الفصل الثالث

مبتكرو الهندسة الوراثية

بعد مرور أيام قليلة على الخطبة التي ألقيتُها بأُكسفورد، تلقيت رسالة بريد إلكتروني غير متوقعة بتاتًا من البروفيسور نينا فيدوروف، وهي عالمة قامت بنفسها ببحثٍ رائد في مجال علم الوراثة الجُزَيئي. وكانت تعمل آنذاك أيضًا رئيسةً للجمعية الأمريكية لتَقدُّم العلوم، وساعدت في صياغة بيان الجمعية بخصوص الإجماع العلمي على الكائنات الحية المُعدَّلة وراثيًّا الذي شجَّعني على التعبير عن رأيي جهارًا. كذلك كانت فيدوروف مستشارةً علميَّةً سابقةً لهيلاري كلينتون أثناء فترة تولِّي الأخيرة منصب وزير الخارجية الأمريكية. وليس مُستَغرَبًا حالة الرهبة التي غمرتني وقرأت رسالتها في لهفة. بدأت فيدوروف رسالتها بداية ماكرة بقولها: «مرحبًا بكَ في معسكر العلم. ربما تجد نفسك في مكان غير مريح، ولكن أرجو منك أن تصمُد. فهذا الموضع أقل إزعاجًا بكثير من الموضع الذي وجد جاليليو نفسه فيه.»

كانت فيدوروف قلِقة من أنني ينبغي أن أكون مُطَّلعًا قدر الإمكان بما أنني صرت فجأة في دائرة الضوء. وواصلت حديثها بكل صراحة قائلة: «أنتَ لا تأتي بجديد عمَّا ظللنا ننادي به لسنوات. ولكنك تحظى باهتمام كبير، فاستغله.» ثم تكرَّمت بعرضها أن تكون مستشاري العلمي غير الرسمي. أجبت على رسالتها بإرسال بعض الاستفسارات، فاقترحت عليَّ فيدوروف أن أقرأ كتاب «الخلية وعلم الأحياء الجُزَيئي للمبتدئين» (وقرأته فعلًا، ووجدته مفيدًا على نحو مدهش). كما قرأت كتاب فيدوروف المنشور عام ٢٠٠٤، بعنوان: «مندل في المطبخ؛ وجهة نظر عالِم في الأغذية المُعدَّلة وراثيًّا»، الذي يحكي جزءًا من تاريخ الجينات المذهل الأوسع نطاقًا. ومندل المُشار إليه في عنوان الكتاب هو جريجور مندل، الراهب التشيكي الذي عاش في القرن التاسع عشر واكتشف القوانين الرياضية لتوارث الجينات من خلال التجارب العلمية التي أجراها على نباتات البِسلة المزروعة. واستمرت القصة وصولًا إلى الاكتشاف الثوري الذي توصل إليه فرانسيس كريك وجيمس واطسون في عام ١٩٥٣، وهما اثنان من العلماء الشباب بجامعة كمبريدج تعاوَنَا مع روزاليند فرانكلين وموريس ويلكينز لاكتشاف التركيب الكيميائي لجُزَيء الحمض النووي الريبي منقوص الأكسجين (دي إن إيه)، الذي صار يُعرف الآن باللولب المزدوج.

وواصلت فيدوروف سردها التاريخي وصولًا إلى العصر الحديث، إلى العلماء الذين اكتشفوا كيفية دمج الحمض النووي من مصادر مختلفة في جينوم موجود بالفعل. أجَّج كتابُها فطرتي الغريزية كمؤرخ من جديد، وقررت أن ألقي نظرة عن كثب أكثر على الابتكار الفعلي للهندسة الوراثية باعتبارها تكنولوجيا. لم يكن ما اكتشفته معروفًا إلى حدٍّ كبير، ولكنه كان يستحق أن يأخذ مكانته كحكاية كلاسيكية عن تاريخ الاكتشافات العلمية. تسابقت ثلاث فِرَق عبر قارَّتين، بدءًا من أوائل سبعينيات القرن العشرين، بعضها مع بعض لأكثر من عقد من الزمن، انطلاقًا من الأبحاث العلمية المحضة التي لا علاقة لها بالتطبيقات الواقعية، وصولًا إلى معركة شرسة ليكونوا أول من أدخل التكنولوجيا التطبيقية الجديدة للهندسة الوراثية في مجال الزراعة على مستوى العالم.

•••

في أواخر فبراير من عام ٢٠١٦، كان بروفيسور مارك فان مونتاجيو، المُلقَّب ﺑ «أبي الهندسة الوراثية»، يلوح لي بين الحشود الواقفة على المحطة الأخيرة لقطار يوروستار بمحطة بروكسل ميدي. لم يكن بروفيسور مارك فان مونتاجيو، بأسلوبه البلجيكي المحافظ والبسيط، أبدًا بالفظاظة التي تجعله يستخدم ذلك اللقب بنفسه. ولكن في وقت لاحق على مأدبة عشاء تزخر بالمأكولات البحرية مع زوجته نورا، طبيبة الأسنان السابقة، لم تتمالك نفسها؛ إذ كان واضحًا أنها تشعر أن زوجها لم يكُن ينال التقدير الذي يستحقه. فقد انفعلت، ردًّا على تحفيزي اللطيف، قائلة: «مَن أبو الهندسة الوراثية؟» «إنه هو بالطبع!» قالتها وهي تشير إلى الجانب الآخر من الطاولة حيث جلس فان مونتاجيو يزمُّ شفتيه، ممسكًا بفوطة المائدة الخاصة به وهو يتأمل في حرج سمكة لم ينتهِ من تناولها. أصرت نورا على أنه ينبغي عليه أن يؤلف كتابًا عن التجربة، ولكن كانت أعذار فان مونتاجيو جاهزة: «فُقِدَت جميع الوثائق» … «لقد مر وقت طويل جدًّا». وبينما كنت أراقبهما، ساورني شعور بأن هذا الجدال من النوعية المألوفة بين الأزواج الذين استمرَّ زواجهم طويلًا وتم التدرُّب عليه جيدًا؛ وقد كانا متزوجَين منذ ٥٩ عامًا. لم يكُن فان مونتاجيو ليتراجع عن موقفه، ولكن كانت وجهة نظر زوجته واضحة بما يكفي؛ فقد كان يبلغ من العمر حينها ٨٢ عامًا، ولا بد أن يحكي القصة بنفسه أو يخاطر بضياعها إلى الأبد.

التقى مارك فان مونتاجيو بنورا بودجاتسكي في الجامعة ولمَّا يتجاوزا العشرين من عمرهما. كلاهما عاش صدمة الحرب العالمية الثانية في طفولته، رغم أن قصة نورا كانت الأكثر استثنائية. فنظرًا لكونها طفلة يهودية، فقد «أُخفِيت» في مدينة جنت البلجيكية لمدة عامين إبَّان الاحتلال النازي بين عامي ١٩٤٢ و١٩٤٤. ومن المدهش أنها واصلت الذهاب إلى المدرسة، وشارك الفصل بأكمله السر بأنه لا تزال بينهم فتاة يهودية تحضر الدروس. لم يُفْشِ أحدٌ السر وأبلغ الألمان بالأمر، ولا حتى أصغر طفل في فناء المدرسة. حينها كان الجميع يدرك أن كونك يهوديًّا يعني الترحيل شرقًا إلى أحد معسكرات الاعتقال وملاقاة الموت على الأرجح. اختبأت نورا لدى أسرة بلجيكية مكونة من أبوين لديهما أطفال. أخبرتني أن الأب كان بروفيسورًا. وكان هو الآخر يواجه خطرًا مُذهلًا. فلو عُرف أنه يُئوي فتاة يهودية في بيته، فلن يرسل النازيون نورا وحدها إلى معسكرات الموت، وإنما سيرسلون أيضًا البروفيسور وأبناءه معها. ظل والدا نورا في مدينة جنت أيضًا، واضطرا للبقاء في مخبئهما طوال فترة الاحتلال النازي. وفي إحدى المناسبات، أُخِذت نورا وبعض الأطفال الآخرين للعب في حديقة إحدى المنازل على الجانب الآخر من المدينة. كان والداها يسترقان النظر إليها من وراء الأستار، إلا أنها لم تكُن تعرف في ذلك الوقت. وكانت تلك هي المرة الوحيدة التي يريانها رأي العَين منذ عامين.

