الفصل الرابع

القصة الحقيقية وراء شركة مونسانتو

وقعت هذه الأحداث في منتصف شهر أكتوبر من عام ١٩٠١. في مدينة سانت لويس المزدهرة المترامية الأطراف والمحاطة بالأدخنة من كل جانب، بولاية ميسوري، والتي يُطلق عليها «بوابة الغرب»، أخذ رجلٌ في منتصف العمر مخيف المظهر ذو شعر أصهب داكن وشارب بُني مُصفَرٍّ يذرع منطقة وسط المدينة ذهابًا وإيابًا. وعلى بُعد بناية من نهر المِسيسيبي، كان جون فرانسيس كويني يبحث عن موقع لمشروعه التجاري المُزمَع إقامته. كان في حوزة كويني — المولود في مدينة شيكاغو الصناعية عام ١٨٥٩، وهو الابن الأكبر بين خمسة أبناء من الجيل الثاني لعائلة أيرلندية مهاجرة مجتهدة رغم فقرها — ١٥٠٠ دولار فقط آنذاك. وبعد أن اقترض ٣٥٠٠ دولار أخرى من صديق مقرب بهدف تأسيس شركة كيماويات، كان كويني على وشك خوض رهان محفوف بالمخاطر.

كان كويني قد شق طريقه بالفعل من الشوارع، تاركًا التعليم في سن الثانية عشرة ليعمل في صباه بائعًا متجولًا بدخل أسبوعي دولارَين ونصف دولار. وبحلول عام ١٨٩٤، كان قد ترقَّى في العمل حتى أصبح مدير مبيعات شركة ميرك آند كو للأدوية، واقتنص الفرصة آنذاك ليبدأ مشروعه الخاص. ورغم ذلك، خطط للاحتفاظ بالوظيفة في شركة ميرك كبديل احتياطي، ونصحه مديره بعدم استخدام اسم كويني في المشروع الجديد تجنُّبًا لإرباك العملاء. ولذا قرر جون فرانسيس بدلًا من ذلك أن يستغل اسم عائلة زوجته الجديدة الأقل شهرة، والتي تزوجها قبل خمس سنوات في مدينة هوبوكين بولاية نيوجيرسي. كانت خلفيتها تختلف تمامًا عن خلفية زوجها الأيرلندي الكادح؛ إذ كان والدها إسبانيًّا وكانت ذات أصل أرستقراطي نوعًا ما. وكانت تُدعى الآنسة أولجا مينديز مونسانتو.1
كانت فكرة مشروع جون إف كويني بسيطة. عرف كويني أن شركة ألمانية تحتكر تصنيع مادة السكارين الكيميائية فائقة التحلية المُكتشفة حديثًا، فأراد تأسيس شركة لتصنيع هذه المادة مقرها الولايات المتحدة الأمريكية لمواجهة الواردات الألمانية بتصنيع مادةِ تحليةٍ محلية الصنع. كانت أسبابه منطقية بالقدر الكافي. فقد كان للسكارين سوق كبيرة بالفعل متمثلة في الحلوى والمشروبات الغازية والنُّشوق، ورطل واحد من السكارين قد يحمل نفس قدر حلاوة ٣٠٠ رطل من السكر الحقيقي.2 وحتى مع الوضع في الاعتبار حقيقة أن تصنيع السكارين كان أكثر تكلفة، فقد كان أرخص ست مرات مقارنة بقصب السكر من حيث القدرة على التحلية. كان لمادة السكارين عيوب، تمثلت في المذاق الغريب الذي تتركه في الفم، ودرجة السلامة غير المؤكدة، والحقيقة المُنفِّرة إلى حدٍّ ما أنها اكتُشفت بالصدفة كمنتج ثانوي لقطران الفحم. غير أن كويني لم يَتهيَّب هذا النوع من المخاوف، بفضل خبرته في مجال المستحضرات الدوائية. وكان حدسه صحيحًا؛ إذ صار المُحلي الصناعي واحدًا من المنتجات المقدَّسة في عصر المواد الكيميائية.

كان أول موظف عَيَّنَه كويني كيميائيًّا سويسريًّا ألمانيًّا مؤهلًا حديثًا، يُدعى لويس فيلون، وكان يعرف بالفعل الوصفة المعقدة لتصنيع السكارين؛ إذ تعلَّمها في موطنه في أوروبا. كانت المهمة الأولى المُسنَدة إلى فيلون هي تجميع المعدات اللازمة، على أن تكون مستعملة، إن أمكن، لتوفير المال. وشمل هذا مُحركًا بُخاريًّا قديمًا ومرجلًا أقدم ومضخة وميزانًا وغلاية وأنابيب وجهاز طردٍ مركزيٍّ جديدًا تمامًا، تم تركيبها جميعًا في مقر شركة مونسانتو كيميكال ووركس، الذي أُسس مؤخرًا في شارع ساوث ساكند، وهو مكان حقير بجوار مصنع لأعواد الثقاب. (قُدر للمبنى المجاور، كما هو متوقع سلفًا، أن يحترق تمامًا بعد مرور بضع سنوات. فقام كويني، وهو النَّهَّاز دائمًا للفرص، بشراء المصنع المنكوب المجاور والتوسع).

كان تصنيع الدفعة الأولى من السكارين في فبراير من عام ١٩٠٢، وكانت براعم التذوق لدى كل من فيلون وكويني — حسبما تقول القصة — قد تعطلت تمامًا بسبب استنشاقهما لأبخرة السكارين في المصنع، لدرجة أنهما عجزا تمامًا في البداية عن تذوق أي حلاوة. وظنًّا منهما أن المشروع بأكمله قد باء بالفشل، اتجها في حالة من البؤس إلى مطعم قريب، حيث عرضا عينة من المنتج على نادِلٍ هناك، فعلَّق قائلًا: «يا إلهي، هذا لذيذ!» أعقب ذلك احتفالات على النحو الواجب، وتلقى فيلون أول مكافأة من رب عمله المُمتَن له، وكانت علبة سيجار هافانا. باع كويني السكارين الخاص به إلى أحد مُصَنِّعي المشروبات الغازية، مضيفًا إلى قائمته نكهتَي الكافيين والفانيليا الصناعية بعد مرور بضع سنوات لخدمة نفس سوق الصودا التي كانت تشهد نُموًّا متسارعًا.

على الرغم من أن شركة مونسانتو الجديدة كانت تنتظرها بعض الأوقات العصيبة مستقبلًا — إذ لجأ كويني في مرحلة ما إلى بيع حِصانه وعربته ليجتاز حرب الأسعار التي شنَّها مصنعو السكارين الألمان عليه — فقد حققت مبيعات بقيمة مليون دولار بحلول عام ١٩١٥، وبعد مرور ٥٠ عامًا كسرت مبيعات مونسانتو حاجز المليار دولار. وبقيادة إدجار، ابن جون إف كويني، شهدت الشركة نُموًّا سريعًا في القرن العشرين بفضل المستحضرات الدوائية (فكانت أكبر مُصَنِّع للأسبرين كدواء نوعي بلا اسم تجاري اعتبارًا من عام ١٩١٧ فصاعدًا) والبلاستيكيَّات والعديد من المنتجات الكيميائية الأخرى. وكانت مصانع شركة مونسانتو هي مصدر بعض مكونات المطاط الصناعي الموجود في إطارات السيارات الجيب التي انطلق بها الجيش الأمريكي عبر المحيط الهادي وأوروبا في الحرب العالمية الثانية. كما ساهمت المواد الكيميائية التي أنتجتها شركة مونسانتو في مشروع مانهاتن السري للغاية؛ إذ ساعدت في إنتاج عنصر البلوتونيوم المستخدم في القنبلة النووية التي دمرت ناجازاكي. وبحلول خمسينيات القرن العشرين، كانت الشركة تنتج كل شيء بكميات متزايدة باستمرار بداية من ألياف النايلون وصولًا إلى الأجزاء الداخلية للسيارات.3 بل وابتكرت شركة مونسانتو أيضًا العشب الصناعي في عام ١٩٦٥، وكان في البداية تحت اسم «كيمجراس»، ثم تغيَّر اسم العلامة التجارية إلى «أستروتورف» بعد تركيبها في استاد هيوستن أسترودوم، وهو استاد مغطًّى متعدد الرياضات، في عام ١٩٦٦.4
كان لدى مونسانتو رؤية نمطية إلى حد ما تَحمل سِمات فترة منتصف القرن العشرين بخصوص الكيفية التي يمكن للتكنولوجيا الحديثة من خلالها أن تعيد صياغة حياة الأمريكيين نحو الأفضل. كان «بيت المستقبل لمونسانتو» المصنوع بالكامل من البلاستيك، والذي وُضع أمام نموذج خرساني مصغر لجبل ماترهورن، أحد معالم الجذب الشهيرة في مدينة ملاهي ديزني لاند خلال العقد التالي لعام ١٩٥٧.5 وكان هذا بداية عصر الفضاء، حيث بدا أن الإبداع والتقدُّم البشري لا يعرفان حدودًا. غير أن عصر التفاؤل التكنولوجي اللامحدود اكتسب سمعة سيئة خلال فترة ستينيات القرن العشرين، بسبب التجربة الأمريكية المؤلمة في فيتنام وزيادة الوعي بالآثار السلبية للنمو الصناعي المتزايد على البيئة. تم تفكيك «بيت المستقبل» في عام ١٩٦٧ حين لم يعد الطابع الصناعي التغريبي لمساحة مَعِيشية مصنوعة بالكامل من البلاستيك يمثل نوعية المستقبل الذي يطمح إليه الجيل الجديد. غير أنه لم يكن من السهل على الإطلاق تدمير مبنًى داخل مدينة ديزني لاند. فقد ارتطمت كرة التحطيم بالهيكل البلاستيكي الخارجي فقط؛ ومن ثَم اضطر طاقم الهدم إلى معاودة العمل بالمناشير ومواقد اللحام وأمضوا أسبوعين في تفكيك بيت المستقبل الخاص بشركة مونسانتو قطعة بقطعة.

