الفصل الخامس

بذور انتحارية؟ المزارعون والتعديل الوراثي من كندا إلى بنجلاديش

جميعنا يعرف القصص المتداولة. شركة مونسانتو تُخرج أصحاب المزارع العائلية من المجال. مونسانتو تسلب المزارعين حقوقهم الأزلية المتمثلة في تخزين البذور الخاصة بهم، وتُعيِّن محامين ومحققين خصوصيين لرصد من تشتبه في أنهم يخزنون البذور ومضايقتهم. والأسوأ من ذلك كله أنها ترفع دعاوى قضائية على المزارعين الذين تلوثت غِلالُهم من غير قصد بالمحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا، بلا ذنب اقترفوه. يمكنك أن تسمع كل هذه الأفكار السردية — عن التلوث الكيميائي، مقاضاة المزارعين، هيمنة الشركات — في الألبوم الغنائي الأخير لنيل يونج بعنوان: «سنوات مونسانتو» (ذا مونسانتو ييرز). لا شك أن نيل يونج، بصفته مؤلفَ أغانٍ، يتمتع برخصة فنية تُخوِّل له الانحراف عن حدود الواقع نوعًا ما. ولكن هذه الادعاءات بخصوص مونسانتو منتشرة جدًّا لدرجة تستحق النظر فيها واستعراضها بالتفصيل. هل فقد المزارعون فعلًا الحق في اختيار ما يزرعونه؟ هل دفعتهم هيمنة الشركات إلى نوع من العبودية الافتراضية حقًّا؟ وهل رفعت شركة مونسانتو دعاوى قضائية على المزارعين الذين زرعوا بذورها المحمية ببراءة اختراع بغير قصد من خلال التلوث بالمحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا؟ أنكرت الشركة تمامًا، كما كان متوقعًا، تورطها في مثل هذه الممارسات. وتصرح مونسانتو بأنها «لم تُقاضِ أبدًا مزارعًا حال وجود كميات ضئيلة من بذورنا أو سلالاتنا الجينية المعدَّلة المحمية ببراءة اختراع في حقل المزارع، سواء جاء ذلك بمحض الصدفة أو نتيجة ظروف عارضة.»1 وتصف هذه الفكرة بأنها «خرافة»، و«سوء فهم … بدأ على الأرجح ببيرسي شمايزر، الذي قدمته مونسانتو إلى المحاكمة في كندا بتُهمة تخزين بذور الكانولا «راوند أب ريدي» بصورة غير قانونية.»
لقد أصبح بيرسي شمايزر — وهو مزارع من مقاطعة ساسكاتشوان الكندية كانت عائلته تمتلك نفس المزرعة البالغة مساحتها ٦٠٠ هكتار لما يربو عن قرن — بطلًا عالميًّا في نظر المعارضين لشركة مونسانتو والكائنات الحية المُعدَّلة وراثيًّا بوجه عام. وقد مُنح هو وزوجته جائزة «رايت لَيفْلِيهُود»١ في عام ٢٠٠٧، تقديرًا «لشجاعتهما في الدفاع عن التنوُّع البيولوجي وحقوق المزارعين، والتصدِّي للفساد البيئي والأخلاقي الذي نال التأويلات الحالية لقوانين براءات الاختراع»، حسبما ورد في كلمة الإشادة.2 «في إطار معركتهما ضد ممارسات التسويق الفاسدة، دقَّ بيرسي ولويز شمايزر جرس الإنذار للفت أنظار العالم إلى المخاطر التي يتعرَّض لها المزارعون والتنوع البيولوجي في كل مكان بسبب تزايُد هيمنة الشركات العاملة في المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا والتكتيكات التسويقية التنافسية التي تمارسها»، حسبما جاء في ملخَّص كلمة جائزة «رايت ليفليهود».
كان شمايزر موضوع فيلمٍ وثائقي تليفزيوني لعام ٢٠٠٩ بعنوان: «بيرسي شمايزر؛ ديفيد في مواجهة مونسانتو». يحكي الفيلم الوثائقي الجزء الخاص بشمايزر من القصة، زاعمًا أن «عاصفة شديدة في وقت الحصاد» قذفت في البداية ببذور كانولا مُعدَّلة وراثيًّا تنتجها شركة مونسانتو في حقول بيرسي شمايزر، وعلى الرغم من خسارته الدعوى القضائية الأولى التي رفعتها شركة مونسانتو ضده في أغسطس من عام ١٩٩٨، رفض شمايزر ما تعرض له من «ترهيب من شركة الكيماويات العملاقة» وذهب بالقضية إلى المحكمة الكندية العليا. يتحدث شمايزر في الفيلم بحماسة عن نفسه وعن جيرانه، مدافعًا عن استقلالية المزارعين الكنديين المَحضة في الدفاع عن حقوقهم المهمة، وكيف أنهم «لن يسمحوا لشركة متعددة الجنسيات بأن تتدخَّل وتحاول سلبهم هذه الحقوق.» وعند رؤية المحققين الخصوصيين لشركة مونسانتو يحومون خارج مزرعتهم، تُعلِّق زوجته لويز شمايزر أمام الكاميرا بأن «الأمر كان مخيفًا … شعرت كما لو أنني سجينة في بيتي.»3

ويعرض الفيلم الحُكم الصادر عن المحكمة العليا بوصفه انتصارًا لشمايزر؛ نظرًا لعدم تأييد حُكمٍ كان قد صدر عن محكمةٍ أدنى يقضي بدفع تعويضات مالية كبيرة لشركة مونسانتو. غير أن قرار المحكمة الفعلي ينطوي على قصة أكثر تعقيدًا من ذلك. فوفقًا لما ورد في حكم قضية «شركة مونسانتو كندا المحدودة ضد شمايزر» الصادر عن المحكمة العليا، «لم يشترِ شمايزر قَطُّ بذور الكانولا «راوند أب ريدي» ولم يحصل على رخصة لزراعتها. ولكن في عام ١٩٩٨، كشفت الفحوصات أن نسبة تتراوح بين ٩٥ و٩٨ في المائة من الألف فدان المزروعة بمحصول الكانولا لديه تتكوَّن من نباتات مزروعة ببذور راوند أب ريدي.» كان شمايزر قد صرح في وقت سابق أمام المحكمة الفيدرالية بكندا بأنه لاحظ وجود كانولا «راوند أب ريدي» لأول مرة عندما كان يرش مبيد «راوند أب» في حقل من حقوله لتطهير المصارف والمساحات حول أعمدة الكهرباء من الأعشاب الضارة. وعندما وجد أن جزءًا كبيرًا من نباتات الكانولا قد صمد أمام مبيد الأعشاب دون أن يتضرر، استنتج أنها تحتوي حتمًا على الجين المقاوم لمبيد الأعشاب. ولكن بدلًا من أن يتخلص منها مثلما فعل المزارعون الآخرون — حيث قدمت شركة مونسانتو مساعدة مجانية لهذا الغرض — حصد شمايزر محصول الحقل وخزَّن البذور من أجل موسم البذر للعام القادم. ودون علمه، أخذ المحققون الخصوصيون التابعون لشركة روبنسون إنفيستجيشينز، المُعَيَّنون لدى شركة مونسانتو، عينات وأرسلوها للفحص بعد تلقي بلاغ من مجهول. وأكدت الفحوصات أن بذور نبات الكانولا كانت بذور «راوند أب ريدي».

وعلى الرغم من أن شمايزر ادَّعى لاحقًا «تلوُّث» المحصول، خلص القاضي الفيدرالي إلى أنه «لا يمكن لأي مصدر من المصادر المقترحة [التي طرحها شمايزر] أن تقدم تفسيرًا منطقيًّا لنسبة التركيز أو مدى انتشار نبات الكانولا «راوند أب ريدي» بالجودة التجارية التي اتَّضحت في نتائج الفحوصات التي أُجريت على محصول شمايزر.» ووجد القاضي أن شمايزر قد خزَّن الحبوب من المحصول الذي زرعه في عام ١٩٩٧، و«كان يعرف، أو من المفترض أنه عرف، أنه مقاوم لمبيد راوند أب»، واستخدم هذه البذور في العام التالي لزراعة حقول الكانولا التسعة المملوكة له. ومن ثَم كتب قضاة المحكمة العليا الكندية: «اشتكى السيد شمايزر من أن النباتات الأصلية دخلت أرضه دون تدخل من جانبه. غير أنه لم يفسر مطلقًا السبب وراء رش مبيد «راوند أب» لفصل نباتات «راوند أب ريدي» التي وجدها في أرضه، والسبب وراء حصد المحصول وفصل البذور، وتخزينها، والاحتفاظ بها من أجل زراعتها؛ والسبب وراء زراعته إياها في العام التالي؛ والسبب وراء حصوله في النهاية على ١٠٣٠ فدانًا، خلال هذا الموسم الزراعي، من نبات الكانولا، كان من المفترض أن تكلفه ١٥ ألف دولار». لذا ووفقًا لما ذكرته مونسانتو: «الحقيقة أن بيرسي شمايزر ليس بطلًا. وإنما مجرد شخص ينتهك حقوق براءة الاختراع، ويعرف كيف يختلق قصة بارعة».4

وعلى الرغم من إنكاره، خلصت جميع المحاكم الكندية إلى أن بيرسي شمايزر كان يحاول استخدام التكنولوجيا الوراثية دون أن يدفع مقابلها. ولكي يبرر هذا التصرف أمام المحكمة، طعن شمايزر في صحة براءة اختراع مونسانتو، مُدَّعيًا أن الكائنات الحية مثل البذور والنباتات الناتجة عنها لا ينبغي أن تكون ملكية دائمة لأي شركة. غير أن المحكمتين، الفيدرالية والعليا، حكمتا ضده في هذه المحاكمة أيضًا، معلنتَين أن سمة «راوند أب ريدي» ظلت ملكًا لشركة مونسانتو حتى في الجيل الثاني من البذور. وإذا بدا هذا جائرًا، فتجدر الإشارة إلى أنه لم يكن هناك ما يمنع شمايزر من مواصلة زراعة بذور غير مُسجلة ببراءة اختراع، سواء أكانت تقليدية أم عضوية. فلم تكن شركة مونسانتو تملك أي حقوق فيما يتعلق بالبذور بوجه عام، وإنما تقتصر حقوقها على تلك البذور التي تحوي سماتِها الجينية المحمية ببراءة اختراع. وثمة مزارعون آخرون في الولايات المتحدة وكندا زرعوا بذور مونسانتو بعد أن حصلوا عليها بطريقة قانونية مشروعة، سددوا «رسوم التكنولوجيا» للحصول على حق الامتياز، ووقعوا وثيقة قانونية تحظر عليهم تخزين هذه البذور وإعادة زراعتها. (ومنذ ذلك الحين توقفت مونسانتو عن اتباع نهج «رسوم التكنولوجيا» وأدخلت ما أطلقت عليه «التسعير السلس».)

يقول المدافعون عن براءات الاختراع إنها ذات أهمية لتحفيز الابتكار، وذلك من خلال منح المبتكِر احتكارًا مؤقتًا للاستعمال التجاري لاختراعٍ ما. على سبيل المثال، بصفتي صاحب حقوق تأليف ونشر هذا الكتاب، سأسعى إلى التأكد من عدم قيام أحدهم بنسخ هذا النص وتوزيعه مجانًا دون الحصول على إذن مني. وأي شخص يفعل ذلك سيُدان بتهمة القرصنة، كما هو الحال مع الموسيقى أو البرمجيات أو غيرها من المواد الرقمية. وإذا كان صحيحًا أن نبات الكانولا المزروع ببذور «راوند أب ريدي» قد دخل إلى أرض بيرسي شمايزر لأول مرة دون قصد، فربما يمكن تشبيهه بالموسيقى الرقمية. فحتى إذا أرسل إليك أحدهم مصادفةً موسيقى محمية بموجب حقوق النشر، فستكون منتهكًا لقوانين الملكية الفكرية إذا نسخت بنفسك مزيدًا من النسخ، كما فعل شمايزر مع بذوره بمجرد أن اكتشف أنها تحتوي على سِمة مقاومة مبيد الأعشاب المرغوب فيها بشدة. ويمكن إجراء مقارنة أخرى بالاستعانة بحقوق تأليف الكتب ونشرها. ففي كتابه الأخير عن أهم ٥٠ تقنية ابتكرَتْها البشرية، بدأ الخبير الاقتصادي تيم هارفورد بلفت الانتباه إلى إشعار حقوق التأليف والنشر الوارد في صدارة الكتاب. وكتب يقول: «إنه يخبرك بأن هذا الكتاب رغم أنه ملك لك، فإن الكلمات الواردة فيه ملك لي». بالمثل، على الرغم من أن بيرسي شمايزر ربما كان يمتلك النباتات والبذور الموجودة في مزرعته، فبعض الجينات الموجودة داخل هذه البذور كانت لا تزال ملكًا لمونسانتو.

