الفصل العاشر

عشرون عامًا من الفشل

في نوفمبر عام ٢٠١٥، نشرت منظمة السلام الأخضر تقريرًا يحمل عنوان: «عشرون عامًا من الفشل: لماذا فشلت المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا في الوفاء بوعودها». جاء في التقرير: «على الرغم من مرور عشرين عامًا على الترويج لصالح المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا من جانب جماعات الضغط الصناعية الكبرى، استولت حَفنة صغيرة من الدول على تكنولوجيا التعديل الوراثي، من أجل حفنة من المحاصيل.» ويضيف التقرير أن ثلاثة في المائة فقط من الأراضي الزراعية في العالم مُستخدَمة لزراعة المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا، وأن الغالبية العظمى من مساحة الأراضي المخصصة لهذه المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا تقتصر على سِمتَين فقط: تحمُّل المبيدات الحشرية ومقاومة الحشرات. ويشير أيضًا إلى أن المستهلكين الأوروبيين «لا يستهلكون الأغذية المُعدَّلة وراثيًّا»، وأن ثمة نوعًا واحدًا من الذُّرة هو المحصول الوحيد المُعدَّل وراثيًّا المزروع في القارة بأكملها، ليختتم بنبرة تَشي بالانتصار: «معظم الدول الآسيوية خالية من المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا، باستثناء مساحة زراعية في الهند والصين يُزرع أغلبها بمحاصيل غير غذائية، مثل القطن. وثلاث دول أفريقية فقط هي التي تزرع أي محاصيل مُعدَّلة وراثيًّا. ببساطة، المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا لا «تُطعِم العالم».»

الجزء الوحيد الذي أختلف معه فيه هنا هو الزعم بأن ثلاثة في المائة فقط من الأراضي الزراعية بالعالم تُستخدم لزراعة المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا. في الواقع إن أحدث الأرقام هي ١٢ في المائة من الأراضي الزراعية حول العالم، بما فيها نحو نصف الأراضي الصالحة للزراعة بأمريكا كلها.1 أما باقي التقرير فهو صحيح تمامًا. غير أن ما أغفل مُعدُّو التقرير التنويه إليه أن ما اعتبروه إخفاقًا ملازمًا لتكنولوجيا التعديل الوراثي قد يُفسَّر جزءٌ منه على الأقل بأنه نجاح واضح وصريح لمنظمة السلام الأخضر وآخرين معها في التصدي لهذه التكنولوجيا. ففي مغالطة استدلالية واضحة، تصرح منظمة السلام الأخضر قائلة: «هذه التكنولوجيا التي حاربنا من أجل التصدي لها على مدى العشرين عامًا الماضية لم تحقق نجاحًا كبيرًا حتى الآن». بدايةً من عام ١٩٩٦، كما أوضحت في موضع سابق من هذا الكتاب، قادت منظمة السلام الأخضر حملة عالمية لعرقلة انتشار المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا وتطويرها. وقضت العقدين التاليين في محاربة أي محاولة تقريبًا لإدخال الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا إلى أي مكان بالعالم. والآن، وفي مثال نموذجي للنبوءة ذاتية التحقُّق، تعكف منظمة السلام الأخضر على إعداد تقرير بعنوان «عشرون عامًا من الفشل»، تزعم فيه أن الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا لم تفِ بالوعود التي كانت معلقة عليها يومًا ما. وهو المطلوب إثباته. ربما يكون هذا تقريرًا سنويًّا لمنظمة السلام الأخضر.

لقد قدمت أمثلة عديدة في هذا الكتاب توضح إلى أي مدى نجحت الحركة المناهضة للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا في التصدي لاعتماد هذه التكنولوجيا. وكما تشير منظمة السلام الأخضر، لقد حُرِمت مناطق كاملة على مستوى العالم من الفوائد المتوقعة من التكنولوجيا الحيوية، وانتشر عدد قليل فقط من محاصيل السلع الأساسية بسلالاتها المُعدَّلة وراثيًّا بنجاح. فلم تُحظر محاصيل كاملة مباشرة — مثل القمح والبطاطس والأرز — بسبب دعاة الحملات النشِطين والخوف الجماهيري الأوسع نطاقًا فحسب؛ وإنما ارتفعت أيضًا تكاليف التكنولوجيا بأكملها ارتفاعًا مهُولًا بسبب الحاجة إلى تجميع ملفات ضخمة خاصة بالإجراءات الاحترازية من أجل الجهات التنظيمية الرقابية في كل دولة، وفترة الانتظار الطويلة — التي تمتد من سنوات وحتى عقود — اللازمة لطرح البذور الجديدة في السوق. وهذا يعني أن محاصيل السلع الأساسية المنتشرة في الأسواق الجماهيرية على مستوى العالم والأكثر رِبحيةً هي فقط التي تستحق أن تستثمر فيها شركات التكنولوجيا الحيوية، بينما تم تجميد كَمٍّ ضخم من الأفكار والتطورات الواعدة أو محوُها كليةً.

لا تستطيع الجهات الفاعلة غير المؤسسية — مثل وكالات الأبحاث النباتية التابعة للقطاع العام والمؤسسات الأكاديمية — الحصول على موافقة الجهات التنظيمية الرقابية على أفكارها؛ ومن ثَم ظلت الابتكارات الواعدة قابعة على أرفف معامل الجامعات أيضًا. فالأمر لا يستحق أن يُضيع أي شخص سنواتٍ من عمره لتطوير محاصيل مُعدَّلة وراثيًّا من أجل سوق المحاصيل البستانية الصغيرة. ومن ثَم، فالحُجة التي يسُوقها كثيرٌ من دعاة الحملات بأن الهندسة الوراثية لا تفيد سوى الشركات الكبرى وكبار المزارعين فقط هي حجة فارغة أخرى. لقد حقق الحراك المناهض نجاحًا بالغًا في إقصاء الأطراف الفاعلة المتواضعة والتابعة للقطاع العام عن ثورة التكنولوجيا الحيوية، داعمة بذلك نفس هذا الوضع الاحتكاري الذي يزعم الكثير من النشطاء أنهم يحاربونه.

