الفصل السابع

الصعود المتزايد للحركة المناهضة للتعديل الوراثي للكائنات الحية

«هل تعلم أين بدأت معارضة الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا؟ بدأت في مكتبي. لقد أطلقنا منه حركة المعارضة العالمية برُمتها.»1 هكذا زعم جيريمي ريفكين، وهو ناشط أمريكي كثير الترحال ومستشرف للمستقبل وكاتب، في مقابلة شخصية أُجريت معه عام ٢٠١٥. يبدو هذا زعمًا مبالغًا فيه، إلا أنه ينطوي على قدر من الصحة. لا شك في أن ريفكين كان أهم المشاركين الأوائل فيما أصبح فيما بعد حركة عالمية مناهضة للهندسة الوراثية، كما سأُبيِّن في هذا الفصل. غير أنه لم يكن أول من أخذ الآثار السلبية المحتملة للتكنولوجيا الحيوية على محمل الجد. كذلك لم تكن منظمة السلام الأخضر، وجمعية أصدقاء الأرض، ولا أي من الجماعات البيئية الأخرى التي صار لها دور بارز في الحملات المعارضة للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا، أول من أخذ هذه المسألة على محمل الجد. في الواقع، لقد أُثيرت المخاوف الأولى من جانب العلماء أنفسهم؛ أولئك الرواد الذين كانوا في طليعة تطوير الكائنات الحية الجديدة ذات الحمض النووي الهجين ونشرها.
أُثيرَت القضية لأول مرة في صيف عام ١٩٧١، حينما اقترح بول بيرج من جامعة ستانفورد — الذي نال لاحقًا جائزة نوبل تقديرًا لأبحاثه على الحمض النووي المؤتلِف — إجراء تجربة لدمج كروموسوم من الفيروس القِرْدِي ٤٠ (SV40) المسبب للأورام مع بكتيريا الإشريكية القولونية (إي كولاي) الموجودة في أمعاء البشر. أرجأ بيرج بحثه في هذا الشأن بعد تلقيه مكالمة هاتفية من روبرت بولاك، من مختبَر كولد سبرينج هاربور، أعرب فيها عن قلقه من تلك التجربة. وفي وقت لاحق صرَّح بولاك لمجلة «ساينس» قائلًا: «نحن في وضع أشبه بوضع هيروشيما قبل إلقاء القنبلة الذرية. ستكون كارثة حقيقية إذا كان أحد العوامل، التي يتعامل الباحثون معها حاليًّا في الأبحاث العلمية، هو في واقع الأمر عاملًا حقيقيًّا مسببًا للسرطان البشري.» لم يساور القلق بولاك وحده. فقد صرح والاس روو، من المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية، محذرًا: «هذا يمكن أن يحيي الظروف المواتية لجائحة إنفلونزا كتلك التي وقعت في عام ١٩١٨.»2
تمثلت المخاوف تحديدًا في أن ذلك الحمض النووي الهجين المؤتلف ربما يجلب عوامل مُمرِضة جديدة ذات تداعيات مميتة. وكما أوضح جيمس واطسون، الذي شارك في اكتشاف اللولب المزدوج للحمض النووي الريبي المنقوص الأكسجين، في وقت لاحق قائلًا: «هل يمكن لبعض التراكيب الوراثية الجديدة التي نُخَلِّقها في المختبرات أن تخرج مثل الجِنِّي من مصباح علاء الدين وتتكاثر بلا سيطرة، لتحل في نهاية المطاف محل النباتات والحيوانات الموجودة مسبقًا، إن لم تحل محل الإنسان نفسه؟ إذا افترضنا أن التطور يمكن أن يُولِّد سلالات ضارة، ألا ينبغي أن يساورنا القلق من أن تخليق تراكيب جديدة من الحمض النووي قد تكون له عواقب وخيمة أسوأ بكثير من كوارث طبيعية، مثل وباء إنفلونزا الخنازير المُميت الذي وقع في عام ١٩١٨؟»3
لم يكن بوسع أحد التنبؤ يقينًا بما قد يحدث، وعملية التجريب في حد ذاتها انطوت بالطبع على مخاطر. واتخذ الباحثون حذرهم الشديد؛ لأن مخاطر التعامل مع العوامل الممرضة كانت معروفة جيدًا، حتى مع استخدام أعلى معايير السلامة الحيوية. وأقر أحد المُديرين المسئولين عن سلامة المختبرات بكل صراحة لمجلة «ساينس» قائلًا: «كل عالم من علماء الأحياء الدقيقة استنشق أو ابتلع كميات كبيرة من أي كائن حيٍّ تعامل معه.4 وأحيانًا كانت تقع حوادث مميتة؛ ففي عام ١٩٦٧، أصيب ٣١ عاملًا في مختبرات ألمانية وآخرون بفيروس ماربورج الذي يصيب القردة، مما أسفر عن وفاة سبعة أشخاص».
صاحب هذه الفترة أيضًا تغيرات اجتماعية وثقافية سريعة، عندما استشاط الكثير من العلماء غضبًا بسبب حرب فيتنام وساورهم القلق من أن مؤسساتهم الأكاديمية كانت متورطة في دعم ما يُعرف باسم المجمع الصناعي العسكري من خلال تطوير تقنيات ذات أغراض مزدوجة. كان من الممكن أن يتحوَّل العلم الذي بدأ بأبحاث علمية نظرية إلى غايات عسكرية بأيدي آخرين. وأثيرت تساؤلات مفتوحة بشأن مدى تقاطع هذا مع البحث العلمي الحقيقي، وما إذا كان ينبغي تقييده. وكما قال جوناثان كينج، وهو عالم أحياء من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، في اجتماع للأكاديمية الوطنية للعلوم حول الحمض النووي المؤتلف في عام ١٩٧٧:5 «كنت خلال سنوات الحرب طالب دراسات عُليا في معهد كاليفورنيا للتقنية، حيث كان هناك الكثير من مهندسي الصواريخ. ساور القلق عدد منا من أن هؤلاء الأشخاص يستخدمون مهاراتهم العلمية في تصميم وسائل لحصد أرواح الناس. وكنا نطرح الأسئلة ونحن جالسون حول السكن الجامعي، وكانوا يقولون لنا إننا نعوق حرية البحث العلمي. أي حرية للبحث العلمي تقصدون؟ إنكم تصنعون صواريخ. كانوا يقولون لنا نحن لا نصنع صواريخ؛ وإنما ندرس حركة مقذوف ممدودٍ ما عبر وسط سائل، وإذا لم نستطع فعل ذلك فلن نستطيع أن نعرف شيئًا عنه.»
انقسم العلماء انقسامًا شديدًا؛ لأنهم خشوا من حظر البحث العلمي، عمومًا ودون استثناءات، إذا أثارت تحذيراتهم المتحفظة ذعرًا اجتماعيًّا. كما أدركوا جيدًا مدى الصعوبة التي واجهها معظم الناس في تقييم المخاطر الحقيقية.١ وكان القلق يساور بعضهم من أن فرض إجراءات تنظيمية جديدة سيَعُوق الأنشطة البحثية المشروعة. ولذا حذر أحد أطباء الأورام، وقد ساوره القلق بشأن تمكُّن هذه البيروقراطية الجديدة آنذاك، من تعطيل اكتشافات كبرى، مثل علاجات السرطان أو منعها، قائلًا: «حتى النوايا الحسنة يمكن أن تؤدي بسهولة إلى خلق وحش بيروقراطي قائم بذاته، بل مستفحل، يَعُوق أبحاثًا مهمة جدًّا ويؤخرها».6 غير أن الباحثين كانوا يدركون أن المُضي قُدُمًا دون الالتفات إلى أي شيء سيكون أيضًا بمنزلة بحث عن المتاعب. وحذر أحد الباحثين في مجال الأمراض المُعدِية عام ١٩٧٣ قائلًا: «إذا شعر العامة بأن المجتمع العلمي يتصرف على نحو غير مسئول، فستكون هناك ردة فعل فورية، وستُقَيَّد حرية البحث العلمي. وإذا لم نتوَخَّ الحذر الواجب فسنتعرض للمتاعب.»7
كان كثير من التحذيرات الصادرة مُقلقًا؛ لأنها جاءت من العلماء أنفسهم، وكانت تتعلق حتى بمسائل سياسية. فقد علق جوناثان كينج، وهو عالم وراثة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وعضو بارز في جماعة «العلم من أجل الشعب» اليسارية، قائلًا: «أنا عالم وراثة. وأحب الجينات. وأحب الكروموسومات. وأكسب قوت يومي من دراستها.» غير أنه كان يدعم الدعوات المنادية بوقف أبحاث الهندسة الوراثية، وكانت حُجته في ذلك، على حد تعبيره: «هذه ليست مسألة تخص حرية البحث العلمي. إنها مسألة تخص حرية التصنيع، وتعديل البيئة، وتعديل الكائنات الحية … لا أحد منا يدعو إلى وقف تراكم المعرفة».8 ولكنه أراد إيقاف التجارب على الحمض النووي المؤتلِف. وجاء في رسالة من مدير أحد المختبرات الحيوية إلى بول بيرج: «ربما تجادل بأن هذه ليست نوعية القرارات التي ينبغي على العلماء اتخاذها. وأود تذكيرك بمادتَي الدي دي تي والنابالم؛ وهذان مثالان فقط على منتجات كثيرة لم تُستَخدَم بحكمة».9
من الواضح أن بعض الباحثين فزعوا من نتائج أبحاثهم. فقد اعترف روو من المعهد الوطني للحساسية والأمراض المُعدِية قائلًا: «تجربة بيرج تثير الذعر في نفوس الكثيرين، بمن فيهم بيرج نفسه.» في الواقع، كان الباحثون قلقين بما فيه الكفاية، لدرجة أنهم أعلنوا وقفًا طوعيًّا لجميع الأبحاث الخاصة بالحمض النووي المؤتلِف باستخدام فيروسات أو بكتيريا مُمرضة في يوليو ١٩٧٤. وكان من بين الموقعين على رسالة تحذيرية بشأن «المخاطر الحيوية المحتملة لجزيئات الحمض النووي المؤتلِف» شخصيات بارزة مثل بول بيرج وجيمس واطسون، وكذلك هربرت بوير وستانلي كوهين، الذين أجرَوا أولى التجارب على الحمض النووي المؤتلِف. والتقى ١٤٠ من أبرز الخبراء على مستوى العالم في مؤتمر أسيلومار، على ساحل كاليفورنيا، بعد ثمانية أشهر، تحديدًا في فبراير ١٩٧٥، للتباحث بشأن اتخاذ موقف عام في هذا الموضوع. حتى المشاركون في ذلك الوقت كانوا يشعرون بأن هذه مناسبة تاريخية. وكما أوردت مجلة «رولينج ستون»، كان العلماء المتخصِّصون في علم الأحياء الجُزَيئي الحاضرون للمؤتمر مُدركين بأنهم «كانوا على شفا كارثة تجريبية ربما تكافئ الكارثة التي واجهها علماء الفيزياء النووية في السنوات السابقة على تصنيع القنبلة الذرية».10 وبعد ليالٍ مؤرِّقة ومناقشات مكثفة، وافق العلماء على فرض درجة من الضوابط الرقابية الذاتية، بالإضافة إلى فرض إجراءات صارمة للسلامة الحيوية مصاحبة لأي تجارب تبدو عالية المخاطر. وكانت هذه لحظة مناسبة للاحتفال، من وجهة نظر البعض؛ فهي المرة الأولى التي يتحمل فيها العلماء قدرًا من المسئولية الاجتماعية عن أبحاثهم «قبل» وقوع أي مكروه، بدلًا من إصلاح الأضرار الواقعة بعد فوات الأوان. ولم تُعْجِب صرامة النظام الجديد البعض الآخر؛ إذ اشتكى أحد المراسلين في رسالة موجهة إلى جيمس واطسون، بما نصُّه: «لو طُبقت هذه القواعد على مجال الطب، لاضطرت المستشفيات إلى غلق أبوابها.»11
كان مؤتمر أسيلومار البداية، لا النهاية، لعملية التصعيد الرقابي المترتبة، كما كان يخشى الكثير من الباحثين. وبدأت الحكومات تلتفت إلى الأمر، وكذلك الصحافة، وتمثلت استجابة معاهد الصحة الوطنية في إعداد لوائح صارمة بما يكفي لجعل بعض أبحاث الحمض النووي المؤتلِف شبه مستحيلة. لكن هذا لم يكن كافيًا للمنتقدين، الذين انضمَّت إليهم في ذلك الوقت جمعيةُ أصدقاء الأرض. ففي رسالة إلى مجلة «ساينس»، تساءلت فرانسين روبنسون سيمرينج من «لجنة أصدقاء الأرض المعنية بعلم الوراثة»: «أي عالم هذا الذي يدَّعي إمكانية التطبيق الكامل لمعايير السلامة الحيوية على المختبرات، وأن الحوادث الناجمة عن الأخطاء البشرية والإخفاقات التقنية لن تحدث؟»12 وكتب أخصائي الكيمياء الحيوية بجامعة كورنيل، ليبي كافالييري، مقالًا لاقى انتشارًا واسعًا في مجلة «نيويورك تايمز»، محذرًا: «معظم مشاكل التكنولوجيا الحديثة تتراكم تدريجيًّا وعلى نحو يمكن ملاحظته، ويمكن إيقافها قبل الوصول إلى مرحلة حرجة. وهذا لا ينطبق على البكتيريا المُعدَّلة وراثيًّا؛ فيمكن لحادث واحد مجهول أن يؤدي إلى تلوث كوكب الأرض بأكمله بعامل خطير، ولا يمكن استئصالُه، وقد لا يُعلن عن وجوده حتى ينتهي من مهمته القاتلة.»13 فيما بعد، جمعت سيمرينج المنتقدين في «لجنة لعلم الوراثة المسئول»، والتي أصدرت نشرة إخبارية نصف شهرية بعنوان «جينواتش».
ولكن بينما كانت منظومة الإجراءات التنظيمية تتطور وتكتسب زخمًا تدريجيًّا، كان الكثيرون داخل المجتمع العلمي يسلكون الاتجاه المعاكس. وكان أحد هؤلاء جيمس واطسون، رائد أبحاث الحمض النووي. فقد صرح قائلًا: «يتمثل موقفي في أنني لا أعتبر الحمض النووي المؤتلِف خطرًا كبيرًا أو منطقيًّا على الصحة العامة؛ ولذلك لا أظن أن سن قوانين خاصة به أمر ضروري.»14 وعلى الرغم من أن واطسون كان قد وقَّع على الرسالة التحذيرية لعام ١٩٧٤ التي دعت إلى وقفٍ طوعي لأبحاث الحمض النووي المؤتلِف، فبعد مرور ثلاث سنوات كان قد شاهد ما يكفي من الأدلة على طبيعته الحميدة لدفعه للعدول عن رأيه. وكان تفسير واطسون لذلك أن العلماء وقت صدور الرسالة التحذيرية ظنوا أن الحمض النووي المؤتلِف كان جديدًا تمامًا، وأنه لم يكن موجودًا في الطبيعة من قبل؛ ولذلك قد يشكل مخاطر مجهولة جسيمة. بعد ذلك ظهرت أدلة تبرهن على أن جينات البكتيريا تنتقل عادةً إلى النباتات عن طريق البلازميدات لتُسبِّب تدرُّنات (كان هذا ثمرة البحث الذي كان يجريه جيف شيل ومارك فان مونتاجيو وآخرون في ذلك الوقت)، وأن الهندسة الوراثية الطبيعية حدثت على الأرجح بطرق أخرى عديدة أيضًا. وبدلًا من أن تكون هذه هي المرة الأولى خلال ثلاثة مليارات سنة التي يُخَلَّق فيها حمض نووي مؤتلِف، كتب واطسون يقول: «أظن أن نقل الحمض النووي ربما يكون شائعًا في الطبيعة بقدر كبير.»15 وأصبح من المعروف أيضًا أن الفيروسات والبكتيريا كانت تتبادل الجينات تلقائيًّا، وأن العوامل المُمْرِضة المُخَلَّقة مختبريًّا عادةً ما تفقد القدرة على الإمراض (الفَوْعَة) بدلًا من اكتسابها من خلال «التوطين». وإجمالًا، تبيَّن في ضوء الأدلة الجديدة أن الحمض النووي المؤتلِف أقل خطورة مما كان يُخشى منه في البداية. واختتم واطسون كلامه بتصريح لا يُنسَى، قائلًا: «أنا بصدد إعداد «دليل شامل لدرجة الخطورة». وتحت بند «الخطورة»، وضعت الكلاب والأطباء ومركب الديوكسين. ولكن أين أضع الحمض النووي؟ أضعه تحت بند الخطورة المنخفضة جدًّا.»16
لم يكن واطسون الشخص الوحيد الذي غيَّر وجهة نظره. فقد كتب العالم روي كيرتس، من جامعة ألاباما، إلى مدير معاهد الصحة الوطنية يقول: «لقد أدركت تدريجيًّا أن إدخال سلاسل الحمض النووي الغريبة إلى [البكتيريا] لا يشكل أيَّ خطر على أي إنسان. والتوصُّل إلى هذا الاستنتاج كان مُرًّا مرهقًا بعض الشيء؛ لأنه يتناقض مع «مشاعري» السابقة بشأن المخاطر البيولوجية لأبحاث الحمض النووي المؤتلِف.»17 ولكن كان قد فات بالفعل أوان كبح جماح الجهات التنظيمية الرقابية. وتحت وطأة ضغط متزايد من جانب العامة والجماعات البيئية، أعد السياسيون المعنيون بقيادة السيناتور إدوارد كينيدي مشروع قانون لتنظيم الأبحاث على الحمض النووي المؤتلِف، مهدِّدين بفرض غرامات مشددة قدرها ١٠ آلاف دولار عن اليوم الواحد على مخالفي القانون الجديد. اشتكى النُّقاد من أن مشروع القانون يشبه الحملة الليسينكووية في الحقبة السوفييتية (أي المذهب العلمي الزائف لتروفيم ليسينكو، الذي أيده ستالين، والذي رفض علم الوراثة التقليدي والانتخاب الطبيعي)، وفي أحد لقاءات الخبراء كتب ١٣٧ عالمًا خطابًا إلى الكونجرس يحذر من أن مشروع قانون كينيدي، إذا طُبق، فمن شأنه أن «يعوق بشدة مواصلة تطوير هذا المجال البحثي». واقتُرح مشروع قانون مماثل في مجلس النواب. وبعد ضغوط عنيفة مارستها الجماعات العلمية، استُبعد مشروعا القانونين، ولكن لا شك في أن قانونًا على المستوى الوطني كان يلُوح في الأفق في ذلك الوقت. وفي السنوات التالية، انخرط ما لا يقل عن ثلاث هيئات حكومية فيدرالية — إدارة الغذاء والدواء، ووكالة حماية البيئة الأمريكية، ووزارة الزراعة الأمريكية — في وضع قانون تنظيمي للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا المختلفة، مما أسفر عن خلق منظومة معقَّدة ليس لها أساس علمي قوي.