ربما يبدو هذا مُجحِفًا، إلا أن براءات الاختراع ليست دائمة؛ إذ تمتد بوجه عام لفترة محددة تبلغ ٢٠ عامًا فقط. وهذه الفترة أقصر بكثير من فترة حقوق التأليف والنشر المعتادة للكتب، التي تستمر في معظم الدول طوال فترة حياة المؤلف، بالإضافة إلى فترة تتراوح بين ٥٠ و٧٠ عامًا أخرى عقب وفاته. في الواقع، إن براءة اختراع الجيل الأول من بذور «راوند أب ريدي» قد انتهت بالفعل، ويستطيع المزارعون الآن شراء بذور الصُّويا المقاومة للجليفوسات العادية التي يمكن رشها بمبيد جليفوسات عادي أيضًا.5 ووفقًا لما تُقرُّه الشركة على مضضٍ: «لقد أوضحت شركة مونسانتو أنه: بعد انتهاء مدة براءة اختراع السمة النباتية، ستسمح للمزارعين بالاحتفاظ بسلالات معينة من فول صويا راوند أب ريدي».6 ونظرًا لأن مبيد الجليفوسات انتهت أيضًا براءة اختراعه، فإن كمية كبيرة من مبيد الأعشاب تُصنع الآن في الصين، وليس من خلال شركة مونسانتو.7 الفكرة هي أن منظومة براءات الاختراع تحفز الابتكار التقني، الذي يمكن أن يفيد المجتمع بأسره من خلال مشاركته على نطاق واسع بعد انتهاء صلاحية الحماية الأولية التي تمنحها براءة الاختراع.

قد تبدو البذور مختلفة عن البرمجيات أو الموسيقى؛ لأنها كائنات حية ذاتية التكاثر؛ ومن ثَم لا «تُنسخ» بفاعلية من خلال تدخل خارجي كما قد يحدث مع الموسيقى أو الكتب الرقمية. وربما تزعم أيضًا أنها تتمتع بقيمة فطرية، بوصفها كائنات حية، ولا ينبغي تحويلها إلى سلعة ومعاملتها كمادة يمكن حمايتها ببراءة اختراع، خاضعة للملكية التجارية كما يحدث مع الجمادات؛ مثل هواتف الآيفون أو الكتب. ستظل الأخلاقيات دائمًا محل جدل، ولكن الموقف القانوني واضح، على الأقل في الولايات المتحدة، بعد إثباته بوقائع قضية أخرى نُظرت أمام المحكمة العليا وتورطت فيها شركة مونسانتو أيضًا؛ وهي قضية «مونسانتو ضد بومان». نَظَرت هذه القضية على وجه التحديد في مسألة ما إذا كانت القدرة على التكاثُر الذاتي الفطري في البذور بوصفها كائنات حية تُبطِل حقوق براءة الاختراع. ففي هذه القضية، قام مُزارع فول الصُّويا فيرنون هيو بومان، من ولاية إنديانا ويبلغ من العمر ٧٥ عامًا، بشراء حصاد بذور الصُّويا — بهدف الاستهلاك — مباشرة من صومعة للحبوب وأعاد زراعتها، مُستغلًّا بذلك سمة مقاومة مبيد الأعشاب المحمية ببراءة اختراع لصالح شركة مونسانتو. وذهب إلى أن المبدأ المترسخ الخاص ﺑ «استنفاد حقوق براءة الاختراع» ينبغي أن يسري على بذور الجيل الثاني ذاتية التكاثر بيولوجيًّا. ويعني استنفاد حقوق براءة الاختراع أنه يمكنك شراء شيء خاضع لحماية براءة الاختراع وبيعه، مثل هاتف أو جهاز كمبيوتر، دون الإخلال بحقوق براءة الاختراع، التي تسري فقط على المرة الأولى للتصنيع والبيع.

غير أن بومان خسر القضية في حكم نادرٍ صَدَرَ بالإجماع عن المحكمة العُليا في مايو من عام ٢٠١٣. وكتبت القاضية كاجان، معبرةً عن رأي المحكمة، تقول: «يزعم بومان أنه ينبغي أن يسري مبدأ الاستنفاد على حالته؛ لأنه يستخدم البذور بالطريقة الطبيعية التي يستخدمها بها المزارعون، وهكذا فإن السماح لمونسانتو باعتراض ذلك الاستخدام من شأنه أن يخلق استثناءً محظورًا لمبدأ استنفاد براءة الاختراع للبذور. ولكن في الحقيقة أن بومان هو الذي يطالب باستثناء للقاعدة الراسخة التي تنُصُّ على أن مبدأ الاستنفاد لا يمتدُّ إلى حق عمل نسخ جديدة من العنصر الخاضع لحماية براءة الاختراع. ولو مُنح بومان ذلك الاستثناء، لما كان لبراءات الاختراع التي تحمي البذور قيمة تُذكر.»8 واستئنافًا لتشبيه تيم هارفورد، يمكنك أن تبيع كتبك القديمة إلى صديق ما، ولكن لا يمكنك أن تستخدمها نموذجًا لعمل نسخ جديدة من تسلسلات الكلمات الواردة فيه. والبذور تستخدم معلوماتها الجينية نموذجًا ينمو منه كائن حي جديد. وفيما يتعلق بقانون الولايات المتحدة، قد تكون هذه المعلومات البيولوجية — بافتراض أنها ابتكار جديد قانونًا — خاضعةً لحماية حقوق الملكية الفكرية مثل أي اختراع آخر.
قد يكون هذا الموقف قانونيًّا، أما ما إذا كان أخلاقيًّا أم غير ذلك، فهذه مسألة مختلفة تمامًا. فكما احتج جورج مونبيوه في محاضرة ألقاها في عام ١٩٩٧:
«تعتمد الهندسة الوراثية لنباتات المحاصيل الآن على ما يمكن وصفه بحقوق ملكية فكرية أُحادية الجانب. فلكي تضمن الشركات المنتجة أن تجني ثمار استثماراتها، تتقدم للحصول على براءات الاختراع الخاصة بنباتات المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا وتحصل عليها بالفعل. والكثير من النباتات التي تستخدمها كبرى شركات الأدوية كموادَّ خامٍ طورها الفلاحون على مدى مئات بل آلاف السنين. ثم تأخذها الشركات إلى مختبراتها، وتعبث بها على مدى ثمانية عشر شهرًا، وتُدخل جين سمك مفلطح هنا أو جين حيوان لاما هناك، على أمل تصنيع منتج جديد مُربح.»9

بعبارة أخرى، تخضع المعلومات الجينية، التي طُوِّرت على مدى قرون في الحقل العام، للخصخصة والاحتكار. وقد قورنت هذه العملية بحركات التسييج التاريخية التي نزعت ملكية الأراضي من الفلاحين في إنجلترا من القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر، باستثناء أن التسييج هذه المرة يحدث للمشاعات الجينية لا لمساحة مادية.

لا شك أن شركة مونسانتو، بدعمٍ من المحكمة العليا بالولايات المتحدة وكندا، كانت ستعترض بأن الجينات التي أدخلتها على البِنية الجينية الجديدة هي الجينات الوحيدة الخاضعة لبراءة الاختراع، ومن ثَم تكون خاضعة للخصخصة، وليس باقي جينوم البذور، وأن البذور الأصلية الخالية من السمة الجديدة وغير الخاضعة لبراءة الاختراع ينبغي أن تظل متاحة. ولكن النتيجة أن البذور الخاضعة لبراءة الاختراع ذات السمات المفيدة عادةً ما تكون أغلى ثمنًا؛ وهكذا يحظى المزارعون الأكثر ثراءً بوضع متميز يُمكِّنهم من تحقيق الاستفادة الكاملة منها، كما يشير مونبيوه. حينئذٍ قد يتفوق المزارعون الأكبر والأكثر ثراءً على المزارعين الأكثر فقرًا الذين لا يملكون الموارد اللازمة للاستثمار في التقنيات الأحدث المعزِّزة للإنتاج، مما يسفر عن تفاقم اللامساواة في المناطق الريفية. وعن ذلك كتب جورج مونبيوه: «لا يستطيع صغار المزارعين، والكثير منهم يعمل خارج إطار الاقتصاد النقدي، المنافسة على هذه الأُسُس. فنظرًا لأن كبار المنتجين يستطيعون اقتناء التقنيات التي تتجاوز إمكانيات الفقراء، فسوف يضمنون قبضة أقوى على حيازة الأرض والإنتاج … وأرى أن هذا سوف يترتب عليه تراجع مستوى الأمن الغذائي حول العالم.» وهكذا، وعلى الرغم من أن مونبيوه يُقر بأن تحقيق إنتاج أعلى ينبغي أن يقود إلى توفير المزيد من الطعام — مع ثبات باقي العوامل الخارجية — فإن الاقتصاد السياسي الخاص بالبذور المُعدَّلة وراثيًّا المحمية ببراءة الاختراع يعني أن العكس قد يحدث في رأيه. واحتمالية حدوث هذا الأمر من عدمها في العالم الواقعي محل نزاع؛ فقد أظهر أحد التحليلات التجميعية أن غالبية الأرباح التي تدرُّها المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا تُحتَجز في البلدان النامية.10 وإذا ما أُتيحت بذور التكنولوجيا الحيوية دون براءة اختراع ودون تكلفة مضافة، لربما يختلف الموقف، كما سنرى في الفصل التالي.
يدعي الكثير من جماعات الحملات أن استغلال شركة مونسانتو لمنظومة براءات الاختراع تقود مباشرة إلى إزعاج المزارعين وتقويض حقوقهم في الاحتفاظ بالبذور. ففي تقرير صادر عام ٢٠١٣ بعنوان «عمالقة البذور في مواجهة المزارعين الأمريكيين»، زعم مركز سلامة الغذاء، وهي جماعة ضغط مناهضة للهندسة الوراثية وداعمة للزراعة العضوية، أن المزارعين «ما زالوا يواجهون اضطهادات بسبب مسائل متعلقة ببراءات اختراع البذور» وأن «مونسانتو قادت المجال إلى رفع دعاوى قضائية ضد المزارعين وغيرهم من الأطراف ذات الصلة بالمجال الزراعي».11
وتُقِر شركة مونسانتو بأنها تتَّخذ بالفعل إجراءات قضائية ضد المزارعين الذين تعتبرهم منتهكين لحقوق الملكية الفكرية. «إن مقاضاة مونسانتو للمزارعين بسبب انتهاك حقوق براءة الاختراع هي حالة نادرة نسبيًّا، بالنظر إلى وجود ١٤٥ دعوى قضائية رفعت منذ عام ١٩٩٧ في الولايات المتحدة، أو ١١ دعوى قضائية في المتوسط سنويًّا. وحتى تاريخه، لم تستكمل إجراءات التقاضي إلا في تسع قضايا فقط من إجمالي هذا العدد.»12 ربحت مونسانتو جميع القضايا التي نظرت فيها المحكمة، وتصرح بأنها تبرعت بأي تعويضات حصلت عليها الشركة إلى صندوق مونسانتو المنوط به توفير «مساعدة مستدامة للمجتمعات المحتاجة في مختلف أنحاء العالم».13