بالطبع لم يكُن هناك أي قاسم مشترك بين مونسانتو وظاهرة «صيف الحب» التي ابتدعها الهيبيز الذين أبدَوا اهتمامًا بالارتباط من جديد بالطبيعة (وبعضهم ببعض) أكثر من الوثوق برؤية مونسانتو لعالَمٍ عالي التقنية مبنِيٍّ من البلاستيك والمواد الكيميائية. وهذا صحيح بصفة خاصة؛ لأن مونسانتو كانت واحدة من شركات عديدة تعاقدت معها حكومة الولايات المتحدة لإنتاج مُبيد الأعشاب المعروف اختصارًا باسم «٢٫٤-دي» (حمض ٢٫٤-ثنائي كلورو فينوكسي الأسيتيك)، الذي عند اتحاده مع الحمض المعروف اختصارًا باسم «٢٫٤٫٥-تي» (٢٫٤٫٥-حمض ثلاثي كلورو فينوكسي الأسيتيك) يكوِّن مُزيلًا للأوراق أو مبيدَ أعشابٍ قويًّا. ولكن لم يكن من المزمع استخدام هذا المركب الثنائي بالتحديد في المزارع الأمريكية، خلافًا لمبيدات الأعشاب الأخرى التي أُنشِئت لها أسواق كبرى في منطقة حزام الذُّرة بمنطقة الغرب الأوسط الأمريكي في فترة ما بعد الحرب. وبدلًا من ذلك، بدأت وزارة الدفاع الأمريكية في شحن كميات ضخمة من هذا المُبيد لدعم المجهود الحربي في فيتنام. وكان يُنقل في براميل ضخمة بخطوط برتقالية اللون على الجانبين، ومن هنا جاء اسمه الحركي الذي اشتهر به فيما بعدُ في مختلف أنحاء العالم، وهو «العامل البرتقالي».

•••

دمَّر «العامل البرتقالي» البيئة في فيتنام، كما كان مستهدفًا منه، وكان معلنًا عنه بكل صراحة. وذكر تقرير صادر عام ٢٠١٢ من الأكاديمية الوطنية للعلوم بأمريكا، بعنوان: «المحاربون القُدامى والعامل البرتقالي»: «استُخدمت مبيدات الأعشاب لإسقاط أوراق غابات أشجار الخشب الصلب الداخلية، وغابات المنجروف الساحلية، والأراضي المزروعة والمناطق المحيطة بالقواعد العسكرية.» وفي الفترة ما بين بدء عملية الرش على نطاق واسع في أغسطس عام ١٩٦٥ ووقفها وسط جدلٍ متزايد في فبراير عام ١٩٧١، تم رش نحو ١٨ مليون جالون (٦٩ مليون لتر) من مبيد الأعشاب على نحو ٣٫٦ مليون فدان (١٫٥ مليون هكتار) شمال فيتنام وجنوبها.6 وبذلك أُزيل نحو ٥ في المائة من أوراق الأشجار على مستوى الدولة بأكملها بهذا المبيد العشبي السام.
وبعكس الاعتقاد الشائع، لا تأتي سُمِّيَّة «العامل البرتقالي» من مبيدات الأعشاب في حد ذاتها؛ لا سيما أن المركب العضوي «٢٫٤-دي» لا يزال مستخدمًا على نطاق واسع في الزراعة، ولا يعتبر بوجه عام مادة مسرطِنة بالنسبة إلى البشر والحيوانات على حد سواء.7 وإنما جاءت المشكلة من المركب «٢٫٤٫٥-تي»، الذي، كنتيجة ثانوية لعملية تصنيعه، تلوَّث بمركب ٨،٧،٣،٢-رباعي كلورو ثنائي بنزو الديوكسين (TCDD)، الذي وصفته الأكاديمية الوطنية للعلوم بأمريكا بأنه «أكثر أشكال الديوكسين سمية».8 وتنشر الأكاديمية تحديثات دورية لقائمتها بالآثار الصحية التي يُعتقد أنها مرتبطة ﺑ «العامل البرتقالي». وصنف التقرير الصادر عن الأكاديمية لعام ٢٠١٢ أمراضًا مثل ساركوما الأنسجة الرخوة (الذي يصيب القلب)، وسرطان الغدد الليمفاوية، والعُدِّ الكلورِيِّ المَنْشَأ (وهو طفح جلدي خطير)، وبعض أنواع سرطان الدم، ضمن فئة الأمراض ذات «الارتباط بالأدلة الكافية»، وقائمة أطول كثيرًا تشمل أنواعًا أخرى من السرطان، ومرض باركنسون، والسكتة الدماغية، ومرض السنسنة المشقوقة، الذي يصيب ذُرِّية الأشخاص الذين تعرضوا للعامل البرتقالي، ضمن فئة الأمراض ذات «الأدلة المحدودة». ولا تزال هناك قائمة أطول لفئة الأمراض ذات «الأدلة غير الكافية» توضح الجدل المستمر وانعدام اليقين العلمي حول التقييم الدقيق للأضرار الصحية التي تَسبَّب فيها العامل البرتقالي للسكان الذين تعرضوا إليه.
لم تكن شركة مونسانتو هي الشركة الوحيدة المسئولة عن تصنيع العامل البرتقالي وبيعه إلى وزارة الدفاع الأمريكية. ففي ثمانينيات القرن العشرين، رفع قُدامى المحاربين الأمريكيين في حرب فيتنام دعوى قضائية جماعية اختصموا فيها ١٩ شركة مُتَّهمة؛ من بينها شركة داو كيميكال، وشركة مونسانتو، وشركة دايموند شامروك، وشركة هيركليز، وشركة طومسون هايوارد كيميكال، باعتبارهم متهمين أساسيين. وقد كانت شركة داو هي المتصدر للمشهد إلى حد كبير خلال سنوات النزاع القضائي والجدال التالية وليس شركة مونسانتو. ففي مارس عام ١٩٨٣، زعم رئيس شركة داو، بول أوريفيس، أن مُرَكَّبات الديوكسين لم تكُن سامَّة بالدرجة الكافية لتتسبَّب في أي شيء أكثر من مجرد طفح جلدي، وهو الرأي الذي أصر عليه محامو الشركة بشدة في المحكمة لسنوات على الرغم من الأدلة الدامغة المتزايدة على عكس ذلك. أصر أوريفيس في مقابلة شخصية أُجريت معه آنذاك في برنامج «توداي» المُذاع على شبكة إن بي سي (هيئة الإذاعة الوطنية) قائلًا: «لا يوجد أي دليل قاطع على الإطلاق على أن الديوكسين يتسبب في أي أضرار للإنسان، باستثناء ما يُسمَّى العُدَّ الكلورِيَّ المَنْشَأ.» وزعم أوريفيس أنه ينبغي أن يتوقف أولئك الذين تعرَّضوا إلى مُرَكَّبات الديوكسين الموجودة في العامل البرتقالي عن القلق؛ لأن الدراسات التي أجرتها شركة داو أظهرت أنه «لا يوجد دليل على وقوع أي أضرار بخلاف هذا الطفح الجلدي الذي يختفي بعد فترة وجيزة.»9
ولكن كان ينبغي على رئيس شركة داو أن يعرف آنذاك أنه يقف على حافة الهاوية. فبعد مرور شهر واحد فقط على إصراره على أن الديوكسين لا يسبب ما هو أكثر من مجرد حَبِّ الشباب، ظهرت مذكرات داخلية للشركة توضح أنه في عام ١٩٦٥ كانت شركة داو على دراية تامة بالخصائص السامَّة لمُرَكَّبات الديوكسين التي ظهرت على حيوانات المختبر التي تعرضت لهذه المُرَكبات. انزعجت الشركة بالقدر الذي دفعها إلى دعوة ممثلين عن مُصَنِّعي المواد الكيميائية المنافسين إلى اجتماع سري (دُعيت شركة مونسانتو إلى هذا الاجتماع، ولكنها لم تحضر، وفقًا لتقارير نُشرت لاحقًا في صحيفة «نيويورك تايمز»)؛ حيث أوضح علماء الصناعة المخاطر. لم يكن ما يشغل شركة داو، بحسب ما أُفشِي فيما بعد في مذكرات كتبها من حضروا الاجتماع السِّري ونُشرت في صحيفة «نيويورك تايمز»، هو حماية الصحة العامة بقدر ما كانت تخشى احتمال أن يؤدي تسرُّب الأخبار إلى «تفجير» الموقف والدعوة إلى الاحتمال غير المرغوب فيه بسن قانون فيدرالي.10 وكتب أحد الحاضرين للاجتماع السري يقول: «كانت [شركة داو] تخشى على، وجه الخصوص، إجراء تحقيق من جانب الكونجرس وما قد يترتب على ذلك من فرض تشريع مُفرِط التشدُّد على تصنيع مبيدات الحشرات.» ومن جانبها، أكدت مونسانتو أن الشركة «لم تُجرِ أي تجارب، لا آنذاك ولا في الوقت الحالي، قولًا واحدًا.»

كان لمسألة معرفة مُصَنِّعي مبيد الأعشاب بأن العامل البرتقالي يحتمل أن يكون سامًّا من عدمها أهميةٌ بالغة في دفاعهم القانوني ضد الدعوى القضائية الجماعية التي رفعها المحاربون القدامى في فيتنام. وطالب محامو شركتَي داو ومونسانتو «بدفاع خاص عن متعاقدي الخدمات العسكرية». بعبارة أخرى، كان قرار استخدام العامل البرتقالي في فيتنام — والمسئولية الناجمة عن ذلك — يرجع إلى البنتاجون، لا إلى الشركات التي قامت بتوريده فحسب بموجب التعاقد، حسب ادعائهم. ونظرًا لأن الحكومة الأمريكية تتمتع بالحصانة السيادية ضد الإجراءات القضائية، فلا يحقُّ للمحاربين القُدامى في فيتنام الحصول على أي تعويضات. أما إذا كانت الشركات تعرف مخاطر استخدام مُرَكَّبات الديوكسين ولم تُبلغ الحكومة بها، على الأقل حتى بضع سنوات لاحقة، فربما يتحمل المُصنِّعون المسئولية القانونية نتيجة لهذا التستُّر المزعوم.

