مقدمة الطبعة الثانية

(١) في خاتمة الطبعة الأولى من هذا الكتاب نقرأ: «… ورؤيا نجيب محفوظ لم يكتمل بناؤها بعدُ، لأن تطوره — ومنهج هذا التطور — يؤكدان أنه لم يقل كلمته الأخيرة بعد …» ذلك أنني توقفت عند رواية «السمان والخريف» وشعرت أنها لا يمكن أن تكون الكلمة الأخيرة؛ إذ هي تعود بنا إلى نهاية الرواية الكبيرة «أولاد حارتنا» ولا تكاد تقدم جديدًا إلا أن «أولاد حارتنا» كانت رواية نظرية و«السمان والخريف» رواية تطبيقية، إن جاز التشبيه؛ فليست الرواية الأولى، التالية للثلاثية، إلا رؤيا فكرية خططت للواقع، وجاءت «اللص والكلاب» و«السمان والخريف» اختبارًا واقعيًّا لهذا التخطيط، وانتهت الرواية الأخيرة إلى نفس النقطة التي انتهت بها روايته الأولى؛ فالشاب الطويل الأسمر الذي يمسك بيسراه وردة حمراء في خاتمة «السمان والخريف» هو الحل الذي يتراءى لنا في خاتمة «أولاد حارتنا» مع حنش الذي عثر على كراسة عَرَفة وبدأ يفك رموزها، وشباب الحارة يختفي منها لينضم إليه في الخلاء البعيد، يعدون العدة لمصرع الطغيان ومشرق فجر الأعاجيب. هي الخاتمة بعينها وإن اختلف «النظر» إلى الواقع والتخطيط له عن الواقع نفسه وما يضطرم به من خبايا ومتناقضات؛ لذلك توقفت عند «السمان والخريف»، وقلت: إنه لا يمكن أن تكون هذه هي الكلمة الأخيرة لنجيب محفوظ، وليس السبب على الإطلاق هو أن الفنان لا يزال حيًّا يرزق، وبالتالي فإن احتمالات الجديد في عطائه الفني لا تزال قائمة. فكم من الأدباء والفنانين يكفون عن العطاء في مطلع شبابهم، ربما لنقص فيهم، وربما لعقم اللحظة التي يعيشونها في واقع مجدب، وربما لأن المرحلة الحضارية التي يحيون في ظلالها لا تتجاوز حدودها الفكرية ما هو أبعد من مجموعة القيم التي تناولها الأدباء والفنانون بالعرض والتحليل والاكتشاف، ولم يبقَ أمامهم سوى التكرار والإملال، أي أن هناك من عوامل الكف عن العطاء ما يدخل في صميم قدرات الفنان الطبيعية والمكتسبة، وما يخرج عن إرادته ويدخل في صميم الإطار التاريخي للمجتمع الذي يعيش فيه.

ولذلك فإن «السمان والخريف» لم تكن الكلمة الأخيرة في أدب نجيب محفوظ وهو يعيش مرحلة دامية من مراحل التحول العنيف في تاريخ مجتمعه، ولقد دلت مجموعة الأقاصيص التي كان ينشرها فُرادى أو يضمنها كتبه أنه يعاني معاناة هائلة في رحلة البحث المرير، وفي تقديري أن قصة «زعبلاوي»، من بين هذه الأقاصيص جميعها، تبرز كعلامة طريق وعر وشاق عزم الفنان على اجتيازه مهما كانت الصعاب والأهوال. ثم أقبلت رواياته الأربع «الطريق، الشحاذ، ثرثرة فوق النيل، ميرامار» دليلًا قاطعًا على وعورة الرحلة التي خاضها ومرارة النتائج المؤسية التي انتهى إليها؛ كان البطل النجيبي في «اللص والكلاب» بطلًا مأزومًا، فانتهى به الأمر في «ميرامار» إلى الهزيمة الكاملة. وأقبلت قصته «تحت المظلة» كسابقتها «زعبلاوي»، علامة طريق أيضًا، ولكن إذا كانت الأولى علامة البداية فهذه الأخيرة علامة النهاية.