•••

ظهر جيريمي ريفكين (الذي التقينا به في موضع سابق من هذا الفصل) على ساحة الأحداث، بأسلوبه المسرحي الشهير، بوقفة احتجاجية في اجتماع الأكاديمية الوطنية للعلوم في ٧ مارس ١٩٧٧. أمسك المتظاهرون من منظمة ريفكين «بيبولز بيزنس كوميشن» (أو لجنة إدارة أعمال الشعب) لافتةً كُتب عليها: ««سنصنع السلالة المثالية» أدولف هتلر، ١٩٣٣». وعندما دُعِي ريفكين نفسه ليلقي كلمة «انطلاقًا من روح الانفتاح والصراحة» من قِبل العالِم المشرف على المجتمع، تقدم ليلقي خطبة حماسية، اتَّهم فيه العلماء بالتحفظ وضيق الأفق والسذاجة السياسية. وأعلن ريفكين قائلًا: «الشيء الوحيد المثير للاهتمام في هذا المنتدى هو أننا نُغْفِل السبب الرئيسي الذي يُكسِب هذا الموضوع أهميته».

«لقد استمعنا على مدى شهور لكلٍّ من المؤيدين والمنتقدين وهم يسوقون الحُجج بأن لُب المسألة هنا هو السلامة. هل إجراء هذه التجارب داخل المختبرات آمن أم غير آمن؟ هل نحتاج إلى مختبرات تتمتع بسلامة حيوية من المستوى الأول أم المستوى الرابع؟ هل نحتاج إلى إرشادات طوعية من معاهد الصحة الوطنية أم نحتاج إلى لوائح إلزامية؟

أصدقائي، المشكلة الحقيقية ليست ما إذا كانت ظروف المختبر آمنة أم غير آمنة، على الرغم من وجود معضلة بالفعل تتمثل في احتمال تسرُّب الفيروسات والبكتيريا من المختبر وتعريض صحة وسلامة ملايين الأشخاص للخطر. ولكن تلك ليست المشكلة الأساسية. يمكن أن نمرر من خلال الكونجرس هذا الربيع تشريعًا لضوابط السلامة، ولكن هذا لن يَصرفنا عن المشكلة الأساسية التي نواجهها … المشكلة الحقيقية هنا هي المشكلة الأهم على الإطلاق التي يتعيَّن على البشرية مواجهتها. أنتم تعرفونها، وأنا أعرفها. فمع اكتشاف الحمض النووي المؤتلِف، أماط العلماء اللثام عن لغز الحياة نفسها. والآن صارت المسألة مجرد مسألة وقت فحسب — خمسة أعوام، خمسة عشر عامًا، خمسة وعشرين عامًا، ثلاثين عامًا — حتى يتمكن علماء الأحياء، وبعضهم موجود بيننا في هذه القاعة، فعليًّا من تخليق نباتات جديدة وسلالات حيوانية جديدة، بل تعديل الجينات الوراثية للإنسان الموجود على كوكب الأرض، وذلك من خلال أبحاث الحمض النووي المؤتلف.»

واصل ريفكين الاستشهاد بأقوال عدة علماء بارزين — من بينهم جيمس واطسون — ممن كانوا، على حد قوله، يعتزمون استنساخ البشر. كما تنبأ بأن الجماعات الدينية ستنضمُّ قريبًا إلى تيار المعارضة، وأعلن أنه ليس أخلاقيًّا أن يكون بوسع الشركات أن تمتلك براءات اختراع لكائنات حية. وقال مطالبًا: «هذا كل ما لديَّ لأقوله. دعونا نفتتح هذا المؤتمر أو ننهِه!»