ازدادت القضية حساسية؛ لأن تلوث الديوكسين لم يقتصر على منطقة جنوب شرق آسيا التي مزقتها الحروب. فقد ارتبطت فضيحة حَيِّ لاف كانال التي وقعت عام ١٩٧٨ بتلوث الديوكسين في الجزء العلوي من ولاية نيويورك. ناضلت شركة داو في قضية العامل البرتقالي أمام المحكمة بكل ما أوتيت من قوة، لأنها كانت على الأرجح أكبر الخاسرين؛ إذ ورَّدت الشركة على الأقل ثلث تركيبة العامل البرتقالي المتعاقد عليها مع الحكومة والمستخدمة في فيتنام في مقابل ٧ دولارات للبرميل أكثر من الشركات الأخرى المُدَّعى عليها، بما فيها شركة مونسانتو.11 وبعد ست سنوات من المرافعات الشاقة قامت الشركاتُ بتسوية القضية عشية المحاكمة في عام ١٩٨٤، لتساهم بمبلغ ١٨٠ مليون دولار في صندوق تعويضات المُدَّعين من المحاربين القدامى وأسرهم. وفي عام ١٩٩٣، كشفت صحيفة «نيويورك تايمز» أن شركة مونسانتو «تحملت العبء الأكبر» من تسوية عام ١٩٨٤، مُتَكبِّدة ٤٥٫٥ في المائة مقارنة بشركة داو التي دفعت ١٩٫٥ في المائة؛ ولم يوضَّح السبب في ذلك.12
وفي عام ٢٠٠٥، رُفضت دعوى قضائية رُفعت بالنيابة عن المدنيين الفيتناميين تزعم أن الولايات المتحدة مُتَّهمة بارتكاب جرائم حرب في فيتنام من جانب أحد القضاة الفيدراليين، حيث قَضَى بأن اتفاقية جنيف لحظر الأسلحة الكيميائية «تنطبق فقط على الغازات التي تُطلَق لآثارها الخانقة أو السامة على الإنسان، ولا تنطبق على مبيدات الأعشاب المُصمَّمة للتأثير على النباتات، والتي ربما يكون لها آثار جانبية ضارة غير مقصودة على البشر.» ولم يُبدِ سكوت ويلر، المتحدث الرسمي لشركة داو كيميكال، أي ندم. وقد صرح قائلًا: «نحن نؤمن بأن المبيدات المُزيلة للأوراق أنقذت الأرواح من خلال حماية قوات الحلفاء من كمين العدو، ولم يتسبَّب في أي آثار صحية ضارة.» وصرح المتحدث الرسمي لشركة مونسانتو، بنبرة ساخرة غير مقصودة، أن «مثل هذه القضايا يكتَنِفُها قدرٌ كبير جدًّا من العاطفة.»13

ومع بدء موجة هجوم من الرأي العام ضدَّهم في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، خاضت شركة مونسانتو وشركات المنتجات الكيميائية الأخرى معركة بائسة لحماية أسواقها وسمعتها. ومما لا شكَّ فيه أن الضربة الأشرس جاءت مع نشر كتاب راشيل كارسون بعنوان «الربيع الصامت». أطلقت كارسون تحذيرات قوية بشأن الأضرار التي نالت الطيور والكائنات البرية الأخرى بسبب الإفراط في استخدام المواد الكيميائية في الزراعة بأمريكا، لا سيما مبيد الحشرات «دي دي تي». ولكتابها أهمية كبرى لا يسعنا إغفالها. فمن شأن الكثيرين أن يُرجعوا تاريخ نشأة الحركة البيئية المعاصرة إلى صبيحة يوم ٢٧ سبتمبر عام ١٩٦٢ عندما خرج كتاب «الربيع الصامت» من المطابع.

كانت كارسون رائدةً حقيقةً. فهي لم تكُن أول من لفت انتباه المجتمع على نطاق أوسع إلى الأضرار البيولوجية المباشرة الناجِمة عن مبيدات الحشرات وحسب؛ وإنما سبقت عصرها أيضًا بطريقة كتابتها عن الديناميكيات المعقَّدة والعلاقة المتبادلة بين الأنظمة البيئية. كانت كُتُبها الأولى عن المحيطات، وهي من الكتب الأكثر مبيعًا أيضًا، ذات طابع إنشائي يضاهي طابعها العلمي؛ لأنها كانت كاتبة موهوبة. وهذا المستوى الراقي جعل معارضتها الجلية للزراعة الكيميائية ذات تأثير مُدَمِّر. فحذرت في كتابها «الربيع الصامت» قائلة: «هذه المَرشَّات والمساحيق والبخاخات تُستخدم الآن على نطاق شبه عام في المزارع والحدائق والغابات والمنازل؛ مواد كيميائية غير انتقائية لديها القدرة على قتل جميع الحشرات، المفيد منها والضار، وإخراس الطيور، وإهماد الأسماك في المجاري المائية، وتغليف أوراق الشجر بطبقة رقيقة مُميتة، والبقاء في التربة؛ كل هذا، في حين أن الهدف المقصود ربما يكون مجرد عدد قليل من الأعشاب أو الحشرات. هل يمكن لأي شخص أن يصدق أنه من الممكن إطلاق مثل هذا الوابل من السموم على سطح الأرض دون أن يجعلها غير صالحة لجميع أشكال الحياة؟»14
كان نقد كارسون يمَسُّ نقطة أعمق من مجرد إساءة استخدام المواد الكيميائية في الزراعة ومكافحة الأمراض. كما عبَّرت عن شعورها بأن المجتمع الأمريكي في فترة الخمسينيات من القرن العشرين كان يبالغ في ثقته بالتقدُّم التكنولوجي باعتباره علاجًا لجميع الأمراض، واصفةً العصر الحديث بأنه «عصر بدائي لعلم الأحياء والفلسفة، بينما كان من المفترض أن تكون الطبيعة موجودة لمصلحة الإنسان.» وكان يساورها القلق من أن الكثير من «العوامل الكيميائية والفيزيائية» الخاصة بالحقبة الصناعية ربما تكون عوامل مسرطِنة لم يطوِّر لها الإنسان سُبُل الوقاية منها. كان موضوع قابلية السرطنة ذا صلة شخصية بكارسون التي أُصيبت بالسرطان فعلًا عند نشر الكتاب. وعندما دُعيت للشهادة أمام لجنة فرعية تابعة لمجلس الشيوخ معنية بمبيدات الحشرات في يونيو عام ١٩٦٣، استطاعت بالكاد أن تصل إلى مقعدها على طاولة اللجنة. خضعت كارسون لعملية استئصال كُلِّي للثدي وارتدَت شعرًا مُستعارًا بنيَّ اللون لتُخفي الصلع الناتج عن خضوعها للعلاج المستمر.15 كانت مُتعَبة للغاية ومستنزَفة الطاقة، لدرجة أعجزتها عن القيام بالكثير من الدعاية لكتابها، وتُوفيت في يناير عام ١٩٦٤ عن عمر يناهز ٥٦ عامًا، قبل أن ترى التأثير التحوُّلي لعملها على العالم.
ساهم الضعف الجسدي الذي عانت منه كارسون في تسليط الضوء أكثر على بشاعة الهجمات التي شنَّها العاملون في مجال صناعة الكيماويات عليها. كان المتحدث الرسمي الرئيسي باسم هذا المجال هو دكتور روبرت وايت-ستيفنز، الذي ظهر في تقرير معاصر أُذيع على شبكة سي بي إس يرتدي معطفَ مختبر ناصع البياض تحيط به معدات المختبر من كل جانب. وأكد في حديثه بنبرة مقتضبة قائلًا: «الادعاءات الخطيرة الواردة في كتاب السيدة راشيل كارسون بعنوان «الربيع الصامت» هي تحريفات صارخة للحقائق الفعلية، وغير مدعومة على الإطلاق بالأدلة التجريبية العِلمية والخبرة العَمَلية العامة في المجال.»16 في الواقع، كانت كارسون حريصة أشد الحرص في تأليف الكتاب؛ إذ قضت أربع سنوات في العمل على المشروع، وتعاونت مباشرة مع العديد من العلماء في جمع أدلتها. ويستطرد وايت-ستيفنز قائلًا: «لو أخلص المرء في اتِّباع تعاليم السيدة كارسون لعُدْنَا إلى العصور المظلمة، ولوَرِثَت الحشرات والأمراض والهوام الأرض ومن عليها مرة أخرى.»
وخلف الكواليس، كان مجال صناعة الكيماويات يبذل قصارى جهده للحيلولة دون خروج كتاب «الربيع الصامت» إلى النور. فقد هدَّدت شركة فليسكول المُصنِّعة لمبيد الحشرات «دي دي تي» بمقاضاة دار نشر هوتون ميفلين ومجلة «نيويوركر»، التي نشرت عدة فصول من كتاب كارسون على هيئة حلقات. وألمَحَت الشركة في خطاب قانوني تهديدي لدار نشر هوتون ميفلين أن كارسون كانت على الأرجح شيوعية؛ وهي مسألة خطيرة في تلك السنوات التي أعقبت ظهور المكارثية مباشرةً. وزعمت شركة فليسكول «أن إمداداتنا الغذائية ستنقص إلى حد عدم الكفاية مثل الدول الشيوعية شرق الستار الحديدي» إذا أسفر كتاب كارسون عن التخلُّص من مبيدات الحشرات. وحاول آخرون نبذ كارسون باعتبارها مثالًا نموذجيًّا للأنثى المصابة بالهيستريا. وسخر أحد المراسلين في رسالة موجهة إلى مجلة «نيويوركر» قائلًا: «أليس الأمر أشبه بخوف المرأة من بضع حشرات صغيرة إلى حد الموت؟» ومولت الجمعية الوطنية للكيماويات الزراعية حملة علاقات عامة على مستوى البلاد، من خلال شراء مساحات إعلانية في الجرائد، وإرسال رسائل غاضبة إلى المحرِّرين وتوزيع المنشورات، كل ذلك بهدف طمأنة جمهورٍ في قلق متزايد بأن مبيدات الآفات الزراعية ليست بشيء يدعو إلى القلق.17

مضت مونسانتو في موجة الهجوم أيضًا. ففي عدد أكتوبر من عام ١٩٦٢ من «مجلة مونسانتو»، نشرت الشركة مقالًا استثنائيًّا بعنوان: «عام الخراب»، في محاكاة ساخرة واضحة للفصل الافتتاحي في كتاب كارسون الذي جاء تحت عنوان «خرافة الغد». في حين كتبت كارسون عن مدينة أمريكية خيالية حيث بدأت الكائنات البرية والحيوانات الداجنة تَنفق بسبب التسمُّم بالمبيدات الحشرية، استخدمت مونسانتو في محاولتها لغة شعرية تعبيرية مماثلة لوصفِ عامٍ تخيُّلي تُحرَم خلاله الأُمة بأكملها من فوائد مبيدات الحشرات.

