الفصل الخامس

الانتقال من الكُمُون الحَراري إلى الحَرارة الكَامِنة

مُقدمة

يُشير مفهوم الكمون الحراري latency thermal إلى استعداد وتهيُّؤ الجسم للتحوُّل من حالةٍ إلى حالةٍ أخرى أو إخراج ما يكمُن فيه من الحرارة بطريقةٍ ما؛ فالجسم يكون قابلًا للاحتراق لأنَّ خاصِيَّة الاحتراق كامنةٌ فيه، وتقوى هذه الخاصِيَّة وتبرُز بشكلٍ واضح لدى ملامسة الجسم للنار، أو لدى احتكاكِ جسمٍ بآخر. وقد انتشَر هذا المفهوم زمنًا طويلًا بين صفوف العلماء نظرًا لعدم وضوح الفرق بين مفهوم الحرارة ودرجة الحرارة.
وعندما توضَّح الفرقُ في القرن ١٨م على يد جوزيف بلانك، تبدَّل مواضع الكلمات في المصطلح، وأصبح العلماء يتحدَّثون عن مصطلح الحرارة الكامنة latent heat الذي يُعرَّف بأنه كميةُ الحرارة التي تمتصُّها أو تُطلِقُها المادة التي تتغيَّر حالتُها عند درجةِ حرارة وضغطٍ ثابتَين.١
المثال الشهير على الحرارة الكامنة هو الذي نراه لدى قيامنا بتسخينِ كميةٍ من الماء والانتظار حتى يبدأ الماء بالغلَيان؛ إذْ في أثناء انتظارنا كان الماء يمتص كميةً من الحرارة (أو الطاقة الحرارية) ويجعلُها تكمُن فيه كمونًا حتى تصل إلى الدرجة ١٠٠° مئوية ويبدأ عندها بالغلَيان، وهكذا يحدُث إذا رغبنا بتبخير الماء.

حالة الكمون الحراري التي درست وفق المفهوم القديم هي حالة خاصَّة من نظرية الكمون العامة التي تقولُ إنَّ كل شيء موجود في كل شيء، وسنجد أنَّ العُلماء العرب والمسلمين أكثر من أسهم في تطوير هذه النظرية، انطلاقًا من جذورها اليونانية.

بالمُقابل فقد كان مفهوم الكمون الحراري سائدًا لدى الأوروبيين منذ أوائل عصر النهضة أيضًا، وحتى أيام جوزيف بلاك، سواء بالصورة السائدة في الفلسفة العربية أو اليونانية؛ فقد كان هناك اعتقادٌ بأنَّ الحرارة مضغوطةٌ داخل المادة، وتخرج كما تخرج الكهرباء من خلال الاحتكاك بين جسمَين.

أهمية تناوُل مفهوم الكُمُون — بشكله العام والحراري بشكله الخاص — هو ارتباطُه بالكثير من الأبحاث الفلسفية التي تُعَدُّ مدخلًا أساسيًّا في مجالَي الفيزياء والميتافيزيقا، سواءٌ بشكلٍ مباشر أو بشكلٍ غير مباشر، مثل البحث في الذرة (الجوهر الفرد)، أو البحث في القوة والفعل، أو البحث في مسائل حدوث الكون وقِدَمه، وحتى مسائل التوحيد.٢

ومن هنا تأتي أهمية هذا البحث أنه يُبْرِز لنا كيف انتقل مفهوم «الكمون الحراري» من صيغته الفلسفية إلى المفهوم الفيزيائي «الحرارة الكامنة» الذي أسهَم بالكشف عن الحدود الفاصلة بين الحرارة ودرجة الحرارة.

المبحث الأول: اليونانيون

الكمون بشكلٍ عام، والكمون الحراري بشكلٍ خاص بدأَت فكرتُه من أناكساغوراس والرُّواقيين، وكانت بمثابة حجر الأساس الذي سيَبني عليه العلماء الرومان والعرب نظرياتهم فيه.

أناكساغوراس (القرن ٥ق.م.)

قد يكون أناكساغوراس Anaxagoras (تُوفِّي ٤٢٨ق.م.) أوَّل من أطلَق فكرة الكُمون والظهور؛ حيث تَعُود أصولُ الأشياء، والواقع أنَّ هذه الفكرة ستكون الأساس الذي سيبني عليه أرسطو Aristotle (تُوفِّي ٣٢٢ق.م.) فكرته في مفهومَي القوَّة والفعل؛ بمعنى تكون الأشياء مختفيةً بالقوة وتظهر عند الفعل، مثل قولنا نُريد بناء منزل (مُجرد التفكير ببناء المنزل يعني أن الفكرة أصبحَت في حيز القوة)، فإذا بنينا المنزل فقد أصبحَت الفكرة في حيِّز الفعل.
وقد قال أناكساغوراس: «حيث قدر الأشياء كامنة في المبدأ (الجسم) الأول، وإنما الوجود ظهورها من ذلك الجسم كما تظهر السُّنبلة من الحَبَّة الواحدة والنَّخلة الباسطة من النواة الصغيرة، والإنسان الكامل الصورة من النطفة المهينة، والطير من البيض، وكل ذلك ظهور عن كُمون، وفعل عن قوة، وصورةٌ عن استعدادٍ ما.»٣

أرسطو (القرن ٤ق.م.)

بخصوص العلاقة بين القوَّة والفعل المرتبة بالحرارة، فإنَّ الحرارة هي قوة التسخين؛ أي سببها الوحيد٤ الذي ينجُم عنها. لكن «القوَّة» وفقًا للمفهوم الأرسطي لا تعنيه كما نفهمها اليوم، من حيث القدرة على إحداث تغييرٍ فيزيائي، وإنما هي كما ذكرنا أقربُ لمفهوم إضمار الفعل، حيث يأتي الفعل ليُجسِّد ما أُضمِر وكَمَن.

الرُّواقيون (القرن ٤ق.م.)

نشأة الكون عند الرُّواقيين، وكل ما فيه هو من النَّار التي كانت تُوجَد وحدها في أوَّل الأمر في الخلاء الذي لا نهاية له؛ ثم تكاثفَت النار إلى هواء وتكاثَف الهواء إلى ماء، وتتولَّد من الماء بذرةٌ مركزية هي العِلَّة البذرية أو قانون العالم؛ وهذه البِذْرة هي التي تحوي العِلَل البذرية لجميع الكائنات الحية، بحيث يكون كل فرد بمثابة (المزيج الكلي) لكل ما سينشأ عنه. وبعد فترة من الزَّمن يُصْبح هذا الكائن الحي قادرًا بدوره على إنتاج بذرة كائنٍ جديد يُشبهُه. وبعد السنة الكبرى؛ أي عندما تعود الكواكب إلى وضعها الأول، يُنتِج العالم بذرةً ينشأ عنها عالمٌ جديد.٥
وبذلك يغدو مفهوم الرُّواقيين في كُمون الأشياء بعضها في بعض وخروجها بعضها من بعض آليًّا، نتيجة لإنكار مفهوم «القوة والفعل» الذي طرحه أرسطو،٦ لكننا سنَجِدُ مُقَاربة من نوعٍ ما سيقوم بها جابر بن حيان (تُوفِّي ١٩٩ﻫ/٨١٥م) بين الرُّواقيين والأرسطيين فيما بعدُ.

المبحث الثاني: الرومانيون

حاول الشاعر والفيلسوف الروماني تيتوس لوكريتوس كاروس Lucretius (حوالي ٩٩–٥٥ق.م.) أن يُوجِدَ علاقة بين الحرارة والجسم الحامل لها، فقد شبَّه الحرارة بالرُّوح التي تحلُّ بالجسد، وعندما تُغَادره فإنَّ الجسد لن يخسر شيئًا من ذرات مادته؛ لأنَّ الأمر ليس كما في حالة الماء السَّائل الذي يتخلَّص في أحوال كثيرة من الحرارة التي أُعطيَت له، ومع ذلك فإنه هو ذاته لا يمزَّق إلى قطع؛ لذاك السبب يبقى بدون أن تنزل به خسارة.٧ وتبدو فكرة لوكريتوس مَنْطِقيَّة جدًّا؛ فالجسم في الحالة الطبيعية يكتسب الحرارة من مصدرٍ خارجي تجعله يسخُن، وعندما يبرُد فإنَّ هذه الحرارة التي اكتسبها تخرُج منه، وبذلك تكون الحرارة عنصرًا غير مضمر أو كامن في الجسم؛ أي ليست في طور (القوَّة) الذي يخرج بالتسخين كما قال أرسطو من قبلُ. كما تناول الفيلسوف الرُّوماني لوسيوس لاكتانتيوس L. Lactantius (نحو ٢٥٠–نحو ٣٢٥م) مفهوم الكُمون، على غرار تناوُله ما سيتناولُه بعد ذلك إبراهيم النظَّام (تُوفِّي ٢٣١ﻫ/٨٤٥م)؛ فقد كان يعتقد بأنَّ النار كامنةٌ في النار والحجر.٨ ولكن لا نعلم إن كان النَّظَّام قد تأثر بكتابات لاكتانتيوس أو أن أعماله قد تُرْجِمَت للعربية أصلًا.