كانت قصة طفولة فان مونتاجيو أيضًا شاهدًا على مدى اختلاف أوروبا في أوائل القرن العشرين، وإلى أي مدى تغيرت الأمور تغيُّرًا جذريًّا منذ ذلك الحين. وُلِد فان مونتاجيو في عام ١٩٣٣، في أحد أحياء الطبقة العاملة بمدينة جنت. تُوفِّيت والدة مونتاجيو أثناء ولادته. وحسبما كتب لاحقًا، «كان موت الأم أو المولود شائعًا جدًّا في تلك الأيام. وكانت أمي الطفلة الوحيدة التي بقِيَت لجدَّتي من تسعِ مرات حملت فيها.» ونظرًا لأن مونتاجيو كان يتيم الأم وبلا أشقاء، تولت جدته لأمه وشقيقتها تربيته «مُحاطًا بقَدر كبير من الحب والاهتمام؛ لكوني الطفل الوحيد في جيلي بالعائلة كلها». كانت جنت في تلك الفترة مدينة قائمة على صناعة النسيج، فكانت عبارة عن «مصانع كبيرة محاطة بشبكة من الأزقة المسدودة المكتظة ببيوت صغيرة للطبقة العاملة». عانت بلجيكا من الفقر في الفترة السابقة على الحرب. فقد «كانت معظم البيوت فيها غير مزودة بمياه جارية، وكان هناك صنبور عمومي في الشارع. وبعض البيوت كان بها مراحيض مشتركة في وسط الشارع. كان الضوء ينبعث من مصابيح الغاز؛ وعدد قليل من البيوت كان مزوَّدًا بالكهرباء.»

سرعان ما اقتنع فان مونتاجيو الصغير بأن عليه أن يجتهد في الدراسة إذا كان يعتزم تجنُّب حياة السُّخرة بالمصانع. «كانت المصانع مُعتِمة وصاخبة، وسُحُب غبار القطن تتطاير في كل مكان حول ماكينات الغزل. كانت الأجواء مُخيفة جدًّا ومثيرة للاشمئزاز على نحو قاطع، لدرجة أنني شعرت بأنني لا أريد أبدًا أن أُجبَر على العمل هناك.» حتى هذه الصورة عن الجحيم الصناعي مثَّلت تطورًا للحياة العملية عما كانت عليه أيام جدته؛ إذ خُفضت ساعات العمل من ١٢ ساعة إلى ثماني ساعات في اليوم على مدى العقود السابقة. علاوة على ذلك، في فترة شباب جدته «كان خمسون في المائة من العاملين أطفالًا، والكثير منهم دون العاشرة. كانت لهم أهمية لأنهم ينزلقون أسفل الماكينات ويربطون الخيوط المُفَكَّكة.» من الواضح أنه لم يكن هناك أحد حينها يقلق كثيرًا على الصحة العامة والسلامة.

كبر فان مونتاجيو وقد أدرك تمامًا أن تحسُّن ظروف العمل في المصانع لم يكُن وليد الصدفة. فقد ناضل من أجله أجيالٌ وأجيال من العُمَّال الناشطين في إحدى الحركات الاشتراكية القوية، التي كان الجد الأكبر لفان مونتاجيو بالمصاهرة أحد مؤسسيها في عام ١٨٧٠. وبينما كنا جالسين نتحدث في غرفة المعيشة الفسيحة والدافئة بمنزله، تحيط بنا أعمال فنية منتقاة من شتى أنحاء العالم ونحتسي القهوة، أخذ فان مونتاجيو يقلب بفخرٍ الصور المتاحة على شبكة الإنترنت لجده إدموند فان بيفيرين الذي كان رمزًا بارزًا للطبقة العاملة، وقد خُلدت ذكراه بتمثال فولاذي رائع رمادي اللون بجامعة جنت.1 يُعرف فان بيفيرين اليوم بأنه مؤسس حزب العمل البلجيكي، ونشأ فان مونتاجيو الشاب في أسرة اشتراكية مُتعصِّبة. «كان الأول من مايو (اليوم العالمي للعمال) أهم عطلة في العام. ما كان يفوتنا أبدًا العرض العسكري، وكنَّا نقضي اليوم كله نغني الأناشيد الحماسية.» في وقت لاحق بالجامعة، تدرَّج فان مونتاجيو ليصير زعيمًا وطنيًّا لجناح الشباب في الحزب، وظل مُنتميًا للحزب الاشتراكي طوال حياته.

بينما كنَّا نتحدث قرب نهاية العصر، خطرت لي مفارقة تاريخية عميقة أدهشتني. فأنا والكثير من الداعين للحملات المناهضة للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا عمِلنا بكد، مدفوعين بخوف يَساري بشأن ريادة الشركات الأمريكية المتعددة الجنسيات لمجال الهندسة الوراثية، غافلين عن حقيقة أن أحد أهم المساهمات في وسط أوروبا في هذا الصَّدد قد جاءت عبر شخص عاش حياته اشتراكيًّا وكان يعمل بجامعة حكومية.

•••

بعد انتهاء الحرب، وأثناء دراسته بالمرحلة الثانوية، قام الشاب فان مونتاجيو، الذي تزايد انبهاره بالكيمياء، بتوصيل خط غاز إلى سطح منزله وجهز مختبرًا خاصًّا به. ونظرًا لوجود موقد فحم واحد فقط في المنزل «كانت الظروف قاسية بعض الشيء» في الشتاء، ولكن «الحرارة المنبعثة من موقد بِنْزِن كانت كافية»، قالها بنبرة رزينة وهو يسترجع ذكرياته. كان يشغل باقي وقته — الذي لا يُجري فيه تجارب — بقراءة الكتب. وقال مستطردًا في ذكرياته: وبنهاية المرحلة الثانوية «كنت عازمًا على دراسة كيمياء الكائنات الحية، أو الكيمياء الحيوية، كما كانت تُسمَّى».

هذا مُهم لفهم ما حدث لاحقًا. طوال حياته المهنية، كان فان مونتاجيو يرى عمله مع الخلايا الحية من منظور عالِم كيمياء، لا منظور عالِم أحياء. وكما أخبرني، الخلية هي أدنى مكون حي في ذاته للحياة. وكل شيء يحدث داخل الخلية له علاقة بالكيمياء بكل بساطة. فالحمض النووي والحمض النووي الريبي (آر إن إيه) والأحماض الأمينية والدهون والبروتينات، جميعها جُزَيئات غير حية، ولكنها تترتب بطريقة دِينَامِيكِية ودائمة التغيُّر تشكِّل الخلية الحية عمومًا. وكان علماء الأحياء، فيما بعد داروين، يميلون إلى اعتبار الكائنات الحية أو الأنواعِ الوحداتِ الرئيسيةَ الجديرة بالاهتمام. ولكن فان مونتاجيو رأى الأمور من منظور مختلف. فقد أدرك أنه عند إعادة ترتيب المكونات الجُزَيئية الخاملة داخل الخلية، يمكن إعادة ترتيب الكائن الحي نفسه. ومن ثَم، تجاهل نصيحة قدمها له بروفيسور موثوق به بدراسة الصيدلة: «كنت أخشى أن ينتهي بي المطاف في صيدلية». بالتأكيد لم يكن طُموح فان مونتاجيو أن يقضي حياته يبيع الأسبرين في صيدلية ببلدة صغيرة في بلجيكا.

في جامعة جنت تنامى اهتمام فان مونتاجيو ببيولوجيا الخلية. كان هذا في عام ١٩٥٢ قبل أشهُرٍ من نشر واطسون وكريك بحثهما المهم عن تركيب الحمض الريبي النووي المنقوص الأكسجين. وفي ظل محدودية المعلومات عن آلية عمل الحمض النووي والخلايا آنذاك، شعر الطلاب الجامعيون الأَغِرَّاء مثل فان مونتاجيو كما لو أنهم يتجاوزون حدود العلم التقليدي ويستكشفون مجالات جديدة، حسبما أخبرني. وبعد مرور نحو عقد فقط، أصر الكثير من الخبراء على أن البروتينات ذات التعقيد اللامتناهي هي حتمًا الوحدة الجُزَيئية للوراثة في الكائنات الحية، لا الحمض النووي البسيط المتكرر. نحن نعرف الآن أن التكرار المطلق للحمض النووي، بقواعده الأربع — الأدينين (A) والثايمين (T) والجوانين (G) والسيتوسين (C) — هو ما يُمَكِّن الحمض النووي من تخزين المعلومات. والتسلسُلات المختلفة تُشَفر أحماضًا أمينية مختلفة، تتشكل معًا بعد ذلك في صورة البروتينات، التي تقوم بدورها بمعظم العمل اللازم لبناء الخلية الحية والحفاظ عليها.