قد يرجع السبب وراء ربح شركة مونسانتو دومًا هذه القضايا إلى تكاتف جميع الظروف ضد المزارعين الذين تقاضيهم، بحسب مركز سلامة الغذاء. «لا يستطيع معظم المزارعين تحمل تكلفة التمثيل القانوني ضد هذه الشركات التي تبلغ قيمتها السوقية مليارات الدولارات، وعادة ما يُجبرون على قبول تسويات سرية خارج المحكمة». غير أنه لا توجد طريقة موضوعية، بخلاف المسار القضائي عندما تصل القضية إلى المحكمة، لتحديد الطرف الصادق: هل استخدم المزارع البذور بغير قصد، أم أنه حاول الاستفادة من مزايا بذور «راوند أب ريدي» دون تسديد رسوم التكنولوجيا الإضافية، كما خلصت المحكمة في قضيتي بومان وشمايزر؟

خلص التقرير الصادر في قضية «عمالقة البذور ضد المزارعين الأمريكيين» إلى أن «النظام الحالي للملكية الفكرية قد أسفر عن تعزيز صناعة البذور، وزيادة أسعارها، وفقدان تنوُّع البلازما الجرثومية، وخنق البحث العلمي.» وثمة بعض الأدلة الداعمة لقضية مركز سلامة الغذاء هنا. فكما هو الحال مع شركات الأدوية، يتكلف تطوير محصول مُعدل وراثيًّا جديد الآن مئات الملايين من الدولارات، مما يترتب عليه استبعاد الابتكارات مفتوحة المصدر وابتكارات القطاع العام في مجال الكائنات الحية المُعدَّلة وراثيًّا التي كان من الممكن إتاحتها للمزارعين، دون الخضوع لبراءات اختراع، ليستفيد بها الجميع. غير أن هذه التكاليف الباهظة تتزايد الآن بوجه عام بسبب اللوائح الشديدة الصرامة، وهو ما يعني أن الشركات ذات الإمكانيات المالية الضخمة فقط هي التي يمكنها تحمل تكلفة عملية دفع المحاصيل الجديدة عبر الإجراءات المعقَّدة لاستخراج الموافقات في عدة دول، وهي عملية تمتدُّ سنوات. كذلك تتزايد التكلفة بسبب التأخيرات الناجمة عن معارضة الجماعات المناهضة للتعديل الوراثي، مثل مركز سلامة الغذاء، الذي يعارض عمومًا كل منتج جديد مُعدَّل وراثيًّا، بغضِّ النظر عما إذا كان قادمًا من القطاع الخاص أم القطاع العام، وذلك من خلال الإجراءات القضائية أو التأثير على الجهات الرقابية. ومن قبيل المفارقة أن هذه الجماعات المناهضة للتعديل الوراثي، التي تستشهد بهيمنة الشركات على مجال إنتاج البذور كتبرير لمعارضتهم، هي من ساعدت في توطيد هذه الهيمنة، وذلك من خلال وضع عوائق باهظة التكلفة أمام الابتكارات مفتوحة المصدر أو ابتكارات الشركات الصغيرة أو ابتكارات القطاع العام لدخول السوق.

في الواقع، ثمة مثال على خوض شركة مونسانتو معركة مع مزارعي المحاصيل العضوية في الولايات المتحدة، ولكن هذه المرة كان مزارعو المحاصيل العضوية هم من قاموا بمقاضاة شركة مونسانتو، وليس العكس. كانت البداية في عام ٢٠١١، عندما رفعت رابطة مزارعي البذور العُضوية والتجارة دعوى قضائية أمام محكمة في مقاطعة نيويورك. بدأت شهادة الرابطة أمام المحكمة بتوضيح «استحالة وجود البذور المُعدَّلة وراثيًّا والبذور العُضوية معًا؛ لأن البذور المحوَّرة جينيًّا تلوث البذور العضوية وفي النهاية تنتصر عليها». ومن ثَم خشيت الرابطة أن يواجه المزارعون «تهمة انتهاك براءات الاختراع من جانب الشركة المسئولة عن البذور المتحوِّلة جينيًّا التي لوثتها.»14 ومن ثَم، «يطالب المدعون المحكمة بإعلان أنه في حالة تلوث البذور العضوية بالبذور المُعدَّلة جينيًّا التي تنتجها شركة مونسانتو، فلا داعي للخوف من ملاحقتهم قضائيًّا بتهمة انتهاك حقوق براءة الاختراع.» غير أن محاكم المقاطعة ومحاكم الاستئناف حكمت بأن لا وجه لإقامة الدعوى المرفوعة من قبل الرابطة؛ نظرًا لأن مونسانتو تعهَّدت بالفعل بعدم مقاضاة أحد بسبب التلوث غير المتعمَّد ببذورها المعدَّلة وراثيًّا. وفي رأيي، بدا الأمر كله أقرب إلى محاولة لخلق صورة إيجابية لدى الجمهور أكثر من كونه يمثل تحديًّا قانونيًّا خطيرًا. وفيما بعدُ رفضت المحكمة العليا الأمريكية النظر في القضية، لتُجيز بذلك الأحكام الصادرة عن محكمة أول درجة.

•••

لعل من أكبر المخاوف فيما يتعلق بهيمنة الشركات على الجدال الدائر حول التعديل الوراثي هي الفكرة السائدة على نطاق واسع بأن البذور المُعدلة جينيًّا التي تنتجها شركة مونسانتو لا تتكاثر؛ أي أنها مُعقَّمة عن عَمد، وأن هذا يُجبر المزارعين على معاودة شراء البذور من الشركة نفسها عامًا تلو الآخر. ونظرًا لوصفها ﺑ «تكنولوجيا التعقيم والإنهاء»، عادةً ما يُقدَّم هذا كسبب لاعتبار الهندسة الوراثية وبالًا على المزارعين بالضرورة، وكتفسيرٍ لعزم الشركات الخاصة الشديد على تشجيع هذه التكنولوجيا. بالتأكيد ثمة شيء بغيض على نحو بديهي بخصوص فكرة البذور العقيمة، وهو أن التكاثر البيولوجي في حد ذاته يمكن تعطيله جينيًّا عبر التلاعب التكنولوجي من جانب البشر، وكل هذا من أجل تحقيق أرباح للشركات.

وربما لحُسن الحظ حينئذٍ أن تعقيم البذور لم ينتشر مطلقًا في أي مكان في العالم بوصفه سمة في النبات، رغم اقتراحه وتطويره جزئيًّا في التسعينيات من القرن العشرين. لذا فإن تكنولوجيا التعقيم والإنهاء التي كثر الحديث عنها ليس لها وجود على أرض الواقع. والقصة القائلة بأن بذور مونسانتو لا تتكاثر هي خرافة في الواقع. غير أن ثمة نواة من الحقيقة في قلبها، كما هو الحال مع أغلب الخرافات؛ قامت شركة مونسانتو بالفعل بشراء شركةٍ للبذور تُدعى دلتا آند باين لاند شاركت في تسعينيات القرن العشرين في تطوير بذور غير قابلة للتكاثر. ومن قبيل المفارقة أن من أحد الدوافع وراء تطوير ما يُسمى «تكنولوجيا تقييد استخدام الجينات» في الأساس هو القضاء على احتمالية حدوث تلوُّث جيني بغير قصد، بالإضافة إلى الدافع التجاري الأقوى المتمثل في حماية الملكية الفكرية. يميل الأشخاص القلِقون من تكنولوجيا التعقيم والإنهاء أيضًا إلى نسيان أن البذور الهجينة، التي كانت موجودة لما يقرب من قرن، لا تنتج سلالة نقية في الجيل الثاني ومن ثَم يجب أن يشتريها المزارعون من جديد كل عام. ولكن فيما بعد تعهَّدت شركة مونسانتو بعدم استخدام هذه التكنولوجيا استجابة لموجة الغضب العالمي. ولذا صارت جميع البذور المُعدَّلة وراثيًّا (ما لم تكن هجينة) تتكاثر مثل أي بذور أخرى اليوم؛ ولهذا السبب تحديدًا لاحقت شركة مونسانتو ما يقرب من ١٥٠ مزارعًا عبر المحاكم الأمريكية لمنعهم من إعادة زراعة البذور دون موافقة الشركة.

ثمة انتقاد مبرر أكثر لشركة مونسانتو بأنها تبوأت مركزًا مهيمنًا في سوق البذور المُعدَّلة جينيًّا؛ مما أثار مخاوفَ بشأن مكافحة الاحتكار والاستحواذ الأحادي. ففي العقد الذي تلا تدشين مجموعة منتجاتها «راوند أب ريدي» في عام ١٩٩٦، واصلت شركة مونسانتو حلقة الإنفاق الضخم، مستحوذة على ما يقرب من ٤٠ شركة تقريبًا. كان معظمها إما شركات للتكنولوجيا الحيوية أو شركات لتصنيع بذور، وكان من بينها أجراسيتوس، وكالجين، وهولدينز، وأسجرو، وديكالب جينتكس، ودلتا آند باين لاند، وكذلك مشروعات البذور الخاصة بشركة كارجيل. والشيء نفسه فعلته الشركات الأربع الأخرى من «الخمسة الكبار» في قطاع الكيماويات الزراعية، وهي: دوبونت، وسينجينتا، وباير، وداو. تمتلك هذه الشركات فيما بينها سوق البذور المُعدَّلة وراثيًّا بأكمله تقريبًا، وتبلغ حصة مونسانتو من إجمالي مبيعات البذور ما يزيد على خمسين في المائة. تبدو الصورة مُعقَّدة؛ لأنه من البداية انتهجت مونسانتو نهج «الترخيص واسع النطاق»، مما يتيح للشركات المنافسة أن تستخدم سمات التكنولوجيا الحيوية المحمية ببراءة الاختراع في إنتاج بذورها. غير أن وزارة العدل الأمريكية مؤخرًا شعرت بالقلق إلى الحد الذي دفعها إلى فتح تحقيق في «الممارسات الممكنة المناهضة للتنافس في مجال إنتاج البذور». ولكن أُغلق هذا التحقيق بهدوء في عام ٢٠١٢ 15 ترى ما السبب؟ كل ما صرح به أحد المتحدثين الرسميين لوزارة العدل الأمريكية لتوم فيلبوت، مراسل مجلة «ماذر جونز»:16 «لقد وضعت إدارة مكافحة الاحتكار في الاعتبار عند اتخاذ هذا القرار، تطوراتِ السوق التي حدثت أثناء فترة تعليق التحقيقات.»
وعلى الرغم من رفض وزارة العدل التدخل، لم يختفِ تركيز الشركات في قطاع البذور؛ بل إن الأمور تزداد سوءًا. فقد اندمجت شركتا داو ودوبونت في شركة واحدة هي داودوبونت واستحوذت شركة باير على شركة مونسانتو نفسها كما ذُكر آنفًا. واشترت شركة كيم تشاينا شركة سينجينتا، وسوف يُقلِّص دمج مونسانتو مع باير الخمس الكبار إلى ثلاثة فقط. وفي بيان صحفي صدر عام ٢٠١٦، حذرت «إي تي سي جروب» (مجموعة الحماية من التآكل والتكنولوجيا وتركيز الشركات)، والتي تعتبر الرقيب الأمين لأداء التكنولوجيا، من أن «نشاط الاستحواذ لم يعُد مقتصرًا على البذور ومبيدات الحشرات؛ بل امتدَّ إلى السيطرة العالمية على المستلزمات الزراعية والأمن الغذائي العالمي.»17 وفي شهر يوليو من عام ٢٠١٧، كتب ائتلاف مكون من المعهد الأمريكي لمكافحة الاحتكار ومنظمة مراقبة الغذاء والماء والاتحاد الوطني للمزارعين إلى وزارة العدل الأمريكية يطالب تحديدًا بألَّا يكون دمج شركتي مونسانتو وباير على أساس من التنافس والابتكار.18 وصرَّحت مديرة المعهد الأمريكي لمكافحة الاحتكار ديانا موس: «الاندماج يقضي إلى حد كبير على التنافس عبر عدد من الأسواق المهمة. ويمكن أن يفرز منافسين أصغر، ويثقل كاهل المزارعين والمستهلكين بأسعار أعلى واختيارات أكثر محدودية وابتكارات أقل.» وأشار الخطاب إلى أنه إذا مضت عملية دمج مونسانتو وباير قُدمًا، فستحقق الشركة الناتجة عن هذا الاندماج أرباحًا تُقدر ﺑ ٢٦٫٩ مليار دولار (٢٠ مليار جنيه إسترليني تقريبًا)؛ أي ٤٠ في المائة من أرباح الصناعة، وستتجاوز أرباح شركة داودوبونت وشركة سينجينتا — كيم تشاينا.19