المبحث الثالث: العلماء العرب والمسلمون

وَرَد في معجم مقاييس اللغة لابن فارس حول مادة (كَمَنَ): «الْكَافُ وَالْمِيمُ وَالنونُ أُصَيْلٌ يَدُل عَلَى اسْتِخْفَاءٍ، يُقَالُ: كَمَنَ الشيْءُ كُمُونًا، وَاشْتِقَاقُ الْكَمِينِ فِي الْحَرْبِ مِنْ هَذَا. وَزَعَمَ نَاسٌ أَن الناقَةَ الْكَمُونَ: الْكَتُومُ اللقَاحِ، وَهِيَ إِذَا لَقِحَتْ لَمْ تَشُلْ بِذَنَبِهَا. وَحُزْنٌ مُكْتَمِنٌ فِي الْقَلْبِ كَأَنهُ مُسْتَخْفٍ. وَالْكُمْنَةُ: دَاءٌ فِي الْعَيْنِ مِنْ بَقِيةِ رَمَدٍ.»٩
واصطلاحيًّا يُعرِّفُ أبو عبد الله الكاتب الخوارزمي (تُوفِّي ٣٨٧ﻫ/٩٩٧م) في كتابه (مفاتيح العلوم) معنى الكُمون فيقول: «الكُمون هو استتار الشيء عن الحسِّ كالزبد الذي في اللبن قبل ظهوره، وكالدُّهن في السمسم.»١٠ أمَّا أبو بكر الباقلاني (تُوفِّي ٤٠٢ﻫ/١٠١٣م) فيقول: «الظهور خروج إلى مكان، والكُمون انتقال عنه، وكونٌ في غيره من الأماكن، واستتارٌ ببعض الأجسام.»١١

وهكذا نجد أنَّ المعنى اللغوي للكُمون يتطابق عند العرب مع المعنى الاصطلاحي إلى حدٍّ كبير؛ إذْ يقوم مذهب الكُمون على الاعتقاد بأن كل شيء يكمُن في كل شيء؛ أي إنه كل شيء فيه جزء من كل شيء. وقد اعتقد العُلماء العرب والمسلمون المُتَّفقون مع نظرية الكُمون بقابلية الجسم للاحتراق لأنَّ الحرارة كامنةٌ فيه.

ويرى الباحث محمد عاطف العراقي بأنَّ القائلين من العرب بمذهب الكُمون قد تأثروا بأناكساغوراس الذي قال بأنه لا يُمكِن إرجاع الأشياء المُرَكَّبة إلى عناصرَ بسيطة؛ فمهما بلغَت عملية تقسيم الأجسام، حسب النَّظرية الذرية لديموقريطس Democritus (٤٦٠؟ق.م.–٣٧٠؟ق.م.)، فإنَّ التقسيم ينتهي دومًا إلى أجزاء متجانسة في الكل: العَظمُ في العظمِ واللَّحمُ في اللحمِ. وهكذا، فإنَّ كل قطعةٍ مهما صغُرَت تكون قابلةً للتجزئة، وتحوي جميع الأشكال والكيفيات، ولا تختلف عن قطعةٍ أخرى مُخَالفة لها إلا بالنسب المُختلفة التي مُزجَت فيها على وَفْقها.١٢ ويعتبر العراقي بأنَّ مذهب الكمون «يُنسَب في الإسلام إلى إبراهيم بن سيار النَّظام المُتكلم المُعتزلي الذي جعل من مسألة الكمون النقطة الرئيسة لمذهبه في المباحث الطبيعية.»١٣ مُعتمدًا في قوله هذا على ما طرحه مُعارضو النَّظَّام؛ عبد القاهر بن طاهر البغدادي (تُوفِّي ٤٢٩ﻫ/١٠٣٧م) في كتابه (الفَرْق بين الفِرَق)،١٤ وأبو الفتح الشهرستاني (تُوفِّي ٥٤٨ﻫ/١١٥٣م) في كتابه (المِلَل والنِّحَل).١٥

لكننا لا نتفق معه في هذا النسَب؛ فقد وجدنا أنَّ جابر بن حيان، الذي تُوفِّي قبل النظام بنحو ثلاثين سنة، قد تَكَلَّم في هذا المذهب، ويذكُر جابر أنَّ المذهب كان شائعًا ومنتشرًا في عصره، ولكن رُبَّما النظام كان أكثر من جَادَل فيه، وقَدَّم أمثلةً توضيحية موسَّعة من الطبيعة عليه؛ وبالتالي ظهر له مؤيدون ومعارضون، خصوصًا وأن سَبَق للنَّظَّام وأن أثار مسألة الطفرة في الحركة (أي الوثب مع الارتفاع)، والتي قسَّمَت العلماء والفَلاسفة أيضًا إلى فريقَين متفقين معه ومخالفين له. والجيد في الأمر هو ظهور حركة النقد العربي لهذا المذهب، سواء كان مصدره النظَّام أم اليونانيين وعدم قبوله على علَّاته.

باستثناء جابر بن حيان، فقد كان عدد المُعارضين والمنتقدين لنظرية الكمون الحراري التي أشاعها إبراهيم النَّظَّام في مذهبه ثمانية أشخاص، أما الذين وافقوه فكان عددهم ثلاثة أشخاص فقط، وهذا يعني أنَّ الغالبية العظمى من العلماء العرب والمسلمين كانت ترفُضها وتنتقدُها وتُحاوِل أن تقدِّم التفسير البديل لها، وبالتالي البديل على الفكر اليوناني.

جابر بن حيان (القرن ٣ﻫ/٩م)

اعتبَر جابر بن حيَّان أن مفهوم الكُمون والظُّهور يُناظر مفهومًا سبق وأن أرسى أرسطو أسسه، وهو القوَّة والفِعْل، فالكُمون يُقابل القوَّة والفعل يقابل الظهور، فنراه يقول: «إنَّ الطلعَ في الرطب، والرطب في الطلع بالقوة، وإذْ قد بان ذلك فإنَّ في الأشياء كلها وجودًا للأشياء كلها، ولكن على وجوه من الاستخراج، فإنَّ النار في الحجر كامنة [و] لا تظهر، وهي له بالقوة؛ فإذا زُنِدَ أوريَ، فظهَرَت، وكذلك الشمع في النحل.»١٦ ثم يُؤكد لنا كيفَ أنَّ هذه النَّظرية كانت شائعة ولها أتباع فقال: إنَّ «أصحاب الكُمون والظُّهور زَعَمُوا أنَّ الأجسام لا يُوجَد منها شيء بسيطٌ صرفٌ بل كل جسم فإنه مُختلط من كل الطبائع، لكنه يُسمى باسم الغالب عليه، فإذا لقيه ما يكون الغالب عليه من جنس ما كان مغلوبًا فيه؛ فإنَّه يبرز ذلك المغلوب من الكمون ويُحاول مقاومة ما كان غالبًا.»١٧

والظَّاهِرُ أنَّ جابر كما ذكرنا، حاولَ أن يَقِفَ موقف المُحَايد من النَّظرية، مُحَاولًا التوفيق بين الآراء اليونانية، ولا يجعل القارئ يقع في حيرة من أمره؛ أي هل يعتمد مفهوم الكُمون أم مفهوم القوة والفعل، وأنَّ كلًّا منهما وجهان لعملةٍ واحدة، ومن خلال اطِّلاعنا الواسع على مؤلَّفات جابر فقد وجدنا أنه كان يعتمد مفهوم القوة والفعل أكثر مِمَّا يعتمد مفهوم الكمون.

إبراهيم النَّظَّام (القرن ٣ﻫ/٩م)

يُصَنَّف إبراهيم النَّظام في الطبقة السَّادسة من طبقات المُعتزلة،١٨ ويُقِرُّ الكثيرون بذكائه وقدرته على ابتكار الجديد من الأفكار، وقد لاحظنا أنَّه لا يخوض في أمرٍ ما إلا لهدف أو غاية، وليس الكلام من أجل الكلام.
فيما يتعلق بكلامه في الكُمون فقد كان يَتَعَلَّقُ عنده بأمرَين؛ كُمون الأعراض، وكمون الموجودات. وكان النَّظام يقولُ بكلا النوعين، ويقصد بكُمون الأعراض: «أن الأعراض قديمة في الأجسام غير أنها تكمُن في الأجسام وتظهر، فإذا ظهرت الحركة في الجسم كمَن السكون فيه، وإذا ظهَر السكون فيه كمَنَت الحركة فيه، وكذلك كل عَرَض ظهَر كَمَنَ ضِدُّه في محله.»١٩
أمَّا كمون الموجودات فقد كان يُقسمه إلى ثلاثة أنواع:٢٠
  • (١)

    كُمون الاختناق: وهو الذي نجده في كُمون الزَّيت في الزَّيْتُون والدُّهن في السمسم والعصير في العنب، وهذا النوع لا يُعَارضه فيه أحد.

  • (٢)

    كمون ما هو بالقُوَّة، كالنخلة في النواة والإنسان في النُّطفة.

  • (٣)

    كُمون العناصر المتضادَّة: حيث تتكون الأجسام عنده من عناصر وأجناسٍ متضادة، مثل عود الحطب المُكَوَّن من نار وماء وتراب وهواء أو دخان، والنار حر وضياء، والماء سيولة ورطوبة.

وحسب التقسيمات السَّابقة فإنَّ مفهوم الكُمون أعمُّ وأشملُ من مفهوم القوة والفعل الذي جاء به أرسطو قبل ذلك.