كان أحد الأمثلة القليلة على مشروعات القطاع العام في مجال الهندسة الوراثية التي آتت ثمارَها — بالمعنى الحرفي للكلمة — هو مشروع تطوير فاكهة البابايا المقاومة للفيروسات. أنقذ هذا المشروع مجال إنتاج البابايا القائمة على المزارع العائلية في هاواي، بعد أن دمرها فيروس التبقُّع الحلقي في أواخر تسعينيات القرن العشرين. ولحسن الحظ، استطاع فريق يقوده باحثون بجامعة كورنيل تخليق سلالة مقاوِمة لهذا الفيروس باستخدام جين غلافٍ بروتيني مأخوذ من الفيروس نفسه. ومنذ ذلك الحين، تُبلي فاكهة البابايا، التي تحمل اسم «رينبو»، بلاءً حسنًا. ويمكنني القول من واقع تجربة شخصية إنها لذيذة الطعم أيضًا. غير أنه في السنوات الأخيرة تزايد الحراك المناهض للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا في هاواي، مع ظهور مبادرات للتصويت على حظر أنشطة الهندسة الوراثية كافةً في جزر هاواي، وحملات مقاطعة لفاكهة البابايا المقاوِمة للفيروسات، وأحيانًا حوادث تخريب متعمَّد لبساتين كاملة في مزارع عائلية من خلال اقتلاعها باستخدام المناجل ليلًا.2
كان من المقرر بالأساس استخدام فاكهة البابايا المقاوِمة للفيروسات في دولة تايلاند أيضًا، التي تأثرت على نحو مماثل بفيروس التبقُّع الحلقي، وحيث تُعد فاكهة البابايا جزءًا مهمًّا من النظام الغذائي للشعب ومن ثقافته الغذائية. في هذه الحالة، انضم باحثون من الحكومة التايلاندية إلى فريق جامعة كورنيل لإدخال الجين المقاوِم للفيروسات إلى سلالات البابايا التايلاندية، ذات الشهرة الواسعة في طَبَق سلطة البابايا الخضراء «سوم تام». وأُجْرِيَت التجارب الميدانية آنذاك في تايلاند. غير أن هذه السلالات أدت أداءً جيدًا جدًّا؛ حتى إن الخبر سرعان ما ذاع في عام ٢٠٠٤، ونُقلت البذور سرًّا ليستخدمها المزارعون المحليون قبل الحصول حتى على الموافقة الرسمية لطرحها. انتهزت منظمة السلام الأخضر الفرصة وأصدرت موادَّ صحفية تزعم أن هذه «واحدة من أسوأ حالات التلوُّث الوراثي لمحصول غذائي رئيسي في آسيا» حتى إنها أدرجت خارطة «لانتشار التلوث في تايلاند».3 كما تسلَّق نشطاء منظمة السلام الأخضر أسوار محطة الأبحاث الحكومية، واقتلعوا بعضًا من أشجار البابايا التجريبية ووضعوا لافتة كُتب عليها «أوقفوا التجارب الميدانية للمحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا». رضخت الحكومة التايلاندية لهذا المطلب سريعًا بعد أن استشعرت الحرج، وأرغمت الباحثين على تدمير ما تبقَّى من تجربتهم ودفن الأشجار في حفر بموقع التجربة.4 جاب المسئولون آنذاك الريف لاقتلاع أي أشجار بابايا مُعدَّلة وراثيًّا وإبادتها تمامًا. والمفارقة أنه يمكن أحيانًا التعرف على هذه الأشجار بسهولة باعتبارها الأشجار الوحيدة في المنطقة التي لم تُصب بالآفة. وليس من المستغرب أن تصرُّف منظمة السلام الأخضر كان يعني أن بعض المزارعين التايلانديين قد واجهوا ظروفًا صعبة وفقدوا أرزاقهم إثر تدمير ما وُصف بأنه محصول مُعدَّل وراثيًّا «لدعم الفقراء».5

والأهم من ذلك أن كان لهذه الضجة تأثير مثبِّط على قطاع التكنولوجيا الحيوية النباتية بأكمله في تايلاند. شملت المحاصيلُ التي كانت قيد التطوير آنذاك الفلفل والطماطم المقاومَين للأمراض الفيروسية، والفاصوليا الصينية الطويلة والقطن المقاوم للآفات الحشرية، والأرز المقاوم للفيروسات والقادر على تحمل الأملاح، وكثيرًا من المحاصيل الأخرى. وجميعها ظل قابعًا على الأرفف؛ فقد أدَّى نجاح منظمة السلام الأخضر في تحويل فاكهة البابايا المقاومة للفيروس إلى فضحية «تلوث» قومية إلى وأد صناعة التكنولوجيا الحيوية الناشئة في تايلاند بين عشية وضُحاها تقريبًا. وبعد مرور ما يقرب من ١٥ عامًا، لا يوجد حتى الآن موافقة رسمية على فاكهة البابايا المحوَّرة وراثيًّا في تايلاند، ولم تُزرع أي محاصيل مُعدَّلة وراثيًّا أو تُوضع حتى قيد التطوير أيضًا. ومن بين الأربعين مشروعًا، أو نحو ذلك، التي قيل إنها قيد التنفيذ في العقد الأول من الألفية الثانية، لم يصل مشروع واحد منها إلى طور الاكتمال.

وعلى الرغم من اختلاف كل دولة عن الأخرى، نجحت حملات مشابهة في التصدي لزراعة المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا في مواقع عديدة حول العالم. فقد تصدَّت منظمة السلام الأخضر وحلفاؤها المحليون لزراعة الباذنجان الرومي بي تي في الفلبين من خلال عمليات التخريب المتعمَّد والدعاوى القضائية، كما ذكرتُ في موضع سابق. وفي الهند، نجحت الجماعات المناهضة للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا في حربها لإجبار الحكومة الوطنية المتخاذلة على تعليق هذه الأنشطة إلى أجل غير مسمًّى في عام ٢٠١٠. وحتى الآن، لم يُلغَ هذا التعليق بصورة رسمية. ومنذ ذلك الحين أيضًا لم يوافَق على أي محصول هندي مُعدَّل وراثيًّا؛ يحارب مطوِّرو نبات الخَردل المُعدَّل وراثيًّا من القطاع العام الآن للحصول على الموافقة على زراعة محصولهم، ولكن يبدو من المرجح أنهم خسروا معركتهم بسبب شراسة الحملة ضدهم.

لقد سردتُ بالفعل قصصًا عديدة حول كيفية تصدي النشطاء لمشروعات المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا في أفريقيا. أما في أمريكا الجنوبية، فقد فرضَتْ بيرو تعليقًا رسميًّا لمدة عشر سنوات لمثل هذه المشروعات. كما حظرت الإكوادور وفنزويلا وتشيلي الزراعة الموسعة. وعلى مستوى أوروبا بأكملها، يستحيل التراجع عن الموقف إلى حد كبير؛ إذ أدرجت المجر في دستورها القومي مادةً تتعلق بمناهضة الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا. وتهدد الحكومة الروسية بفرض غرامات ضخمة على كل من مستوردي المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا أو مزارعيها. ويبدو أن القضية قد تجاوزت الحدود الجغرافية والأيديولوجيات السياسية على عكس أي قضية أخرى. ففي أثناء رحلتي إلى الصين مؤخرًا، سمعت كيف ينظر الملايين إلى المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا باعتبارها مؤامرة أمريكية لتسميم أطفال الأُمة بعد أن نجحت منظمة السلام الأخضر في إثارة فضيحة قومية بخصوص تجربة إطعام مجموعة من الأطفال الصغار الأرز الذهبي في عام ٢٠١٦.6

إذن فلا خطأ في تصريح منظمة السلام الأخضر بأن المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا لا تُسهِم بدور مهم كثيرًا في «إطعام العالم». إلا أن هذا يرجع إلى حد كبير إلى جهود منظمة السلام الأخضر وحلفائها في منعها من القيام بذلك.