لم يتَّضح بعد ما إذا كانت أجهزة تنظيم المنافسة ستسمح بإتمام هذا الاندماج الذي يعد الأكبر بين عمليات الاندماج العملاقة هذه. فإذا سمحت بذلك، فستصير حماية المنافسة الحقيقية في قطاع إنتاج البذور المُعدَّلة وراثيًّا — وهو أمر مهم بالتأكيد من أجل تشجيع المزيد من الابتكار والدفاع عن حقوق المزارعين ضد ارتفاع الأسعار — مصدر قلق متزايد الخطورة. وهذا يختلف تمامًا عن استهداف حظر المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا أو فرض قيود شديدة عليها؛ فهو يتعلق أكثر بالسَّعي لضمان عدم إخضاع التكنولوجيا إلى قيود هيمنة الشركات على نحو مبالغ فيه. وفي رأيي، إن موقف الجماعات الداعية للحملات المناهضة لهيمنة الشركات على الكائنات الحية المعدلة وراثيًّا غير واضح قليلًا في هذا المقام. فمؤسسة فود آند ووتر واتش ومجموعة إي تي سي جروب لا تسعيان إلى فتح آفاق المنافسة وزيادة قدرة المزارعين على اقتناء الابتكارات الجديدة مثل البذور المُعدَّلة جينيًّا؛ وإنما تحاول الحد من استخدام المزارعين الكائنات المُعدلة وراثيًّا، بل منعه على الإطلاق. لذا أرى من وجهة نظري أن مخاوفها المزعومة بشأن الممارسات المناهضة للمنافسة تبدو تكتيكية أكثر من كونها حقيقية. غير أن تركيز الشركات يمثل مشكلة حقيقية، والموجة الأخيرة من عمليات الاندماج العملاقة ستزيد الأمور سوءًا على الأرجح، من خلال تقييد الخيارات أمام المزارعين ومن خلال إعطاء مزيد من المعلومات أو الأدلة للنشطاء المُناهضين للتعديل الوراثي، العازمين على شيطنة الشركات الكبرى لتحقيق أقصى فاعلية للدعاية ضد التكنولوجيا.

•••

من بين جميع الاتهامات الموجهة إلى شركة مونسانتو، كان الادعاء بأن الشركة مسئولة عن وفاة مئات الآلاف من المزارعين الهنود هو الأخطر بالتأكيد. فقد تواترت المزاعم بشأن انتحار المزارعين الهنود في عدد لا يُحصى من الصحف، وانتشرت حول أنحاء العالم بفضل الأفلام الوثائقية الحائزة على الجوائز؛ بل جاء ذكرها أيضًا في خطب الأمير تشارلز. وهو ما يعطي دافعًا أخلاقيًّا قويًّا لدعاة الحملات المناهضة للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا الذين يؤمنون بأنهم يدافعون عن حقوق بعضٍ من أكثر المزارعين فقرًا وضعفًا في العالم. ويُرسِّخ السمعة التي اكتسبتها شركة مونسانتو باعتبارها واحدة من أكثر الشركات الاستغلالية الوضيعة التي لا تعرف الرحمة على الإطلاق.

«إبادة جماعية بيدِ التعديل الوراثي: انتحار آلاف المزارعين الهنود بعد استخدام المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا»، كان هذا هو العنوان الرئيسي لمقال إخباري مؤلم نُشر في صحيفة «ديلي ميل» البريطانية في عام ٢٠٠٨.20 احتوى المقال على روايات من مصادر مباشرة عن مزارعين انتحروا بتناول مبيد حشري، تاركين وراءهم أُسرًا مكلومة لتتحمل تكاليف الديون وفشل المحاصيل. خلص المراسل الصحفي عقب زيارة ولاية ماهاراشترا الهندية إلى أن «تكلفة المستقبل المُعدَّل وراثيًّا باهظة جدًّا هنا في نطاق الحزام الانتحاري بالهند.» ثمة قصة أخرى مُستقاة من مصدر مباشر عن مزارع يعاني من فشل المحصول كانت محورًا للفيلم الوثائقي «البذور المُرَّة» الذي أُنتج عام ٢٠١١. وعلى الملصق المصمَّم خصوصًا للفيلم، كُتب: «في الهند، ينتحر مزارع كل ٣٠ دقيقة». عُرض هذا الفيلم الوثائقي في أكثر من مائة مهرجان سينمائي، وحصد «جائزة العدالة العالمية» من مؤسسة أوكسفام نوفيب لتمويل مشروعات التنمية، وأُذيع على عشرات القنوات التليفزيونية العالمية. ووصفه الكاتب مايكل بولان بصحيفة «نيويورك تايمز» بأنه «مأساة تراجيدية تجسد عصرنا رويت بأسلوب جميل، وأحدثت انزعاجًا عميقًا.» ووصف الموقع الإلكتروني للفيلم المشكلة: «البذور المُعدَّلة وراثيًّا أغلى بكثير؛ فهي تحتاج إلى المزيد من الأسمدة والمبيدات الحشرية، ويجب أن يُعاد شراؤها كل موسم.»21
ربما تكون الناشطة البيئية الهندية، فاندانا شيفا، هي الأعلى صوتًا بين دعاة الحملات المناهضة لشركة مونسانتو. ففي مقال تعريفي طويل كتبه الكاتب الصحفي مايكل سبيكتر في مجلة «نيويوركر» عام ٢٠١٤، وُصفت شيفا بأنها «بطلة للناشطين المناهضين للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا في كل مكان» بسبب «معارضتها الشرسة للعولمة واستخدام المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا».22 ووصفها المراسل التليفزيوني الأمريكي بيل مويرز بأنها «نجمة بارزة في ساحة المعركة العالمية ضد البذور المُعدَّلة وراثيًّا». كتبت شيفا عن قضية انتحار المزارعين الهنود على موقعها الإلكتروني في عام ٢٠١٦ تحت عنوان: «مونسانتو في مواجهة المزارعين الهنود». زعمت شيفا في هذا المقال أن بذور القطن «انتُزِعت من أيدي المزارعين الهنود» بواسطة شركة مونسانتو، وأن دخول الأخيرة إلى سوق البذور الهندية قد تسبب في زيادة سعر البذور بنسبة «٨٠ ألف في المائة» (أجل، الرقم صحيح وليس خطأً مطبعيًّا). والأهم من ذلك أنها ادعت أنه نتيجة لذلك «انتحر ٣٠٠ ألف مزارع هندي، بعد أن حوصروا في حلقات مفرغة من الديون وخسائر المحاصيل، و٨٤ في المائة من حالات الانتحار هذه تُعزى مباشرة إلى قطن بي تي الذي تنتجه شركة مونسانتو».23 وفي مواضع أخرى، وصفت شيفا هذه الحالات ﺑ «الإبادة الجماعية»، وهو ما تُصرُّ على أن مونسانتو قد تسببت فيها مباشرة.24
غير أن الأمر أكثر تعقيدًا مما تبدو عليه هذه القصة المتداولة على نطاق واسع. يحتوي القطن المُعدَّل وراثيًّا بالبكتيريا «العَصَوِيَّة التُّورِنْجِيَّة» Bacillus thuringiensis (قطن Bt، أو بي تي) على جين مقاوم للمبيدات، وهو ما يعني أن هذا القطن يستلزم كمية أقل من المبيدات الحشرية، لا كمية أكثر. فبدلًا من الاضطرار إلى رش المحصول بالمبيدات الحشرية، سوف يتمكن المزارعون من التعويل على مقاومة نباتات القطن للآفة الحشرية الأساسية التي تصيبها؛ ألا وهي دودة القطن. إذن، لماذا يتورط المزارعون في الديون جراء الحاجة إلى شراء «المزيد من المبيدات الحشرية»، مثلما يدَّعي الفيلم الوثائقي «البُذور المُرَّة»؟ ثمة سؤال بديهي آخر، ألا وهو: لماذا يتصرف المزارعون بما يتعارض مع مصالحهم الظاهرية من خلال شراء نفس بذور القطن المُعدَّلة وراثيًّا «الفاشلة» عامًا تلو الآخر؟ يَعزو الفيلم الوثائقي «البذور المُرَّة» أسبابَ هذا إلى حملة تسويقية شرسة أطلقها «مندوبو مبيعات البذور» نيابة عن شركة مونسانتو. وعلى نحو مماثل، ذكر الكاتب بصحيفة «ديلي ميل»: «لقد وعد مندوبو مبيعات المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا والمسئولون الحكوميون المزارعين بأن هذه البذور ستكون «بذورًا سحرية».» ولكن زُرع القطن المُعدَّل وراثيًّا لأول مرة على نطاق واسع في عام ٢٠٠٢. والآن، وبعد مرور ١٥ عامًا، لا يزال يمثل أكثر من ٩٠ في المائة من مساحة الأراضي المزروعة بالقطن في الهند، ويوجد ٨٠٠ صنف مختلِف من القطن المُعدَّل وراثيًّا يتنافس في السوق المحلية. هل خُدِع المزارعون بحيل تسويقية بارعة لشراء «بذور سحرية» عديمة الفائدة لمدة ١٥ عامًا متتالية؟ هل المزارعون الهنود فعلًا ضحايا أبديُّون ينخدعون بالحيل التسويقية نفسها عامًا تلو الآخر، وينتهي بهم المطاف مُعدَمين ليس لهم ملاذ سوى الانتحار؟ كما يقول المثل: إذا خدعتني مرة، فاللوم عليك؛ أما إذا خدعتني مرتين فاللوم عليَّ. ولكن ماذا لو خدعتني ١٥ مرة؟ إن هذا يجعل مزارعي القطن الهنود أغبى المزارعين على مستوى العالم لا محالة، حيث تسري بينهم عدوى الانتحار غير المبرر مثل حيوانات اللاموس.
لا غرو أن الأدلة المستقاة من الواقع توحي بأن مزارعي القطن الهنود ليسوا أغبياء على الإطلاق، وأنهم اختاروا بمحض إرادتهم زراعة قطن بي تي لأنه يزيد إنتاجية محصولهم ويقلل تكاليف استخدام المبيدات ويدر عليهم وعلى أسرهم المزيد من الأموال. وكان أدقُّ بحث ميداني درس هذه المسألة هو بحثًا أجراه جوناس كاتيدج وماتين كايم من جامعة جوتنجن الألمانية، ونُشر بالدورية المرموقة «وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم»، بالولايات المتحدة الأمريكية، في عام ٢٠١٢.25 أجرى كاتيدج وكايم استطلاع آراء ﻟ ٥٣٣ أسرة من أسر المزارعين عبر أربع ولايات هندية تزرع القطن (هي: ماهاراشترا، وكارناتاكا، وأندرا براديش، وتاميل نادو) بين عامي ٢٠٠٢ و٢٠٠٨. وقد ارتفعت نسبة زراعة قطن بي تي بين المزارعين الذين شملهم الاستطلاع من ٣٨ في المائة في عام ٢٠٠٢ لتصل إلى نسبة مذهلة بلغت ٩٩ في المائة في عام ٢٠٠٨، مما يشير إلى أنه إما أن مندوبي مبيعات «البذور السحرية» التي تنتجها مونسانتو كانوا مُقنِعين على نحو لا يُصدق، أو أن المزارعين، وهو الاحتمال الأرجح، قرروا أن هذا القطن يتمتَّع فعلًا بفوائد حقيقية. وهذا بالضبط ما توصَّل إليه الباحثان الألمانيان؛ إذ وجدا زيادة بنسبة ٢٤ في المائة في محصول القطن بسبب تراجع الخسائر التي تسببها الآفات الحشرية، وزيادة في الأرباح بنسبة ٥٠ في المائة لمزارعي هذا القطن، وهو ما يرجع، إلى حد كبير، إلى هذه الارتفاعات في إنتاجية المحصول. وفي ورقة بحثية منفصلة، أظهر كايم وزميله فيجيش كريشنا أن قطن البي تي أدى إلى تراجع استخدام المبيدات الحشرية بنسبة ٥٠ في المائة في المنطقة نفسها وعلى مدى الفترة الزمنية نفسها؛ وهو ما عاد بفائدة كبيرة على البيئة وصحة المزارعين على حد سواء.26 وقدَّر كايم أنه إذا قُدِّرت فوائدُ تَراجع استخدام المبيدات الحشرية على مستوى الهند ككل بِناءً على البيانات المتوافرة، «فإن قطن بي تي يسهم الآن في تجنب ٢٫٤ مليون حالة تسمُّم بالمبيدات الحشرية كل عام.»27 كان من المفترض أن تُثلج مثل هذه الأخبار صدرَ أي ناشط بيئي؛ بمن فيهم فاندانا شيفا.
وهناك عدد كبير من المزارعين الهنود على استعداد لسرد هذه القصة من منظور أكثر إيجابية، رغم أن صُنَّاع الأفلام الوثائقية ذوي النوايا الحسنة الزائرين للبلاد لا يبدو أنهم يُجرون مع هؤلاء أي أحاديث. وكان أحد هؤلاء المزارعين الذين التقيت بهم وتركوا انطباعًا دائمًا في نفسي هو جورجيت سينج مان، وهو مزارع قطن من ولاية هاريانا غرب الهند، المتألق بعمامته الحمراء. تأثرت بتواضعه الجَم والتزامه الشديد نحو البيئة حين قابلته في مدينة دلهي. وفي معرض حديثه لاحقًا مع زميل لي من جامعة كورنيل قال: «قبل قطن بي تي، جربنا كل أنواع السموم الفتاكة المتاحة في السوق لرشها على محاصيل القطن الخاصة بنا.28 كنا نرش الحقول كل مساء بالمبيدات الحشرية. وهذا ملَأَ الأجواء المحيطة بالأبخرة السامة التي تسببت في تدمير حياة الطيور والحيوانات والحشرات والضفادع والعصافير الدُّوريَّة، وسرعان ما اختفت من قُرانا. لم يعُد بإمكانك سماع زقزقة الطيور.» تذكرنا هذه القصة كثيرًا بكتاب «الربيع الصامت» لراشيل كارسون. ووفقًا لإفادة سينج مان، منذ اعتماد زراعة قطن بي تي على نطاق واسع وما ترتب عليه من تراجع معدلات رش المبيدات الحشرية، «عدنا نسمع زقزقة العصافير بالقرب من قُرانا، وعاود الطاوس، الطائر الوطني لدينا، الظهور مرة أخرى، وظهرت الحَمائِم، واستطعنا أن نرى الحشرات مرة أخرى، وأن نرى الضفادع أثناء نزول الأمطار؛ ومن ثَم عادت مملكة الحيوان هي الأخرى إلى طبيعتها بعد اعتماد زراعة قطن بي تي.»
إذن لماذا يبدو أن المزارعين الهنود ينتحرون بهذه الأعداد الكبيرة إن لم يكن محصول قطن بي تي قد حقق هذا الفشل الذريع المبلَغ عنه عادةً؟ أجرى إيان بلويس، أستاذ علم الإحصاء الاجتماعي بجامعة مانشستر في المملكة المتحدة، دراسة شاملة على قضية الانتحار هذه. ومن خلال فحص معدلات الانتحار الرسمية، وجد بلويس أن غير المزارعين كانوا أكثر عُرضة للانتحار من المزارعين في ست ولايات من أصل تسع ولايات هندية تزرع القطن على نطاق واسع. وكتب يقول: «على النقيض تمامًا، تقل معدَّلات انتحار المزارعين [السنوية]، البالغة نحو ٢٩ حالة انتحار من كل ١٠٠ ألف نسمة، عن معدلات انتحار غير المزارعين قليلًا (بواقع ٣٥ حالة انتحار من كل ١٠٠ ألف نسمة)» عبر المنطقة المزروعة بالقطن بأكملها.29 بعبارة أخرى، يوجد «الحزام الانتحاري» للهند في المدن الهندية بقدر ما هو موجود في المزارع. يبدو العدد المطلق لحالات الانتحار كبيرًا بالنسبة إلى المراقبين من الخارج؛ لأن هناك بكل بساطة عددًا كبيرًا جدًّا من المزارعين في الهند؛ علمًا بأن الولايات التسع التي تزرع القطن وحدها يوجد بها ٤٠ مليون مزارع. إذن، ما يهم لأغراض المقارنة ليس الأعداد المطلقة لحالات الانتحار؛ بل المعدلات لكل وحدة سكانية. وما يدعو إلى الاطمئنان أن هذه المعدلات تُظهر أن معدلات الانتحار في الهند لا تختلف كثيرًا عن نظيرتها في الدول الأخرى. ويذكر بلويس أن معدل الانتحار السنوي بين المزارعين في الهند أعلى من المعدل السنوي في إنجلترا وويلز؛ ولكنه «مماثل لأفضل التقديرات للمعدلات في اسكتلندا وفرنسا»30 (يمكنني أن أضيف هنا أن كلتا الدولتين لا تزرع محاصيل مُعدَّلة وراثيًّا في الوقت الحالي).
يقارن بلويس أيضًا معدلات الانتحار قبل اعتماد زراعة القطن المُعدَّل وراثيًّا وبعده. ولو أن قطن بي تي قد تسبب في «إبادة جماعية بسبب التعديل الوراثي» لتوقع المرء قفزة مفاجئة في حالات الانتحار بعد اعتماد زراعته على نطاق واسع. ولكن ليس هذا ما تظهره البيانات. «في عام ٢٠٠١ (قبل إدخال زراعة قطن بي تي)، وصلت معدلات الانتحار إلى ٣١٫٧ حالة من كل ١٠٠ ألف نسمة، وفي عام ٢٠١١ بلغت التقديرات المماثلة ٢٩٫٣ حالة»، وهو تراجع ضئيل في الواقع.31 ويخلص بلويس إلى أنه على عكس قصة انتحار المزارعين الهنود التي تحظى بتصديقٍ واسع، «يتماشى نمط التغيُّرات في معدلات الانتحار على مدى الأعوام الخمسة عشر الأخيرة مع التأثير المفيد لقطن بي تي، وإن لم يكن ذلك ساريًا على جميع الولايات التي تزرع القطن.»32 لذا فإن قصة الانتحار المرتبطة بزراعة قطن بي تي الشائعة ليست عارية من الصحة وحسب؛ وإنما «ثمة أدلة تدعم الفرضية القائلة إن العكس هو الصحيح؛ لقد تراجعت معدلات انتحار المزارعين الذكور فعليَّا بعد عام ٢٠٠٥، بعد أن كانت في تزايد قبل ذلك الحين.» إن قصة انتحار المزارعين الهنود هي خرافة مبنية على حكايات مأساوية فردية وعُمِّمت على مستوى دولة بأكملها بِناءً على استقراءات من أشخاص على شاكلة فاندانا شيفا، ممَّن لهم دوافعُ أيديولوجية ولا يأبهون كثيرًا بالحقائق الواقعية.