أمَّا قول النَّظَّام وأتباعه بكمون صفات المادَّة، يعني استقلال هذه الصفات عن الذات المُدْركة، وبذلك فإنَّه يذهب عكس ما قاله الفيلسوف الإنكليزي جورج باركلي G. Berkeley (١٦٥٨–١٧٥٣م) في القرن ١٨م.٢١
وقد تَكلَّم الشَّهْرستاني عن مصدر مَذْهب النَّظَّام فقال: «وإنَّما أخذ هذه المقالة من أصحاب الكُمُون والظهور من الفلاسفة، وأكثرُ مَيلِه بدأ إلى تقرير مذاهب الطبيعيين منهم دون الإلهيين.»٢٢ وقول الشهرستاني «أخذ هذه المقالة» رُبَّما يعني بهم الرُّواقيين، فقد كانت تجري له مناظراتٌ مع الديصانية٢٣ وغيرهم من الفرق التي ظهَرَت في عصره. ويُقرِّر الباحث جوزيف هورفتز J. Horovitz أنَّ قول النظام في الكُمون يرجع إلى العِلَّة البذرية عند الرُّواقيين، وهو أنَّ الأشياء بجملتها كانت كامنة في الجسم الأول أو العقل على هيئة بذور، وأنَّها تظهر منه بالضرورة كظهور الحيوان أو النَّبات من البذرة، ثم يرجع هورفتز إلى نصٍّ آخر ذكره الشهرستاني، وقال فيه إنَّ أول من تكلَّم عن الظهور والكُمون هو أناكساغوراس،٢٤ وقد أكَّد ذلك المستشرق الألماني ماكس هورتن M. Horten أيضًا.٢٥
لكن الفرق بين أناكساغوراس والنَّظام أنَّ النار — عند الأخير — كامنة في كل العود، وهي تمثِّل أحد أركانه الأربعة: النار، والدخان، والماء، والرَّماد، وبذلك فإن العناصر المفردة متناهية العدد، في حين افترض أناكساغوراس أن عناصر الأشياء كلها في كل شيء، فالنبات فيه مثلًا جميع الأشياء، ولكنها مختلطة ومتناهية في الصغر، لذا يتعذر مُشاهدتُها.٢٦
من ناحيةٍ أخرى، ينقل لنا الجاحظ رَدَّ النَّظام على أصحاب الأعراض الذين اعترضوا على القول بكُمُون النَّار في الخشب، فقد قال النَّظام: «فإنْ اعترض علينا مُعترضٌ من أصحاب الأعراض فزعم أنَّ النارَ لم تكن كامنةً وكيفَ تكمُنُ فيه وهي أعظم منه؟ ولكنَّ العُودَ إذا احتك بالعُود حَمِيَ العودان، وحمي من الهواءِ المُحيط بهما الجزءُ الذي بينهما، ثم الذي يَلي ذلك منهما، فإذا احتدم رَقَّ ثم جفَّ، والتهب؛ فإنما النارُ هواءٌ استحالَ، والهواءُ في أصل جوهرهِ حارٌّ رَقيق، وهو جسمٌ رقيق وهو جسمٌ خَوَّارٌ جيِّد القبول سريع الانقلاب.»٢٧ إذن حتى يُخْرِج العُودُ الحرارةَ الكامنة بداخله، وتحدُث عملية الاحتراق لا بد من توفُّر العناصر المساعدة مثل الاحتكاك والهواء.
أخيرًا، واعتمادًا على مفهوم الكُمون الحَرَاري حاولَ النَّظام تفسير عملية غليان الماء كما يأتي: عندما يتم تسخين الماء فإنَّ انطلاق الفقاعات منه ليست مجرَّد هواء، كما يعتقد الكثيرون، وإنما هذه الفقاعات عبارة عن عنصر ناري كان كامنًا في بنية الماء، وقد تهيَّج وانطلق من أَسْره بتأثير النَّار الخارجية، فرفعَت معها أجزاء من الماء، وهكذا فإنَّ النار والماء يمكنهما أن يُوجَدا جنبًا إلى جنب، ولكن اتصالهما وانفصالهما لا يتم إلا بوساطة قوةٍ قاهرة؛ كونهما غير متجانسَين بطبيعة الحال.٢٨

القاسم بن إبراهيم الرَّسي (القرن ٣ﻫ/٩م)

أنكر القاسِمُ بن إبراهيم الرَّسي (تُوفِّي ٢٤٦ﻫ/٨٦٠م) مفهوم الكُمون، وأن تكمُن الأشياء بداخل بعضها بعضًا، وقد ورَدَ هذا النُّكران في عملَين؛ الأول في «الرَّد على الزنديق اللعين ابن المقفع»،٢٩ والثاني في رسالة مخطوطة ضمن مجموع موجود في مكتبة الدولة ببرلين.٣٠
وخلاصة قوله في الموقعين السابقين؛ أنه يُورد لفظ الكُمُون بمناسبة مذهب أناكساغوراس، والذي سيُعرف عند العرب بأنه صاحب الكُمون، ويُنكِر أنَّ النخلة تكمن في البذرة أو تتطور عنها.٣١ لكنه لا يقدِّم البديل عن فكرة النظَّام، فكان رأيه مجَرَّد اعتراضٍ ليس أكثر.

أيوب الرَّهاوي (القرن ٣ﻫ/٩م)

انتقد أيوب الرهاوي (أيوب الأبرش السرياني) (القرن ٣ﻫ/٩م) في «كتاب الكنوز» مذهب الكُمون الذي أشاعَه النَّظَّام، ويذكُر أيوب أنه التقى به شخصيًّا، وقد حاول نقض هذا المذهب في كتابه بأكثر من ١٢ صفحة، رُبَّما لكون الرَّهاوي يتبع مذهب أرسطو الذي يُقرُّ بأنَّ النار عبارة عن هواءٍ ساخن، بخلاف النَّظام الذي يَعْتبر النَّار تكمُن في الحطَب والحجَر. لكنه في الوقت نفسه يعترف بجهود النَّظَّام وبأنه فيلسوف وليس مُتكلمًا، وهو ما يعني قدرة النَّظَّام على إقامة مذهبٍ مُنسَّق.٣٢

عبد الله الكعبي (القرن ٤ﻫ/١٠م)

نفى عبد الله أبو القاسم الكعبي (تُوفِّي ٣١٩ﻫ/٩٣١م)، ومَن معه من البغداديين، فكرة الكُمُون التي طَرحَها النَّظَّام بقوله: «إن النار تحرق ما لاقاها، على قَدْر قلَّته وكثرته، وأجزاء الحجر وإن لم تكن تقوى على إحراقها فهي تَسحَقُه.» ويُعَلِّل البغداديون قوله بطريقةٍ منطقيةٍ قائلين: «لو كان في الخشب نارٌ كامنة لكان يجب أن تحترق الخشبة [نفسها]، وبعد، فكان يجب إذا سحقنا الخشب أن تظهر تلك النار.» بالمُقابل رَدَّ البصريون المؤيِّدون للنَّظَّام على هذا التفسير بقولهم: «إنَّ النار في الخشب مُتفرِّقة في مواضع منه، هي يسيرة وقليلة، وفي الخشب صلابةٌ تمنع النار من الاشتعال والتأجُّج.» يَقصِد بفِكْرة الكُمُون والمُداخلة اختلاف قابليةَ الأجسام على الاشتعال، وما تُعْطيه هذه الظاهرة لمُتبَنِّي الفكرة من خيالٍ في وجود النَّار داخل الخشب أو القطن، مثل وجود الكهرباء داخل الأجسام. ومع أنَّ الكعبي نفى تلك الفكرة فإنه تَبَنَّى في مكانٍ آخر فكرة (كمون الماء في الهواء) كما فعَل البصريون، وقد قال في ذلك «إنَّ الهواء يستحيل ماءً.»٣٣ وقصد بذلك أن الهواء يتضمَّن عنصر الماء ويظهر ضمن ظروفٍ معيَّنة، مثل تكاثُفه على سطحِ كوبِ ماءٍ بارد.

أبو الحسن الأشعري (القرن ٤ﻫ/١٠م)

ينقل لنا محمد بن الحسن بن فُورَك (تُوفِّي ٤٠٦ﻫ/١٠١٥م) عن أبي الحسن الأشعري (تُوفِّي ٣٢٤ﻫ/٩٣٦م) توضيحه لمفهوم الكُمُون كما يجب أن يُفهَم، فهو إمَّا يعني أنَّ جسمًا ما يحل في جسمٍ آخر، أو أن يكون الجسم يحوي على جسمٍ آخر، لكن لا يمكن لصفةٍ عارضة أن تكون كامنةً في الجسم وأصيلةً فيه.

