الفصل الثاني

ملحمة السقوط والانهيار

«الأصل في موقف الإنسان من عقيدة ما أن يكون معها أو ضدها وبخاصة إن كانت العقيدة قائمة من قديم، وعلى ذلك فالموقف المحايد منها يعني أن صاحبه غير محايد تمامًا، ولكنه يصطنع حيلة أو أسلوبًا من التعبير ليجعل رأيه ضمن الحقيقة الموضوعية وليس صوتًا مباشرًا.»

هكذا يحدد نجيب محفوظ معنى الانتماء الفني. الوسيلة التعبيرية لتجسيد هذا المعنى هي الاختيار. لذلك نحن نستقبل أعمال نجيب الروائية منذ بدأ يكتب «القاهرة الجديدة» عام ١٩٣٨م وفي أيدينا هذه الاعتبارات؛ لقد تحول عن الإيماءات الحيية في قصصه ذات الرداء الفرعوني، إلى اللقاء المباشر مع الواقع المعاصر. تخير من قطاعات هذا الواقع شريحة البرجوازية الصغيرة في مختلف مراحل تطورها من جهة، وفي شتى درجاتها الاجتماعية والاقتصادية من جهة أخرى. استقطب الجانب المأساوي في حياة المجتمع بصفة عامة، وفي التكوين الداخلي في حياة هذه الطبقة بصفة خاصة. هذه الاعتبارات لا تشكل مضمونًا ما بقدر ما تشكل منهجًا في التعبير، والانتماء قضية اجتماعية تحدد مسارها الصياغة الجمالية. والمأساة بمعناها الفني واتجاهها الفكري هي الضابط الحقيقي لانتماء الفنان أو لا انتمائيته. أي أن الكاتب الأوروبي المعاصر يناقش مأساة المصير الإنساني الكبرى، ومع ذلك فهو لا منتمي؛ لأن مناقشة المأساة الوجودية في ذاتها تتم على المستوى الفردي فقط. واللاانتماء عند الفنان الغربي موقف طبيعي في مواجهة حضارة بلغت ذروة تألقها الاجتماعي والتكنولوجي؛ أما الكاتب العربي، فالمأساة الاجتماعية في بلاده تجعل من الانتماء قدره؛ لهذا ينبثق معنى المأساة في أدب نجيب محفوظ من وجهة نظر المنتمي إلى المأساة.

والمأساة في حياة الشعب المصري عميقة الجذور، ولا شك في أن العنصر المأساوي في حياة البشر جميعًا هو العنصر الغالب على وجدانهم منذ كانت هناك حياة؛ غير أن تاريخ هذه المنطقة من العالم كان يُرَسب في أعماقنا عبر العصور إحساسًا طافحًا بمرارة الحزن وعار الهزيمة. ولا شك مرة أخرى، أن هذا الإحساس الخاص بشعبنا قد تولد جانب كبير منه من خلال الإحساس البشري العام، أو أن الشعور الإنساني العام بمأساة الوجود الشاملة كان القاعدة الأساسية التي بنيت فوقها على طول الأجيال التراجيديا المصرية.

وكان لتوفيق الحكيم فضل الريادة في التمييز بين فكرة المأساة عند المصريين وفكرتها عند اليونان، فقال إن الزمن هو العمود الفقري للتراجيديا المصرية؛ بينما القدر هو المحور التراجيدي في أدب الإغريق. وليس هذا التقسيم مخطئًا، ولكنه عام؛ فالإنسان قد عبَّر عن أزمته مع المجهول (الذي يواجهه بوجود غير مبرر ومصير بشع هو الموت، الأمر الذي يجعل من الحياة عبثًا في عبث)، عبَّر الإنسان عن هذه الأزمة في ثلاث مآسٍ رئيسية: القدر اليوناني، والزمان المصري، والخطيئة المسيحية، وتشابهت فكرة العذاب والبعث بينها جميعًا؛ بل إن الرموز الأسطورية كطائر العنقاء أو الفينيق أو تموز أو المسيح، تؤرخ في جوهرها لدلالة واحدة تجمع بين المآسي الثلاث، ذلك أن المقصود بالقدر أو الزمن أو الخطيئة الأصلية، هو المطلق في علاقته بالنسبي، أو الحقيقة في محاولات التعرف عليها. وهذه كلها ليست إلا وجهًا واحدًا للصراع البشري الذي لا يقتصر على أزمة الإنسان مع الطبيعة؛ بل يتجاوزه إلى أزمته مع المجتمع. والمأساة الاجتماعية في مصر هي التي تميز التراجيديا المصرية عن غيرها بسمات أخرى لا يفيد معها تعميم تسميتها بمأساة الزمن.

وأعتقد أن العنصر الاجتماعي في المأساة المصرية هو الذي دفع بها إلى البقاء، أو الطفو على تاريخنا الأدبي الحديث، فلا نستطيع أن نفصل بين «أهل الكهف» والمرحلة السوداء في حياتنا السياسية التي رافقت صدورها، كما لن نستطيع الفصل بين أعمال نجيب محفوظ التي بدأ كتابتها منذ ١٩٣٨م حتى عام ١٩٤٤م؛ حيث كانت الحرية هي القضية الأساسية طوال هذه الفترة المظلمة. أما المأساة اليونانية فقد توقفت تمامًا عن التعبير عن نفسها بعد قيام مسرحها العظيم، كما أن المأساة المسيحية قد ميعت جوهرها الذي تكمن عظمته في الصليب كمرادف لروعة الإصرار، لا كفداء للعالم كما تكمل الأسطورة. إن التقاليد الديمقراطية في المجتمع اليوناني القديم لم تخلق قضايا اجتماعية ملحة ترتفع إلى المستوى التراجيدي. وعندما انتقلت المأساة اليونانية إلى الآداب الأوروبية كانت المسيحية — بخطيئتها الأصلية — أسبق إلى وجدان الإنسان الغربي. فنشأت التراجيديا في أوروبا وهي مزيج من التقاليد الإغريقية في الدراما، والإحساس العميق بالمأساة المسيحية؛ إلا أن هذا المزيج لم يستمر طويلًا أمام الثورات التي اجتاحت أوروبا بعد العصر الوسيط في مجالات السياسة والاقتصاد والعلم والفلسفة والفنون، حتى إن التراجيديا المعاصرة في أوروبا وأمريكا تكاد لا تستمد أصولها من المأساة اليونانية أو المسيحية بالرغم من اعتمادها على الرموز الكثيرة فيهما.

أما في مصر، فالأمر مختلف تمامًا؛ إذ تسببت الظروف الموضوعية المحيطة بوادي النيل في قيام السلطة المركزية المهيمنة على كافة أرجاء البلاد، فمن سهولة المواصلات «النهر» إلى عدم وجود حواجز طبيعية بين مناطق الوادي، إلى الدورات الزراعية المنتظمة، كل ذلك ساعد على أن يكون في مستطاع الحكومة المركزية السيطرة الكاملة على جميع الأنحاء، كما ساعد الغزاة على توطيد دعائم حكمهم … مما حرم مصر على طول تاريخها من نعيم الحرية، ونتج عن هذا الحرمان الطويل من الحرية أن استضافت المأساة المصرية في وجدان الأجيال مجموعة هائلة من العُقد ومُركَّبات النقص تأصلت في كياننا شعورًا عميقًا بالأسى والحزن، جعل المثل الشعبي يدعنا نتوقف إذا ضحكنا كثيرًا لنقول: «اللهم اجعله خيرًا» … لهذا يمكن القول بأن جوهر المأساة المصرية، هو الحرية.

ولا شك في أن شعوب العالم أجمع قد عانت من ويلات العبودية عبر العصور، ولكن الشعب المصري من بينها جميعًا ينفرد بتاريخ مستمر الحلقات، كانت الحرية خلاله هي القضية الرئيسية، كما كان الشعور المأساوي بها بمثابة مادة اللحام القابضة على هذه الحلقات كلها. وبالرغم من ذلك فإن تسميتنا للمأساة المصرية بمأساة الحرية، ليست إلا عنوانًا يحتاج إلى تفصيل، والتفصيل يعيدنا إلى بداية الحديث.

نعود إلى بداية الحديث، لنفرق بين المأساة من ناحية، ولنبحث تفاصيل المأساة المصرية عند نجيب محفوظ من جهة أخرى.

فالمأساة الإنسانية هي الصراع غير المتكافئ بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان والمجتمع. ولما كان هذا الصراع هو السمة الأساسية لتاريخ البشر، فإن الحس المأساوي هو اللون الغالب على بقية أحاسيسهم. ولقد ظل الفن منذ أول العصور محاولة الإنسان الدائبة لتجاوز المأساة بالتعبير عنها تعبيرًا ذاتيًّا يحيط بجملة الظروف الصانعة لها؛ لذلك كانت المأساة هي فن الإنسان الأول.

والكتب المؤرخة للمأساة اليونانية والمصرية تقول بأن هذا الفن قد نشأ بين أحضان المعبد القديم، بين طقوسه التي تمزج الرقص بالغناء بالموسيقى في إيقاع ديني موحد. وتقول هذه الكتب أيضًا إن شبهًا قويًّا بين الأساطير في التراجيدات المختلفة يؤيد وحدة المصدر المأساوي في حياة الشعوب، ويدعم وحدة القالب الفني الأول الذي استوعب هذه التراجيدات، وهو الدراما. فما أشبه ديونيزوس إله الخير اليوناني بأوزوريس إله الخير المصري، وما أشبه العلاقة التبعية بين الإنسان والآلهة عند الإغريق والمصريين القدماء واليهود على السواء، وما أشبه بطولات التضحية والفداء بين بروميثيوس وسيزيف وأوديب وأوزوريس والمسيح. وجوه الشبه هذه في البناء الأسطوري تقابلها وجوه أخرى في دلالات الخير والشر والمعرفة (ويلاحَظ هنا أن المأساة المسيحية هي امتصاص للتراث العبري الذي جعل من الخير والشر قضية المعرفة الرئيسية، وجاء الصليب بعد ذلك ليضيف قضية الفداء والخلود؛ بينما نجد أن المأساة اليونانية تجمع بين هذه العناصر جميعًا في قضية واحدة ومن تراثها الخاص. وقد تفرعت عن هذا الاختلاف بضع مشكلات؛ فأوديب يرمز للخطيئة والمعرفة والفداء في وقت واحد؛ بينما المسيح هو آدم الجديد، وأوزوريس يجسد قضايا أخرى، وهكذا).

أقول إن أوجه الشبه هذه — بمقدماتها ونتائجها — هي التي وحدت المادة الأساسية للصراع في جميع المآسي: فالله عند اليهود خلق الإنسان على صورته ومثاله، والمسيحية جعلت الله إنسانًا بالفعل، والآلهة اليونانية كانت كالبشر تمامًا، هذه المادة الأساسية أدمجت الفن بالدين، فقد تداخلت عناصرها تداخلًا شديدًا: الرقص حول قبور الموتى، فإنشاد الشعر الجنائزي، والموسيقى المرافقة للرقص والشعر … كل ذلك مهد لأن تكون الدراما الشعرية هي البناء التراجيدي الأول، والاعتقاد في البعث هو المحور المشترك بين معظم الأبنية التراجيدية، والمظاهر البدائية لذلك أن الناس — في اليونان القديمة — كانوا يتنكرون ويتظاهرون بقتل واحد منهم والاستعداد لتشييع جنازته، ثم يبعث من جديد. ويُرجح بعض المؤرخين أن هذه الحركات التمثيلية كان يقصد بها مناداة إله الخصب الذي يموت في الأسطورة ليبعث في زرع أو محصول جديد، أي أن جوهر المأساة كان قتل إلهٍ أو بطل وبعثه مرة أخرى.١

ولعل الطبيعة التي نشأت عليها الديانة اليونانية في كونها بعيدة عن الوساطة بين الآلهة والبشر (فلم تصل هذه الديانة إلى الناس بواسطة الأنبياء أو الرسل والقديسين أو على يد فئة معصومة من الخطأ)، لعل هذه الطبيعة هي التي حررت فن التراجيديا من أحضان المعبد والحفلات الدينية، وخرجت بها إلى نطاق الواقع والمشكلات الراهنة والبطولات البشرية الصرفة. من هنا تطورت المأساة اليونانية من كونها شعرًا خالصًا — بل عبارة عن وحدة متكاملة من الأشعار الغنائية تلقيها الجُوقة، وعبارات من الشعر المنثور يتبادلها الممثلون فيما بينهم — إلى أن أصبحت «تقليدًا لحدث جدِّي كامل له جلاله، في لغة منمقة بكل أنواع المحسنات الفنية، وهذه الأنواع توجد في أجزاء متفرقة من المأساة، وذلك الحدث يأتي بأسلوب درامي لا قصصي ليطهر النفس عن طريق الخوف والشفقة تطهيرًا كاملًا»، كما يقول أرسطو في تعريفه للمأساة بكتابه «فن الشعر». وتطورت الفكرة الرئيسية للمأساة فلم تعُد موت البطل فحسب؛ بل رد اعتباره بعد موته، ولكنها ظلت بالرغم من ذلك تُصور ضعف الإنسان أمام القدر، وإن امتد التطور بها إلى أن يتحول الإنسان إلى إلهٍ إذا مورست به مختلف وسائل الظلم والتعذيب؛ ولذلك كان البطل التراجيدي هو الإنسان الذي تتصارع داخله قوى الخير والشر، كما كان الشباب رمزًا للحياة والخصب؛ ولذلك أيضًا لم تكن ثمة قضايا اجتماعية ملحة ترتفع إلى المستوى التراجيدي (وإن لم يخل الكثير من المآسي اليونانية من مناقشة مشكلات البشر العادية). فلم تتبلور عند اليونان قضية القضايا في حياة المصريين «الحرية» كمحور للمأساة؛ بل إن يوربيدس في إحدى مآسيه (المستجيرات) يجعل رسول طيبة يتساءل: «من الحاكم في هذه الأرض؟» فيرد ثسيوس قائلًا: «الحاكم لا وجود له هنا، إنها مدينة حرة، وعندما أقول حرة أعني أن كل فرد فيها يتناوب الاشتراك في الحكم، وأن الغني فيها لا يفوز بحق كان للفقير» … وهذا هو الفرق الأساسي بين المأساتين اليونانية والمصرية، فبينما كانت «المعرفة» أو الحقيقة أو القدر موضوعًا أساسيًّا في التراجيديا الإغريقية، نرى هذا الموضوع يشكل عنصرًا واحدًا من عناصر التراجيديا المصرية.