•••

لعل المسألة الأكثر إثارة للاهتمام بخصوص اعتماد زراعة قطن بي تي في الهند هي كيف أساء العالم الخارجي فهم الحقيقة إلى هذا الحد. كما أشرت آنفًا، لا أظن أن هذا قد حدث بمحض الصدفة. فبلُغة المصطلحات الحديثة، تبدو خرافة الانتحار بسبب قطن بي تي — عند إمعان النظر فيها — نموذجًا كلاسيكيًّا ﻟ «الأخبار الكاذبة». ومن المثير للفضول كثيرًا التفكير في السبب الذي يجعل دعاة الحملات البيئية بهذا القدر من العناد والصلابة والصخب في معارضتهم لابتكارٍ أدى إلى تراجع استخدام المبيدات الحشرية وتسمُّم المزارعين بسبب المبيدات على نحو مثبَت بالدليل. في واقع الأمر، عرفت من واقع التجربة المباشرة كيف يمكن بكل سهولة نسج روايات كاذبة عن الكائنات الحية المُعدَّلة وراثيًّا من خلال عملٍ لاحق شاركت فيه في بنجلاديش، مع جامعة كورنيل، ومعهد البحوث الزراعية في بنجلاديش الخاضع للإدارة الحكومية، والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية.

بتمويل من وكالة التنمية الدولية، تعاون كلٌّ من جامعة كورنيل ومعهد البحوث الزراعية في بنجلاديش مع شركة ماهيكو الهندية للبذور لأخذ جينات البكتيريا العَصَوِيَّة التُّورِنْجِيَّة الخاصة بشركة مونسانتو (التي تبرعت بها الشركة دون مقابل) وإدخالها إلى أصناف الباذنجان الرومي المحلية في منطقة جنوب آسيا (ويُعرف أيضًا باسم الأنبة، ويُسمَّى «بيجان» في اللغة البنغالية). كان هذا الباذنجان المُعدَّل وراثيًّا بالبكتيريا العَصَوِيَّة التُّورِنْجِيَّة (بي تي) مخصَّصًا في البداية لثلاث دول: الهند وبنجلاديش والفلبين. ونظرًا لأن هذا الأمر كان بالأساس مسعًى للقطاع العام والخيري، مُنح المزارعون البذور مجانًا دون دفع رسوم الانتفاع، على عكس نُظَرائهم من المواطنين المُوسِرين في أمريكا الشمالية، أو المزارعين الهنود الذين يزرعون قطن بي تي. ولم يكُن مُزمَعًا أن تخضع هذه البذور لبراءة الاختراع على نحو منفصل، وإنما ستظل ملكًا للمزارعين أنفسهم ليحتفظوا بها ويتشاركوها مع أصدقائهم وجيرانهم كما كان الحال دومًا، وذلك عن طريق معاهد البحث العلمي التي تملكها الحكومة. وبدلًا من توفير أصناف جديدة من باذنجان بي تي، أُدخِلت الجينات إلى أصناف متوافرة بالفعل من الباذنجان يُفضِّلها المزارعون، بإجمالي سبعة أصناف، تحمل أسماءً محلية؛ مثل: أوتارا، وكاجالا، ونايانتارا. وأتاح هذا للمزارعين المجموعة نفسها من الأصناف المحلية كما هو الحال دائمًا للاختيار من بينها، ولكن بحماية جينية جديدة من الآفات.

كما هو الحال مع قطن بي تي، كان الهدف العام من المشروع معالجة الإفراط الشديد في استخدام مبيدات الحشرات. والباذنجان من الخضراوات المُهمة في منطقة جنوب آسيا، ولكنه مُعرَّض إلى هجوم آفة دُودية يُطلَق عليها حفارَ براعم وثمار الباذنجان. ومن أجل حماية المحصول من الإبادة بسبب يرقات هذه العُثَّة المفترسة، كان المزارعون يُجبَرون على رش المحصول أثناء موسم الزراعة من ٨٠ إلى ١٤٠ مرة. ونتيجة لذلك، يمكن أن يكون مستوى تعرض البشر إلى السُّموم مرتفعًا للغاية؛ فعادةً ما يقوم المزارعون بعملية الرش حُفاة الأقدام ودون ارتداء واقٍ لليد أو العين أو الوجه. وغالبًا ما تكون المبيدات الحشرية الكيميائية المستخدمة في المنطقة — والتي تحتوي على مركبات متنوعة من الفوسفات العضوي والكربامات — أكثر سُمِّيَّة من تلك التي يستخدمها المزارعون في الغرب بسبب التراخي من جانب نظم الرقابة والإنفاذ. ونتيجة لتعرضهم للمبيدات الحشرية على نطاق واسع، سجل أكثر من ربع المزارعين المشاركين في استطلاع أُجرِي على هامش إحدى الدراسات معاناتهم من عدة آثار صحية، من بينها: الصداع، أو تهيج العين والجلد، أو القَيء، أو الشعور بالدوار بسبب استخدام المبيدات الحشرية.33 كما وُجدت آثار صحية على المدى الطويل مرتبطة بهذه المبيدات الحشرية، تشمل سرطان الليمفوما اللاهودجكينية، واللوكيميا، والعيوب الخلقية، والسرطان.