لو تعيَّن عليَّ تحديد تاريخ لبدء الحركة المناهضة للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا، لاخترت هذا اليوم. قبل الوقفة الاحتجاجية، كان ريفكين قد أسس برفقة آخرين ائتلافًا جديدًا ومتنوِّعًا يناهض أبحاث الحمض النووي المؤتلِف، يضم اثنين من الحائزين على جائزة نوبل وجماعات بيئية مثل جمعية أصدقاء الأرض، وصندوق الدفاع عن البيئة الأمريكي، ومجلس الدفاع عن الموارد الطبيعية، ومنظمة ساينس فور بيبول. في ذلك الوقت، كانت جمعية أصدقاء الأرض قد غيَّرت موقفها الحيادي السابق إلى مطالبة صريحة ﺑ «تعليق رسمي لأبحاث الحمض النووي المؤتلِف»، بينما أعلن مجلس إدارة منظمة سييرا كلوب المعنية بقضايا البيئة، أنه ريثما تحصل على المزيد من المعلومات وتُجري المزيد من النقاشات «تعارض منظمة سييرا كلوب تخليق الحمض النووي المؤتلِف لأي غرض، عدا داخل عددٍ محدود من المختبرات على أعلى مستوى من السلامة الحيوية يجري تشغيلها أو التحكم فيها مباشرةً من قِبَل الحكومة الفيدرالية.»18
كانت المفارقة أنه في اللحظة التي بدأ فيها المجتمع العلمي إدراك أن الكثير من مخاوف الخبراء الأولية حيال الحمض النووي المؤتلِف كانت مخاوفَ مبالغًا فيها على الأرجح، كانت الحركة البيئية تتشدَّد في موقفها إلى حد التعنُّت. ففي عام ١٩٧٧، كان جيمس واطسون يسترجع بالفعل مؤتمر أسيلومار ورسالته التحذيرية التي كتبها بنفسه في عام ١٩٧٤ ويصفهما بأنهما «سوء تقدير كبير أخذنا نُنَدِّد به بأعلى صوت دون أن نرى أو حتى نسمع دليلًا دامغًا.»19 ولكن كان الأوان قد فات. واستحضارًا لرواية ماري شيلي الأصلية، ربما لم يكن مسخ فرانكنشتاين نتاجًا لعلوم أبحاث الحمض النووي بقدر ما كان نتاجًا لرد الفعل المذعور للمجتمع تجاهه.
كان أحد المدافعين عن البحث العلمي، الذي ربما أثار الدهشة، هو اختصاصي علم الأحياء السكاني بول آر إيرليك، الذي اعتبره الكثير من أنصار حماية البيئة بطلًا بسبب تصديه الجريء لقضية الزيادة السكانية في كتابه «القنبلة السكانية» عام ١٩٦٨. وفي عام ١٩٧٧، كتب إيرليك إلى جمعية أصدقاء الأرض ليحُثَّ أعضاءها على التخلي عن مطالبهم بتعليق الأبحاث العلمية، قائلًا: «في حالة أبحاث الحمض النووي المؤتلِف، أظن أن العلماء قد تصرفوا على نحو مثير للإعجاب. فما إن أدركوا احتمالية وجود خطرٍ جسيم حتى أعلنوا ذلك للجمهور بأنفسهم، وفرضوا قيودًا طوعية من تلقاء أنفسهم على أبحاثهم حتى يتمكنوا من دراسة المخاطر على نحو أفضل.»20 وأشار إيرليك إلى أن «الإنسان العاقل» لم «يتدخل في التطور» منذ فترة طويلة عن طريق الاستيلاد الانتقائي وحسب، ولكنه، بصفته مختصًّا في علم الأحياء السكاني، لا يرى أي سبب يستوجب تفوق الجراثيم المُعدَّلة وراثيًّا والمُخلقة في المختبرات على الحشرات الطبيعية التي هي «نتاجات شديدة التخصُّص لمليارات السنين من التطور».

لم يُنكر بول إيرليك أن العلم قد أُسيء استخدامه في الماضي، ولكنه لم يعتبر ذلك سببًا كافيًا لحظره. وكتب يقول: «تنطوي نتائج أي بحث علمي خالص تقريبًا على إمكانية لاستغلالها ضد الإنسانية»، بما في ذلك حتى بحثه العلمي الحميد في ظاهره عن التطور التشاركي للنباتات والفراشات. وأضاف قائلًا: «إذا أُوقِفَت الأبحاث على الحمض النووي المؤتلِف لأنه يمكن استخدامه في الشر بدلًا من الخير، فإن كل أشكال العلم ستقع بالمثل تحت طائلة هذا الاتهام، وقد يتعين وقف البحث الأساسي. وإذا اتخذت الإنسانية هذا القرار، فسيكون عليها أن تكون مستعدة للتخلي عن منافع العلم، وهو ثمن باهظ حقًّا في عالم يعاني بالفعل من الزيادة السكانية ويعتمد اعتمادًا كاملًا على التكنولوجيا المتطورة من أجل أي أمل حقيقي في التحول إلى «مجتمع مُستَدام».»

•••

بيد أن جمعية أصدقاء الأرض لم تكن بصدد إعادة النظر في رأيها. ولم يغير جيريمي ريفكين رأيه أيضًا. فبوصفه أمريكيًّا صاحب مؤهلات راديكالية لا غبار عليها وكاتبًا غزير الإنتاج يمتلك طاقة لا تنضب، صار لريفكين في النهاية، على حد تعبير عالم الاجتماع البارز شيلدون كريمسكي، «تأثير على وسائل الإعلام يفوق أي جماعة أو فرد في الولايات المتحدة … وعلى السياسة الخاصة بعلم الوراثة».21 ويتفق الصحفي المتخصِّص في مجال الغذاء دان تشارلز على وصف ريفكين بأنه «مسئول أكثر من أي شخص آخر عن إيقاظ مخاوف العامة بشأن التكنولوجيا الحيوية» خلال حملته المناهضة للهندسة الوراثية التي استمرت عقودًا. ومن وجهة نظر المؤرخة الثقافية ريتشيل شورمان، كان ريفكين «صاحب التأثير الأكبر على توسع الحركة المناهضة للهندسة الوراثية في الولايات المتحدة (وعلى مستوى العالَم بدرجة ما)». انطلاقًا من سلسلةٍ من الكتب والمقالات والدعاوى القضائية التي بدأت من سبعينيات القرن العشرين، وجه ريفكين أيضًا الجيل التالي من قادة الحركة المناهضة للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا في الولايات المتحدة ودربه من مكتبه الصغير في واشنطن العاصمة بالقرب من حي دوبونت سيركل.
كان ريفكين، شأنه شأن الكثير من أقرانه في الفترة الأولى من الحركة المناهضة للهندسة الوراثية، نتاجًا نمطيًّا لثقافة الستينيات المضادة، حيث نشأ مُنَعَّمًا في خمسينيات القرن العشرين في أسرة من الطبقة المتوسطة في جنوب غرب شيكاغو. كانت والدته فيفيت تُسجِّل كُتبًا صوتية للمكفوفين، بينما كان والده يعمل في مجال تصنيع الأكياس البلاستيكية للعُملاء من القطاع الصناعي. كان ريفكين طالبًا واعدًا جدًّا؛ إذ تخرج في كلية وارتون بجامعة بنسلفانيا وحصل على درجةٍ علمية في الاقتصاد، وعلى جائزة الاستحقاق الجامعية في عام ١٩٦٧، الذي كان عامًا مليئًا بالاضطرابات. في البداية، لم يُبدِ الطالب جيريمي أي معارضة للسلطة. وفي أثناء دراسته في كلية وارتون، وفقًا للسيرة الموجزة التي نُشِرت فيما بعد بمجلة خريجي الجامعة، «أصبح قائد مشجعين، وقائد دفعة، ومسئولًا بإحدى الأخَوِيَّات، ونابغة في الاقتصاد.» كان كل شيء عاديًّا حتى ذلك الوقت، إلا أنه في نهاية العام الدراسي ١٩٦٦ حدث شيء غَيَّر مسار حياة ريفكين، ووضعه على طريق التطرف السياسي الراديكالي الذي شاركه فيه العديد من طُلاب جيله. قال ريفكين مسترجعًا الذكريات: «ذات يوم كانت هناك تظاهرة في الحرم الجامعي، وشاهدت بعض لاعبي كرة القدم ينهالون بالضرب على أطفال. هؤلاء [السفاحون] كانوا أصدقائي، الرياضيون أنفسهم الذين كنت أشاركهم شرب الجعة في حانة سموكي جو، وقلت في نفسي في ذلك الوقت: «مهلًا! ثمة خطأ هنا.» أظن أن تطرُّفي قد بدأ من هنا».22
شهد اليوم التالي ميلاد ريفكين مختلفٍ تمامًا، يقود مسيرةً لحرية التعبير داخل الحرم الجامعي للاحتجاج على قمع حرية الاختلاف في الرأي الذي مارسه أصدقاؤه السابقون لاعبو كرة القدم. ومع تزايد قوة حركة الثقافة المضادة داخل حرم الجامعات في جميع أنحاء الولايات المتحدة، نظم ريفكين ما زعم لاحقًا أنه أول اعتصام جامعي على مستوى البلاد في أوائل العام التالي. وقبيل تخرجه في عام ١٩٦٧ ببضعة أسابيع فقط، وقف ريفكين على منصة أمام ٣٠٠ طالب في تظاهرة احتجاجية ضد حرب فيتنام. في تلك اللحظة كان قائد المشجعين السابق يستخدم ميكروفونه ولكن لغرض آخر. كان مسئول الأخوية الذي تحول إلى ناشط راديكالي يستحِثُّ الحشد قائلًا: «إنها مسئولية الأفراد المعنيين أن يُعبروا عن رأيهم صراحةً وعلى الملأ.»23 وفي غضون عام من التخرج، كان يساعد في تنظيم مسيرة احتجاجية عام ١٩٦٨ ضد البنتاجون، وكان قد انضم إلى لجنة يدل اسمها على كُنهها؛ وهي «لجنة المواطنين للتحقيق في جرائم الحرب الأمريكية في فيتنام.» اكتسبت هذه اللجنة دفعة قوية عندما تسربت بالتدريج إلى العامة أسرارٌ حول مذبحة ماي لاي المروعة، حيث قَتلت القوات الأمريكية ما بين ٣٠٠ و٥٠٠ قروي فيتنامي. وعندما صار واضحًا أن الجيش الأمريكي في فيتنام ليس مُدانًا فقط بارتكاب عمليات قتلٍ جماعي ضد المدنيين؛ بل أيضًا محاولة التستُّر على هذه العمليات، بدأ ريفكين وزملاؤه من معسكر اليسار الأمريكي المناهض للحرب في كسب نفوذ ومصداقية في حملاتهم المعارضة.

وتحت قيادة ريفكين النشطة والبارعة إعلاميًّا، بدأت «لجنة المواطنين للتحقيق في جرائم الحرب الأمريكية في فيتنام» جولة عبر الولايات المتحدة مع المحاربين القدامى في فيتنام. كان الهدف هو تحقيق تغطية إعلامية محلية من خلال الكشف عن قصص عن فظائع أخرى زُعِم أيضًا أن القوات الأمريكية المقاتِلة في فيتنام قد ارتكبتها. زعم هؤلاء المحاربون القدامى في فيتنام أن مذبحة ماي لاي كانت مجرد غيض من فيض، وأن جرائم الحرب الأمريكية كانت تُرتَكَب على نطاق أوسع وأكثر منهجية تفُوق إدراك أي شخص. وصرح ريفكين لصحيفة «نيويورك بوست» في أبريل عام ١٩٧٠ قائلًا: «جرائم الحرب … هي مسألة خاضعة لسياسة البنتاجون.» كانت هذه الفترة هي فترة استقطاب وطني مكثف وبحث عن الذات في الولايات المتحدة. هل كانت أمريكا قوة عظمى خيرة تحارب من أجل الدفاع عن الديمقراطية في مواجهة تمدُّد الشيوعية؟ أم أن الديمقراطية الأمريكية كانت مجرد كذبة، لخداع الطبقة العاملة داخل البلاد وقمع الحرية في دول العالم النامي؟ يرى الأصوليون الجدد اليساريون، مثل ريفكين، أن الوحشية المروعة لعمليات إطلاق النار على الطلاب العُزْل على يد الحرس الوطني في كلٍّ من جامعة جاكسون في ولاية مسيسيبي وفي جامعة كنت في ولاية أوهايو في عام ١٩٧٠؛ قد عززت وجهة النظر الأخيرة.