ولقد كان للدكتور لويس عوض فضل الريادة في تحديد معالم هذه التراجيديا على صعيد الفن في كتابه حول «المسرح المصري»٢ وقد لخص لنا ما سبق أن قاله الأب الفرنسي دريتون٣ من إن بواكير التمثيل الديني في مصر القديمة كانت تشير من إلى مأساة عميقة يمسك فيها الإنسان مِشعلًا وقضيبًا من الفخار ثم «يطفئ لهبه بنفسه ويكسر عمود الفخار بنفسه؛ دلالة الاستسلام للمصير الأكبر» كما يقول لويس عوض مفسرًا الشعلة بالروح، وقضيب الفخار بالجسد، وأن بطل هذه المسرحية هو الإنسان الذي تهبه المقادير الجسد والروح، ثم تسلبه إياهما فيقدم على هذا الفعل وهو منتحب لا يعرف فيما أخذ وفيما أعطى، ثم يقذف بوجوده إلى قاع البحيرة. وربما كان إلقاء الجسد في البحيرة تعبيرًا عن فكرة الخلاص الأبدي أو الولادة الجديدة وبدء الحياة الثانية. غير أن مأساة أوزوريس إله الخصب المعذب، وهي أم التراجيديا المصرية، تتحدد ملامحها بأن تولد إيزيس وأوزوريس خارج الزمن ومن قصتهما مع سِتْ تخرج ملحمة الصراع بين الخير والشر، ومأساة إله الخصب الذي تنوح عليه مصر كلها بعد الحصاد، وتحتفل بمقدمه مع الربيع. أي أن للمأساة المصرية وجهين: الوجه الاجتماعي للحرية، والوجه الوجودي للحرية؛ فإذا كان جوهر المأساة هو الحرية بشكل عام، فإنها تتبلور في شكلها التفصيلي بالخبز والجنس والمعرفة. ولذلك تحولت التراجيديا في مصر القديمة من الشعر الغنائي الخالص إلى الدراما الشعرية، فقد كان أوزوريس بطلًا مقيدًا، ممزقًا، وكان التقيد والتمزيق عقابًا على خطيئة محددة تلتقي عند معنى الحرية، وتتفرع إلى معاني الخبز والجنس والمعرفة، وبهذا تشتمل على الوجهين الاجتماعي والوجودي للحرية كتعبير متكامل عن جوهر المأساة المصرية. على هذا النحو تفرد أوزوريس ببطولة تراجيدية خارقة، فهو يحمل بين جنبيه بذور الخير والشر في صراع مُعَقد، وهو وحده محور الصراع، هو نفس منقسمة على ذاتها، هو إنسان في حرب مع نفسه. ويرجح الكثير أن مأساة أوزوريس كائنة في شهوة الخلق أو الرغبة في الألوهية، ولذلك كانت خطيئته هي أنه إله الخصب، وإله الخصب بالضرورة إله خاطئ، وإله الخصب بالضرورة إله معذب، كما يعلمنا فريزر صاحب «الغصن الذهبي». وقد انحط المسرح المصري يوم أصبح أوزوريس إله الخصب بطلًا بلا خطيئة، وإلهًا للخير، وتحولت مأساة الخلق والإخصاب إلى ملحمة طويلة بين إله الخير وإله الشر. ولعل القيمة الحقيقية لكتاب الدكتور لويس عوض تكمن في التفرقة بين الدراما والملحمة، فهو يقرر «أن مصر لم تكن فريدة في هذا الانحراف فقد انحرفت أوروبا كلها نحو ألفي عام بين انهيار المسرح اليوناني وظهور مسرح الرنيسانس. تحولت عن أدب المسرح القائم على فكرة البطل المعذب إلى أدب الملاحم القائم على فكرة البطل المنتصر، ولعل ازدهار الملحمة المصرية في العصور الوسطى امتداد لهذا التحول الأصيل» … ومعنى ذلك أن ثمة فرقًا أساسيًّا بين البطولة التراجيدية والبطولة الملحمية، الأولى صراع داخلي في ذات البطل والأخرى صراع خارجي بين ذاتين. ومن هنا يقول لويس: «لسنا نرى للبطل أوزوريس من خطيئة إلا وظيفته، وهل في الدنيا أكبر من خطيئة الإخصاب.»

ولا بد من الاستطراد في التفرقة بين الدراما والملحمة؛ فالإيمان بالجبر كما يقرر مؤلف «المسرح المصري» هو المصدر الأول للفكرة المسرحية؛ بينما الإيمان بالاختيار هو المصدر الأول للفكرة الملحمية؛ ذلك أن الإيمان بالاختيار يجعل صراع الإنسان في هذه الحياة لا مع نفسه؛ بل مع قوى خارجية هي الشيطان، فالأصل في الملحمة أنها صراع بين الله والشيطان «هكذا علَّمنا دانتي وملتون.» والحضارة الزراعية تقوم على الحكم المطلق والاختيار في نفس الوقت، لأن قانونًا واحدًا أساسيًّا ثابتًا يحكمها هو قانون العدالة في السماء والأرض «فبالعدالة وحدها تدور آلة الكون وتدور آلة المجتمع، والعدالة لا معنى لها إلا إذا كان كل ما في الوجود مختارًا ومسئولًا عن اختياره» كما يذهب لويس عوض؛ ولذلك كان الإحساس الملحمي هو الغالب على التكوين التراجيدي للمجتمع المصري، فهو مجتمع زراعي يؤمن بأن الله أعطانا عقلًا نميز به بين الخير والشر، وهناك أخِيرًا الثواب والعقاب. لهذا لم ينتج هذا المجتمع مسرحًا عظيمًا بالرغم من النواة التراجيدية الرائعة التي اغتالها الدين المصري القديم بين جدران معابده، وإنما أنتج الملاحم الشعبية الذائعة الصيت. وليس من الضروري — كما يقول لويس عوض — أن تكون الملحمة شعرًا يروي رواية «ولقد تكون نثرًا لا يروي شيئًا يخرج منه المقال النزالي مثلًا كما نرى في أدب السياسة ويخرج منه القصص الأخلاقي الذي لا يعالج الحياة كما هي، ولكن يعالجها لينصر الفضيلة أو لينصر الدين أو لينصر المعذبين في الأرض أو لينصر أي شيء في الوجود.»

هذه الكلمات تبدو أهميتها البالغة، ونحن بصدد إحدى مراحل تطور المأساة المصرية على يد نجيب محفوظ، تلك المرحلة الواقعة بين أعماله ذات الرداء الفرعوني، والثلاثية. فالحس المأساوي عند هذا الفنان بدأ مع لقائه المباشر بالواقع المعاصر في «القاهرة الجديدة»؛ لأن الرداء الفرعوني في أعماله الأولى لم يكن إلا إطارًا فنيًّا لبعث الفكرة المصرية أثناء الكفاح الوطني ضد الاحتلال البريطاني، فلم تستوعب تلك الأعمال جوهر المأساة المصرية كما بدت في أعماله التالية، السابقة على الثلاثية. والثلاثية أعلنت ميلاد البطل التراجيدي في الرواية المصرية. أما (القاهرة الجديدة، خان الخليلي، زقاق المدق، بداية ونهاية، السراب) فهي التجسيد الملحمي للمأساة المصرية كما رآها نجيب محفوظ على ضوء التعريف السابق للملحمة. أي أن هذه المجموعة من الروايات — وقد كتبت منذ عام ١٩٣٨ إلى عام ١٩٤٣م — هي خلاصة التجربة المأساوية في مصر من خلال التجربة العالمية، وجذور التاريخ المصري، والعربي، والبناء الاجتماعي المعاصر لنجيب محفوظ. هذه المجموعة من الروايات تشكل فيما بينها سلسلة محكمة الحلقات لملحمة السقوط والانهيار، عمودها الفقري مأساة الحرية، مأساة الخبز والجنس والمعرفة.

من هنا تكون ملحمة نجيب محفوظ حصيلة التجربة التراجيدية على الصعيد التاريخي للإنسان بشكل عام. وإذا كانت المآسي الرئيسية الثلاث تلتقي في جوهرها عند حدود متشابهة فإن المأساة المصرية تختزن في أعماقها هذا الجوهر الشامل لأحزان البشر، وتضيف إليه عبر تاريخها الخاص ما يتسم به الحزن المصري من صفات متفردة، فلا ريب أن هذه المنطقة من العالم قد تأثرت كغيرها بالمأساة المسيحية؛ بل إن هذا الدين عاش في مصر أكثر من ستة قرون، ولا تزال بضعة ملايين يؤمنون به إلى الآن، وبالتالي فإن مأساتنا الخاصة التي انبثقت مع مصرع أوزوريس قد تجاوبت مع صلب المسيح، فالتاريخ البشري عند المسيحية مأساة تنتهي بالصليب وآلامه. والضمير البشرى — كما يقول جان فرابييه٤ وجوسار — موطن لنزاع لا يفتأ يتجدد بين الإنسان القديم الذي يرزح تحت نير الخطيئة الأولى والإنسان الجديد الذي خلقَه التعميد خلقًا آخر؛ فالكنيسة هي التي «وجدت فيها البشرية هذا النوع من القلق الذي تبحث عنه في المسرح» على حد تعبير جوليان بندا، ولو أنصف لقال مع فرابييه وجوسار إن كل الأديان درامية الروح ما دام الإنسان فيها يواجه مقدوره. المأساة المسيحية تختلف عن المأساتين المصرية واليونانية في اتخاذها من البشرية كلها مادة رئيسية للدراما. ومع أن الخطيئة فالتكفير فالغفران هي الحلقات الثلاث في كل مأساة، إلا أن هذا الثالوث يكتسب في المسيحية دلالة التعميم والشمول على الجنس البشري كله. أي أن المأساة لا تتم على المستوى الفردي — الرامز في نفس الوقت إلى الإنسان — كما نرى مآسي اليونان والمصريين وإنما تعالج قصة البشرية مباشرة، ففي تمثيلية «آدم» التي توجد مخطوطتها الوحيدة في حوزة مكتبة «تور» — ويرجع تاريخها إلى نهاية القرن الثاني عشر، ومؤلفها مجهول الاسم — تشتمل التمثيلية على ثلاثة أجزاء: سقوط آدم وحواء، ومقتل هابيل على يد قابيل، وموكب الأنبياء لإعلان قدوم المسيح. سوف نكتشف أن فكرة القدر اليوناني غير المبرر، تكاد تختفي، وتحتل مكانها فكرة الخلود. ينادي الإله آدم: «ستتابع حياتك كلها في الانشراح، ستدوم إلى الأبد، ولن يعتريها القصر.» وفي مكان آخر: «لن تموتا، لن يعتريكما المرض»، «لن تخشى الموت» … هذا الإحساس العميق بعنصر الزمن والديمومة واللاموت قد تأثرت به التراجيديا المصرية أيما تأثر. المسيحية أيضًا تضيف فكرة أن الإنسان مركز الكون «لأن العالَم بأسره سيكون تحت إمرتكما»، وفكرة الاختيار «وأمامكما سأضع الخير والشر كليهما»، وهي الفكرة المحورية في الحضارة الزراعية. تلي ذلك مباشرة فكرة التمرد «فإذا فعلت ذلك بعدت عن طريق الخطيئة» فالخطيئة هي التمرد، والمعرفة هي الخطيئة «إن أكلت من الشجرة مِتَّ من فورك، وفقدت حبي، وأصبحت تعِسَ المصير»، ولكن الشيطان يقول شيئًا آخر: «إنك منزَّه عن الموت»، «إنها شجرة المعرفة»، «سيرتفع الغطاء عن عينيك في الحال»، «… ولن تعود في حاجة إلى خوف ربك في شيء؛ بل ستصبح ندًّا له في كل شيء» … والإنسان يرهب «الفناء»، ولكنه يتوق لأن يكون ندًّا للمطلق؛ لهذا يأكل آدم من الشجرة، وفي الحال يعرف خطيئته: «لقد مت الآن»، «الآن عرفت معنى الخطيئة»، «لا بد من أن أهوي إلى قاع الجحيم حتى يأتي من يخلصني.» ويلاحظ جان فرابييه وجوسار أن آدم هنا يعبر عن أمله في الخلاص، ولكنه لا يوجه كلمة استعطاف واحدة للرب. غير أن آدم لا يلبث أن يواصل: «الآن أصبحت ضائعًا، لن يستطيع إنسان حي أن يخلصني مما أنا فيه ما لم يتدخل إله الجلال»، «لن يستطيع أحد أن يقدم لي يد العون إلا الابن الذي سيخرج من أحشاء مريم»، «لا أدري ماذا سيحل بنا بعد أن فقدنا إيماننا بالله»، «ليس لي إلا أن أموت.»

هذا هو سر التفاعل بين المأساتين المسيحية والمصرية، فالشيطان هو ست، أما أوزوريس فهو المسيح وآدم معًا «لقد صورتك على صورتي بكل دقة»، هكذا يعتب الله على آدم؛ لذلك «ملعونة الأرض التي تبغي أن تبذر فيها قمحك، إنها لن تحمل ثمارًا من أجلك، إنها ملعونة تحت يدك، ومن العبث أن تحاول استثمارها من أجلك. ستصبح عقيمًا، ولن تنتج إلا الشوك والحسك، وستصبح بذورك ملعونة تحت الحكم الذي قضي به عليك، ولذا سيعتريها الفساد. بالكد والنصب ستأكل خبزك ويعرق جبينك طوال الليل والنهار ستعيش»، أما حواء «ستحملين أولادك كرهًا وستلدينهم كرهًا، وسيقضون كل حياتهم غارقين في بحر من القلق. هذه هي الآلام، هذا هو الخراب الذي ألقيت بنفسك فيه، أنت وذريتك. وكل من سينحدر منك سيكون على خطيئتك»، ولهما معًا: «منذ الآن ستعرفان الجوع والتعب، ستعرفان العذاب والألم خلال أيام الأسبوع جميعًا. وستكون إقامتكم فوق الأرض إقامة سيئة، ثم تموتون في نهاية الأمر، ولا تكادون تذوقون الموت حتى تذهبوا إلى الجحيم من فوركم. ستكون الأرض مأوى أجسامكم، أما أرواحكم، فإلى الجحيم مأواها؛ حيث يقف لها الهلاك بالمرصاد.» ويعود اللغز في المسيحية من جديد حين يأمر الرب أحد الملائكة بأن يقف على باب الفردوس «واحرص على ألا يحصل على القدرة أو الإذن بمس فاكهة الحياة؛ بل سد عليه الطريق بهذا السيف المتوهج.» وتتكرر مأساة قايين وهابيل فيتأكد لدينا أن «الأرض خطيئة» في المأساة المسيحية، فالله يقبل الخروف قربانًا ويرفض محصول الأرض. وكما لُعنت الأرض بسبب آدم، لعنها الرب ثانية بسبب قايين. ويتضح الرمز الجنسي للمسيح حين يأتي أشعيا يتلو نبوته: «سيخرج من جذع يسى قضيب، وتنبت من جذعه زهرة تحمل عليها روح الرب»، ويقول: إن النبوءة وجدت في «كتاب الحياة» وأنها ليست حلمًا؛ بل «رؤيا». ويكمل أن العذراء تحمل «ثمرة الحياة» وتلد يسوع «الذي يخلص آدم من العذاب»، وهذا ما يؤدي إلى إحياء «الأمل». ويأتي المسيح فعلًا، ليُصلب ويموت فداء للعالم، ثم يقوم من بين الأموات في اليوم الثالث، ويصعد إلى السماء منتصرًا للبشرية جمعاء.

•••

لقد حاول أحد المفكرين السوفييت في كتاب له بعنوان: «أصول الدين» أن يرجع بالمسيحية كلها إلى مأساة أوزوريس مرجحًا أن شخصية المسيح لم توجد قط. ولسنا هنا بصدد مناقشة هذه الفكرة بالنفي أو الإثبات. غير أننا لا نتردد في القول بأن الجزء الحديث في المسيحية (فالجزء الأول عن آدم هو امتصاصٌ للتراث العبري) قد تأثر تأثرًا كبيرًا بالمأساة المصرية. على أن هذا الواقع لا ينفي تأثر المأساة المصرية في تطورها بالمسيحية، خاصة وأن مصر كانت في مقدمة البلدان التي استقبلت المسيحية منذ نشأتها تقريبًا وظلت الديانة الرسمية بضعة قرون. فكان ثمة تفاعل حضاري بين الفكرتين المسيحية والمصرية ما تزال لها رواسبها في النفس المصرية عند المسيحي والمسلم على السواء. وربما كان الطابع الملحمي الذي ساد الآداب المصرية في العصر الوسيط هو نتاج التأثير المتبادل بين تراجيدية البطل المصري أوزوريس — إله الخصب المعذب — وقصة الله والشيطان التي نقلتها المسيحية عن اليهود. وربما كانت هذه هي الجذور الغائرة في وجداننا الفني التي أدت إلى ما يشبه الفوضى في تاريخنا الأدبي الحديث … فقد كتب توفيق الحكيم «أهل الكهف»، أول مأساة مصرية حديثة في قالب درامي، بغير أن يولد معها البطل التراجيدي؛ بينما أعلنت ثلاثية نجيب محفوظ ميلاد هذا البطل في القالب الروائي. ولم يحل هذا التناقض الفني إلا في مسرحية «الراهب» حيث أعتقد أن «أبا نوفر» هو أول بطل تراجيدي في الدراما المصرية الحديثة. أما مجموعة أعمال نجيب محفوظ السابقة على الثلاثية فقد كانت ملحمة روائية لم تشتمل على أية بطولة تراجيدية، ولكن البطولة الملحمية فيها نسجت على نحو خاص متفرد. وسوف نتوقف عند هذه النقطة بالتفصيل فيما بعد. يهمنا الآن أن نستأنف الحديث عن التيارات التي أسهمت في تطور المأساة المصرية إلى أن وصلتنا في القالب الملحمي.