في عالم ناضج عقلاني، من شأن الجماعات البيئية أن تكون شريكًا متحمسًا في الترويج للمحاصيل التي تحدُّ من استخدام المبيدات. لقد زرت العديد من المزارع في بنجلاديش، أحيانًا في أماكن نائية من البلاد على بُعد عدة ساعات من العاصمة دكا، ورأيت أن جميعها قد قلَّل من استخدام المبيدات الحشرية بدرجة كبيرة، تصل أحيانًا إلى الصفر. كانت إنتاجية المحاصيل أعلى، وبدت الخضراوات في حالة أفضل دون التلفيَّات التي تُسببها الحشرات، وكانت تَلقى رواجًا عند بيعها من قِبل المزارعين في البازارات المحلية، وعادةً ما يكون مُلحقًا بها ملصقات تعريفية مكتوبة بخط اليد تعلن بفخر: «خالية من المبيدات الحشرية». ولكن عندما زرت الكثير من المزارعين، وجدت أن النشطاء المناهضين للتعديل الوراثي وصلوا إلى هناك أولًا، وحاولوا بالفعل إقناع مزارعي باذنجان بي تي بأن محصولهم الجديد كان مُسمَّمًا لمجرد أنه خضع للهندسة الوراثية. وكانت إحدى الشائعات الخبيثة للغاية التي روَّج لها هؤلاء النشطاء أن باذنجان بي تي سيُسَبب الشلل لأطفال المزارعين إذا تناولوه. وبدلًا من زراعة باذنجان البي تي، نصحوا المزارعين إما بالتحوُّل إلى الزراعة العضوية — وفي تلك الحالة ستُدمِّر الآفات معظم محاصيلهم على الأرجح — أو الرجوع إلى رش المبيدات الحشرية السامة.

علمتني هذه التجربة كيف يمكن أن تلقى حكايةُ «فشلٍ» رواجًا بسرعة إذا كانت تخدم أغراض جماعات حملات ذات عزمٍ ثابت ولديها أيديولوجيات تدفعها بقوة. في الوقت الذي بدأتُ فيه العمل على مشروع باذنجان بي تي، تواتر ظهور القصص على صفحات الجرائد البنجلاديشية مُدَّعيةً أن المحصول قد فشل، وأن نباتات بي تي الجديدة تُحتضَر في الحقول، وأن المزارعين الغاضبين يطالبون بالتعويض ويتعهدون بعدم زراعة هذه الكائنات الحية المُعدَّلة وراثيًّا مرة أخرى مطلقًا.34 جاءت العبارة الافتتاحية لأحد المقالات الإخبارية المنشورة في مارس عام ٢٠١٥ كما يلي: «لقد كلفت زراعة باذنجان بي تي المعدل وراثيًّا المزارعين هذا العام أموالًا طائلة؛ إما لهلاك النباتات مبكرًا، أو لضآلة إنتاجيتها مقارنة بالأصناف المتاحة محليًّا.»35 لم تكن القصة بالكامل زائفة؛ فبعض المزارعين الذين قمت بزيارتهم شهدوا فعلًا فشل محاصيلهم من باذنجان بي تي المُعدَّل وراثيًّا. ولكن عند البحث عن كثب أكثر تبين أن هذا يرجع إلى تفشِّي آفةٍ بكتيرية، مما يدل على نحو متوقع تمامًا أن باذنجان بي تي عُرضة لسوء الأحوال الجوية، أو سوء الحظ، أو الممارسات الزراعية السيئة مثل أي محصول آخر. وزعم بعض التحقيقات الصحفية السلبية أن سِمة البي تي المقاومة للحشرات قد باءت بالفشل، وأن حشرات حفَّار براعم الباذنجان وثماره قد هاجمت المحصول المقاوِم جينيًّا للحشرات. وعندما زرت البلاد، لاحظت أيضًا أضرار الآفات على المحصول، ولكن فقط في محصول عينة الضبط، الذي يُزرع عادةً على جانبي النباتات المُعدَّلة وراثيًّا لأغراض المقارنة بينهما، وباعتبارها استراتيجية طويلة المدى تساعد في تلافي تطور مقاومة الحشرات. ولذلك كان التفسير الأكثر ترجيحًا أن النشطاء ببساطة أخطَئُوا في تحديد ما كانوا ينظرون إليه وخلطوا بين نباتات الباذنجان المُعدَّلة وراثيًّا ونظيرتها غير المُعدَّلة. أظن أنهم كانوا يعرفون بالفعل ما كانوا يريدون العثور عليه ومن ثَم لم يتكبَّدوا عناء مراجعة الحقائق.
في بعض الحالات، يستشهد دعاة الحملات المناهضة للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا بأقوال أفراد من المزارعين وهم يتحسَّرون على خسائر محاصيل باذنجان بي تي، ليرووا القصة المناقضة تمامًا لِما توصلنا إليه عندما تحدثنا معهم مرة أخرى بغرض إيجاد معلومات جديدة. كان أحد هؤلاء المزارعين هو محمد حافظ الرحمن، الذي التقيت به عام ٢٠١٥ في مزرعته بمقاطعة تانجيل، شمالي العاصمة دكا. جلسنا في منزله المكوَّن من غرفتين وناقشنا أحوال مزرعته، بينما كان يوزع شرائح البطيخ اللذيذة. وأخذنا في جولة لتَفَقُّد حقوله وكله فخر وزهو، بينما تجمع الأطفال المحليون حولنا وأخذوا يثرثرون. وقد ذكرت تجربته الإيجابية، وما أسفرت عنه من تضاعُف إنتاجية المحصول مرتين تقريبًا واستخدام كمية مبيدات أقل بكثير مما سبق، في مقال كتبته لصحيفة «نيويورك تايمز».36 ورغم أنني لم أفصح عن مكانه بالضبط عمدًا، فلا بد أن هذا المقال جعله هدفًا للصحفيين المُناهضين للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا؛ إذ زاره أحدهم برفقة نشطاء آخرين، ووزعوا مطبوعات ضد باذنجان بي تي، حسبما قال حافظ الرحمن. فيما بعد أخبر هذا المزارع زميلًا لي من بنجلاديش، يُدعى عارف حسين من مشروع مبادرة «آليانس فور ساينس» ببنجلاديش، قائلًا: «أعطَوني كتابًا وقالوا لي: «احذر يا أخي، باذنجان بي تي يواجه مشكلات مختلفة». وحذروني أيضًا من تناول هذا الباذنجان. وقالوا إذا كانت الحشرات لا تأكل هذا، فلا بد أن أكلَه مضر بالنسبة إلى البشر. أعملت عقلي لدحض كلامهم، فسألتهم إذا كان الناس يتناولون الأدوية لعلاج الديدان، والديدان تموت، فلماذا لا يموت الناس أيضًا؟ وعجزوا عن إجابة سؤالي.»37

كتب الناشطون والصحفيون أيضًا أن محصول حافظ الرحمن كان يَذبُل، وزعموا أنه مثال حي لفشل محصول باذنجان بي تي. إلا أن حافظ الرحمن صُدم من هذا حين لفت زميلي حسين انتباهه إليه. وبدلًا من ذلك، أصر على أن النشطاء لم يفهموا أن المحصول حُصِد بالفعل مرارًا وتكرارًا ووصل إلى نهاية موسم زراعته. «عندما زارني [المراسل]، كانت تلك النباتات قد بدأت تذبل. لم يكُن بهذه النباتات ثمار باذنجان، وكنت قد بدأت بالفعل حصاد قرع الإسفنج في ذلك الحقل. لذا أخبرته بأنني انتهيت بالفعل من حصاد الباذنجان.» كان سؤالي له: هل أخبر النشطاءَ المناهضين للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا بأنه غير راضٍ عن باذنجان بي تي؟ كانت إجابته كما يلي: «لم أقُل ذلك. فعندما يصل النبات إلى نهاية دورة حياته، يذبل ويموت. ونباتات باذنجان بي تي التي زرعتها ماتت لأنها توقفت عن الإثمار. لكل شيء نهاية، أليس كذلك؟ هل ستبقى نباتات الباذنجان طوال السنة؟ مستحيل.» لكي نفهم كيف تترسخ قصة فشل محصول قطن بي تي بهذا الإحكام، تخيَّل إفادات كتلك التي ذكرها محمد حافظ الرحمن تكررت عدة آلاف من المرات أمام صحفيين أو نشطاء سُذَّج عازمين على إيجاد دليل لدعم رواية متماسكة موجودة مسبقًا.

ونظرًا لعملي لدى جامعة كورنيل منذ ربيع عام ٢٠١٤ بصفتي أحد المشاركين في مشروع باذنجان بي تي، وجدت نفسي أحارب في معارك ضارية ضد دعاة الحملات المناهضة للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا على عدة جبهات. وهناك العديد من منشورات المُدوَّنات ومقاطع الفيديو والتقارير الإخبارية والتغريدات عن هذه الفترة الزمنية إذا أردت متابعة تسلسل الأحداث.38،39،40 وبالنظر إلى الماضي، ربما كان من الأفضل للمزارعين أنفسهم أن يتمكنوا من سرد قصصهم مباشرة إلى جمهور عالمي بدلًا من نقل آرائهم عبر الدخلاء. غير أن مزارعي الباذنجان في بنجلاديش على الأقل مُنِحوا الفرصة التي حُرم منها الكثير من المزارعين من مختلف أنحاء العالم، وهي أن يقرروا بأنفسهم زراعة المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا من عدمه. وحقيقة نجاحهم في زراعتها حتى الآن إنما توضح أنهم، مثل المزارعين في كل مكان، قادرون تمامًا مثل أي شخص آخر على اتخاذ قراراتهم الخاصة بشأن ما هو أفضل بالنسبة إليهم. وإذا فشلت بذور الباذنجان بي تي بالفعل — كما يدَّعي النشطاء أنها ستفشل حتمًا — فلا شك أن المزارعين سيتخلَّون عنها بالسرعة نفسها. المهم هنا هو أنه ينبغي أن يكون هذا نابعًا من اختيارهم، لا اختياري أو اختيار منظمة السلام الأخضر.
كان الرهان كبيرًا، لا سيما بالنسبة إلى العلماء والنشطاء في بنجلاديش؛ لأن الجميع كان يعرف أن باذنجان بي تي هو أول محصول غذائي في العالم مُعدَّل جينيًّا أنتجه القطاع العام ليستخدمه صغار المزارعين في الدول النامية. ومن ثَم كان الأمر مختلفًا تمامًا عن نهج شركة مونسانتو القائم على الزراعات الأُحادية المقاوِمة لمبيدات الأعشاب في البراري الأمريكية. لذا كان المقتنعون بأن الهندسة الوراثية تقنية خبيثة في جوهرها عازمين على رؤيتها تفشل مع باذنجان بي تي في بنجلاديش؛ بينما أولئك الذين يُروِّجون لاستخدام هذه التقنية كانوا حريصين بالقدر نفسه على أن يكون لديهم قصة نجاح يشيرون إليها. اكتسبت القضية طابعًا سياسيًّا على نحو خاص؛ لأن النشطاء في الهند نجحوا في إجبار الحكومة على إعلان تعليق زراعة باذنجان بي تي رسميًّا في عام ٢٠١٠، مما أدى إلى عرقلة المشروع عن المُضي قُدمًا هناك، بل عرقلة جميع الموافقات الخاصة بالتكنولوجيا الحيوية منذ ذلك الحين. وعلى نحو مماثل في الفلبين، دمرت منظمة السلام الأخضر وآخرون المواقع التجريبية لزراعة باذنجان بي تي المُعدَّل وراثيًّا، واستصدرت إنذارات قضائية ضد استخدامه (على الرغم من إلغاء حكمٍ للمحكمة العليا بالفلبين ضد باذنجان بي تي في يوليو ٢٠١٦).41 وكان من شأن الانتشار الناجح في بنجلاديش أن يضع حدًّا لحملات تلك الجماعات من خلال إثبات أن المزارعين في الدول النامية بإمكانهم الاستفادة من الهندسة الوراثية رغم كل شيء.