ومن هنا كان لا بد لي في هذه الطبعة الجديدة من «المنتمي» أن أستكمل الحوار مع كلمة نجيب محفوظ الأخيرة، التي قالها بمنتهى الشجاعة والوعي والأسى. هي الكلمة الأخيرة التي نطقت بها حضارتنا وتاريخنا ومجتمعنا في هذه اللحظة الأسيانية التي نعيشها، فهي تدخل ضمن العوامل البعيدة عن قدرات الفنان وفطرته، وإن شاركت بصورة أو بأخرى في صنعها. وسوف يظل نجيب محفوظ يكتب ويكتب، ولكنه حينئذٍ لن يكون أكثر من شهيد اللحظة التي عاشها، لن يستطيع أن يضيف جديدًا إلى رؤانا. ولا يصدر هذا القول عن نظرة متشائمة، أو حتى عن نظرة متنبئة، وإنما عن نظرة حاولَت ما استطاعت أن تحيط بتطور أدب نجيب محفوظ والمناخ الحضاري الذي أثمره.

(٢) إن أدب نجيب محفوظ يقدم دليلًا مأساويًّا دامغًا على صحة الرأي القائل بأن الفنان لا يتجاوز مقتضيات التاريخ؛ ذلك أن هذا الفنان الكبير لم يألُ جهدًا في تطوير فنه في محاذاة تطور المجتمع المصري ومحاولة تجاوزه في كثير من الأحيان. لقد تسلم نجيب محفوظ أمانة الرواية المصرية من توفيق الحكيم، الرائد الذي يعد إنتاجه الروائي — وبخاصة في عودة الروح، ويوميات نائب في الأرياف — إيذانًا بمولِد الرواية المصرية في طور نضوجها. وإذا كان قد توقف عن التأليف الروائي واتجه بكامل قدراته إلى المسرح؛ فإن نجيب محفوظ قد تحمل أعباء المرحلة الجديدة في تاريخ الرواية المصرية منذ بداية الأربعينيات إلى الآن، مستكملًا ملامح وجهها الواقعي في تعبيره الأصيل عن المستوى الحضاري الذي بلغه مجتمعنا حينذاك، ومحاولًا صياغة وجهها الحديث المعبر عن تناقضات المرحلة الدامية التي وصلت إليها حضارتنا. ولقد اختار نجيب محفوظ منذ البداية الطريق الصعب فلم ينقل إطارًا روائيًّا جاهزًا في الأدب الغربي، ولم يطبق مذهبًا فكريًّا بعينه؛ وإنما حاول أن يكتشف الصيغة الجمالية الصحيحة باختبار شتى الأطر الفنية والمذاهب الفكرية في أرض الواقع المصري، ولا يعني هذا أنه صنع خليطًا من قوالب الفن المختلفة ومذاهب الفكر المتباينة؛ بل هو قد اختار من بينها ما يجلو رؤيته للواقع من حوله وما يسهم في تشكيل هذا الواقع تشكيلًا جديدًا. ومن هنا ذهبت أدراج الرياح كافة المحاولات التي تعسفت معه بتصنيفه قسرًا في هذه الخانة أو تلك من خانات النقد الأوروبي الجاهزة. وأثبت نجيب محفوظ بذلك أنه ابن مخلص لهذه الأرض التي نبت منها، إذا احتاجت لفكرة كلاسيكية أو لمسة رومانتيكية أو صورة واقعية أو خيال أسطوري، فإنه لا يتردد في تلبية مطالب «التجربة» الأم في إبداعه الفني … فاحتياجات الواقع المصري الجمالية هي التي تدفع نجيب محفوظ تلقائيًّا لاختيار هذا الجانب أو ذاك من جوانب التراث الفكري والأدبي. ولأن الصياغة الفنية في أدبه جاءت تجسيدًا عميقًا لاحتياجات التجربة الحية