشت على شاطئ الكورنيش، أدركت — من طول الحياة في الغربة — فرق الحياة في مسقط، والحياة في القاهرة.

فطنت إلى أنها تحيا في بلد بعيد، مع غرباء لم تلتقِ بهم من قبل، ولا تعرفهم.

تلفَّع الشارع بالظلمة، عدا أضواء شاحبة، متناثرة، تسللت من خصاص النوافذ.

لاحقها شاب بالقول: يعز عليَّ أن تسيري بمفردك.

وغمز بعينه: ألا تحتاجين رفقة؟

أومأت لعبد الستار صبي الأسترجي في انشغاله بتقليب الغراء، وواصلت السير.

تناهى — من خلفها — صوت صفعة، لحقتها صرخة مؤنبة: شياطين المناصرة انتهت أيامهم.

أجهدها السير في مساكن الوطية، كرهت المكافأة التي يتيحها استبيان وزارة الشئون الاجتماعية. سلاسل الجبال كأنها بلا نهاية، تتناثر قطع الغسيل، وقطعان الماعز، وألق الشمس ينعكس في الصخور حرارة لاهبة.

جذبها الولد من ذيل فستانها.

قالت مداعبة: أنت شيطان.

عَلا صوت السيدة بنبرة غاضبة: ابني ليس شيطانًا.

قالت مهونة: أداعبه!

قالت المرأة في غضبها: تسمين الشتم دعابة؟!

نسيت!

لم تصادف في مسقط ما اعتادته من المعاكسات، تمشي — متمهلة — في شارع روي، أو سوق مطرح، أو منطقة السيب، لا تتوقع مجرد سؤال. ربما تتسلل النظرات، تتباين في درجاتها بين تعدد الجنسيات، لكن الأفواه تظل صامتة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