•••

إذن، كيف يمكن أن يبدو ملخص أكثر إنصافًا للآثار الإجمالية للمحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا؟ خلص تحليل تجميعي أُجرِي عام ٢٠١٤ — ضم نتائج ما يقرب من ١٥٠ دراسة منفصلة خضعت لمراجعة الأقران — إلى أن اعتماد تكنولوجيا التعديل الوراثي قد قلل من استخدام مبيدات الآفات الكيميائية بنسبة ٣٧ في المائة، ورفع إنتاجية المحاصيل الزراعية بنسبة ٢٢ في المائة، وزاد أرباح المزارعين بنسبة ٦٨ في المائة على مستوى العالم.7 والمصادفة أن أغلب هؤلاء المزارعين من دول نامية. بالطبع تجمع هذه الصورة العالمية الإجمالية تحت مظلَّتها كمًّا ضخمًا من البيانات، بعضها إيجابي، وبعضها سلبي. ولكن ينبغي على الأقل أن تجعل الجماعات البيئية تتوقف، حسبما كنت أظن، وتفكر في أن التكنولوجيا التي ظلوا يعارضونها طوال ٢٠ عامًا قد قللت من استخدام مبيدات الآفات الكيميائية بنسبة ٣٧ في المائة. بالتأكيد لم يكن لديَّ أدنى فكرة، عندما بدأت لأول مرة في شن حملات ضد مونسانتو و«راوند أب ريدي»، أن التعديل الوراثي من شأنه فعلًا أن «يقلل» استخدام المواد الكيميائية في الزراعة (كان مصدر كل هذه الانخفاضات تقريبًا هو تقليل استخدام المبيدات الحشرية بسبب سِمة البي تي؛ إذ إن تحمل مبيدات الأعشاب قد غيَّر في الغالب أنواع مبيدات الأعشاب المستخدمة، مما أدى إلى تحول أغلب دول العالم إلى استخدام الجليفوسات).
ثمة قضايا بيئية أخرى أيضًا. قدَّرت إحدى الدراسات العالمية أن اعتماد المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا على مستوى العالم قد أدى إلى تحقيق وفرٍ في ثاني أكسيد الكربون في عام ٢٠١٥ يبلغ نحو ٢٦ مليون طن، بفضل استخدام عدد أقل من المبيدات الحشرية المرشوشة وتحسين مستويات تخزين الكربون في التربة المرتبطة بالمحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا التي لا تعتمد على الحرث.8 وهذا يعادل إقصاء ١٢ مليون سيارة من السير على الطريق لمدة عام. يبدو هذا الرقم كبيرًا، إلا أنه في الواقع ليس كذلك في الإطار العالمي؛ ﻓ ٢٦ مليون طن هو تقريبًا حجم ما يمكن أن تطلقه سبع محطات طاقة كبيرة تعمل بالفحم سنويًّا من ثاني أكسيد الكربون.9 والولايات المتحدة وحدها لديها أسطول من المحطات التي تعمل بالفحم يربو على ٦٠٠ محطة، والصين لديها أكثر من ٢٠٠٠ محطة.10 لذا إن كان المناخ هو الأولوية القصوى بالنسبة إليك، فالتخلص من الفحم باعتباره المصدر الرئيس للطاقة ما زال يحتل أولوية أكبر من التصدي للمحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا. (لدى منظمة السلام الأخضر حملة لمكافحة استخدام الفحم يُسعدني أن أعلن تأييدي لها هنا في هذا الكتاب).11 إلا أن الرسالة واضحة: إن تأثيرات المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا إيجابية عمومًا فيما يخص المناخ.
لا يسري الأمر نفسه بالضرورة على الاعتبارات البيئية الأخرى. فعلى الرغم من أن الآراء الأولية، القائلة إن حبوب اللقاح في الذُّرة التي تحمل سِمة البي تي ربما أضرَّت بالفراشات الملكية الشهيرة، لم تُدعم بدراسات لاحقة، فهناك أدلة بأن سمة مقاومة مبيد الأعشاب أدت في النهاية إلى تراجع شديد في نمو نبات الصقلاب — وهو الغذاء الأساسي لهذه الفراشات — في العديد من الولايات الأمريكية التي تزرع الذُّرة وفول الصُّويا.12 وتؤثر عوامل أخرى كثيرة على تعداد الفراشات الملكية، بداية من إزالة الغابات في مناطق البيات الشتوي بالمكسيك وصولًا إلى تقلُّبات الطقس. ولكن في ظل تساوي جميع العوامل الأخرى، فإن أي تراجع في مصدر الغذاء الأساسي لا يخدم القدرة على التكيف لدى هذه الفراشات التي تُعَد أحد أشهر أنواع الفراشات بأمريكا الشمالية. في المقابل، يتعاون صندوق الدفاع عن البيئة مع المزارعين في جميع أنحاء الولايات المتحدة في برنامج «تبادل موائل الفراشات الملكية» لإمدادهم بحوافز تشجعهم على الحفاظ على نبات الصقلاب. ويصرح الصندوق قائلًا: «بما أن المزارعين وأصحاب المزارع يديرون الكثير من الموائل المناسبة لنمو نبات الصقلاب؛ فإنهم في وضع مثالي يؤهلهم لاستعادة هذه الموائل الحيوية ودعمها، مما يخلق ممرات رئيسية لموائل الغذاء والرحيق طوال رحلة الهجرة الطويلة للفراشات الملكية.»13 وتعد جهود صندوق الدفاع عن البيئة هي واحدة من عدة مجهودات أخرى، جميعها ضرورية بالطبع؛ لأن المزارعين الأمريكيين يُحرزون الآن نجاحًا بالغًا في السيطرة على الأعشاب الضارة، وجزء من هذا يرجع إلى المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا المقاومة لمبيدات الأعشاب.
على الجانب الآخر، عاد اعتماد محاصيل بي تي بالنفع على التنوع الحيوي للحشرات؛ بسبب التراجع في معدَّل رش المبيدات الحشرية المرتبط بتلك المحاصيل. وقد وَجَدت إحدى الدراسات من الصين أن تراجُع معدل رش المبيدات الحشرية أدى إلى زيادة أعداد الحشرات النافعة، مثل خنافس الدعسوقة والحشرات شبكية الأجنحة والعناكب الموجودة على قطن بي تي مقارنةً بالقطن العادي.14 ومن ناحية أخرى، زاد الإفراط في استخدام مبيد الجليفوسات في سرعة تطور الأعشاب المقاومة لهذا المبيد لتصل إلى ٣٥ نوعًا في آخر تعداد، بما في ذلك نبات القطيفة المُرة، ذلك «العشب الخارق» الشهير الموجود في حقول الذُّرة. تتطور الأعشاب المقاومة لمبيدات الأعشاب في أي مكان تستخدم فيه مبيدات الأعشاب بالقدر الكافي عادةً، سواء أكانت معدَّلة أو غير معدلة وراثيًّا؛ ففرنسا تحظى بحصتها من الأعشاب المقاومة للجليفوسات أيضًا، على الرغم من أنها لا تزرع أي محاصيل مُعدَّلة وراثيًّا.
وعلى الرغم من أن انسياب الجينات قد حدث بالفعل — وهو أحد أشكال «تلوث» الأنظمة البيئية الطبيعية التي نخشاها كثيرًا — فإن معظمه يشمل عددًا قليلًا من الكانولا المقاوِمة لمبيد الجليفوسات أو البرسيم الحجازي أو المَرْجِيَّة التي تظهر تلقائيًّا على جانب الطرق وعبر قنوات الرَّي ومصارف المياه. ولا توجد أي دلالة على خروج جين بي تي من النباتات المزروعة في المزارع. وتورد الأكاديمية الوطنية للعلوم ما يلي باعتباره «نتيجة» رسمية تم التوصُّل إليها: «على الرغم من أن انسياب الجينات قد حدث بالفعل، فلم يكن هناك أمثلة تثبت وجود تأثير بيئي ضار لانسياب الجينات من محصول مُعدَّل وراثيًّا إلى أي نوع من النباتات البرية ذات الصلة.»15 الأعشاب الخارقة؟ التلوث؟ كلاهما حدث، إلا أنهما ليس لهما تأثيرات بيئية ذات قيمة على الإطلاق. إنها تأثيرات طفيفة. لذا يمكن لعلماء البيئة التوقُّف عن القلق بشأنها، ومواصلة التعامل مع قضايا أخطر.