•••

بانتهاء العصر الوسيط وبداية عصر النهضة كان الأدب الشكسبيري يصوغ التراجيديا الإنسانية على نحو مغاير للأصول الإغريقية والمسيحية على السواء. إن التراجيديا الشكسبيرية — كما يقول برادلي في كتابه المعروف بهذا الاسم — قد اشتركت مع مآسي اليونان في عنايتها الأساسية بشخص واحد، كما أن الأحداث فيها تؤدي إلى موت البطل، والقصة تصور الجزء المضطرب من حياة البطل، وهي بالضرورة قصة عذاب ومُصاب «يحلان بشخص بارز معروف، وهما في حد ذاتهما من نوع لافت للأنظار. ويكونان عادة غير متوقعين ومتناقضين مع سعادة سابقة أو مجد غابر … ويمتد أثرهما إلى أبعد من دائرة البطل؛ بحيث يحملان المشهد كله مشهد ويل، وهما عنصر جوهري في التراجيديا ومصدر رئيسي للانفعالات التراجيدية، وبخاصة عاطفة الإشفاق.»

ولقد تطور معنى القدر عند شكسبير من كونه انقلابًا تامًّا في الحظ يحس الإنسان إزاءه بالعمى والعجز، وبأنه ألعوبة في يد قوة غامضة تبتسم له فترة قصيرة، ثم تصرعه فجأة في كبريائه، إلى أن أصبح البطل الشكسبيري يهوي من قمة العظمة الدنيوية إلى الحضيض ولا يثير سقوطه إلا الشعور بالتناقض بين عجز الإنسان والقدرة على كل شيء. ولم تعد الكارثة التراجيدية مقصورة على الحديث المفاجئ غير المبرَّر؛ بل أضحت هناك مجموعة من التصرفات تولد تصرفات أخرى وهذه الأخرى تولد غيرها أيضًا إلى أن تؤدي هذه السلسلة من الأفعال المتشابكة إلى كارثة بواسطة تسلسل لا مفر منه فيما يبدو … (وإذا كان نجيب محفوظ قد تأثر بشكسبير كما أكد ذلك مرارًا، فإن هذه النقطة بالذات توضح مبلغ هذا التأثر). هذا يفضي إلى حقيقة تراجية هامة تقول بأن الأبطال أنفسهم هم علة مصائبهم. «وقصة أية تراجيديا شكسبيرية أو أحداثها لا تتألف بالطبع من تصرفات أو أعمال بشرية فحسب؛ وإنما الأفعال هي العامل الأغلب. هذه الأفعال هي في الأكثر تصرفات بكل معنى الكلمة، وليست أشياء تؤدي فيما بين النوم واليقظة؛ بل هي إتيان أفعال ذات طابع مميز؛ ولهذا يمكن أن يقال — بمثل هذا الصدق — إن محور التراجيديا يكمن في فعلٍ صادر عن خلق، أو في خلق يتمخَّض عن فعل» … هكذا يقرر برادلي منطلقًا إلى أن الصدفة أو القدر ليست إلا حادثًا — غير خارق للطبيعة — يدخل في التسلسل الدرامي دون تدخل شخصية ما أو الظروف المحيطة بالظاهرة، «هذا التصرف من جانب القدر هو حقيقة، وحقيقة بارزة من حقائق الحياة البشرية، ولهذا فإن استبعادها كلية من التراجيديا يعني في عرفنا التنكر للحقيقة؛ بل فضلًا عن هذا ليست مجرد حقيقة، لَأنْ يبدأ الناس طائفة من الأحداث ثم لا يستطيعون أن يحسبوا حسابها أو يسيطروا عليها، تلك حقيقة مؤسية» (وهذه هي النقطة الثانية التي لا يمكن تجاهل أن نجيب محفوظ قد تأثر بها إلى أبعد حد). وقد أضاف شكسبير إلى الحقيقة التراجيدية أنها نتاج الصراع الداخلي والصراع الخارجي معًا، ولعل هذه الإضافة لم تتحقق من قبل إلا في التراجيديا المصرية؛ حيث كان ست نموذجًا للقُوى الخارجية، وكان أوزوريس يحمل بين جنبيه صراعًا داخليًّا «بينما كانت التراجيديا الإغريقية المعاصرة مقصورة على الصراع الداخلي، والمأساة المسيحية مقصورة على الصراع بين الله والشيطان، ولذلك تحولت إلى الإطار الملحمي طوال العصور الوُسطى» … وهنا يفضل برادلي أن يستخدم تعبير «القوة الروحية» كرمز للصراع الخارجي والداخلي معًا، كالخير والشر والمبادئ العامة والشكوك والشهوات والدسائس والأفكار، وكل هذه تدفع البطل التراجيدي للسير في اتجاه ما، يعجز أحيانًا عن مقاومة القوة التي تسوقه في هذا الاتجاه مهما كانت النهاية مدمرة «ولا بد لمواجهة هذه الظروف من شيء قد يكون بوُسع رجل أصغر شأنًا أن يحققه ولكن البطل لا يستطيعه. إنه يخطئ عن طريق التصرف أو التقاعس عن التصرف، وهذا الخطأ باتحاده مع أسباب أخرى يجلب عليه الدمار.» إن الحقيقة التراجيدية تتجاوز كثيرًا حدود التراجيديا، ولذلك فالانطباع الراسخ للمأساة عند شكسبير هو «الضياع» الذي يدعنا نُحِس بالشخصية وكأنها لم تأتِ إلى العالم إلا لتلقي هذا المصير المؤلم (والضياع هو أولى حلقات ملحمة السقوط والانهيار عند نجيب محفوظ، ونموذج الضائع يستمر عنده في بقية الحلقات)، فالكل باطل هو شعار العزاء الذي لا يقود إلى معرفة السر أو حل اللغز؛ لذلك يحسن استبداله بكلمات أراجون: عندما يفتح الإنسان ذراعيه ليستقبل الدنيا ترتسم خلفه علامة الصليب.

من المسلم به — يقول برادلي — أن هذا السر أو اللغز لا يحل بلغة الدين؛ بل إن الفنان العظيم — كشكسبير — لا يملك سوى استقطاب عناصر المأساة في موضوعية صارمة، فلا ينبغي أن نصف شريعة ما أو نظامًا أخلاقيًّا أو القوة العليا في العالم التراجيدي بأية صفات خيرة أو شريرة، أو حتى قدرًا محتومًا، فلا يبدو الفرد مسيئًا إلى أية شريعة أو قوة عُليا، ولا يبدو ضحية لمجموعة من الظروف الخارجية «وهذان الرأيان يناقض أحدهما الآخر، ولا يستطيع أي رأي ثالث التوحيد بينهما» ومن هنا يشتد التوتر التراجيدي ما دامت الشخصية ليست مجرمًا يستحق العقاب ولا ضحية لمجرم آخر لا يعاقب. إنهم «مهما كانوا مخطئين فإن خطأهم بعيد عن أن يكون السبب الوحيد أو الكافي في كل ما يَلقَون من عذاب» أو كما يعبر شكسبير في مسرحية «هملت» على لسان الملك قائلًا: «أفكارنا مِلك لنا … أما نتائجها فليست من صنعنا»، إنهم يتصرفون بحرية، ومع ذلك فإن تصرفهم يكبلهم بالأغلال، فهم لا يفهمون أنفسهم بخير مما فهموا العالم المحيط بهم، ففي كل مكان من العالم التراجيدي نجد أن تفكير الإنسان عندما يترجم إلى عمل ينقلب إلى ضده. ومهما يكن ما يحلم بعمله فإنه يحصل على أبعد الأشياء عن أحلامه … يحصل على دماره هو شخصيًّا، ويستنتج برادلي أن هذا يجعلنا ندرك مدى عجز الإنسان، ولكنه قلما يوحي بفكرة القدر، ذلك أن الإنسان يبدو مبعث دماره. وهذا لا ينفي بالطبع أن ثمة عواملَ مساعدة على تحقيق مصيره البشع، هذه العوامل التي تدعنا نُحِس بأنه «تَعِس الحظ بشكل فظيع». وهنا يطرح مؤلف التراجيديا الشكسبيرية»٥ مجموعة من الأسئلة:
  • إذا كان الناس يتصرفون وفق خصالهم، فما الذي يجيئهم بالمشكلة الوحيدة التي تقضي عليهم، في حين أنها تكون خفيفة الوطء على شخص آخر، والذي يجلبها عليهم، يجلبها في اللحظة التي يكونون فيها أقل صلاحية لمواجهتها؟

  • وما السبب في أن فضائل الإنسان تساعد في القضاء عليه، وأن ضعفه وقصوره متشابك مع كل شيء بديع فيه إلى حدٍّ قلما نستطيع معه فصلها عن بعضها البعض حتى في الخيال؟

  • إننا لا نجد في تراجيديات شكسبير ما يجعلنا نعتبر تصرفات الأشخاص وآلامهم محددة مقدمًا نوعًا ما، بصورة تعسفية دون مراعاة لمشاعرهم وأفكارهم وما يتخذونه من قرارات. كما أن الحقائق لا تُستعرض قط بصورة تبدو لنا معها كما لو كان للقوة العليا — مهما يكن كنهها — ضغينة خاصة تطوي عليها الجناح ضد أسرة أو فرد ما. أي أنه لا يتولد فينا أي انطباع محدد حول القضاء والقدر الذي يجثم على رب أسرة ما — بسبب جريمة بشعة ارتكبها أو مروق عن الدين — ما هو إذن هذا القدر الذي تقودنا الانطباعات التي بحثناها الآن إلى وصفه بأنه القوة العليا في العالم التراجيدي؟

ويجيب برادلي: «ويظهر أنه تعبير أسطوري عن الجهاز أو النظام بكامله الذي يؤلف الأفراد فيه جزءًا تافهًا لا يعتد به. والذي يبدو أنه يحدد — أكثر بكثير مما يفعلون هم — ميولهم الفطرية وظروفهم، وهذه تؤدي إلى تحديد تصرفهم والذي هو بالغ من العِظَم والتعقُّد حدًّا قلَّما يستطيعون معه فهمه فهمًا تامًّا أو التحكم في تصرفاته. والذي له خاصية واضحة محددة إلى حد يجعل أية تغييرات تطرأ عليه تولِّد تغييرات أخرى حتمية دون مراعاة لرغبات الناس وما يبدون من ندم.»

هذا المفهوم الشكسبيري للقدر، وتلك الموضوعية الصارمة التي تتحكم في مسار التراجيديا الشكسبيرية؛ يشكلان السمة الأساسية في ملحمة نجيب محفوظ. وإذا كانت المأساة المسيحية قد تفاعلت مع التكوين التراجيدي للنفس المصرية (كما لاحظ يحيى حقي الإحساس بالخطيئة في رواية زينب، وكما نلاحظ نحن في اختيار الحكيم لموضوع أهل الكهف، وفي اختيار لويس عوض لقضية الراهب). وإذا كانت الرؤيا الشكسبيرية قد أسهمت في تكوين نجيب محفوظ الفتى وبلورت إحساسه التراجيدي كما سنرى فيما بعد، فإن التجربة العربية منذ العصر الجاهلي إلى العصر الإسلامي إلى العصر الحديث كان لها تأثيرها الفعَّال في استجابة الرُّوح المصرية إلى إضافات مأساوية جديدة.

•••

وسوف يظل للكاتب السوري صدقي إسماعيل فضل الريادة في تحديد معالم التجربة المأساوية عند العرب في كتابه الهام «العرب وتجربة المأساة».٦ وهو ينطلق من أن التاريخ البشري حين يبدو سلسلة من مراحل الانهيار المتعاقبة، دون مبرر منطقي إلا أن العالم يفسد يومًا بعد يوم، ينصرف التفكير إلى التسليم بأن هناك قدرًا لا سبيل إلى ردِّه يُحتم الانهيار؛ لذلك كانت المأساة نسيج الحياة وجحيمنا اليومي كما يقول جوته في «فاوست». والخطيئة الفاجعة هي خطيئة لا نستطيع أن نتَّهم بها أحدًا، ومن ثم ليس بمقدورنا أن نفهم وجود قاض يحكم، كما يقول شيلر في «ظاهرة الفاجع»، فالسقوط الذي يبدو من طبيعة الحياة الإنسانية، يُصنع دائمًا بيد الإنسان لا بيد القدر، ومن ثم فهو يتناول ما يمكن أن تكون عليه القيم وليس ما هو محتم. وإذا كان ثمة مظهر للضرورة في تجربة الفاجع، فهو الاعتراف بالسقوط. والاستسلام أمام القدر هو خلاصة التجربة الجاهلية عند صدقي إسماعيل. والقدر الجاهلي هو الدهر، هو الزمن؛ لذلك كانت الحرب والفروسية من مقومات الوجود اليومي، فمن أجلها (يبدو الإذعان موقفًا حرًّا). وحماية الماضي وقداسة القيم القديمة هي الوجه الفكري للاستسلام؛ بينما المغامرة هي الوجه العملي «ما دام الأصل هو القدر الإنساني الصارم، فهو المقدس الذي لا يمس. وهذا ما يفسر موقف المغالاة والجموح في الإنسان الجاهلي، والاندفاع دون تردد أو نكوص»، وكانت الإرادة الجماعية صورة القدر في الحياة اليومية لدى الجاهليين، فمصير الفرد هو ما أراده الجميع. والجميع ليسوا أولئك الذين نعيش بينهم فحسب، ولا الأجداد الذين انقرضوا؛ «بل القيم الخلقية التي صنعتها التجربة الإنسانية خلال الزمن وأصبحت راسخة الجذور في الطبع البشري.» أما القضية الرئيسية في الإسلام فهي العلاقة بين الإنسان والله، وهي علاقة قائمة على أساس التسليم بالحقيقة الإلهية «فالمعرفة ليست غاية على الإطلاق». وعلى الإنسان أن يذعن لما «يمكن» أن تقدره المشيئة الإلهية دون أن يساوره الشك في عدالتها وصواب حكمها «إن هذا الإمكان هو محور المأساة في التجربة الإسلامية، فالله هو ينبوع الرحمة وسوط العذاب في آن واحد» وليست الحياة الإنسانية إلا تجربة انتظار تزدحم بأعنف ألوان الشعور بالمسئولية تجاه القيم الروحية التي تمثل المصير الخلقي للإنسان. فالإمكان — بالتجربة الإسلامية — هو صورة صارخة للالتزام بالقدر الإلهي الذي ترجع إليه جميع القيم. والندم هو اعتراف ضمني بأن الخطأ في طبيعة الإنسان. ومنذ بداية عصر الانحطاط تبدأ إدانة القدر «الزمن وغد، والقدر عدو غير معقول» وبهذه الصورة يبدو القدر قوة عاتية في طبيعتها العبث والغدر، وليس لها من سبيل إلا الصدفة العمياء، وحين تتحكم الصدفة بالمصير الإنساني يتوارى كل ما يدعو إلى الالتزام، وتتغلغل الريبة في كل موقف حُر يقتضي الوعي والتصميم؛ ذلك أن الإرادة الحرة لا تستطيع أن تمارس فعاليتها إلا في ظل اليقين، إلا في الإذعان للسنن الحتمية التي تحدد مكانة الإنسان في العالم، وتحفزه إلى حماية مصيره حين يكون هناك ما يهدد القيم أو يوردها التلوث والسقوط.

وعلى هذا النحو فإن مأساة الانحطاط تتمثل في إعفاء الإرادة الإنسانية من كل التزام، ولكنها لا تحررها من التمزق الدفين الذي يمثله شعور الجميع بأنهم ضحايا بغير ذنب أو جريرة إلا أنهم غير قادرين إلا على الرفض والانهزام. وفي هذا التمزق تلوح الدعائم القائمة التي يستند إليها القدر في اقتناص المصائر: الحظ والخرافة والمعجزة والغيب، وهي جميعًا مظاهر للتعبير الفاجع عن الفرار من المأساة.