تذكَّر أحد المحاربين القدامى في فيتنام، والعضو في «لجنة المواطنين للتحقيق في جرائم الحرب الأمريكية في فيتنام»، ويدعى مايكل يول، جيريمي ريفكين وكتب عن هذه الفترة في مذكراته. كتب يول أن جيريمي كان «من أصول يهودية روسية» وفي أثناء دراسته بجامعة تافتس في عام ١٩٦٩ «قاده انبهاره بهتلر وأهوال الهولوكوست إلى البحث والكتابة عن تحسين النسل والإبادة الجماعية» في رسالة تخرجه. وكان ريفكين قد ذهب إلى أوروبا وزار معسكر الاعتقال النازي في داخاو؛ حيث «رأى، فجأةً، بعين خياله، الصلبان المعقوفة وهي تهيمن على السياسة الأمريكية في فيتنام.»24 وفقًا ليول، فإن «الصمود الذي لا يلين» الذي تحلى به ريفكين في معارضته فيما بعد «لتحوُّر الحيوانات أو النباتات أو الحبوب بالتعديل الوراثي» كان مرتبطًا بوضوح ﺑ «انشغاله في مرحلة الشباب بأيديولوجية تحسين النسل الفاشية وهدفها الرامي إلى تصميم جنس بشري متفوق.» ولا شك أن هذه العبارات والأفكار الفلسفية قد ظهرت بصورة متكررة في كتابات ريفكين اللاحقة عن الوراثة، كما ظهرت في الحركة الأوسع نطاقًا لمناهضة الهندسة الوراثية التي ساعد على تأسيسها.
كان اليسار الجديد الذي ظهر في أواخر الستينيات مختلفًا تمامًا عن اليسار القديم. لم يشارك ريفكين في النقاشات الليلية المتأخرة المتواصلة حول كتابات تروتسكي عن المادية الجدلية والتاريخية. فمن البداية كان ريفكين براجماتيًّا، يقيس مدى التأثير بمساحة الأعمدة المنشورة في الصحف لا بدرجة الالتزام الأيديولوجي الخالص. وبينما كان اليسار القديم مُهتمًّا في المقام الأول بالعلاقات الطبقية داخل الدول القومية، كان اليسار الجديد مُهتمًّا أكثر بقوة الشركات الكبرى العابرة للحدود القومية. ومع انحسار الأضواء المُسلطة على حرب فيتنام في سبعينيات القرن العشرين، دشن ريفكين «لجنة المئوية الثانية للشعب»، التي تحولت فيما بعد إلى «لجنة إدارة أعمال الشعب»، لتكون بديلًا للاحتفالات الرسمية بالذكرى المائتين لتأسيس الولايات المتحدة في عام ١٧٧٦، يتبنى موقفًا مناهضًا للشركات والمؤسسات. وكان من أول الاحتجاجات التي تصدرت عناوين الصحف في عام ١٩٧٣ تفريغ براميل نفط زائفة في ميناء بوسطن في محاكاة رمزية، في عصر النفط، لواقعة حفل شاي بوسطن الشهيرة التي وقعت عام ١٧٧٣. ثمة فكرة لاحقة لجذب الانتباه تمثلت في تقديم مكافأة قدرها ٢٥ ألف دولار لأي سكرتير شركة يسرب معلومات داخلية خاصة بالمخالفات الأخلاقية داخل الشركة التي يعمل بها إلى لجنته. وكانت الجائزة المالية المعروضة مستحقة الدفع «عند تقديم معلومات محددة تؤدي مباشرةً إلى القبض على الرئيس التنفيذي لأي من الشركات المدرجة على قائمة «فورتشن ٥٠٠» الأمريكية بتهمة نشاطٍ جنائي يتعلق بعمليات الشركات، وإدانته وسجنه.»25 وأرسل ريفكين رسالةً مماثلةً إلى زوجات نفس الرؤساء التنفيذيين للشركات على عناوين منازلهم، مرفق بها تسجيل صوتي يعِد بدفع مبالغ نقدية مقابل الإفصاح عن المخالفات التي يرتكبها أزواجهن الطامحون.
تبدو الأفكار في رسالة ريفكين لزوجات رؤساء الشركات في عام ١٩٧٦ مألوفة على نحو مخيف. فقد كتب يقول: «اليوم، تمتلك ٢٠٠ شركة عملاقة أكثر من ثُلثَي أصول التصنيع في البلاد. وعلى رأس هذه الإمبراطوريات المؤسسية مجموعة صغيرة من الرجال مجهولي الأسماء والوجوه، اكتسبوا قوة كافية للسيطرة شبه الكاملة على الحياة الأمريكية … زوجكِ جزء من هذه النخبة الصغيرة المحظوظة من رجال الأعمال. وهذا يلقي مسئوليةً خاصة على عاتقكِ وعلى عاتق أسرتكِ لفضح سياسات الشركات التي أسفرت عن التلاعب بالأسعار والبطالة المستحَثَّة وتدمير البيئة والتربح المفرط والتوزيع غير العادل للثروة، وغيرها من التجاوزات.»26
لم تنجح خدعة ريفكين. فلم تتلقَّ لجنته سوى «ورق رسائل فخم باهظ الثمن ذا ملمس محبب يحتوي على ألفاظ نابية» بدلًا من النمائم البذيئة المتداولة عن الشركات.27 ولكن ظهر اسم ريفكين على صفحات «نيويورك تايمز»، و«وول ستريت جورنال»، والعديد من الصحف المحلية والإقليمية في سائر أنحاء البلاد، وهو ما يُرَجَّح أنه كان الهدف الأساسي على أي حال. ومن هنا بدأت مسيرته المهنية كمحرض مثير للجدل في وسائل الإعلام.

كان نجاح ريفكين في وسائل الإعلام يعود جزئيًّا فقط إلى عباراته الجَذلة الطنَّانة وقدرته الخرافية على التحدث إلى جمهور وكسب تأييده. أيضًا قدم ريفكين نفسه إلى الصحفيين بوصفه مفكرًا جماهيريًّا، شخصًا يفكر مليًّا في الأسئلة الفلسفية الأكثر تعمقًا حول التكنولوجيا والتقدم، التي تستعصي على العلماء ضيِّقي الأفق المنعزلين في صوامعهم الأكاديمية. بدأ ريفكين يصوغ حيثيات معارضته للهندسة الوراثية في عام ١٩٧٧، وهو العام نفسه الذي قاد فيه المسيرة الاحتجاجية ضد الهندسة الوراثية لدى الأكاديمية الوطنية للعلوم، وذلك من خلال نشر كتابه الذي يحمل عنوان: «من يحق له لعب دور الإله» (الذي شارك في تأليفه تيد هوارد).

أُهدي كتاب «من يحق له لعب دور الإله» إلى ألدوس هكسلي، مؤلف رواية «عالَم جديد رائع». كتب ريفكين عن هكسلي بأسلوب يوحي بالتشاؤم قائلًا: «لقد تنبأ بما هو قادم». وفي الصفحة الأولى من الكتاب، وتحت عنوان: «أي نوع من المستقبل هذا؟» ورَدت بعض العبارات المثيرة، كان من بينها مزاعم بأن العلماء كانوا عازمين على إنتاج «نُسَخ حية طبق الأصل منك في أقل من عشر سنوات»، وبأن «التكاثر الجنسي الطبيعي» ربما «يحل محله بالكامل» التكاثر الجنسي الاصطناعي «في غضون خمسين عامًا»، ولعل الزعم الذي كان الأكثر إثارة للدهشة على الإطلاق، هو احتمال تعديل البشر وراثيًّا بحيث يمكنهم هضم القش مثل الأبقار وإجراء عملية التمثيل الضوئي عن طريق جلودهم.

وشدد ريفكين على أن الهندسة الوراثية، ما لم تُوءد في مهدها، ستكون «شكلًا من أشكال الإبادة لا يختلف في شيء عن المحرقة النووية.»28 علاوة على ذلك، وكما أُشير مرارًا في ملاحظات الغلاف وتكرر على نحو متصل في الخُطَب، اعتبر ريفكين هذه التقنية جزءًا لا يتجزأ من تحسين النسل. وقبل ظهور الحمض النووي المؤتلِف، زعم ريفكين أن «العلاقة التكافُلية بين الهندسة الوراثية والسياسات والرؤى الاجتماعية … قد وصلت إلى ذروتها في السياسات المتعلقة بعلم الوراثة التي تبناها الرايخ الثالث في عهد هتلر بين عامي ١٩٣٢ و١٩٤٥».29 وعلى هذا الأساس، تنبأ ريفكين ﺑ «ظهور «عالم جديد رائع» تتحكم فيه الشركات الكبرى.» وعلى الرغم من أن هذا من شأنه بالتأكيد أن يكون «نهجًا أقل مأساوية بكثير من الاستعباد المطلق للجنس البشري … فإن النتائج مرعبة بنفس القدر الذي كانت ستصبح عليه لو كانت قد فُرضت بلا رحمة من قبل بعض المستبدِّين السياسيين المجاذيب» على شاكلة هتلر.30
واختتم ريفكين الكتاب بالتوقُّع التالي: «لو سُمح للهندسة الوراثية بالاستمرار بوتيرتها الحالية، فإن نوع «الإنسان العاقل» لن يستمر أكثر من خمسة أو ستة أجيال أخرى وبعدها سوف يحل محله، وبلا رجعة، كائنٌ جديدٌ مُصمَّم عن طريق الهندسة الوراثية. وبالرغم من أن هذا النوع الجديد سيتضمن بعضًا من سماتنا، فإنه سيختلف في نواحٍ كثيرة عنا كما نختلف نحن الآن عن أقرب أقربائنا، الرئيسيات.»31 ولذلك باتت معارضة الهندسة الوراثية، من وجهة نظر ريفكين، مهمة مقدَّسة، أشبه بالتصدي للرايخ الثالث. وبالتبعية لا يمكن أن يوجد تعايش مشترك بين علم الوراثة والقيم الإنسانية الأساسية. ويجب القضاء على واحد منهما. ولذلك كانت مهمته ضرورية، ليس فقط لكبح صعود فاشية جديدة ومفهوم تحسين النسل فحسب، وإنما لإنقاذ النوع البشري بأكمله من السير في طريق الانقراض الحتمي.

بحلول عام ١٩٨٥، كان تأثير جيريمي ريفكين قد وصل إلى ذروته. فأُعيدت تسمية ما كان يُعرف سابقًا باسم «لجنة المئوية الثانية للشعب»، ثم بعد ذلك «لجنة إدارة أعمال الشعب»، لتحمل اسمًا مهيبًا هو «مؤسسة الاتجاهات الاقتصادية»، وتشغل مكتبًا فسيحًا في واشنطن العاصمة. ونُشر لقاء أجرته معه مجلة «ماذر جونز» في نوفمبر ١٩٨٥، مرفق به صورة لريفكين وهو يقف باعتدادٍ، مرتديًا سرواله البيج المعتاد، ويجلس في كرسي مكتب وثير. كان يضع إصبعه على شفته العليا التي يعلوها شارب أنيق مفكرًا، وفي يده الأخرى يمسك بقلمه الجاهز دائمًا ومفكرته المفتوحة في حزم. وقد وصف كيث شنايدر، الكاتب بصحيفة «نيويورك تايمز»، ريفكين، في نص المقابلة، بأنه جزيرة من الهدوء الصارم، محاطة بنشاط مكتبي محموم ومتسارع. وكان طاقم السكرتارية يقاطعه باستمرار بآخر طلبات اللقاءات الإعلامية: «جيريمي، سي بي إس نيوز على خط الهاتف الأول». «جيريمي، كريستين راسل من صحيفة «ذا بوست» تريد مقابلتك هنا بعد الغداء، هل أخبرها بموافقتك؟» «جيريمي، لجنة الطاقة والتجارة بمجلس النواب على الخط الثاني».