•••

يذكر تقرير «عشرون عامًا من الفشل» الصادر عن منظمة السلام الأخضر على نحو مثير للقلق أن اعتبار «المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا آمنة للأكل» هي «فكرة وهمية». ويفيد التقرير بأنه «لا يوجد إجماع عِلمي على سلامة الأغذية المُعدَّلة وراثيًّا»، مؤيدة هذا الزعم بالإشارة إلى «بيان مشترك» صدر عام ٢٠١٥ عن «ما يربو على ٣٠٠ باحث مستقل». جاء عنوان هذا البيان، الذي صدر عن كثير من الباحثين البارزين ودعاة الحملات المناهضة للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا حول العالم وحمل توقيعاتهم: «غياب الإجماع العلمي على سلامة المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا» ونُشر في دورية مُتَدَنِّية التصنيف تُدعَى «إينفيرومنتال ساينسيز يوروب».16 تقول هذه الأصوات المنشقة في ملخص ورقتهم البحثية: «يعترض قطاع عريض من مجتمع الباحثين والعلماء المستقلين على المزاعم الأخيرة بشأن الإجماع على سلامة الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا. إن مزاعم الإجماع على سلامة الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا لا يدعمها تحليلٌ موضوعي للمؤلفات الخاضعة لمراجعة الأقران.»
عند قراءة هذا البحث أتذكر بيانات مماثلة عن «غياب الإجماع» صدرت عن معارضِين في مجالات أخرى من مجالات الجدل العلمي، مثل تغيُّر المناخ أو اللقاحات أو فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز. على سبيل المثال، يزعم الداعمون لعريضة إنكار تغير المناخ أنهم جمعوا ٣١ ألف توقيع علمي — أي مئات أضعاف ما استطاع المشككون في فائدة الكائنات المعدَّلة وراثيًّا جمعه — ليصرحوا بأنه «لا يوجد دليل علمي مقنع على أن إطلاق الإنسان لغاز ثاني أكسيد الكربون سيتسبَّب، في المستقبل المنظور، في ارتفاع كارثي لدرجة حرارة الغلاف الجوي للأرض واضطراب المناخ على كوكب الأرض.»17 وفي عام ٢٠٠١، وردًّا على فيلم وثائقي عن التطور الدارويني أنتجته شبكة بي بي إس (هيئة الإذاعة العامة الأمريكية)، جمعت إحدى المؤسسات البحثية المؤيدة لنظرية الخلق ١٠٠ اسم علمي لإعلان «تشكيكهم في الادعاءات المتعلقة بقدرة الطفرات العشوائية والانتخاب الطبيعي على تفسير تعقيد الحياة». ضم الموقعون نخبةً من العلماء الثقات، مثل أستاذ الفسيولوجيا الجُزيئية والخَلَوية بجامعة ييل، بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من علماء الرياضيات وعلماء الأحياء وخبراء الفيزياء من جامعات مرموقة.18 واستنادًا إلى المؤهلات الأكاديمية الرسمية للموقعين، كانت هذه القائمة أروع من قائمة الموقعين المناهضين للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا.
جاء استشهادي بهذين المثالين لتوضيح أن الجماعات التطوُّعية للمنشقين لا تعارض حقًّا الإجماع العلمي، حتى وإن تضمَّنت قوائمهم بضعة أسماء رنانة. يمكنني أن أذكر ما لا يقل عن ستة من علماء المناخ، ينكرون قطعيًّا ظاهرة الاحترار العالمي التي تَسبَّب فيها الإنسان، كما يوجد علماء فيروسات مشهورون في جامعات مرموقة يُصرُّون على أن فيروس نقص المناعة البشري لا يسبب الإصابة بالإيدز. إن إجماع الآراء لا يعني الموافقة بنسبة مائة في المائة، كما أنها ليست معركة بين من يستطيع إعداد قائمة الخبراء الأطول والأكثر إبهارًا. ولعل أفضل مثال توضيحي لمخاطر إصدار بيانات جماعية تطوُّعية هو «مشروع ستيف» التابع للمركز الوطني لتعليم العلوم، وهو «محاكاة ساخرة لتقليد قديم يتبعه مؤيدو نظرية الخلق يتمثل في تجميع قوائم بأسماء «العلماء الذين يشككون في التطوُّر» أو «العلماء الذين يعارضون الداروينية».» ويملك «مشروع ستيف» الآن قائمة تضم أكثر من ١٤٠٠ توقيع لعلماء يدعمون نظرية داروين للتطور، جميعهم يُدعى ستيف.19

إن ما تفعله هذه الجهود لإنكار وجود الإجماع في الواقع هو منح تبرير علمي كاذب وزائف لأولئك الذين يرغبون في إنكار وجود الإجماع العلمي لأسباب أيديولوجية، سواء كانت دينية أم سياسية أم شيء آخر. ويسوءني أن أرى منظمة السلام الأخضر تتشبث بعناد شديد بالجانب الخاطئ من الرأي العلمي العالمي حول هذه المسألة. ليس هذا لإعجابٍ بمنظمة السلام الأخضر باعتبارها منظمة لها جهود بيئية أخرى وحسب، وإنما أيضًا لأن هذه الانتقائية الأيديولوجية تُقوِّض مصداقية حملاتها الأخرى، التي تزعم أيضًا بأنها مدعومة بأدلة علمية. فإذا أنكرت منظمة السلام الأخضر الجانب العلمي في الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا، فكيف لنا أن نتأكد من صحة ما تقوله منظمة السلام الأخضر عن الصيد الجائر؟ أو إزالة الغابات؟ أو التنوُّع البيولوجي؟ أو حتى المناخ؟ إن المنظمة على شفا مواجهة الأزمة نفسها التي واجهتُها أنا من قبل؛ لا يمكنك أن تدافع عن الإجماع العلمي في قضية وتُنكره في قضايا أخرى، وتظل تتوقع أن تنال الثقة بخصوص القضايا العلمية. الأمر بهذه البساطة حقًّا، وينبغي لمنظمة السلام الأخضر أن تعترف بذلك.