كتب المؤلف المجهول، مُلمحًا إلى «الربيع الصامت» الذي جاء في عنوان كتاب كارسون، يقول: «ها قد أَقْبَلَ الربيع على أمريكا، ربيع نابض بالحياة إلى أقصى حد. خرجت الحشرات، جنس تلو الآخر، ونوع تلو الآخر، ونُوَيع تلو الآخر. خرجت زاحفة ومحلقة ومتسللة إلى العراء، بداية من ولايات النطاق الجنوبي ماضية في طريقها نحو الشمال. كانت تمضغ وتمص على نحوٍ اختراقي، وتتطفل، وتشفط، وتلعق، وتمضغ، وجميع أفراد سلالتها الضخمة كانت حشرات ماضغة؛ يرقات وديدان ويرقانات خادشة وناشرة وقارصة. بإمكان بعضها أن يقرص، وبإمكان البعض الآخر أن يُسمِّم، وبإمكان الكثير منها أن يقتل.»18 ومع اجتياح الموجة الكارثية من الحشرات بأعداد غفيرة، استطرد المقال في وصفه: «بدأت أسراب الطبيعة الجامحة تُضَيق خناقها حولنا.» كانت شركة مونسانتو واضحة بشأن الحل: «المبيدات الحشرية ضرورية للحفاظ على إمداداتنا الغذائية والصحة العامة وتحسين جودتهما.» نُسخ المقال المنشور بالمجلة وأُرسل إلى الصحف في شتى أنحاء البلاد، مُرفقًا به «نشرة» من خمس صفحات عن فوائد الكيماويات الزراعية.

كان الطابع المعتدل، إلى حدٍّ ما، لآراء راشيل كارسون يناقض ضراوة هجوم العاملين في مجال صناعة الكيماويات. فهي لم تؤيد فكرة القضاء الكامل على مبيدات الحشرات، حتى مبيد اﻟ «دي دي تي» نفسه، معترفةً بضرورة السيطرة على أسراب الحشرات لضمان نجاح الإنتاج الغذائي ومكافحة الأمراض. ولم تؤيد أيضًا فكرة أنه ينبغي أن تُترك الآفات الحشرية لتنتشر وتتغول عبر حقول الذُّرة في أمريكا بلا رادع، كما يلمح رد مجلة مونسانتو. ولعل من أقوى الحُجج التي ساقتها كارسون ضد الإفراط في استخدام مبيدات الحشرات هي أن فائدتها تُهدَر بسبب التطور السريع لمقاومتها لدى الآفات الحشرية. وفي الفصل قبل الأخير من كتاب «الربيع الصامت»، استشهدت بقول أحد الخبراء عن مكافحة الملاريا: «النصيحة العملية يجب أن تكون «الرش بأقل قدر ممكن» بدلًا من «الرش بأقصى طاقتك»». وأشارت إلى أن وسائل المكافحة البيولوجية للآفات باستخدام الفيروسات والفيرومونات تُقدِّم بدائل محمودة بيئيًّا أكثر، ولكنها على نفس القدر من الفاعلية. واليوم صار رأي كارسون — من أن الاستخدام العشوائي لمبيدات الحشرات يقتل الحشرات الضارة والنافعة على حد سواء، ومن ثَم يضر بمكافحة الحشرات في المجمل — حِكمةً متعارفًا عليها بين المهندسين الزراعيين.

وعلى أي حال، كان أصحاب النفوذ في ذلك الوقت أكثر إنصاتًا لرأي كارسون من آراء مُصنِّعي المواد الكيميائية. ووصل القلق إلى أعلى المستويات؛ إذ قام الرئيس جون إف كينيدي بتعيين لجنة للتَّحقيق في ادِّعاءات كارسون اجتمعت لمدة عام وانتهى بها المطاف إلى الإجماع على تأييد ما توصلت إليه. وحُظر استخدام مبيد الحشرات «دي دي تي» على النطاق المحلي داخل الولايات المتحدة في عام ١٩٧٢، وأسفر الاهتمام الجماهيري المتزايد بالقضايا البيئية عن تأسيس وكالة حماية البيئة الفيدرالية باعتبارها هيئة حكومية عُليا في عهد نيكسون. وعلى النقيض من تأكيدات الكثير من دعاة الحملات المناهضة لحماية البيئة، الذين يُلقون اللوم على كارسون والحركة البيئية باعتبارهم المُتسبِّبين افتراضًا في ملايين الوَفَيات إثر الإصابة بمرض الملاريا نتيجة حظر استخدام مبيد الحشرات «دي دي تي»، فقد ظل استخدامه قائمًا في قارتي آسيا وأفريقيا لعقود بعد ذلك. وحتى وقت قريب وتحديدًا في عام ٢٠٠٧، تم رش ٣٩٥٠ طنًّا من اﻟ «دي دي تي» في البلدان النامية، وفقًا للأمم المتحدة.19

•••

لم تتضرَّر شركة مونسانتو من فضيحة العامل البرتقالي وهجوم راشيل كارسون المُستميت على مبيدات الحشرات وحسب؛ بل تضررت أيضًا فيما بعد بإدانة الرأي العام لدورها بوصفها المُصنِّع الرئيسي في الولايات المتحدة لمُرَكبات ثنائي الفينيل متعدد الكلور، المعروف اختصارًا ﺑ «بي سي بي» (PCB). في البداية، كان يُعتقد أن هذه المواد المثبطة للَّهب والموصلة للحرارة هي «معجزة المواد الكيميائية» وكانت تُستخدم في كل شيء؛ بدايةً من الأجهزة الكهربائية، وصولًا إلى ورق الجرائد وأواني القلي في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين. ثم أوقفت مونسانتو عملية الإنتاج في عام ١٩٧٧، ولكن بحلول ذلك الوقت كانت قد تجمعت أدلة كثيرة بخصوص بقاء الأثر البيئي لمركبات اﻟ «بي سي بي» وتسببها في الإصابة بالسرطان، وكيف أن الشركة تخلصت من كميات كبيرة منها بإلقائها في المجاري ومَكبَّات النفايات.20 ولا تزال شركة مونسانتو حتى اليوم متورطة في دعاوى قضائية نتيجة لهذا الإرث.21
تصدَّت شركة مونسانتو لتراجُع ثقة الجمهور فيها بحملة إعلانية تحت شعار «دون كيماويات، ستكون الحياة مستحيلة». وظهر في أحد الإعلانات المنشورة بمجلة «ناشونال جيوجرافيك» عام ١٩٧٧ طفلٌ أشقر يقف وجهًا لوجه أمام كلب منزلي لطيف جاثِيَين على مرعًى عشبي خلَّاب شاعري تغمره الشمس. ويظهر أدناه التعليق التالي: «يظن البعض أن أي شيء «كيميائي» ضار وأي شيء «طبيعي» نافع. ولكن الطبيعة نفسها كيميائية.» واستطرد التعليق ليصف «العملية الكيميائية التي تُسمَّى التمثيل الضوئي» ومدى أهمية «مادة كيميائية تُدعى فيتامين د» لتجنب الكساح. ثم وصل إلى بيت القصيد: «المواد الكيميائية تساعدك على تناول طعام أفضل. لقد زادت مبيدات الحشائش الكيميائية من الإمداد الغذائي وتوافره بصورة مَهُولة. ولكن لا توجد موادُّ كيميائية آمنة تمامًا، طوال الوقت، وفي كل مكان. سواء أكان هذا في الطبيعة أم داخل المختبر. التحدي الحقيقي هو استخدام المواد الكيميائية على النحو الصحيح. التحدي هو المساعدة في جعل الحياة أكثر صلاحية للعيش.»22
غير أن الفشل كان من نصيب شركة مونسانتو حين ظنت أن بإمكانها أن تمحو المعنى السلبي لكلمة «كيميائي» وانتشاله من غياهب الارتياب المُتَصاعد لدى العامة وإعادة صياغتها بوصفها شيئًا إيجابيًّا. ما كانت فضيحتا العامل البرتقالي ومركبات اﻟ «بي سي بي» سوى غيضٍ من فيض من الفضائح، وكانت شركة مونسانتو مجرد شركة واحدة فقط بين عدد من شركات الكيماويات المتورطة في هذه الفضائح. فقد أمدت شركة داو أيضًا الجيش الأمريكي في الفترة ما بين عامي ١٩٦٥ و١٩٦٩ بمادة النابالم التي كان لها آثار فورية أبشع من تأثيرات العامل البرتقالي نفسه على السكان المدنيين الفيتناميين. وفي عام ١٩٨٤، وقعت أسوأ كارثة صناعية في العالم بمدينة بوبال الهندية، راح ضحيتها آلاف الأشخاص بسبب تسرُّب غاز سامٍّ من مصنع مبيدات حشرات سيئ الإدارة.23 كان مصنع بوبال مِلكًا لشركة يونيون كاربيد، التي لم يخضع رئيسها التنفيذي وارن أندرسون أبدًا للمحاكمة في الهند أو في أي مكان آخر، رغم شن حملة دولية لمحاسبته. وتُوفي أندرسون عن عمر يناهز ٩٢ عامًا في عام ٢٠١٤ في سلام بمدينة فيرو بيتش بولاية فلوريدا.24
كان لبعض شركات الكيماويات تاريخ أعمق وأكثر قتامةً ظلَّ يؤثر على سمعتها في الوقت الحالي. فعلى سبيل المثال، كانت شركة باسف وشركة باير خليفتين لشركة آي جي فاربن السيئة السمعة. كانت هذه هي الشركة الألمانية التي صنَّعت شركتها التابعة حُبيباتِ غاز «زيكلون ب»، الذي استخدمه هتلر في إبادة الملايين من ضحايا معسكرات الاعتقال في الفترة ما بين عامي ١٩٤٢ و١٩٤٤. وكانت شركة آي جي فاربن تدير أيضًا مصنعًا قائمًا على العمل بالسُّخرة في مكان ملائم بجوار معسكر أوشفيتز.25 وعلى الرغم من تفكيك شركة آي جي فاربن بعد الحرب وتقديم كبار قادتها إلى المحاكمة لارتكابهم جرائم ضد الإنسانية، أُطلِق سراح الجميع في وقت مبكر ونجح الكثيرون منهم في مواصلة مسيرتهم المهنية داخل الشركات العديدة التي خَلَفتها والتي لا تزال علاماتها التجارية مألوفة حتى يومنا هذا.
ليس واضحًا على الإطلاق السبب الذي جعل شركة مونسانتو تتفرد، وسط هذه المنافسة الشديدة، بوصفها «أكثر الشركات شرًّا في العالم»، حسبما نسمع كثيرًا اليوم. ففي كل عام تجمع حركة «مسيرة ضد مونسانتو» الدولية نشطاءَ من مختلف أنحاء العالم يمقتون ويكرهون كل شيء يرون أن الشركة ترمز له. وتحتل شركة مونسانتو باستمرار المراكز الخمسة الأولى في القوائم السنوية «لأكثر الشركات المكروهة».26 وعندما باع مالك إحدى الشركات الناشئة في مجال «البيانات الضخمة» سنداته إلى شركة مونسانتو، صُعق والده وكان رده: «مونسانتو؟ أكثر الشركات شرًّا في العالم؟»27 وتزخر شبكة الإنترنت بنظريات المؤامرة. فتقول إحدى الشائعات المنتشرة إن مونسانتو ترفض تقديم الأطعمة المُعدَّلة وراثيًّا في مقصفها؛ وتقول أخرى إنها استحوذت على الشركة العسكرية الخاصة السيئة السمعة بلاكووتر، التي تورط موظفوها في انتهاكات لحقوق الإنسان بالعراق أثناء الاحتلال الأمريكي، وتديرها في الوقت الحالي.

