الفصل التاسع

كيف يفكر أنصار البيئة

إذن هل يجب فرض أي قيود على الهندسة الوراثية؟ بالطبع، مثلما يجب فرض قيود على أي صورة من صور التدخُّل البشري في العالم من حولنا. غير أن الموضع الدقيق الذي يجب عنده فرض هذه القيود هو مسألة أخلاقية أكثر منها عِلمية. فغالبًا ما يكون الأمر متعلقًا بالمقصد والنية أكثر من التفسير، والعلم يتولى المسألة الأخيرة على نحو أفضل من الأولى. فلم أسمع من قبل أحدًا يقترح جديًّا ضرورة الشروع في الاستعانة بالهندسة الوراثية للخط الجنسي البشري، إلا باستثناء وحيد، هو استخدامه في التخلُّص من الأمراض الوراثية الخطيرة أو الفتَّاكة. ويبدو في حكم المؤكد أنه لا يوجد احتمال قريب المدى للانزلاق نحو تحسين النسل الانتقائي من منظور العِرق الآرى الذي طالما حذر منه جيريمي ريفكين. بالطبع يجب أن نبقى جميعًا حذِرين ويقظين، ولكن من مُنطلَق أن معظم الأشخاص المحترمين يؤمنون بفكرة أن إتاحة الانتقاء الوراثي للأطفال ذوي الشَّعر الأشقر والعيون الزرقاء هي فكرة مُشينة ومرفوضة أخلاقيًّا. فالسماح بذلك يُعَد تعدِّيًا على قيمة مقدسة يؤمن بها مجتمعنا بأكمله، وهي احترام القيمة المتأصلة لحياة الإنسان.

يمتد هذا التمسك بالقيم المقدسة أيضًا ليشمل الجمادات؛ فمَن منا يرضى بتدمير جبل إل كابيتان الذي نحته نهر جليدي في مُتَنَزَّه يوسميتي الوطني، حتى وإن اكتُشفت صدفةً طبقةٌ من الذهب تُقدر بمليارات الدولارات داخل الجرانيت الذي يتكون منه هذا الجبل؟ حينما أقرأ عن قطع الغابات البدائية أو عن قتل الحيتان، ينتابني نفس الشعور بالسخط الأخلاقي لتدمير كنوز ثمينة بهذا القدر من الاستهتار والرعونة. كذلك يمتد الشعور بالتوقير والإجلال الذي يتشاركه معظمنا ليشمل التراث الإنساني القَيِّم والآثار القديمة. أتذكر شعوري باشمئزاز بلغ حد الغثيان عندما قرأت عن تدمير جماعة داعش الإرهابية لأطلال حضارة تَدمُر العريقة في سوريا جرَّاء نسفها بالمتفجرات. كان تجَرُّؤ أي شخص على تدمير أي جزء من تراث البشرية جمعاء عمدًا وبلا رحمة يبدو انحطاطًا لإنسانيتنا الجمعية، تمامًا كجرائم الحرب والتطهير العِرقي. لكن الإرهاب يستمِدُّ قوته وتأثيره النفسي من خرْق المعايير الأخلاقية السائدة بأبشع الطرق، من خلال استهداف الأبرياء كأطفال المدارس أو جماهير الحفلات الموسيقية مثلًا، أو عن طريق تدمير القطع الأثرية العريقة التي لا تُعوَّض.

إن مدى احترامنا للحدود الطبيعية، كتلك الحدود القائمة بين الأنواع الحية، هو جزء صميمٌ من الجدل الأخلاقي الدائر حول الهندسة الوراثية. أتذكَّر ما أخبرني به صديقي بول كينجزنورث حينما قال: «أعتقد أن ثمة حدودًا يجب ألا نتخطاها»، وهو مدرك تمامًا أن ما قاله لا يعبر عن موقف منطقي أو علمي أو حتى موقف ثابت؛ إذ اعترف بأننا «تجاوزنا المئات» من تلك الحدود بالفعل، وأنه استفاد شخصيًّا من ذلك الأمر. ولكن كانت هذه بالنسبة إليه مسألة «أخلاقية» و«روحانية». أعتقد أن القضية هنا تتعلق بتقدير «سلامة» ما هو موجود بالفعل — سواء في العالم الطبيعي أو ما صنعه القدماء — وعدم الرغبة في امتهانه والحط من قدره بمزيد من التغيير البشري. وعلى المستوى الشخصي أنا أكثر استعدادًا من بول لرؤية المزيد من تخطِّي الحدود، ولكن ليس لأغراض واهية أو غير ضرورية. ولا أظن أنه سيكون هناك دومًا انزلاق أو انحدار، ولا أرى أننا يجب أن نعوق الابتكارات التي يمكن أن تحقق أهدافًا مفيدة لبعض مَن يحتاجون إليها من منطلق هذا الخوف. غير أنني أقر بوجود قدسية للعالم الطبيعي، ومثل بول، لا أوَدُّ أن يتسع نطاق التدخل أو التغيير البشري ليشمل كل شيء بحيث لا يتبقى أي شيء من الطبيعة.

وقد عبَّر الراحل ستيفن جاي جولد، اختصاصي علم الأحياء التطوُّري، عن تلك النقطة بدقة في مقال كتبه عام ١٩٨٥، بعنوان «السلامة والسيد ريفكين». انتقد المقال في معظمه — كما يوحي العنوان — موقف جيريمي ريفكين من الهندسة الوراثية. فقد كتب جولد يقول: «إن عالمنا سيصبح مكانًا مُوحِشًا إذا تعاملنا مع الكائنات الحية باعتبارها مجرد سلاسل معلومات يمكن فصلها، وقابلة للتفكيك وإعادة التكوين بأي ترتيب يوافق أهواء الإنسان.» ولكنه ذهب إلى أنه بدلًا من مواجهة المخاوف الحقيقية والتعامل معها، اختار المعارضون، مثل ريفكين، «تبَنِّي موقف متطرف يُجرِّم الأبحاث العلمية الإنسانية والرائعة … لا أفهم السبب وراء رفض الهندسة الوراثية برُمَّتها لمجرد احتمال أن تقنيتها قد تسمح يومًا ما بإفساد الأخلاق على يد هتلر جديد قد يظهر في المستقبل؛ فبالمنطق نفسه سيكون علينا أن نجرِّم الطباعة؛ لأن الآلة نفسها التي تطبع أعمال شكسبير يمكنها أيضًا أن تطبع كتاب «كفاحي» … إن نظرية الدومينو لا تنطبق على جميع الإنجازات البشرية. وإذا كان باستطاعتنا أن نزوِّد محصولًا غذائيًّا مُهمًّا بالقدرة على مقاومة الأمراض أو المناخ البارد عن طريق زرع جين بكتيري ما، فهل يجب أن نتخلى عن القيام بذلك في عالمٍ يُعاني فيه الناس من سوء التغذية أشد المعاناة؟»

إن الفكرة التي يتناولها جولد هنا تتعلق بالموازنة بين القُدسية والمنفعة. ولكن في بعض الأحيان تكون هذه الموازنة خاطئة، وأجد نفسي أُعارِض أيضًا التدخل التكنولوجي في الطبيعة. وكمثال حديث العهد، بعد فترة قصيرة من خطبتي التي ألقيتُها في أكسفورد عام ٢٠١٣، تلقيتُ رسالةً إلكترونية من شخص يُدعَى أنطوني إيفانز يخبرني فيها عن حملة للتمويل الجماعي أطلقتها شركة كيك ستارتر. كان يبحث عن الدعم لمشروعٍ في مجال علم الأحياء التخليقي «يهدف إلى إنتاج نبات مضيء والبدء في رحلة استبدال أشجار مضيئة بمصابيح إنارة الشوارع». وكان عنوان الصفحة الإلكترونية «النباتات المضيئة: إضاءة طبيعية دون كهرباء».1 كان واضحًا أن تلك الخطوة «ستكون الأولى على طريق خلق إضاءة طبيعية مستدامة» — وهو ما اعتقد إيفانز أنه سيروق لي باعتباري مدافعًا عن الطاقة المستدامة ومؤيدًا مستجدًّا للهندسة الوراثية. كتب إيفانز يقول: «ربما لن تندهش إن علمت أننا قُوبِلنا بالمعارضة من جانب مجموعة «إي تي سي جروب» وجمعية أصدقاء الأرض اللَّتَين تنظمان حملة لإيقاف مشروعنا.»
غير أنني لم أرفض دعم مشروعه فحسب، بل كتبت له أيضًا ردًّا مفاده أنني أرى أن احتمال استبدال الأشجار المضيئة بمصابيح إنارة الشوارع سيكون أمرًا مُروِّعًا للغاية. وقد رصدت حملة «مجموعة إي تي سي» ضد النباتات المضيئة عدة مخاطر محتمَلة لما وصفوه ﺑ «الإطلاق البيئي المتعمَّد الأول من نوعه على مستوى العالم لكائن حي ناتج صراحةً عن «علم الأحياء التخليقي».»2 إن هذه الحُجج العقلانية قد تكون أو لا تكون صحيحة من الناحية الواقعية، إلا أنني أراها قد انحرفت عن جوهر القضية. إن رد فعلي، والدافع الأعمق وراء ردود فعل كلٍّ من مجموعة إي تي سي وجمعية أصدقاء الأرض حسبما أظن، اتسما بقدر أكبر من الجوهرية؛ فقد مثَّلا مقتًا أخلاقيًّا بديهيًّا لفكرة تلاعب مَن يصفون أنفسهم ﺑ «قراصنة الأحياء» في جوهر الكائنات الحية لغرضٍ أفضل ما يوصف به أنه تافهٌ، بل مبتذَل. كانت رؤية أشجار مضيئة في شوارعنا، في رأيي، ما هو إلا تشويه وإقحام للخُدع البشرية — «الغلاف التقني» الذي تحدث عنه كيركباتريك سيل — في جانبٍ آخر من جوانب حياتنا.