•••

إن الامتزاج العميق بين التراجيديا المصرية القديمة، والمأساة المسيحية، والتجربة العربية (الإسلامية بوجه خاص) هو انعكاس أمين للتفاعل الحضاري العميق بين مختلف مراحل تطور تاريخنا من مصر الفرعونية إلى مصر القبطية (ولا أقول اليونانية الرومانية بلُغة الأوربيين؛ لأننا من جهة لا ينبغي أن نسمي إحدى مراحل تاريخنا باسم المحتل، ومن جهة أخرى فإن الحضارة المصرية في تلك المرحلة قد اكتسبت الشيء الكثير من المسيحية لا من اليونان أو الرومان، وبالتالي فإن النفس المصرية لم تكتسب شيئًا ذا بال من المأساة اليونانية؛ بل إن حربًا سجالًا ظلت بين مصر والإمبراطورية ليخضع المصريون للتفسير الروماني للمسيحية دون جدوى)، ومن مصر القبطية إلى مصر العربية (ولا أقول الإسلامية؛ لأن الحضارة العربية كانت أعمق من أن يكون الإسلام هو عنصرها الوحيد، كما أن التجربة العربية مع الإسلام تختلف تمامًا عن تجارب الأمم الأخرى مع نفس الدين). مصر الفرعونية، ومصر القبطية، ومصر العربية الحديثة هي الحلقات الثلاث الرئيسية في تاريخنا القومي. ومن خلال الامتزاج الحضاري العميق بين هذه الحضارات تكونت ملامح النفس المصرية، وتشكلت معالم مأساتها. غير أن أحدث هذه الحلقات — وأعني به مصر العربية — هي العامل الحاسم في تكويننا النفسي والمأساوي، لا لأنها أقرب إلينا من ناحية الزمن؛ بل لأنها تاريخ مستمر سبقته فترات — تقصر أو تطول — من الانسلاخ والتمزق والبتر. فمهما كانت هنالك بقايا فرعونية أو رواسب قبطية في الروح المصرية، فإن العنصر العربي الحديث هو العنصر الأغلب والأكثر فعالية، هذا الإيضاح هام للغاية عند تحديد عناصر المأساة المصرية في ملحمة نجيب محفوظ؛ فالأسرة القاهرية المسلمة هي الهيكل الروائي في جميع قصص هذه الملحمة.

•••

تطور فن المأساة من الشعر الغنائي إلى الدراما الشعرية إلى الدراما النثرية إلى النثر الروائي، أي أن التراجيديا تراوحت بين البناء الدرامي والبناء الملحمي. ويلاحظ برادلي أن «التراجيديا تعني في نظر القرون الوسطى قصة أكثر منها تمثيلية»، ويدعم لويس عوض هذه الملاحظة بقوله إن فترة ازدهار الملحمة المصرية كانت العصور الوسطى. ولقد تسبب تخلفنا الحضاري الشديد، ولقاؤنا بالفكر الأوروبي منذ نهاية القرن التاسع عشر في اضطراب أدبنا وفنوننا اضطرابًا عظيمًا، … فليست لدينا مرحلة كاملة محددة يمكن تسميتها بحسم بالمرحلة الكلاسية أو الرومانسية … إلخ. وليست لدينا التقاليد الأدبية والأصول الفنية الراسخة في هيكلها العام وشكلها الكلي … وإنما كنا نستعير من قوالب الأدب الغربي بعضًا من جزئياتها المتفرقة لا في تصورها الشامل. لهذا ولدت المأساة الرومانسية على يد هيكل قريبة الشبه من التراجيديا المسيحية، ولهذا أيضًا ولدت «أهل الكهف» خالية من البطل، التراجيدي بالرغم من تكوينها الدرامي. كذلك كتب نظمي لوقا «رقيق الأرض» — التي دعاها فيما بعد بالمغتصبة — متأثرًا إلى حد كبير بالمأساة اليونانية.

وأصدر نجيب محفوظ مجموعة من القصص ذات الرداء الفرعوني لم تعرف قط طريقها إلى دنيا المأساة. وكان صادقًا إلى أبعد حد حين توقف فجأة عن هذا اللون من التأليف، ليدخل مباشرةً إلى ذلك العالم الكبير، ليدخل مصر المأساة. وكما كتب الحكيم أول مأساة مصرية في العصر الحديث بغير أن تتضمن أية بطولة تراجيدية، فإن محفوظ بدأ صياغة مأساة القاهرة الجديدة، خان الخليلي، زقاق المدق، بداية ونهاية، السراب، في ردائها الملحمي الذي يمتص الصراع بين الخير والشر دون أن ينتصر الخير قط؛ ذلك أنه في صدقه مع تاريخنا الاجتماعي والسياسي لم يخضع لتعريف الملحمة الذي ساقه لويس عوض في ثلاث نقاط:

«الصراع مع قوى خارجية، نُصرة المعذبين في الأرض، البطل المنتصر.» أكثر من ذلك أن نجيب محفوظ لم يكتب هذه المجموعة من الأعمال وفي ذهنه أي تصور لبناء ملحمي، لقد كتبها كروايات مستقلة عن بعضها البعض، لكنه كتبها وفي ذهنه — بكل تأكيد — تصور شامل المأساة مصر: يبدو هذا التصور واضحًا من اختياره للشعب المصري ذي التاريخ الطويل المعذب، وشريحة البرجوازية الصغيرة التي تعاني ويلات وضعها السياسي والاجتماعي والاقتصادي الممزق، في فترة ما بين الحربين. كتب نجيب هذه الروايات بوجدان المنتمي إلى المأساة، ولكنه منتمٍ من نوع خاص، منتم في أزمة. كتبها نجيب بروح الممثل لجيل الهزيمة، جيل المأساة، جيل الانتماء والرفض في آن واحد. لذلك كانت هذه المجموعة من الروايات، تمثل فيما أرى، ملحمة السقوط والانهيار، ولم تكن قط ملحمة الانتصار.

الصدق الفني البالغ الصرامة، هو السمة البارزة في أدب نجيب محفوظ؛ إن صدقه في اختيار الشكل الملحمي كان تمهيدًا طبيعيًّا لاختياره الشكل الروائي في الثلاثية التي أعلنت ميلاد البطل التراجيدي في الأدب المصري الحديث. «وأكرر أن التناقض بين البطولة التراجيدية والإطار الفني للمأساة — الذي نتج عن اضطراب تاريخنا الأدبي — قد حل في مسرحية «الراهب» على يد لويس عوض.» يبدو الصدق الفني عاملًا هامًّا في التوفيق إلى اختيار عناصر العمل الفني إذا تصدينا للارتباط الملحمي بين روايات نجيب الخمسة، والعناصر الأساسية المكونة لبنائها.

توفيق الحكيم ولويس عوض، اختارا الثوب التاريخي لمصر المسيحية كقالب درامي للمأساة؛ أما نجيب محفوظ فالتقى مع الواقع مباشرةً، ومعنى هذا أنه التقى بمجموعة هائلة من العناصر المعقدة؛ التقى أولًا بجوهر المأساة المصرية؛ هل هو الجبر أم الاختيار؟ الحضارة الزراعية تؤمن بالعدالة المطلقة والاختيار المطلق. الحضارة المدنية تؤمن بالجبر الصارم. يقول لويس عوض: «لهذا كله كان المجتمع الزراعي قاسيًا في حكمه على كل مخطئ، على كل خارج على العقل، هو لا يغتفر الخطأ ولا يغتفر الخطيئة. ولقد يدفع المخطئ أو الخاطئ ثمن خطئه باهظًا، ولكن الإيمان بالمطلقات يمنع الغفران له أو الأسى لمصرعه، كذلك يمنع الغفران له أو الأسى لمصرعه الإيمان بالاختيار»، «المجتمع الزراعي مجتمع قائم على الاختيار، وأبناؤه يُكثرون من الحديث عن القدَر وعن القضاء وعن إرادة الله، ولكنهم في تصميمهم يؤمنون بالاختيار، ولا يأتون شيئًا يدل على إيمانهم بالقدر؛ هم لا يجازفون، هم لا يتنقلون، هم لا يدخلون معركة إلا بعد امتحان سلاحهم، هم يؤمنون بالاختيار؛ لأن الإيمان بالاختيار معناه العقاب والثواب.» ثم يقول إن من ينحرف عن «العقل» في المجتمع الزراعي إما أن يكون هدفًا للسخرية وتأديبه يكون في الكوميديا، وإما أن يكون موضعًا للغضب ويكون تأديبه في الملحمة؛ حيث ينازل البطل رمز الخير الوغد رمز الشر ويَصْرَعه.٧

نجيب محفوظ يعرف أن الحضارة المصرية في جوهرها حضارة زراعية يحكمها قانون أساسي هو العدالة في الأرض وفي السماء. فبالعدالة وحدها تدور آلة الكون وآلة المجتمع، والعدالة لا معنى لها إلا إذا كان كل ما في الوجود مختارًا، ومسئولًا عن اختياره. لذلك فإنه — بوعي منه أو بغير وعي — يصوغ المأساة المصرية في الشكل الملحمي. فنحن حقًّا أبناء الحضارة الريفية التي يحكمها قانون الاختيار، قانون الملحمة. ولكن ملحمة المأساة المصرية لها سمات خاصة، لها ظروفها المتفردة. إنها تركة تاريخ طويل مُثقَل بالعبودية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، إنها صليب ضخم تسمَّرت على خشبته حرية شعب كامل آلاف السنين. كذلك فالبرجوازية الصغيرة التي عاش نجيب في لظاها ليست تعبيرًا عن الحضارة الريفية وحدها، إنها تجسيد عميق للقاء الريف بالمدينة، فهي تحمل في جوهرها قيم المجتمع الزراعي، ولكنها تعيش في قلب المدينة الجديدة. مأساتها إذن لا تقوم على الاختيار الناجم عن السكون والاستسلام فحسب، إنها تقوم أيضًا على أهم الركائز الروحية في المدينة: الجبر، الجبر الذي يؤدي إلى المغامرة، فتصبح حياة الإنسان مخاطرة شخصية مع القدر. الشخصية المدنية إذن، هي شخصية قلقة وثائرة ومضطربة، هي شخصية لا تعرف الأمان في داخل النفس ولا في خارجها، فعَلام تعتمد هذه الشخصية في كفاح الحياة وهو طويل مرير؟ هي تعتمد على شيء واحد هو القدَر «هذه النفس تُحس بأنها أداة في يد الله إن كانت مؤمنة، وألعوبة في يد القدر إن كانت غير مؤمنة.» كما يقول لويس عوض. لذلك كانت شخصية مغامرة، مخاطرة، تجنح إلى النسبي وتمقت المطلق. ومن هنا كانت القيم والمعايير والمقاييس هي المصطلحات الجديدة في الحضارة المدنية.

نجيب محفوظ يختار البرجوازية الصغيرة لبنائه الملحمي، ويعلم تمامًا أنها مزيج معقد من الجبر والاختيار، من الريف والمدينة، من الاستسلام والمغامرة. البناء المعقد للبرجوازية الصغيرة، هو أكثر الأبنية الطبقية تعبيرًا عن المأساة المصرية. فهي الشريحة الاجتماعية الوحيدة المعلقة في الهواء كسيزيف. وهي الشريحة الاقتصادية الوحيدة الهاوية في حضيض اليأس من المستقبل. وهي الشريحة السياسية الوحيدة التي أنبتت أقصى تيارات اليمين واليسار؛ حيث كان مآلها الدائم عذاب السجن. نجيب يختار البرجوازية الصغيرة واعيًا بأنها أعرض وأطول الشرائح الطبقية في مصر، وأعمقها إحساسًا بضراوة المأساة. نجيب يختار الزمن بوعي تراجيدي عميق، فهو يختار البرجوازية الصغيرة في فترة ما بين الحربَين، وهي المرحلة المأساوية الكبرى في تاريخنا الحديث. نجيب يختار الأسرة القاهرية المسلمة وهو على وعي فذٍّ بأن الإسلام هو العنصر الروحي الوحيد الذي يلتقي مع طبيعة البرجوازية الصغيرة المصرية في المدينة.

الإسلام هو «سوط عذاب وينبوع رحمة في آن واحد.» كما يقول صدقي إسماعيل، البرجوازية الصغيرة المصرية هي ملتقى شعار الريف «الله المنتقم الجبار» وشعار المدينة «الغفور الرحيم» كما يقول لويس عوض، الإسلام إذن يلتقي مع البرجوازية الصغيرة أعمق لقاء وأصدقَه فهو التعبير الروحي الوحيد الملائم لتكوينها المزدوج. الإسلام أيضًا هو العنصر الغالب على وجدان الحضارة العربية الحديثة، وهي الحلقة الحضارية الأكثر معاصرةً في التاريخ المصري (وهذا هو الفرق بين توفيق الحكيم ولويس عوض من جانب، ومحفوظ من جانب آخر، فقد كان لقاؤه المباشر مع الواقع المصري سببًا رئيسيًّا في بحثه عن التفاصيل المكوِّنة للتراجيديا المصرية، ومنها الإسلام؛ بينما كان تجريد الحكيم ولويس عوض سببًا رئيسيًّا في التعميم واختيار المسيحية هيكلًا للتراجيديا).

لا نستطيع أن نهمل بعد كل ذلك أن نجيب محفوظ الإنسان هو ابن البرجوازية الصغيرة المصرية في مدينة القاهرة، وأنه عاش في يناعة شبابه مرحلة السقوط والانهيار في تاريخنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي الحديث. وأنه استراح إلى فلسفات الانتماء الفكري إلى قضايا البشر بصور عامة، وقضية المجتمع المصري بصورة خاصة، وأنه اتخذ موقف الرفض الحاسم لكافة القيم المهترئة في هذا المجتمع، أو في العالم. وإنه اطمأن إلى الشكل الفني الذي يستوعب الانتماء إلى المعذبين، وهو الملحمة. وانتهى بالصراع بين أبطاله والقُوى الخارجية إلى الهزيمة — لا إلى النصر الملحمي — انتهاجًا لمبدأ الرفض الذي صاحب معه فكرة الانتماء، فكان الرفض والانتماء جوهرًا أصيلًا لأزمة نجيب محفوظ. كما كانت الحرية جوهرًا أصيلًا للتراجيديا المصرية.

•••

«القاهرة الجديدة» هي الحلقة الأولى في التكوين الملحمي، لأعمال نجيب الروائية، التي بدأ كتابتها عام ١٩٣٨م وانتهى منها بتأليف السراب عام ١٩٤٤م. ولعل اختياره الدقيق لعنوان «القاهرة الجديدة» يعكس تحديده المنهجي لطبيعة المرحلة التاريخية التي عاشتها مصر فيما بين الحربين. مأساة القاهرة الجديدة هي الحلقة الأولى في ملحمة السقوط والانهيار، لا لأنها كتبت أولًا من الناحية الزمنية، ولا لأنها تؤرخ بالتعبير الفني لإرهاصات الحرب الثانية بينما بقية الروايات تصور مراحل الحرب وما بعدها. إن اختيار مأساة القاهرة الجديدة كافتتاحية للملحمة الكبيرة يعتمد أساسًا على تجسيد الأرض الحقيقية للتراجيديا المصرية في ذلك الحين، وهي حالة «الضياع» الرهيب الذي غلب الإحساس به على بقية مشاعر المصريين في تلك الحقبة المليئة بالقلق والاضطراب والتوجس … فلم تكد نيران الحرب الأولى تخمد حتى التهبت نيران أولى مراحل الثورة القومية في بلادنا عام ١٩١٩م، ولم نكد نظفر بالقليل من مكتسبات هذه الثورة التي لم تنجح تمامًا حتى بدأت تتجمع في الأفق سُحُب الأزمة الاقتصادية الكبرى في العالم الرأسمالي، ومن ثم انعكست علينا ويلات الأزمة في اغتيال حريات الشعب الديمقراطية ونشأة الاتجاهات الفاشستية والشوفينية في الحركة القومية. وشيوع البطالة والانحلال والبؤس. ومن ثم لم يكن هناك مفر من الإحساس الشامل بالضياع النفسي المدمر. فالقاهرة الجديدة إذن هي القاهرة البرجوازية الضعيفة التي نشأت حديثًا في ذلك الوقت في أوج عصر الاستعمار، وبين أحضان الاحتلال، وفي ظل هيمنة العلاقات الإقطاعية وقيمها. القاهرة الجديدة هي كل ذلك، وبما يتضمنه من تناقضات في البناء الاقتصادي والاجتماعي والسياسي بشكل عام، والبناء الإنساني لمختلف الفئات بشكل خاص، والبناء الذاتي للأفراد بشكل أكثر خصوصية. وعندما يستشعر نجيب أن الضياع هو الأرض الحقيقية للتراجيديا المصرية، حينذاك، فإن شعوره يصدق مرتين عندما تقع بصيرته الفنية على أكثر الفئات ضياعًا، ثم يصدق هذا الشعور ثلاث مرات؛ بل إلى ما لا نهاية عندما يمضي في الاستقصاء والتخصيص حتى يمسك بيده «الضائع» النموذجي والفرد في آن واحد. النموذج الرامز إلى ضياع مصر كلها ثم يتدرج الرمز إلى ضياع فئته الاجتماعية، فطائفته الخاصة، فضياعه هو شخصيًّا.

