مقدمة

يُعَد البحث في جذور المفاهيم الأساسية للحرارة واحدًا من أقدم وأعقد الموضوعات العلمية التاريخية، ويُمكِننا اعتبارُه أقدَمَ من الرياضيات والفلك؛ فالحياة على كوكب الأرض لا يمكن لها أن تستمرَّ في الوجود أصلًا دون درجة حرارة مناسبة، وقد حبا المولى — عَزَّ وجلَّ — كوكب الأرض مكانةً في الفضاء؛ حيث إننا لو كنا أقرب لكوكب الزَّهرة لارتفعَت درجة الحرارة واستحالت الحياة، ولو كنا أقرب لكوكب المرِّيخ لانخفضَت درجة الحرارة واستحالت الحياة أيضًا على كوكب الأرض، فجاء موقع الكوكب بتقدير العزيز الحكيم مناسبًا وفريدًا، ولا يمكن بأي شكلٍ من الأشكال أن يكون لأية مُصادفةٍ عبثية دَورٌ في ذلك.

لقد أُهمِل البحثُ والدراسة في موضوع تاريخ علم الحرارة وتحديد إسهامات العلماء العرب والمسلمين فيه رَدْحًا من الزَّمن، فالمُنَقِّب عن أية دراساتٍ سابقة في الموضوع لن يعثُر سوى على دراسةٍ وحيدة يتيمة بعنوان «مفهوم الحرارة في تراثنا العربي الإسلامي»١ قام بها الباحثان همام غصيب، وفؤاد تفال عام ١٩٨٦م، والتي طالَبا فيها منذ ذلك الوقتِ بضرورة استكمال الموضوع، الدعوة التي لم تجدها صداها في دراسات التراث العلمي العربي.
كذلك سقَطَت دراسة هذا الموضوع من أعمال المستشرقين الغربيين، خصوصًا أولئك الذين ركَّزوا جهودهم على التراث العلمي العربي، حتى إنَّ بعضَهم شكك٢ بوجود أية معرفةٍ علميةٍ للعرب بعلم الحرارة؛ نظرًا لعدم وجود مقياس يضبط ظاهراته، لذلك تَعُد الغالبية العظمى من المؤرخين العلميين أنَّ علم الحرارة تأسَّس وبدأ من لحظة إعادة جاليليو اختراع مِكْشافه الحراري الهوائي؛ الأمر الذي جعلَنا نُشمِّر عن ساعد الجِد، وأن نبذلَ كل طاقتنا وجهدنا للبحث في حقيقة الأمر، والعودة للأصول من مخطوطات ونصوصٍ عربية وأجنبية.٣

بدأَت دراستُنا بالتساؤل: أيُعقَل لحضارةٍ عربية إسلامية راقية ألَّا يَفطِن علماؤها لمفهوم الحرارة وما يتعلَّق بها من تطبيقات؟

قد يستغرب الكثير من القُرَّاء إذا علموا أنني حتى أحصل على الإجابة بدأَت بتجميع مادة هذا العمل منذ عام ٢٠٠٥م وحتى عام ٢٠١٥م، من بطون وشذرات العشرات من مخطوطات التراث العلمي العربي المُتبقي، والذي وصلتُ إليه، لأُقدِّمه اليومَ سهلَ التناوُل والعرض والتحليل والمُقارنة بين أيديهم؛ وذلك لأنَّ الكثير من الباحثين — خصوصًا غير المختص منهم — سيجد صعوبةً بالغة في اقتناص المادة؛ سواء مما نُشِر من التراث العلمي العربي، أو من المخطوط منه، ويصنع رابطًا بينها لتصلح ككتاب؛ فالمادة مُبعثرة هنا وهناك، وتحتاج لهمةٍ عالية في جمعها، ولصبرٍ عظيم في ترتيبها وتصنيفها، بطريقةٍ يسهُل فهمُها على القارئ المُعاصر، ولخبرةٍ علميةٍ عالية في تحليلها وفهمها. وهو ما قد مَنَّ به المولى — عزَّ وجل — علينا، فمنحَنا الطاقة على حمل الأمانة حتى أدائها. وبعد الانتهاء من العمل علمتُ السبب الرئيس الذي جعل الكثيرين يُحجِمون عن تناول هذا الموضوع بحثًا وتنقيبًا.

لقد حَرصْنا على تقديم هذا العمل بصورته التاريخية والعلمية المُتكاملة؛ فلا يمكن أن نَعزِل التراث العلمي العربي كظاهرةٍ حضارية مُنفصلة عَمَّن سبقَهم من اليونان أو لحقهم من الأوروبيين؛ لذلك وجدنا أن نُحقِّق فيما أنجزَتْه الحضارات السابقة لنُمَيِّز أصالةَ ما قَدَّمه الأجداد، وهي الأصالة التي سيَسبِقون بها من لَحِقَهم من علماء الحضارة الأوروبية.