لا أستطيع أن أنكر احتمال وجود تناقض هنا بين ما نعرف أنه دقيق من الناحية الواقعية وما نعتقد أنه صحيح من الناحية الأخلاقية. أعلم أن استخدامي لمصطلح «جوهر الكائنات الحية» سيثير ردود فعل غاضبة بين أصدقائي في المجتمع العلمي، وبين علماء الأحياء خاصةً، الذين سيوضحون أنه لا يوجد ما يُسمى بذلك ويتهمونني بالروحانية الفاسدة حسب تعبير ريتشارد دوكينز بالحرف الواحد. فالأنواع الحية ليس لها أي «جوهر» يمكن إثباته، بخلاف التَّتابُعات المختلفة للحمض النووي في الجينوم الخاص بها والاختلافات النمطية الظاهرية في الكائن الحي الناتج. وأنا أعلم أيضًا أن هذا صحيح علميًّا، لكن من الصعب استخدام تلك المعرفة أساسًا لجميع الأحكام الأخلاقية المنطقية. ولا أعرف أي عالم من شأنه أن يذهب إلى أننا يجب أن نُطبِّق الهندسة الوراثية بين الأنواع المختلفة بلا رقابة أو ضبط. فاشتراك النمل والبشر في الجينات ونظام تشفير الحمض النووي نفسه لا يعني وجود تكافؤ أخلاقي في القيمة النسبية لحياة الإنسان والنملة.

إن رد الفعل العاطفي تجاه أمر ما، والاسترشاد به أخلاقيًّا، ربما يبدو محرجًا لنا أو غير لائق بنا نحن «الكَميِّين». وعلى أي حال، غالبًا ما يسخر دعاة حملات تأييد التعديل الوراثي من معارضيهم تحديدًا لنفس خطيئة «اللاعقلانية» تلك. ولكن أليست أخلاقياتنا سوى استجابات بديهية مدفوعة بالعاطفة تجاه التحدِّيات التي يواجهها العالم من حولنا؟ إن هذا الحس الأخلاقي يستثار بصفة خاصة عند حدوث صدام بين ما هو مقدس وما هو دُنيويٌّ، كالدافع التجاري لكسب المال في مكان مقدس. وليس عبثًا أن حادثة الغضب الوحيدة المسجلة للسيد المسيح كانت عندما طرد الصيارِفَة من المعبد. أتذكر أنني سمعت ذات مرة عن مقترح لوضع شعارات بعض الشركات على سطح القمر، حتى إذا رفع أي شخص بصره إلى السماء ليلًا، رأى شعار «كوكاكولا» أو «نايكي» مطبوعًا على بحر السكون فوق سطح القمر. لا أدري إن كان ذلك حقيقة أم لا — وإن كان لديَّ شك في صحته — ولكن شعور الاشمئزاز والانحطاط الذي غمرني لمجرد التفكير في ذلك المقترح كان قويًّا للغاية. لا أمانع على الإطلاق في رؤية الآثار التي خلفها هبوط المركبة أبوللو على سطح القمر عبر تلسكوب فائق الدقة. فقد كانت هذه الخطوة بدافع الاستكشاف، وأضافت الكثير إلى شعورنا الحقيقي بالرهبة والمهابة عندما نتأمل مكاننا المحدود في هذا الكون الفسيح. فحتى وإن كانت النتيجة واحدة — وهي تدخُّل البشر وإثارة الإزعاج على سطح القمر البكر — نجد أن مسألة الهدف (والأهمية) تصنع كل الفارق على الصعيد الأخلاقي في العالم.

في بعض الأحيان، تُطرح الهندسة الوراثية باعتبارها وسيلة مساعدة مباشرة للعالم الطبيعي، لإصلاح ما أفسده التدخل البشري السابق غالبًا. ويمكن أن يكون ذلك مثالًا لما يصفه كيركباتريك سيل ﺑ «استخدام أدوات الأسياد لتحرير العبيد»، وهنا يمكن أن تكون الحجج الأخلاقية سلاحًا ذا حدَّين. وثمة مثال على ذلك وهو التطوير الدءوب لأشجار الكستناء الأمريكية المقاوِمة للآفات الزراعية لتحلَّ محل غابات الكستناء التي اقتُلعت تمامًا بعد إدخال عامل مُمرِض جديد بالتزامن مع أشجار الكستناء اليابانية التي استُورِدت في أواخر القرن التاسع عشر. كانت الكستناء الأمريكية في وقت من الأوقات تشكل ربع مجموع الأشجار في تلك الغابات، وتنمو حتى ارتفاع ١٠٠ قدم، وتنتج الجوز الذي يستهلكه عدد لا حصر له من الحيوانات بدءًا من السناجب وحتى الدِّبَبة. ويهدف فريق من العلماء من كلية العلوم البيئية وزراعة الغابات التابعة لجامعة نيويورك إلى استعادة المكانة المستحقة لتلك الشجرة العظيمة باعتبارها نوعًا مِحوَريًّا في غابات الأشجار العريضة الأوراق في شمال شرق الولايات المتحدة. وانطلاقًا من تلك الغاية قام الباحثون بتضفير جين من نبات القمح في جينوم الكستناء يُمكِّنها من النجاة من الإصابة بالآفات الزراعية.3

لا يسعني التفكير في الكثير من الحُجج المنطقية المعارضة لما ذكرته آنفًا. فمن غير المرجح أن يتسبب جين القمح، الموجود في العديد من الأعشاب الأخرى، في أي تأثير مدمر للبيئة. ولن تتَسمَّم السناجب جرَّاء تناول الكستناء المُعدَّلة وراثيًّا الناتجة. فكل ما يفعله الجين المُدخَل هو السماح للشجرة بإنتاج إنزيم أوكسالات أوكسيديز للتخلص من سُمِّية حمض الأكساليك الذي ينتجه العامل المُمْرِض الذي من شأنه أن يفتِك بالشجرة لولا هذا التدخل. وكل تلك العناصر طبيعية تمامًا، والمزج بينها يمكن أن يستعيد النُّظم البيئية المندَثرة إلى سابق عهدها. ورغم ذلك، لا أستطيع مقاومة الشعور — أجل، مجرد شعور — بأن ثمة اختلافًا نوعيًّا حقيقيًّا بين غابة من الأشجار المعدَّلة وراثيًّا وغابة من الأشجار الطبيعية. وهذا الشعور لا يدفعني إلى معارضة المشروع، لكنه يثير شكوكًا بداخلي. إن تجربة السير عبر إحدى الغابات لن تكون واحدة إذا علمت أن الأشجار المحيطة بك تحتوي على جين جرى في الأصل تضفيره داخل الجينوم الخاص بها في مختبَرٍ ما. وحتى إن كان ذلك في سبيل أسمى غايات الإيثار وحماية البيئة، ستظل الأشجار ناتجة عن تدخل البشر بصورة جُزَئية؛ ومن ثَم فإنها مختلفة اختلافًا نوعيًّا. وبطرق ما، ستكون مزيجًا بين الغلاف التقني والغلاف الحيوي. ويراودني الشعور نفسه حِيال غابة غرَس البشرُ أشجارها (وهو ما يتبيَّن من نموها في صفوف مستقيمة تثير الريبة) مقارنةً بغابة أخرى وصلت إليها الأشجار وأنبَتَت من تلقاء نفسها. ونوعي المفضَّل في الغابات هو الغابة البدائية الأصلية، التي بقِيَت على حالها حيث نمت منذ الأزمنة السحيقة، حتى قبل مجيء البشر. فهذه الغابات تربطنا بالماضي، ونستمد منها شعورًا بالسمو بمجرد أن نخطو خارج عالم الإنسان المعاصر المصطنع.

لا يزال من الممكن إثارة تلك المخاوف النوعية حتى وإن كان النبات أو الحيوان مطابقًا من الناحية الجسدية والبيولوجية لسلفه الطبيعي. ويعمل صديقي ستيوارت براند، بالتعاون مع زوجته رايان فيلان، على مشروع يُسمَّى «ريفايف آند ريستور» (الإحياء والعودة إلى الحياة)، ويهدف، من بين عدة أشياء أخرى، إلى إعادة حيوان الماموث الصوفي والحمام الزَّاجل والأنواع الأخرى المتميزة المنقرضة إلى الحياة من خلال استخلاص الحمض النووي من العينات المحفوظة وإعادة خلق الجينوم الخاص بها اصطناعيًّا. ومرة أخرى أستطيع إدراك المقصد من وراء ذلك، حتى إن كنت أشارك ستيوارت ورايان حماسهما إلى حدٍّ ما، ولكن تخامرني شكوك أيضًا. إن تلك الحيوانات، حتى وإن أضحَت واقعًا ملموسًا، ربما تكون نُسَخًا طبق الأصل بيولوجيًّا من أسلافها المنقرضة، لكنها ستكون من صُنْع البشر بالكامل. وهذا كفيل بأن يجعلها مختلفة نوعيًّا.١ وقد تحديت ستيوارت في هذا الشأن ذات مرة ونحن نتناول الإفطار، وذلك في اجتماع كنا نحضره معًا في كافالو بوينت بالقرب من مدينة سوساليتو، تحت ظلال جسر البوابة الذهبية. فتوقف عن تناوُل طبق حبوب الإفطار، ورمقني بنظرة ساخرة، ثم غمغم بكلمات عن «النظرية الجوهرية». بعبارة أخرى، كان يشير بصورة مبررة إلى أنه ما من سبب يُمكن الدفاعُ عنه عِلميًّا وراء تَشكُّكي، وأنه مجرد رد فعل أخلاقي وبديهي.
إن لم يكن الماموث الصوفي المعاد إلى الحياة «طبيعيًّا» بالكامل، فإن ذلك يثير التساؤل عن ماهية «الطبيعة». يصف بول كينجزنورث تلك المسألة بصورة وافية في مقاله «في الغرفة السوداء»، حيث يطرح تساؤلًا عن معنى «القُدسية» في عالمنا المعاصر:

«إنني أدرك أن ما أُسَمِّيه «طبيعيًّا» (وهو مصطلح مَعِيب، لكن يبدو أنني لا أستطيع أبدًا العثور على كلمة أفضل منها) هو في الواقع مجرد مصطلح آخر يعبر عن الحياة؛ أي عجلة لا تكف عن الدَّوران من الدماء والمصائب والموت والولادة من جديدة. وعادةً ما تكون الطبيعة فتَّاكة بقدر ما هي جميلة، وأحيانًا تتسم بكلتا الصفتَين في الوقت نفسه. ولكن من وجهة نظري هذا هو بيت القصيد: فالخوف والعنف المتأصِّلَين في الطبيعة البرية، وكذلك الجمال والسلام، هو ما يُلهمني الدوافع التي تطالبني الأديان بتوجيهها نحو آلهتها المُجسَّدة في هيئة البشر: التواضع، والشعور بالضآلة، والخوف أحيانًا، والرغبة عادة في أن أُصبِح جزءًا من كيان أكبر مني ومن نوعي بأسره.»