نُشِرَ مقال مجلة «ماذر جونز» في ذروة معارضة ريفكين للتكنولوجيا الحيوية، حيث كان، على حد تعبير شنايدر، «المعارض الأبرز للهندسة الوراثية في البلاد»، الذي تمثلت موهبته الخاصة في «لفت الانتباه إلى رسالةٍ وضعته في مرمى نيرانِ جدلٍ عالمي.» وفي غضون عامين فقط، كان ريفكين قد «أصبح بمنزلة المركز القيادي للنقاشات الأخلاقية والعلمية المحيطة بتطوير الهندسة الوراثية»، وفقًا لما كتبه شنايدر. وكما ذكر مقال آخر، تحول مكتب ريفكين إلى خط إنتاج إعلامي. حيث «تقوم امرأتان في منتصف العمر بقص الأخبار من الصحف اليومية، والمقالات التي إما تَقتبِس أقوال ريفكين مباشرةً أو تشير إلى قضاياه الأثيرة العديدة. ثم تُنسَخ الأخبار بعناية وتُوزع […] على الأطراف المهتمة. من الواضح أنه من دون وسائل الإعلام، لا وجود لريفكين.»32 وبفضل معارضته الصلبة للتكنولوجيا الحيوية وموهبته في نشر أفكاره على نطاق واسع، تفوَّق ريفكين تفوقًا جليًّا على خصومه في المجتمع العلمي. «تعتقد الغالبية العظمى من العلماء أن تحذيرات ريفكين [بشأن الهندسة الوراثية] ليست سوى مجاهرة بآراء مبالغ فيها من مجنون يسعى وراء مصالحه الشخصية»، كما أورد شنايدر. ولكن نفس هذه «الغالبية العظمى من العلماء» سرعان ما اكتشفت أنها شبه عاجزة عن إيقافه.
لم يكتسب ريفكين سمعته من خلال وسائل الإعلام فحسب، وإنما أيضًا من خلال جدول مرهق ومكدس بالخطب السياسية، التي أظهر خلالها شخصية مقنِعة وجذابة ربما تكون أقرب إلى شخصية مُعالج رُوحاني منها إلى شخصية ناشط بيئي. وكما جاء في أحد المقالات التعريفية: «يجلس على حافة طاولة، ويرخي ربطة عنقه، ويفتح الزر العلوي لقميصه، ويشمر أكمامه بتأنٍ. ثم يمسك بالميكروفون ويبدأ بالسير بين صفوف الجمهور، ويتواصل بصريًّا مع جميع الحاضرين تقريبًا في القاعة. يرتشف بعضًا من ماء إيفيان، ويُلقي دعابات، وينتقل بسلاسة من موضوع إلى آخر. ويبدو جمهوره، الذي يملأ المكان عن آخره، مشدوهًا».33

ناقشت صحيفة «واشنطن بوست» — في مقال تعريفي مفصل، نُشر عام ١٩٨٨، يركز على رحلة ريفكين الدعوية إلى إيطاليا، المناهِضة للهندسة الوراثية، في العام نفسه — الآليات الخفية وراء ما أسماه مراسلها «الخطاب»؛ إذ كتب يقول: «يبدو الأمر قليلًا كما لو كان ريفكين ماكينة نَسخ متطوِّرة؛ إذ يمكنه تكبير أو تصغير «الخطاب» إلى أي حجم مناسب.» كيف كان الخطاب، أيًّا كان حجمه، يُلقى؟ «إنه يتحرك. ويتبختر، ويتجول، ويشير بإصبعه منذرًا.» كان مضيفو ريفكين الإيطاليون يشعرون بالحيرة نوعًا ما من هذا الأمريكي الوقح الواقف وسطهم، وصرح أحدهم لمراسل صحيفة «واشنطن بوست» قائلًا: «جيريمي، إن لديه طريقة في مخاطبة الناس مثل واعظ، أو شيء من هذا القبيل، لنقل مثل نَبيٍّ. ولكن دائمًا ما كان ريفكين ينجح؛ فمع نهاية رحلته، كان قد تمكَّن من إقناع حزب الخُضْر الإيطالي المُنتخَب مؤخرًا بتبنِّي موقفٍ معارض للهندسة الوراثية بوصفها إحدى الركائز الأساسية لمبادئ وأهداف الحزب. وتوصل مراسل صحيفة «واشنطن بوست» الذي رافق ريفكين عدة أيام على مدى الرحلة المحمومة إلى استنتاج متضارب: «ريفكين نفسه شخص صحبتُه ممتعة ومسلِّية. ولكنه أيضًا شخص قَلِق ومستبد، يكاد لا يثق تمامًا في قدرة البشر على التفكير بأنفسهم. المرء يرتعد خوفًا من تصور عالَمٍ يُتَوَّج فيه ريفكين مَلِكًا».»

كان مَيل ريفكين نحو التفكير المتطرف المتشدد واضحًا في كل خطبه، ولا سيما في موضوع الهندسة الوراثية. فكما أوضح للطلابِ في «ندوات دراسية» مناهضة للعولمة في عام ٢٠٠١ بكلية هانتر، وهي كلية للدراسات العليا في نيويورك ذات توجه ليبرالي، قائلًا: «دعوني أوضح لكم جميعًا. إذا سمحنا لتجميعة الجينات العظيمة والبروتينات التي تشفرها أن تستحوذ عليها الحكومات بوصفها مِلكية سياسية، أو تستحوذ عليها شركات علوم الحياة بوصفها ملكية فكرية، فأنا أضمن لكم، باعتباركم آباء، أن أبناءكم وأحفادكم سيخوضون حروبًا جينية في القرنين الحادي والعشرين والثاني والعشرين!» كان موضوع تحسين النسل موضع اهتمامٍ دائم لدى ريفكين طوال حياته. فقد استطرد قائلًا: «هذا الأسلوب الجديد لتحسين النسل يبدو محمودًا. شيءٌ عادي لا جديد فيه. شيء ذو طابع تجاري. تحركه قُوى السوق. ألا تريدون جميعًا طفلًا سليمًا معافًى؟» أجل، بالطبع نريد. «ولكن المشكلة تكمن في أنه يغيِّر الرباط بين الآباء والأبناء تغييرًا جذريًّا، وهذا ما يجعله تحسين نسل من نوع جديد. فيصبح الأب هو المصمِّم، ويصبح الطفل أفضل تجربة تَسَوُّق في عالَم ما بعد الحداثة هذا.»

يستدعي هذا إلى الذاكرة خطبةً كان قد ألقاها قبل عقود في مقر اتحاد طلاب كلية جيتيسبرج في عام ١٩٧٩، قال فيها: «ستُقربنا الأبحاث الوراثية خطوةً نحو الهندسة الوراثية. هناك يوجهوننا نحو إنتاج أطفال مثاليين، وآخر مرة حدث فيه ذلك حصلنا على أطفال لهم عيون زرقاء، وشعر أشقر، وجينات العرق الآري.» لم يكن ريفكين في شبابه يعترف بالمواقف الوسطية، كما أكد قائلًا: «لا يمكن أن تكون متخصصًا في الهندسة الوراثية دون أن تكون متخصصًا في تحسين النسل.»34 وكان مطلب ريفكين على الدوام واحدًا، وكان يعلنه في هيئة تصريح رنَّان مُعَد بحيث يتبعه تصفيق مُدَوٍّ. «يجب أن يحدث إيقاف عالمي تام، يجب ألا تُطلَق أي كائنات حية معدلة وراثيًّا في بيئة هذا الكوكب. الأمر واضح وبسيط.»

•••

لم يكتفِ جيريمي ريفكين بالحديث عن حظر تجارب الهندسة الوراثية وحسب؛ بل اتخذ خطوات فعلية حيال ذلك أيضًا. فقد صرح مؤخرًا قائلًا: «إذا استرجعت الأمر، تجد أن المحامين الخاصين بي كانوا هم من رفعوا القضية الأولى ضد الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا. لقد أوقفنا إطلاق أولى الكائنات الحية المُعدَّلة وراثيًّا، وهي البكتيريا ناقصة الجليد، إلى البيئة بقرار من المحكمة الفيدرالية بالولايات المتحدة، وهو القرار الذي أثار هذا الجدال من البداية. ثم عارضنا إصدار براءات اختراع للكائنات الحية أمام المحكمة العليا. وقضينا فترة امتدت من عشرين إلى ثلاثين عامًا على هذه القضية.»35 وفي ثمانينيات وأوائل تسعينيات القرن العشرين، رفعت مؤسسة الاتجاهات الاقتصادية سيلًا من الدعاوى القضائية نجحت في عرقلة تقدم التكنولوجيا الحيوية في أمريكا. وصرح أحد المحامين التابعين لوكالة حماية البيئة الأمريكية لصحيفة «نيويورك تايمز» في عام ١٩٨٦،36 بعد أن وجد نفسه طرفًا في دعوى قضائية أخرى، قائلًا بإعجاب يشوبه الحسد: «إن لديه قدرة غريبة على تحديد نقاط الضعف في إجراءاتنا التدقيقية، ويتمتع بالقدرة على رؤية بؤر أكبر بكثير للمشاكل المستقبلية. أنت تسمع طوال الوقت أن هذا الرجل ليس سوى مصدر إزعاج. وهذا غير صحيح. إنه عنصر مهم في جميع أوجه مجال التكنولوجيا الحيوية تقريبًا الآن.» وبعد مرور ثلاث سنوات على ظهور أول مُنتج للحمض النووي المؤتلِف، خرج الإنسولين البشري لعلاج مرضى السكري إلى الأسواق، وكانت صحيفة «نيويورك تايمز» تكتب عن التكنولوجيا الحيوية بوصفها «ثورة متوقفة». في ذلك الحين، كانت مؤسسة ريفكين تضم محاميَين اثنَين بدوام كامل، وهو عدد أكثر من كافٍ للتأثير على السياسة الوطنية.

ذاق ريفكين طعم النجاح لأول مرة في مايو من عام ١٩٨٤ عندما تمكن من إقناع أحد المحاكم بواشنطن العاصمة بإصدار إنذار قضائي ضد تجربة أجرتها جامعة كاليفورنيا لرش البكتيريا المُعدَّلة وراثيًّا على قطعة أرض صغيرة مزروعة بالفراولة. كانت الدعوى إجرائية — إذ ذهب ريفكين إلى أنه لم يتم إعداد بيانٍ مناسب بالأثر البيئي لهذه التجربة — ولكنها على أي حال أتت بثمارها على أكمل وجه. كانت هذه هي المرة الأولى التي تُطلق فيها البكتيريا المُعدَّلة وراثيًّا في البيئة؛ لذا كان الأمر مَحكًّا مهمًّا لكلا الطرفين. أُزيل أحد جينات هذه البكتيريا في المختبر لتثبيط قدرتها على تكوين أنوية بلورات الثلج على أوراق النبات، بهدف حماية المحاصيل الحساسة للبرودة؛ مثل الفراولة والبطاطس من التلف الناجم عن الصقيع. وتسبب قرار المحكمة، الذي جاء مواتيًا بدرجة كبيرة لمصالح ريفكين، في حرج شديد لكل من جامعة كاليفورنيا ومعاهد الصحة الوطنية، وهي الهيئة التي عُهد إليها رسميًّا بوضع المعايير الإرشادية لاستخدام تكنولوجيا الحمض النووي المؤتلِف ومراقبتها. وأكد القضاة أن «عواقب انتشار الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا غير مؤكدة»، وإجراءات معاهد الصحة الوطنية «فشلت فشلًا ذريعًا» في استيفاء المعايير المطلوبة.

بعد مرور عامين، وتحديدًا في مايو من عام ١٩٨٧، استأنفت شركة خاصة تُدعى أدفانسيد جينيتكس سيستمز التجربة الموقوفة، بهدف التسويق التجاري للبكتيريا في صورة رش زراعي يحمل الاسم التجاري «فروستبان». وعلى الرغم من أن الدعوى القضائية المتوقعة التي رفعها ريفكين آنذاك فشلت في إيقاف التجربة، دمر النشطاء بجماعة «الأرض أولًا!» أحد هذه المواقع التجريبية ليلًا. وعلى حد علمي، كان هذا أول تحرك احتجاجي لتدمير المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا. وكما ورد في أحد تقارير شبكة بي بي سي فيما بعد: «جذب أول موقع تجريبي في العالم أُولى حركات تدمير الحقول في العالم».37 كذلك استهدف النشطاء الليليُّون تجربة مماثلة أُجريت على البطاطس. وكما صرح أحد نشطاء جماعة «الأرض أولًا!» لشبكة بي بي سي قائلًا: «عندما سمعت لأول مرة أن ثمة شركة في بيركلي تخطط لإطلاق هذه البكتيريا، التي تُدعى «فروستبان»، إلى المجتمع المحلي، شعرت بسكين تُغرس بداخلي حرفيًّا. مرة أخرى، من أجل المال، كانت العلوم والتكنولوجيا والشركات بصدد انتهاك جسدي ببكتيريا جديدة لم يكن لها وجود من قبل على سطح الأرض. لقد سبق أن انتُهِك من قِبَل الضباب الدخاني، والإشعاع، والمواد الكيميائية السامة الموجودة في طعامي، ولن أقبل هذا بعد الآن.» كان ريفكين في ذلك الوقت يستقطب مؤيدين من الحركات الراديكالية المتطرفة، ليضيف سهمًا إلى جعبته تمثل في احتمالية الحشد لحراك احتجاجي مباشر عند فشل الدعاوى القضائية والحملات الإعلامية.
في الواقع، لم يُسهِم العلماء بشيء في مناصرة قضيتهم. فقد كانت اللوائح الصحية تلزم الفنيين برش الفراولة المتبقية بالبكتيريا المُعدَّلة وراثيًّا مع ارتداء بذلة فضاء مخيفة الشكل. وحسبما جاء في صحيفة «نيويورك تايمز» فيما بعد، «انتشرت صور لعلماء يرتدون معدات واقية وفقًا للوائح — بذلات فضائية مزودة بأجهزة تنفس — حول العالم، مما أثار انزعاجًا واسع النطاق»،38 على الرغم من أن المصورين الذين كانوا يلتقطون الصور كانوا على بُعد بضع أقدام منهم، وكانوا هم أنفسهم لا يرتدون أي ملابس واقية. وكان هذا مثالًا كلاسيكيًّا يوضح كيف يمكن للوائح الاحترازية التي تهدف إلى طمأنة جمهور قلِق أن يكون لها تأثير معاكس تمامًا.