والواقع الخصب، فإن هذا الأدب ظل طليعيًّا وتجريبيًّا في معظم مراحله، أي أنه ظل بوصلةً للتقدم الروحي ومقياسًا أمينًا لتطور ضمير هذا الشعب. فالاتجاه التاريخي الذي نطالعه في مرحلته الأولى كان مشاركة رائدة في حركة الأدب الرومانسي، والاتجاه الواقعي في المرحلة الوسطى كان ارتيادًا إيجابيًّا لحركة الأدب الاجتماعي، والاتجاه الفكري في مرحلته الأخيرة كان تطلُّعًا وثابًا لما أسميه بحركة الأدب التجريدي. وليست هناك فواصل حجرية ثابتة بين هذه الاتجاهات والمراحل، فلعلنا نجد بذورًا لمرحلة ما في مرحلة سبقتها، أو نكتشف جذورَ اتجاه ما في اتجاه تقدم عليه، ولكننا على الدوام نجد هذا الفنان الكبير على عجلة القيادة من تطور الأدب المصري الحديث … حتى إننا نستطيع القول بأن أدبه في مجموعة جملة تجارب، لا تكاد التجربة الواحدة تتكرر إلا ويستجيب كاتبها لتغيرات الواقع المتلاحقة، فيواصل التجريب من جديد. على أن هذا الإخلاص العميق لتغيرات الواقع لم يكن مجرد مناسبة شكلية لمغامرات جمالية، أو التردي في غواية المولدات الجديدة بارتداء أحدث الأزياء الأوروبية، وإنما كان مصدر التجديد الفني في أدب نجيب محفوظ هو إيمانه العميق بمبدأ التقدم ذاته … فالتقدم هو الفكرة التي يمكن القول بأنها تشكل العمود الفقري لإيمانه الاجتماعي والروحي، هي الخط العريض الذي تندرج تحته بقية القيم التي تتغير يومًا فيومًا، ولكن هذا الخط باقٍ لا يتزحزح من مكانه … وعندما يقال إن نجيب محفوظ كاتب تقدمي، لا ينبغي أن نلصق به على الفور مفهومًا قاصرًا للتقدم؛ فهو ليس كليشيهًا جامدًا من مقولات النصوص التقليدية. وإنما نجيب محفوظ فنان تقدمي بأعمق معاني الكلمة وأشملها، في الفكر والفن والمجتمع، ولكن هذا التقدم، الذي يبلغ أقصى مداه في تعبير أحد أبطاله بالثورة الأبدية، يصطدم بأسوار عالية وجدران صلبة من صنع حضارتنا ومجتمعنا وتاريخنا وعصرنا … وهو حين يصطدم بهذه العوائق الخارجة بكل تأكيد عن إرادته — وإن شاركت بعدئذٍ في صنع هذه الإرادة — فإنه لا يستطيع أن «يخبط رأسه في الحائط» كما يقول المثل الشعبي … فالدماء التي سالت في أعظم وآخر أعماله تكفي برهانًا لا يقبل الشك في أن الطريق أصبح مسدودًا في وجه هذا الجيل العظيم … ولم يعد أمامه سوى افتعال المغامرات الشكلية، أو تبرير الوجود الفعلي للأسوار والجدران باصطناع ثغرة موهومة، أو الصمت. وأرجو أن يكون واضحًا ما أقصد إليه من الطريق المسدود، فالحريات الديمقراطية لا تشكل إلا عنصرًا واحدًا يدخل ضمن عناصر لا حد لتعقُّدها؛ فالسور العالي أو الجدار الصلب أعمق كثيرًا وأشمل من أن تكون الحرية هي خامته الوحيدة، وإنما هو طريق الحضارة والتاريخ، الطريق الذي يصل ببعض الناس إلى القمر ويعجز بعضهم الآخر عن الوصول إلى شُبرا.