هذا الجوهر الذي يتجاوز ما يصنعه البشر هو ما أفتقده أنا وبول في الأنواع الحية المُعدَّلة بأيدي البشر أو المُعاد تخليقها.

وليس من المستغرب أن بول أيضًا تنتابه شكوك خطيرة حيال «ريفايف آند ريستور». وعلى الرغم من اعترافه بأنه «يدرك منبع فكرة براند»، كان رد فعله الغريزي هو «الفزع». ولقد كتب بانتقاد لاذع: «فلتقل ما تشاء عن الدين، إلا أنه على الأقل يعلِّمنا أننا لسنا آلهة. إن المبدأ الأخلاقي الذي يروِّج له المنادون بإعادة الكائنات المنقرضة إلى الحياة ومن هم على شاكلتهم يخبرنا بأننا آلهة، وأنه ينبغي لنا أن نلعب دورهم.» وهذا، في رأي بول، لا يختلف كثيرًا عن «أحدث أشكال الشوفينية البشرية، وهي صورة أخرى من إمبراطورية الإنسان العاقل» التي ستؤدي حتمًا إلى «نهاية الحياة البرية»، وظهور «طبيعة جديدة، من صنع إنسانيتنا بالكامل». ويختتم الفقرة بهذه الدعابة اللاذعة:

«كتب براند على منصة «ريديت» على شبكة الإنترنت يقول: «أنا ستيوارت براند، مُحيي الأنواع المنقرضة ومُعيدها إلى الحياة. وأنا أوزيماندياس، ملك الملوك؛ سعدت بلقائك».»

لا يتوانى بول في مقاله عن الدفاع عما يعُدُّه رد فعل عاطفيًّا منطقيًّا من جانبه تجاه مشروع «ريفايف آند ريستور»، من دون الحاجة إلى اللجوء إلى «الانتقادات المقنِعة» النفعية المعتادة لكي يُثبت وجهة نظره. ومن منطلق توقع وصف البعض — وخاصة براند — لرد فعله ﺑ «عدم المنطقية»، فإنه يعترف بذلك قائلًا: «حسنًا إذن؛ إنه رد فعل غير منطقي، ولكن هذا لا يجعله غير واقعي.» وكتب يقول: «لقد تغيَّر البشر كثيرًا، وصرنا نتحكم في الكثير، أو على الأقل نسعى إلى ذلك، لكننا لم نتخطَّ هذه العتبة من قبل. إننا لم نُقدِم مطلقًا على خطوة خلق الحياة نفسها، وما يترتب على ذلك من القضاء حتمًا على الطبيعة البرية.»

لنضع حيوانات الماموث الاصطناعية جانبًا، ونتساءل: هل تتخطى الهندسة الوراثية بطبيعتها هذه العتبة الجديدة في مجال الزراعة؟ أظن أن الإجابة هي نعم، لكن هذا ينطبق أيضًا على آلاف الابتكارات التراكُمية السابقة عليها، بدءًا من التناسل الانتقائي الذي طوَّر المحاصيل الغذائية الأساسية الحالية، وصولًا إلى اختراع المحراث، كما اعترف بول في رسالته الإلكترونية لي. وحتى محاصيلنا غير المعدَّلة وراثيًّا صارت مختلفة تمام الاختلاف عن أسلافها الطبيعية، شأنها شأن الأنواع المُستَأنَسة. ولتبحث على جوجل عن «تيوسنت» أو الذُّرة المكسيكية لترى كيف كان شكل السلف البري الأصلي للذُّرة الصفراء؛ فهو نبات كثيف ذو سيقان مُستَدَقَّة تحمل القليل من البذور الصلبة المتراصة في صف غير جذاب من حيث الشكل عند الأطراف. ولم يعد القمح الحديث طبيعيًّا أكثر؛ فقمح الخبز الطري هو نتاج تهجين ثلاثي بين القمح البري ثنائي الحبة الأصلي وبين نوعين مختلفين من عشب يُسمي الدوسر الأسطواني. وهكذا، فإن القمح المستخدم في الخبز اليومي ما هو إلا قمح سداسي الصيغة الصبغية، يحوي ست مجموعات من الكروموسومات (كروموسومات البشر ومعظم الأنواع الطبيعية، وليس جميعها، تكون ثنائية الصيغة الصبغية، أي ذات مجموعتين من الكروموسومات، واحدة من كل فرد أبوي).4 والموز البري غير صالح للأكل تقريبًا؛ إذ يحتوي على بذور صلبة مستديرة يمكن أن تكسر أسنانك. أما الموز المزروع فخالٍ من البذور؛ ولذلك فجميع ثماره مستنسخَة بالكامل كفسائل من النباتات الأبوية، مما يجعلهما متطابقين وراثيًّا. والأمر نفسه ينطبق على البطاطس، المستنسخة بواسطة الدرَنات المزروعة وليس الفسائل.

يعتمد التناسُل الانتقائي للمحاصيل إما على التهجين أو الطفرات الاعتباطية. وقد تجعل هاتان الطريقتان النباتَ الناتج يطرح عددًا أكبر من الثمار مثلًا، أو يُحصد بسهولة أكبر، أو يكون له مذاقٌ أفضل. إلا أن عملية التناسل الانتقائي تلك عادةً ما تستغرق عقودًا، بل قرونًا. وإحدى طرق تسريع وتيرتها هي زيادة معدَّل الطفرات من خلال إدخال جين مُطَفِّر، سواء أكان مادة كيميائية سامة فعَّالة أم مصدر للإشعاع المُؤَيِّن؛ إذ يؤدي أي منهما إلى تكسير الحمض النووي في عدة مواضع. وستكون الطفرات الناتجة في أغلبها سلبية، مما يؤذي النبات ويسفر عن أضرار. ولكن من حين إلى آخر يَحدث شيء مفيد؛ فبعض أنواع القمح الصلب التي تستخدم لصناعة المعكرونة، والجريب فروت الأحمر، وشعير «الوعد الذهبي» جرى تخليقها بتلك الطريقة باستخدام التطفير. ومن المثير للاهتمام أن المحاصيل المنتجَة عن طريق التطفير مُدرجة ضمن النظم العضوية؛ ومن ثَم فهي ليست عُرضة لنفس الحظر الذي تتعرض له المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا. واليوم يدور جدال محتدم حول ما إذا كانت الطَّفرات النقطية (أي الطفرة أو التغيُّر المؤثر على زوج قاعدي واحد فقط من الحمض النووي) باستخدام أدوات دقيقة للتحرير الجيني، مثل تقنية «كريسبر»، تُعَد تعديلًا وراثيًّا أم لا. تشبه تقنية كريسبر مقصًّا جُزَيئيًّا يستطيع قص الحمض النووي عند التسلسل المستهدف تمامًا. واستبعاد هذه التقنية مع السماح بالتطفير الإشعاعي ليس منطقيًّا على الإطلاق؛ فالأمر أشبه بإخبار جراح المخ والأعصاب أن بإمكانه استخدام بندقية، لا مِشرط، لإجراء عملية جراحية.

تحتاج المحاصيل المزروعة أيضًا إلى تدخُّل بشري دائم ومكثف لكيلا تموت. لعلك وجدت أعشابًا ضارة تغزو حقلًا للقمح، لكنك لن تجد أبدًا قمحًا يغزو حقلًا للأعشاب الضارة (أو إحدى الغابات). وهذا هو أحد أسباب عدم رفضي للهندسة الوراثية للمحاصيل الغذائية؛ إذ سيكون تأثيرها ضعيفًا على النظم البيئية المجاورة (إلا إذا أدت الجينات الجديدة المُدخَلة إلى تغيير أنظمة الزراعة، مثل اختلاف مستويات استخدام مبيدات الآفات). ولكن على المستوى الأخلاقي الأوسع نطاقًا، لا أعترض على الهندسة الوراثية للمحاصيل الغذائية؛ لأنها ناتجة بالفعل عن تدخُّلات الإنسان إلى حدٍّ كبير. إن جُلَّ هواجسي نابعة من تلاعب التكنولوجيا بالطبيعة على نحوٍ أكثر مباشرة. ويساورني قلق أكبر حِيال وجود المحاصيل المعدَّلة وراثيًّا في غابتي المحلية عن وجودها في طعامي. فالواقع الأخير لا بأس به؛ إذ ما برِح علماء الأحياء يتحدثون منذ زمن طويل عن أن جميع نباتاتنا المزروعة قد خضعت بالفعل للتعديل الوراثي على نطاق مكثَّف.

الحُجة الوحيدة التي يمكن أن تُثار بالفعل ضد المحاصيل المعدلة وراثيًّا بوجه عام هي الخوف من «المجهولات المجهولة»؛ أي احتمال وجود خطر أو ضرر كامن يُحدِّق بالجينوم بسبب إدخال الحمض النووي المؤتلِف. ومن الصعب للغاية تخيُّل كيفية حدوث ذلك. إن الحمض النووي يتكسر إلى أجزاء ثم يُعاد إصلاحه طوال الوقت داخل الخلايا الحية؛ إذ إن ضوء الشمس والأكسجين الأيضي، وعوامل أخرى لا حصر لها، تسبب تلف الحمض النووي عشرات الآلاف من المرات داخل كل خلية يوميًّا. وهذه الخلايا سرعان ما تُرمَّم بواسطة الإنزيمات الخلوية. وفي كل مرة تنقسم الخلية، يتكسر الحمض النووي المزدوج الشريط عشر مرات على الأقل في المتوسط.5 وعلى الأغلب، تربط الإنزيمات الأطراف المتكسرة المتقاربة في جُزيء الحمض النووي، إلا أنه بوسعها أيضًا أن تستوعب تسلسلات جينية جديدة يصادف وجودها. وهكذا، لا تختلف الهندسة الوراثية كثيرًا عمَّا تطوَّرت الخلايا لتقوم به باستمرار بالفعل. ومن المستبعَد تمامًا أن يكون هناك أي مخاطر كامنة تحيق بالجينات التي يدخلها علماء الهندسة الوراثية في المختَبَرات أو بالجينات المطفرة والمُرمَّمة طبيعيًّا لمرات لا تُحصى داخل الخلية.