بحلول نهاية ستينيات القرن العشرين، كان فان مونتاجيو يعمل على اكتشاف ما يحدث عند وقوع خللٍ في الحمض النووي. في عالم الحيوانات، يُطلق على طفرات الحمض النووي الخبيثة التي تُسفِر عن تكاثر الخلايا «سرطان». وتصاب النباتات أيضًا بأورام سرطانية، تظهر على هيئة نتوءات عُقدية كبيرة الحجم تُسمَّى «التَّدرُّنات التاجية». غير أن هذه التدرنات لا تحدث عمومًا بسبب طفرات طبيعية في الحمض النووي. بل كثيرًا ما تكون مرتبطة ببكتيريا تُسمى «الأَجْرَعِيَّة المورِّمَة»، وقد سُميت بهذا الاسم بسبب قدرتها على تحفيز الأورام. وبالفعل اقترح علماء آخرون أن ثمة شيئًا — «عامل مُحفِّز للورم» — يجب أن ينتقل من البكتيريا إلى النبات لكي يتسبَّب في نشوء هذه التَّدَرُّنات التاجية. وكان إسهام فان مونتاجيو، عبر سلسلة من التجارب الرائدة ومؤلفات علمية لاحقة، مُتمثلًا في إثبات أن «العامل المُحفِّز للورم» هو الحمض النووي نفسه؛ ومن ثَم كانت بكتيريا الأَجْرَعِيَّة بمثابة متخصِّص نباتي طبيعي في الهندسة الوراثية؛ أي أنها تقوم بتضفير حمضها النووي بخلية النبات العائل.

عدد قليل من العلماء يعملون بمفردهم، وكان لفان مونتاجيو مساعد عمل معه مدة طويلة، وهو جوزيف (جيف) شيل، الذي كان إسهامه بنفس أهمية إسهام فان مونتاجيو. تُوفي شيل في عام ٢٠٠٣ في سن صغيرة نسبيًّا ناهزت السابعة والستين. ونشرت دورية «بلانت فسيولوجي» في عددها الصادر في يوليو عام ٢٠٠٣ نعيًا له؛ تقديرًا ﻟ «مساهمة شيل الهائلة في علم النباتات»، مخالفةً بذلك قاعدتَها المعتادة بعدم نشر أي نعي. وفي عام ١٩٩٨، حصل فان مونتاجيو وشيل على جائزة اليابان من مؤسسة اليابان للعلوم والتكنولوجيا، وفي المحاضرة التي ألقاها عند استلام الجائزة، قدَّم شيل واحدًا من أكثر التفسيرات المفحِمة التي قرأتها على الإطلاق للهندسة الوراثية النباتية:

«ثمة اكتشافان علميان مُهمان وراء الهندسة الوراثية في النباتات. الاكتشاف الأول هو تطور تكنولوجيا الحمض النووي المؤتلف التي أتاحت فصل الجينات المفردة من أي كائن حي. أما الثاني فهو اكتشاف وجود بكتيريا في التربة، هي بكتيريا «الأَجْرَعِيَّة المورِّمَة»، التي تنقل الجينات إلى النباتات. وكان هذا أول مثال موثَّق على الهندسة الوراثية النباتية في الطبيعة.»

عندما سألت فان مونتاجيو في غرفة المعيشة بمنزله في بروكسل عن أول شخص خطرت له فكرة استغلال هذه العملية البكتيرية المكتشفة حديثًا كوسيلة لتضفير الجينات المفيدة ودمجها في النباتات؛ أعرض عن الإجابة عن هذا السؤال قائلًا: «أظن أن الأمر واضح!» لا شك أنه عادةً ما تبدو الأفكار العبقرية واضحة بعدما تتضح بالفعل؛ وأول ذكر لهذه العملية استطعت التوصل إليه كتابةً جاء في مسودة كتبها جيف شيل في عام ١٩٧٥، والذي ترك هذه الفكرة «الواضحة» على نحوٍ محيِّر دون توضيح حتى الفقرة الأخيرة. وبعد شرح التفاصيل التقنية للكيفية التي تُحدث بها بكتيريا «الأَجْرَعِيَّة المورِّمَة» التدرُّنات التاجية في النباتات، كتب شيل: «ينبغي أن تكون احتمالات التلاعب الجيني بالمواد النباتية واضحة … يمكن إدخال جينات مختلفة ذات أهمية في هذا البلازميد (جزء من الحمض النووي الحلقي المنقول من البكتيريا إلى جينوم النبات العائل)، ومن ثَم يمكن نقلها إلى الخلايا النباتية بحيث تكون مستقرة وثابتة فيها.»2 ولكن كانت كيفية حدوث هذا تحديدًا بعيدة عن «الوضوح»؛ ولذا استغرق فان مونتاجيو ومساعدوه السنوات الثماني التالية للقيام بهذه المهمة.

•••

كما ذكر شيل، تم التوصل إلى الاكتشاف الريادي للحمض النووي المؤتلِف، الذي ساعد في جعل الهندسة الوراثية للنباتات ممكنة، في نفس التوقيت تقريبًا. ففي عام ١٩٧١، ابتكر بول بِرج من جامعة ستانفورد أول جُزَيء حمض نووي مؤتلِف في تجربة علمية قادته إلى الفوز بجائزة نوبل في الكيمياء لعام ١٩٨٠. لم يكن هذا كائنًا حيًّا بالمعنى الدقيق للكلمة؛ إذ ربط بِرج حمضًا نوويًّا من فيروس يصيب القِرَدة وفيروس يصيب النباتات، ولا يمكن اعتبار الفيروسات كائنات حية في حد ذاتها. ولكن كان الشيء الأهم هنا أن التجربة قد نجحت بالفعل. فمع توافر المزيج الصحيح من الإنزيمات يمكن إرغام الحمض النووي ليُعاد تركيبه من أجزاء مختلفة ومنفصلة بعضها عن بعض، لينتج عنه خيمر جيني. وفي غضون عام، كان ستانلي كوهين، زميل برج بجامعة ستانفورد، بالتعاون مع هربرت بوير الباحث بجامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو، بصدد إدخال بلازميدات حمض نووي مؤتلف (أجزاء حلقية من حمض نووي بكتيري يحمل جينَين مختلفين مقاوِمين للمضادات الحيوية) إلى بكتيريا الإشريكية القولونية (الإيكولاي) وراقباها وهي تتكاثر مثل باقي جينوم البكتيريا.

كان كوهين وبوير أيضًا أول من تخطيا الحدود الوهمية الفاصلة بين الأنواع، من خلال نقل الحمض النووي من علجوم ضخم ذي مخالب (وهو «كائن نموذجي» غالبًا ما يميل علماء الأحياء إلى استضافته في المعمل ليتسكع) إلى بكتيريا الإشريكية القولونية. وبالطبع إذا أمكن عزل جينات العلجوم ونقلها على نحو مستقر إلى بكتيريا الإشريكية القولونية، فيمكن القيام بالشيء نفسه مع جينات البشر. وبحلول عام ١٩٧٨، كان بوير يعمل على نقل جينات الإنسولين البشري إلى بكتيريا الإشريكية القولونية، وبحلول عام ١٩٨٢، كان الإنسولين البشري الذي تنتجه البكتيريا (والخميرة فيما بعد) عبر الحمض النووي المؤتلف متاحًا في الأسواق. وأدَّى هذا إلى الحد من نقص الإنسولين الحيواني المصدر فيما سبق وتوفير طوق نجاة لمرضى السكري في جميع أنحاء العالم. ومن هنا جاءت الأغراض التجارية للتكنولوجيا الحيوية.

غير أن النباتات تختلف عن البكتيريا، ونقل الجينات إليها كان تحديًا أكبر. فالبكتيريا تتمتع بأغشية خلوية ذات نفاذية نسبية، ومن ثَم كان من السهل إدخال أجزاء الحمض النووي المؤتلف عبرها. أما الخلايا النباتية فتتمتع بجدار صلب، لا يمكن أن يخترقها الحمض النووي، بالإضافة إلى الحاجز الإضافي للنواة من الداخل. ومن هنا جاء الاهتمام بالبكتيريا «الأَجْرَعِيَّة»، التي طورت على نحو طبيعي طريقة لإدخال جينات البلازميد الخاصة بها إلى الحمض النووي النباتي عبر أنابيب دقيقة. وحاول علماء الهندسة الوراثية فيما بعد استخدام مقذافيات — مدفع جينات بالمعنى الحرفي للكلمة — لإطلاق جُسَيمات مغلَّفة بالحمض النووي داخل نواة الخلية النباتية.