قال الأشعري: «إنَّ الكُمون والظُّهور من صفات الأجسام، ولا يصحُّ وصف الأعراض بذلك على الحقيقة؛ لأنَّ هذه الصفة تختصُّ بما يكون مُتحيزًا يجوز عليه الحركة والسكون، وذلك من أوصاف الجوهر. وكان يقول إنَّ معنى كون الشيء في الشيء قد يكون على وجهَين؛ أحدهما بمعنى المُجَاورة والمُمَاسَّة وذلك ككون حلول الجسم في الجسم، وقد يكون على معنى أن الشيء حاوٍ له فيكون ظرفًا له ووعاء له، فأمَّا القول بأنَّ العرض في الجوهر والصِّفة في الموصوف، فكان يأبى ذلك ويقولُ إنَّ ما لا يَصِحُّ أن يحلَّ الشيء فلا يصحُّ أن يكون فيه؛ لأنَّ كون الشيء في الشيء إنما يصحُّ إذا صحَّ حلولٌ فيه، وقد بَينَّا أنه كان يقول إنَّ الحلول من صفات الجوهر، وإن العرض لا يصح أن يكون حالًّا في الشيء، ولا الصفة حَالَّة في الموصوف.»٣٤

القاضي عبد الجبار (القرن ٥ﻫ/١١م)

رفض القاضي عبد الجبار (تُوفِّي ٤١٥ﻫ/١٠٢٥م) فكرة الكُمُون التي طرحها النَّظَّام، وقال القاضي إنَّ منطلقه في ذلك هو الاعتقاد بأنَّ الأعراض وكل ما يحدث في الأجسام من تغييرات تحدُث بطبع المحل؛ أي من الجسم الذي تصدُر منه؛ ولهذا فإنَّ القول بالكُمُون يؤدِّي إلى جملةٍ من النتائج المرفوضة لدى تطبيقها على العقيدة الإسلامية مثل:٣٥
  • (١)

    نقض نظرية التكليف؛ إذْ يُمكِن أن تؤدِّي هذه النظرية من جهةٍ مخالفة إلى نتيجةٍ مخالفة، وهي أن الله خلق الكون وأكمَن فيه كلَّ ما سيظهر من أفعالٍ وتغيرات، فلماذا يُحاسَب الإنسانُ على فعلٍ خُلِق فيه، ويظهر بطبع محله لا بإرادته.

  • (٢)

    إنَّ الله لا يخلق الأعراض أصلًا، ما دامت الحركات والتغيُّرات كلها تحدُث بالظهور من الكمون أو بطبع المحل، وهذا يتعارض تمامًا مع القول بالمعجزات.

كما رفض القاضي الحلَّ الحتميَّ لوجود الأعراض، وإن كان يقبل بالسببية المباشرة لكل متغيِّر، لكن لا يجوز أن يكون السبب بعيدًا كالكُمُون الذي يزعُمون أنه خُلِق مع الأجسام.

ابن سينا (القرن ٥ﻫ/١١م)

تناول ابن سينا نظَرِيَّة الكمون بالنقد والاعتراض عليها، مؤيدًا بذلك ما ذهب إليه أرسطو؛ وذلك لأنَّ أصحابها — من الناحية الحرارية — يقولون بأنَّه لا استحالة في الكيف وفي الصورة معًا؛ أي إن الماء لا يسخُن في جوهره، وإنما فشَت فيه أجزاءٌ ناريةٌ داخلية، وما يُعتقد أن قد برد تكون قد فشَت فيه أجزاءٌ جسدية.٣٦
ويردُّ ابن سينا على أصحاب الكُمُون، الذين يعتبرون الحرارة شيئًا ماديًّا، فلو أنَّ الحرارة كانت كامنةً في جسمٍ ما، ووُضِع بجواره جسمٌ آخر بارد فإنَّ الحرارة ستنتقل من الجسم الأول إلى الثاني مسببةً برودة الأول؛ نظرًا لوجود تفاوُت في الحرارة بينهما، لكن هذا لن يحدُث، إذن لا يوجد حرارةٌ كامنة في الجسم.٣٧
ويرى ابن سينا أنَّ الأصل في عنصر الحرارة أن يبقى ساكنًا كامنًا في مركز الجسم، ولا يكون تحرُّكه عرضيًّا عندما تُطبق عليه حرارة من مصدرٍ خارجي «يجب أن تعلم أنَّ الحرارات ليست بسالكة عن المركز؛ لأنَّ الحرارة غير مُتحركة اللهم إلا بالعَرَض؛ لكونها في جسمٍ متحرك ككون إنسانٍ ساكن في سفينةٍ مُتحرِّكة.»٣٨
كذلك لدى احتكاك جسمٍ بجسمٍ آخر، فلا يُمكِننا القول بأنه تُوجَد نارٌ قد انفصلَت من الحاكِّ ودخلت في المحكوك أو العكس. دليل ذلك بأنه ولا واحد منهما يبرُد بانفصالهما فيسخُن الآخر بنفوذها فيه، بل إنهما يسخُنان ظاهرًا وباطنًا.٣٩
أمَّا الاستدلال على حدوث السُّخونة عند الحركة العنيفة، فهو يَدُلُّ على خطأ مذهبهم؛ لأنَّ ذلك يحدُث دون حدوثِ نارٍ غريبةٍ خارجية يُمكِن نفوذُها في التسخين، فإذا كان لدينا وعاءان أحدهما من النحاس والآخر من الخزَف، فإنَّ الحرارة لو كانت نتيجةً لنفوذ النار وانتشارها في الماء، لوجب أن يسخُن الماء الذي في قِدْر الخزَف قبل الماء الذي في قِدْر النحاس؛ وذلك لقُدرته على النفوذ في الأول أكثر من الثاني، إلا أنَّ الأمر ليس كذلك.٤٠
أخيرًا، يصل ابن سينا إلى رأيه النهائي بأنَّ الكُمُون ليس له معنًى البتة؛ لأنَّ الجسم يكون باردًا في جميع أجزائه الدَّاخلية والظاهرية، ثم يسخُن في جميعها، ولو كانت هناك النار كامنةً في جزءٍ منه، ثم ظهَرَت في جزءٍ آخر، لكانت الحرارة موجودةً في ذلك الجزء ثم انتقلَت عنه ونزلَت في ذلك الجزء مثل البرودة التي كانت موجودة في الجزء المُنتقَل إليه، وليس الأمر كذلك، وإنما السبب في ذلك هو التحوُّل وليس الكُمُون ولا المُخَالطة مع شيء من الخارج.٤١

أبو رشيد النيسابوري (القرن ٥ﻫ/١١م)

يختلف أبو رشيد النيسابوري (تُوفِّي نحو ٤٤٠ﻫ/١٠٤٨م) مع رأي شيخه أبي القاسم الكعبي حول الكُمُون الحراري، الذي سبق وأن أنكره؛ فالدليل على صحة ما قاله المؤيدون لمذهب النظَّام — حسب أبي رشيد — هو أنَّ «النار التي تحصُل بالقدْح في الحجَر لا تخلو من أن تكون قد ظهَرَت من الحجَر عند القدْح، كما نقوله أو يكون ذلك مما يحدُث عند فعل الله تعالى بالعادة أو يكون الهواء بقدْحنا في الحجَر يستحيل نارًا فتكون الحرارة من فعلنا، ولا يجوز أن يُقال إنَّ النار تحصُل من فعل الله بالعادة؛ لأنَّ الحال في ذلك تستمر على طريقةٍ واحدة، ولو كان ذلك حاصلًا بالعادة لكان لا يمتنع أن يكون الحجَر لا تنقدح منه النار أصلًا، وإن رُقق وقُدح بالحديد المموَّه.»٤٢
المدهش في الأمر أنَّ التجربة التي أجراها همفري ديفي٤٣ في القرن ١٩م تكلَّم عنها أبو رشيد هنا، ونفى إمكانية أن يصدُر عن احتكاك قطعتَي جليدٍ حرارة، لكنَّ أبا رشيد لم يُكمِل لنا نتيجةَ التجربة، فما حصل عليه ديفي هو انصهار الجليد وهو ما لم يُشِر إليه أبو رشيد.
قال أبو رشيد في وصف تجربته: «وَمَرَّةً تنقدح النار إذا ضرب قطعةَ جليدٍ على قطعةٍ أخرى من الجليد، وقد علمنا فسادَ ذلك، ولا يجوز أن يُقال إنَّ الحرارة تحصُل من فعلنا؛ لأن المولِّد لها يجب أن يكون الاعتماد، فكان يجب من غير القدح بالحجَر أن نفعل في الهواء حرارةً إذا اعتمدنا عليه وأن نُحيلَه نارًا، وبعدُ فكان يجب ألا تفترق الحال سواء قدَحْنا بحديدٍ مموَّه أو بما لا يكون سبيله هذا السبيل، وكان يجبُ ألا يقترف بعض الأحجار من بعض لأن المُعتبَر فيما تولَّد بالاعتماد، والاعتماد حاصل على حدٍّ واحدٍ في سائر الأحوال. على أنا لو قدَرنا على الحرارة لقدَرنا على البرودة، ولو قدَرنا عليها لكان لا تخلو حالُ ما نفعله من البرودة أمرَين: إما أن تكون مباشرةً أو متولِّدة، ولا يجوز أن تكون مُباشرة؛ لأن أحدنا ربما يقوى داعيه إلى أن يبرد جسده عندما يجب من حرِّ الهواء، ومع ذلك فإنه لا يتمكَّن من ذلك، ولا يجوز أن يكون متولِّدة في غير محلِّ قدرته؛ لأن السبب الذي يُعدَّى به الشيء عن محل القدرة ليس إلا الاعتماد، فكان يجبُ أن يُقال في الاعتماد إنه كما يولِّد الحرارة يولِّد البرودة، وإن كان كذلك لكان يجب أن يولِّد الحرارة والبرودة في حالةٍ واحدة، وذلك مُحال.»٤٤
وقد تصدَّى أبو رشيد بالإجابة لأولئك الذين طَرحُوا السؤال الآتي: «قالوا لو كان في الخشب نارٌ كامنة لكان يجب أن تحترق الخشبة، وبعدُ فكان يجب إذا سحقنا الخشب أن تظهر تلك النار، وكان يجب بعد سحق الحجر وتفتُّته أن تظهر النار.» فكان الجواب: «إن النار التي في الخشب مفتوقةٌ في مواضعَ منه، وهي يسيرةٌ قليلة وفي الخشب صلابةٌ تمنع النار من الاشتعال والتأجُّج؛ فلذلك لا يحترقُ بها ولا تظهر النَّارُ بسحق الخشب لأنَّ بالسحقِ تفترقُ أجزاءُ النار وهي يسيرةٌ فتتبدَّد عند ذلك فلا تظهر ولا تجتمع، وإنما لم يجُز أن يُسحَق الحجَر فتظهر النار لما ذكَرنا من قلَّته وصلابة الحجَر.»٤٥