ولا غرابة في أن يؤثر هذا القدر الكبير من النفور الجماهيري على موظفي الشركة بصفة يومية. فذات مرة أخبرني أحد موظَّفي مونسانتو من الإدارة الوسطى، وهو وكيل مبيعات في إحدى الولايات الزراعية الأمريكية، بموقف تعرَّض له. ارتكب هذا الرجل خطأ ارتداء قميص يحمل شعارًا صغيرًا يحمل اسم «مونسانتو» أثناء سفره على متن الطائرة. فأبلغته المضيفة بأنها سترفض خدمته أثناء الرحلة بسبب «الفظائع التي تقترفها شركتك.» أخبرني وكيل المبيعات المذهول بضحكة حملت في طياتها سخرية من نفسه: «أنا رجل أبيض في منتصف العمر؛ لست معتادًا التعرُّض للتمييز العنصري!»

•••

كان استنتاجي الذي خلصت إليه أن التطور اللاحق للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا هو ما زجَّ بمونسانتو إلى صدارة المستهدفين بالتشهير العلني، لا أنشطتها السابقة بوصفها شركة مُصنِّعة للمواد الكيميائية. وهذا أمر مثير للسخرية إلى حد ما؛ لأن اقتحام مونسانتو لمجال الهندسة الوراثية كان على الأرجح أكثر خطوة صديقة للبيئة اتخذتها الشركة على الإطلاق. بالتأكيد كان اهتمام الشركة المبكر بالتكنولوجيا الحيوية مُحفِّزًا، على وجه التحديد، برغبتها في تقليل اعتمادها على مبيدات الحشرات وغيرها من المواد الكيميائية استجابة إلى تحذيرات راشيل كارسون.

لهذا ضخَّت شركة مونسانتو استثمارات ضخمة في مجال التكنولوجيا الحيوية. ففي عام ١٩٧٩، عَيَّنَ جون هانلي، الرئيس التنفيذي للشركة آنذاك، هاوارد شنايدرمان، عميد كلية العلوم البيولوجية بجامعة كاليفورنيا، بمدينة إرفاين، في منصب رئيس قسم البحث العلمي، مع التركيز بصورة خاصة على مجال التكنولوجيا الحيوية الذي كان نجمه يتصاعد سريعًا آنذاك. بدأ شنايدرمان بإنفاق ١٦٥ مليون دولار لبناء وتجهيز مركز جديد لأبحاث علوم الحياة على أرض مساحتها ٢١٠ فدادين، خارج مدينة سانت لويس بولاية ميسوري. وكما كتبت صحيفة «نيويورك تايمز» في عام ١٩٩٠ مستعرِضة الحدث بأثر رجعي، «في أربعة مبانٍ و٢٥٠ مختبرًا تابعًا للمركز، يقضي ٩٠٠ باحث يومهم مُنكفِئين على أطباق بِتْرِي وأجهزة الطرد المركزي».28
عززت مونسانتو تحوُّلها من شركة كيماويات إلى ما يُطلق عليه الآن شركة «لعلوم الحياة» من خلال تجريد نفسها من غالبية أصولها الصناعية الأقدم. لقد طُوِيت صفحة مُركَّبات اﻟ «بي سي بي» منذ مدة طويلة، وكذلك صفحة العامل البرتقالي. وكما جاء بصحيفة «نيويورك تايمز»: «خلال حقبة الثمانينيات من القرن العشرين، أعدت مونسانتو العُدة للمستقبل من خلال طيِّ صفحة الماضي. وبداية من عام ١٩٨٠ حتى عام ١٩٨٧، باعت الشركة أو أغلقت مشروعات قيمتها ٤ مليارات دولار في أسواق تُعد مُتذَبذِبة للغاية؛ مثل السلع الكيماوية وعمليات التنقيب الأساسية عن النفط والغاز. وفي عام ١٩٨٥، شكَّل إجمالي المواد البتروكيميائية ٣٠ في المائة من أصول شركة مونسانتو؛ وبحلول عام ١٩٨٨ وصلت النسبة إلى ٢ في المائة فقط. وفي العام الماضي، باعت الشركة مشروع تصنيع السليكون، مصرحةً بأنه لا يتناسب مع خطط مونسانتو المستقبلية.»29 وصرح هاوارد شنايدرمان للصحيفة قائلًا: «هناك خمسة مليارات نسمة في العالم اليوم. ويقول البعض إنه كان ينبغي أن يكون هناك مليارا نسمة فقط. حسنًا، هذا رائع. هذه مجرد أمنيات. ولكن لن تسير الأمور هكذا. وفي عام ٢٠٣٠ سيصل تعداد سكان العالم إلى عشرة مليارات نسمة.» لم تكن مونسانتو تبيع مبيدات الحشرات والبذور إلى المزارعين فقط، حسبما رأت نفسها مع مرور الوقت. وإنما رأت نفسها شركة في مهمة أخلاقية لإنقاذ العالم من المجاعة.

في كتاب رائع صدر عام ٢٠١٠ بعنوان: «النضال من أجل مستقبل الغذاء؛ النشطاء في مواجهة قطاع المشروعات الزراعية في صراع التكنولوجيا الحيوية»، أجرى ويليام مونرو وراشيل شورمان عدة مقابلات شخصية مع موظفين من داخل شركة مونسانتو في هذه الفترة دون الإفصاح عن أسمائهم. وأعرب هؤلاء الموظفون بالإجماع عن اعتقادهم بأن تحول الشركة من تصنيع المواد الكيميائية إلى التكنولوجيا الحيوية كان مَبنيًّا على التزام حقيقي بالتعامل مع المخاوف البيئية. وكما يتذكر أحدهم: «كان لدى العلماء — حسنًا، بدايةً من كبار المديرين وصولًا إلى العلماء — اعتقاد قوي جدًّا جدًّا بأننا نقدم شيئًا مفيدًا للعالم. وكان من المدهش للغاية بالنسبة إلى مونسانتو أن يُنظر إليها بنظرة مناقضة [لذلك]؛ لأن اعتقاد الجميع كان: «ها نحن ذا نسحب المواد الكيميائية من السوق ونقوم بتخضير العالم بهذه التكنولوجيا الجديدة».»

كانت الرؤية واضحة المعالم. إن كان من الممكن تسخير جينات المحاصيل النباتية لمكافحة الآفات والأوبئة مباشرةً، فسوف تتراجع أهمية الكيماويات الزراعية تدريجيًّا. ولن تحتاج الذُّرة المقاوِمة للحشرات إلى مبيدٍ للحشرات، والذرة المقاومة للفطريات لن تحتاج إلى مبيدٍ للفطريات وهَلُمَّ جَرًّا. وستحتل المحاصيل الأكثر وفرة مساحة أقل من الأرض الزراعية؛ لتفسح بذلك مجالًا أكبر أمام الطبيعة. وستتطلب المحاصيل ذات الكفاءة النيتروجينية — بل ومحاصيل الغذاء الرئيسي المثبِّتة للنيتروجين؛ مثل الذُّرة أو القمح، وإن كان احتمالًا مستبعدًا — القليل من الأسمدة الاصطناعية، أو قد تستغني عنها تمامًا. ولكن كيف يمكن التربُّح من عملية الانتقال إلى إنتاج عدد أقل من براميل الكيماويات؟ كانت مونسانتو بحاجة إلى توليد مصدر للدخل من خلال حقوق الملكية الفكرية البيولوجية المجسَّدة في حبوبها المُعدَّلة وراثيًّا المسجَّلة ببراءة اختراع، بدلًا من اعتبار الكيماويات المعنية بحماية المحاصيل مصدرَ أرباحها الرئيسي. وفي ذلك كتب مونرو وشورمان: «اعتبارًا بقدرتها التي يُروَّج لها على نطاق واسع على المساعدة في حل المشكلات البيئية، تمهد التكنولوجيا الحيوية طريقًا واضحًا أمام شركات الكيماويات لتعيد صياغة نفسها في شكل جديد أكثر مراعاة وحساسية للبيئة.»