كان هناك الكثير من المشككين في إنجازات شيل وفان مونتاجيو آنذاك. وعرف فان مونتاجيو أحدَ أوائل هؤلاء المُشكِّكين حين تلقى مكالمة هاتفية من الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، وهو شيء نادر الحدوث في تلك الأيام. كانت هذه المكالمة من أحد قادة فِرَق العلماء بجامعة واشنطن في مدينة سياتل البعيدة. كانت المتصلة هي عالمة كيمياء حيوية واعدة تُدعى ماري-ديل شيلتون. تميزت شيلتون بصراحتها الفظة. فقد قالت إن النتائج التي توصل إليها فان مونتاجيو كانت «هراءً، هراءً بحتًا». فقد كان وجود جينات البكتيريا «الأَجْرَعِيَّة» في الخلية النباتية مستحيلًا بكل الطرق. وقالت إنها، ماري-ديل شيلتون، ستثبت أن البلجيكيين المغرورين مخطئون. وأنهت المكالمة الهاتفية على ذلك.

فيما بعد كتبت شيلتون عن منافستها مع فريق فان مونتاجيو البلجيكي قائلة: «وجدنا أنفسنا نقوم بدور الثوَّار. كان من الضروري تحديد ما يمكن تصديقه.» يبدو رفض شيلتون لقبول فكرة ما دون إثبات، حتى وإن كانت من زميل خبير، أمرًا غير لائق، ولكن هذا متعارَف عليه بالطبع في مجال العلم. وهنا يحضرني شعار الجمعية الملكية: «لا تثق بكلام أحد دون دليل» (وهي ترجمة غير دقيقة للعبارة اللاتينية: Nullius in verba). ومن ثَم، كانت شيلتون عازمة على تفنيد نظريات فان مونتاجيو عن دور البكتيريا «الأَجْرَعِيَّة» بوصفها مختصة في الهندسة الوراثية الخاصة بالخلايا النباتية.

عندما ضغطتُ على فان مونتاجيو لمعرفة رأيه بخصوص هذا الأمر، لم تَظهَر عليه أي علامة استياء. فقال وقد تهللت أساريره: «هذه هي الطريقة التي يجب أن يُمارَس بها العلم! أظن أنه مثال جيد للغاية، ويزيدها شرفًا أن تقول إنها لا تصدق؛ لأنك حينئذٍ تمارس العلم على نحو جيد وترى بنفسك مَن المُحِق. فعندما لا تصدق، فأنت غاضب من شيء ما، فتقوم بتحليله.»

كان النهج الذي اتبعته شيلتون تجاه عمل فان مونتاجيو يتماشى تمامًا مع شخصيتها. فقد نشأت أغلب الوقت في كَنَف جَدَّيها بولاية كارولاينا الشمالية، وكانت درجاتها في المدرسة مرتفعة جدًّا دائمًا؛ حتى إن المدرسين ظنوا في البداية أنها تغش حتمًا. وعند استرجاع أحداث الماضي بعيون الحاضر، ترى أنها كانت تتمتَّع دومًا بقدرات وسمات عالم الأبحاث، واسترجَعَتْ ذكرياتها عن هذه الفترة قائلة: «كنت أحب الكيمياء؛ لأنه موضوع يمكنني فيه طرح سؤال لم يعرف أحدٌ إجابته بعد. كان بإمكاني أن أرى أحدث ما توصَّلَت إليه الأبحاث في علم الكيمياء.» لم يكن علم الأحياء الجُزَيئي سوى مجالٍ «مستحدثٍ في ذلك الوقت … أردت أن أعرف آلية عمل كل شيء. وكان من السهل طرح الأسئلة التي لم نكن نعرف لها إجابات.» ولم تستغرق وقتًا طويلًا للتركيز، على وجه الخصوص، على الحمض النووي، الذي لاحظَت أنه يتمتع فيما يبدو بخاصية التصحيح الذاتي. فيمكنه أن يصحح خطأً ما، وتعديل طفرة ما، وإعادة ترتيب نفسه مرة أخرى بطريقة تلقائية فيما يبدو. «وبدا هذا كما لو أنه جُزَيء يملك مُخًّا. وأردت أن أعرف آلية عمل هذا المخ.»

تعترف شيلتون بأنها كانت «إنسانة عنيدة تنافُسية بشدة طوال حياتي»، وباعتبارها باحثة شابة ما كانت لتُضحي بعملها من أجل الأمومة. وهذا لم يكن يعني أنها ستظل محرومة من الإنجاب؛ فقد حققت كِلا الأمرين في آنٍ واحد. وعن هذا تقول: «تحدثت بالفعل مع أولادي الصغار عن ذلك الأمر. أخبرتهم أنهم إذا أرادوا أن تكون لهم أم سعيدة، فستكون أُمًّا تعمل على أبحاثها العلمية، وأن هذا هو المنوال الذي ستسير عليه الأمور.» تَولَّد لدى شيلتون اهتمام مفاجئ ببكتيريا «الأجرعية» عندما قدَّم أحد طلابها بحثًا علميًّا عن البكتيريا المسببة لسرطان النباتات التي لم تكن معروفة على نطاق واسع حينها. تتذكر شيلتون قائلة: «كنت منبهرة. يبدو أن الناس ظنوا أن بكتيريا الأجرعية ربما تنقل الجينات منها إلى الخلايا النباتية.» بدا هذا مثيرًا للاهتمام، غير أن النزعات التشكيكية الفطرية داخل شيلتون قد استيقظت بمجرد أن بدأت في التحقق من الأمر واستقصائه. «عندما ألقيتُ نظرة على الأبحاث المطبوعة، كانت سيئة جدًّا. فلم يتَّبع أي منها الضوابط السليمة؛ ومن ثَم لا يمكنك أن تصدق النتائج التي خلصت إليها. فهي لم تُجرَ على الوجه الصحيح.»3 لم يكن هذا بالضرورة تعليقًا على أبحاث فان مونتاجيو وشيل. فقد كان هناك آخرون يعملون على بكتيريا «الأجرعية» باستخدام ما قد نعتبره الآن بروتوكولات تجريبية غير موثوق بها.

اعترفت شيلتون حين أجريت معها مقابلة عبر الهاتف من كارولاينا الشمالية أن تعاملاتها اللاحقة مع فريق فان مونتاجيو كانت «شديدة التنافُسية». أخبرتني بأن الفريقين «لم يتعاونا معًا على الإطلاق». غير أن المنافسة يمكن أن تكون عاملًا تحفيزيًّا للتقدُّم العلمي شأنه شأن التعاون. كانت شيلتون، حسبما روى فان مونتاجيو، مدفوعة بتصميمها على تفنيد نظرية البلجيكيين المغرورين. كانت ترى أن النظرية القائلة إن بكتيريا «الأجرعية» تضفر حمضها النووي داخل الخلايا النباتية (على حد قول فان مونتاجيو) هي «مجرد دعاية مبالغ فيها، والحقائق كانت مغلوطة.» غير أن التحقق من هذه النظرية لم يكن مهمَّة سهلة. لذا، في عام ١٩٧٧، بدأ فريق الباحثين بجامعة واشنطن في مدينة سياتل «تجربة شاملة كبرى تضم جميع العاملين في مختبرنا»، على حد وصف شيلتون فيما بعد. أُلغيت خطط عطلة نهاية الأسبوع واضطربت الحياة الأسرية. «لقد فعلنا جميعًا ما كان يجب القيام به في الخطوة التالية. لم أخُض أبدًا تجربة الالتزام التام بالعمل الجماعي في مسيرتي المِهنية بأكملها، سواء قبل أو منذ ذلك الحين، مثلما حدث في هذه التجربة.»

وكما هو الحال عادةً مع الاكتشافات الثورية الكبرى، تستطيع شيلتون أن تتذكر لحظة اكتشاف الحقيقة بالضبط حتى بعد مرور عقود على الحدث. على امتداد شريط الطابعة «رأيت فجأة أن الحمض النووي المنقول كان في الخلايا السرطانية». لقد توصل فريق شيلتون إلى المقطع الدقيق من المادة الوراثية المنقولة من البكتيريا إلى النبات العائل. وعلى سبيل التأكيد والإثبات، تضمن البحث العلمي التالي صورة فوتوغرافية لأنماط التحزيم المتطابقة التي تُكوِّنها تسلسلات الحمض النووي المستخلص من كل من الخلايا النباتية وبلازميد البكتيريا الأجرعية. كتبت شيلتون والمؤلفون المشاركون: «تشير نتائجنا إلى أن العامل المُحفِّز للورم … هو الحمض النووي بالفعل، مثلما اشتبه الكثير من الباحثين قبل فترة طويلة.» واستطردت شيلتون قائلة إنه بِناءً على ذلك «يمكن اعتبار أورام التدرُّنات التاجية، في ضوء نتائجنا، إنجازًا كبيرًا في الهندسة الوراثية فيما يخص البكتيريا الأجرعية.» وأضافت مُرَدِّدةً ما قاله شيل قبل عامين: «إذا كان الحمض النووي الدخيل على خلية الورم يعمل بهذه الطريقة، فالتطبيقات المحتملة … في دراسات الهندسة الوراثية المستقبلية في النباتات العليا واضحة للعيان.»