ومع ذلك، تبدو الهندسة الوراثية مختلفة؛ لأنها يُنظر إليها على أنها شيء غير طبيعي، ويؤدي ذلك إلى التصوُّر الواسع الانتشار بأنها تنطوي بطبيعتها حتمًا على خطورة. ويمكنك أن ترى ذلك في اللغة المستخدمة؛ كأن يقال: ربما «تُفسِد» المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا المحاصيل العضوية، لتتسبَّب بذلك في «تلوث وراثي»، لكن لا تجد العكس مطلقًا. وقد عزفت فئران بروفيسور سيراليني المصابة بالسرطان ببراعة وذكاء على هذا الوتر العاطفي الحساس. ولم يتكبَّد أحدٌ عناء قراءة بحث سيراليني عن هذه الفئران (والذي كُتب بمزيج من اللغتين الإنجليزية والفرنسية على نحو يتعذَّر فهمه على أي حال) ورغم الانتقادات التي وجهها الكثير من منتقدي سيراليني بأن إحصائياته كانت مزيفة، وأن المجموعات الضابطة أُصيبت بالسرطان أيضًا، وأن وجبات الفئران لم تكن متكافئة، وما إلى ذلك من الانتقادات، فإنها لم تُحدث أي تأثير في تهدئة الذعر الذي أثارته الصُّوَر الملونة التي نشرها وتُظهِر الفئران وهي مصابة بأورام بشعة كبيرة الحجم. ولتذهب الدلالة الإحصائية إلى الجحيم عندما ينطوي الأمر على انفعالات عاطفية قوية بهذه الدرجة. لقد اقتنعت دولٌ كاملة وبسرعة البرق؛ فكما أوضحتُ آنفًا، أدت فئران سيراليني إلى حظر التعديل الوراثي في كينيا إلى يومنا هذا. ودائمًا ما يُستشهد ببحث سيراليني، رغم سحبه، في مختلف أنحاء العالم كدليل على الضرر الأكيد الذي يسببه التعديل الوراثي.

على الرغم من دفاعي عن حق أي أحد في الاعتراض على الهندسة الوراثية من منطلق أخلاقي جوهري، أرى أن حظر كينيا للمحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا مستنكَر ومرفوض؛ لأنه يُسيء إلى تمسُّكي التام أيضًا بالتجريب. فأنا لا أرغب في رؤية العلم الزائف يؤدي إلى تغيير السياسات، لا في كينيا ولا في أي بلد آخر. وأُفضِّل كثيرًا أن تكون الاعتراضات الأخلاقية الضمنية على الكائنات المعدَّلة وراثيًّا اعتراضات صريحة علنية، وأن تُدار المجادلات المتعلقة بها على هذا الأساس (كأن تقول: «لا يمكنك أن تضيف جينًا بكتيريًّا إلى الذُّرة الصفراء لأنني أعتقد أن القيام بذلك خطأ.»). ولقد انتابتني السعادة حينما أذعن الاتحاد الأوروبي لما هو حتميٌّ وسمح للدول الأعضاء فيه بذكر الأسباب الشاملة المتعلقة ﺑ «السياسة العامة» (أي الأسباب الأخلاقية) وراء رغبتها في حظر زراعة المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا على أراضيها.6 فهذا أفضل كثيرًا من تشويه «الأدلة العلمية» وتحريفها لتتماشى مع موقف مُسبَق، كما فعلت الحكومة الفرنسية وغيرها من الحكومات الأوروبية الأخرى لسنوات عديدة. ولا عيب في أن يُرفَض الدليل العلمي عندما يتعارض مع قضية أخلاقية، ما دام أن هذا يحدث بكل وضوح. ولا يليق أن تُحرَّف الأدلة العلمية حتى يمكن استغلالها كورقة توتٍ مغلَّفة بالعقلانية للتعتيم على قضية أخلاقية ضِمنية. فإذا كانت الاعتراضات جزءًا من النطاق الأخلاقي ونابعة منه، فلتُناقَش كما هي دون إخفاء أو تزييف؛ إذ إننا جميعًا، بما فينا علماء الهندسة الوراثية، نؤمن بضرورة وجود حدود وضوابط لكيفية استخدام هذه التكنولوجيا، وضرورة أن تكون هذه الحدود ذات إطار أخلاقي. لذا، دعونا نَخُضْ مناقشة نزيهة عن الموضع الذي ينبغي أن تُفرَض فيه الحدود.

لديَّ شكوك أيضًا في أن بعض الاعتراضات السياسية المزعومة على المحاصيل المعدَّلة وراثيًّا تنبثق من ذات الشعور بالتجاوز لأخلاقي. وكما أشرت إلى جيم توماس أثناء مكالمتنا عبر برنامج سكايب، فإن العديد من نفس الهواجس المتعلقة بسيطرة الشركات، والمركزية، والاحتكار وما إلى ذلك يمكن أن تنطبق على أجهزة الآيفون بالقدر نفسه، بل بصورة أكبر في الواقع من انطباقها على نباتات الصُّويا المعدَّلة وراثيًّا. وبالرغم من أن جيم أخبرني — بمصداقية لا غُبار عليها — أنه لديه هواجس بالفعل بشأن الهواتف المحمولة أيضًا، فلا شك أن تقنيات الاتصالات لا يتخلَّلها شحن عاطفي كالغذاء والزراعة. وهكذا فنحن نكون يقظين بشدة للانتهاكات الأخلاقية حينما نشعر بأن فعلًا غير طبيعي وعدوانيًّا قد ارتُكِب بالفعل في حق التكوين الوراثي لمحاصيلنا الغذائية الأثيرة. ومن هذا المنظور، يصبح الجدل المُثار حول مزارعي قطن البي تي في الهند، وفئران سيراليني أكثر قابلية للتفسير بكثير. ويمنح هذا المنظور أيضًا أساسًا أخلاقيًّا للاعتراضات القائلة بأن منْح براءات الاختراع يُعَد «تقييدًا» للملكية العامة للجينوم. وعليَّ أن أقر بأنني أؤيد هذه الاعتراضات. فأنا أرى أن فكرة «امتلاك» أي شخص لأي من جيناتي فكرة مُسيئة وغير مقبولة. وفي معظم الدول يكون القانون في صَفِّي في هذه القضية؛ ففي عام ٢٠١٣ أعلنت المحكمة الأمريكية العليا عدم جواز الحصول على براءة اختراع لتسلسلات الحمض النووي الموجودة طبيعيًّا.

أحد الأمثلة على الهندسة الوراثية التي أؤيدها بحذر هو مشروع سمك السَّلمون المُحوَّر جِينيًّا المُسمَّى أكواباونتي، ويُروَّج له على نحو مُستفِزٍّ بأنه «السلمون الأكثر استدامةً على مستوى العالم». ورغم وجود مكان لصيد أسماك السلمون الطبيعية، نجد أن شهية البشر لطَبق الساشيمي ذي الشرائح الوردية الرقيقة، ولشرائح السلمون المخْلية الطرية، شديدة الشراهة؛ بحيث لا يمكن للمصادر البرية وحدها أن تُشبِعها. ومن هنا تنبع الحاجة إلى الاستزراع المائي، الذي يعني أن نفعل بالبحار ما فعلناه بالضبط على اليابسة على مدى آلاف السنوات؛ بالانتقال من الصيد إلى تربية الحيوانات المُستَأنسة في الحظائر. غير أن المشكلات البيئية الناجمة عن استزراع السلمون في البحار ليست خافية؛ إذ يمكن أن يتراكم تلوث المُغذِّيات ويؤثر على النظم البيئية البحرية، وبالمثل، يمكن أن يلوِّث قملُ السمك السلمونَ الطبيعي؛ ومن ثَم يمكن أن تؤثر عليه الكيماويات المضادة للقمل المستخدمة للتخلص منه، ويمكن أن تهرب الأسماك وتتناسل مع السلالات الطبيعية المشابهة لها. فضلًا عن ذلك، يعتبر السلمون من آكلات اللحوم، لذا فإنه يتغذَّى على الأسماك التي تُصاد من المحيطات الطبيعية، مما يزيد من ضغوط الصيد الجائر عبر السلسلة الغذائية.

إن نموذج أكواباونتي مختلفٌ تمامًا. فأسماكه هي أسماك السلمون الأطلسية المضاف إليها جينُ هرمون النمو من سلمون التشينوك، مما يجعل السمك ينمو على مدار السنة. وهذا يعني أنه يحتاج إلى تغذية أقل لكي يصل إلى الوزن الكامل للبيع في الأسواق، مما يقلل الضغط على مخزون الأسماك الطبيعية. ويمكن أن تساعد الهندسة الوراثية أيضًا في استبدال أعلاف أو مواد غذائية منتجة على اليابسة بالكامل بالأسماك؛ إذ نجح العلماء تجريبيًّا بالفعل في تطوير محاصيل البذور الزيتية التي تحتوي على أحماض الأوميجا ٣ الدُّهنية التي لا يمكن الحصول عليها حاليًّا إلا من مصادر البروتين البحرية. ولكن لم تَقنَع هذه الأدلة الجماعات المناهضة للكائنات المعدَّلة وراثيًّا، مثل مركز سلامة الغذاء، بتقبُّل السلمون المُحوَّر جينيًّا. وأقام المركز السالف الذكر دعاوى قضائية لمنع الموافقة على سلمون مشروع أكواباونتي على أساس أن «أي موافقة على الأسماك المُعدَّلة وراثيًّا ستكون بمنزلة تهديد قاتل لبقاء الأسماك المحلية.» وأن «التهديدات البيئية التي تشكلها الأسماك المُعدَّلة وراثيًّا يمكن أن تُغير التنوُّع الحيوي في الأنظمة البيئية بأكملها».7
لا أرى هذه الحجج مقنِعة؛ لأن سلمون أكواباونتي المعدَّل وراثيًّا لن يوجد في أي مكان قريب من البحار. لذا تعتزم الشركة تربيته في خزانات على اليابسة بعيدة عن أسراب السلمون الطبيعية الساحلية. وهذا أفضل للبيئة، كما يزعمون؛ لأنه يمكن جمع المخلَّفات واستغلالها كمخصِّبات؛ بينما يمكن إعادة تدوير المياه أيضًا.8 وثمة إجراء احترازي آخر وهو أن جميع الأسماك التي سيتم تربيتها ستكون إناثًا عقيمة. إذن، لكي يحدث تهجين الأسماك الطبيعية لا بد أن تقفز الأسماك المعدَّلة وراثيًّا من خزاناتها، وأن تنبُتَ لها أرجلٌ، ثم تقطع الطريق إلى الساحل، وتسبح حتى أماكن تواجد السلمون الطبيعي، ثم تتزاوج معه وتُشفَى من عُقمها في الوقت نفسه. حتى أمهر «الأسماك الخارقة» تكنولوجيًّا تعجز عن الإتيان بمثل هذه الإنجازات. لكن ما تبينه هذه المهاترات أن الجدل لا يتعلق بأكواباونتي وتفاصيله، وإنما يتعلق بالاعتراض الأخلاقي لمركز سلامة الغذاء على الهندسة الوراثية من الأساس. أستطيع تفهُّم ذلك، لكن أعتقد أن الهدف من خلق مصدر مُستَدام للسلمون يجعله خطوة جديرة بالتنفيذ، بشرط التعامُل مع السلمون كنوع حي مُستَأنس بعيدًا عن بيئته الطبيعية. أما إذا كان السلمون المعدَّل وراثيًّا سينشأ في حظائر بحرية بجوار الأسماك الطبيعية، فسأكون حينها مُستَعِدًّا للتوقيع على العريضة التي قدَّمها مركز سلامة الغذاء.