القاهرة الجديدة عند نجيب محفوظ هي قاهرة الموظفين وطلبة الجامعات والتيارات الفكرية القادمة من أوروبا، فهي قاهرة المثقفين أو قاهرة أزمة المثقفين. لذلك كان الضياع الفكري هو السمة البارزة على أرض القاهرة الجديدة، وإن كان الضياع الاجتماعي يشكل طبيعة هذه الأرض، وجوهر مأساتها. والمقدمة التمهيدية للبناء التراجيدي في القاهرة الجديدة. مليئة بالتفاؤل … فالبنات دخلنَ الجامعة، والشباب يدخل مع بعضه البعض في مناقشات خصبة حول الأفكار الجديدة، و«محجوب» ابن الموظف الفقير في القرية يتمكن من دخول الجامعة حتى يصل إلى الليسانس، و«مأمون» الشديد التدين يستطيع أن يجهر بآرائه في المرأة والمجتمع والقيم الحديثة، و«علي طه» مقتنع بحتمية التطور الاجتماعي إلى الاشتراكية والبيئة العلمية، و«أحمد بدير» يحدد المناخ السياسي بقوله: «على الصحافي أن يسمع لا أن يتكلم، خاصة في عهدنا الحاضر.» القاهرة الجديدة تضم أولئك الشباب — وكأن الفنان باختيارهم شبابًا يريد أن يجسد فيهم القاهرة «الجديدة» بمختلف أزماتها وأزماتهم — تضمهم في بنائها الرحب الذي يضم بقية الشرائح الاجتماعية والأزمات النفسية في مزيج مركب على نحوٍ غاية في التعقيد. عندما يقول محجوب: أنا رأسي هواء، والأستاذ مأمون قمقم مغلق على أساطير قديمة، وعلي طه معرض أساطير حديثة، إنما يحدد بدوره معالم الأزمة الشاملة التي يواجهونها جميعًا، بالإضافة إلى الأزمة الخاصة بكل منهم … فمأمون اعتمد على ركائز الدين حتى أقعده المرض عن اللحاق بالمدارس إلى الرابعة عشرة، فذاق مرارة العزلة، وعرف الألم، وانصهر في أتون تجربة قاسية. أما على طه فقد تزعزعت عقيدته منذ مستهل حياته الجامعية، وتعرض لآلام التحول الرهيبة.

محجوب وحده كان قلبه في ظلام وعقله في ثورة دائمة، شعاره الأثير كلمةُ «طُظ» وفلسفته هي الحرية، ولكنها حرية من نوع خاص، هي التحرر من كل شيء، من القيم والمُثل والعقائد والمبادئ … فهل معنى ذلك أن محجوب عبد الدايم قد أعلن ميلاد اللامنتمي المصري؟ إنه يعجب بقول ديكارت: أنا أفكر فأنا موجود، ويتفق معه على أن النفس أساس الوجود، ثم يقول بعد ذلك إن نفسه أهم ما في الوجود، وسعادته هي كل ما يعنيه، ويرى من الجهالة والحمق أن يقف مبدأ أو قيمة في سبيل نفسه وسعادتها. غايته من دنياه: اللذة والقوة، وليس هذا هو اللامنتمي. فالقيم — بالفعل — هي مقياس الانتماء أو اللاانتماء، ولكن معركة محجوب مع القيم لا تنبع من التصور العبثي للوجود، لا تنبع من التصور الشامل للكون والعالم؛ لذلك فهو يقول إن فلسفته يجب أن تظل سرية — لا احترامًا للرأي العام؛ فإن من مبادئها احتقار كل شيء — ولكن لأنها لا تؤتي أُكلها إلا إذا كفر الناس بها وآمن بها وحده … وليست هذه دعوة اللامنتمي إلى الحرية. حرية اللامنتمي حرية مفتوحة؛ بل هي لا تتحقق على المستوى الفردي مطلقًا.

اللامنتمي لا يطرح مشكلة الحرية هكذا: حريتي أنا «والآخرون إلى الجحيم»، ولا يطرحها هكذا: حريتي أنا «والواجب أن أمنح الآخرين حريتهم»؛ بل يقول: «حريتي أنا لا تتحقق إلا إذا تحققت حرية الآخرين في نفس الوقت.» فالحرية في مفهوم اللامنتمي ترتبط عند الفرد بحرية الآخر. اللاانتماء ظاهرة حضارية لم نعرفْها نحن إلى الآن؛ وإنما عرفها الغرب في ظل حضارة سامقة بلغت الذروة في مجالَي التكنولوجيا والمجتمع على السواء، أما القاهرة الجديدة فإنها تعيش في ظل مرحلة حضارية شديدة التخلف في كافة المجالات؛ لهذا يبدو الانتماء قدرًا على أجيال هذه المرحلة، ناحية اليمين أو ناحية اليسار كما نرى في مأمون رضوان وعلي طه. ويبدو «الضياع» ظاهرة اجتماعية حتمية الوجود كما نرى في محجوب عبد الدايم. محجوب كان ضائعًا اجتماعيًّا فهو مَدين بنشأته للشارع والفطرة. وهو ضائع فكريًّا؛ لأن الضياع الفكري هو انعدام التمثل الواعي العميق لأيٍّ من تيارات الفكر، واللامبالاة الساذجة بالقيم النابعة منها. والضياع الاجتماعي هو التحلل من وشائج الارتباط بالمجتمع ارتباطًا صحيًّا بالانتماء أو اللاانتماء، أي أنه ليس احتجاجًا واعيًا على فساد المجتمع. وهذا هو الفرق الأكبر بين الضائع واللامنتمي، فهذا الأخير يكون في حالة من العراء الكامل أمام الذات، أمام النفس (لذلك فهو يعيش حياته في كافة أبعادها ومستوياتها)؛ أما الضائع فهو شخصية مزدوجة أو مثلثة … إلخ. شخصية ليست مرتبطة (أشد الارتباط) بالذات الفردية (لذلك فهو لا يعيش حياته ولا يحقق ذاته مطلقًا).

القاهرة الجديدة الضائعة هي القاهرة الرومانسية. «إحسان» صديقة علي طه تقرأ مجدولين وآلام فرتر وآلام رفائيل. إحسان في أزمة خانقة، فقد نبتت هذه الزهرة الجميلة وسط أشواك برية. الأب يُقامر بشرف ابنته مقابل المال، والإخوة الكثيرون خُواة البطون، والدراسة بالجامعة طويلة طويلة … وهي تحب علي طه حبًّا صادقًا، وهو أيضًا يحبها حبًّا صادقًا عميقًا، ومحجوب يتلصَّص النظرات إلى هذا الحب وفي وجدانه تُعشش المغامرات مع جامعة أعقاب السجائر «لست خيرًا منها؛ فهي جامعة أعقاب سجائر، وأنا جامع أعقاب فلسفات.»

هذه كلها، كانت المقدمة التمهيدية للبناء التراجيدي لمأساة القاهرة الجديدة. وهي بالرغم من كل شيء مليئة بالتفاؤل؛ لأن خيوط المأساة لم تكن قد بدأت بعد في التشابك والتعقد والتأزُّم. لذلك فكل خيط بمفرده لا يصنع الكارثة مهما كان «الضائع» أحد هذه الخيوط وأخطرها جميعًا. البداية الفنية للمأساة تبدأ برسالة صغيرة تلقَّاها محجوب من والده تقول إنه سقط فريسة لمرض خطير «ومن عجبٍ أنه لا يذكر أن أباه شكا المرض يومًا ما»، لم يكن بين محجوب والامتحان النهائي سوى أربعة أشهر؛ لذا مضى يحدث نفسه: لو انتهى أجل الرجل لوُئدت آمالي جميعًا. الفنان حريص للغاية على تركيز الزمن، على الإحساس به كمرادف للقدر. ومن هنا يكون هذا الحدث هو البداية الحقيقية للمأساة. أبوه كاتب صغير بشركة الألبان اليونانية بالقناطر، خدمها ربع قرن مقابل ثمانية جنيهات في الشهر يبذل له منها ثلاثة جنيهات تنهض بضروراته في العاصمة من مسكن وملبس ومأكل.

لهذا السبب يصبح مرض والد محجوب «أزمة نموذجية» لبداية المأساة في أية أسرة برجوازية صغيرة لا تملك شيئًا سوى الوظيفة أو الشهادة. وظيفة الأب مهددة الآن بالضياع، وشهادة الابن مهددة تلقائيًّا بالضياع. والضياع إذن هو جوهر الشخصية الرئيسية في القاهرة الجديدة. محجوب الضائع لا يؤمن بالحرية، الأدق أنه لا يعرفها «الحرية المطلقة … طُظ المطلقة … ليكن لي أسوة حسنة في إبليس. الرمز الكامل للكمال المطلق … هو التمرد الحق والكبرياء الحقة والطموح الحق والثورة على جميع المبادئ.» الضياع في القاهرة الجديدة ليس بحالة فردية؛ بل ظاهرة اجتماعية، فهناك «سالم الإخشيدي» صديق محجوب القديم، أين هو الآن؟ كان يقود المظاهرات فيما مضى، وطلبه الوزير ذات يوم، فخرج من عنده ليردد هذه الحكمة الذهبية «ميدان الجهاد الحقيقي للطلبة هو العِلم» وتخرج بعدئذٍ ليشغل — قبل أوائل الطلبة — وظيفة السكرتير لقاسم بك فهمي بتوصية خاصة من الوزير في وقت كانت فيه الوظائف مغلقة أمام الجميع. فإذا كانت الثورة الوطنية قد فتحتها، فإن إرهاصات الحرب عادت فأغلقتها. تسوق رسالةُ الأب ابنَه إلى سالم الإخشيدي وفي أعماقه يتوسد مفهوم الضائعين للحرية وتترسب قصة الضياع المشترك بين الاثنين. وهذا هو منهج الفنان في البناء التراجيدي للأحداث. إن اختياره للبداية الفنية للمأساة (مرض الأب) يتفق تمامًا مع اختياره للشخصيات. فالإخشيدي هو مركز الجذب لمحجوب … وهذا طبيعي بالنسبة لتاريخ الفقر والصدع الاجتماعي المشترك. كما أنه طبيعي أن يبدأ محجوب من حيث انتهى الإخشيدي. إن تكرار نماذج الضائعين يدعم القول بأن الضياع ظاهرة اجتماعية. ولكن اختيار محجوب بالذات محورًا للتراجيديا يصور المأساة في قالبها الذاتي المتفرد. الضياع الاقتصادي فالاجتماعي فالنفسي فالفكري والخلقي هو أرض المأساة في القاهرة الجديدة، ولكن محجوب هو محور هذه المأساة، وألقى على المدينة — بعد أن زار أباه المشلول — نظرة شاملة وهتف: «يا قناطر يا بلدنا وزعي الحظ بين أبنائك بالعدل.» نطق بهذه الكلمات من أعماق اللاوعي. وهو على حافة الهاوية. إن الشلل العضوي يرادف عند محجوب الشلل الاقتصادي، هذا النوع من الشلل يبلور عناصر المأساة «وجلس على كرسي قريبًا من الفراش ثم أطرق مفكرًا: هذه أسرة يتعلق مصيرها بحياة رجل مهدَّم، فماذا تحت الجفنين المطبقين؟ أنجاح أم تشرد؟ لماذا لم يتأخر هذا الشلل عامًا آخر؟ وذكر شارع رشاد باشا الصامت الجليل، والقصور القائمة على جانبيه، والباشوات والباكوات تحملهم السيارات منه وإليه، والنساء اللاتي يلُحن وراء ستائره وبين خمائله. فأين من أولئك والداه البائسان وهذا البيت المتداعي؟ وجعل يقول لنفسه: إنه لو كان وريث أحد تلك القصور وأشفى أبوه — الباشا — على الموت لانتظر موته بفارغ الصبر. وتنهد من قلب مكلوم وقد احتدم الغيظ في قلبه. ثم تساءل وهو لا يتحول عن إطراقه: ترى كيف تنتهي هذه المأساة؟» … إن هذا التساؤل يجرنا إلى الوراء، إلى الأيام الخوالي التي عقدت فيها الظروف أواصر الصداقة والحب بين محجوب وأمه وأمارات الخوف والرهبة من أبيه، فلم يكن حزينًا عليه بقدر ما كان حزينًا على الجنيهات الثلاثة … خاصة بعد أن أعلن الطبيب أنه لن يعود إلى عمله «أربعة أشهر فقط بيني وبين ثمرة كد خمسة عشر عامًا.» هذه عناصر المأساة إذن في إطار الزمن: لماذا قُدر له أن يولد في ذلك البيت؟ وماذا ورث عن والديه سوى الهوان والفقر والدمامة؟ أليس من المظلم أن يرسف في هذه الأغلال قبل أن يرى النور؟ إن جوهر المأساة حقًّا أن يكون هذا الضائع هو «الأمل» الوحيد عند هذه الأسرة المنكوبة.

قبل أن نراقب الفنان وهو يحرك صور المأساة، ينبغي أن ندرك الفرق بين الشخصية التراجيدية، والبطل التراجيدي. محجوب وعلي طه شخصيتان مأساويتان. الأول تتسبب نشأته الاجتماعية في ضياعه الإنساني، والآخر تتسبب نشأة حبيبته في فقدان حبه … والقدر في الحالين يعني أن مجموعة من الظروف السابقة على الشخصية تصطدم مع مقومات هذه الشخصية فيحدث التمزق المأساوي. كمال عبد الجواد في الثلاثية بطل تراجيدي. بطولته كامنة في أعماقه التي تشتمل على مجموعة هائلة من المتناقضات تؤدي إلى المأساة. الشخصية التراجيدية مأساتها قادمة من الخارج، أما البطل التراجيدي فمأساته قادمة من الداخل. ولا شك أن الشخصية والبطل التراجيديين يرتكزان على الداخل والخارج معًا، ولكن السيادة للقوى الخارجية في الشخصية التراجيدية، والسيادة للقوى المتصارعة في الداخل عند البطل التراجيدي. لهذا السبب، من الممكن أن توجد أكثر من شخصية تراجيدية في العمل الفني الواحد؛ بينما لا يوجد أكثر من بطل تراجيدي في العمل الفني الواحد أيضًا. علي طه والإخشيدي وقاسم فهمي وإحسان وغيرهم يمتلكون خواص الشخصية التراجيدية في صورها المتنوعة ودرجاتها المختلفة، ولكن محجوب هو الشخصية المحور؛ لذلك كانت بقية الشخصيات مجرد مرايا للشخصية الرئيسية، تكشف جوانبها المتعددة وأبعادها المختلفة. من هنا يكون تحريك الفنان لصور المأساة نابعًا من قضية أساسية هي قضية الضياع، ومنبثقًا عن شخصية محورية هي شخصية الضائع. وهذا هو الفرق الآخر بين البطل التراجيدي الذي تنبع صفاته من ذاته، وقضيته من أعماقه؛ بينما الشخصية التراجيدية تنبع صفاتها وقضاياها من صميم «النماذج» البشرية التي تجسد زاوية ما في البناء الاجتماعي القائم.

يحرك الفنان صور المأساة في القاهرة الجديدة من خلال «الضائع»، فنعلم أن الحكومة هي طبقة واحدة متعددة الأسر، وهي تضحي بمصلحة الشعب إذا تعارضت مع مصلحتها. أما البرلمان فإن محجوب يصفه وهو يبتسم في خبث: «النائب الذي ينفق مئات الجنيهات قبل أن يُنتخب لا يمكن أن يمثل الشعب الفقير، والبرلمان في ذلك شأن المؤسسات الأخرى، انظر إلى قصر العيني مثلًا، فبالاسم مستشفى الشعب الفقير وبالفعل حقل تجارب لإجراء اختبارات الموت على الفقراء.» الحرية هي جوهر مأساة القاهرة الجديدة، مأساة الضائع مهما ثرثر بشعاره الساذج «طظ». ومهما أحس بفرديته المسحوقة وهو يردد بضمير الجمع: «نحن نشق على أنفسنا أكثر مما ينبغي، كأن هذه الحجرة مسئولة عن رفاهية الدنيا.» هذه التناقضات بين ما تضمر الشخصية وما تظهر هي انعكاس أمينٌ للتناقض بين وعيها ولاوعيها. محجوب مثلًا يكذب على زملائه وهو ينقل أثاثه البسيط من الغرفة التي يسكنها معهم إلى الغرفة الجديدة القائمة على سطح إحدى العمارات بعيدًا عن الفضول. يكذب محجوب فلا يذكر السر الحقيقي وراء هذا النقل، لأنه آثر الكذب «على إذلال كبريائه»؛ فالضائع لا يعترف بالحضيض الذي سقط في هاويته؛ بل هو يمقت سكان الحضيض الأصليين «من هؤلاء العمال الذين يرثي لهم علي طه» … هي سمات البرجوازي الصغير حقًّا، ولكنها سمات الضائع أصلًا فهو لا يعيش حياته ولا يحقق ذاته، لا يحيا في حالة عراء كامل مع النفس، أمام الذات كما يفعل اللامنتمي … ولكنه يكذب؛ أي أنه لا يصبح هو؛ بل شخصية مزدوجة ومثلثة … إلخ.