لقد تابع نجيب محفوظ بمثابرة وإصرار عجيبَين أزمة المجتمع المصري منذ كانت أزمة عابرة في حياة محجوب عبد الدايم وحميدة ونفيسة وحسنين، إلى أن تحولت إلى أزمة ضارية في حياة كمال عبد الجواد، ثم تغير جوهر الأزمة في حياة سعيد مهران، حتى إن سرحان البحيري لم يجد مفرًّا من الانتحار … وبذلك أعلن نجيب محفوظ أن الأزمة التي ظنناها عابرة يومًا قد آلت دورتها إلى الهزيمة الكاملة … وإذا كان أحد أبطاله القدامى يحاور زملاءه من الشباب الضائع في الثلاثينيات قائلًا: إن تطبيق أي مذهب في مصر لا بد وأن يتحول إلى دكتاتورية. فإن بطلًا من الشباب المنتمي في أواخر الستينيات يخطب في الجماهير عن الاشتراكية ويذهب ليعد عُدته في الظلام ليصبح مليونيرًا، وتفرش أسراب الكاديلاك الطريق الطويل نحو الاشتراكية … ماذا يستطيع أن يصنع فنان صادق كنجيب محفوظ؟ هل يكرر نفسه؟ وماذا بعد التكرار؟ … لقد كتب قصته العظيمة «تحت المظلة» وكفى! ولن أفاجأ بنجيب محفوظ إذا صمت، أو إذا نطق كلامًا يرادف الصمت، أو قال كلامًا سبق أن قاله بصورة أفضل … ذلك أن أعظم الكُتاب لا يتجاوزون مقتضيات التاريخ.

(٣) وعند ما صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب ثارت حوله بعض المناقشات التي أعتز بها كثيرًا، فقد أضاءت لي جوانب هامَّة، سلبًا وإيجابًا، ما أحوجني إلى معرفتها. وأود لو يأذن لي نقادي أن أعرض في إيجاز لمنهج التأليف الذي حاولته في هذا الكتاب. إن قضية واحدة من القضايا التي يحفل بها الأدب المصري الحديث كانت تعنيني حين اتخذت من أدب نجيب محفوظ شاهدًا عليها، هي قضية الانتماء. ولا ريب أن هناك أدباء آخرين قد تناولوا هذه القضية بالتعبير الفني، ولكني لم أجد كاتبًا تخصص فيها كنجيب محفوظ … وبالرغم من أن أدبه هو الآخر يعالج عديدًا من القضايا الأخرى؛ إلا أنني ركزت على هذه القضية بالذات وما يرتبط بها من مشكلات في الفكر والفن. وربما كان اختياري لهذه القضية اختيارًا ذاتيًّا في مصدره الأول، فلعل مشكلة الانتماء لها في تكويني الشخصي مكان خاص، ولكن هذا الاختيار مع ذلك لا يخلو من أسباب موضوعية تتصل أوثق الاتصال بتكوين المجتمع وظروفه الحضارية.

وعند ما تكون قضية الانتماء هي المحور الفكري الذي يدور من حوله البحث، فإني أستبعد على الفور مختلف الأعمال التي كتبها الفنان بعيدًا عن هذا المحور؛ بل وأستبعد مختلف الزوايا البعيدة عن هذا المحور في أعماله التي تناقش المشكلة. ومن هنا لم أتبع المنهج التاريخي الذي يعنيه تطور الكاتب تطورًا زمنيًّا، وحاولت أن أربط في البداية بين أزمة الانتماء في جيل نجيب محفوظ الواقعي، وهذه الأزمة كما انعكست بين يديه على مرآة الفن. وقد أحسست أن نجيب محفوظ في الثلاثية هو سليل أحد التقاليد البارزة في أدبنا الحديث، وهو التقليد الذي بدأَتْه شخصية «حامد» في رواية