•••

يتبين لنا من كل هذه المجادلات المختلفة الدائرة حول الكائنات المعدَّلة وراثيًّا أننا نغُض الطَّرْف عن الحِس الأخلاقي لدى الناس أو نُنَحِّيه جانبًا على مسئوليتنا الخاصة فيما يعتبر مجرد مجادلات علمية. ويوضح عالم النفس الاجتماعي جوناثان هايدت، في كتابه الرائع «العقل القويم»، أن الناس سيفعلون أي شيء تقريبًا لتبرير استجاباتهم الانفعالية إزاء أي انتهاك أخلاقي باستخدام لغة عقلانية «مقبولة». وفي تجارب أجراها هايدت لبحث هذه الظاهرة، سأل الناس عن المواقف التي تثير الاشمئزاز لكنها لا تتسبَّب فعليًّا في إيذاء أي شخص. وفيما يلي أحد الأمثلة، التي أَعَدتُ صياغتها: «صدمت إحدى السيارات كلبَ الأُسرة وأرْدَتْهُ قتيلًا، فاجتمعت هذه الأسرة وجلست لتناول لحمِه. ولم يرَهم أحد.» يشعر معظم الناس بالاشمئزاز من التعامل المُشين مع جثة الكلب، لكنهم يُجاهدون لتبرير ذلك بعبارات عقلانية فيما يخص وقوع أي أذًى محدد. ومن أجل تبرير بديهيَّاتهم الأخلاقية لجئوا إلى اختلاق ضحايا؛ إذ أخبروا هايدت بأن الأسرة يمكن أن تمرض نتيجة أكل لحم الكلب، مثلًا، أو أن أحد الجيران كان يمكن أن يتأذَّى من رؤية الأسرة وهي تأكل كلبًا مشويًّا (متجاهلين العبارة الصريحة في قصته التي ذكرت أن أحدًا لم يرَ هذا الموقف). وخلص هايدت إلى أنه «كان من الواضح أن معظم هذه الأضرار المفترَضة لم تكن سوى تبريرات بَعدِية مُختلَقة. فعادةً ما كان الناس يدينون الأفعال بسرعة كبيرة، ولا يبدو أنهم احتاجوا إلى كثير من الوقت لتحديد ما يعتقدونه. لكنهم غالبًا ما كانوا يستغرقون بعض الوقت لاختلاق ضحية ما، وعادةً ما كانوا يقدمون هؤلاء الضحايا بفتور وعلى نحوٍ يكاد يكون تبريريًّا.»9
ويوضح هايدت أن كثيرًا من هذه التبريرات البعدية المُختلَقة لما كان في الحقيقة أحكامًا أخلاقية غريزية وفورية وانفعالية لم يكُن مُقنِعًا، بل يكاد يكون منافيًا للعقل. فقد كان القاسم المشترك بين هؤلاء المشاركين في التجربة هو محاولتهم جميعًا إيجاد بعض الأدلة الخارجية على وقوع الضرر لتفسير اشمئزازهم تجاه شيء شعروا بوضوح بأنه خطأ «بالضرورة». وعندما فنَّد هايدت كل حُجة من حُجَجهم تباعًا بلطفٍ، نفِدت مبررات من هم أقل ثقةً أو قدرة على الجدال تمامًا، وصاروا «حائرين أخلاقيًّا» حسبما وصفهم، وأخذوا يُردِّدون أشياء على غرار: «أعلم أنه تصرُّف خاطئ، لكنني أعجز عن التفكير في سببٍ يبرره.» وكما استنتج هايدت: «هؤلاء المشاركون كانوا يفكرون على نحوٍ منطقي. كانوا يبذلون جُهدًا كبيرًا في التفكير المنطقي. لكنه لم يكُن تفكيرًا منطقيًّا في سبيل الوصول إلى الحقيقة؛ وإنما كان في سبيل دعم ردود أفعالهم العاطفية.»10 ظلَّت القناعات الأخلاقية لدى المبحوثين قائمةً حتى بعد إثبات خطئهم مرة تلو الأخرى، وكما يتذكر هايدت: «بدا أنهم يحاولون باستماتة، مستبعِدين المبررات واحدًا تلوَ الآخر.»
لا يُقصد بأي من هذا الإيحاء بأن أصحاب البديهيات الأخلاقية هم أشخاص غير عقلانيين أو حمقى بصورة أو بأخرى. وإنما هم ببساطة بشر، وكان هايدت يحاول معرفة كيف يتصرف البشر عادةً والسبب وراء تصرفاتهم. في الواقع أن الأشخاص «مُنعَدِمي» البديهيات الأخلاقية هم من يتسبَّبون في أخطر المشكلات، وهم مَن يُطلَق عليهم المُضطربين عقلِيًّا. غير أن استنتاج هايدت كان واقعيًّا. وكما كتب هايدت، دَعْكَ من إقناع أحدٍ بأي شيء من خلال البراهين المنطقية المُسبِّبة وقوة الحجة. يقول: «إذا طلبت من الناس أن يؤمنوا بشيء ينتَهِك بديهياتهم، فسيُكرِّسون جهودهم لإيجاد مخرج للهروب؛ سبب للتشكيك في حُجتك أو استنتاجك. وغالبًا ما سينجحون في ذلك.»11 وهكذا يدحَضُ هايدت «نموذج نقص المعرفة» في علم النفس البشري. يقوم هذا النموذج على الفكرة التي يؤمن بها كثيرٌ من الناس — بمن فيهم معظم العلماء أنفسهم من واقع تجربتي، على سبيل المفارقة — من أن كل من يختلف معهم هو ببساطة شخص جاهل، وأن مواجهته بوابلٍ من «الحقائق» العلمية كفيل بأن يزيد من وعيه؛ بحيث يغير آراءه لتتوافق مع آرائهم. أنا نفسي أُعاني من هذا الأمر؛ إذ لم أجِد مطلقًا أن إخبار أي أحد بأن معدل انتحار المزارعين في الهند ليس أعلى من نظيره في فرنسا أو اسكتلندا كان له أدنى تأثير على معتقداته حِيال صحة أو خطأ التعديل الوراثي. لكنني ما زلت أقوم بذلك بغضِّ النظر عن ذلك، وهذا الكتاب خير دليل على ما أقوله.

إن قصة حالات الانتحار مؤثرة؛ لأنها تقدم مبررًا خارجيًّا آخر للرفض الأخلاقي البديهي؛ وهو وجود ضحية، وكلما كانت تلك الضحية بائسة ومستغَلَّة (مزارع هندي يعاني الفقر الشديد)، وكان الجاني الشرير أكثر شرًّا (مونسانتو)، كان ذلك أفضل. وبالعودة إلى قصة هايدت الأخلاقية الافتراضية الأولى، تخيَّل مدى تفاقُم شعورك بالغضب والسخط إذا قيل لك: إن رجل أعمال ثريًّا قد أكل كلب أسرة فقيرة، وأن الأطفال، الذين كانوا يحبُّون هذا الكلب كثيرًا، شاهدوا هذا الرجل وهو يفعل ذلك وراحوا يبكون بمرارة. إن تحطيم هذا النوع من الإطار الأخلاقي من خلال التحليل المنطقي أمر شبه مستحيل، وأفضل ما يمكن أن يحدث هو قلبه واستبداله بإطار أخلاقي بنفس القدر من القوة والتأثير، على أمل أن يعكس الحقيقة الفعلية بصورة أفضل. وقد حاولت القيام بشيء مماثل في الفصل المتعلق بأفريقيا، حيث كانت الجماعات المناهضة للمحاصيل المعدَّلة وراثيًّا هي الطرف الشرير، والمزارعون هم الضحايا؛ لأنهم سُلِبوا الحق في اختيار بذور أفضل قد تساعدهم على التخلص من براثن الفقر. وبالطبع كان لدى الجماعات المناهضة للمحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا العاملة في أفريقيا روايةٌ مضادة. فهم يعتقدون أن المزارعين الذين يشترون البذور «المُحسَّنَة» سيُستغلون من قِبل الشركات متعددة الجنسيات، مما سيُسفِر عن تقويض المرونة المحلية والسيادة الغذائية. لاحظ أن بوُسعك قلب هاتين الروايتَين رأسًا على عقِب، مثل مكعب نيكر الشهير — وهو مكعب خطِّي شفاف يمكنك رؤيته بطريقتين مختلفتين — لكنك لا تستطيع أن ترى أو تصدق كلتا الروايتين في آن واحد، مثلما يحدث مع مكعب نيكر أيضًا.