ولكيلا أُتَّهَم بدوري بالانتقائية في اختيار الأدلة التي تخدم موقفي فحسب، اسمحوا لي أن أقتبس بالتفصيل من تقرير عام ٢٠١٦ الصادر عن الأكاديمية الوطنية للعلوم الآنفة الذكر حول الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا. تضع الوثيقة الكاملة بما فيها من ملاحق في الاعتبار الجوانب الاجتماعية الاقتصادية للتعديل الوراثي للكائنات الحية أيضًا، ولكن نظرًا لأن إجمالي عدد صفحاتها يصل إلى ٣٨٨ صفحة، سأقتصر هنا على طرح السؤال الأبسط المتعلق بالسلامة. ومن المثير للاهتمام أن التقرير يبدأ بالإشارة إلى أن الإجماع العلمي بخصوص الهندسة الوراثية قد شهد تغيُّرًا ملحوظًا على مدى العقود. ففي عام ١٩٧٤، حذرت لجنة من الأكاديمية الوطنية للعلوم برئاسة بول بيرج الحاصل على جائزة نوبل بأن ثمة «قلقًا بالغًا من أن بعض جُزيئات الحمض النووي المؤتلِف الاصطناعي قد تكون ذات خطورة بيولوجية». جاء هذا بالتزامن مع تجمُّع الجماعات البيئية بأعداد غفيرة لأول مرة للفت الانتباه إلى هذا الخطر المحتمل، كما وصفتُ في فصل سابق. وكان لديها مبررها في ذلك وفقًا لحدود العلم في ذلك الوقت، حين كان لا يُعرف الكثير عن المخاطر المحتملة. ولكن بحلول عام ١٩٨٧، أي بعد مرور أكثر من عقد جُمع خلاله المزيد من الأدلة وبحثها، كانت الأكاديمية الوطنية للعلوم قد غيَّرت موقفها. وخلصت لجنة تابعة للأكاديمية إلى أن «المخاطر المرتبطة بإدخال الكائنات المُعدَّلة بالحمض النووي المؤتلِف هي المخاطر نفسها المرتبطة بإدخال كائنات غير مُعدَّلة والكائنات المُعدَّلة بطرق أخرى» وأن هذه الكائنات لم تشكل أي مخاطر بيئية استثنائية. وبالتدريج عزَّز المزيد من التقارير الصادرة عن الأكاديمية في أعوام ١٩٨٩ و٢٠٠٠ و٢٠٠٢ و٢٠٠٤ هذا الرأي. ولم يجد أي منها أي آثار صحية ضارة على البشر يمكن أن تُعزى إلى المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا.

كان في مقدور الأكاديمية الوطنية للعلوم أن تغير موقفها؛ لأنها كانت مُلزَمة، بوصفها مؤسسة علمية، باتخاذ موقف يستند إلى أدلة علمية بخصوص موضوع الحمض النووي المؤتلف، وإعادة تقييم موقفها باستمرار؛ نظرًا لأن الأدلة العلمية قد تتغير بمرور الوقت. فهي لديها عملية رسمية لمراجعة المؤلفات العلمية وتُعدِّل استنتاجاتها بِناءً على ذلك. ومن المثير للاهتمام أن الجماعات البيئية لم تَتبع النهج نفسه؛ إذ ليس لديها مثل هذه العملية الرسمية لضمان صياغة سياسات قائمة على الأدلة. فباعتبارها جماعات ذات مصالح سياسية، فما إن تشكل موقفها حتى صار أكثر تشدُّدًا على المستوى الأيديولوجي بمرور الوقت، وحتى وإن صار الدليل العلمي الذي استندت إليه أضعف وأضعف. وعجزت عن تعديل موقفها في ضوء تغيُّر الأدلة، مثلما يعجز الساسة عن الاعتراف بالتراجُع عن بعض المواقف، وجزء من السبب في هذا يرجع إلى أنهم كانوا يخشون فقدان المكانة والمصداقية في خضم هذه العملية. وصار شن الحملات المناهضة للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا منفعة، بُنيت على أساسها سمعة مِهنية ورواتب يتم تقاضيها. كان من شأن فكرة وجود مركز سلامة الغذاء — الذي بلغ إجمالي مبيعاته ملايين الدولارات — في حد ذاته أن تواجه تهديدًا، لو تبنَّى موقفًا مستندًا إلى العلم بخصوص قضية التعديل الوراثي للكائنات الحية. ولكن الأهم من ذلك كله أن ثمة قصة أخلاقية — إطارًا ذهنيًّا سلبيًّا — قد صيغت حول الهندسة الوراثية، وأثبتت مرونتها في مواجهة أي تحديات تفرضها الحقائق العلمية.

عادة ما تتجنب جماعات التيار السائد هذه الأيام التصريح بالادعاءات الأكثر تطرفًا حول السرطان والتوحُّد وما شابه. غير أن انتشارها يتزايد على شبكة الإنترنت، ويُروَّج لها بقوة من جانب الجماعات المهمَّشة، مثل جمعية مستهلكي الأغذية العضوية، ومواقع بيع منتجات الطب البديل، مثل موقع «ميركولا دوت كوم»، وأفراد مثل جيفري سميث الذي لا يتمتع بأي مؤهلات علمية. فسميث، على سبيل المثال، مدرب يُوجا سابق ومدرب رقص، دَرَس في معهد مهاريشي للإدارة، وهو جزء من حركة مهاريشي التي تروج «للتأمل التجاوُزي».20 كذلك شجع الصعود المذهل لحركة الأغذية العضوية كثيرين للبحث عن البدائل «الصحية» للأغذية المُعدَّلة وراثيًّا، التي ترتبط في الأذهان بالزراعة التقليدية ويُعتَقَد أنها تعتمد بقوة على المواد الكيميائية ولها تأثير بيئي حاد. وتُعد هذه الموضوعات موضوعات أساسية لحركة اليمين البديل أيضًا؛ فقد دعا أليكس جونز مبتكر نظرية المؤامرة، عبر قناته على منصة «إنفو وارز»، دعا جمهوره إلى التطاوُل من آن لآخر على المنتجات المُعدَّلة وراثيًّا والجليفوسات لما يحويانه من «سموم». وقد حقَّقت هذه الجهود المشتركة نجاحًا لا يُصدق؛ إذ تُظهر استطلاعات الرأي أن نحو ٤٠ في المائة من الأمريكيين — وهي نسبة منقسِمة بالتساوي بين الجمهوريين والديمقراطيين — يؤمنون بأن الأغذية ذات المكونات المُعدَّلة وراثيًّا «أسوأ للصحة» من الأغذية التقليدية.21 وفي دراسة شهيرة أُجرِيَت عام ٢٠١٥، وجد مركز بيو للأبحاث (وهي مؤسسة بحثية محايدة، ومنظمة تعمل في مجال استطلاع الآراء مقرها في واشنطن العاصمة) أنه كانت هناك فجوة أوسع بين عامة الناس والمجتمع العلمي فيما يخص الأغذية المُعدَّلة وراثيًّا مقارنةً بأي مجال آخر مثير للجدل بالقدر نفسه، بداية من اللقاحات وصولًا إلى التطور والطاقة النووية.22

إذن، ما الذي تقوله الحقائق؟ نشرت الأكاديمية الوطنية للعلوم في تقرير لها مخططًا بيانيًّا يوضح معدل الإصابة بالسرطان؛ علمًا بأن الخطوط ترتفع وتنخفض باختلاف أنواع السرطان، ولكن لا يوجد اختلاف منذ عام ١٩٩٦ عند طرح الأغذية المُعدَّلة وراثيًّا لأول مرة. والنتيجة المتوقعة أن «البيانات لا تدعم الزعم بأن معدلات الإصابة بالسرطان قد زادت بسبب استهلاك منتجات المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا.» علاوة على ذلك، «جاءت أنماط التغيُّر في معدل الإصابة بالسرطان في الولايات المتحدة مشابهة بصفة عامة لمثيلاتها في المملكة المتحدة وأوروبا، حيث تحتوي الوجبات الغذائية على كميات أقل من المواد الغذائية المشتقة من المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا.» بالإضافة إلى ذلك، وعلى عكس الرأي السائد، انخفضت معدلات الوفيات الناجمة عن الإصابة بالسرطان في الولايات المتحدة وكندا فعليًّا في العقود الأخيرة.