هيكل الأولى «زينب»، وشخصية «محسن» في رواية الحكيم «عودة الروح»، وشخصية «إبراهيم الكاتب» في رواية المازني المسماة بهذا الاسم، وشخصية «همام» في رواية «سارة» للعقاد، وشخصية «إسماعيل» في قصة «قنديل أم هاشم» ليحيى حقي … إلى غير ذلك مما يمكن رصده من روايات «الترجمة الذاتية» كما يحلو لبعض النقاد أن يسميها، وهم يقصدون أن ثمة مشابهات يمكن العثور عليها بين بطل الرواية والفنان الذي أبدعها. وأنا لست أعتقد بأن الثلاثية هي التاريخ الشخصي لكمال عبد الجواد، كما لست أعتقد بأن كمال عبد الجواد — كفرد — هو المعادل الفني لشخصية نجيب محفوظ … وإنما أعتقد اعتقادًا كبيرًا بأن أزمة جيل نجيب محفوظ الأساسية تجد تعبيرًا فنيًّا لها في أزمة جيل كمال عبد الجواد. وليست أزمة الانتماء إلا إحدى الأزمات التي يضطرم بها عالم الثلاثية الرَّحب، ولكن اختياري لهذه الأزمة دون غيرها محورًا للبحث جعلني أركز الأضواء عليها وما يتصل بها من أدوات في الفكر والتعبير؛ ولذلك عقدت الفصل الأول بأكمله حول شخصية واحدة من شخصيات الثلاثية هي شخصية «كمال عبد الجواد» … ولم أستهدف في هذا الفصل دراسة الثلاثية على الإطلاق، وإلا لأجلت الحديث عنها في السياق التاريخي للبحث، وإلا لما كررت الحديث عنها في فصل لاحق هو «المنتمي بين الدين والعلم والاشتراكية» … لقد عمدت إلى دراسة كمال عبد الجواد كمعادل موضوعي في أزمته لجيل نجيب محفوظ، ثم تبين لي أثناء الدراسة أن النسيج الاجتماعي والتاريخي في الثلاثية لم يُخفِ قط ذلك الميل الحاد المؤلف من جانب نحو ما أسميته بأدب القضايا الفكرية. فالحق أن هذه المناقشات السياسية التي كنا نلمحها في «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي» و«بداية ونهاية» قد تحولت في الثلاثية إلى خيط واضح من خيوط الفكر المجرد؛ بحيث إن الفكر الذي كان في الأعمال السابقة مجرد لون يضاف إلى بقية الألوان الصانعة للوحة قد انفرد في «قصر الشوق» و«السكرية» بالنسيج الرئيسي للوحة. وما كان يستطيع نجيب محفوظ في ذلك الوقت المبكر من نهاية الأربعينيات أن يصوغ أعماله الفكرية، في نفس الأطر الفنية الجديدة التي شرع في كتابتها بعد الثلاثية … ذلك أن الفنان لا يغفل المستوى الحضارية الذي بلغه المتلقي؛ بل هو يتفاعل مع هذا المستوى ويشارك في صياغته. ولست أعتقد أن المرحلة الجمالية في الذوق العربي كانت تسيغ منذ ربع قرن ذلك المنهج التعبيري الذي يكتب به نجيب محفوظ منذ سنوات قليلة … فضلًا عن أن الكاتب نفسه ما كان يستطيع أن يفكر جماليًّا بهذا الأسلوب. وإنما توضح لنا الصياغة الفنية لأزمة كمال عبد الجواد أنه بالرغم من الميل الواضح من جانب المؤلف نحو أدب القضايا الفكرية، إلا أن الرداء الواقعي بنسيجه الاجتماعي وألوانه التاريخية كانت السبيل الأوفى إلى تحقيق هدفه عرضًا وتحليلًا.