وهكذا لم تدحض ماري-ديل شيلتون نظرية فان مونتاجيو وشيل. بل أثبتت بالتجربة أنهما كانا على حق. واضطر فريق مدينة جنت أن يعترف بالهزيمة في سباق إثبات الحقائق. وكما كتب فان مونتاجيو فيما بعد: «لسوء الحظ، خسرنا معركة أن نكون أول الناشرين، والتسجيل الوحيد لنتيجتنا هو خطبة أُلقِيت في أحد المنتديات عام ١٩٧٨.»4 لقد أحرز الغاصبون على الجانب الآخر من الأطلسي بمدينة سياتل تقدُّمًا في سباق الهندسة الوراثية.

وفي عام ١٩٧٩، اتخذت شيلتون قرارًا شخصيًّا كان له تداعيات عميقة على التكنولوجيا الجديدة التي تساعد في أن يكون لها السبق في اكتشافها. انتقلت شيلتون مع أسرتها من مدينة سياتل إلى جامعة واشنطن في مدينة سانت لويس، لتبدأ العمل في مختبر أبحاث يقع مَقرُّه على بعد خمسة أميال فقط من شركةٍ كانت تبدي بالفعل اهتمامًا كبيرًا بأبحاثها، ألا وهي شركة مونسانتو. كان أحد المديرين التنفيذيين لشركة مونسانتو، وهو إرنست جاورسكي (إرني جاورسكي)، يتابع لسنوات عمل كُلٍّ من فريق شيلتون وفريق فان مونتاجيو. في ذلك الوقت، سارع جاورسكي إلى تعيين شيلتون مستشارةً، بالإضافة إلى توقيع عقد مع جيف شيل. ومنذ ذلك الحين، حظِيت مونسانتو بإمكانية الوصول الفوري إلى أحدث الأبحاث في مجال الهندسة الوراثية للنباتات حول العالم. وهكذا صار هناك سباق ثلاثي الجبهات بين: الأبحاث الجامعية التابعة للقطاع العام لفان مونتاجيو وشيل، وشيلتون، ومونسانتو، الشركة المنافسة الجديدة من مدينة سانت لويس.

•••

بحلول عام ١٩٧٩، كان إرنست جاورسكي يجاهد منذ فترة طويلة ليدفع رؤساءه في شركة مونسانتو للتعامل مع مجال التكنولوجيا الحيوية النباتية الناشئ على مَحمَل الجد. كانت مونسانتو شركة كيماويات على مدى تاريخها، وكان المديرون التنفيذيون الناجحون للشركة كيميائيين أسسوا حياتهم المهنية على بيع مبيدات الحشرات والبلاستيك. وكان جاورسكي مُهتمًّا بعلم الأحياء أكثر من اهتمامه بالكيمياء. كان يرى أن العالم يتغير، وأن مبيدات الحشرات أصبحت مثيرة للجدل نظرًا لآثارها السلبية على صحة الإنسان وعلى البيئة الأوسع نطاقًا. ومنذ عام ١٩٧٢، كان جاورسكي يطالب رؤساءه في شركة مونسانتو بوضع برنامج أبحاث لبيولوجيا الخلية يبشر بإنتاج جيل جديد من منتجات حماية المحاصيل لا يشمل استخدام بخاخات المواد الكيميائية على نطاق واسع. وكما أوضح في مقابلة شخصية أُجريت معه عام ١٩٩٦ لصالح مجلة مونسانتو الداخلية: «بدأت أفكر فيما سيحدث لمونسانتو في المستقبل. بعد أن اخترعتم جميع مبيدات الأعشاب التي تحتاجون إليها، وجميع مبيدات الحشرات التي تحتاجون إليها، وجميع مبيدات الفطريات، ماذا ستفعلون لمواصلة النمو؟ وخلصت إلى أنه سيأتي وقت لن يمكنك فيه حل جميع المشكلات بالمواد الكيميائية.»5
عندما راقب جاورسكي أبحاث شيلتون وفان مونتاجيو عرف أن الوقت يداهم مونسانتو إذا كانت بصدد أن تصير الشركة الرائدة والأولى في مجال الهندسة النباتية الناشئ. وبينما ظل رؤساؤه يراوغون، تَوالى ظهور نتائج أبحاث كل من شيلتون وفان مونتاجيو. وفي غضون عامين، كان كلا الفريقين قد نشر أبحاثًا تثبت الموضع الدقيق للحمض النووي المنقول من البكتيريا الأجرعية في الخلية النباتية (كان في النواة، كما هو متوقع). نفد صبر جاورسكي؛ لأنه أدرك أن متابعة آخر مستجدات أبحاث شيلتون وفان مونتاجيو ليست كافية. سيتعيَّن على شركة مونسانتو أن تضاعف هذه الأبحاث وتطورها داخل الشركة. لو أرادت شركة مونسانتو أن تتبوأ «موقعًا احتكاريًّا» في المستقبل (حسبما ورد في إحدى مذكرات الشركة الداخلية)6 في هذا المجال الجديد، ستحتاج إلى حيازة براءات الاختراع. وكان هذا بدوره يعني أنها بحاجة إلى ابتكار اختراعاتها الخاصة بها. كان التوقيت مواتيًا؛ لأن الطريق نحو تقديم التكنولوجيا الحيوية كسلعة تجارية بالكامل قد مُهِّد بفضل المحكمة العليا في الولايات المتحدة التي بتَّت في قضية «دايموند ضد تشاكرابارتي» الشهيرة عام ١٩٨٠، وقضت بإمكانية حماية الكائنات الحية الدقيقة الجديدة المُخلَّقة في المعمل بوصفها ملكية فكرية بموجب قانون براءات الاختراع الأمريكي.7

بدأ جاورسكي بتعيين علماء أبحاث يمكنهم الشروع في قيادة مجال الهندسة الوراثية من داخل الشركة. وكان أحد هؤلاء العلماء روبرت فرالي (روب فرالي)، وهو شاب حاصل على زمالة ما بعد الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو، وكان رائدًا بالفعل في مجال نقل الحمض النووي النباتي. كان فرالي، وهو شخص ذكي وطَموح على حدٍّ سواء، مُهتمًّا بإدارة الشركات، وكذلك بالعمل داخل المختبرات. واليوم يشغل فرالي منصب نائب الرئيس التنفيذي ورئيس قسم التكنولوجيا بشركة مونسانتو، ومن حيث النفوذ يأتي في المرتبة الثانية بعد الرئيس التنفيذي، هيو جرانت. وفرالي هو أكثر شخص يشارك جاورسكي رؤيته عن الهندسة الوراثية النباتية باعتبارها نقطة انطلاق مونسانتو للانتقال من عصر الكيمياء إلى عصر الأحياء في مجال حماية المحاصيل. وتمثَّلت مهمته في تحويل هذه الرؤية إلى واقع؛ واقع ليس من شأنه أن يغير وجه الزراعة فحسب، وإنما من شأنه أن يفتح أسواقًا جديدة تمامًا ويحقق أرباحًا بالمليارات لشركة مونسانتو في الأثناء.