ولكن لنكُن واضحين بشأن تأثير هذا النشاط المناهض على أرض الواقع. لقد قام مزارعو الباذنجان في كلٍّ من الهند والفلبين برش ملايين الأرطال من المبيدات الحشرية باهظة التكلفة، بفضل أنشطة منظمة السلام الأخضر وفاندانا شيفا وغيرهما من دعاة الحملات والجماعات المناهضة للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا لحرمانهم من فرصة زراعة باذنجان بي تي. وهذا سيضر ببيئة حقول المزارعين في كِلا البلدين، وكذلك البيئة المحيطة والموارد المائية. وسيسفر عن آلاف، بل عشرات الآلاف من حالات التسمُّم غير الضرورية بالمبيدات الحشرية بين المزارعين والعمال الزراعيين. هذا ما يحدث عندما تطغى الأيديولوجيا على العلوم؛ تتضرر البيئة ويمرض الناس، بل يموت بعضهم.

•••

في أكتوبر من عام ٢٠١٦، تجمع نشطاء ودعاة حملات من مختلف أنحاء العالم في مدينة لاهاي بهولندا، لحضور حدثٍ استثنائي. وقد اختير هذا المكان تحديدًا عن قصد: فمدينة لاهاي هي مقر المحكمة الجنائية الدولية، التي تنظر في قضايا الجرائم التي تُرتكب ضد الإنسانية؛ مثل تلك القضايا التي تُرفع ضد مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان الجماعية والإبادة الجماعية المزعومة في دارفور وليبيا. ولكن لم يتجمع هؤلاء المشاركون أمام المحكمة الجنائية الدولية الحقيقية؛ بل كانوا يُعِدون محكمتهم الخاصة لمحاكمة شركة مونسانتو. كانوا يأملون أن تكون محكمة مونسانتو الدولية بمنزلة مقر لعرض الشكاوى والمظالم بخصوص أنشطة الشركة في عدة مجالات على الملأ. وبحسب تصريحاتها، تهدف المحاكمة إلى: «دراسة آثار أنشطة شركة مونسانتو على حقوق الإنسان الخاصة بالمواطنين وعلى البيئة، وتقديم استنتاجات حول مدى تَوافُق سلوك شركة مونسانتو مع مبادئ وقواعد القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني.»42
على الرغم من أنني لم أحضر الحدث، فقد راقبت فعالياته باهتمام. ففي أثناء تأليفي هذا الكتاب، كنت مُتحمسًا للتوصل إلى بعض الأدلة الحديثة الدامغة على المخالفات التي ترتكبها شركة مونسانتو؛ إذ كنت قلقًا من أن المادة التي توصلت إليها حتى الآن بدت أنها تمثل حُكمًا إيجابيًّا أكثر من اللازم في حق الشركة. بالتأكيد لم تكُن مونسانتو «أكثر الشركات شرًّا في العالم» فقط بسبب جرائم تاريخية ارتُكِبت في حقبتَي ستينيات وسبعينيات القرن العشرين والتعديل الوراثي، أليس كذلك؟ وعلى الرغم من أن المحاكمة لم تبدُ متوازنة للدرجة بالنسبة إليَّ — إذ تولَّى تنظيمها الاتحاد الدولي لحركات الزراعة العضوية، ومنظمة نافدانا (وهي منظمة غير حكومية تأسست في الهند على يد فاندانا شيفا، الناشطة المناهضة للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا) ورابطة مستهلكي المنتجات العضوية (وهي منظمة أمريكية غير حكومية تدعم أيضًا مناهضة التطعيم) وآخرون43 — فإن بعض الأدلة المُقدَّمة على الأقل ربما توجهني نحو أمثلة واقعية حديثة لوقوع ضرر.
وعلى الرغم من أن القضاة كانوا، فيما يبدو، محامين صادقين مدافعين عن حقوق الإنسان، فإن محكمة مونسانتو الدولية لم تسلك نهج المحكمة العادية. فلم تستمع إلى شهادةٍ من كلا جانبَي النزاع لعدم وجود شهود للدفاع. ورفضت مونسانتو نفسها أن يكون لها أي صلة بالأمر، لتكتب رسالة مفتوحة تعبر فيها عن رأيها بأن المحكمة كانت بمنزلة «فعالية مُدبَّرة؛ محاكمة صورية يلعب فيها المناهضون للتقنية الزراعية والمنتقدون المناهضون لشركة مونسانتو دور المُنظِّمين، والقضاة، وهيئة المحلفين، والنتيجة محدَّدة مسبقًا.»44
وكان لمونسانتو وجهة نظر فيما يخص ذلك. فقد أصدرت المحكمة، في ديباجة قراراتها، البيان التالي الغريب نوعًا ما:
«ليس لدى المحكمة سبب وجيه للتشكيك في إخلاص أو مصداقية من تطوَّعوا للشهادة أمامها. ولكن نظرًا لأنهم لم يُدلوا بشهادتهم تحت القسم أو يخضعوا للتحقيق، ونظرًا لأن مونسانتو رفضت المشاركة في إجراءات المحاكمة، فإن المحكمة ليست في وضعٍ يُمكِّنها من تقديم إثبات للوقائع فيما يخص ادعاءات الجرائم العديدة التي ارتكبتها الشركة. وبدلًا من ذلك، وبهدف الإجابة عن الأسئلة المطروحة على المحكمة للبَتِّ فيها، ستفترض المحكمة أن الحقائق والملابسات التي يصفها الشهود سيجري إثباتها.»45
وبذلك تعزَّزت قضية الدعوى بحقيقة غياب شهود الدفاع وافتراض أن جميع شهود الادعاء يقولون الحقيقة دومًا، ومن ثَم يُثبتون صحة حججهم دون الحاجة إلى إثبات. بالإضافة إلى ذلك، لن يكون الحكم في حد ذاته قائمًا على «إثبات الوقائع» بخصوص جرائم مونسانتو المزعومة. وكان هذا إجراءً قانونيًّا غريبًا لم أسمع بمثله من قبل. ولكن ماذا عن تفاصيل الشهادات التي استمعت لها المحكمة؟ كان أحد الشهود هو بيرسي شمايزر، الذي تحدثتُ عن قضيته بالتفصيل آنفًا.46 ثمة شاهد آخر وهو مزارع محاصيلَ عضويةٍ أسترالي يُدعى ستيف مارش، وهو الذي رفع قضية ضد جاره مايكل باكستر — وهو مزارع عادي يزرع الكانولا المُعدَّلة وراثيًّا — زاعمًا تلوُّث محصوله وفقدان اعتماده كمزارع للمحاصيل العضوية. كانت القضية قضية رأي عام واستمرت مدة طويلة في أستراليا، ولكن على غرار ما حدث مع شمايزر، خسر مارش القضية أمام المحكمة العليا بغرب أستراليا.47 وكتب القاضي أن نطاق «التلوث» لا يتعدَّى ثماني نبتات كانولا تلقائية («النبتة التلقائية» تعني نباتات لم يزرعها المزارع). فلم يزرع مارش نبات الكانولا؛ ومن ثَم لم يُمثل التلقيح المختلط مشكلة، وكان بإمكانه اقتلاع النباتات المزروعة ذاتيًّا وإلقاؤها بعيدًا وينتهي الأمر.48 لقد خسر مارش القضية لأن ما كان يحاول القيام به في الواقع، وفقًا للمحكمة، هو فرض المعايير الصارمة لرُخصة اعتماد مزرعته كمزرعة عُضوية على أرض جاره، وهو أمر لم يكُن يَحِق له القيام به.
كان من بين الشهود الآخرين فريدة أختر، زعيمة الحملة المناهضة لباذنجان بي تي في بنجلاديش، التي اشتبكتُ معها بصفة شخصية في تلك الحملة. فإلى جانب زعمها بأن محصول الباذنجان بي تي المُعدَّل وراثيًّا قد فشل في أغلب حقول المزارعين — وهو ادعاء عرفتُ من واقع التجربة المباشرة أنه خاطئ — قدمت أيضًا ادعاءات مستبعدة بخصوص الآثار الصحية المفترضة لباذنجان بي تي، بما فيها السرطان والعقم وتليُّف الكبد والحساسية و«الطفرات غير المتوقعة» وغيرها من الادعاءات الفارغة التي ليس عليها دليل علمي.49 عندما قرأت هذه الشهادة، صدمتني فكرة أن هذا كله كان ببساطة «مفترضًا صحته» وفقًا لما يُزعم بأنها عملية قضائية مشروعة. كان من الغريب أيضًا أن يُعرَض هذا في محاكمة مونسانتو؛ لأن مونسانتو لم تشارك في مشروع الباذنجان المُعدَّل وراثيًّا، باستثناء تبرُّعها بجينات البكتيريا العَصَوِيَّة التُّورِنْجِيَّة مجانًا في البداية، ومن ثَم لا علاقة للشركة بأي إخفاقات مزعومة للباذنجان المُعدَّل بالبكتيريا العَصَوِيَّة التُّورِنْجِيَّة.
كان من الشهود الآخرين جيل-إريك سيراليني، الذي سحبت دورية «فود آند كيميكال توكسيكولوجي» بحثه سيئَ السمعة، الذي زعم أنه يُبيِّن أن الفئران التي تغذت على الذرة المُعدَّلة وراثيًّا وبذور «راوند أب» قد أُصيبت بأورام، وذلك بعد تعرضه لانتقاد لاذع من قبل المجتمع العلمي بأكمله بسبب الإحصاءات المشكوك فيها. وشهد أغلب الشهود الآخرين — مُربِّي خنازير من الدنمارك وشهود من كولومبيا وباراجواي — على ما زعموا أنها آثار صِحية ناجمة عن الجليفوسات. ويُعد هذا مجالًا آخر لجدالٍ هائل؛ إذ قدَّم مربي الخنازير صورًا إيضاحية لصغار خنازير مولودة بتشوُّهات بشِعة، إلا أن ادعاءه بأن هذه التشوُّهات مرتبطة بمحاصيل العلف المُعدَّل وراثيًّا وفضلات الجليفوسات افتقرت إلى أي تبرير مُقنِع علميًّا. ونظرًا لأن هذه الادعاءات لم ترقَ إلى معايير الدوريات العلمية المرموقة، فقد قُدِّمت إلى دورية هامشية مدفوعة الأجر تنشرها إحدى الشركات التي تُعرف على نطاق واسع بكونها تعمل في نطاق «النشر الاستغلالي».50
أشار الكثير من الشهود إلى مشكلاتٍ صحية زعموا أنها ناجمة عن مبيد الجليفوسات. وكانت هذه المشكلات مدعومة بإشارات إلى رأي صادر عن الوكالة الدولية لبحوث السرطان التابعة لمنظمة الصحة العالمية، في عام ٢٠١٤، بأن الجليفوسات «ربما يكون مادة مسرطنة للبشر». يبدو هذا بشعًا؛ غير أن الوكالة الدولية لبحوث السرطان هي هيئة خاصة، وعمليات المراجعة الخاصة بها محل شك، وقوبل رأيها في مُركَّب الجليفوسات بمعارضة من جانب جميع الهيئات العلمية الأخرى حول العالم، من بينها الهيئة الأوروبية لسلامة الأغذية، التي خلصت إلى أنه «ليس من المُرجَّح أن يكون مُركَّب الجليفوسات سامًّا للجينات (أي مُدمِّرًا للحمض النووي) أو يشكل تهديدًا سرطانيًّا للبشر».51 بعد ذلك، خاضت الوكالتان معركة كلامية شرِسة.
كان رأي الوكالة الدولية لبحوث السرطان في مُركَّب الجليفوسات مثيرًا للجدال أيضًا؛ لأن موظفًا سابقًا لدى صندوق الدفاع عن البيئة الأمريكي يُدعى كريستوفر بورتييه قدَّم أدلةً بصفته «اختصاصيًّا مَدْعُوًّا» للمشاركة في لجنة الوكالة الدولية لبحوث السرطان في هذه القضية.52 وتبيَّن في أكتوبر من عام ٢٠١٧ أن بورتييه قد أغفل في عدة مناسبات الإفصاح عن حصوله على ١٦٠ ألف دولار من مكتب محاماة مقرُّه في الولايات المتحدة بعد انتهاء عملية الوكالة الدولية لبحوث السرطان، على أمل التربُّح من رفع دعوى جماعية لاحقًا بالنيابة عن «ضحايا» التسمُّم بالجليفوسات، مما يشير إلى وجود تضارُب مصالح.53 كذلك كشفت وكالة رويترز الإخبارية أن استنتاجات عديدة مما استند إليها تقييم الوكالة الدولية بخصوص قابلية الإصابة بالسرطان قد تغيَّرت على نحوٍ مريب بين مُسَوَّدات تقريرها. وكتبت وكالة رويترز تقول: «وجدت رويترز ١٠ تغييرات مهمة أُجريت على مسوَّدة الفصل الذي يتناول دراسات الحيوانات والنسخة المنشورة من تقييم الجليفوسات الصادر عن الوكالة الدولية لبحوث السرطان. وفي كل حالة، كان يتم حذف استنتاج سلبي حول تسبُّب الجليفوسات في الإصابة بالأورام أو استبداله بآخر محايد أو إيجابي.» كان مقالها يحمل عنوانًا يُدين الوكالة الدولية، ألا وهو: «وكالة بحوث السرطان التابعة لمُنظَّمة الصحة العالمية تحذف النتائج «غير المسرطنة» في مراجعتها للجليفوسات.»54
وفي كِلتا الحالتين، يجب وضع رأي الوكالة الدولية لبحوث السرطان بشأن مخاطر الإصابة بالسرطان في نِصابه الصحيح عمومًا. ففي حين أن مُركَّب الجليفوسات مُدْرج ضمن الفئة (٢أ): «مواد مسرطنة محتملة»، فإنه يتشارك هذا التصنيف مع اللحوم الحمراء، ودخان الخشب، وعمليات تصنيع الزجاج، وتناوُل «المشروبات الشديدة السخونة التي تتجاوز درجة حرارتها أكثر من ٦٥ درجة مئوية»، وحتى العمل بمهنة تصفيف الشعر. وفي التصنيف الأعلى («مواد مسرطنة للبشر»)، ستجد عدة مواد خبيثة على نحو متوقع تندرج تحته مثل: البلُوتِينْيُوم ودخان التبغ؛ ولكنك ستجد أيضًا أشعة الشمس والسخام والأسماك المُملَّحة («على الطريقة الصينية») واللحوم المصنعة مثل لحم الخنازير المُقدَّد.55 حتى إذا أخذنا رأي الوكالة الدولية على ظاهره، فإنه بالكاد يدعم ادعاءات الشهود في محاكمة مونسانتو بأن مبيد الجليفوسات قد تسبب في تشوُّهات خلقية وحالات فشل كلوي وعدة أمراض أخرى، لم يقدم عليها أي دليل علمي موثوق به على الإطلاق.
في موضع آخر من المحاكمة، شعرت بمزيد من التعاطف تجاه أحد الشهود من كولومبيا، الذي أدلى بشهادة مؤثرة بخصوص رش مبيد الجليفوسات على محاصيل الكوكا من جانب الحكومة الأمريكية والكولومبية كجزء من برنامج «خطة كولومبيا» للقضاء على المخدرات. لا شك، في رأيي، أن الرش الجوي لمبيدات الأعشاب كان انتهاكًا لحقوق الإنسان؛ إذ أباد المحاصيل المشروعة والكوكا على حد سواء، ودفع صغار المزارعين إلى الفقر وترك أراضيهم. ولحسن الحظ أن البرنامج توقف في عام ٢٠١٥،56 ولكني سأُلقي باللوم على الحكومات المسئولة عن رش المبيدات. بالإضافة إلى هذا، ليس هناك ما يضمن بأن شركة مونسانتو كانت هي الشركة المصنعة؛ فالشركات الصينية حاليًّا تتولَّى تصنيع أغلب مبيدات الجليفوسات عمومًا. وأظن أن شركة جيجان واينكا تريبيونال أو شركة سيتشوان فوهوا تريبيونال (كلتاهما شركتان صينيتان تصنعان مبيد الجليفوسات الشائع) لا تبدو معروفة.57
كانت ثمة شهادات أيضًا بخصوص أنشطة مونسانتو للضغط واستقطاب الدعم، وكيف يمكن أن يكون هذا قد أثَّر على الحكومات. وفي هذا الشأن، أدلت كلير روبنسون، من مؤسسة جي إم واتش، ومقرها المملكة المتحدة، بأقوال في معرض شهادتها عن كيف تورطت مونسانتو في الضغط من أجل وضع نَسَق تنظيمي لتكنولوجيا التعديل الوراثي ترى أنها غير صارمة بما فيه الكفاية.58 واستشهدت أيضًا ببعض المراسلات المسرَّبة على موقع ويكيليكس توضح تورُّط مسئولين أمريكيين في ممارسة الضغط بشأن التعديل الوراثي في معاركهم مع الاتحاد الأوروبي، غير أن هذه المراسلات لم تكن تتعلق على وجه التحديد بشركة مونسانتو، ولم تقدم الكثير من الأدلة على تورط شركة مونسانتو مباشرة في هذا الأمر.59 كذلك أشارت روبنسون إلى قضية يرجع تاريخها إلى عام ٢٠٠٥ وفيها فُرضت غرامة على شركة مونسانتو بسبب رشوة أحد المسئولين في إندونيسيا، وهي قضية حظِيت بتغطية إعلامية في ذلك الوقت.60 وأقل ما يُقال عن هذا كله أنه يبدو سطحيًّا وغامضًا إلى حدٍّ كبير.
أدرك أنني هنا أخاطر بالقيام بالعكس تقريبًا لما جاء في المحاكمة، وأبدو أنني أبرِّئ ساحة شركة مونسانتو من خلال تفنيد شهود هذه المحاكمة. كل ما أستطيع قوله إن الأدلة المقدَّمة من بعض النشطاء البارزين المناهضين لشركة مونسانتو لمحكمتهم كانت أدلة واهية وهشَّة على نحو ملحوظ، كونها تستند إلى حدٍّ كبير إلى حكايات وادعاءات متنازَع عليها، وأحيانًا إلى علمٍ زائفٍ صراحةً. مكثت أفكر: أهذا فعلًا أقصى ما يمكنهم تقديمه، هؤلاء الأشخاص الذين يُفنون حياتهم في محاربة هذه الشركة العملاقة؟ ألن يكونوا قد قدموا حُجة أقوى بالتأكد من أن شهادة المحكمة دقيقة من الناحية الواقعية بدلًا من الافتراض الإجرائي في البداية بأن جميع منتقدي شركة مونسانتو يقولون الحقيقة؟ في النهاية أدانت المحكمة شركة مونسانتو بالطبع، كما كانت ستفعل دومًا. غير أن أي شركة متعددة الجنسيات في العالم كانت ستخضع لحكم قاسٍ فيما يتعلق بهذه العملية. هل من شأن جوجل أن تكون أفضل حالًا؟ أو أبل؟ أو حتى شركة هول فودز المملوكة لشركة أمازون، التي تحقق إجمالي مبيعات سنوية مماثلة لما تحققه شركة مونسانتو، بما يُقدَّر بنحو ١٥ مليار دولار (١١ مليار جنيه إسترليني)؟ وجميع الشركات الكبرى، بفضل حجمها وحده، تمتلك سلطة قد تفوق سلطة الحكومات المنتخبة، ومن دون مراقبة كافية ومساءلة وافية سينتهي الأمر بإساءة استخدام هذه السلطة. غير أن مونسانتو لم تكُن حتى ضمن الشركات الخمسين الكبرى،61 إذ تظهر في المركز رقم ١٨٩ على قائمة فورتشن ٥٠٠ لعام ٢٠١٦،62 بعد أن تراجع ترتيبها كثيرًا من المركز ٣٣ في العصر الذهبي لصناعة المواد الكيميائية عام ١٩٦٥.63 ربما كان العامل البرتقالي مشروعًا أفضل من الكائنات الحية المُعدَّلة وراثيًّا على أي حال.