ولا توجد أيضًا أي بيانات تربط بين الأغذية المُعدَّلة وراثيًّا والإصابة بأمراض الكلى. وماذا عن السمنة؟ أو داء السكري؟ «لم تجد اللجنة أي أدلة منشورة تدعم فرضية أن استهلاك الأغذية المُعدَّلة وراثيًّا تسببت في ارتفاع معدلات الإصابة بالسمنة أو داء السكري من النوع الثاني.» والنتيجة نفسها تنطبق على مرض الاضطرابات الهضمية والحساسية، بمختلف أنواعها، والتوحُّد. وبالنسبة إلى هذا المرض الأخير، فقد تسارعت وتيرة التشخيص في العقود الأخيرة، ولكن ظل بالمعدل نفسه في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. وهذا هو الجانب السلبي في الأمر؛ أما الجانب الإيجابي فيتمثل في إمكانية استخدام الهندسة الوراثية لزيادة العناصر الغذائية المفيدة (مثل فيتامين أ) وتقليل السموم، مثل مادة الأكريلاميد التي تُعَد سببًا محتملًا للإصابة بالسرطان والموجودة في البطاطس المقلية.

لست أخلط بين قضية السلامة وغيرها من المخاوف الأكثر مشروعية بخصوص المنتجات الغذائية المُعدَّلة وراثيًّا. فهناك الكثير من القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية تتعلق بتركيز الشركات، وصغار المزارعين، واستخدام مبيدات الأعشاب وما إلى ذلك، التي لا تزال ذات صلة ومثيرة للقلق بالنسبة إلى الكثير من المنتقدين للتكنولوجيا. غير أنني أظن أن بوسعنا الآن أن نصرح بوضوح أن الاعتراضات بشأن السلامة الغذائية للأغذية المُعدَّلة وراثيًّا لا يمكن الدفاع عنها من الناحية العلمية، حتى وإن كانت أداة تهييج عالمية فعَّالة. إلا أن الغاية لا تبرر الوسيلة هنا. ونظرًا لأن منظمة أكشن إيد تعرضت لتجربة مريرة كلفتها الكثير؛ حين قامت بحملة إعلانات على موجات الإذاعة الأوغندية تزعم فيها أن المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا تسبب الإصابة بالسرطان، فإن الجماعات البيئية والإنمائية تخاطر بسمعتها مخاطرة بالغة إذا نشرت قصصًا قائمة على علم زائف حول المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا بهدف الترهيب. ولا ينبغي أن تكون جماعاتنا المناهضة الأكثر احترامًا من مروجي الأكاذيب. سيستمر الجدل الدائر حول الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا على مستوى مجالات أخرى عديدة — سواء أكانت سياسية أم اقتصادية أم أخلاقية أم روحية — إلا أن المُعارضة لا ينبغي أن تستند على محض أكاذيب عن «جينات المثلية الجنسية» والإصابة بالسرطان والتوحُّد.

من جهة أخرى، يستلزم إنكار الإجماع العلمي على مستوى العالم تحيزًا انتقائيًّا شديدًا. وهذا هو المقصد من الانتقائية في اختيار الأدلة التي تخدم الموقف فحسب. فمنظمة السلام الأخضر تلقي الضوء على بيانٍ صادر عن مجموعة صغيرة من المنشقين، في حين تتجاهل رأي الأكاديمية الوطنية للعلوم، والجمعية الأمريكية لتقدُّم العلوم، والجمعية الملكية، والأكاديمية الأفريقية للعلوم، والمجلس الاستشاري للعلوم التابع للأكاديميات الأوروبية، والأكاديمية الفرنسية للعلوم، والجمعية الطبية الأمريكية، واتحاد الأكاديميات الألمانية للعلوم والإنسانيات وغيرها الكثير. حتى المفوضية الأوروبية اعترفت في تقرير صادر عام ٢٠١٠: «الاستنتاج الأهم الذي يمكن استخلاصه من جهود أكثر من ١٣٠ مشروعًا بحثيًّا، على مدى فترة تربو على ٢٥ عامًا من البحث العلمي، ويشمل أكثر من ٥٠٠ مجموعة بحثية مستقلة هو أن التكنولوجيا الحيوية، لا سيما المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا، ليست في حد ذاتها أخطر من تقنيات الاستيلاد النباتي التقليدية، على سبيل المثال.»23

إن منظمة السلام الأخضر تقتبس من المؤلفات العلمية على نحو انتقائي، لتعطي بذلك صورة خاطئة عن مواقف المؤسسات الدولية ذات السمعة الطيبة لتدعيم قضيتها. ففي تقرير «عشرون عامًا من الفشل»، تقتبس منظمة السلام الأخضر التصريح التالي الصادر عن منظمة الصحة العالمية: «تحوي الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا، على اختلاف أنواعها، جينات مختلفة أُدخِلت بطرق مختلفة. وهذا يعني ضرورة إعادة تقييم الأغذية المُعدَّلة وراثيًّا بصورة فردية، ومدى سلامتها، كل حالة على حدة، مما يجعل إصدار بيانات عامة بخصوص سلامة جميع الأغذية المُعدَّلة وراثيًّا أمرًا مستحيلًا.» ويبدو أن هذا يمثل تحديًا للحجج المقامة لدعم قضية الإجماع العلمي على المحاصيل المُعدلة وراثيًّا، أليس كذلك؟ الإجابة: لا؛ لأن منظمة السلام الأخضر لم تقتبس البيان الكامل. وفيما يلي نص الجملة التالية مباشرة لما سبق في بيان منظمة الصحة العالمية: «اجتازت الأغذية المعدَّلة وراثيًّا المتوفرة حاليًّا في السوق الدولية تقييمات السلامة، وليس من المحتمل أن تشكل مخاطر على صحة الإنسان. بالإضافة إلى ذلك، لم تظهر أي آثار على صحة الإنسان نتيجة استهلاك عموم السكان مثل هذه الأغذية في البلدان التي وافقت عليها.» عذرًا! فهذا النوع من الاقتباس الانتقائي محرج؛ إذ يظهر حتمًا مدى ضعف حجة منظمة السلام الأخضر؛ لدرجة أن الخيار الوحيد أمامها في إطار محاولة ادعاء الدعم المؤسسي هو تشويه إحدى الهيئات التابعة للأمم المتحدة.