على الرغم من أن فروستبان اجتاز الاختبارات العلمية التي خضع لها، ومنع بنجاح تكوُّن الجليد وقام بحماية النباتات، فقد أثار جدلًا واسعًا، حتى إنه لم يُطرح في الأسواق مطلقًا. وأُجبرت صناعة التقنية الحيوية الناشئة على استيعاب بعض الدروس المريرة. حتى لو خضع منتج مُقترح للاختبار، فلربما تعثرت عملية التقدم سنوات بسبب الدعاوى القضائية والتكاليف الآخذة في الارتفاع على نحو مهول. وحتى بعد الحصول على موافقة المحكمة، لربما دمر النشطاء التجربة ماديًّا. وحتى لو استطاع منتج مُعدَّل وراثيًّا أن يجتاز كل هذه العثرات، فيُحتمل ألا يُطرح مطلقًا في الأسواق بسبب المعارضة المستمرة والاهتمام الإعلامي السلبي الذي يُسفر عن دعوات مقاطعة أو هو ما أسوأ من ذلك. كانت النتيجة نوبة فتور اجتاحت مجتمع التكنولوجيا الحيوية. في ذلك الوقت، واجه علم النبات القائم على الهندسة الوراثية خطرًا جديدًا وذا تكلفة عالية محتملة، ألا وهو خطر رفض الجمهور.

بعد مرور خمس سنوات، وتحديدًا في مايو من عام ١٩٩٤، تجلَّى هذا الخطر بوضوح من خلال الطرح المشئوم لأول منتج غذائي مُعدَّل وراثيًّا في العالم. خضعت طماطم «فلافر سافر» — التي أنتجتها شركة كالجين والمصممة بالأساس من أجل سوق الأطعمة الطازجة — للتعديل الوراثي، لتحظى بعمر أطول على أرفف المحال التجارية ومذاقٍ مُعَدَّل، من خلال جين عكسي يثبط التعبير عن إنزيم بولي جالاكتوروناز المسئول عن الإنضاج. كان الهدف منطقيًّا بالدرجة الكافية. فبدلًا من ثمار الطماطم عديمة الطعم المبيعة في المتاجر الكبرى والموجهة للأسواق الجماهيرية، والتي تُقطف قبل أوانها وتخضع لعملية الإنضاج الصناعي؛ سيتمكن المستهلكون من الاستمتاع بطماطم قُطفت بعد نضوجها على التعريشة بصورة طبيعية. وأظهرت التقارير الإخبارية التليفزيونية المعاصرة لتلك الفترة المستهلكين في حالة حذر ولكنها إيجابية بصفة عامة. ويُقال إن الطعم كان أفضل، لتحقق بذلك النكهة المرغوب فيها للطماطم الصيفية المزروعة منزليًّا. ولكن لم يكن ريفكين متقبلًا لأي من هذا. فقد أقسم ريفكين قائلًا: «نحن عازمون على ألا تصل الأغذية المُعدَّلة وراثيًّا إلى الأسواق سواء هنا أو في أوروبا». ومن خلال فرع جديد منبثق عن مؤسسته، ويدعى «بيور فوود كامبين» (أو حملة الطعام النقي)، أطلق ريفكين استراتيجية مزدوجة الهدف لتشويه سمعة الطماطم الجديدة في أذهان العامة والطعن فيها أمام المحاكم. وطرح سؤالًا بلاغيًّا: «هل ستخاطر بحياتك أو حياة أولادك مقابل مذاق ثمرة طماطم؟»39 وتُظهر اللقطات الإخبارية التليفزيونية المؤرشفة ريفكين وهو يصرح قائلًا: «ربما تكون حميدة. ولكن ربما تكون سامة أيضًا. ومن وجهة نظرنا: الحذر أفضل من الندم.»40
على الرغم من أن الطعون التي تقدم بها ريفكين لم تُفلِح، أقنع تهديدُه بالمقاطعة على نطاق البلاد شركة كامبل بعدم إضافة الطماطم إلى الحساء المُعلَّب الذي تنتجه. وحشدت حملة الطعام النَّقي آلافًا من طهاة المطاعم الذين تعهدوا بعدم تقديم الطماطم المُعدَّلة، وأرسلت «مواد تعليمية» لأكثر من ١٠٠ ألف مُعلِّم مدرسي.41 لم يدُم دخول شركة كالجين إلى سوق الطماطم الطازجة — الذي عُرقل بفعل مشاكل لوجستية، وكذلك المعارضة من جانب دعاة الحملات — طويلًا. ففي أوروبا، وبعد فترة قصيرة، ظهر على أرفف المتاجر الكبرى منتجٌ حل محل طماطم «فلافر سافر» على هيئة معجون طماطم مُعلَّب عليه ملصق شهير كُتِب عليه «مُعدَّل وراثيًّا». وعلى الرغم من أنه حقق مبيعات جيدة، أقنع دعاة الحملات المناهضة للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا محالَّ السوبر ماركت بالتخلص منه، وبحلول عام ١٩٩٩ كانت طماطم «فلافر سافر» قد اختفت من الأسواق.42 وبيعت شركة كالجين نفسها إلى شركة مونسانتو؛ ليس لرغبة شركة مونسانتو في دخول السوق التجارية للطماطم الطازجة، ولكن من أجل السيطرة على محفظة براءات الاختراعات القيِّمة الخاصة بشركة كالجين. تم التخلص من طماطم «فلافر سافر» دون أي توضيح. وهكذا، اختفى أول منتج مُعدَّل جينيًّا في العالم وصار في طي النسيان.

في رأيي، إن الإرث الأطول بقاءً الذي تركه كان من خلال النشطاء الآخرين الذين جمعهم حوله وألهمهم. فقد اكتسب الكثيرُ من أبرز قادة المعارضة للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا المؤثِّرين اليوم مهارتهم وهم بجواره، واستمروا في نشر الرسالة حتى بعد أن تحوَّل ريفكين نفسه إلى موضوعات مختلفة في السنوات اللاحقة. كان أندرو كيمبريل أحد هؤلاء الرفاق المؤثرين، وهو محامٍ مُدرَّب تولى عددًا كبيرًا من أهم الدعاوى القضائية الخاصة بريفكين والمناهضة للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا أمام المحاكم. وفيما بعد، اتجه كيمبريل إلى تأسيس مركز سلامة الغذاء، الذي اتخذ من مؤسسة الاتجاهات الاقتصادية الخاصة بريفكين مَعِينًا فكريًّا وماليًّا للحركة المناهضة للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا بدءًا من العقد الأول من الألفية الثانية وحتى اليوم.

كانت معارضة كيمبريل للهندسة الوراثية شديدة، تمامًا مثل معارضة ريفكين. فسواء كان الأمر متعلقًا بالنباتات أم الحيوانات، بالقطاع العام أم القطاع الخاص، سعي كيمبريل إلى حظر استخدام التكنولوجيا الحيوية في الأغذية والزراعة حظرًا تامًّا، والتحول بالكامل إلى الزراعة العضوية. كان أحد تلاميذ ريفكين الآخرين روني كومينز، وهو ناشط راديكالي يعتمر قُبعة دومًا، أخذ حملة الطعام النقي التي أطلقها ريفكين وأعاد إطلاقها من جديد تحت اسم «رابطة مستهلكي الأغذية العضوية». وفي السنوات الأخيرة، مَوَّلت هذه الجمعية الجماعةُ الأمريكية «الحق في المعرفة» المعروفة بتأييدها لوضع ملصقات على المنتجات المعدَّلة وراثيًّا، والتي استهدفت الكثير من علماء التكنولوجيا الحيوية الجامعيين بطلبات «حرية تداول المعلومات» التي أسفرت عن الإفراج عن آلاف الرسائل الإلكترونية، وما صاحب ذلك من مجادلات إعلامية.43 تتبنَّى هذه الجمعية أيضًا موقفًا متطرفًا معاديًا للعلم تجاه الطب التقليدي؛ فقد نشرت مطبوعات تدَّعي أن تطعيمات الأطفال تسبب التوحُّد،44 وأن المُعالَجة المِثليَّة يمكن أن تحمي من الإنفلونزا، وتُروِّج لحقن فيتامين (ج) في الوريد بهدف علاج الإيبولا.45 وتصرح إحدى الصفحات على الموقع الإلكتروني لجمعية مستهلكي الأغذية العضوية بأن «من المهم أن تعرف كيف تحمي نفسك وأولادك بالمعالجة المثلية والبدائل الطبيعية للتطعيمات، لتُعِد مناعتك الطبيعية ضد إنفلونزا الخنازير.»46
غير أن أهم إسهام طويل المدى أسهم به ريفكين في انتشار الحملة تمثَّل قطعًا في استقطاب منظمة السلام الأخضر لمناصرة قضية مناهضة الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا. وعلى غرار الكثير من الأحداث المهمة، حدث هذا بالصدفة تقريبًا عندما التقى ريفكين في اجتماع غير مدبَّر بناشط ألماني يُدعى بيني هيرلين في عام ١٩٨٦. كان لهيرلين جذورٌ راديكالية خالصة؛ إذ كان عضوًا نشطًا في حركة الاستيلاء على المنازل بغير حق في برلين في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، واعتُقل بتُهمٍ متعلقة بالإرهاب بعد أن نشرت مجلته «راديكال» بيانات رسمية (مانيفستو) أصدرتها جماعة «الخلايا الثورية»، وهي جماعة أناركية سرية كانت مسئولة عن التفجيرات وعمليات اختطاف الطائرات في العقود السابقة. وفور إطلاق سراح هيرلين، عيَّنه الحزب الأخضر الألماني، الذي كان يشهد نجاحًا متزايدًا وصار عضوًا في البرلمان الأوروبي.47 التقى هيرلين بريفكين لأول مرة بصفته عضوًا في البرلمان الأوروبي والحزب الأخضر. وفي زيارة إلى الولايات المتحدة في عام ١٩٨٦، التقى هيرلين بليندا بولارد، إحدى الموظفات المثاليات في مؤسسة الاتجاهات الاقتصادية المملوكة لريفكين. وجمعت بولارد، التي صارت فيما بعد رئيسة الاتحاد الدولي للحركات العضوية، ريفكين وهيرلين معًا. تحول هيرلين إلى قضية معارضةِ التكنولوجيا الحيوية بفضل ترويج ريفكين للفكرة، وصار هيرلين الصوت القيادي المعارِض للهندسة الوراثية في البرلمان الأوروبي.48
تبين أن وصول الشحنة الأولى من المواد الغذائية المُعدَّلة وراثيًّا إلى أوروبا في عام ١٩٩٦ كان نقطة تحوُّل انطلقت بالحركة المناهضة للهندسة الوراثية إلى آفاق الشهرة العالمية. وكما كتب شورمان ومونرو: «لعل أكثر شخص أدرك بوضوح الفرصة المواتية هو بيني هيرلين، العضو السابق بالبرلمان الأوروبي عن الحزب الأخضر الألماني، الذي أخذ يعمل للتصدي للتكنولوجيا الحيوية على مدى عقد من الزمن. ففي صيف عام ١٩٩٦، كان هيرلين ينسق حملة لمكافحة السموم لصالح منظمة السلام الأخضر العالمية حين تلقى مكالمة هاتفية من موظفٍ تنفيذي لسلسلة سوبر ماركت ألمانية فاخرة تُدعى تنجلمان.»49 أخبر مدير السوبر ماركت هيرلين بأنه علم أن أول شحنة من الأغذية المُعدَّلة وراثيًّا بصدد الوصول إلى أوروبا في وقت لاحق من هذا العام، وأراد أن يعرف ما إذا كانت منظمة السلام الأخضر سيكون لديها مشكلة في ذلك أم لا. في ذلك الوقت، لم يكن لدى المنظمة أي حملات مناهضة للأغذية المُعدَّلة وراثيًّا قيد التنفيذ، إلا أن هيرلين أخبر المتصل — بعد تفكير سريع — بأن المنظمة سيكون لديها مشكلة مع المواد الغذائية الجديدة بالتأكيد. وما إن أنهى الاتصال حتى بدأ على الفور في تنظيم حملة.
وكما يحكي دان تشارلز:
«أقنع هيرلين منظمة السلام الأخضر بأن هذه اللحظة لحظة حاسمة للترويج لقضية الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا وأقنع المنظمة بتعيين خمسة عشر شخصًا في منصب منظِّم بدوام كامل لخدمة القضية. وعندما وصلت السفن المحملة بالمحاصيل إلى المواني الأوروبية، كان نشطاء منظمة السلام الأخضر في حالة تأهب وانتظار … انتشر النشطاء بأعداد غفيرة على السفن، وقاموا بمنعها مؤقتًا من الرُّسُوِّ في الميناء، ورفعوا لافتات تدعو إلى حظر استيراد الأغذية المُعدَّلة وراثيًّا».50

كما شنت جمعية أصدقاء الأرض حملة دولية كبرى ضد الأغذية المُعدَّلة وراثيًّا بدءًا من عام ١٩٩٦.