•••

أخبرني روب فرالي عندما أَجرَيت معه مقابلة شخصية عبر الهاتف قائلًا: «عندما كنت طفلًا كانت رغبتي دومًا أن أكون عالمًا.» نشأ فرالي في مزرعة بولاية إلينوي، على بعد ١٠٠ ميل جنوبَي شيكاغو. قال فرالي مُسترجعًا الذكريات: «كانت لدينا أرض على مساحة نحو ٣٠٠ أو ٤٠٠ فدان، مزروعة بالمجموعة المعتادة من المحاصيل الموجودة في الغرب الأوسط؛ مثل فول الصُّويا والذُّرة والقمح، وبها عدد قليل من الماشية.»8 ولكن عندما تحدثت إليه ساورني شعور بأن الشاب روب قرر في وقت مبكر جدًّا من حياته أن الزراعة ليست بالمهنة المناسبة له. وعن هذا قال: «دائمًا أُخبر الناس بأنني كنت طفلًا غريب الأطوار لطالما عَرَف أنه سيكون عالمًا. يمكنني أن أتذكر حين كنت في الخامسة أو السادسة من عمري، كنت أنسخ الصور من الموسوعات، وأتسلل إلى ورشة والدي أو جدي وأحاول أن أفكك الأشياء وأستكشف آلية عملها. ودائمًا ما كان يساورني ذلك الشعور بأنني سأحقق إنجازًا ما في مجال العلوم أو التكنولوجيا.»9 كان فرالي أول شخص في عائلته يلتحق بالجامعة: «كان الاشتغال بالزراعة أمرًا جيدًا، ولكن ما أدركتُه في وقت مبكر أن والدي كان مزارعًا صغيرًا، وأننا كنا أسرة فقيرة جدًّا من المزارعين.» عندما تُوفي والده في «سن صغيرة جدًّا»، كان هذا نهاية أي طموحات زراعية ربما يُضمرها فرالي في نفسه. بعد الحصول على درجة البكالوريوس من جامعة إلينوي، واصل فرالي الدراسات العليا بجامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو. وعندما بحث في نطاق جامعة كاليفورنيا عن فرص العمل المتاحة، تواصل فرالي مع شركة مونسانتو «على نحو عشوائي بعض الشيء» على حد وصفه. فأثناء حضوره مؤتمر أكاديمي في عام ١٩٧٩، التقى بعالِم يعمل في شركة مونسانتو أخبره بأن «مونسانتو تستعد لبدء برنامج للتكنولوجيا الحيوية في مجال الزراعة، وقبل أن تنشغل بأي شيء آخر، ينبغي أن تتحدث إلى هذا الشاب الذي يُدعى إرني جاورسكي الذي يقوم بإعداد البرنامج.» وصادف أنَّ جاورسكي كان في طريقه لحضور مؤتمر آخر، والتقى الرجلان في مطار بوسطن لقاءً عاجلًا أثناء الانتظار بين رحلات الطيران. ووفقًا لفرالي، «كان إرني قائدًا ساحرًا وشغوفًا جدًّا، استطاع أن يقنعني سريعًا بأنني يجب على الأقل أن أسافر إلى سانت لويس وأتحدث معهم عما تقوم به شركة مونسانتو. وكان هذا هو الرابط الأساسي. وبعد مرور بضعة أشهر، قمت بزيارة مدينة سانت لويس. والتقيت بإرني، واستمعت إلى ما كان يحاول أن يستجمعه، وتحدثت عن الفريق … وأظن أن بعد مرور ٣٧ عامًا … بقية القصة معروفة.»

مَثَّلَ النظام المقترح للهندسة الوراثية باستخدام البكتيريا الأجرعية بعض التحديات الجسام أمام نجم فريق مونسانتو الصاعد الجديد. كانت العَقَبة الأولى أمامهم هي العثور على «واسِمة مختارة» للخلايا النباتية المنقولة. بعبارة أخرى، كان لا بد أن تكون هناك طريقة لغربلة آلاف الخلايا التي تعرضت إلى معالجة البكتيريا الأجرعية من أجل العثور على الخلايا التي «نُقلت» بنجاح بتسلسلات الحمض النووي الجديد المنشود (لم تكن عملية النقل تنجح في أغلب الأحيان لسبب أو آخر). كان الحل المقترح من جانبهم هو إضافة جين مقاوِم للمضاد الحيوي كاناميسين إلى بلازميد الأجرعية، وبذلك تتمكن الخلايا النباتية المنقولة بنجاح من النمو في طبق بِتْرِي يحتوي على هذا المركب الذي يكون سامًّا في حالات أخرى، بينما تموت جميع الخلايا غير المنقولة. وفي الوقت نفسه، يجب تعطيل الجينات المسببة للورم في بلازميد البكتيريا الأجرعية؛ فقد كانت شركة مونسانتو مهتمة بزراعة محاصيل سليمة، لا حقول ذُرة مليئة بالتدرُّنات التاجية المشوَّهة. كان على فريق التكنولوجيا الحيوية الجديد التابع لشركة مونسانتو أيضًا مواجهة الشكوك من داخل الشركة وخارجها على حدٍّ سواء. يقول فرالي متذكرًا: «كان هناك علماء في ذلك الوقت يؤمنون بأن الحمض النووي النباتي مختلف تمامًا، لدرجة أنك لا تستطيع إدخال أي جين إليه. كان ثمة اعتقاد بأن هذه الجينات لن يُعبَّر عنها في خلايا النبات، أو أن الخلية المحددة التي سيوضع بها الجين ستكون فريدة من نوعها ولن تكون قابلة للتجدُّد مرة أخرى.»

سرعان ما واجه روب فرالي لحظة الاكتشاف الخاصة به، مثلما حدث مع شيلتون من قبله. فروى قائلًا: «أتذكر روب هورش وهو يركض — كان لدينا رواق طويل — عبر منتصف المبنى النصف الدائري، وكان يصرخ قائلًا: «لقد نجح الأمر! لقد نجح الأمر! لقد نجح الأمر!» كان روب شابًّا قصير القامة، إلا أنه ظل يتقافز لأعلى وأسفل يكاد أن يلامس السقف من فرط الإثارة والحماس. كانت النتائج واضحة تمامًا. كان بإمكانك أن تُلقي نظرة على أطباق بِتْرِي، ترى الكثير من المستعمرات الخضراء النامية في تلك الأطباق التي تحتوي على الجين، بينما تلك التي لا تحتوي على الجين فجميعها ميت قد تحوَّل لونها إلى البُني. لقد نجح الأمر وكان هذا واضحًا للغاية. وكانت لحظة فارقة.» وكما أخبرني فرالي: «كان الأمر مثيرًا جدًّا؛ لأننا أدركنا أننا بضربة واحدة حللنا المشكلة.» وبعد مرور بضعة أسابيع فقط كان جيف شيل قد غادر أوروبا لزيارة مختبر مونسانتو. كما يتذكر فرالي: «ما زلت أذكر حين أوضحت لجيف شيل لأول مرة أننا لدينا الدليل القاطع على أن بإمكاننا إدخال جين إلى الخلايا النباتية. كنا ننظر معًا في أطباق بِتْرِي وبدأ جيف يهتف. فقلت له: «جيف، ما الخطب؟» فقال: «لقد فعلتها! لقد فعلتها!» وكانت تلك هي اللحظة التي أدركت فيها فجأة ما حققناه.» أخيرًا، تخطَّينا العقبة الأخيرة أمام تطبيق الهندسة الوراثية النباتية على نطاق شامل.

•••

جاءت اللحظة التاريخية الحقيقية، أو ما سُمي مجازًا ﺑ «عصر النضج للهندسة الوراثية النباتية»، بعد مرور شهرين، وتحديدًا في الثامن عشر من يناير عام ١٩٨٣. في المنتدى الشتوي للكيمياء الحيوية بميامي، قدمت الفرق الثلاث جميعها، يمثلها ماري–ديل شيلتون وجيف شيل وروب هورش، عروضًا تقديمية متتالية تكشف النقاب عن اكتشافات ثورية مماثلة. ولم يعُد مجال العلوم هو المجال الوحيد على الساحة؛ إذ تَدَخَّل المحامون أيضًا وصاروا منشغلين بآخر المستجدات. كانت شركة مونسانتو قد تقدمت لتسجيل براءة الاختراع في اليوم السابق على اجتماع ميامي، في السابع عشر من يناير. ولكن كان فان مونتاجيو وشيل قد سبقا مونسانتو بيوم واحد وتقدما بطلب الحصول على براءة اختراع في أوروبا. وفي غضون أشهر، غيَّرت شيلتون انتماءها المؤسسي، لتترك جامعة واشنطن بمدينة سانت لويس وتتجه إلى شركة سيبا–جايجي، المُدمجة اليوم مع شركة سينجينتا السويسرية الضخمة المتخصصة في الكيماويات الزراعية. رفض فريق جنت الانضمام إلى أي شركة كبرى. وعوضًا عن ذلك، أسس الفريق شركة ناشئة للحصول على براءة اختراع بكتيريا الأجرعية، وهي شركة بلانت جينيتك سيستمز. وكما هو الحال مع العديد من الشركات الناشئة، لم تبقَ مستقلة لوقت طويل. ففي غضون بضع سنوات، استحوذت عليها شركة هوكست، وهي الآن جزء من شركة باير الألمانية الضخمة المتخصصة في البذور والأدوية والكيماويات. في ذلك الحين، كان شيل أيضًا يحظى بمسيرة مهنية ناجحة باعتباره مدير معهد ماكس بلانك لأبحاث استيلاد النبات، بمدينة كولونيا الألمانية، وصار مسئولًا عن فريق يتألف من أكثر من مائة باحث علمي.