كان يُنظر إلى براءات الاختراع وحقوق الملكية الفكرية بوصفها مُكوِّنًا أساسيًّا. وكما صرح أحد العُلماء في المجال، دون ذكر اسمه، لشورمان ومونرو قائلًا: «عليكم الحصول عليها … لأنه مجال خاضع لقواعد تنظيمية، ونظرًا للاستثمارات الكثيفة المخصصة للبحث والتطوير. والشيء نفسه ينطبق على مجالَي الصيدلة والتكنولوجيا الفائقة … فإذا كنت تعمل في مجال خاضع للقواعد التنظيمية ولديك مثل هذه الفترة الانتقالية الطويلة للغاية والتكاليف الضخمة المخصَّصة للبحث والتطوير، فعليك أن تحقق عائدًا من وراء ذلك. ولن تجني من ورائه ما يكفي من المال إذا … لم يكن هناك ملكية فكرية والجميع يشارك.» كان الحافز الآخر وراء اتِّباع نهج متشدد في تسجيل براءات الاختراع هو منع المنافسين من التوصل إلى الاكتشاف نفسه ثم المطالبة بإثبات ملكيته. وعن هذا قال عالِم آخر في المجال: «تكمُن معظم قيمتها في أن يكون لديك حرية العمل. أن يكون لديك حرية مواصلة استغلال شيء اكتشفته … [وإلَّا] فسيتوصل شخص آخر إلى الاكتشاف نفسه، ويسجله ببراءة اختراع، ثم يقاضيك ليعرقلك.»30 كانت تكاليف البحث والتطوير الضخمة المدفوعة مُسبقًا تعني أن علماء المجال لن يَلقوا التشجيع إلَّا من أجل مواصلة الأبحاث التي يمكنها أن تفتح المجال أمام أسواق جديدة وكبيرة. والتطبيقات الانتقائية، مثل تخصيص المحاصيل الأفضل لصغار المزارعين ذوي الوسائل المحدودة — لا سيما أولئك المزارعين في الدول الأكثر فقرًا — لن تتلقى تمويلًا لأنها لن تحقق أبدًا أرباحًا تجارية من الناحية الواقعية. وكان هذا يناقض إلى حد ما ادعاء شركة مونسانتو بأنها تستهدف إطعام الفقراء حول العالم.

كانت شركة مونسانتو قد سبقت رواد مجال المشروعات الزراعية بكثير في التحوُّل بخُطًى حثيثة نحو التكنولوجيا الحيوية. وعن هذا كتب شورمان ومونرو: «على الرغم من أن شركات أخرى كثيرة كانت بمنزلة مُطوِّرين نشطين للتكنولوجيا وفاعلين مُهمِّين في المجال، لم تستثمر أي شركة أخرى الوقت والمال والموارد البشرية لترسيخ أقدامها في المجال [مثلما فعلت مونسانتو]. ولم تُحدث أي شركة أخرى تأثيرًا في مصير المجال والتكنولوجيا بالدرجة نفسها. في الواقع، لو أن هناك شركة حول العالم صار اسمها مرادفًا واقعيًّا لمصطلح الكائنات الحية المُعدَّلة وراثيًّا لكانت هذه الشركة هي مونسانتو بلا منازع … وخلافًا للشركات العملاقة الأخرى، التي استثمرت في التكنولوجيا الحيوية ببطء وحذر، تكافح شركة مونسانتو لتصير رائدة المجال منذ البداية، وما برحت تركز على ذلك الهدف على مدى الأعوام الثلاثين التالية.»

وكما صرح أحد العلماء، الذي عمل لصالح شركة منافسة لمونسانتو، لشورمان ومونرو: «[الرؤساء التنفيذيون في شركة مونسانتو] شمروا عن سواعدهم قبل سنوات وحشدوا كامل طاقاتهم لتحقيق النجاح في مجال التكنولوجيا الحيوية. شركة دوبونت، وشركة داو، وشركة سينجينتا … كل تلك الشركات اتبعت نهجًا أكثر حذرًا بكثير … إن شركة داو وشركة سينجينتا وشركات أخرى تعمل من منطلق: «حسنًا، سوف نجعل التكنولوجيا الحيوية مُكوِّنًا من مكونات نشاط شركتنا، ولكن سنظل نعتمد على النشاط التقليدي لشركتنا في جني معظم الأرباح.» أما شركة مونسانتو فتعمل من منطلق: «سنجني جميع أرباحنا من التكنولوجيا الحيوية.» وقد نجحوا في ذلك!»

ومنذ عام ١٩٧٥ فصاعدًا، تعاقب على مونسانتو ثلاثة مديرين تنفيذيين، هم جون هانلي (الذي تقاعد في عام ١٩٨٤)، وريتشارد ماهوني (١٩٨٤–١٩٩٥) وروبرت شابيرو (بوب شابيرو) (١٩٩٦–٢٠٠٠)، «اتَّبعوا جميعًا النهج نفسه، بتوجيه حصة دائمة التزايد من موارد الشركة للتكنولوجيا الحيوية ماحين عن شركة مونسانتو ماضيها في مجال الصناعات الكيميائية. كان شابيرو أكثرهم شغفًا بفكرة علوم الحياة، مراهنًا على مستقبل الشركة في التكنولوجيا الحيوية انطلاقًا من الاعتقاد بأن بإمكانها أن تُكسِب الشركة أموالًا طائلة وفي الوقت نفسه تخلق عالَمًا أكثر استدامة من الناحية البيئية»، وفقًا لما كتبه شورمان ومونرو.31

•••

كانت أولى الخطوات المصيرية على هذا المسار قد اتُّخِذت بالفعل. ففي عام ١٩٧٠، طُلب من كيميائي يعمل في شركة مونسانتو يُدعى جون فرانز أن يجري دراسة على بعض المُرَكَّبات الجديدة التي تَوصَّل إليها قسم آخر في الشركة، كان في الأساس يعمل على تطويرها بوصفها مُنقيات للمياه. وفي خضم هذه الدراسة، خلَّق فرانز جُزَيئًا جديدًا يُسمى «إن-فوسفونوميثيل جلايسين»، المعروف اليوم باسم «جليفوسات».32 ووفقًا للسجلات الرسمية لشركة مونسانتو: «كانت النتائج الاختبارية للفحص الأوَّلي مذهلة جدًّا، لدرجة أن شركة مونسانتو تخطَّت الفحص الثاني وبدأت التجارب الميدانية مباشرة. وخرج التقرير الأول بعبارة واحدة، ألا وهي: «اكتشاف عظيم!» فقد وُجد أن مبيد الأعشاب الجديد نجح في مكافحة كلٍّ من الأعشاب الحَولية الضارة والأعشاب المعمرة؛ إذ لم يُبِدْ الأوراق وحسب وإنما أباد الجذور أيضًا. وواجه المشاركون الأكاديميون والمزارعون الذين شاركوا في التجارب الميدانية سؤالًا واحدًا: «من أين يمكن شراء هذا المركب؟».»33 أجرت شركة مونسانتو مسابقة ﻟ «تسمية المُرَكَّب» بين طاقم السكرتارية في الشركة للوصول إلى اسمٍ تجاري لمبيد الأعشاب الجديد. وكانت صاحبة الاسم الفائز دوتي ميليس، التي اقترحت الاسم التجاري «راوند أب». وحصلت على جائزة مالية قدرها ٥٠ دولارًا عن استحقاق نظير صياغتها اسم من شأنه أن يشتهر على الصعيد العالمي ويحقق للشركة عائدات بالمليارات.
سرعان ما أدركت مونسانتو أن بين يديها «مبيدَ أعشاب لا يأتي سوى مرة واحدة في القرن». كان مبيد «راوند أب» أقرب إلى مبيد الأعشاب المثالي. فقد أباد جميع النباتات النامية تقريبًا. ولا تؤثر آلية عمله إلا على المملكة النباتية فقط، من خلال تثبيط تخليق حمضٍ أميني أساسي في الأنسجة النباتية، وكان هذا يعني أن درجة سُمِّيَّته الحادة في الحيوانات منخفضة.١ ونظرًا لانحلاله بسرعة بسبب النشاط الميكروبي، كان آمنًا على البيئة أكثر من مبيدات الأعشاب المنافسة الواسعة المدى، والتي عادةً ما كانت تبقى في التربة أو يكون لها آثار بغيضة على الأنظمة البيئية الأوسع نطاقًا. غير أن فاعلية مبيد «راوند أب» في حد ذاتها كانت نقطة ضعفه أيضًا. فمبيدات الأعشاب السابقة كانت مفيدة للمزارعين لأنها مبيدات انتقائية؛ على سبيل المثال، كان مزارعو الذُّرة يستخدمون مبيد الأترازين؛ لأنه كان يبيد الأعشاب الضارة ذات الأوراق العريضة ولا يمس محصول الذُّرة بأذًى. إلا أن الحشائش العشبية الضارة الشبيهة بالذرة من شأنها أن تبقى على قيد الحياة وتستمر في إصابة محصول الذُّرة بالآفات. ولا يمكن لأي مبيد أعشاب تقليدي أن يكون انتقائيًّا بنسبة ١٠٠ في المائة في إبادة الأعشاب الضارة فقط وترك باقي المحصول على قيد الحياة.
كان لدى شركة مونسانتو طُموح بعيد المدى لاكتشاف مُركَّب مثل «راوند أب»، وتطلب هذا الطموح عقودًا من البحث العلمي واستثمارَ عشرات الملايين من الدولارات. وحسبما صرح أحد العاملين في الشركة فيما بعد قائلًا: «في عام ١٩٥٢، بدأنا نبحث عما يقوم به مبيد «راوند أب»، واكتشفناه في عام ١٩٦٩، وقمنا باستغلاله تجاريًّا في عام ١٩٧٥، أي بعد ثلاثة وعشرين عامًا من بدء البحث.»34 كان يجب تعويض الأموال المستنزَفة في هذا الاستثمار طويل الأجل من خلال منتج ناجح. كما أن شركة مونسانتو تعرضت إلى ضغوط مالية متزايدة بحلول ثمانينيات القرن العشرين. وسرعان ما أقلعت الشركة عن إنتاج الكيماويات التقليدية، غير أنها لم تكُن قد أرست بعدُ قواعد إمبراطورية التكنولوجيا الحيوية الموعودة لتحل محلها. فانخفضت الأرباح، وبدأ كبار الموظفين يتحدثون عن تسريح العمالة أو ما هو أسوأ من ذلك. وتعرض رواد أعمال مجال التكنولوجيا الحيوية الجديد، تحت قيادة هوارد شنايدرمان وروب فرالي، إلى ضغوط شديدة لعرض ابتكاراتهم الجديدة في الأسواق. وتمثل رد فعلهم في إنتاج «راوند أب ريدي»، الحل الذي يحلم به المزارعون لمكافحة الأعشاب الضارة؛ كان كل ما عليهم القيام به هو غرس بذورٍ وفَّرتها شركة مونسانتو بعد تعديلها وراثيًّا لمقاوِمة مبيد الأعشاب الضارة «راوند أب». مع المحصول الناتج عن بذور «راوند أب ريدي»، يستطيع المزارع أن يرش المحصول النامي بالجليفوسات لإبادة جميع الأعشاب الضارة وترك المحصول ينمو دون أن يُصاب بأذًى. كانت هذه هي الغاية النهائية من وراء انتقائية مبيد الأعشاب. وبدلًا من اقتصار استخدام الجليفوسات على مرحلة ما قبل الإنبات أو عمليات الرش الحدودي حول جانبَي الطريق وعلى أطراف الحقول الزراعية، صار بالإمكان أن يكون الأداة الرئيسية للمزارعين للقضاء على الأعشاب الضارة، ليحل بذلك محل جميع مبيدات الأعشاب الأخرى إلى حد كبير. وكان هذا من شأنه أن يساعد في تحويل «راوند أب» الذي تنتجه شركة مونسانتو من مبيد أعشاب محدود الاستخدام وواسع النطاق إلى منتج عالمي حقَّق رواجًا كبيرًا.
كان تطوير بذور «راوند أب ريدي» باهظ التكلفة. وبعد بحث دقيق في جميع أنحاء العالم، اكتُشِف — على نحو ملائم بما يكفي — الجين اللازم للمقاومة في بكتيريا الأجرعية القابعة في البركة المعالجة لمياه الصرف خارج أحد مصانع مونسانتو المنتجة لمبيد «راوند أب». كان لدى شركة مونسانتو دوافع مالية أخرى؛ إذ كانت تعرف أن براءة اختراع مبيد «راوند أب» ستنتهي في عام ٢٠٠٠، وقد تكون بذور «راوند أب ريدي» وسيلةً لإلزام المزارعين بشراء مجموعة كاملة، تشمل البذور ومبيد الأعشاب، مصمَّمة خصوصًا للعمل معًا لتحقيق أقصى مكافحة للأعشاب الضارة في الحقول الزراعية. وسرعان ما اعتمد المزارعون الأمريكيون بذور «راوند أب ريدي» بعد إصدارها الأوَّلي في عام ١٩٩٦، لتتحوَّل بذلك غالبية محاصيل السلع الأساسية؛ كالذُّرة وفول الصُّويا والقطن والكانولا التي تنمو عبر أنحاء القارَّة، إلى سلالات مقاوِمة لمبيدات الأعشاب في السنوات التالية. وكما كتب شورمان ومونرو، فيما يتعلق ببذور التكنولوجيا الحيوية الجديدة: «اصطفَّ المزارعون الأمريكيون فعليًّا لشرائها. واعتمد المزارعون هذه الأصناف من المحاصيل المُعدلة وراثيًّا بأسرع مما اعتمدوا أي تقنية زراعية أخرى في تاريخ الأمة.»35 ربما كانت أكبر فائدة عادت على المزارعين أن البذور الجديدة جعلت زراعة المحاصيل المُصفَّفة سهلة. وكما كتب أحد الموظفين السابقين بشركة مونسانتو: «لست بحاجة لأن تكون عالمًا فذًّا لتزرع محصول راوند أب ريدي بكل بساطة وترش ٢٤ أوقية من مبيد راوند أب. حقول نظيفة. محاصيل مرتفعة الإنتاجية. وانتهى الأمر. هكذا بهذه السهولة.»36 قال روب فرالي مُسترجعًا الذكريات: «أتذكر أنه في عام ١٩٩٦ كان يمكنك أن تقود سيارتك بجوار حقول فول الصُّويا التي استُخدمت فيها بذور راوند أب ريدي، وكان يمكنك أن تُميِّز هذه الحقول من الطريق السريع. كانت نظيفة، لا يوجد بها أي أعشاب ضارَّة. وكان من شأنك أن تمُر بسيارتك بالحقل المجاور لتجده مليئًا بالأعشاب الضارة. وهكذا كان اكتشافًا ثوريًّا وشجَّع هذا على اعتماده … أتذكر حين كنت طفلًا مزارعًا أسير في حقول فول الصُّويا وأقتلع الأعشاب الضارة بيدي … لقد أحدثت هذه التكنولوجيا فارقًا شاسعًا.»37
على الرغم من الصورة الساخرة الرائجة عن بذور «راوند أب ريدي» بوصفها زراعة أُحادية معتمدة على المواد الكيميائية، كان للتحوُّل إليها فوائد بيئية أيضًا، رغم أنه قد يكون من قبيل المبالغة أن نقول: إن هذه الفوائد كانت متوقعة إلى حد بعيد منذ البداية. لقد سهَّلت بذور «راوند أب ريدي» الاعتماد الأوسع نطاقًا للزراعة المباشرة والزراعة المحافظة؛ إذ توقَّف المزارعون بصفة عامة عن الحرث، وبذروا البذور عبر مُخلَّفات المحصول المتبقية في التربة. ووضعت الجرَّارات — التي كانت ضرورية فيما سبق لأعمال الحرث وعمليات العَزْق المتكررة لمكافحة الأعشاب الضارَّة — في فناء المزرعة بلا عمل، مما أدَّى إلى توفير استهلاك الوقود. كما أدَّى عدم المساس بالتربة إلى تعزيز مستويات الكربون فيها، وساعد في الحد من تآكلها وحَسَّن مستوى بِنيَتها. وسعيًا منها لجني مكاسب الدعاية لهذه التحسينات الموفِّرة للكربون، تَبنَّت شركة مونسانتو فيما بعد منهجَ التصدي لتغيُّر المناخ باعتباره أحد محاورها الرئيسية، لتتعهد في عام ٢٠١٥ بأن الشركة بأكملها ستصير محايدة للكربون بحلول عام ٢٠٢١، والفضل في ذلك يعود إلى حدٍّ كبير إلى توفير استهلاك الكربون المرتبط بمنتج «راوند أب ريدي».38