لعل أفضل — أو أسوأ — ما يمكن قوله أن شركة مونسانتو جزء أساسي من منظومة زراعية يراها الكثيرون مرفوضةً ومستهجنةً، وأحيانًا يكون هذا لسبب وجيه. غير أن الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا من أي نوع، والشركات التي تطورها وتُروِّج لها، يجب أن يُنظر إليها في سياق المنظومة السياسية الموظفة بداخلها. ففي حين أن بذور صويا «راوند أب ريدي» ربما تكون قد ساعدت في منح امتياز للمزارعين الكبار في أمريكا الشمالية والجنوبية، فلم يكُن لهذه التجربة أن تتكرر بالضرورة مع باذنجان بي تي في بنجلاديش، أو غيره من المحاصيل المُعدَّلة جينيًّا الأخرى التي طُوِّرت خصيصى لمجابهة الفقر في أفريقيا وأماكن أخرى. غير أن عددًا قليلًا جدًّا من دعاة الحملات المناهضة للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا يَبدون قادرين على تمييز الفارق الجوهري في السياق، ليخلطوا بين جميع المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا وشركة مونسانتو والزراعة الأُحادية والمبيدات الحشرية، مثلما فعل الشهود في محاكمة مونسانتو.

عن نفسي أتفق مع منظمة أوكسفام أمريكا بأن النهج الأكثر عقلانية هو النظر إلى كل قضية على حدة. وتُصرح منظمة أوكسفام بعقلانية بأنها «ليس لديها موقف متعلق بالسياسات يؤيد تكنولوجيا التعديل الوراثي أو يعارضها»،64 وتواصل قولها:

«تؤمن منظمة أوكسفام بأن أي قرار متعلق باستخدام الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا يجب أن يستند إلى مبادئ حقوق الإنسان المتمثلة في المشاركة والشفافية والاختيار والاستدامة والإنصاف. إن سدَّ حاجة الجِياع في ربوع العالم يتطلب تغييرات اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية هائلة، وليس مجرد حلٍّ تقنيٍّ بسيط. وتدرك منظمة أوكسفام أن التكنولوجيا مهمة بالفعل، وأن التكنولوجيا الحيوية الحديثة ربما تلعب دورًا في المساعدة على تحقيق الأمن الغذائي العالمي؛ فقط ما دام المزارعون يلعبون دورًا محوريًّا في العملية وما دامت حقوقهم تُعزز، ولا يتم الإضرار بها.»

يبدو هذا جيدًا من وجهة نظري. غير أن المزارعين في البلدان النامية بالقارة الأفريقية لم يستطيعوا في الغالب الاستفادة من التكنولوجيا الجديدة، حتى حين يكون في القيام بذلك في الأغلب تعزيزٌ لحقوقهم ولأمنهم الغذائي على حدٍّ سواء، كما يوضح الفصل التالي. ولم يكن المسئولون عن ذلك شركات كبرى متعددة الجنسيات مثل مونسانتو؛ وإنما منظمات غير حكومية من المفترض أنها تعمل على دعم مصالح الفقراء حول العالم، لا الإضرار بها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