وكما يوضح الفصل الذي أوردتُه عن أفريقيا، ليس دعاة الحملات المناهضة للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا وحدهم هم المدفوعين بالمخاوف الأخلاقية. فدعاة الحملات المؤيدة للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا مُتحفِّزون بالقدر نفسه، ونتيجة لذلك يمكن أن يصمُّوا آذانهم عن الحُجج المنطقية التي تنال من تحيُّزاتهم. وأحد الأمثلة على ذلك هو باتريك مور المشارك في تأسيس منظمة السلام الأخضر، الذي تركها بعد بضع سنوات من تأسيسها، وتبرَّأ مؤخرًا من العديد من القضايا التي تدافع عنها المنظمة، وذلك في كتابه الذي صدر عام ٢٠١٠ بعنوان «اعترافات عضو مُنسحِب من منظمة السلام الأخضر». وقد أطلق مور حملةً بعنوان «أجيزوا الأرز الذهبي الآن!» اتهمت منظمة السلام الأخضر ﺑ «ارتكاب جرائم ضد الإنسانية» بسبب معارضتها للأرز الذهبي المُعدَّل وراثيًّا (وهو أرز مُعزَّز حيويًّا يهدف إلى معالجة نقص فيتامين «أ»، الذي يصيب الأطفال الصغار تحديدًا في الدول النامية). ويعلن موقع مور على شبكة الإنترنت، ما يلي: «نحن نعتقد أن إجراءات منظمة السلام الأخضر خلال الأربعة عشر عامًا الأخيرة، والتي تهدف إلى منع إنتاج الأرز الذهبي ووصوله إلى ملايين البشر الذين يعانون الآن بلا داعٍ من نقص فيتامين «أ»، تُعَد جريمة ضد الإنسانية حسب تعريف نظام روما الأساسي.»12 وهذا قطعًا موقف أخلاقي. غير أن مور يجازف بالادعاء بأن منظمة السلام الأخضر قد حرَمت الأطفال الذين يُعانون من سوء التغذية من الحصول على الأرز المُعزَّز حيويًّا وهو القادر على إنقاذ حياتهم. وبالرغم من أن منظمة السلام الأخضر قد نظَّمت حملةً بالفعل ضد هذا المشروع، ويمكن القول على نحوٍ مقنع أن حملتها قد أسهمت في خلق بيئة تشريعية وسياسية سلبية أضرت بالمشروع، فحتى الآن — ورغم عقود من العمل التقني في هذا الصَّدد — لم يتقدم فريق المعهد الدولي لبحوث الأرز للحصول على موافقة بالتعميم الكامل لزراعة الأرز الذهبي في أي دولة.٢ لذا فليس صحيحًا أن منظمة السلام الأخضر «منعت» الأرز الذهبي، كما يزعم العديد من مؤسسي الحملات المؤيدة للمحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا.
بل إن أشهر العلماء في العالم — الأشخاص الذين بعد حصولهم على جائزة نوبل في مجالاتهم، قد يُتوقَّع منهم التصرف بأقصى درجات العقلانية في جميع الأوقات — يخونون إنسانيتهم المعيبة في خِضَم حملتهم ضد الأرز الذهبي. فعلى الرغم من أن «الخطاب الموجه إلى قادة منظمة السلام الأخضر، والأمم المتحدة، والحكومات حول العالم» الصادر في يونيو ٢٠١٦ قد كُتب بلغة عِلمية، وهو مدعوم بتوقيعات ما لا يقل عن ١٢٤ عالمًا حائزًا على جائزة نوبل، فقد كان بيانًا أخلاقيًّا مُكَثفًا أكثر من كونه مجرد بيان علمي. ولما كان البيان يدعو منظمة السلام الأخضر إلى «التوقُّف والتراجع عن حملتها ضد الأرز الذهبي بصفة خاصة، والمحاصيل والأغذية المُحسَّنة من خلال التكنولوجيا الحيوية بصفة عامة»، فإنه يؤكد على «ضرورة التصدي للمعارضة القائمة على العاطفة والعقيدة التي تناقض البيانات»، واختُتِم بسؤال: «تُرى كم عدد الفقراء الذين يجب أن يموتوا على مستوى العالم قبل أن نعتبر هذه «جريمة ضد الإنسانية»؟»13 لا يمكن أن يكون هناك نهج أكثر عاطفية من اتهام من يختلفون معك بارتكاب «جرائم ضد الإنسانية»، واستخدام اللغة المقتصرة عادةً على المُحرِّضين على الحروب والإبادة الجماعية. ولكن ها نحن أمام أكثر من مائة عالم من خِيرة العقول العلمية في العالم يسمحون لحَدسهم الأخلاقي بأن يطغى على الحكم المنطقي إلى الحد الذي يجعلهم يُوقِّعون على بيانٍ يحوي ادعاءات تحظى بدعمٍ واهٍ من أدلة فعلية. إذن، فالعلماء بشر برغم كل شيء، أليس كذلك؟
صحيح أن العُلماء ربما يقتنعون أحيانًا بالأدلة التجريبية لتغيير آرائهم (على الرغم من أن هذا أمرٌ نادر جدًّا من واقع تجربتي). يروي ريتشارد دوكينز قصة طريفة في كتابه «حل لغز قوس قُزَح»، يوظِّفها لإثبات تفرُّد المنهج العلمي في تفنيد تحيزات البشر. يتذكر دوكينز واحدة من «تجاربه التي أسهمت في تكوينه» إبان سنوات دراسته في جامعة أكسفورد، حينما قدَّم محاضرٌ زائر من الولايات المتحدة براهين علمية جديدة «فنَّدت، بما لا يدَع مجالًا للشك، النظرية المفضَّلة لدى أستاذ مُخَضرم نُكِنُّ له عظيم الاحترام من قسم علم الحيوان الذي ننتمي إليه؛ تلك النظرية التي نشأنا جميعًا عليها.» وبدلًا من تفنيد تلك الأدلة الجديدة في غضب، «نهض العجوز، واتجه نحو مقدمة القاعة، وصافح المحاضر الأمريكي بحرارة وقال بنبرة عاطفية رنانة: «أيها الزملاء الأعزاء، أود أن أشكركم جميعًا. لقد كنتُ مُخطِئًا طوال تلك السنوات الخمس عشرة الماضية».» يتساءل دوكينز بأسلوب بلاغي وبنبرة عاطفية: «هل هناك مهنة أخرى على وجه الأرض تعترف بأخطائها برحابة صدر بالغة هكذا؟»14

لعل المثال الذي ساقه دوكينز يعبر عن موقف غير مُعتاد؛ لأنه ينبع من نقاش بين عالِمين؛ بعبارة أخرى، نقاش في وسط ذي بنية اجتماعية أُنشئت خصيصى لإعطاء الأولوية للأدلة والحُجج المنطقية. لكن هذا الوضع هو الاستثناء وليس القاعدة، بل يصير أكثر استثنائية عندما يدور النقاش حول قضايا مشحونة بخلافات أخلاقية، سواء أكانت تدور حول الأغذية المعدلة وراثيًّا، أم فرض الرقابة على الأسلحة.

هذا هو السبب أيضًا وراء استمراري في الدفاع بقُوة عن أهمية الإجماع العلمي على سلامة الأغذية المعدَّلة وراثيًّا. فالمعارضون يُصرون على أن البيانات التي تصدرها مؤسسات، مثل الجمعية الملكية أو الأكاديمية الأمريكية لتقدُّم العلوم، ما هي إلا مجرد أدلة نابعة من تفكير جماعي من جانب العلماء. وهذا لا ينسحب فقط على الجدل المُثار حول الكائنات المعدَّلة وراثيًّا؛ إذ يطرح معارضو التيار العلمي السائد في قضايا مثل التغيُّر المناخي واللقاحات حُججًا مشابهة تدَّعي التحيُّز الجماعي من جانب المجتمع العلمي. ولا أعتقد أن هذا منطقي؛ فالبيان المعيب للعلماء الحائزين على جائزة نوبل، من وجهة نظري، ليس دليلًا على أن الإجماع العلمي محضُ هراء؛ ذلك أن هؤلاء الخبراء وقَّعوا على وثيقةٍ تَخرج في الأغلب عن نطاق خبرتهم الأصلية (ومن الخطأ دائمًا تخيُّل أن الشخص الخبير في مجال ما هو خبير أيضًا في جميع المجالات). من ناحية أخرى، لدى الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيُّر المناخ عملية دقيقة تستغرق وقتًا طويلًا لمراجعة المصنفات العلمية وتشكيل إجماع لآراء الخبراء حول قضية الاحتباس الحراري. وقد خاضت الأكاديمية الوطنية للعلوم عملية مشابهة في مجال الهندسة الوراثية، مما أسفر عن إصدار تقرير ضخم ذَكر مرة أخرى أنه «لا وجود لأي أدلة جوهرية تُثبِت أن الأغذية المُنتَجَة من المحاصيل المعدَّلة وراثيًّا أقل سلامة من الأغذية المنتَجَة من محاصيل غير معدَّلة وراثيًّا». وكتبتُ متفائلًا منشورًا على إحدى المدونات كرَدِّ فعل على هذا التقرير بعنوان «حسم الجدل حول سلامة الكائنات المعدَّلة وراثيًّا».15 وكنت مُخطئًا في ذلك بالطبع.

•••

إذن لمَ لا يصدِّق أحد الأكاديمية الوطنية للعلوم حتى؟ لماذا يتشبث الناس بأفكارهم هكذا حتى حينما يختلف معهم مئات الخبراء حول العالم؟ الإجابة هي أنه حتى على أبسط المستويات، لا يرغب أحدٌ في أن يكون مخطئًا. فدائمًا ما يكون الاعتراف بالخطأ أمرًا صعبًا؛ وعندما نُلام على ارتكاب خطأ ما، يجد معظمنا غريزيًّا أسبابًا لتبرِئَتنا، أو إثبات أننا كنا نتصرف بحُسن نية، أو أي مبرر آخر للحد من الألم النفسي والضرر الذي المتخيل الذي سيُلم بسمعتنا. وهذا أحد أسباب تعارض المنهج العلمي مع الحَدس الفطري؛ فالعلم يتقدم عبر الأخطاء؛ إذ يتطلب تحديدًا دحض النظريات السابقة. فقط عندما تقاوم نظرية ما عدة محاولات لدحضها، ينبغي الإعلان عن صحة فرضية ما موضوعيًّا، ولو بصفة مؤقتة على الأقل. ومن هنا تأتي «الفرضية الصفرية»، التي تعتبر أساس اختبار الأدلة الإحصائية. فنقطة البدء لفحص الإحصائيات هي افتراض عدم حدوث شيء. فقط عندما تكون قِيَم الاحتمالية منخفضة جدًّا (أدنى من ٠٫٠٥ عادة)، ومن ثَم تكون فرصة حدوث نتيجة ما من منطلَق الصُّدفة البحتة غير مرجحَة (أي أقل من ٥ في المائة)، تُعَد النتيجة «ذات دلالة إحصائية». وحتى في هذه الحالة ينبغي أن تكون هذه هي نقطة البداية، لا الاستنتاج النهائي، لا سيما وأنه من كل ١٠٠ بحث علمي يعلن وجود دلالة إحصائية لنتائجه، سيكون ٥ منها خاطئًا من منطلق الصدفة البَحتة في ظل نفس اختبار الاحتمالية البالغ ٥ في المائة.