تَكْمُن أهمية العمل الذي بين أيدينا بأنَّه يرصُد تاريخَ تطوُّر مفاهيم علم الحرارة عَبْر العصور مرورًا بما أنجزه العلماء العرب والمُسلمون، وما وصلَنا من تراثهم العلمي بشكله النظري والتطبيقي. وقد حاولنا أن نُحِدِّد بدقةٍ الإسهاماتِ التي قَدَّمها العُلماء العرب والمسلمون، بحيث تكتملُ صورةُ تاريخِ هذا العلم تمامًا لدى القارئ العربي، خصوصًا وأنَّ منهجيَّتَنا قائمةٌ على تتبُّع كل ما أنتجه التراث اليوناني ومُقارنته بالإنتاج العربي والإسلامي، ومقارنة الاثنَين بتراث عصر النهضة الأوروبية وصولًا لنهاية القرن التاسع عشر؛٤ لنخرُج بنتيجةٍ حول كل فكرةٍ نقرأ عنها، ومدى تأثُّر كل حضارة بالبناء المعرفي للحضارة التي سبقَتها.

من ناحيةٍ أخرى، فقد وجَدْنا ضرورةَ إعادة تقييم تاريخ العلم الأوروبي حتى نبحث في أسباب نجاح الثورة العلمية الأوروبية وفشلها عند العرب، كما أننا نبحثُ في أسبابِ ما نُسمِّيه ﺑ «أثَر التضخيمِ الإعلامي» للإنجازات العلمية الأوروبية، مُقابل التقليل من شأن أعمال مَن سبقَهم مِن العلماء العرب والمسلمين؛ لذلك فقد يعذرُنا القارئ من كثرة الاستشهاد بأقوال العلماء العرب والمسلمين، والحقيقة أنَّنا أردنا من ذلك تقديمَ الدليل على أفكارهم التي طرحوها، وأن تحليلَنا لم يكن ضربًا من التأويل المُبَالَغ فيه، وإنما عَرضًا للحقيقة من كل جوانبها.

ومن ناحية ثالثة؛ فإنَّ الكثير من المؤرِّخين المُحدَثين الذين يقفون عند المرحلة الأوروبية في تأريخهم لعلمٍ من العلوم أيًّا كان نوعه، يعتقدون أنَّ بقية قصة هذا العلم، أو بقية مراحلِ تطوُّر فكرةٍ من الأفكار يُمكِن للقارئ أن يستكملَها من الكتب الأخرى التي تتكلَّم عنها، والحقيقة أنني لم أجد من الكتب المُترجمة أو المُؤلَّفة التي اطلَعتُ عليها — بعد مسح المكتبة العلمية العربية — ما يُمكِنه أن يُكمِل الكثيرَ من الأفكار الفيزيائية التي كنتُ أبدأ بالتأريخ لها، وقليلةٌ جدًّا تلك المراجع العربية التي كانت تُقدِّم لنا قصةَ تطوُّر فكرة من البداية وحتى النهاية.

وثمَّة أمرٌ نوَد الإشارة إليه تمَّت ملاحظته؛ وهو أن الفجوة الزمنية للاعتراف بالأعمال العلمية من قِبَل المجتمع العلمي نفسه كانت تضيق كلما اتجهنا نحو القرن التاسع عشر؛ فبينما كان الاعترافُ بأعمال اليونانيين والعرب يستغرق مئات السنين في عصور ما قبل الميلاد والوسطى، بات يستغرق عشراتِ السنين بعد عصرِ النهضة الأوروبية، ولهذا دلالته؛ فانتشار الطباعة وتوفُّر وسائل الاتصال والاهتمام بالمؤسسات العلمية ودعم البحث العلمي كل ذلك كان يؤثِّر على تضييقِ هذه الفجوة.

وقد يقول البعض: ما لنا واليونان والغرب، لماذا لا نبدأ بالمرحلة العربية وصعودها وننتهي بانحدارها؟