رأى البعض أن واقعة منتدى ميامي كانت اللحظة التي سرقت فيها مونسانتو الأضواء، لتُنحِّي جانبًا جميع الأطراف الفاعلة الأقل شأنًا. وفي كتاب صدر عام ٢٠٠١، بعنوان «سادة الحصاد»، يقتبس المؤلف دان تشارلز، الصحفي المتخصص في مجال الغذاء بالإذاعة الوطنية العامة الأمريكية، شكوى فان مونتاجيو من أنه كان «محبطًا لأن شركة مونسانتو احتكرت وسائل الإعلام» وأن «لا أحد استمع إلى قصتنا». قال تشارلز: «رافق مندوبٌ من قسم العلاقات العامة بالشركة هورش في رحلته إلى ميامي. وأرسلت شركة مونسانتو بيانًا صحفيًّا. وفي غضون أيام، نسبت الصفحة الأولى من صحيفة «وول ستريت جورنال» فضل اكتشافٍ علمي ثوري إلى شركة مونسانتو.»10

غير أنه يبدو أن مرور الوقت قد نجح في تصفية الأجواء الكدِرة. فلم أستشعر من مقابلاتي الشخصية مع كُلٍّ من فان مونتاجيو وشيلتون أي أثر لأي استياء من جانبهما. فعندما تحدثنا عن شركة مونسانتو، أخبرني فان مونتاجيو قائلًا: «لطالما أكننتُ لها إعجابًا شديدًا»، رغم اعترافه بأن القناع الخارجي الودود الذي يرتديه ممثلو الشركة ربما كان مختلفًا عن الواقع الداخلي. كما أرجع الفضل «بصورة قاطعة» إلى إرنست جاورسكي في وجود تلك الرؤية لاستغلال الهندسة الوراثية النباتية تجاريًّا، وتشجيع مونسانتو على تبنِّيها. وأخبرني فان مونسانتو أيضًا أن جيف شيل وجاورسكي «كانا صديقين مقربَين حقًّا»؛ ولذا يرى من وجهة نظره أنه من المستبعد أن تكون هذه العلاقة قد استُغِلَّت اقتصاديًّا.

كان عنوان الخبر الذي أوردَتْه صحيفة «وول ستريت جورنال» بتاريخ ٢٠ يناير ١٩٨٣، والذي أشار إليه دان تشارلز في كتابه: «علماء مونسانتو يصرحون بأنهم نجحوا في إدخال جين غريب في الخلايا النباتية». وفي الفقرة الثانية، كتب الصحفي يقول: «تقول الشركة المنتجة للمادة الكيميائية، ومقرُّها سانت لويس، إن علماء من بلجيكا حققوا إنجازًا فذًّا مشابهًا في التوقيت نفسه تقريبًا، وكانوا يعملون على نحوٍ مستقل عن فريق سانت لويس … وقد أُجرِيَت تجربة مونسانتو على يد روبرت هورش وستيفن جي روجرز وروبرت تي فرالي. وأعزوا الفضل إلى البروفيسور شيل من بلجيكا وماري–ديل شيلتون من جامعة واشنطن بمدينة سانت لويس في العمل على البكتيريا الأجرعية الذي جعل التجربة ممكنة. وكانت التجربة البلجيكية قد سجلها البروفيسور شيل ومارك فان مونتاجيو.»

إن نيل التقدير المناسب عند التوصل إلى اكتشافات علمية أمرٌ مُهم لأسباب تتعدى الأسباب الشخصية الأنانية. فلهذا الأمر آثارٌ قانونية ومالية خطيرة، كما أظهرت طلبات تسجيل براءة الاختراع المتنازع عليها. إذن، هل كانت شركة مونسانتو أول مَن مارس القرصنة البيولوجية، من خلال سرقة اختراعات الآخرين؟ استشهد كتاب «سادة الحصاد» بقول ماري-ديل شيلتون إن مشاعرها تجاه شركة مونسانتو كانت عبارة عن «مزيج مزعج من الغيرة والاحترام والإعجاب والغضب»، ولكن عندما تحدثت إليها بعد مرور عقد ونصف العقد، قالت شيلتون إنها ليس لديها أي مشاعر سلبية قوية. وأضافت، بعد برهة من التفكير العميق، قائلة: «كلا، أظن أن كفَّتَي التفاعل كانتا متوازنتَين إلى حدٍّ ما.» غير أن كفة الميزان ربما مالت قليلًا نحو شركة مونسانتو. فقد أضافت شيلتون قائلة: «أظن أن مونسانتو ربما نالت أكثر من نصيبها المستحق؛ لأن ما تمتلكه مونسانتو لم يكن فريدًا، ولكن ما أمتلكه أنا كان فريدًا. مونسانتو لديها المال، وأنا لديَّ المعرفة والتكنولوجيا والخبرة.»

أقرت شيلتون بأن شركة مونسانتو «حلت تلك المعضلة» من خلال تعيينها هي وجيف شيل مستشارَين لها. ولذا أَشَرْتُ في المقابلة الشخصية معها عبر الهاتف قائلًا: «إذن، لم يكن بإمكانك إبداء أي تذمُّر حين فازت شركة مونسانتو بحقوق براءة الاختراع بكل سهولة.» توقفت برهة أخرى للتفكير. ثم قالت: «حسنًا، هذا متوقف على أشياء أخرى. إذا أخذت شركة مونسانتو فكرة من بنات أفكاري وقالت إنها رؤيتها، فهذا على الأرجح غير صحيح. وبموجب القانون الأمريكي لحماية براءة الاختراع، المُبتَكِر هو صاحب الفكرة. وفي بعض الحالات، ربما كان ينبغي اعتباري أحد المخترعين. ولم يفعلوا ذلك. لم يفعلوا ذلك مطلقًا. كان من شأن ذِكر اسم أي شخص من خارج شركة مونسانتو باعتباره مشاركًا في الاختراع أن يُصعِّب موقفهم القانوني.» ثم قاطعت شيلتون نفسها قائلة: «ولكن هذا ليس مهمًّا. في رأيي ليس مهمًّا.»

•••

بعد مرور ثلاثين عامًا على اكتشافهم الهندسة الوراثية النباتية، اجتَمع مرة أخرى ممثلو الفرق الثلاث المتنافسة، الباقون على قيد الحياة، في مساء يوم السادس عشر من أكتوبر عام ٢٠١٣. في قاعة كبيرة بمدينة دي موين، احتشد عدة مئات من كبار الشخصيات في صمت، يرتدون جميعًا ملابس أنيقة ملائمة لهذه المناسبة الرسمية الرفيعة المستوى، ويجلسون في صفوف نصف دائرية في غرفة بمبنى الكابيتول الفخم بولاية آيوا، في انتظار دخول الفائزين بجائزة الغذاء العالمية لعام ٢٠١٣. تقدم موكب طويل من الرؤساء ورؤساء الوزراء والسفراء وأعضاء مجلس الشيوخ وحكَّام الولايات ليتخذوا مقاعدهم، بينما انطلق صوت مذيع غير مرئي ليقدم كلًّا منهم في دوره. ثم انطلقت ستة أبواق في عزف رائع بآلات النفخ، وأعلن المذيع قائلًا: «والآن، نرحب بحفل الفائزين بجائزة الغذاء العالمية، وضيوف الشرف الموقرين؛ الفائزون لعام ٢٠١٣ هم مارك فان مونتاجيو من بلجيكا! وماري-ديل شيلتون وروبرت فرالي من الولايات المتحدة!»

على اليمين، وقف فان مونتاجيو، مرتديًا بدلة وربطة عنق أرجوانية. ووقفت شيلتون في المنتصف، متكئة على عصًا، ولكنها ما زالت تتمتع بهالة مَلَكية تليق بالسيدة التي لُقبت ذات مرة بلقب «ملكة البكتيريا الأجرعية». وعلى اليسار، وقف روب فرالي من شركة مونسانتو، مرتديًا بدلة زرقاء داكنة وربطة عنق باللون الكحلي. بِتُؤَدة نزل ثلاثتهم الدرجات المؤدية إلى الصالة المكتظة بالجمهور، وهم يتطلعون إلى الأمام. وقبالتهم، استقرت منحوتة جائزة الغذاء العالمية على منصة خشبية لامعة أمام صف العازفين بالأبواق، وكانت وعاءً حجريًّا بلون تُرابي مصنوع من المرمر، في منتصفه كرة بيوترية.11 كانت هناك أيضًا جائزة نقدية كبيرة. كان الاحتفال بأكمله مُصمَّمًا على نحو معبر عند تأسيسه في عام ١٩٩٠ ليشبه مراسم توزيع جائزة نوبل، بِناءً على تعليمات من مؤسسها نورمان بورلوج، أبي الثورة الخضراء.