ابن حزم الأندلسي (القرن ٥ﻫ/١١م)

انتقد ابن حزم، نظرية الكُمُون النظَّامية، وقد حاول أن يمنح نقدَه هذا ركيزةً برهانيَّة تستند إلى العلم؛ فابن حزم، بناءً على طبائع المواد، يرى أنَّ الخشب لا يحترق لأنَّ في قلبه نارًا، بل لأن طبيعتَه أن يحترق كُلَّمَا قاربَتْه النَّارُ. والنواة لا تكمُن فيها النَّخلة كمونًا سابقًا، بل رَكَّبها الله بحيث إنها إذا لامسَت الرُّطوبة الأرْضِيَّة والمناخ المناسب أنبتَت النَّخل؛ لذلك فالأمرُ يتعلَّق بطبائع الأشياء وليس أنَّ الأشياء كامنةٌ ببعضها، وهناك بَونٌ شاسع بين الكُمون والطبائع. والمنتقدون لنظرية الكمون، أمثال ضرار بن عمرو (تُوفِّي نحو ١٩٠ﻫ/٨٠٥م) والأشاعرة، لم تَلفِت انتباهَهُم هذه النقطة.٤٦
قال ابن حزم: «أمَّا الكُمُون فإنَّ طائفةً ذهبَت إلى أنَّ النار كامنةٌ في الحجَر، وذهبَت طائفةُ إلى إبطال هذا، وقالت إنه لا نار في الحجر أصلًا وهو قول ضرار بن عمرو. قال أبو محمد: وكل طائفةٍ منهما فإنها تُفرِط على الأخرى فيما تدَّعي عليها؛ فضرار ينسبُ إلى مُخَالِفيه أنَّهم يقولون بأنَّ النخلة بطولها وعَرْضها وعظمها كامنةٌ في النواة وأنَّ الإنسان بطوله وعَرْضه وعمقه وعظمه كامن في المَنِيِّ، وخُصُومه ينسبون إليه أنه يقول ليس في النار حَرٌّ، ولا في العنب عصير، ولا في الزيتون زيتٌ ولا في الإنسان دم.»٤٧
ثم يُورِد ابنُ حزم أدِلَّته على عَدَم صحة مذهب الكُمُون، فقال: «وكلا القولين جنونٌ محض ومكابرة للحواس والعقول، والحق في ذلك أنَّ في الأشياء ما هو كامنٌ كالدم في الإنسان، والعصير في العنب، والزيت في الزيتون، والماء في كل ما يُعْتصر منه، وبرهان ذلك أنَّ كل ما ذكرنا إذا خرج مما كان كامنًا فيه ضَمرَ الباقي لخروج ما خرج، وخفَّ وزنه لذلك عَمَّا كان عليه قبل خروج الذي خرج، ومن الأشياء ما ليس كامنًا كالنَّار في الحجر والحديد، لكن في حجر الزناد والحديد الذكر قوةٌ إذا تضاغطا احتدَم ما بينهما من الهواء، فاستحال نارًا. وهكذا يعرض لكل شيءٍ مُنْحَرِق فإنَّ رطوباته تستحيل نارًا ثم دخانًا، ثم هواء؛ إذ في طبع النار استخراجُ ناريات الأجسام وتصعيدُ رطوباتها حتى يفنى كل ما في الجسم من الناريات والمائيات عنه بالخروج، ثم لو نفختَ دهركَ على ما بقي من الأرضية المَحْضَة وهي الرَّماد لم يحترق ولا اشتعل إذ ليس فيه نارٌ فتخرج، ولا ماء فيتَصعَّد، وكذلك دهن السِّراج فإنه كثير الناريات بطبعه، فيستحيل بما فيه من المائية اليسيرة دخانًا هوائيًّا، وتخرج ناريته حتى يذهب كلُّه. وأمَّا القول في النوى والبزور والنُّطَف فإنَّ في النواة وفي البزر وفي النطفة طبيعةً خلقها في كل ذلك الله — عز وجل — وهي قوة تجتذب الرُّطوبات الواردة عليها من الماء، والزبل، ولطيف التراب الوارد كل ذلك على النواة والبزر، فتُحيل كل ذلك إلى ما في طبعها إحالتُه إليه فيصير عُودًا، ولُحاء، وورقًا، وزهرًا، وثمرًا، وخوصًا، وكَرْمًا، ومثل الدم الوارد على النطفة فتحيله طبيعتُه التي خلقَها الله تعالى فيه لحمًا ودمًا وعظمًا وعصبًا وعروقًا وشرايين وعضلًا وغضاريف وجِلدًا وظُفرًا وشَعَرًا، وكل ذلك خلقُ الله تعالى، فتبارك الله أحسن الخالقين، والحمد لله رب العالمين.»٤٨
وانطلاقًا من فكرة أنَّ الوقائع الحسية ثابتة، ومُطَّرِدة للعيان، وتفرض وجودها باعتبارها نمطًا من أنماط الخبرة يَختلفُ عن غيره من الأنماط؛ فإنَّ ابن حزم ينتقد من ينكر خاصية الحرارة والإحراق في النَّار فيقول: «ذهب الباقلاني، وسار الأشعرية إلى أنه ليس في النَّار حَرٌّ، وهذا موضعٌ تشهَد الحواسُّ بتكذيبهم، ولعل بطونكم لا مصارين فيها، ورءوسكم لا أدمغة فيها، لكن الله خلق كل ذلك عند الشدخ، والشق.»٤٩

ابن متويه (القرن ٥ﻫ/١١م)

انضم ابن متويه (تُوفِّي ٤٦٩ﻫ/١٠٧٦م) إلى تيَّار المؤيدين لمذهب الكُمُون، فقال: «حُكي عن شعيب بن ذرارة، وطبقة من قلَّة المتكلمين، أنهم لم يُثبِتوا في النار حرارة، ولا في الزيتون زيتًا، وأنَّ الحرارة تحدُث فيها عند قربنا منها، والزيت يحدث عند العصر، ورُبَّما قالوا: بل تحدُث فينا الحرارة عند القرب منها، وهذه جهالةٌ مُفْرِطة. وفي ذلك قال بشر بن المُعتمر:

يا شعيبُ بن ذُرارة
يا حمار بن حمارةْ
ليس في الزيتون زيتٌ
ليس في النار حرارةْ؟
وقد ذهبَ أبو القاسِم إلى أنهما مقدورتان للعباد، وقال: إنَّ أحدنا إذا حكَّ إحدى راحتَيه بالأخرى أو حك إحدى الخشبتَين بالأخرى حصلَت هناك حرارة وهذا يُوجِب أنه الفاعل لها.»٥٠

طبعًا لم يقف ابن متويه عن حدود الاتفاق السَّابق بإيراد الهجاء اللاذع الذي وجَّهه بِشرٌ إلى شعيب فقط، وإنَّما قَدَّم أدلَّته على صحة المذهب؛ فنراه يُشير إشارةً لطيفة إلى أنَّ عملية الاحتكاك تُسبِّب إثارة (يُسَمِّيها ابن متويه انزعاجًا) في المادة التي تتعرَّض للاحتكاك، وتكون الإثارة أسرع في الأجزاء الحارَّة منها في الأجزاء الباردة. ويبدو أن ابن متويه حاول تطبيق هذه الفكرة على المسألة التي تكلَّم عنها أبو رشيد بأنَّ الحرارة تنشأ بسبب صلابة المادة أو رَخَاوتِهَا التي تَمنَع أو تَسمَح بظهور الحرارة؛ لذلك فإنَّ حكَّ الجليد بالجليد لا يُشبِه حكَّ اليدَين مع بعضهما، فالجليدُ لا تكمُن الحرارة بداخله، لكن حك قطعتَي الجليد يخلق حالةَ إثارةٍ مؤقتة تكفي لتُذيب السطحَين المُتَمَاسَّين، أمَّا إذا مَرَّر الإنسانُ يده على الثوب أو القطن (أي حك مادةً صلبة مع مادةٍ رخوة) فإنَّ الحرارة الكامنة تظهر فيهما بشكلٍ أسرع لأنَّ أجزاء الثوب والقطن رخوان.