إن تغيير موقف فردي أمر صعب؛ ولكن تلك الصعوبة تتضاعف عند تغيير موقف مؤسسي جماعي. إلا أن منظمة السلام الأخضر لم تكن بحاجة إلى أن يكون لها السبق في ذلك. فمؤخرًا، صرح صندوق الدفاع عن البيئة — وهو واحد من كبرى الجماعات البيئية وأكثرها تأثيرًا — لأول مرة أنه سيقيم تطبيقات التكنولوجيا الحيوية، كل حالة على حدة. وفيما يلي نص البيان الصادر: «يعترف صندوق الدفاع عن البيئة باستخدام التكنولوجيا الحيوية باعتبارها وسيلة مشروعة لتسخير العلم في البحث عن حلول فعَّالة، كما يعترف بأن الحالات السابقة لتسخير بعض منتجات التكنولوجيا الحيوية قد أثارت مخاوف مشروعة. ولهذا السبب، سندعم أو نعارض منتجات أو عمليات معينة للتكنولوجيا الحيوية استنادًا إلى تقييمات تتسم بالشفافية لمخاطرها وفوائدها الصحية والبيئية والاجتماعية والاقتصادية على حدٍّ سواء. وغالبًا ما ستختلف مخاطر وفوائد منتجات التكنولوجيا الحيوية باختلاف الكائن الحي والجغرافيا وغيرها من المتغيرات الأخرى، وسيتعين تقييمها على المقاييس الزمنية والمكانية ذات الصلة. والمنتجات والتقنيات الجديدة الناتجة عن تطبيق التكنولوجيا الحيوية، مثلها مثل المنتجات الخاصة بمختلف العلوم والتكنولوجيا والهندسة، بحاجة إلى تقييم مخاطرها وفوائدها، بما في ذلك الآثار الاجتماعية، قبل استخدامها. ولهذا السبب، لا يدعم الصندوق أو يعارض فئات واسعة من منتجات التكنولوجيا الحيوية، مثل الكائنات المعدَّلة وراثيًّا، ويعترف بأن بعض المنتجات المطروحة قد لا تؤدي إلى نتائج مفيدة أو تضمن الدعم.»24

فلتَحذُ منظمة السلام الأخضر حَذوَ صندوق الدفاع عن البيئة، وتتقبل العِلم؛ هل هذا حقًّا احتمال مرعب؟