على أن قضية الانتماء في أدب نجيب محفوظ ليست في جميع الأحوال قضية مباشرة؛ وإنما هي قد تستَتِر خلف لافتات أخرى؛ كالضياع والاضطهاد واتباع الطرق القصيرة والمسدودة. ولقد صادفني هذا التستر والتخفي بصورة واضحة في أعمال نجيب محفوظ السابقة على الثلاثية؛ حيث لم يكن المنتمي هو بطل اللحظة التاريخية في الثلاثينيات وإبان الحرب العالمية الثانية، وإنما كان الضائع في «القاهرة الجديدة»، والمضطهد في «خان الخليلي»، والطريق القصير في «زقاق المدَق»، والطريق المسدود في «بداية ونهاية» هي النماذج الرئيسية المعبرة — سلبًا — عن حاجة مصر إلى الانتماء. ولم تخلُ هذه الأعمال بطبيعة الحال من نماذج شاحبة للمنتمين يسارًا ويمينًا، ولكن البطل الحقيقي لم يكن هو المنتمي، ولذلك انتقلت من تجسيد أزمة جيل نجيب محفوظ في الفصل الأول — وقد أردت به تعريفًا أعمق من المواصفات التقريرية بالمؤلف — إلى تجسيد هؤلاء الضائعين والمضطهدين في الفصل الثاني «ملحمة السقوط والانهيار» وكانت التسمية للأسف الشديد هي أول ما استرعى الانتباه، ولم يكن يعنيني نجاحها بقدر ما كان يعنيني تصور ما أقصد إليه تصورًا حقيقيًّا. فالسقوط والانهيار من نصيب التراجيديا والأبطال التراجيديين بغير شك، ولكن بذرة السقوط لم تنبت في أرض خارج هؤلاء الأبطال، وإنما هي كامنة في صدورهم تكبر دون وعي منهم حتى تصل مداها في لحظة الانهيار. وسواء كانت هذه البذرة هي القدر اليوناني القديم، أو المطلقات الكلاسيكية، أو الموت، فإن اللعنة التي تنبتها وتنميها وتثمرها تولد مع الإنسان، في صميم تكوينه البشرى وطبيعته الإنسانية. وليست «الشخصيات» التراجيدية التي يموج بها البحر المتلاطم من الضائعين والمضطهدين في أدب نجيب محفوظ من هذا «النمط البطولي» الذي يحمل مصيره بين جنبيه، فالصراع في حالتهم لا يتم بينهم وبين هذه الجرثومة الخفية، وإنما هو صراع ملحمي تقليدي يتم بينهم وبين القُوى الخارجية، وإن انتهى بهم إلى السقوط والدمار … إنها خاتمة تراجيدية حقًّا، ولكن مقدماتها ملحمية تمامًا. ولعل هذا التناقض بين المقدمات والنتائج يعد دليلًا جديدًا على إخلاص نجيب محفوظ للواقع الذي يتفاعل معه. فهو لم يشأ تجميد هذا الواقع فنيًّا لحساب إحدى المقولات النقدية، وإنما راح يستوحى ضمير الواقع ويجرب صياغته من جديد مهما بدا التناقض غريبًا على المناهج التقليدية في التعبير، وليس على النقد حينئذٍ إلا أن يلتزم الموضوعية في التشخيص مهما بدا التناقض مرة ثانية غريبًا على المناهج التقليدية في النقد. ولذلك بادرتُ إلى القول بأن هذه الأعمال تشكل فيما بينها «ملحمة السقوط والانهيار»، مقدِّمًا لهذه الفصل بتمهيد مطول عن تطور معنى المأساة في حياتنا، وهو جزء متمم للبحث ولا ينفصل عنه، وكنت أعلم يقينًا أن التعبير يحمل تناقضًا إذا قيس بالمعايير التقليدية، ولكني أبقيت عليه حتى يشاركني الجميع هذه الحيرة: شخصيات تراجيدية لا تتكامل في بطولة ناضجة إلا في الثلاثية؛ حيث نجد أن كمال عبد الجواد أول بطل تراجيدي في الرواية المصرية. والمناخ الذي تحياه هذه الشخصيات لا يخرج بصورة عامة عن المناخ التقليدي للملحمة، فالصراع مع قُوى الشر الخارجية ليس وليدًا للعنةٍ قديمة مضمرة في البناء الذاتي للشخصية، وإنما هو مجموعة القيم التي تحكم الواقع الخارجي. مرة أخرى، المقدمة ملحمية، والنتيجة تراجيدية، فما العمل؟ إن السؤال هو بعينه الذي اضطرني إلى أن أفرد الصفحات الطويلة في مقدمة هذا الفصل لاختيار الأدوات التقليدية في البحث عن التراجيديا والملحمة ودور كل منهما في حياتنا، ومن هنا كانت ضرورتها من ناحية واللجوء إلى من سبقونا في البحث من ناحية أخرى. وكذلك فإن هذا السؤال هو الذي اضطرني إلى هذا العنوان الحائر المضطرب «ملحمة السقوط والانهيار» دون تعسف مع النماذج التي اخترتها، أو قسرها داخل أبنية نقدية جاهزة. كما أن هذا السؤال هو الذي أجبت عنه في تناولي لرواية «السراب» إجابة مغايرة عن التي أعطيتها بشأن هذه الرواية في كتابي «أزمة الجنس في القصة العربية»، فالحق أن «السراب» تحتمل تفسيرًا سيكولوجيًّا وتفسيرًا رمزيًّا في وقت واحد … ولقد حاولت أن أقيم بين التفسيرين جسرًا في «ملحمة السقوط والانهيار»، وربما أكون قد أخفقت، ولكني أكاد لا أصدق أن هذه الرواية مجرد «نتوء» في الخط الانسيابي لأعمال نجيب محفوظ. وإنما تؤكد لي أعماله الجديدة أن الجنس كرمز سياسي — فضلًا عن كونه دلالة اجتماعية — يدخل عنصرًا هامًّا ضمن العناصر المكونة لعالم نجيب محفوظ، ومن هذه الزاوية وحدها تصورت — وقد أكون مخطئًا في تصوري — أن السراب حلقة طبيعية في ملحمة السقوط والانهيار، ليست هي الضياع ولا الاضطهاد، وإنما هي العجز الذي عبرت عنه الشخصية الرئيسية بقولها: «أرى المصريين جميعًا يعيشون في سجن كبير.»

ثم تتبعت في الفصل الثالث تطور المنتمي في الواقع المصري وفي أدب نجيب محفوظ منذ كان شبحًا غائمًا يمثل دورًا ثانويًّا إلى أن أصبح كيانًا واقعيًّا ملموسًا تتدرج حياته من البساطة إلى التركيب؛ حيث أصبح منتميًا مأزومًا في إنتاج الفنان الأخير. ولم يكن المنتمي في أعمال نجيب محفوظ جميعها، سواء هذه التي عبرت عنه جنينًا أو طفلًا أو شابًا ناضجًا يعاني الأزمات والأهوال … لم يكن إنسانا من لحم ودم بقدر ما كان فكرة مجردة يختبرها الكاتب في أرض الواقع الحي فتتلبس أحيانًا بما يشبه الواقع من خطوط وألوان … ولكنه — المنتمي في أدب نجيب محفوظ — ظل تجريدًا ذهنيًّا، هو نتاج للواقع بلا ريب في تفاعله الجدلي مع تصورات نجيب محفوظ النظرية. وإذا كانت «أولاد حارتنا»، في تقديمها للمنتمي المثال أو المفترض، تعد عملًا تجريديًّا مباشرًا فإن الأعمال التالية لها لا تخرج عن الإطار التجريدي في صورِه غير المباشرة. هذه الصور التي تتلبس الواقع أو تشابهه، ولكنها تختلف عنه وتتمايز ومعه. ولقد أتاح هذا الإطار التجريدي للفنان أن يستعرض كافة الحلول والمشكلات التي صادفته في معمل فنه وهو يختبر قضية المنتمي في مصر المعاصرة. وكان الدين والعِلم من أهم الملامح والعلامات التي جسدت هذه القضية، كما كانت الاشتراكية والحرية أبرز الدلائل التي جسَّمت الطريق الوعر، طريق الآلام والعذاب، الذي يتعين على هذا المنتمي أن يخوضه. وكان الفصل الثالث «المنتمي بين الدين والعلم والاشتراكية» هو الرحلة الدامية التي قطع فيها أشواطًا لم تكن قد انتهت بعد.