ووفقًا لدان تشارلز، فبالرغم من الإجراءات التي اتخذتها منظمة السلام الأخضر، ظنت شركة مونسانتو في البداية أنها أحرزت انتصارًا. «بدا أن عددًا قليلًا فقط ألقى بالًا للأمر في معظم أنحاء أوروبا. وحتى في ألمانيا والدنمارك وهولندا، وهي معاقل المعارضة السابقة للتكنولوجيا الحيوية، لم تستطع منظمة السلام الأخضر إثارة رد فعل جماهيري كبير … وجاء رد فعل الجزء الجنوبي من القارة الأوروبية في إيطاليا وإسبانيا وفرنسا أقل حدة.»51 فوجئت منظمة السلام الأخضر أيضًا بحجم انتشار بذور صويا «راوند أب ريدي» بين المزارعين الأمريكيين. ومع وصول ما يتراوح بين ثلث ونصف الشحنات المحملة بالصويا المُعدَّلة وراثيًّا، يتذكر أحد العاملين بشركة مونسانتو فيما بعد قائلًا: «كان رد فعل بوب شابيرو [الرئيس التنفيذي لشركة مونسانتو] هو أن المعركة قد انتهت وفزنا بها.» ولكن إذا كان شابيرو يتطلع إلى ألمانيا أو فرنسا أو هولندا لقياس رد الفعل الجماهيري تجاه التكنولوجيا الحيوية، فقد كان تركيزه على الهدف الخاطئ. فقد كانت زوبعة المعارضة بصدد الانبثاق ليس من فرنسا أو بروكسل، وإنما من لندن. وكما ذكرت بالتفصيل في الفصل الأول، صارت المملكة المتحدة في مركز الحركة العالمية المعارِضة للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا.
في عام ١٩٩٦، بينما باءت محاولات فرض وضع مُلصَقات تعريفية على الأغذية المعدَّلة وراثيًّا في أوروبا بالفشل بسبب عدم الاكتراث بالأمر،52 بعد مرور أربع سنوات — بعدما اكتسبت الحملة المناهضة للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا في المملكة المتحدة طابع العالمية — خشي الاتحاد الأوروبي من فرض تعليق رسمي ذاتي لجميع الموافقات على الأغذية المُعدَّلة وراثيًّا. وعندما عُرضت مسألة وضع الملصَق أمام البرلمان الأوروبي مجددًا في العام التالي، أجاز مجلس النواب ما أُطلق عليه حينها «أقسى تشريع للتعديل الوراثي في العالم» بأغلبية ساحقة بلغت ٣٣٨ صوتًا مقابل ٥٢ صوتًا.53 في فرنسا، دمر جوزيف بوفيه، المزارع والناشط الفرنسي، الذي يبدو أن شاربه الشبيه بشارب شخصية أستريكس الهزلية كان رمزًا لمطلبه الشَّعبَوي الفرنسي للطعام التقليدي، محصول الأرز المُعدَّل وراثيًّا في مدينة مونبلييه في عام ١٩٩٩.54 وتحولت فرنسا لتصير إحدى الدول الأكثر تصميمًا على إخلائها من الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا على مستوى أوروبا بأكملها. وفي تلك الأثناء، نفذت حركةٌ راديكالية للمزارعين بولاية كارناتاكا الهندية احتجاجًا مُعلَنًا باسم «عملية إحراق مونسانتو» تنفيذًا حرفيًّا، من خلال إحراق حقل تجريبي لزراعة قطن مونسانتو المُعدَّل وراثيًّا والمقاوم للآفات بالكامل في ٢٨ نوفمبر عام ١٩٩٨.55 وأُحرق ثلاثة حقول أخرى خلال الشهر التالي. وأضرم مفتعلو الحرائق النيران في إيطاليا أيضًا، حيث أُحرق مخزن لبذور مونسانتو في أبريل من عام ٢٠٠١، وبطلاء مرشوش على أحد الحوائط كُتب: «مونسانتو قاتلة: لا للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا».56
أسفرت الحملات المناهضة، والتأييد الإعلامي الواسع الذي تلقته، عن انخفاض هائل للتأييد الشعبي للتكنولوجيا الحيوية. ففي بريطانيا وفرنسا، ارتفعت نسبة السكان المعارضين للأغذية المُعدلة وراثيًّا بمقدار ٢٠ نقطة بين عامي ١٩٩٦ و١٩٩٩.57 وعلى الرغم من تفاوت التأثيرات، تزايدت المُعارضة في جميع الدول الأوروبية. وفي المجمل، ظل خُمس سكان أوروبا الغربية فقط مؤيِّدين للأغذية المُعدَّلة وراثيًّا، وهو ما يُعَد تحوُّلًا جذريًّا عما كان عليه الحال قبل بضع سنوات فقط، حين كان أغلب الناس إما مؤيدين بصورة عامة أو غير مُهتمِّين. واستجابةً لتزايد المخاوف، وضع الاتحاد الأوروبي عمليةً تنظيمية معقدة كانت «تستند إلى العملية» نفسها، لا «المنتج»؛ بعبارة أخرى، كانت هذه العملية تركز على الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا القائمة على عملية التكاثر الجُزَيئي دون الالتفات إلى أي اختلاف ملموس في المواد الغذائية الناتجة. كان في مقدور المزارعين أن يواصلوا الاستعانة بالطرق العشوائية التقليدية، مثل إحداث الطفرات أو التطفير، الذي استُبعد على وجه التحديد من اللوائح الجديدة، رغم أنها ربما يكون لها تأثيرات مهمة على الكيمياء الحيوية للمحاصيل المستهدفة. ولكن لو استخدم خبراء علم الأحياء الجزيئي تقنية الهندسة الوراثية الأدق، لطُلب منهم تقديم ١٣ فئة منفصلة من البيانات الفنية، التي تتألف عادةً من مئات الصفحات، ويتكلف جمعها عشرات الملايين من الدولارات.

سمح النظام الرقابي أيضًا بإجراء عمليات تصويت سياسية من جانب الدول الأعضاء؛ إذ علقت الطلبات لسنوات، بل لعقود، مع احتدام الجدال في مجلس وزراء الاتحاد الأوروبي. ومارس النشطاء ضغوطًا على الدول المشكِّكة في المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا، من خلال الاستعانة بأنظمة الاتحاد الأوروبي المعقدة للحصول على الموافقات لإبطاء دخول هذه المحاصيل وحظرها في النهاية. فمنذ عام ١٩٩٨ وحتى يومنا هذا، ظلت عملية الحصول على الموافقة شبه متوقفة. ونظرًا للتردُّد المعتاد من قِبل الدول الأوروبية في اتخاذ قرار في مواجهة العداء الجماهيري المتوقَّع، ظلت هذه الدول تطالب بالمزيد من البيانات في كل مرة يوصي فيها العلماء بالهيئة الأوروبية لسلامة الأغذية بالموافقة على طلب بإجازة محصولٍ معدَّل وراثيًّا. واستمر الأمر على هذا المنوال، بتداول طلبات الاعتماد في بروكسل مثل كرة في ملعب اسكواش (ولكن ببطء أشد بكثير). وبعد مرور ما يقرب من ٢٠ عامًا، وتحديدًا في عام ٢٠١٧، لم تَصدُر الموافقة على أي محصول معدَّل وراثيًّا لزراعته محليًّا. وبفضل الصعود المفاجئ للحركة المناهضة للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا، أغلقت أوروبا أبوابها أمام التكنولوجيا الحيوية في عام ١٩٩٨ وأبقتها مغلقة منذ ذلك الحين.

•••

مع احتدام الجدل حول التكنولوجيا الحيوية، بدأ الاتجاه إلى ضخ مزيدٍ من الأموال لمواجهة الموقف. ففي عام ١٩٩٧، أطلقت المؤسسات المانحة في الولايات المتحدة الأمريكية مبادرة «فريق عمل مُمَولي التكنولوجيا الحيوية»، التي خصصت خلال السنوات الثلاث التالية ما بين مليونين وثلاثة ملايين دولار للنشاط المناهض للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا للمساعدة في دعم الائتلافات الجديدة التي جمعت العديد من المجموعات والفرق المختلفة معًا. غير أن هذا المبلغ ظل ضئيلًا مقارنةً بالموارد المتاحة لمؤيدي صناعة التكنولوجيا الحيوية؛ إذ جمعت شركتا نوفارتس ومونسانتو وغيرهما من الشركات العملاقة في هذا المجال الموارد لتأسيس مجلس معلومات التكنولوجيا الحيوية في عام ١٩٩٩، بميزانية سنوية تتراوح بين ٣٠ و٥٠ مليون دولار، وهو ما يعادل عشرة أضعاف ما كان مُتاحًا للجماعات الناشطة.58 كذلك كانت الشركات تحظى بالفعل بدعم «منظمة الابتكار في التكنولوجيا الحيوية» و«رابطة مُصنِّعي منتجات البقالة»، وكلتاهما من جماعات الضغط بواشنطن ذات الموظفين الأكْفَاء والعلاقات النافذة.
على الجانب الآخر، بدأت ماري روكفلر مورجان، وريثة ثروة روكفلر النفطية، في دعم الحركة المناهضة للتكنولوجيا الحيوية الصاعدة بدايةً من أواخر تسعينيات القرن العشرين فصاعدًا. وساور المتبرعين والنشطاء القلقُ من أن الحملة الأوروبية المناهضة للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا، التي وصلت إلى ذروتها في أواخر تسعينيات القرن العشرين، مرت مرور الكرام على الولايات المتحدة. وتنقل وثيقةُ عام ٢٠٠١‎59 عن كريس ديسر، منسق مبادرة «فريق عمل مُمَولي التكنولوجيا الحيوية» قوله: «النشطاء يقومون بأعمال جيدة، ولكن ليس لديهم المال لنشر الوعي.» وفي محاولة لتغيير ذلك، كتبت ماري روكفلر مورجان رسالة إلى أفراد الأسرة الآخرين، وأطلقت مبادرة «التعاون ضد الأغذية المُعدَّلة وراثيًّا» في عام ١٩٩٨ بالمشاركة مع ستة آخرين من ورثة روكفلر.