كان مرض الأب هو البداية الفنية للمأساة، وهي بداية عامة. البداية الخاصة بالشخصية أو أرض المأساة، تتمثل من ناحية المظهر المادي في تلك الغرفة القابعة فوق السطح، والستين قرشًا التي سينفقها طول الشهر بمعدل قرشين لليوم الواحد، وهو لن يسأل إخوانه أن يطعموه «لو سأل علي طه ما تأخر أو تردد، لو سأل مأمون رضوان لنزل له عن طعامه ولو كان كسرة خبز. فما الذي يمنعه؟ الكرامة؟ الكبرياء؟ تبًّا له. لا تزال فلسفته كلامًا وهراء، متى يصير رجلًا حقًّا؟ متى يفرط في كرامته وعرضه وكأنه ينفض ترابًا عن حذائه؟!» إنه يجرؤ فحسب على الذهاب إلى قريبه الثرى (سوف نلتقي بهذا القريب أو صديق العائلة الثري فيما يلي من أعمال نجيب محفوظ، فهو يحمل بين طياته دلالة واحدة) وهناك يزف إليه نبأ والده فيواسيه الرجل ثم يستأذن تاركًا له ابنته الجميلة وابنه الشاب … إن الفنان يجسد معنى الفارق الطبقي في البناء البرجوازي الجديد، ومدلوله عند الضائع. الفتاة الجميلة هي الرمز الحي للحياة العالية التي «يتآكل قلبه حسرة عليها»، ولكنها «حركت به إعجابًا مقرونًا بالحنق، ورغبة ممتزجة بالتحدي، فشعر في أعماقه بنزوع قاس إلى السيطرة عليها والبطش بها»، «وشعر محجوب عبد الدايم وهو يعبُر حديقة الفيلا بعد انتهاء الزيارة أنه من الممكن أن ينشأ بينه وبينهما نوع مما يسميه الناس بالصداقة، وتَفكَّر فيما يمكن أن يفيده من هذه الصداقة إذا حدثت، أم يخرج منها كما خرج من زيارة البك صفر اليدين.» الشخصية التراجيدية مختارة بعناية لتضمُّنها السمات المأساوية الشائعة في المجتمع، صراعها الداخلي ليس صراعًا عظيمًا بين القوى الكبرى، ليس تجسيدًا لعلاقة الإنسان بالكون؛ وإنما لعلاقة الفرد بالمجتمع، وعلاقة المجتمع بالسلطة. لهذا صيغت التراجيديا في إطار الملحمة القصصية لا في إطار الدراما التمثيلية، فالقوى الخيرة والشريرة تسكن داخل النطاق الموضوعي لا داخل الذات، وهي قوًى اجتماعية محدودة ومحددة لا ترتفع إلى المستوى الميتافيزيقي لقضايا الخير والشر والعدالة والسعادة، القضايا الكلية لا جزئيات الحياة اليومية. على ضوء هذا الصراع الملحمي بين الضائع والبناء البرجوازي الجديد للمجتمع، تتركز مثله ويتبلور تكوينه الفكري «يا عجبًا؟ هل من دليل على حضارة الإنسان أكبر من ضرورة الطعام لحياته؟ أيكون هذا الطعام الذي يُقتلع من الطين ويسمد بالقاذورات زبدة الحياة وقوامها؟ وعماد التفكير؟ والمبدع الحق للمُثُل العليا؟ أليس هذا دليلًا على أن جوهر الإنسان قذارة وحقارة؟» كما تبلور تكوينه النفسي «… ومن عجب أنه كان عظيم الثقة بنفسه لحد غير معقول. ربما كان مبعث هذا ما طبع عليه من جسارة وجرأة، وفضلًا عن ذلك كان يشارك العامة اعتقادهم في التفوق الجنسي على الأغنياء، فاعتقد صادقًا أن تحية ليست بمنأى عن طموحه.» المرأة دائمًا — عند نجيب محفوظ — تجسد معنى الصراع الطبقي. محجوب لن يبكي من الجوع، لن يصرخ مع الجبناء — على حد تعبيره — هاتفًا: يا رب. لن يسرق بالرغم من أن النشل فن سحري، والنشال يملك ما في جيوب الناس جميعًا «وقد عرف سادة البلد مغزى هذه الحكمة» نظرته إلى المرأة نابعة من القاهرة القديمة «أحقر رجل بامرأتين» نظرته إلى تحية ابنة قريبه الثري نابعة من إحساسه العميق بالطبقية، وهو إحساس مرهف للغاية يلغي المعنى العلمي الدقيق للفارق الطبقي. فهو يأخذ موعدًا من تحية وأخيها للقاء عند الهرم والأثريات الجديدة. الشاب لم يحضر والفتاة حضرت. وفي أبهاء الهرم يحاول تنفيذ مفهومه الطبقي للجنس ولكنه يخفق إخفاقًا ذريعًا «وقال لنفسه: إن فتاة مثل تحية لا تؤخذ كما تؤخذ جامعة الأعقاب.» ثم يتمتم ساخرًا: «إن أربعين قرنًا تنظر إلى مأساتي من فوق الهرم!» وكأنه يتكلم بلسان مصر كلها. ثم غلبته موجة غضب مفاجئة «فوَدَّ لو يستطيع أن يقذف القاهرة بأحجار الأهرام الهائلة» (إن هذه الرغبة في التدمير من أدوات نجيب محفوظ الدائمة في التعبير عن السخط والتمرد، كما سنلاحظ في أعماله التالية).

خيوط المأساة تبدأ وتنتهي لتبدأ من جديد من خلال شخصية وحدث معًا، والإحساس بالزمن يبدو في تركيز الأحداث تركيزًا زمنيًّا ضيقًا. فالفنان يعود إلى الامتحان المنتظر ليجسد الفرصة الوحيدة والأخيرة كي يجني محجوب ثمار كفاح خمسة عشر عامًا، فقد نجح في نهاية الأشهر الأربعة وراح يترقب أخبار الزملاء ذوي الحسب والنسب ممن تُفتح لهم أبواب الحكومة بقدرة قادر. إن العمل التافه الذي أشار به عليه سالم الإخشيدي — بمجلة النجمة — يستحيل أن يقيته. لقد عُين علي طه بمكتبة الجامعة، وبدأ مأمون رضوان استعداداته للسفر في بعثة إلى السوربون، وأحمد بدير استقر على الاشتغال بالصحافة والحصول على الأخبار. أما هو، فقد قال له رجل صريح: انسَ مؤهلاتك، هل لديك شفيع؟ أأنت قريب أحد ممن بيدهم الأمر؟ أتستطيع أن تطلب يد كريمة أحد من رجال الدولة؟ وأدرك محجوب الجزع! إنه لا يقيم وزنًا لإسلام محجوب، ولا لإصلاح علي طه (أخبره أنه يكتب موضوعًا حول توزيع الثروة في مصر) أما شغله الشاغل فهو اتقاء الموت جوعًا، هو ووالديه هذه المرة (فقد كان الجنيه الذي تسلمه في شهر الامتحان هو الجنيه الأخير من المكافأة التي صُرفت للأب المشلول) … البناء التراجيدي ليس مقصورًا على اختيار الشخصيات المأساوية وحدها؛ وإنما يرتكز على اختيار الحدث أيضًا، لذلك لم يضع الفنان شخصيته الرئيسية في مفرق الطرق كما صنع ببقية الشخصيات، وإنما وضعه على ناصية طريق واحد كان محجوب قد عرف بدايته منذ كان طفلًا ضائعًا إلى أن شُلَّ والده وكاد يشِل مستقبله. كيف إذن يموت جوعًا من كفر بكل شيء، وكفر به كل شيء، ماذا عليه لو نشر في الإعلانات المبوبة بالأهرام يقول: شاب في الرابعة والعشرين، ليسانسيه، طوع كل أمر، عن طيب خاطر يبذل كرامته وعفته وضميره نظير إشباع طموحه؟! بهذا التكوين النفسي لشخصية الضائع، التقى محجوب عبد الدايم بسالم الإخشيدي. والإخشيدي على الصعيد الفني همزة وصل تراجيدية بين فصول المأساة، فقد سد عليه جميع الطرق المؤدية إلى أي شيء غير الضياع، قال له: إن التعيين ميسور إذا تنازل لأحد الرجال المعروفين عن نصف مرتبه لمدة عامين، أو إذا دفع لإحدى المطربات الشهيرات مائة جنيه فورًا، أو إذا تمكن من استرضاء إحدى السيدات المغرمات بالشهرة بواسطة ما يكتبه عنها في المجلة.

•••

إن التخطيط العقلي للمأساة، ينعكس على تكوين الشخصيات، واختيار الأحداث. فقد بدأ الفنان «القاهرة الجديدة»، بوصف يوم نموذجي في حياة الشخصيات. ثم راح يستعرض هذه الشخصيات في علاقاتها العامة والخاصة ببعضها البعض، ثم أخذ يقسم الأحداث على الزمن الروائي (تسعة شهور). وكان التخطيط العقلي يمنح الأحداث الصفة (المنطقية) حتى إذا خرجت عن المنطق المألوف دعَونا الحدث قدرًا. البناء التراجيدي عند نجيب محفوظ هو صياغة رياضية للشخصيات والأحداث. فصول المأساة يؤدي إلى بعضها البعض فيما يشبه الحتمية، والشخصيات تتحرك وفق تكوينها الذاتي وظروفها الموضوعية فيما يشبه الجبر الصارم. ومع ذلك توجد اللحظة غير المبررة، غير المنسجمة مع سير الأحداث وتكوين الشخصيات، غير المتفقة مع المنطق المألوف، توجد هذه اللحظة العبثية التي تعصف بكل حتمية وكل جبر. وكأن المنطق الصارم عند نجيب محفوظ يؤدي إلى التناقض الحاد.

إحسان همزة وصل تراجيدية جديدة؛ بل هي الشخصية الثانية التي تتحرك الأحداث من خلالها في الفصل الثاني من المأساة. لقد فوجئ علي طه بانسحابها من حياته، ومحجوب لا يرى في هذه القطيعة شيئًا مثيرًا لليأس «هبها كشيء لم يكن.» ويدين نظرة صديقه إلى الحب؛ لأنها تجعلنا (نحن المسئولين عن شقائنا دائمًا)، وتكوينه النفسي يستشعر الراحة «إحسان التي طالما أصلته نارًا، فمن الرحمة ألا يفوز بها ثالث غيرهما.» ولا تمنعه الحال السيئة التي وجد عليها صديقه من أن يطلب منه خمسين قرشا ليشتري بها تذكرة لحفل جمعية الضريرات ويلتقي بالسيدة الشهيرة. وفي الحفل تبرز أمامه معاني الفارق الطبقي في اللغة الفرنسية التي يتحدث بها النساء والرجال، ويرى أسرة قريبه الثري، يرى تحية الجميلة فتهتاج نفسه برغبة جهنمية في البطش والتدمير «ينبغي أن يسود بلا قيد أو شرط»، ورأى الإخشيدي «ابن الست أم سالم» يحيي برأسه كثيرًا من الطبقة العالية «وهذه هي الحياة الحقة، الحياة الممتعة، الحياة التي ترضي الغرائز جميعًا. الإخشيدي مثله الأعلى»؛ لذلك كان المال. المال هو السيادة وهو القوة. هو كل شيء في الدنيا، وتنهد محجوب عندما بدأت الأحلام في غزو رأسه، أحلام العظمة التي تؤرق وجدانه بعنف: لماذا صنعت الطبقات، وقُسم الحظ، ووُلد في القناطر من هذه الأسرة التعِسة؟ هذا السؤال لا يفتأ يتردد بين جنبات عقله فيجيبه الفراغ الفكري والضياع بأن يردد صدى السؤال من جديد، وهكذا في حلقة مفرغة، لا تعرف الثورة، في دائرة مغلقة تصوغ معنى الضياع. المناخ الاجتماعي للضائع يصوره الإخشيدي — همزة الوصل التراجيدية الأولى — فيستعرض لمحجوب الطرق المؤدية إلى العظمة، إلى المال، فهذا يدير شقته للقمار والحسان والكواكب الحور، وذاك توصَّل إلى وظيفته اللامعة بشفاعة ما يسميه الناس بالشذوذ الجنسي. ولم يدهش محجوب لهذا المناخ العبق بالفساد والعفونة والعطن، فعندما انفض حفل جمعية الضريرات وانتُخبت فتاة سمع الهمس باسمها قبل اختيارها ملكة الجمال، أخذ يتمتم «كلا لا يدهشني شيء. اختيار الموظفين تزييف، رسو العطاءات تزييف، ألعاب البورصة تزييف، الألقاب تزييف، والنياشين تزييف، الانتخابات نفسها تزييف، فلماذا لا يكون انتخاب ملكة الجمال تزييف؟»

في هذا الزيف يتحرك الجوهر المزيف في الشخصية الضائعة، فالأصالة الذاتية المفردة تغيب عن مكونات الضائع الذي يستبدل القيم الفاسدة في المجتمع يقيم أكثر فسادًا (وهذا هو الفرق بينه وبين المنتمي الذي يستبدلها بالقيم البانية يقيم للمجتمع الجديد، واللامنتمي الذي يتعرى تمامًا من القيم في حضارة سمتها الأساسية الرخاء المادي والمعنوي، ويصبح وحيدًا غريبًا في هذا العالم). هذا الزيف يتيح للضائع أن يتحرك، وأن يتحرك ضمن همزة وصل متخصصة في الزيف، أو همزة وصل ضحية للزيف. وهذه — بالفعل — هندسة البناء التراجيدي عند نجيب محفوظ. إن اختياره لشخصية الإخشيدي كهمزة وصل تراجيدية هو اختيار دقيق لهذا السبب. الشاب الذي ترك قيادة المظاهرات بعد مقابلة خاصة مع الوزير، والذي عُين في وظيفة مهمة قبل الأوائل بتوصية من الوزير شخصيًّا. هذا الشاب هو نفسه الذي يعرض الآن على زميله في الضياع — محجوب عبد الدايم — وظيفة السكرتارية لقاسم بك فهمي في الدرجة السادسة فورًا، مقابل شيء بسيط هو أن يتزوج من فتاة لها علاقة سابقة وراهنة ومستقبلة مع قاسم بك فهمي. الإخشيدي إذن هو همزة الوصل بين حلقات الضياع في حياة محجوب؛ لأنه هو أيضًا يمثل إحدى درجات الضياع، هو أيضًا من نفس المعدن، الضائع يتردد في قبول الصفقة، ولكنه تردُّد الضائعين الذين يرجحون السقوط والانهيار على التماسك والبداية من جديد. طوال هذه الفترة كان على اتصال دائم بالبداية الفنية للمأساة، على اتصال معذب بوالديه، يكتب لهما ما يطمئن بأنه جادٌّ في البحث عن وظيفة، ولكن إلى متى تستجيب أمعاؤهما لهذه الرسائل؟ إلى متى تستجيب أمعاؤه هو؟ ولكنه فجأة نسي شعاره الأثير: طُظ. الفنان تستهويه «حيوية» الشخصية الضائعة فيرسم تناقضاتها الصغيرة بعمق. غير أن لحظات التردد لا تتخذ لنفسها مكانا غائرًا في وجدان الضائع، إن محجوب يحدث نفسه «قرنان في الرأس، يراهما الجاهل عارًا، وأراهما حِليةً نفيسة. قرنان في الرأس لا يؤذيان؛ أما الجوع … سأكون أي شيء، ولكن لن أكون أحمق أبدًا، أحمق من يرفض وظيفة غضبًا لما يسمونه كرامة، أحمق من يقتل نفسه في سبيل ما يسمونه وطنًا. أحمق من يضيع عن نفسه لذة لأيِّ وَهْم من الأوهام التي ابتدعتها الإنسانية، كل هذا حق وجميل. بيد أنني منفعل هائج. لماذا؟ ذلك أن العقل لا ينفرد بتوجيه سلوكنا. وبينما يحدث العقل حكمة، يخلف الشعور حماقة. فعلى الحكمة أن تمحق الحماقة. وليكن لي أسوة حسنة في الإخشيدي، ذلك الفتى الأريب. ظفر بوظيفته لأنه خائن، ورُقي لأنه قواد، فإلى الأمام … إلى الأمام.»