قال ابن متويه: «وعندنا أنَّ تلك الحَرَارة باقية لا أنها حادثة عند الحك. وإنما تنزعج الأجزاء التي فيها حرارة بالحَكِّ، ومعلوم أنَّ انزعاج الأجزاء الحَارَّة هو أسرعُ من انزعاج الأجزاء الباردة؛ فلا يكون لأحد أن يقول: كيف تنزعج هي دون غيرها؟ ولو كان الحكُّ هو المولِّد لم يفترق الحال بين حَكِّ إحدى الرَّاحتَين بالأخرى، وبين حَكِّ الجليد بالجليد، أو حك بعض الميت ببعض لاحتمال المحل في الموضعَين للحرارة، وكذلك فقد يثبت حكُّ أسفل القدم بغيره فلا يُوجَد من الحرارة ما يُوجَد عند حك الراحتَين، ولم تكن العلم إلا أنَّ تلك الصلابة مانعة من ظهور الأجزاء الحارة. وإذا كانت هناك رخاوةٌ ظهَرَت في الأجزاء الكامنة. وبمثل هذه الطريقة تظهر عند إمرار اليد على الثوب والقطن لئلا ما يُشبِه انقداح النار.»٥١

فخر الدين الرازي (القرن ٧ﻫ/١٣م)

اكتفى الإمام فخر الدين الرَّازي (تُوفِّي ٦٠٦ﻫ/١٢١٠م) بتعريفنا بنظرية الكُمُون بقوله: «أصحاب الكُمُون والظهور زَعَمُوا أنَّ الأجسام لا يُوجد منها شيءٌ بسيطٌ صرفٌ بل كل جسم فإنه مختلط من كل الطبائع، لكنه يُسمَّى باسم الغالب عليه، فإذا لقيه ما يكون الغالبُ عليه من جنس ما كان مغلوبًا فيه، فإنه يبرزُ ذلك المغلوب من الكُمُون، ويحاول مُقاومة ما كان غالبًا.»٥٢ ويبدو من كلامه هذا الموافقة الضمنيَّة على أقوال أصحاب الكمون بشكلٍ عام.

ابن كمونة (القرن ٧ﻫ/١٣م)

انضم سعد بن منصور بن كمونة (تُوفِّي ٦٨٣ﻫ/١٢٨٤م) إلى فريق المُعَارِضين لفكرة الكُمُون الحراري، وقد اسْتَدَلَّ على ذلك من الوعاء المُغْلَق بإحكام؛ حيثُ لا مكان فيه لانتشار أي شيء، ولو كانت الحرارة تكمُن فيه لأطفأَتها المياه، وما يظهر من حرارة في الأشياء بعد حُكها أو غير ذلك فهو بسبب تحَرُّكها أو تَحْرِيكها، وإذا تسَخَّنَت فإنَّ داخلها وخارجها يتسخَّن في لحظتها دون أن يحتفظ بأية حرارة تكمن فيه.

قال ابن كمونة: «ثم إذا كان رأس الآنية مسدودًا، وهي مملوءة فأين للفاشي مكان المداخلة، حتى داخَل الماء بالكلية، فلا يُشاهد فيه إلا الحرارة، وكيف لم يُطفئ الماء تلك الأجزاء شيئًا فشيئًا؟! ولو خالط المُتبرد أشياء جمدية لما بَرَّد الجمد ما فوقه؛ إذ ليس من طبع الأجزاء الجمدية الصعود، والمُخَضخَض والمحكوم يتسخَّن بالحركة، ولا نار هناك حتى تفشو فيه. ولا يمكن أن يُقال كانت كامنة، فأظهَرَها الحك والخضخضة، فإنَّ الماء يتسخَّن بالتحريك، مع أنَّ ظاهره وباطنه كانا باردَين، ثم صارا حَارَّيْن. ولو كان هناك حرارةٌ باطنة، لأحسَّ بها قبل تحريكه، ثم كيف يُصدق بأنَّ النارية المُنفصلة عن الخشب، والباقية فيه بعد تحمُّره، كانت كامنة ولم يُحسَّ بها عند الكسرِ والرَّضِّ والسحق، وكذا التي في الزجاج الذائب، مع أنه لا يستر ما في باطنه، وكان هذا (مما) لا يحتاج إلى إيضاحٍ لوضوحه.»٥٣

ثم يُحاوِل ابن كمونة أن يُفَسِّر ظاهرة تسَخُّن الأجسام التي تسقُط عليها أشعة الشَّمس، بأن الأمر يعود إلى استعداد هذه الأجسام لامتصاص الأشعة الحرارية الساقطة عليها عندما تُقابِلها، مع وجود تناسُبٍ طردي بين شدة الأشعة السَّاقطة ومقدار التسخُّن.

قال ابن كمونة: «وتستعد هذه الأجسام بمقابلة المضيء لقبول التسخين من المبدأ المُفيد له. وتشتد حرارتها بشدة المقابلة، وتضعُف بضَعْفها؛ ولهذا كان الحَرُّ في الصيف أشد، وليس أن الشمس تسخُن بذاتها، وإلا لكان الهواء الأبعد عن الأرض أسخن، لأنه أقربُ إليها، وليس كذا؛ فإنَّ الجبال والأبخرة التي في الجو باردةٌ في الصيف، لبُعْدها عن مطرح الشعاع.»٥٤

أيدمر الجلدكي (القرن ٨ﻫ/١٤م)

يؤيد الجلدكي (تُوفِّي ٧٤٣ﻫ/١٣٤٢م) وجود مبدأ الكُمُون في الكيفيات داخل المَادَّة، وحاول أن يُطَبِّق هذه النظرية على الطبائع الأربع، وعندما يظهر طبع فإن الطبع المُقابل له يكْمُن، وكل ذلك يكون بمقاديرَ مضبوطةٍ حسب علم ميزان النَّار، قال الجلدكي: «إنه صَحَّ بالإجماع أن جميع المركبات مُرَكَّبة من الطبائع الأربع، ولكن لكلٍّ منها ميزانٌ معلوم في مبدأ التركيب ثم في الاستحالة ثم في التدريج إلى التمام، ثم عند النِّهاية. وإذا ظهَر قوةُ أحد الطبائع اختفى ضدُّها وكمَن في باطن التركيب، فإذا ظهرَت الحَرَارة كمنَتْ البُرودة، وإذا ظهرَت البرودة كمنَت الحرارة، وإذا ظهرَت اليبوسة كمنَت البرودة، وإذا ظهرَت الرُّطوبة كمنَت اليبوسة، ولكن بموازينَ ودرجاتٍ ومراتب.»٥٥

ويبدو كلامُ الجلدكي منطقيًّا في إطار النظرية التي يَحْتكمُ إليها، فعندما يُوجد خاصِيَّةٌ معينة في أي مادة وتكون هي الغالبة، فإنَّ بقية الخَصَائص الأخرى ستَكْمُن ولا يظهَر لها تأثير.

محمد فضل الحق (القرن ١٣ﻫ/١٩م)

بقي الجدل الفلسفي والعلمي بين العُلماء العرب والمُسلمين حول الكُمُون الحراري قائمًا حتى القرن ١٩م؛ أي ألف سنة تقريبًا! دون أن يحسم أمرَه أحدٌ تجريبيًّا أو حتى فلسفيًّا. وقد يكون آخر من ناقَش نظريةَ الكمون الحراري العالم الهندي محمد فضل الحق؛ فقد ذكَر أنَّ ما يدُل على بطلان مذهب الكمون خمس ظواهر:
  • أولًا: «أنَّ السُّخونة تحدُث بالحركة العنيفة فيما يغلبُ عليه أحد العناصر الثلاثة الباقية من دون حصول نارٍ غريبة يمكن نفوذها في المتسخِّن كالمحكوك، وهو الشيء اليابس الصُّلب الذي يُماسُّه مثله مُمَاسَّةً عنيفةً كخشبتَين يابستَين، فإنَّ المحكوك منهما يحمَى بل يحترق من دون نار فيه، وهو مما يغلب عليه الأرضية. وكالمُتخلخل، وهو الذي يُجعل قوامه رقيقًا مُتخلخلًا كهواء الكير بإلحاح النَّفخ فيه ومنع الهواء الخارج من الدخول إليه، فإنَّه يسخن لا مَحَالة؛ وذلك لأنَّ السُّخونة مُستلزمة للتخلخُل بالحركة الشديدة المُقتضية لرِقَّة القوام. وكالمُخضخض وهو الجسم الرَّطب كالماء ونحوه الذي تحرَّك تحريكًا شديدًا؛ فإنه يتسخَّن أيضًا.
  • وثانيًا: بأنَّ المائعَين المُتشابهَين إذا سُخِّنا في إناءَين؛ أحدهما مُستحصف أي مُستحكم الجِرم كالنحاس مثلًا، والثاني مُتخلخل؛ أي مشتمل على الفُرَج والمسامات الصغيرة كالخزف، فلو كان التسخُّن بنفوذ النَّار وفُشُوِّها في المائع لوجب أن يتسخَّن الذي في المتخلخل قبل الآخر لسهولة النفوذ فيه دون الآخر، وليس الأمر كذلك.
  • وثالثًا: بأنَّ الإناء المصموم المفدَّم٥٦ على تقدير هذا المذهب يجبُ أن يمنع عن تَسَخُّن ما فيه تسخُّنًا بالغًا؛ لامتناع دخول شيء يُعتَد به فيه إلا بعد خروج شيءٍ يعتد به؛ إذْ التداخُل مُحال، وليس كذلك.
  • رابعًا: بأن القَمَاقم الصيَّاحة٥٧ إذا مُلئَت ماءً وشُدَّ رأسُها شدًّا مُحكمًا، ووُضِعَت على نارٍ قوية فإنها تنشَق بعد صيرورة أكثر مائها نارًا، وتصيحُ صيحةً عظيمة هائلة يتنفَّر عنه الدواب؛ فحدوث السُّخونة والنار في داخلها مع امتناع دخول النار فيها وخروج الماء منها يدلُّ على الاستحالة والكون معًا، وهذان الوجهان إن كانا مُتقاربين لكن ليس مرجعهما واحدًا كما قيل؛ لأنَّ الثاني منهما يدلُّ على الكون والاستحالة معًا والأول لا يَدُلُّ إلا على الاستحالة فقط.
  • وخامسًا: بأنَّ الجمد يبرد ما فوقه والأجزاء الباردة لا تتصعَّد بل تنزل بالطبع، ولا قاسر هناك، فإذن هو الاستحالة.»٥٨

يبدو من هذه الحُجج أنها تلخيصٌ وتجميع لآراء من كل من سبق، وأنكر ظاهرة الكُمُون الحراري. من ناحيةٍ أخرى يبدو أنَّ فضل الحق لم تصِلْه نظرية جوزيف بلاك الذي كان قد أعلن عنها عام ١٧٦٢م؛ أي قبل ١٠٠ سنة من وفاته تقريبًا، وإنما رَكَّز جهْدَه في الرِّد على ما يُتداول ويشيع في إطار الفلسفة الإسلامية والمجتمع المسلم.