كان أحد المستفيدين من هذا الجهد لجمع التبرعات هو مركز سلامة الغذاء الذي أسسه أندرو كيمبريل، مما ساعد المركز على أن ينمو سريعًا ويصير الركيزة الأساسية للحركة المناهضة للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا في الولايات المتحدة على مدى العقدين التاليين. تلقى المركز تبرعات بلغت نصف مليون دولار بين عامي ٢٠٠٢ و٢٠١١ من مؤسسة روكفلر فيلانثروبي أدفَيزورز، وثلاثة ملايين دولار أخرى من حملة «كورنرستون المدعومة من مؤسسة روكفلر». ووفقًا لعائدات ضرائبه، اجتازت الإيرادات السنوية حد الخمسة ملايين دولار، ولدى مركز سلامة الغذاء اليوم أكثر من ٣٠ موظفًا ومكاتب في سان فرانسسكو وبورتلاند وهونولولو، بالإضافة إلى مقارِّه في واشنطن العاصمة. إجمالًا، جمع مركز سلامة الغذاء ١٦ مليون دولار على نحوٍ تراكُمي على مدى خمس سنوات من ٢٠٠٩ إلى ٢٠١٤، ينفق منها ما يزيد على ثُلث مليون دولار سنويًّا على أنشطة الضغط السياسي.

كان أحد المدافعين الأوائل عن القضايا المعنية بمناهضة الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا هو دوجلاس تومكينز، المليونير الراحل الذي يُعتبَر أحد أقطاب صناعة الملابس، والذي صار متخصصًا في علم البيئة المتقدم. كان أولُ إسهامات تومكينز في عام ١٩٩٨ هو تمويلًا — بلغ نحو نصف مليون دولار على مدى السنوات الأربع التالية — لثاني كتب كيمبريل بعنوان: «الحصاد المُهلِك: مأساة الزراعة الصناعية»، الذي جمع مساهماتٍ من مناهضي الزراعة الحديثة، بدايةً من الشاعر السابق وينديل بيري وصولًا إلى الناشطة المناهضة للعولمة هيلينا نوربرج-هودج والهندية فاندانا شيفا الداعية إلى الحملات المناهضة للتكنولوجيا الحيوية. وبوصفه أحد المتحمسين الأوائل لعلم البيئة المتقدم، كان تومكينز شديد الانتقاد (على حد تعبير مؤسسة علم البيئة المتقدم — «فونديشن فور ديب إيكولوجي» — التي أسَّسها) «للثقافة الصناعية، ذات النماذج الإنمائية التي لا ترى الأرضَ سوى مواد خام تُستغل لإشباع الحاجة إلى الاستهلاك والإنتاج، ليس فقط من أجل تلبية احتياجاتٍ حيوية، وإنما من أجل تلبية رغبات مُتَضخِّمة يتطلب إشباعها المزيد والمزيد من الاستهلاك.»60 ويضيف الكتاب الصادر عن المؤسسة بعنوان: «عملٌ قيد التنفيذ»: «المجتمع الحديث شغوف بالتكنولوجيا ويتقبَّل التقنيات الجديدة دون تمحيص. وبمرور الوقت، يتضح غالبًا أنه كان من الأسلم تجنُّب تطوير تلك التقنية أو نشرها. من السهل الآن تخيُّل كيف كان العالم سيصبح أفضل من دون التكنولوجيا النووية، والثورة الخضراء في الزراعة، والبارود، والتليفزيون، ومحركات الاحتراق الداخلي، وهلم جرًّا.»61
تلقى مركز سلامة الغذاء الذي أسسه كيمبريل مليونًا و٦٧٠ ألف دولار من مؤسسة علم البيئة المتقدِّم التي أسسها دوجلاس تومكينز بين عامي ١٩٩٦ و٢٠٠٣، ليأتي في المرتبة الثانية بين الجهات المستفيدة بعد مؤسسة الاتجاهات الاقتصادية — المملوكة لمدير المركز السابق جيريمي ريفكين — التي تلقت مليونًا و٨١٢ ألف دولار في الفترة نفسها.62 ساهم تومكينز بما يزيد على مليون دولار لسلسلة إعلانات بحجم صفحة كاملة نُشرت في صحيفة «نيويورك تايمز» خلال عام ١٩٩٩، تُحذِّر بطرق مختلفة من مخاطر العَولَمة، وتنتقد التكنولوجيا المتقدمة، وتُندِّد ﺑ «المقامرة الجينية» التي تديرها التكنولوجيا الحيوية للمحاصيل.٢ وضع تومكينز فيما بعد غالبية ثروته في شراء مساحة كبيرة من برية باتاجونيا والحفاظ عليها، الآن تتخذها تشيلي مُتنزَهًا وطنيًّا، ويُسمى مُتَنزه بومالين.
إن القصة الخاصة بحجم التبرعات ووجهتِها قصة ذاتُ أهمية؛ بسبب الروايات المتضاربة لمختلف جوانب الجدال الدائر حول الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا بين الأطراف المستضعَفة والمتجبِّرة في هذا الصراع. ففي حين يتحسَّر النشطاء على الدعم المالي الضخم والسلطة السياسية المتاحة لشركات مثل مونسانتو وجماعات الضغط المرتبطة بها التابعة للقطاع الخاص، يقابل المؤيدون للتكنولوجيا الحيوية هذا بمئات الملايين من الدولارات التي تصُبُّ في الوقت الحالي في جعبة الحركة البيئية الأوسع نطاقًا. ومع دخول الشركات الكبرى مثل شركة هول فودز ومجال الأغذية العضوية الأوسع نطاقًا إلى ساحة القتال، فربما تكون الصورة الحقيقية اليوم أشبه بمعركة عمالقة ضد عمالقة من كونها معركة ضد الحركات الشعبية التي أتذكرها من تسعينيات القرن العشرين. فقد أعلنت منظمة السلام الأخضر أن إجمالي النفقات قد وصل إلى ٣٢١ يورو في عام ٢٠١٥،63 وإن كان ما أنفق على الحملات المناهضة للتعديل الوراثي يمثل نسبة ضئيلة فقط من هذا المبلغ. يحقق قطاع الأغذية العضوية الآن إجمالي مبيعات عالمية يربو على ٦٠ مليون دولار سنويًّا، وتشدد استراتيجيات التسويق لقطاع الأغذية العضوية بقوة على غياب التعديل الوراثي في منتجاته.64 وتوصَّل تحليل أجراه استشاري مؤيد للتكنولوجيا الحيوية إلى النتيجة التالية: «تشارك نحو ٣٠٠ منظمة رسمية وغير رسمية، يبلغ إجمالي نفقاتها السنوية ٢٫٤ مليار دولار، في تأييد الدعوة المناهضة للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا في أمريكا الشمالية.»65
أعدت جمعية أصدقاء الأرض، التي تقف على الجانب المناهض للتكنولوجيا الحيوية من النقاش، تقريرًا في عام ٢٠١٥ بعنوان: «التضليل في الغذاء: كيف تشكل جماعات الواجهة والاتصالات الخفية في قطاع صناعة الأغذية قصة الغذاء».66 وخلص هذا التقرير إلى ما يلي: «أنفق قطاع الأغذية الصناعية والقطاع الزراعي مئات الملايين من الدولارات من عام ٢٠٠٩ إلى ٢٠١٣ على الجهود المبذولة في مجال الاتصالات لاستقطاب الإعلام، وتوجيه سلوك المستهلكين، ودفع الأجندة السياسية.» وقد شمل هذا «إنفاق ١٢٦ مليون دولار من قِبل ١٤ جماعة تعمل كواجهة في مجال صناعة الأغذية»، مثل تحالف المزارعين وأصحاب المزارع الأمريكيين وائتلاف الغذاء الآمن الميسور التكلفة، والأخير أسسته رابطة مُصنِّعي منتجات البِقالة لمحاربة ملصقات الأغذية المُعدَّلة وراثيًّا. وشملت أرقام جمعية أصدقاء الأرض «أكثر من ٦٠٠ مليون دولار أنفقتها أربع نقابات مهنية — كروب لايف أمريكا، وبايو، ورابطة مصنعي منتجات البقالة، ومعهد اللحوم الأمريكية — تؤيد الأجندات الخاصة بالشركات المنتجة للمبيدات الحشرية والتكنولوجيا الحيوية والأغذية التقليدية وتدافع عنها.» وأضاف التقرير أنه «في عام ٢٠١٣ أنفقت مونسانتو وحدها ٩٥ مليون دولار على التسويق.»
لست هنا بصدد تقديم أي استنتاجات قاطعة باستثناء الإقرار بأنني أيضًا لديَّ مصلحة مالية في هذه المسألة. فبينما لم أتلقَّ تعويضًا ماليًّا من شركة مونسانتو قط، أو من أي شركة أخرى في مجال التكنولوجيا الحيوية، تعاونتُ مع مشروع مبادرة «آليانس فور ساينس» بجامعة كورنيل لمدة ثلاث سنوات حتى عام ٢٠١٧، الذي تأسس في عام ٢٠١٤ بمنحة مبدئية تبلغ ٥٫٦ مليون دولار من مؤسسة بيل آند مليندا جيتس (وتجددت بمنحة لاحقة بلغت ٦٫٤ مليون دولار في عام ٢٠١٧). وألقيت أيضًا خُطبًا مدفوعة الأجر أمام جمعيات زراعية في الولايات المتحدة وكندا؛ وكان ذلك يتم في الشهور الأخيرة عادةً خلال شهري يناير وفبراير اللذين يشهدان نشاطًا زراعيًّا هادئًا على الرغم من البرودة القارصة في أماكن نائية مثل بورتاج لابريري في مانيتوبا. أذكر بشكل خاص الفعالية الأخيرة، والتي أظن أنها كانت مؤتمرًا لمزارعي البطاطس؛ لأنها كانت المرة الوحيدة التي شهدتُ فيها درجة حرارة تبلغ سالب ٤٠ درجة مئوية، أثناء جولة سريعة حول الحي وهو ما كاد أن يكلفني أنفي وشحمتَي أذني. كلنا بحاجة إلى المال؛ الشيء المهم هو الشفافية، حتى لا يتم التعتيم على تضارب المصالح ويستطيع الجميع أن يعرفوا الجهات المساندة لكل فريق.٣

خلاصة القول، لقد مرت الحركة المناهضة للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا حتمًا بواحدة من أكثر التقلُّبات الصادمة على مر تاريخ حركة النشاط المدني. فبالرغم من المخاوف الأولى لروادها العِلميين في سبعينيات القرن العشرين، بدا للعالم أجمعه بحلول منتصف تسعينيات القرن كما لو أن المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا ستكون بداية ثورة جديدة من شأنها أن تُغير وجه الزراعة على مستوى العالم. توقعت شركة مونسانتو وغيرها من عمالقة التكنولوجيا الحيوية بكل ثقة أن محاصيل القمح والأرز والبطاطس المُعدَّلة وراثيًّا — بل جميع المحاصيل الغذائية الأساسية في العالم — ستكون في المزارع وعلى موائد الطعام خلال بضع سنوات. ولكن لم يحدث هذا. وبدلًا من ذلك، اقتصر تأثير التكنولوجيا الحيوية النباتية على بضعة محاصيل فقط — باستثناء قطن بي تي والكانولا في أستراليا وبعض المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا المزروعة على نطاق محدود جدًّا لصالح الفقراء مثل باذنجان بي تي والذُّرة في الدول النامية — واقتصر هذا التأثير على الشركات الزراعية الكبرى في أمريكا الشمالية والجنوبية. بخلاف ذلك، رفضت أوروبا وآسيا وأفريقيا وأستراليا دخول المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا إليها.

اليوم، وصل الموقف إلى حالة من الجمود على مستوى العالم بأسره. لم تختفِ المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا من الساحة، غير أن أي تحركاتٍ نحو إدخال محاصيل جديدة أو اقتحام أي مناطق جديدة يلقى معارضة شديدة. يشبه الأمر، بالنسبة إليَّ، الحرب العالمية الأولى إبان عام ١٩١٦ تقريبًا. فقد وقعت المعارك المهمة الأولى بالفعل دون أن ينتصر أحد. تظهر جبهات قتال جديدة ثم تختفي، ولكن موضع الخنادق لا يتغير إلا بالكاد من عام إلى آخر. لجأ كلا الفريقين — فيما أصبح حرب استنزاف مطولة — إلى تكتيكات خداعية، وقاما بشيطنة خصومهما في الحملات الدعائية. وعاجلًا أو آجلًا سيكون هناك مفاوضات سلام وهدنة، ولكن في غضون ذلك، كم عام يجب أن نخسر حتى يتحقق ذلك؟ بالتأكيد، يجب أن تكون الخطوة الأولى هي فهم خصومك، والاعتراف بعدالة قضيتهم إلى أقصى حد ممكن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