بينما يُعَد الخطأ في العلم جزءًا لا يتجزأ من تقدم المعرفة، فإن الاعتراف بالخطأ في عالم السياسة يُعد بمنزلة قُبلة الوداع لأي شخص يطمح إلى القيادة. ففي المملكة المتحدة، تذيع محطة إذاعة بي بي سي الرابعة برنامجًا إخباريًّا صباحيًّا يسمى «تُوداي»، تهدف كل مقابلة فيه مع أي سياسي إلى تضييق الخِناق عليه وإحراجه بحيث يُضطَر إلى الاعتراف المفزع ﺑ «التراجع التام عن موقفه»، الذي يُعَد ضربة قاصمة له. وأحد أشهر الأمثلة على المخاطر السياسية الناجمة عن تغيير رأيك هو التشهير الذي تعرض له المرشح الرئاسي الديمقراطي جون كيري إبان الانتخابات الأمريكية عام ٢٠٠٤. فبعد العدول عن رأيه حيال قضايا محورية كحرب العراق، اتُّهم كيري ﺑ «التقلُّب»، و«التردُّد»، و«ضعف الشخصية»، وهي اتهامات أضرَّتْ بحملته ضررًا بالغًا. وكما كتبت كاثرين شولتز في كتابها «أن تكون مخطئًا»: «اقترح جاي لينو شعارَين مُمكِنَين لحملة كيري؛ وهما: «أصعب شيء في الوجود أن تتخذ قرارًا» و«أيها المُصوِّتون المترددون، أنا مثلكم تمامًا!» وخلال مؤتمرات الحزب الجمهوري للترشيح الرئاسي، عَمد النواب إلى أداء ما يشبه حركة تموُّج الأيدي الشهيرة في الملاعب الرياضية كلما ذُكِر اسم كيري للتعبير المرئي عن تقلُّبه. ومقابل عشرة دولارات كان يمكنك شراء خُف عليه وجه كيري المتردد».16 وكانت نتيجة هذا كله بالطبع عودة جورج دبليو بوش الحكيم المعصوم من الخطأ إلى سدة الحكم.
يستطيع معظمُنا، ولسنا قادة سياسيين، أن نصدق بسعادة بالغة آراءً وهميةً عن أنفسنا بأننا مستقيمون وعلى خلق دون التعرض لخطر إمكانية كشف حقيقة هذه الأوهام. ولعل ذلك ضروري لصحتنا النفسية؛ فأولئك الذين لا يرون أنفسهم أفضل من الآخرين ودائمًا ما يقعون فريسة للشك معرَّضون أيضًا لأن يكونوا في مقدمة صفوف المتهافتين على مضادات الاكتئاب. ولكن في ظل غياب القيود الأخلاقية التي يفرضها علينا بالأساس إدراكنا لأحكام الآخرين، يلجأ معظمنا في واقع الحال إلى الكذِب والغش في أغلب الأحيان، بل يرتكب بعضُنا جرائم أسوأ من ذلك، أو على أفضل تقدير يغُض الطرْف عنها. بل إننا قد ننكر ذلك بيننا وبين أنفسنا، لكن ثمة تجارب لا حصر لها أوضحت أن هذا الميل يعتبر عنصرًا فطريًّا في السلوك البشري المعهود. وكما تُذكرنا شولتز: «إنني أرى ذلك كخرافة المقاومة الفرنسية. كنا جميعًا سنرغب في تصديق تلك الخرافة لو أننا عِشنا في فرنسا إبان الحرب العالمية الثانية، كنا سنصبح من بين تلك الأرواح البطولية التي تقاتل الاحتلال النازي وتساعد في إيصال المضطهَدين إلى بر الأمان. لكن الحقيقة هي أن حوالي ٢ في المائة فحسب من الشعب الفرنسي هم من شارك مشاركة نشِطة في المقاومة. لعلنا أنا وأنت كنا سنشارك معهم، لكن الاحتمالات ليست في صالحنا.»17
وهذا يشير ضِمنيًّا إلى الواقع، المتمثل في أن معاييرنا الأخلاقية والسلوكية هي في الغالب نتاجٌ للتنميط الاجتماعي، الذي يعتمد كثيرًا في حد ذاته على مواقف ثقافية وتاريخية محددة. فالبشر نوعٌ اجتماعي بقدر يتجاوز أي سمة أخرى تميز بني البشر كصناعة الأدوات، وأصابع الإبهام المتقابلة، والقشرة الدماغية. وديناميكيات الجماعة، بالنسبة إلينا، ضرورية لكل جانب من جوانب سلوكنا. وكما يوضح جوناثان هايدت، لا يهتم الناس بالأدلة في القضايا السياسية أو الأخلاقية؛ ولهذا السبب لا يحتمل أن يصوت الأشخاص الذين يفتقرون إلى التأمين الصحي لصالح الديمقراطيين. فما يهتم الناس به حقًّا هو جماعاتهم، «سواء أكانت جماعات عرقية أم إقليمية أم دينية أم سياسية» (أو عِدة جماعات في الوقت نفسه على الأرجح). وهكذا نجد أن «الآراء السياسية تؤدي وظيفة «الشارات التي تعلن عن الانتماء الاجتماعي». فهي تشبه الملصَقات الخلفية التي يضعها الناس على سياراتهم والتي تعلن عن القضايا السياسية والجامعات والفرق الرياضية التي يدعمونها. فسياستنا جماعية، لا أنانية.»18
ولعل أهم الرؤى التي يطرحها هايدت في كتابه هي أن ملَكات التفكير المنطقي لدينا لم تتطور لتساعدنا على البحث عن أي شيء يشبه الحقيقة الموضوعية؛ وإنما تطورت لتُساعدنا لنكون أعضاءً أكثر قيمة ونجاحًا في الجماعات التي ننتمي إليها. وبالنسبة إلى نوع اجتماعي مثل البشر، يكون النفي أو الطرد من الجماعة أشبه بحكم إعدام محتمل؛ مما يضيف ضغطًا انتقائيًّا تطوريًّا قويًّا إلى السلوك الجماعي. ويذكر هايدت في كتابه أن التفكير المنطقي لدينا «تطوَّر لا ليساعدنا في العثور على الحقيقة وإنما ليساعدنا في المشاركة في المجادلات والإقناع والمناورة في سياق المناقشات مع الآخرين.»19 وهذا هو ما يجعل الانحياز التأكيدي مؤثرًا جدًّا؛ لأنه «سمة ذاتية (للعقلية الجدالية)، وليس عيبًا يمكن إزالته (من العقل الأفلاطوني)».

عندما قرأت زعْم هايدت بأن «التفكير المنطقي الواعي يتم غالبًا بهدف الإقناع، لا الاكتشاف»، دفعني هذا على الفور لإعادة النظر في تجربتي الشخصية. كانت القصة التي ما برحتُ أخبر نفسي بها هي أنني تحسَّسْت طريقي، عبر التفكير المنطقي، للتحرر من المعتقدات المناهضة للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا، وذلك من خلال استكشاف المعلومات العلمية التي كنت أفتقر إليها من قبل واستيعابها. ومن المُخزي أن أتذكر أنني لم أكُن أعلم حتى ما الذي يرمز إليه اختصار مصطلح دي إن إيه إبَّان الأيام الغابرة التي قمت فيها بتدمير المحاصيل المُعدَّلة وراثيًّا. وبدا أن هذا قد جعلني دراسة حالة ﻟ «نموذج نقص المعرفة»، حيث يمكن للمعلومات الجديدة أن تُغيِّر رأي المرء من خلال معالجة نقص المعرفة لديه. ولكنني أدركتُ أيضًا أنني قد أُتيحت لي فرص كثيرة لمعرفة المزيد عن الأسباب وراء احتمالية ألَّا تكون الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا بهذا السوء في فترة معارضتي لها، كما أنني لم أكن مُهتمًّا ولو بالنَّزر اليسير باغتنام تلك الفرص. وعندما ناقشتُ العُلماء المؤيدين للكائنات المُعدَّلة وراثيًّا في وسائل الإعلام أو الفعاليات المختلفة، لم يكن ذلك بهدف معرفة المزيد عن وجهات نظرهم وإنما لهزيمتهم، وكلما كانت الهزيمة ساحقة كان ذلك أفضل. كنت أرى من وجهة نظري أن العلماء هم من كانوا يتسمون بضيق الأفق، ولست أنا. وبعد مرور سنوات، سألني واحد من نفس هؤلاء الخبراء، وهو أستاذ في علم الوراثة في إحدى كليات جامعة أكسفورد، عمَّا إذا كان هناك شيء كان يمكن أن يقوله بصورة مختلفة ليقنعني حينها. فأخبرته أنني لا أظن ذلك. لم تكن المشكلة أن حججهم افتقرت إلى القوة. كان خطؤهم يكمن في الاعتقاد بأن حججهم ذات أهمية من الأساس.