المبحث الرابع: الأوروبيون

وجدنا كيف أنَّ العلماء العرب والمسلمين ناقشوا حسَب ما أوتوا من العلم موضوعَ الكُمُون الحراري، وكيف له أن يؤثِّر على حالة المادة بأن يجعلها تحترقُ أو تسخُن إذا كانت صُلبةً نتيجةً للاحتكاك. لكنهم لم ينتبهوا إلى أمرٍ حَاسمٍ وهو الفرق بين الحرارة ودرجة الحرارة، وهو ما قام به جوزيف بلانك كما سنرى.

فرنسيس بيكون (القرن ١٧م)

أخذ الكُمُون الحراري عند فرنسيس بيكون F. Bacon (تُوفِّي ١٦٢٦م) معنى تخزين وادخار الحرارة، وهو شبيهٌ بالمفهوم الذي كان شائعًا عند أنداده من العلماء العرب والمسلمين، إلا أنه قَدَّم بعض الأفكار حول كيفية الحفاظ على الحرارة الداخلية التي تُوجَد في الجسم.
قال بيكون: «لا شيء وُجد حارًّا للمَس البشري من بين أجزاء الحيوانات بعد أن تموت أو تُفصل من الجسم. وحتى روث الحِصَان يفقد حرارته ما لم يُحصر ويُدفن. ومع ذلك فيبدو أنَّ كل روثٍ به كما في عملية تسميد الحقول. كذلك جثث الحيوانات بها حرارةٌ مُسْتترة أو كامنة من هذا النوع، فنَجِدُ أنَّ الأرض في المقابر، حيث تتمُّ دفناتٌ كل يوم، تكتسب نوعًا من الحرارة الخفية التي تلتهم الجسد الحديث الدفن أسرع كثيرًا مما تفعل الأرض النقية. ويُقال: إنَّ الناس في الشرق كانوا يعرفون نوعًا من القماش الليِّن النَّاعم المصنوع من ريش الطيور يُمكِنه صهر الزُّبد الملفوف فيه بلطفٍ بوساطة دفئه الخاص».٥٩

جوزيف بلاك (القرن ١٨م)