فنقول ونؤكد: إن موقع العِلْم العربي هو واسطة العِقد بين عِلْمَين؛ أحدهما قديم، والآخر حديث. ولا يمكن أن ندرُس العِلْم العربي معزولًا عن الإرث اليوناني الذي ارتكَز عليه، أو التأثير الذي مارسَه على الغرب فيما بعدُ، طبعًا في حالِ تمَّ الاعتراف بهذا التأثير؛ إذْ لا ينفع عزلُ تاريخ العلم العربي واعتبارُه ظاهرةً مستقلة عن سياقه التاريخي، وإلا فلن يكون حُكمنا دقيقًا وصحيحًا ما لم ندرُس المرحلتَين السابقة واللاحقة، وكيف تداخلَتا مع المرحلة العربية. من ناحيةٍ أخرى فإنَّ استعراض أفكار علماء الغرب يُرشدنا إلى أمرين؛
  • الأول: مدى تأثُّرهم أو عدم تأثُّرهم بالفكر العلمي العربي وأسباب هذا التأثُّر.
  • والثاني: يكشفُ لنا عن طريقة تفكيرهم إزاء الظاهرات الجديدة التي كانت حَجَر عَثْرة أمام تقدُّمهِم.
والخلاصة من ذلك كله هو أخذ الدروس والعِبَر، وليس مجرد السرد والتوثيق؛ وعليه، فإن إعادة كتابة تاريخ الفيزياء بحضور الإسهامات العلمية العربية والإسلامية بمثابة الكأس المقدَّسة.٥ فمقصدُنا هو إكمال الحلقة العربية المفقودة في تاريخ العلوم الفيزيائية عمومًا، والتي يتم تجاوُزُها من قِبَل الكثير من مؤرخي العلوم الغربيين، إمَّا عن قصد أو عن جهل. هل نعذرُهم؟ أم نلومُ أنفسَنا وتقصيرَنا في حق تُراثنا وتاريخنا العلمي؟

سنترك الكِتاب يُجيبنا بما تَوصَّلنا إليه من نتائجَ مُهِمَّة عن إسهامات العلماء العرب والمسلمين في مجال علم الحرارة، والتي كانت غائبةً لزمنٍ طويل فيما تبقَّى من أثَرٍ مخطوط.

نُشير أخيرًا، أن هذا العمل يأتي مُكملًا للأجزاء السابقة٦ في مشروع إعادة كتابة تاريخ الفيزياء العالمية، ولكن بحضور التراث العلمي العربي، ولن يكون الأخير؛ فالسلسلة طويلة، وسنُحاوِل — بما يُكتَب لنا من الحياة — إكمالَ حلقاتها، وإكمال صورة المشهد العلمي في مجال الفيزياء إن شاء العزيز القدير.

أسأل المولى — عزَّ وجل — أن أكون قد وُفِّقتُ في الكشف عن جهود هؤلاء العلماء الذين نفخر — وسنَبقَى نفخَر — بانتمائنا لهم، وانتمائهم لحضارتنا.

والله ولي التوفيق.

د. سائر بصمه جي
حلب، ٢٠١٩م
١  قُدِّمتْ هذه الدراسة في المؤتمر السنوي العاشر لتاريخ العلوم عند العرب، معهد التراث العلمي العربي، جامعة حلب، اللاذقية، ١٩٨٦م، ص١٣٥، ثم أُعيد نَشرُه على شكل كُتيِّب عام ١٩٨٧م (٣٢ صفحة) من قِبَل رابطة الفيزيائيين الأردنية في عمَّان.
٢  انظر خاتمة الكتاب.
٣  لقد قُمنا بحصر كل ما أنجزه الباحثون الغربيون من أبحاث، وتمَّ نشرها في كل المجلات المعنية بتاريخ العلوم، وقد بلغ عدد هذه الأبحاث أكثر من ٥٠ بحثًا تناولَت بالتمحيص كل ما أنجزه اليونان القدماء، والأوروبيون المحدَثون بين القَرنَين السادس عشر، وحتى أواخر القرن التاسع عشر، ثم قُمنا بفَرزِ أفكار وتحليلات هذه البحوث بحسب موضوعها وتاريخها ضمن هذا الكتاب.
٤  أحيانًا كنا نتجاوز إلى القرن العشرين بهدف معرفة نهاية الفكرة وإلى أين وصلَت في بعض الفصول وليس في كلها.
٥  الكأس المُقدسَّة تعبيرٌ عن كل ما يُبحثُ عنه طويلًا وجاهدًا.
٦  بقية الأجزاء هي:
(١) تاريخ علم الصوت/صدر عن مؤسسة الكويت للتقدم العلمي، ٢٠١٢م.
(٢) تاريخ علم الميكانيك/صدر عن دار الكتب العلمية، ٢٠١٧م.
(٣) تاريخ علم البرودة/صدر عن جامعة دمشق، ٢٠١٨م.
(٤) تاريخ علم الأرصاد الجوية/صدر عن دار طلاس، دمشق، ٢٠١٩م.
(٤) تاريخ علم القياس/سيصدر عن دار أروقة، عمَّان، ٢٠١٩م.
(٥) تاريخ علم الفيزياء الفلكية/سيصدر عن وزارة الثقافة، دمشق، ٢٠١٩م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