ثمة قُوًى فعالة داخل الجماعات تعمل من أجل منع الناس من تغيير معتقداتهم والاعتراض على إجماع الجماعة. والمصطلح المنطقي السليم لهذه القوى هو «ضغط الأقران»، رغم أننا نميل بقوة إلى التوهُّم بأن هذا المصطلح ينطبق فقط على تلاميذ المدارس، وليس علينا جميعًا كبشر. وتطلق كاثرين شولتز على هذه الظاهرة اسم «نقص القدرة على الاختلاف» في المجتمع، وهو نوع من التفكير الجماعي. تقول شولتز في كتابها: «أولًا، تُعرضنا مجتمعاتنا إلى دعم غير متكافئ لأفكارنا. ثانيًّا، تحمينا من خلاف الغرباء. ثالثًا، تدفعنا إلى إغفال أي خلاف خارجي نواجهه. وأخيرًا، تقضي على تطور الخلاف من الداخل. تخلق هذه العوامل شكلًا من أشكال النظير المجتمعي للانحياز التأكيدي الإدراكي، وتثير المشكلة نفسها. وأيًّا كانت الفضائل الأخرى لمجتمعاتنا فهي فعالة على نحوٍ خطِر في تعزيز اعتقادنا بأننا على حق، وفي وقايتنا من احتمال أن نكون مخطئين.»20 وتأكيدًا لواقعية إجابتي على أستاذ علم الوراثة بجامعة أُكسفورد، توضح شولتز قائلة: «حتى عندما نواجه بالفعل تحديات خارجية لمعتقداتنا، فإننا عادة ما نتجاهلها. والواقع أننا بقدر ميلنا إلى تقبل المعلومات تلقائيًّا من الأشخاص الذين نثق بهم، نميل تلقائيًّا أيضًا إلى رفض المعلومات القادمة من مصادر غير مألوفة أو غير مقبولة.»
قد يكون التفكير الجماعي مُدمِّرًا عندما يتجاوز الحدود؛ لأنه بذلك يستبعد الآراء المخالفة التي ربما تكون صحيحة ونافعة، مما يعني أن الجماعات ربما تتصرف دون المستوى الأمثل. ويحضُرني هنا مثال سيئ السمعة بصفة خاصة ولكنه تاريخي؛ ألا وهو محاكمات الساحرات في مدينة سالم، حيث بدا أن مجتمعًا بأكمله قد استحوذت عليه فكرة هيستيرية مدفوعة بضغوط الامتثال القوية التي أدت إلى إعدام ١٩ سيدة لاتهامهن بأعمال السحر بدون أدلة سوى الأحلام والرؤى. وقد عرَّف عالم النفس إرفينج جانيس التفكير الجماعي بأنه «نمط من التفكير ينخرط فيه الناس عندما يكونون منخرطين بشدة داخل جماعة متماسكة، وعندما تطغى مساعي الأفراد الحثيثة نحو تشكيل إجماع على دافعهم نحو تقييم مسارات الفعل البديلة على نحو واقعي.»21 ولا شك أن هذا يصف تجربتي كناشط بيئي. لقد كان لدينا عدد من القواعد الشفهية ولكنها مُطبَّقة على نحو صارم، كعدم قبول أي انتقاد خارجي «للحركة»، لا سيما من جانب ما أسميناه، على سبيل السخرية، «وسائل الإعلام السائدة».
إن مثل هذا النوع من التفكير الجماعي قد يتَّسم بالقمع والإقصاء، لكنه في الوقت نفسه ضروري للمجتمع من أجل الحفاظ على التماسك والتعامل مع أي مشكلة جماعية مشتركة. ونحن كنشطاء ما كنا لنتمكن مطلقًا من اتخاذ الإجراءات الجذرية التي أقدمنا عليها، ونخاطر بالتعرض إلى العنف، أو السجن أو — وهو الأسوأ — محاولة إيقاف الجرَّافات وهي في طريقها لتدمير غابة عتيقة أو منحدر تل عتيق، لولا الجماعات الموالية الشديدة الترابط. أحيانًا كانت هذه الجماعات تُشكَّل بصفة رسمية وتُسمى «جماعات التقارب»، حيث يُتوقَّع أن يراعي كل عضو مصالح الآخر أيًّا كانت الظروف والتضحيات الشخصية. وفي بعض الأحيان كان التصدِّي للإجماع داخل الجماعة مفيدًا وضروريًّا، إلا أنه لم يكن من الممكن استمرار المعارضة الداخلية طويلًا. وكما تقول شولتز: «إن مُنشقًّا وحيدًا يمكن أن يدمر تماسك مجتمع بأكمله. ومن هذا المنظور الأخير، يمثل الشك والمخالفة نوعًا من العدوى، القادرة على الانتشار وتدمير جسد الجماعة وضربه في مقتل. ومن ثَم، تسارع مجتمعات عديدة إلى علاج أو عزل أو نفي (أو في الحالات المتطرفة، قتل) أي مُنشقِّين داخل الجماعة.»22
يفسر هذا بالتأكيد الحماسة التي غالبًا ما تضطهد بها الأديان غير المؤمنين، مع إضمار كراهية خاصة لمن تخلَّوا عن عقيدتهم. وتروي شولتز قصة رجل مسلم في أفغانستان اعتنق المسيحية وأُجبِر على الفرار من البلاد. وقد شهدتُ مثل هذا الأمر بنفسي في المالديف (حيث عمِلت مستشارًا للرئيس لشئون المناخ منذ عام ٢٠٠٩ وحتى عام ٢٠١٢). تزعم المالديف أنها «دولة إسلامية مائة في المائة»، حيث تُحظر المشروبات الكحولية، وتُفتش أمتعتك في المطار لضمان عدم الاستيراد غير المشروع للأشياء المحظورة ككتب الإنجيل ولحم الخنزير. وفي مناسبة واحدة فقط أعلن رجل مالديفي إلحادَه، مما يعني أن الدولة لم تعُد قادرة على الزعم بأنها مسلمة بنسبة مائة في المائة. ولم يكن المحور الأساسي للجدل الوطني الذي نتج عن تلك الواقعة هو وجوب عقاب المُلحِد من عدمه، وإنما نوعية عقوبة الإعدام المناسبة، أهي الرَّجْم أم قطع الرأس؟ وأُجبر على الظهور على شاشة التليفزيون ليتراجع عما أعلنه ويلتمِس العفو.23 بعد ذلك، اختُطِف أعضاء جماعة مالديفية على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، تدافع عن العَلمانية، من قِبل السلطات وهُدِّدوا بالقتل إذا لم يتلوا آيات من القرآن.24 ولقد حاول الرئيس محمد نشيد، الذي عمِلتُ مستشارًا له، أن يطبق نظامًا أكثر علمانية واحترامًا لحقوق الإنسان، لكن حتى هو لم تعُد بيَديه حيلة عندما تأجَّجت المشاعر الدينية بين عامة الناس.

لا أقصد مقارنة أصدقائي في الحركة البيئية بالمتطرفين دينيًّا. فالشيء الوحيد المشترك بين هاتين الحالتين هو أنهما مثالان للسلوك الاجتماعي البشري في أوضح صوره. وهذا شيء نفعله جميعًا، طوال الوقت. ففي كل مرة نشارك منشورًا على موقع فيسبوك عن موضوع سياسي ما، إنما نعلن ولاءنا لجماعتنا بين أصدقائنا. وكما يقول جوناثان هايدت، فإن سُمعتنا مهمة كأهمية المأكل والمأوى، بل ربما أهم منهما؛ لأن الانتماء إلى جماعة، من الناحية التطورية، كان ضروريًّا لتأمين المأكل والمأوى. وهذا النوع من السلوك لا يجعلنا غافلين أو سيئين. وإنما يجعلنا بشرًا.

كل هذا يبدو لي حقيقيًّا؛ لأنني أتذكر كيف كانت مشاعري حينما شرعتُ في الاعتراض على الإجماع داخل الحركة البيئية. لم يكن الأمر يتعلق بالكائنات المعدَّلة وراثيًّا فحسب؛ فقد فعلت الشيء نفسه في مجال الطاقة النووي، وفي مناسبات أخرى أثناء التجمعات والاجتماعات المختلفة. ذات مرة كتبت أنا وبول كينجزنورث أغانيَ ساخرة للأطفال تتعلق بالنشاط المتطرف، دون ذكر أسمائنا عليها، وطُبعت ووُزعت في تجمُّع لجماعة «الأرض أولًا!» في ويلز.25 لم يكن بول حاضرًا، لكن سرعان ما اكتُشف أمري وعومِلت معاملة المنبوذ. أتذكر كيف كان هذا الشعور أشبه بطردك من لعبة في ملعب المدرسة حيث يفر الجميع منك ويختبئون بعيدًا عنك. ورغم أنني كنت مدركًا تمامًا أنني من جلبتُ ذلك على نفسي، كانت ولا تزال تجربة مربكة. لكنني تقبلت الإقصاء الذي فرضتُه على نفسي وقضيت الوقت في تسلق الجبال القريبة.

حدث ذلك في نحو عام ٢٠٠٠، قبل أن أبدأ في تغيير موقفي جوهريًّا حيال قضية الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا. إذن، لم تكن الحقيقة وراء تجربتي أنني اكتشفت معلومات علمية تُعارض موقفي حيال الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا ثم غيرتُ رأيي وفقًا لذلك، مما استدعى طردي من الحركة البيئية. وإنما الحقيقة هي أنني قد شرعت بالفعل في الانسحاب على الأقل من جناح الحراك الاحتجاجي المباشر في المشهد البيئي قبل سنوات عديدة، وذلك لعدة أسباب أخرى. كان ذلك يرجع جُزئيًّا إلى الشعور بالإنهاك والتشاؤم، لكن الأهم هو أنني أدركت عدم براعتي في الحراك الاحتجاجي المباشر وأردت بدلًا من ذلك أن أصبح كاتبًا. وعندما تحدثت بعد ذلك وكتبت علانية عن تغير موقفي حيال الكائنات المعدلة وراثيًّا، استطعت أن أغامر بمواجهة عاصفة النقد من قِبل النشطاء البيئيين؛ لأنني لم أعد مُنتميًا بقوة إلى تلك الجماعة.

إن قراءة كتاب هايدت عن ديناميكيات الجماعة جعلتني قادرًا على إدراك أنني ربما كنت مستعدًّا لتغيير موقفي حيال الكائنات المُعدَّلة وراثيًّا؛ فقط لأنني شرعت في تحويل ولائي من جماعة النشطاء البيئيين إلى جماعة أخرى وهم العلماء. ولقد رأيت أن حصولي على جائزة الجمعية الملكية للكُتب العلمية عام ٢٠٠٨ يُعَد شهادة من المجتمع العلمي على أنني أسير في الاتجاه الصحيح، سواء أكنتُ محقًّا أم مخطئًا في اعتقادي هذا. ولو أنني أنتمي إلى قبيلة من صائدي الرءوس لكان هذا بمنزلة عودتي إليهم ومعي فروة رأس أحد زعماء الأعداء. فقط عندما طال التهديد سمعتي — لأن كتاباتي عن الكائنات المعدَّلة وراثيًّا اتضح أنها غير علمية على نحوٍ خطِر على يدِ من أصبحت معهم في خندق واحد الآن — اضطررت إلى أن أعيد التفكير بجدية في موقفي.

بعبارة أخرى، ربما كنت أقل حرصًا في قرارة نفسي على الحقيقة الواقعية من حرصي على سُمعتي في البحث عن الحقيقة داخل جماعتي العلمية الجديدة. وآمل أن يكون كلاهما واحدًا تقريبًا. لكن حدث كل ذلك لأنني كنت في موقف غير عادي إلى حد ما، بصفتي كاتبًا علميًّا يجب أن يحافظ على سُمعةٍ طيبة فيما يتعلق بالدقة العلمية. بعبارة أخرى، لم يكن الأمر يتعلق كثيرًا بتغيير رأيي. بل كان يتعلق بتغيير انتمائي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