وفى طريقه إلى الأمام، إلى الزواج من صديقة رئيسه القادم، يفلسف المأساة على طريقته. فالزواج مجرد عادة اجتماعية، وفي بعض البلاد يتعدد الأزواج، وفي بعضها الآخر تتعدد الزوجات، فليس هناك قانون مطلق للزواج، والشرف قيدٌ لا يغُل إلا أعناق الفقراء. أما والداه فلا يستطيع عقله الآن أن يجد حلًّا لجميع المشكلات التي ينطوي عليها الغد. الزواج «اليوم» وليس غدًا، وليس هذا تسرعًا. إنه الإحساس العميق بالزمن. الزمن في مأساة القاهرة الجديدة أن أربعة أشهر فقط كانت باقية على الامتحان عندما سقط أبوه صريع الشلل، و«اليوم» عليه أن يتزوج … إنه إحساس الفنان العميق بالزمن، ولكنه الزمن المرادف للقَدر. فمحجوب يدخل على الفتاة الضائعة التي ساقتها أيدٍ كثيرة إلى أحضان قاسم فهمي أولًا فأحضانه ثانيًا، يدخل محجوب على عروسه، يدخل القواد على العاهرة، فلا تكون سوى إحسان! إحسان حبيبة علي طه التي انسحبت من حياته، تحولت إلى هذه الدمية الضائعة بفاعلية الأب المقامر على شرفها، والإخوة الجياع، والدراسة الطويلة. القدَر إذن؟ المصادفة؟ القدر عند نجيب محفوظ هو الخروج على المنطق المألوف. المنطق الصارم يؤدي إلى التناقض الحاد! إحسان أحبت صديقها بصدق وحرارة، والسياط تلهب ظهرها بحرارة أكبر. محجوب قضى أربع سنوات مع الكفاح المر من أجل الليسانس، ثم قضى أربعة أشهر من الكفاح الأكثر مرارة لكي يعيش. الاثنان يمضيان كخطين متوازيين. والقدر، الخروج على المنطق المألوف، يُحتم على الخطين أن يتلاقيا. إن التقاء الخطين ندعوه مصادفة من حيث المظهر. المصادفة والحظ والحقيقة التي هي أغرب من الخيال، هي القشرة الخارجية للتكوين الداخلي للشخصية التراجيدية. هذا التكوين يسوق الشخصية إلى مصيرها المحتوم.

عنصر المصادفة في البناء التراجيدي يُضفي على الحدث لونًا من العبث، بالرغم أن حركة السلوك ومجموعة التصرفات الخاصة بالشخصية تؤدي بالضرورة إلى نهاية شبه محددة. ولكن التقاء نهايتَي إحسان ومحجوب يرفع المستوى التراجيدي للمصادفة إلى مستوى القدر. إحسان التي كانت تُسيل لعابه وحقده، تصبح زوجته؟ إحسان حبيبة صديقه الطاهرة تصبح عاهرة؟ هو محجوب، يصبح لها قوَّادًا؟ … القدر هنا ليس قوة ميتافيزيقية بقدر ما هو مجموعة من القوى الاجتماعية — الذاتية والموضوعية — التي تؤدي بالمنطق الصارم إلى التناقض الحاد. فالتخطيط العقلي يمنح الأحداث الصفةَ المنطقية، حتى إذا خرجت عن المنطق المألوف دعَونا الحدث قدرًا.

الإخشيدي — همزة الوصل التراجيدية بين فصول المأساة — هو أيضًا عنصر قدري، أي أنه من القُوى الموضوعية الصانعة للقدر في مفهوم الفنان. ألم يتسبب بشكل غير مباشر في مأساة علي طه وإحسان ومحجوب؟ علي طه بدأ يترجم أفكاره اليسارية إلى مقالات مكتوبة، وإحسان أضحت دمية ضائعة، تذكر الأب المقامر على شرفه فلا تستبعد شيئًا، الأب الذي تعامى عن سقوطها فأوصاها بعشيقها دون زوجها، «فلماذا لا يوجد أناس على شاكلته؟ وقد وُجد بالفعل واحد، وها هو يجلس إلى جانبها كزوجها، كلانا باع نفسه للجاه والمال.» إحسان «نمط» بشري للضياع كالإخشيدي ومحجوب، ولكن لكل نموذج سماته المتفردة. محجوب يتخذ من الحرباية مثالًا للتحايل على الحياة مجرد الحياة. ونجيب محفوظ يتخذ من المنطق عملية فكرية لا تصميمًا فنيًّا. لهذا يذكر محجوب الخمسين قرشًا التي اقترضها من علي طه. لن يواجهه؛ بل يرسلها إليه بالبريد. أيذهب إليه ويقول: لقد تزوجت من حبيبتك، وأصبحت قوَّادًا؟ … الفنان يجمع أشتات التراجيديا من كافة النماذج ومن كافة الزوايا ومن كافة الأحداث ومن كافة الدلالات؛ لتتركز في بؤرة المأساة «إنه لا يطمع أن تنظر إليه كزوج بالمعنى المفهوم؛ لأنه هو نفسه لا يستطيع أن ينظر إليها هذه النظرة، وحتمٌ أن تراه — في قرارة نفسها — قوَّادًا، كما يراها — في قرارة نفسه — عاهرة. فهل يمكن أن يسعد قوادٌ وعاهرة معًا؟ هذه هي مسألته دون زيادة وبلا نقصان! إنه لا يروم من حياته الزوجية معنًى اجتماعيًّا، ولا ذرية صالحة، ولا احترامًا متبادلًا، كل ما يريده رغبة متبادلة، ميل يعادله ميله، شهوة بشهوة، وحسبه هذا من زواج هو وسيلة لا غاية» … هذه هي بؤرة المأساة على الصعيد الخاص من ناحية، وعلى الصعيد الفني من ناحية أخرى. أما على الصعيد الفكري، فالقدر يبدو بؤرة المأساة على هذا النحو «تآلفت حياتنا بمعجزة. وما كنت أحسب قبل اليوم أن المصادفة تلعب هذا الدور الخطير في حياة الإنسان، فما أحقها أن تسخر من منطقنا ومن سنن الوجود جميعًا» … القدر هو التعبير التراجيدي عن مأساة الحرية في القاهرة الجديدة، مأساة الخبز عند محجوب، ومأساة الجنس عند إحسان «رأت من الحكمة أن تنظر فيما بين يديها. إن القلب الذي أيقظه علي طه اندثر وذهب، والأمن الذي لوح لها به قاسم فهمي خاب وانطفأ. فلم يبقَ لها إلا تلك الغريزة الحيوانية التي أطلقها والداها من عقالها منذ البدء.» مأساة الخبز والجنس هي الوجه الاجتماعي لمأساة الحرية في القاهرة الجديدة. المأساة التي قابلها محجوب بالمغامرة، والتي قابلتها إحسان بالاستسلام التام. هذان الموقفان من المأساة يشكلان فيما بينهما موقف الإنسان المصري من القدر في تلك المرحلة الباكرة من تاريخنا الحديث، وهما موقفان يكمل أحدهما الآخر «كلاهما ضحية لشر واحد، فما أجدرهما بالتصافي والتعاون.»

الضائع كما قلنا يختلف عن اللامنتمي في أنه شخصية لا تحقق وجودها الفردي الخاص، فهو شخصية مزدوجة، يخفي ذاته الأصيلة بستائر سوداء كثيفة، من الكذب حينًا، ومن الكبرياء الجوفاء أحيانًا، وهكذا. وكما اتخذ محجوب في الماضي من الكذب سلاحًا للبقاء، فإنه الآن، وقد توفر له ضمان البقاء «يريد أن يتمتع بحياته الاجتماعية على أكمل وجه، وأن يقدس مظاهرها الكاذبة، التي يُكبرها الناس جميعًا، واشتدت إليها حاجته ليخفي بها ما في حياته من شذوذ.»

على هذا النحو يتطور الضائع في القاهرة الجديدة من الحاجة اليومية إلى كسرة الخبز إلى الحاجة الملِحَّة في التطلع إلى أعلى (وهي من سمات البرجوازي الصغير عمومًا، ولكنها تأخذ عند الضائع المصري شكلًا خاصًّا هو ازدواج الشخصية الناتج عن المسافة الطويلة بين الذات الحقيقية والواجهة أو اللافتة النيون التي يعلقها خارج ذاته)، ومن ثم تتبلور الحساسية الطبقية عند الضائع في تلك العلاقة القديمة بينه وبين ابنة قريبه الثري «لقد هزمت في المقبرة يوم الرحلة وتم لي الانتقام.» والانتقام هو أن يقدم زوجته بخُيَلاء إلى أسرة قريبة على أنها ابنة شحاتة بك تركي من كبار تجار الدخان! الحساسية الطبقية عند الضائع حساسية سلبية لا ترتفع إلى المستوى الثوري. وسيلتها الوحيدة في التعبير نفسها هي الكذب، هي ازدواج الشخصية: «الكذب كلام كالصدق سواء بسواء؛ إلا أنه ذو فوائد.» الضائع كما يرسمه الفنان شخصية سلبية، ولكنها حية في تناقضاتها التي لا تنتهي. التناقض بين الذات الأصلية ولافتة النيون. والتناقض بين كليهما والعالم الخارجي. محجوب إذن يعاني الغيرة على «زوجته». والمناخ السياسي لا يساعد هذه الغيرة على الارتواء، فكما أن الصحفي عند أحمد بدير خلق ليسمع لا ليتكلم، فإن زميله في الحانة (وهو يحاول إذابة ثلوج الغيرة الرابضة فوق قلبه) يقول: في مجلس الأنس، كما في مجلس النواب، ليس بالمهم أن تفهم ما يقال، ولكن المهم تتكلم. الحانة هي المكان الوحيد الذي يصوغ بدقة ذروة المأساة، فالخمر تكشف النقاب عن لاوعي الضائع، عن ذاته الأصيلة، تعريه من الستائر الكثيفة السوداء من الكذب، وتخلع عنه مفاصل الشخصية المزدوجة، فيولد محجوب — للحظات — كشخصية واحدة تعبر عن نفسها في وعي كامل: أنا في الحجرة والكبش في الحقل، امتلاء الحانة بالواردين يدل على أن دستور ١٩٢٣م أفضل من دستور ١٩٣٠م، ودستور ١٩٢٣م الآن في ضريح سعد مع جثث الفراعنة، مأساة الحرية تطفو دائمًا على السطح. مأساة الخبز عانقت مأساة الجنس. الوجه الاجتماعي لمأساة الحرية هو الوجه المتجهم للقاهرة الجديدة. إذا كانت الحرية هي الإشباع الحقيقي لاحتياجات الإنسان، فإن الطريق إليها هو الوعي بالقوانين العلمية المضمرة في الطبيعة والمجتمع. ولذلك كانت سياط الجهل لا تقل سطوًا عن سياط البؤس.

وهكذا تتعدد تناقضات الشخصية الضائعة، فيشعر محجوب بالغربة والوحدة والوحشة، «ولم يعد يؤمن بأن الأمر مجرد رفع الصمام عن خزانة البخار كما كان يحلو له أن يقول كلما سُئل عن الحب والمرأة.» لقد حاول «اليأس» النهائي من إحسان دون جدوى. كان يتعذب وسط أولئك الشبان الذين يحيطونه ويحيطونها. إنها مثله ترجو أن ينتهي «التمثيل» بحياة حقيقية … ولكن قوة الدفع الأولى — التي أسهمت في صنعها أيدٍ كثيرة ندعوها القدر — كانت تهوي به إلى منحدر. إلى قاع بلا قرار. أملها في الحياة الحقيقية اعتبره نكتة غير موفقة؛ لأنه يعني شيئًا واحدًا: العودة إلى نقطة الصفر. ولقد غادر هذه النقطة بلا عودة. ما زالت مأساة الخبز تتعانق مع مأساة الجنس وتغمرها بالقبلات النائحة على مصير الحرية «وتَفكَّر في كلامه قليلًا فوجد أنه يتكلم كما يتكلم القوادون بيسر وبغير مبالاة. وسر لمقدرته، وعدَّها فوزًا مبينًا لفلسفته وإرادته. وتفكرت إحسانٌ كذلك طويلًا، فلم تلبث أن اقتنعت بما فيه من حكمة وبُعد نظر.» الوجه الاجتماعي لمأساة الحرية يسود. غير أن مأساة الخبز والجنس لا تكتمل حلقاتها إلا بمأساة المعرفة. لتكن المعرفة في بعدها الاجتماعي والضياع الفكري المدمر يتربع على عرش اجتماعي مائة في المائة.

المأساة بكافة أبعادها مستمرة، شبح مأساة الخبز يجثم على قلب محجوب كلما تذكر الوالدين اللذَين لم يرسل إليهما مليمًا. والشبح بكين خلف مأساة الحرية: هل تبقى الوزارة أطول فترة ممكنة؟ هل يبقى قاسم بك فهمي؟ … إذا بقِيا بقيت المأساة في عار الهزيمة، وإذا ذهب بقيت المأساة في نفس العار؛ بل في أبشع مظاهره «البر بالوالدين شرٌّ إذا عاق سعادة الابن؛ بل كل ما يعوق سعادة الفرد شر.» شعارات الضائع يكمل بعضها البعض. الضائع في تناقض أساسي مع اللامنتمي لأن اللامنتمي يستشعر المأساة في أعماق نخاعه. والضائع في تناقض أساسي مع المنتمي «ومن عجبٍ حقًّا أن مأمون رضوان وعلي طه نقيضان، ومع ذلك فلا يبعد أن يقذف بهما المجتمع معًا إلى أعماق السجون غير مفرق بين عابده والكافر به.» إلا أن التغير السياسي لا يقذف بالضائع إلى سجن جديد. الوزارة ستتغير حقًّا، أما العهد فباق كما هو، هكذا قالت له إحسان نقلًا عن قاسم بك فهمي … العهد باقٍ كما هو، والمأساة باقية كما هي … فلم تعد أحلام الضائع أن تستطيع قبلة أو رنوة أو تنهدة أن تنقله من حال إلى حال، وأن ترفعه من طبقة إلى طبقة (الحساسية الطبقية تتأكد وظيفتها السلبية هنا أكثر وضوحًا، أو هي امتداد لسلبيتها السابقة). انحدار الضائع إلى هاوية المأساة يعني ازدياد المسافة وتعميق الهوة بين الذات ولافتة النيون «… فطُظ في كل شيء إلا الناس. على الأقل في العلانية.» وفي المستوى التطبيقي يتطور سلوك الضائع فينتقم من المجتمع بأن يفكر في السطو على نساء الآخرين، تمامًا كما هيأت له حساسيته الطبقية في الماضي أن يسطو على تحية ابنة قريبه الثري. في هذه النقطة بالذات يؤكد الفنان على بؤرة المأساة. إن محجوب يستشعر الهوة العميقة التي تفصل بينه وبين إحسان كلما ازداد معدل انحداره إلى الهاوية، «ووجد نفسه يتساءل أيُفضل لو كانت إحسان له قلبًا وجسدًا؟» كما يستشعر ضراوة المجتمع البرجوازي الذي فرض عليه أن يكون مقبرته. سمع بعض أصدقائه الجدد يقولون: «أما مصر فيستطيع أي حاكم أن يستبد بها دون كبير خطر.

– الواقع أن أي نظام من أنظمة الحكم يستحيل دكتاتوريةً إذا طُبق في مصر.