فإذا كان الفصل الأخير — في الطبعة الأولى — عن «رؤيا الثورة الأبدية» كانت القصة القصيرة التي عاد إلى كتابتها نجيب محفوظ بعد انقطاع دام حوالي ربع قرن، هي الخامة التي آثرت أن أصوغ بها هذه الرؤيا التي أفصحت عن نفسها بكلمات قليلة في نهاية الثلاثية، ثم بعثت من جديد في كامل بهائها في اليوتوبيا الملحمية التي دعاها صاحبها «أولاد حارتنا»، إلى أن تلوثت بأرض الواقع الحي ومشكلاته في «اللص والكلاب» و«السمان والخريف»، ثم قاربت أبعادها الاكتمال الواقعي — على النقيض من الاكتمال النظري في اليوتوبيا الملحمية — بمجموعة «دنيا الله». ولما كانت هذه مجموعة من القصص القصيرة كان لا بد لي من التعرف على تاريخ الفنان مع هذا الشكل الفني. ولأني لست مقيدًا بأصول المنهج التاريخي منذ بدأت كتابي بفصل عن بطل الثلاثية، لم أجد غضاضة أن أختم الفصل بمقارنة تحليلية بين بواكير إنتاج نجيب محفوظ في القصة القصيرة وأواخر هذا الإنتاج. إن «رؤيا الثورة الأبدية» استكمال موضوعي لتطور أزمة المنتمي، والعودة إلى «همس الجنون» ضرورة فنية لا بد من الإحاطة بها للتعرف على طبيعة العلاقة بين الشكل والمضمون إذا تناول الكاتب موضوعه في قالب جديد، قديم.

وفي هذه الفصول الأربعة جميعها لم أتصور قط أنني أعالج قضية فلسفية أو اجتماعية أو سياسية، وإنما كنت أعلم يقينًا أنني أقيم حوارًا مع كاتب روائي صاغ أفكاره صياغة فنية، ولا سبيل إلى عزل هذه عن تلك؛ وإنما لا بد من التعرض للفكر من خلال الفن، والفن من خلال الفكر؛ بل وليس الفكر والفن إلا تعميمًا لمئات العناصر والعوامل التي شاركت في خلق المستوى الجمالي الذي اختاره الفنان لمخاطبة متلقِّيه … فإذا كان «المنتمي» أقرب إلى عناوين القضايا الفكرية، فإنه لم يتخلَّ عن الصياغة الجمالية التي آثرها الفنان، وما على الناقد إلا اكتشافها بوسائلها الخاصة لا بأساليب غريبة عليها تحقق الاقتحام، ولو بالتعسُّف، وتفقد الرؤية النافذة والفهم العميق. إن هذا الكتاب دراسة لقضية الانتماء، نعم، ولكنه دراسة لهذه القضية وقد عبرت عن نفسها جماليًّا في أدب نجيب محفوظ الروائي.

(٤) وعندما أضيف اليوم فصلًا جديدًا تطورت إليه الأمور تطورًا طبيعيًّا، فإني لا أخرج به عن الإطار المنهجي العام لهذا البحث … ولقد أصدر نجيب محفوظ بعض الكتب في القصة القصيرة بعد مجموعة «دنيا الله»، ولكني لم أستعِن بها في هذا الفصل الجديد؛ لأني لم أجد فيها ما يضيف لدراستي لأعماله الروائية ابتداءً من «الطريق» وانتهاء ﺑ «ميرامار» … وذلك باستثناء قصة «تحت المظلة» التي تضع في تقديري «نقطة النهاية» لرحلة عظيمة عاشها نجيب محفوظ وعشناها معه بكل ما انطوت عليه من أشواق وأحزان.

(٥) وبعد … فلا يسعني إلا أن أشكر السادة النقاد: عبد المحسن بدر، وتوفيق حنَّا، وإبراهيم فتحي، وعبد الجبار عباس، وكمال حمدي، والمرحوم علي الرقيعي … وغيرهم ممن تناولوا هذا الكتاب بالنقد والتحليل، فأتاحوا لي جميعًا أعمق لحظات مراجعة النفس على ضوء النظرات الموضوعية للغير. وقد أسعدني الحظ أن أتتبع بعد صدور «المنتمي» الكثير من الدراسات العميقة حول أدب نجيب محفوظ، وقد أصبح الانتماء محورها الغالب، وبخاصة دراسات محمود أمين العالم التي نشرتها «الهلال»، ودراسات أحمد عباس صالح التي نشرتها «الكاتب»، ودراسات رجاء النقاش في «الجمهورية»، فقد أفدت منها جميعًا فوائدَ لا حصر لها.

غالي شكري
القاهرة، يناير ١٩٦٩م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