ولكن على الرغم من أنه كان من السهل تمامًا بيع منتج «راوند أب ريدي» إلى المزارعين، فإنه لم يلقَ إقبالًا كبيرًا من جانب المستهلكين العاديين. فالمزارعون هم العملاء المباشرون لشركة مونسانتو؛ ولذا ربما كان مفهومًا أن الشركة لم تفكِّر كثيرًا في الشكل الذي ستظهر به فكرة مقاومة مبيد الأعشاب بالنسبة إلى الجمهور الأعرض عندما تبدأ منتجاتها في الظهور في الغذاء الذي يتناولونه. ووجدت الجماعات الداعية لشن الحملات المناهضة للهندسة الوراثية أن لديها هدفًا سائغًا؛ إذ كان بإمكانها، استنادًا إلى بعض المبررات، أن تُصوِّر مجموعة منتجات مونسانتو، المتمثلة في البذور وموادها الكيميائية، بوصفها مخططًا احتكاريًّا يهدف إلى ترسيخ اعتماد الزراعة الصناعية على مبيدٍ كيميائي واحد لإبادة الأعشاب الضارة. وهكذا، بدا الطرح الأوَّلي لمحاصيل مونسانتو المُعدَّلة وراثيًّا أنه يهدف في واقع الأمر إلى زيادة إجمالي مبيعات مبيدات الحشرات، لا الإقلال منها؛ وهي أجندة مشبوهة بصفة خاصة من شركةٍ جَلَبت إلى العالم العاملَ البرتقالي ومُركَّبات اﻟ «بي سي بي». وبدا منتج «راوند أب ريدي» خيانة للهدف الأصلي لرُوَّاد التكنولوجيا الحيوية، الذي يفترض أن يتمثل في الحد من اعتماد المزارعين على استخدام المواد الكيميائية الخارجية الاستخدام. لقد كان هذا منتجًا ينتمي للمنتجات المُعدَّلة وراثيًّا أوقع المزارعين، بحكم التعريف، في شراك المبيدات الحشرية.

لم يتَّضح هذا التحليل لاحقًا فحسب. وإنما اتَّضح للكثير من المعاصرين للأحداث أن قرار مونسانتو بتدشين المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا والمقاومة للجليفوسات كان منذرًا بكارثة ستودي بسمعة الشركة. لذا قررت شركة سيبا-جايجي، الشركة المنافسة لمونسانتو (التي صارت فيما بعد شركة سينجينتا)، في البداية عدم المُضي قُدمًا بأبحاثها عن سمات البذور المقاومة لمبيدات الأعشاب القائمة على التكنولوجيا الحيوية، وكان ذلك تحديدًا خشية من رد الفعل الجماهيري المحتمل. ووفقًا لدان تشارلز في كتابه الصادر عام ٢٠٠١ بعنوان «سادة الحصاد»، لم يقترح أحد المحاصيل المقاومة لمبيد الأعشاب الضارَّة سوى ماري-ديل شيلتون — منافسة فرالي في بدايات تطوير الهندسة الوراثية النباتية — حيث اقترحتها على رؤسائها الجدد في شركة سيبا-جايجي، ولم تلقَ سوى الرفض. ويقتبس تشارلز ما قالته شيلتون في هذا الشأن: «أتذكر رد الفعل الفوري لرؤسائي السويسريين حين قالوا: «هذه معضلة أخلاقية، لن نتمكن أبدًا من بيع ذلك.» لقد رأوا أن بيع المادة الكيميائية مع النباتات سيمثل معضلة؛ لا سيما إن كنت تحاول بيعهما كمجموعة منتجات تُباع معًا. وقالوا: «لن تنجح الفكرة أبدًا؛ ستلقى معارضة شديدة».»