الإشكالية الفلسفية والتجريبية العلمية التي لم يستطع العُلماء السَّابقون حَلَّها، تَنبَّه إليها جوزيف بلاك؛ فقد أدرك بشكلٍ دقيق وجود فرقٍ بين مفهومَي «درجة الحرارة» و«كمية الحرارة»؛ ولذلك فقد استحدَث مصطلحات: الحَرَارة النَّوعية والسعة الحرارية وحرارة الانصهار والحرارة الكامنة. وكانت كلُّ بحوثه تتَّسق مع النظرية الماديَّة للحرارة التي تقبَّلَها المجتمع العلمي بشكلٍ عام.٦٠
بعيدًا عن هذه الأفكار المشوِّقة فإنَّ الخُطوة المُهِمَّة التي قام بها جوزيف بلاك عندما ذوَّب الجليد بتسخينه بلطف، ولاحظَ أنَّ درجة الحرارة لم تتغيَّر، فقد وصَل من ذلك إلى التمييز بين كمية الحرارة وكثافتها؛ حيث إنَّ الثانية منهما تُقاس بوحدات درجة الحرارة؛ أمَّا الأولى — التي تمتصُّ بواسطة الجليد في عملية الذوبان — فهي التي دعاها بالحرارة الكامنة، وهو المصطلح الذي بقي حتى هذا اليوم.٦١ وبذلك فإنَّ الحرارة الكامنة تُفسِّر لنا حالة تحوُّل المادة من صُلبٍ إلى سائل أو بخار أو العكس. وقد عَلَّقَ على ذلك بلاك قائلًا: «إنَّ تخميناتي يمكن أن تكون كما يأتي: لقد تصوَّرتُ أن الحرارة، في أثناء الغليان، يمتصُّها الماء فتدخُل في تركيب البخار الذي يتحوَّل إليه، وبالطريقة التي يمتصُّها بها الجليد في الذوبان فتدخُل في تركيب الماء الذي يتحوَّل إليه.»٦٢ والواضح من كلامه أنه لم يعرف كيف تدخُل الحرارة في تركيب المادة، وهو ما فسَّرَته فيما بعدُ النظرية الحركية للغازات.
بدأ بلاك بدراسة الظاهرة المَعْرُوفة، وهي أنَّ الثلج عندما يذوبُ يبقى عند درجة الحرارة نفسها، بينما المادة الصُّلبة تتحوَّل إلى سائل. وقد طَبَّق بلاك هنا منهجه الحذِر والكمِّي، وأجرى قياساتٍ أوضحَت أنَّ الحرارة اللازمة لإذابة كميةٍ من الثلج وتحويله إلى ماء هي كمية الحرارة اللازمة لرفع درجة حرارة كمية الماء نفسها من درجة الذوبان إلى الدَّرجة ١٤٠ فهرنهايت (أو ٦٠° مئوية). وقد وصَف الحرارة التي امتصَّها الجسم الصُّلب في حال ذوبانه وتحَوُّله إلى سائل عند درجة الحرارة نفسها بأنها حرارةٌ كامنة، وأدرك أنَّ وجود هذه الحرارة هو الذي جعل الماء سائلًا وليس صُلبًا. وقرَّر أنه تُوجد حرارةٌ كامنة مُقترنة بانتقال الماء السائل إلى بخار (أو أي سائلٍ آخر عند تحوُّله إلى حالته البخارية)، وبحثَ بلاك هذه الظاهرة كميًّا أيضًا. وأطلق مصطلح «الحرارة النوعية» على كمية الحرارة اللازمة لرفع درجة حرارة كميَّةٍ مُعينة من مادة نختارها بقدْرٍ محدد (أي بحسب تعبيراتنا الحالية، فإنَّ هذا هو كمية الحرارة اللازمة لرفع درجة حرارة ١ غرام من مادةٍ ما إلى ١ درجةٍ مئوية). وصف بلاك جميع هذه الاكتشافات أمام نادي الجامعة الفلسفي في ٢٣ أبريل/نيسان من عام ١٧٦٢م، ولكنه لم ينشُرها مكتوبة. كما قام بلاك بإجراء تجاربَ على البخار، ساعدَه فيها شابٌّ متخصِّص في صنع الأدوات والأجهزة في الجامعة، اسمه جيمس واط J. Watt (١٧٣٦–١٨١٩م)، أصبحَت بينهما علاقةٌ وثيقة جدًّا انتهت بنجاح الاثنَين في صناعة المحرِّك البخاري.٦٣
لقد كان اكتشاف جوزيف بلاك للحرارة الكامنة مُفيدًا للكثير من الاختراعات التي أتت بعده، وكان بدايةً لدراسة الترموديناميك. وقد أدَّى هذا العملُ بعد ذلك إلى تطوير المحرِّكات البخارية ومسعر الجليد، كما بَيَّن أنَّ للمواد المُختلفة حراراتٍ نوعيةً مختلفة.٦٤
١  دبس، محمد، معجم أكاديميا للمصطلحات العلمية والتقنية، ص٣٣٨.
٢  الموسوعة الفلسفية العربية، ج١، ص٦٩٩.
٣  أقوال الأقدمين في الكونيات، مخطوط مجهول المؤلف موجود بجامعة ميشيغان، رقم (Isl. Ms. 987)، ص٢٤–٢٥.
٤  كرم، يوسف، تاريخ الفلسفة اليونانية، ص٢٢٩.
٥  أبو ريدة، عبد الهادي، إبراهيم بن سيار النَّظام وآراؤه الكلامية الفلسفية، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، ١٩٤٦م، ص١٥٦.
٦  كرم، يوسف، تاريخ الفلسفة اليونانية، ص٣٠٥.
٧  Samursky, Shmuel, Physical Thought, p. 90.
٨  بينيس، مذهب الذرة عند المسلمين، ص٩٧.
٩  ابن فارس، أحمد بن زكرياء القزويني الرَّازي، أبو الحسين، معجم مقاييس اللغة، ج٥، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، بيروت، ١٩٧٩م، ص١٣٦.
١٠  الخوارزمي، مفاتيح العلوم، ص١٦٧.
١١  الباقلاني، كتاب التمهيد، ص٦٩.
١٢  العراقي، محمد عاطف، الفلسفة الطبيعية عند ابن سينا، ط٢، دار المعارف، القاهرة، ١٩٨٣م، هامش ص٣٨٠.
١٣  الموسوعة الفلسفية العربية، رئيس التحرير: معن زيادة، ط١، ج١، معهد الإنماء العربي، بيروت، ١٩٨٦م، ص٦٩٩.
١٤  البغدادي، عبد القاهر، الفَرق بين الفِرَق وبيان الفِرْقة النَّاجية، ط٢، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ١٩٧٧م، ص١٣٩.
١٥  الشهرستاني، أبو الفتح، المِلَل والنِّحل، ج١، مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر، القاهرة، ص٥٦.
١٦  جابر بن حيان، مُختار رسائل جابر بن حيان، ص٥٧٦.
١٧  المرجع السابق نفسه، ص٢–٣.
١٨  أحمد بن يحيى بن المرتضى المهدي لدين الله، طبقات المُعتزلة، تحقيق: سُوسَنة دِيفَلْد-فِلْزَر، دار مكتبة الحياة، بيروت، ١٩٦١م، ص٤٩.
١٩  بدوي، عبد الرحمن، مذاهب الإسلاميين، ص٢٣٨.
٢٠  صُبحي، أحمد محمود، في علم الكلام، ط٥، دار النهضة، بيروت، ١٩٨٥م، ص٢٤١.
٢١  هويدي، يحيى، دراسات في علم الكلام والفلسفة الإسلامية، ط٢، دار الثقافة، القاهرة، ١٩٧٩م، ص٢٢٢.
٢٢  الشهرستاني، أبو الفتح، الملل والنحل، ج١، ص٥٦.
٢٣  والمذهب الذي تدعو إليه الديصانية ثنوي في أساسه فهي تقول: إنَّ الأشياء من أصلَين قديمَين؛ النور والظلمة، والنور حي ومنه يكون الفعل والحركة، والظلمة مواتٌ عاجزةٌ جاهلة رَاكدة لا فعل لها، ولا تمييز معها، والنور مبصر. وقالوا: إنَّ النور لم يزل يلقى الظلمة بأسفل صفحة فيه، والظلمة لم تزل تلقاه بأعلى صفحة فيها. واختلفوا في المزج بين النور والظلمة، فقال بعضهم: إنَّ النور داخل الظلمة لأنها كانت تلقاه بخشونة وغلظة يتأذَّى بها، فأحبَّ أن يُليِّنها ثم يتخلَّص منها، والنور دخل في الظلمة اختيارًا، قصد إصلاحها فخالطها، وعَزَّ عليه بعد هذا أن يخرج عنها، فلَمَّا دخل فيها صار يفعل الشر والقبيح مُضطرًّا، ولو انفرد لم يفعل ذلك، وإن الظلمة أو إله الشر يفعل الشر عن طبع. وقد اقترب ابن ديصان بذلك من التفسير الأحادي بأن جعل النور في النهاية أصل الوجود بالفعل. عن موسوعة المعرفة، مدخل «ثنوية».
٢٤  أبو ريدة، عبد الهادي، إبراهيم بن سيار النَّظام وآراؤه الكلامية الفلسفية، ص١٤١.
٢٥  Hortenm Max, Die Lehre vom Kumun bei Nazzam, ZDMG, 1909, p. 774.
٢٦  أبو ريدة، عبد الهادي، إبراهيم بن سيار النظام وآراؤه الكلامية الفلسفية، ص١٤٥.
٢٧  الجاحظ، عمرو بن بحر، الحيوان، تحقيق: عبد السلام هارون، ج٥، ص١٥.
٢٨  إس، فان، الكلام والطبيعة عند أبي إسحاق النَّظام، مجلة المؤرخ العربي، العدد ١٩، تصدر عن الأمانة العامة لاتحاد المؤرخين العرب، بغداد، ١٩٨١م، ص٣٨.
٢٩  نشره وترجمه مايكل أنجلو جويدي، روما، ١٩٢٨م، ص٤٥.
٣٠  تقع بين ص٥٨ظ و٦٢ظ من مخطوط Glaser.
٣١  أبو ريدة، عبد الهادي، إبراهيم بن سيار النَّظام وآراؤه الكلامية الفلسفية، ص١٥٢.
٣٢  إس، فان، الكلام والطبيعة عند أبي إسحاق النظَّام، ص٣٣–٣٤.
٣٣  الخيون، رشيد، معتزلة البصرة وبغداد، ط١، دار الحكمة، لندن، ١٩٩٧م، ص٢٩٨.
٣٤  ابن فورك، مُجرَّد مقالات الشيخ الأشعري، ص٢٧٠.
٣٥  العوا، عادل، المعتزلة والفكر الحر، ط١، دار الأهالي، دمشق، ١٩٨٧م، ص١٤٦–١٤٧.
٣٦  ابن سينا، الإشارات والتنبيهات، ص٣٠٩.
٣٧  ابن سينا، الشفاء، ص١٣٥.
٣٨  ابن سينا، مجموع رسائل ابن سينا، ص٢٨.
٣٩  ابن سينا، النجاة، ص١٨٣.
٤٠  ابن سينا، الإشارات والتنبيهات، ص٣١٠–٣١١.
٤١  ابن سينا، النجاة، ص١٨٣.
٤٢  النيسابوري، أبو رشيد، كتاب المسائل في الخلاف بين البصريين والبغداديين (الكلام في الجواهر)، تحرير: آرثر بيرما، ليدن، ١٩٠٢م، ص٣٦.
٤٣  لقد عُرِفَ عن همفري ديفي إذابتُه للجليد تحت ناقوسٍ مُفرغ وتحت درجة الحرارة (−٢° مئوية)، في يومٍ شتوي بالغ الصقيع، وذلك بوساطةِ احتكاكِ قطعتَي جليد إحداهما بالأخرى، مُثبِتًا بذلك أنَّ الحرارة اللازمة لإذابة الجليد كانت نتيجةً للحركة. لكن أحاطت التساؤلات بمدى مصداقية هذه التجربة؛ إذْ كان يمكن للحرارة التي صهَرَت الجليد أن تأتي من الوسط المحيط. وحتى لو احتفظ ديفي بالنظام كله في درجة تجمُّد الماء، فإن الماء المتكوِّن نتيجة الاحتكاك كان سيتجمَّد ثانيةً.
٤٤  النيسابوري، أبو رشيد، كتاب المسائل في الخلاف بين البصريين والبغداديين (الكلام في الجواهر)، ص٣٦–٣٧.
٤٥  النيسابوري، أبو رشيد، كتاب المسائل في الخلاف بين البصريين والبغداديين (الكلام في الجواهر)، ص٣٧.
٤٦  يفوت، سالم، ابن حزم والفكر الفلسفي في المغرب والأندلس، ط١، المركز الثقافي العرب، الدار البيضاء، ١٩٨٦م، ص٣٥٢.
٤٧  ابن حزم الأندلسي، الفِصَل في المِلَل والأهواء والنِّحَل، ج٥، ص٨٠.
٤٨  ابن حزم الأندلسي، الفِصَل في المِلَل والأهواء والنِّحَل، ج٥، ص٨١.
٤٩  الزعبي، أنور خالد، ظاهرية ابن حزم الأندلسي، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، عمَّان، ١٩٩٦م، ص٩٢.
٥٠  ابن متويه، الحسن، التذكرة في أحكام الجواهر والأعراض، تحقيق: سامر نصر لطف، فيصل بدير عون، دار الثقافة، القاهرة، ١٩٧٥م، ص٣٠١–٣٠٢.
٥١  ابن متويه، الحسن، التذكرة في أحكام الجواهر والأعراض، ص٣٠٣.
٥٢  الرازي، فخر الدين، المباحث المشرقية، ص٥٧٦.
٥٣  ابن كمونة، الجديد في الحكمة، ص٣٥١.
٥٤  المرجع السابق نفسه، ص٣٥١.
٥٥  الجلدكي، أيدمر، البرهان في أسرار علم الميزان، ج٤، مخطوطة في مكتبة ويلكم، لندن، رقم (201_WMS_Arabic)، ص١٨٤.
٥٦  الإناء المصموم المُفدَّم هو المسدود فمه.
٥٧  آنيةٌ معروفة تُصدِر صوتًا عند غليان السَّائل بداخلها وتبخُّره.
٥٨  فضل الحق، محمد، الهدية السعيدية في الحكمة الطبيعية، ص٩٢–٩٤.
٥٩  بيكون، فرنسيس، الأورجانون الجديد، ص١٦٧–١٦٨.
٦٠  فوربس، ر. ج.، وديكستر، إ. ج.، تاريخ العلم والتكنولوجيا، ج٢، ص٤٥.
٦١  Müller, Ingo, A History of Thermodynamics, p. 10.
٦٢  ويلسون، ميتشل، الطاقة، ص٣٣.
٦٣  جريبين، جون، تاريخ العلم (١٥٤٣–٢٠٠١م)، ج١، ص٣٠٩–٣٠١٠.
٦٤  Grand Encyclopedia SCIENTISTS, Published by Macaw Books, India, 2013. p. 10.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