وعلى شاشات عرض عملاقة، ظهرت فجأة صورة إم إس سواميناثان، المتخصص الهندي في استيلاد المحاصيل الذي تعاون مع بورلوج لإدخال سُلالات جديدة وفيرة الإنتاج من القمح والأرز إلى شبه القارة الهندية. صرح سواميناثان عبر خطابه المُسجَّل عبر الفيديو قائلًا: «يسعدني بشكل خاص، في الذكرى السنوية الستين لاكتشاف التركيب اللولبي المزدوج لجُزيء الحمض النووي، تكريم ثلاثة علماء بارزين في التكنولوجيا الحيوية — البروفيسور مارك فان مونتاجيو، وماري-ديل شيلتون، وروبرت فرالي — تقديرًا لعملهم، وسيتسلمون جائزة الغذاء العالمية. وهذا تكريم مستحق جدًّا؛ لأنني أعتقد أن علم الهندسة الوراثية وعلم الأحياء الجديد وعلم الوراثة الجديد قد فتحت بالتأكيد آفاقًا لفُرص جديدة تمامًا.»

انتقل مقطع الفيديو إلى قصة البكتيريا الأجرعية، بصُوَر قديمة لمارك فان مونتاجيو في الستينيات من القرن العشرين مرتديًا نظارة طبية ذات عدستين سميكتَين، بشعر أسود أشعث وقميص منقوش، وإلى جواره جيف شيل بلِحيته. تبِعها مقطع مصور لبكتيريا الأجرعية تنقل جيناتها إلى خلية النبات، وصور لجذور نبات مشوه بأورام التدرن التاجي التي سببتها البكتيريا. ثم ينتقل مقطع الفيديو إلى صور من طفولة ماري-ديل شيلتون، بقَصة شعرها الصبيانية وتقطيبتها التي تشي بالعناد والتصميم. ثم عُرضت صورة لمَدرَستها الثانوية العادية الشكل في إلينوي، ثم صورة أخرى لشيلتون وهي أُمٌّ شابة تحمل طفلًا صغيرًا في حمالة ظهر وتلتقط صورة لنبات ما في أحد الحقول. ينتقل الفيديو بالأحداث إلى تجربة شيلتون «الشاملة» لاكتشاف الحمض النووي للبكتيريا الأجرعية المُضفر داخل الخلية النباتية.

تحدثت شيلتون، البالغة من العمر آنذاك ٧٤ عامًا، في تسجيل مُسبق عُرض على الشاشة، مرتديةً نظارة ثنائية البؤرة ومعطف مختبري وردي اللون، ومن ورائها تظهر أرفف مزدحمة بزجاجات تحوي مواد كيميائية وغيرها من المعدات المختبرية الأخرى. قالت مُرددةً ما قاله جيف شيل قبل ١٥ عامًا: «في حقيقة الأمر، العملية التي استخدمناها لتطوير المحاصيل الزراعية بالهندسة الوراثية هي عملية طبيعية. لقد تعلمناها من الطبيعة. تعلَّمناها من البكتيريا الأجرعية، وهي بكتيريا صغيرة قامت بذلك قبل أن نكتشفه. كل ما فعلناه أننا تعلَّمنا كيف تستطيع البكتيريا الأجرعية أن تُدخِل جينًا إلى نبات ما، وحاكينا تلك العملية. لقد استغللنا تلك العملية الطبيعية لإدخال جينات إلى خلايا نباتية، جينات من اختيارنا تُحقق الاستفادة للمزارع والمستخدم النهائي لذلك النبات.»

ثم انتقل مقطع الفيديو إلى روب فرالي. ظهر فرالي في مرحلة الطفولة، جالسًا على جرار لعبة في مزرعة العائلة خارج منزل خشبي أبيض يجسِّد نموذجًا لطراز الغرب الأوسط. ثم ظهر فرالي في سن أكبر على جرار حقيقي، ثم في شركة مونسانتو، على ظهر آلة لغرس البذور، جالسًا بجوار زميليه روب هورش وستيف روجرز. ثم يظهر هورش وروجرز مُرتديَين نظاراتهما، ويمسكان بأطباق بِتْرِي عليها كُتل نباتية خضراء مُتكتِّلة؛ وهي تلك الخلايا الأولى المنقولة بنجاح، وجاهزة لتنمو وتصبح نباتات جديدة مُعدَّلة وراثيًّا. ينسب مقطع الفيديو الفضل إلى فريق شركة مونسانتو في اكتشاف كيفية إزالة الجينات المُحفِّزة للورم من بلازميد بكتيريا الأجرعية، وإبدالها بحمض نووي مؤتلف يتكون من جينات جديدة مرغوب فيها جاهزة لإدخالها في النبات المستهدَف. وهناك وقف فرالي بشارب كث قصير، يبتسم أمام نباتات الطماطم والبتونيا، ثم فرالي في سن أكبر مرتديًا بدلة وربطة عنق على منصة وراء شعار شركة مونسانتو، وفي الخلفية علم الولايات المتحدة. كانت مدة مقطع مقابلة فرالي على الشاشة أقصر، لكنه ظهر مبتهجًا على نحو مميز وهو يقول: «أشعر حقًّا بأنني محظوظ، وأظن من وجهة نظري أن هذه مجرد بداية لموجة من الابتكارات ستكون بالغة الأهمية في مجال الزراعة.» وينتهي الفيديو بمشاهد من الزراعة الحديثة من مختلف أنحاء العالم، يصاحبها موسيقى مبهجة وتعليق صوتي يلهث من الانبهار وهو يمتدح مناقب ثورة التكنولوجيا الحيوية النباتية التي ساعد فان مونتاجيو وشيتلون وفرالي في تمهيد الطريق إليها باعتبارهم الفائزين بجائزة الغذاء العالمية لعام ٢٠١٣.

من المحزن أن جيف شيل لم يحضر حفل توزيع الجوائز؛ لأن الموت غيَّبه قبل عشر سنوات مضت. وحمل خطاب شيل لحظة تسلمه جائزة اليابان عام ١٩٩٨ تعبيرًا غاية في الدقة والروعة عن رؤية الرواد الأوائل التي تنُصُّ على إمكانية أن تصير الهندسة الوراثية أداة لزراعةٍ أكثر استدامة. فقد قال شيل: «تعتبر الزراعة، التي تُمارس حاليًّا، أحد أكبر مصادر التلوث البيئي. وإذا أردنا الحد من الآثار السلبية للزراعة على البيئة، فلا بد من تحسين الإنتاجية؛ بمعنى زيادة الإنتاج والجودة إلى الحد الأقصى لمدخل معين … واستيلاد النباتات هو إحدى الطرق القلائل وأكثرها فاعلية لتحسين الإنتاجية الزراعية دون تدميرٍ للبيئة في الوقت نفسه. وهذا ينطبق على دول العالم الصناعي؛ بل ربما ينطبق أكثر على دول العالم النامي، وينطبق على كلٍّ من الزراعة المكثفة والموسَّعة. وإذا كان للاستيلاد أن يساهم في حل المشكلات الكبرى التي يجب أن نواجهها خلال العقود التالية، فلا بد من الاستعانة بأفضل التقنيات بما فيها الهندسة الوراثية.» ولكن بحلول عام ١٩٩٨، كان شيل بالطبع قد أدرك تمامًا أن «العلوم والتكنولوجيا الجديدة يُنظَر إليها بعين الحذر والخوف»، وكان هذا الخوف «صريحًا وواضحًا تحديدًا في أوروبا.» وكان هذا لغزًا محيرًا بالنسبة إلى شيل: «لسوء الحظ، كانت المنظمات والأحزاب السياسية التي يعتمد دعمها على حماية البيئة … هي نفسها الأكثر نشاطًا في رفض التكنولوجيا الحيوية النباتية. لقد قُوبِلت قدرة هذه التكنولوجيا الجديدة على حماية البيئة بالتجاهل إلى حدٍّ كبير.»

وكما تساءل فان مونتاجيو بأسًى في مقال استرجاعي للأحداث الماضية كُتب بعد مرور عقود على أولى اكتشافاته العلمية: «نحن نعيش في عالم يعاني فيه أكثر من مليار شخص من الجوع أو يموتون جوعًا، بينما المناطق الأخيرة من الغابات الاستوائية والطبيعة البرية في طريقها للاختفاء. لماذا لا تُقدِّم هذه التكنولوجيا الجديدة حلولًا لهذه التحديات؟ لماذا لم يحدث هذا بعدُ؟ ما الخطأ الذي اقترفناه؟» من وجهة نظري، لم تنشأ المعارضة المتزايدة ضد الهندسة الوراثية النباتية بسبب القرارات التي اتخذها شيل أو فان مونتاجيو أو حتى شيلتون؛ وإنما نشأت إلى حد كبير من الحضور الطاغي لمنافسهم السابق، ألا وهي شركة مونسانتو.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