أما بالنسبة إلى روب فرالي والآخرين في شركة مونسانتو، فلم يكُن حتى مطروحًا التخلي عن فكرة مقاومة مبيد الأعشاب بسبب المعارضة المحتملة من جانب المستهلكين. قال فرالي مسترجعًا الأحداث: «أظن أن التركيز على مقاومة مبيد راوند أب كان هدفًا محوريًّا منذ اليوم الأول لي في شركة مونسانتو؛ لأن الجليفوسات كان منتجًا شهيرًا، وكان فعَّالًا للغاية في مكافحة جميع الأعشاب الضارَّة الموجودة في حقل المزارع … إلا أنه كان يُبيد المحصول أيضًا. لذا أدركنا أنه إذا كان بإمكاننا أن نعالج نبات فول الصُّويا أو الذُّرة أو القطن وراثيًّا، ليصير مقاومًا للجليفوسات، فربما تكون هذه التقنية مُغيِّرة لقواعد اللعبة بالنسبة إلى المزارعين.» وثبتت صحة ذلك. ولكن على الرغم من أن شركة مونسانتو استمالت المزارعين في جميع أنحاء الأمريكيتين، مُنعت زراعة محاصيل «راوند أب ريدي» تمامًا في أوروبا بسبب رد الفعل العنيف اللاحق والمناهض للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا. وبعد عام ٢٠٠٠، حُظرت زراعة أي محصول غذائي مُعدَّل وراثيًّا تنتجه شركة مونسانتو أو أي شركة أخرى داخل دول الاتحاد الأوروبي.٢ كما أسفر الجدال الناتج عن استبعاد أنواع كاملة من المحاصيل من ثورة التكنولوجيا الحيوية التي رُوِّج لها طويلًا. فحُظر استخدام ثمار البطاطس المقاومة للحشرات والمُعدلة وراثيًّا، التي جرت زراعتها في كندا، عقب مكالمتين هاتفيتين تحذيريتين من شركة ماكدونالدز. كان الهدف من منتج البطاطس، الذي حمل اسم «نيو ليف»، مكافحة خُنفُساء بطاطِس كُولُورادو. وعندما رُفض، عاد المزارعون بكل بساطة إلى استخدام مبيدات الحشرات.39 كما استُبعد محصول القمح المقاوم لمبيد الأعشاب الضارة، الذي كانت تعتبره شركة مونسانتو في وقت سابق أكثر منتجاتها الواعدة، بسبب المعارضة من جانب الخبَّازين وتجار القمح. واستبعد الأرز المُعدل بالتكنولوجيا الحيوية أيضًا.
عصفت موجة المعارضة التي أثارها منتج «راوند أب ريدي» القائم على التعديل الوراثي بكبار قادة مونسانتو وكادت أن تدمر الشركة بأكملها. وتعرَّض رئيسها التنفيذي، بوب شابيرو، الذي كان آنذاك رائد المستقبل المشرق الجديد للتكنولوجيا الحيوية، إلى أقسى أنواع الإهانة؛ بتصويره على نحو مهين في أحد مؤتمرات منظمة السلام الأخضر في أكتوبر من عام ١٩٩٩ «كأحد هؤلاء القادة الصينيين الذين أُجبروا على السير في الشوارع أثناء الثورة الثقافية مُرتدين قُبَّعة الأغبياء»، على حد التعبير الموفق للصحفي مايكل سبيكتر في مجلة «نيويوركر».40 وذكر سبيكتر في مقاله أن شابيرو عندما تحدث عبر رابط فيديو، «بدا عابسًا ودفاعيًّا ومهزومًا». واعترف الرئيس التنفيذي لشركة مونسانتو المُحاصَر بالانتقادات أن حماسه للتكنولوجيا الحيوية «اعتُبر على نطاق واسع، وعلى نحو مفهوم كذلك، تفضلًّا أو بالأحرى غطرسة … فنظرًا لأننا ظننا أن مهمتنا هي الإقناع، كثيرًا ما كنا ننسى أن نستمع.»

غير أن الوقت قد فات بالنسبة إلى شابيرو. ففي أوائل عام ٢٠٠٠، دُمجت الشركة المحاصَرة بالانتقادات — على أثر هبوط سعر أسهُمها هبوطًا مفاجئًا — مع شركة فارماسيا (التي بيعت نفسها فيما بعد لشركة فايزر) وأُقيل بوب شابيرو من منصبه. وفيما بعد، انبثقت شركة مونسانتو «جديدة» من قسم الزراعة بالشركة القديمة في عام ٢٠٠٢. واليوم ينصب تركيز الشركة في المقام الأول على مبيعات البذور، ومن خلال علامتها التجارية سيمينيز، تبيع بذور خضراوات عالية الجودة إلى مُزارعي المحاصيل التقليدية والعضوية عبر أوروبا وباقي أنحاء العالم. وبعد فشلِ عرضِ استحواذٍ من جانب شركة سينجينتا، باتت شركة مونسانتو نفسها هدفًا للاندماج في عام ٢٠١٦ مع شركة باير الألمانية الأكبر حجمًا بكثير. وبعد أكثر من قرن، ربما يكون اسم «مونسانتو» على وشك الاندثار إلى الأبد.

•••

لو أن بوب شابيرو استغرق الوقت اللازم لاستيعاب الدروس التي جاءت في كتاب «الربيع الصامت» لراشيل كارسون على نحو صحيح، لاتَّخذت الأحداث مسارًا مختلفًا تمامًا بالنسبة إلى مونسانتو وتكنولوجيا التعديل الوراثي للكائنات الحية بوجه عام. ففي الفصل الأخير من الكتاب، أشادت كارسون بفوائد «مبيد حشري بكتيري» مُشتَقٍّ من بكتيريا التربة العَصَوِيَّة التُّورِنْجِيَّة (Bacillus thuringiensis). وأفادت كارسون بأن أبواغ هذه البكتيريا تحتوي على «بلورات غريبة تتكون من مادة بروتينية شديدة السُّمِّية بالنسبة إلى حشرات معينة؛ لا سيما يرقات الحشرات قشرية الأجنحة الشبيهة بالعث.» ومن وجهة نظرها، كان هذا المبيد الحشري الحيوي القائم على البكتيريا العَصَوِيَّة التُّورِنْجِيَّة مُبشرًا إلى حد كبير من وجهة نظرها، ليس فقط لأنه كان طبيعيًّا وحيويًّا في أساسه، وإنما بسبب طابعه الانتقائي أيضًا. لم يكن مبيدًا غير سام للثدييات والأسماك فحسب؛ وإنما للحشرات المفيدة أو غير المستهدفة أيضًا.

وأوردت كارسون أدلة ميدانية مبكرة ومشجعة على أن «النتائج النهائية للمكافحة البكتيرية [البكتيريا العَصَوِيَّة التُّورِنْجِيَّة] كانت على نفس قدر جودة النتائج التي حققها مبيد اﻟ «دي دي تي»» في إبادة اليرقات التي كانت تهاجم الغابات وأشجار الموز وثمار الكرنب، ودون الأضرار الجانبية السامة. كان المبيد البكتيري فعَّالًا للغاية، عند استخدامه على هيئة رذاذ أو مسحوق، ولكن كانت له سلبيات قطعًا. فقد عجز عن الوصول إلى الحشرات التي تتغذى داخل أنسجة النباتات، وعن التغلغل إلى الجذور، كما أنه ينحلُّ سريعًا عند تعرضه إلى الهواء الطلق في الحقل. ورغم ذلك، كان فعَّالًا بالقدر الكافي ليدخل نطاق الاستعمال التجاري الواسع الانتشار بحلول سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين، وبوصفه مبيدًا حشريًّا حيويًّا، حقق شعبية خاصة بين مزارعي المحاصيل العضوية الذين كانوا مطالَبين بتجنُّب استعمال الكيماويات الاصطناعية.

استغل علماء الهندسة الوراثية البكتيريا العَصَوِيَّة التُّورِنْجِيَّة استغلالًا أفضل من خلال تضفير الجين البكتيري داخل الجينوم النباتي، وبذلك تعبر المحاصيل عن البروتين القاتل للحشرات مباشرةً في أنسجتها. وقد وردت واحدة من أولى التجارب الناجحة في هذا الشأن تفصيليًّا في بحث نُشر عام ١٩٨٧ في دورية «نيتشر» من جانب مارك فان مونتاجيو الغني عن التعريف، الذي أسهب مع زملائه في تفصيل هذا الإنجاز المتمثل في التعبير الجيني للبكتيريا العَصَوِيَّة التُّورِنْجِيَّة في نبات التَّبغ المُعدَّل وراثيًّا.41 وفي وقت لاحق، استطاعت مونسانتو أن تحقق نفس الإنجاز العظيم في الذُّرة والبطاطس؛ وهو، ربما، ما جعلها تقرر أن تقود مبادرة إدخال التعديل الجيني للمحاصيل بواسطة البكتيريا العَصَوِيَّة التُّورِنْجِيَّة لأول مرة في منتصف تسعينيات القرن العشرين بدلًا من منتج «راوند أب ريدي». وبدلًا من ذلك، بادرت الشركة بطرح بذور صويا «راوند أب ريدي»، التي زُرعت لأول مرة في عام ١٩٩٦. ولم يخرج المنتج الأول للذُّرة الذي يحتوي على البكتيريا العَصَوِيَّة التُّورِنْجِيَّة، المُسمَّى «ييلدجارد»، إلى النور إلا بعد عام، تحديدًا في عام ١٩٩٧. ومن ثَم، أَطلق المنتج الأول للأغذية المُعدَّلة وراثيًّا الشرارة الأولى لجدال استمر على مدى عقود بشأن مقاومة مبيدات الأعشاب، وما إذا كانت مونسانتو تحاول ببساطة بيع المزيد من المواد الكيميائية، في حين لم يلتفت أحدٌ وسط هذا الضجيج إلى البذور التي تحتوي على البكتيريا العَصَوِيَّة التُّورِنْجِيَّة الرامية إلى الحد من استخدام المبيدات الحشرية. وخلط الكثيرون، ولا يزالون يخلطون، بين الأمرين، ظنًّا منهم أن المحاصيل الزراعية أصبحت بطريقة ما مقاوِمة للمبيدات الحشرية.

وأراهن، لو أن مونسانتو طرحت منتج الذُّرة المحتوي على البكتيريا العَصَوِيَّة التُّورِنْجِيَّة بوصفه أول منتجاتها بدلًا من بذور صويا «راوند أب ريدي»، لسارت الأحداث في مسارٍ مختلف تمامًا بالنسبة إلى الكائنات الحية المُعدَّلة وراثيًّا. كان من الممكن ربط الهندسة الوراثية في ذهن الجمهور منذ البداية بفكرة الحد من استخدام المبيدات الحشرية الكيميائية، وبالتالي كانت ستواجه معارضة أقل اتساعًا. ولربما أيَّد بعض الجماعات البيئية بحذر الكائناتِ الحية المُعدَّلة وراثيًّا؛ باعتبارها جزءًا من حملاتها الطويلة المدى الداعية إلى الحد من استخدام المبيدات الحشرية في الزراعة. ولربما اعتمد مزارعو المحاصيل العضوية محاصيل البكتيريا العَصَوِيَّة التُّورِنْجِيَّة وسيلةً أكثر فاعلية وكفاءة لاستخدام مبيد حشري حيوي كانوا يعتمدون عليه بالفعل على مدى سنوات كثيرة. ولكن أغلب الظن أنه بسبب «الخطيئة الأولى» المتمثلة في طرح منتج «راوند أب ريدي»، وجدت شركة مونسانتو نفسها متورطة في سلسلة من الخلافات التي جعلت الشركة اليوم مثالًا على «الشركات الزراعية الكبرى» القائمة على الكيماويات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