•••

ماذا لو فازت منظمة السلام الأخضر بالمعركة وحُظِرت المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا؟ كانت هذه هي القضية الافتراضية التي حقق فيها فريق من جامعة بورديو بالولايات المتحدة. أوضح البروفيسور والي تاينر الدراسةَ في تصريح صحفي قائلًا: «إنه مجرد سؤال بسيط: ماذا لو اختفت هذه المحاصيل؟»25 اقترح النموذج الزراعي لفريق جامعة بورديو أن حظر جميع المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا في الولايات المتحدة من شأنه أن يؤدي إلى انخفاض محصول الذُّرة بنسبة ١١ في المائة، وانخفاض محصول القطن بنسبة ١٨ في المائة، وخسائر في إنتاج فول الصُّويا بنسبة ٥ في المائة. وقدَّر فريق جامعة بورديو أن تعويض هذه الخسائر في محاصيل الذُّرة والقطن وفول الصُّويا المعدَّلة وراثيًّا في الولايات المتحدة عن طريق زراعة محاصيل غير معدَّلة وراثيًّا سيؤدي بدلًا من ذلك إلى زيادة مساحة الأراضي الزراعية بنحو ١٫١ مليون هكتار، مع الوضع في الاعتبار أن ثلث هذه الأراضي، أي حوالي ٣٨٠ ألف هكتار، هي أراضي غابات. وخلص فريق بورديو إلى أن «هذا يعني أن اعتماد تكنولوجيا الكائنات المعدَّلة وراثيًّا أدى إلى تجنب تحويل الأراضي الطبيعية (الغابات والمراعي) إلى أراضٍ زراعية.»26
ما مدى أهمية هذا التأثير الذي تُحدثه المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا في الحفاظ على الأراضي؟ وفقًا لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، يشهد العالم خسارة صافية قدرها ٣٫٣ مليون هكتار من الغابات في المتوسط كل عام،27 إذن فالمساحة التي أنقذها ارتفاع إنتاجية المحاصيل بفضل الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا لا تمثل إلا نحو عُشر ما يُدمَّر سنويًّا. وهذه ليست مساحة ضخمة؛ بيد أن دراسة جامعة بورديو لا تهتم إلا بإنتاج الولايات المتحدة فقط من الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا، الذي يبلغ نحو ٧٠ مليون هكتار من إجمالي ١٨٠ مليونًا على مستوى العالم. وبحِسبة تقريبية، وبفرض أن نِسب خسائر المحاصيل واحدة على مستوى العالم، أقدِّر خسائر الغابات بأقل من مليون هكتار في جميع أنحاء العالم في سيناريو خالٍ من الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا على مستوى العالم. وهذه المساحة تكافئ نصف مساحة ويلز تقريبًا، أو أقل بقليل من ولاية كونتيكت الأمريكية، أو أقل بقليل من ثلث المساحة السنوية لإجمالي خسائر الغابات السنوية. ربما لا تكون مشكلة كبيرة، إلا أنها ليست هينة أيضًا. ولن أرغب بصفة شخصية في المطالبة بقطع غابات تُعادل مساحتها نصف مساحة ويلز ما لم يكن هذا لسبب وجيه جدًّا.
لعل أكثر النتائج المستخلصة من دراسة فريق جامعة بيرديو إثارةً لم تشتمل على الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا على الإطلاق. فقد بحث الفريق أيضًا في خسائر الأراضي الناجمة عن برنامج الإيثانول، الذي شهد حوالي ١٥ مليار جالون من الإيثانول المُنتَج عام ٢٠١٦‏،28 مُلتهِمًا ٤٠ في المائة كاملة من إنتاج الذُّرة في الولايات المتحدة.29 وجد فريق بورديو من نموذجهم أن فقدان الغابات وغيرها من الأراضي الطبيعية الناجم عن هذا التحوُّل الهائل للذُّرة إلى وقود حيوي يكاد يكافئ تمامًا الخسائر التي من شأنهم أن يتوقعوا حدوثها حال حظر المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا في الولايات المتحدة. وبسبب هذه الآثار الناجمة عن استخدام الأراضي وإزالة الغابات، تراود الجماعات البيئية شكوك بشأن الوقود الحيوي، ومعها كل الحق في ذلك. وكما توضح منظمة السلام الأخضر نفسها: «عندما تُحوَّل الأراضي المستخدمة في إنتاج الغذاء أو الأعلاف إلى زراعة محاصيل الوقود الحيوي، يجب أن تتوسع الزراعة التقليدية في أماكن أخرى. وغالبًا ما يؤدي هذا إلى مزيد من إزالة الغابات وتدمير النظم البيئية الأخرى، لا سيما في المناطق الاستوائية في دول العالم النامي.»30 وهذا صحيح تمامًا. ولكن إذا كانت الدراسة المنمذجة التي أجرتها جامعة بورديو صحيحة، فإن سياستَي منظمة السلام الأخضر تُلغي كلٌّ منهما الأخرى: فحظر الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا يكاد يُلغي تمامًا أي محاولات لحماية الغابات ناتجة عن التخلص من البرنامج الأمريكي لإيثانول الذُّرة.
إن الخطة البديهية الأفضل هي تحقيق أقصى استفادة من كلا الخيارين من خلال التخلُّص من الوقود الحيوي وإبقاء الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا، وبذلك نتجنب تدمير غابات بمساحة ويلز كاملة. في رأيي أن هذا يوضح إلى أي مدى يجب التحول بالجدال الدائر حول الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا بعيدًا عن أُطُر التفكير الأحادي إلى منهج يعتمد أكثر على التسويات والتفاهمات والاحتمالات. فوفقًا لدراسات كثيرة، نحن الآن في فترة اصطُلِح على تسميتها «الانقراض الجماعي السادس» لكوكب الأرض بسبب التأثيرات البشرية على التنوُّع الحيوي. ومن أجل الإبقاء على أكبر عدد ممكن من الأنواع، علينا أن نحافظ على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي (والمحيطات). وقد اقترح إي أو ويلسون، عالِم البيئة وأحد حُماتها، أنه ينبغي تخصيص نصف مساحة الأراضي على الكوكب للحياة البرية.31 ولكي نحقق هذا الهدف، يجب أن يحدث انخفاض حادٌّ في استهلاك الفرد وانخفاض مستمر في النمو السكاني. ويقر ويلسون بأن في مقدور التكنولوجيا العالية أن تقدم إسهامًا في ذلك، مشيرًا إلى أن «إنتاج الغذاء لكل هكتار يزداد بشدة بفضل الحدائق الرأسية الداخلية ذات نظام الإضاءة بالصمام الثنائي الباعث للضوء (LED)، والمحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا والكائنات الدقيقة» من بين ابتكارات أخرى. وليست جميع الأراضي متشابهة، ويوضح ويلسون أن الحماية تحتاج إلى التركيز على النظم البيئية عالية القيمة مثل غابات الخشب الأحمر في كاليفورنيا، وحوض نهر الأمازون، والغابات السحابية في جبال الأنديز، وجزر جالاباجوس، وحوض الكونغو.
ويقترح جورج مونبيوه — أحد المناصرين لفكرة إعادة الحياة البرية على نطاق كبير — إعادة إدخال الأنواع المختفِية إلى المناطق الكبيرة المحمية بصورة متزايدة. غير أن كل هذا سيتطلب الحفاظ على محاصيل وفيرة الغلة في مناطق الأراضي الزراعية الموجودة بالفعل (وإن كنا نأمل في أن تتقلص). ولا يجب أن تكون هذه الأراضي صحاري جدباء؛ فحتى زراعة المحاصيل الوفيرة الغلة، سواء أكان هذا على نطاق صغير أم كبير، يمكن أن تضمن دعم الحياة البرية وتشجيعها إلى أقصى حد ممكن. وأؤكد مرة أخرى أن هذه الطريقة في التفكير ليست أحادية المنظور. فكما يوضح جورج في كتابه الرائع «البرية»: «على الرغم من أنني لا أؤيد إعادة الحياة البرية بصورة جماعية إلى الأراضي الزراعية العالية الجودة؛ بسبب التهديد الذي قد يشكله ذلك للإمدادات الغذائية العالمية، فنحن لا نتكبد خسارة كبيرة جراء ترك الطبيعة تواصل وجودها في الزوايا الصغيرة البور والجيوب المعزولة غير المستغلة في المناطق الأكثر خصوبة.»32 ويشير جورج إلى أن المقايضة بين الغذاء والحياة البرية لا تبدو مخيفة بهذا القدر إذا بدأت بالمناطق المهمشة التي لا تملك كفاءة كبيرة في إنتاج الغذاء. والمثال الأساسي الذي يضربه من المملكة المتحدة هي منطقة المرتفعات الشاسعة المخصصة لتربية الأغنام، التي تقدم مساهمة متواضعة لإمدادات المملكة المتحدة من اللحوم في حين تطمس قيمة التنوع الحيوي لمناطق شاسعة من الجبال والأراضي البرية والتلال.
إن تقليص استهلاك اللحوم عالميًّا يمكن أن يكون العامل الأهم على الإطلاق في حماية النُّظم البيئية الطبيعية. ولذا، كتب جورج مونبيوه، وهو نباتي على مضض، في صحيفة «ذا جارديان» يقول: «يمكن للغابات المطيرة وغابات السافانا والأراضي الرطبة والحياة البرية الرائعة أن تتعايش معنا، ولكن ليس مع نظامنا الغذائي الحالي.» وقد لاحظت إمكانية اتباع منهج النباتية العالمية في نموذج الآلة الحاسبة العالمية الذي عملت عليه مع الراحل ديفيد ماكاي وزملائه (يمكنك أن تجد هذا النموذج على الموقع التالي: globalcalculator.org). يقدم النموذج العديد من المسارات المختلفة لكل شيء، بداية من الخيارات الغذائية وصولًا إلى أنماط النقل ومصادر توليد الطاقة. تتمثل الفكرة في الحفاظ على درجات الحرارة العالمية — الممثَّلة بميزان حرارة أحمر صغير في الزاوية اليمنى العُليا — من الارتفاع لأكثر من درجتين. من الصعب جدًّا القيام بذلك، إلا أن المهمة تصبح سهلة إذا قللنا استهلاك اللحوم عالميًّا ليصبح في مستوى متوسط استهلاك أغلب الهنود. وهناك أيضًا خيار تحسين إنتاجيات المحاصيل، الذي يساعد أيضًا في بلوغ الهدف. من ناحية أخرى، إذا وقع اختيارك على خيارات حيث يحظى العالم بأسره بنظام غذائي يعتمد على اللحوم بصورة مكثفة مثل الولايات المتحدة، فستستقبل رسالة صغيرة بوقوع خطأ مفادها: «يستخدم مسارك مساحة أكبر من الأراضي المتاحة في العالم. من فضلك غير إعداداتك!» فيمكن لسيناريوهات الاستهلاك المرتفع للحوم البقرية أن تتعدَّى حدود مقياس الحرارة الصغير الخاص بالنموذج، وتؤثر بالتَّبَعية على المناخ العالمي.

•••

دعونا نُثنِ على أنصار الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا. ولكن دعونا نُثنِ أيضًا على النباتيين، ودعاة الحفاظ على البيئة، والمزارعين، والعلماء، وأنصار البيئة، وكل شخص يعمل من أجل فهم الطريقة المُثلى التي يمكننا بها حماية هذا الكوكب للأجيال البشرية المستقبلية وبقية الكائنات الحية من حولنا. لنستخدم العلم كما هو بوصفه أداة رائعة، ولكن دعونا أيضًا نحترم مشاعر الناس وبديهياتهم الأخلاقية حِيال المدى المناسب للتدخل البشري في المحيط الحيوي. أخيرًا، ربما يمكننا الآن توحيد جهودنا لضمان تقييم الابتكارات العلمية في الزراعة، مثلما يتم في أي مجال آخر، تقييمًا نقديًّا، وتسخيرها بطريقة تخدم البيئة وتُحسِّن سُبل العيش للناس في البلدان الأكثر فقرًا أيضًا.

والأهم من ذلك كله، دعونا لا نكرر أخطاء الماضي. لقد أضعنا عشرين عامًا بالفعل في الجدل حول تقنية زراعة البذور التي يمكن أن تساهم بالتأكيد — عند استخدامها بحكمة ولمصلحة العوام — في جهود مكافحة الفقر العالمية وجعل الزراعة أكثر استدامة. فدعونا لا نُضِع عشرين عامًا أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