– هذا وطن «ضربُك شرفٌ يا أفندينا» …»

ويحس محجوب بأن حريته التي يتوهمها تذوب شيئًا فشيئًا. إنه «يمثل» حريته ولا يعيشها، فلا يستطيع أن يحتضن زوجته حضنًا خاليًا من التقزز، أو من شبح عشيقها الذي يعرفه جيدًا، الذي يطعمه جيدًا. محجوب ليس حرًّا في مجتمع يختلف فيه الابن مع الأب في مجلس الشيوخ «أما في البيت فكلانا متفق على أن أنجح سياسة مع الفلاح هي السوط.» محجوب ليس حرًّا لأنه شخصية مزدوجة في المظهر والجوهر على السواء «إن بدلة التشريفة الحقيقية هي ثوب الرياء فلا يفوتني ذلك.» محجوب ليس حرًّا لأنه في ظل رخائه المفتعل لم يذكر والديه بمليم واحد. فالخبز والجنس يتعانقان في مأساة واحدة: الوالدان والخبز، إحسان والجنس. الجنس مأساة إحسان فهي ترفض «خيانة» محجوب مع أحد أصدقائه. وتتعطر لاستقبال قاسم بك فهمي. ومحجوب، بين والديه والخبز وبين إحسان والجنس، يقشعر بدنه ولا يجد سوى جواب واحد: الانتحار! ولكن الانتحار يجيئه من الباب الخلفي، من الباب الذي يصل فيه قاسم فهمي في نفس اللحظة التي يصل فيها والده في نفس اللحظة التي تصل فيها زوجة قاسم بك! ويلتمس نادي القصة من هذا المشهد مبررًا ليدعو الرواية: «فضيحة في القاهرة»٨ وهو فهم غاية في السذاجة … فهي اللحظة القدرية التي يستوحيها الفنان من سير الأحداث فيخرج بها عن المنطق المألوف. هي اللحظة التي يقف فيها الضائع وجهًا لوجه أمام القِيم. اللامنتمي يرفض القيم بوعي كامل وعراء تام أمام الذات. أما الضائع … الضائع يساوم القيم ولا يرفضها، يستبدل بها أخرى أكثر فسادًا. واللحظة القدرية هي لحظة الصدام بين القيم الأولى والقيم الثانية. هي لحظة الانبهار بمعنى الزمن: أربعة أشهر على الامتحان، الزواج اليوم. الفضيحة الليلة أمام الجميع في مكان واحد. اللامنتمي يعرف اليأس من الوجود ولا يفاجأ به. الضائع بلغ به اليأس نهايته «فوقف مكانه لا يُبدي حراكًا وكأنه يرى فاجعة خطيرة لا تعنيه ولا يناط بها مصيره.» إنه — مرة أخرى — القدر: أعجب بها من حقيقة، أيخفق ذلك الكفاح الجبار ولمَّا يتسلم ماهيته الجديدة؟ أتصاب الحظوظ كالأعمار بالسكتة القلبية؟ هكذا تمتم محجوب، ولا يكفي أن تتهم سالم الإخشيدي بأنه صانع القدر، ربما كان صانع الفضيحة، مخرج التمثيلية، ولكنه ليس قطعًا هذه القوة الدافعة إلى السقوط والانهيار «وارتمى محجوب على مقعده في الصالة، مرتفقًا يد المقعد، مسندًا رأسه إلى راحته، وكان السكون شاملًا كأنه بيت مهجور، وكل شيء بموضعه كأن أمورًا خطيرة لم تنقلب رأسًا على عقب. هل تستطيع روحه الثائرة أن تصمد لهذا الشلال العارم من الحظ العاثر؟ هل يمكن أن ينبري لمواجهة هذه الأزمة الخطيرة بدرعه المعهود: طُظ؟ وما الحيلة إذا لم يستطع؟ ما عسى أن يصنع أنانيٌّ مثله، لا يهمه في الدنيا شيء إلا نفسه، إذا تألب الشقاء على سعادته؟ أمامه سبيل واحد هو الموت، تبًّا لحظه، كيف انتهى مجده بهذه السرعة الجنونية؟ … ألا تكتظ الدنيا بأمثاله من المغامرين الذين تترفق بهم حتى النهاية؟»

البناء التراجيدي للقاهرة الجديدة بناء معماري. الضياع هو أرض المأساة. الزاوية الأولى في البناء هي التوازي المحكم بين الضياع الاقتصادي والضياع الاجتماعي والضياع النفسي. الزاوية الثانية هي التوازي المحكم بين القهر السياسي والفساد الاجتماعي. الزاوية الثالثة هي تشابك العلاقة بين فئات البرجوازية المختلفة. جدران البناء القائمة على هذه الزوايا الثلاث، هي الخبز والجنس والمعرفة. البناء هو مأساة الحرية. هو الحلقة الأولى من التراجيديا المصرية. نجيب محفوظ يهتم بهذه الخطوط العريضة اهتمامًا بالغًا، ولكنه يهتم أيضًا بالتفاصيل. فالضياع — كأرض للمأساة — هو أزمة التناقض بين القاهرة القديمة والقاهرة الجديدة. وهو يربط البداية الفنية للمأساة (الوالدان الفقيران) بالنهاية — المفتوحة — للمأساة، فالشلل العضوي لوالد محجوب ينتهي بالشلل الاقتصادي للأسرة كلها عندما يهمس الابن لأبيه «هلم نتسول معًا.» الفنان ما يزال حريصًا على التفاصيل. فإن أزمة التناقض المولدة للمأساة تنبت اليمين واليسار في المستوى الفكري فيشتبك هؤلاء المنتمون بأرض المأساة اشتباكًا عضويًّا. مأساة علي طه مرتبطة بمأساة إحسان المرتبطة كذلك بمأساة محجوب. الفنان حريص على التفاصيل أكثر. فمأساة الحرية تُنبت علي طه الاشتراكي، كما تنبت محجوب الضائع، وهمزة الوصل التراجيدية بينهما أزمة إحسان. مأساة الحرية تنبت قاسم بك فهمي ومحجوب، وهمزة الوصل بينهما الإخشيدي. همزات الوصل دُمًى ضائعة — الضياع هو الشريان الرئيسي في حياتها. ولكن حرص الفنان الدقيق على التفاصيل يختار ضائعًا نموذجيًّا من بين الملايين يلخصها جميعًا ويتفرد من بينها في نفس الوقت.

البناء التراجيدي للقاهرة الجديدة بناء مزدوج. بناء كلي وجزئي في آن واحد. الكل فيه هو الدلالات الكبرى التي تتضمنها مغامرة الإنسان أو استسلامه للقدر. والقدر هو الحصيلة النهائية للمنطق الصارم وهو يؤدي إلى التناقض الحاد. والقدر قوة الدفعة الأولى لتكوين الفرد الذاتي بالإضافة إلى قوة التركيب الاجتماعي القائم، وهما قوتان تدفعان إلى مجموعة من السلوك التي يفضي إلى بعضها البعض فيما يشبه الجبر، وتنتهي إلى الكارثة فيما يشبه الحتمية. والمصادفة كعنصر تراجيدي بمثابة المظهر السطحي للقدر. موقف الضائعين من القدر هو المغامرة أو الاستسلام؛ كان محجوب مغامرًا، وكانت إحسان مستسلمة. أو قد تُولد المغامرة والاستسلام في الشخصية الواحدة، فقد عاش محجوب عمره مغامرًا، وفي اللحظة الأخيرة «راح يتساءل: ترى هل يتكشف الغد عن حياة جديدة أو لم يبق له إلا الموت؟ … بيد أنه غلب على أمره هذه المرة فاستسلم لليأس والقنوط، وغشيت عينيه سحابة مظلمة، وحاول جهده أن يهيب بروحه المتمردة، وغمغم بصوت لا يكاد يُسمع هامسًا: طظ. ولكنها نمَّت — على خلاف عادتها — عما يكنه الفؤاد من اليأس والاستسلام.» المغامرة والاستسلام من المعاني الكلية في البناء التراجيدي؛ لأنهما يشكلان صفة واحدة للضائع المصري. غير أن الاستسلام في تلك المرحلة هو العنصر السائد.

الجانب الجزئي في البناء التراجيدي يتمثل في نهاية «القاهرة الجديدة»: هل انتهت المأساة باستقالة قاسم فهمي ونقل محجوب إلى الصعيد؟ إن الغد سؤال مُلِح على شفاه الجميع. كما أن الوجه الاجتماعي للحرية هو الوجه الذي طالعتنا به القاهرة الجديدة؛ بينما الأحداث تُعد بوُجوه أخرى. لذلك فالراوية تمثل حلقة «الضائع» في ملحمة السقوط والانهيار. والقاهرة الجديدة ما قبل الحرب سوف تستمر إلى أن نلتقي معها في قلب الحرب.

وسوف يظل الضياع أرضًا للمأساة، ولكن الفنان سيتجول بنا في بقية أنحاء التراجيديا. مأساة الضائع هي المدخل الطبيعي إلى عالم نجيب محفوظ التراجيدي. إنها تظل في وجداننا — مهما حدد لها المؤلف بداية ونهاية — متمددة مع السؤال: ماذا يكون الغد؟

ومن خلال التفاعل بين الكلي والجزئي يتخير الفنان شخوصه ويحرك فصول مأساته ويضع يديه على همزات الوصل التراجيدية. الشخصيات تمتلك في جذورها البعيدة وفي قوامها الراهن طاقة ذاتية معبرة عن أبعاد المأساة، والأحداث لا تنفصل عن الشخصيات؛ بل هي الشخصيات في حالة فعل. وتتحرك فصول المأساة من البداية إلى النهاية في خط تعبيري مترابط يهمس لنا بصوت أرجوان: عند ما يفتح الإنسان ذراعيه ليستقبل الدنيا ترتسم خلفه علامة الصليب.

•••

القدر السائد في ملحمة السقوط والانهيار هو القدر الاجتماعي. هو النظام الاقتصادي والأخلاقي معًا، ولكن الأخلاق تتصل بالجانب الميتافيزيقي من تطلعات الإنسان. لذلك فالقدر عند نجيب محفوظ لا يخلو من الإشارة إلى أصوله الميتافيزيقية. القدر في القاهرة الجديدة يشكل إرهاصات الحرب العالمية الثانية. لهذا كان الخبز والجنس عنوانًا شديد الوضوح لمأساة القاهرة الجديدة، المقدمة التمهيدية إلى جوهر التراجيديا المصرية. ولكن الخبز والجنس في القاهرة الجديدة يشكلان قضية خاصة بالمثقفين … والفنان إذن يمسُّ أزمة «المعرفة» من قريب وبحساسية مرهفة. الضائع في القاهرة الجديدة هو المثقف.

من أرض المأساة، من الضياع، ينتقل الفنان إلى بقية أرجاء عالمه التراجيدي. من السكاكيني تنتقل أسرة «أحمد عاكف» إلى حي الحسين في خان الخليلي. من إرصاصات الحرب إلى أتونها مباشرةً. هذه هي الحلقة الثانية في المأساة. أمام الموت وجهًا لوجه، هذا هو الجانب المصيري الشامل للحرية. سوف نلتقي بالوالدين وأزمتهما الاقتصادية مرة أخرى. والقدر وأزمته الوجودية. والشقيق الذي يختطف حبيبة أخيه. والمصادفة كعنصر حيوي في تحريك الأحداث. والضياع الذي يتخذ لنفسه شعارَ «ملعون أبو الدنيا»، أو الضياع الذي يرغم واحدًا من الناس أن يتاجر علنًا بجسد زوجته. سوف نلتقي بمعظم العناصر المكونة لمأساة القاهرة الجديدة؛ لأن الفنان يؤكد استمرارها، إنها ما زالت باقية. غير أنها فوق أرض الضياع تشتمل على شيء جديد تَمثَّل لنا في الشخصية الجديدة، شخصية «المضطَهَد».

في غمرة الانتماء الواهن إلى اليمين أو اليسار من التيارات الفكرية الصانعة لكل ما هو جديد في قاهرة ما قبل الحرب برز «الضائع» تجسيدًا لجوهر تلك المرحلة، وفي غمرة الانتماء المتقدم نوعًا ما في قاهرة الحرب برز «المضطهد» تجسيدًا لجوهر تلك المرحلة. وبنفس المنهج التعبيري للفنان، راح يتوسم في الشخصية المضطهدة اللمحاتِ الرامزةَ إلى ضياع المجتمع، ويستخلص في نفس الوقت السمات الخاصة المميزة لهذه الشخصية بالذات.

بدأ نجيب محفوظ يكتب «خان الخليلي» عام ١٩٤٠م، واختار الزمن الروائي عام ١٩٤١م، ومعنى ذلك أنه كان يعيش تلك المرحلة الدامية في تاريخنا الحديث. فالحرب تضيف عنصرًا جديدًا إلى المأساة هو الموت، والموت يقف بالإنسان وحيدًا أمام مصيره، المشكلة الميتافيزيقية تتألق إذن، إنها مأساة المعرفة.

البناء التراجيدي عند نجيب محفوظ بناء معماري، فالتخطيط العقلي لسير الأحداث وتكوين الشخصيات يقترب من التخطيط الرياضي. خان الخليلي تضيف أنه بناء موضوعي. مفهوم الزمن عند الفنان يصوغ الرواية في امتداد طولي ينعطف بنا إلى اليمين أو اليسار، يعلو بنا ويهبط … ولكنه يستمر إلى الأمام. هذا المفهوم للزمن ينبثق عن الفلسفات المؤمنة بالواقع الموضوعي المستقل عن الذات. بين الزمن والذات مسافة تكفل لكل منهما استقلالًا نسبيًّا عن الآخر. الزمن الموضوعي ينعكس على العمل الفني في اهتمامه المفرط: ﺑ «الخارج» عن الذات أكثر من عنايته بداخلها. ينعكس أيضًا على مسار الأحداث، فهي «تتطور» ولا تتمركز أو تدور حول نفسها. هذا المفهوم للزمن يشترك بنصيب وافر في تحديد معنى القدر. يشترك أيضًا في صياغة معنى الموت.

الحرب والموت عنصران خطيران في البناء التعبيري لخان الخليلي، وهما عنصران أكثر خطورة في أزمة «المضطهد». أحمد عاكف يدنو من ختام الأربعين، فهو «كهل»، والفنان لا يفوته أن يؤكد على هذه الكهولة مرارًا. وهو ينتقل مع الأسرة إلى خان الخليلي، من الحي الذي كان «على مرأًى ومسمع من الموت المخيف.» أحمد عاكف أصيب بداء التشبه بالمفكرين، بعد أن بُترت سِنو دراسته عند مرحلة البكالوريا، لهذا يحتفظ بمجموعة هائلة من الكتب الصفراء التي لونت عقله بما يشبه الذبول والاستسلام. أحمد عاكف هو «المضطهد» الذي أرغمته الظروف على تربية أخيه الأصغر «رشدي» حتى يُتم تعليمه بالجامعة، واضطرته الظروف أن يعول والديه وحده، وامتحنته الظروف بقلب وحيد خالٍ من هموم العواطف. هذا المضطهد هو كبش الفداء — من ناحية المظهر — لأم تعتقد أن المكتوب على الجبين لا بد من أن تراه العين، وأب يعتقد أن الألمان أعقل من أن يضربوا قلب الإسلام وهم يخطبون ود المسلمين.

في القاهرة الجديدة يحرك الفنان مجموعة من الشخصيات في وقت واحد ومنذ البداية. في خان الخليلي يبدأ من الفرد. أرض المأساة مُعَدَّة. فرشت بالضياع. المضطهد هو ابن هذه الأرض الجاهزة. الفنان يبدأ به، ومنه. ليس بحاجة إلى فرش الأرض من جديد. دور الوالدين في القاهرة الجديدة وخان الخليلي دورٌ واحد، سواء كان الشلل أو الفصل من الوظيفة هو السبب. هو الرمز إلى ضياع هذه الفئة المسحوقة من البرجوازية الصغيرة، التي تجعل من الثقافة والعلم والمؤهل شهادة الميلاد الجديد للأسرة إذا مات العائل أو تقاعد أو فُصل من العمل … إلخ. المضطهد مثقف ثقافة صفراء، قراءة عامة لا تعرف التخصص ولا العمق. نزاعةً إلى المعارف القديمة. وهو مقتنع بأنه شهيد مضطهد، وعبقريةٌ مقبورة، وضحيةٌ مظلومة للحظ العاثر. عقدة الاستشهاد هي الأب الشرعي للمضطهد. فهو غالبًا الابن الذي يُضحي بآماله ومستقبله من أجل الأسرة. هذه العقدة تتضخم حتى يقول أحمد عاكف متأسفًا: «فاتتنا ظلمًا أخصبُ فترة في تاريخ مصر. تلك الفترة التي تستهين باعتبارات السن والجاه الموروث ويقفز فيها الشبان إلى كراسي الوزارة»، عقدة الاستشهاد عند المضطهد تفرخ مركب العظمة، عندئذ يسقط في وهاد الثنائية أو ازدواج الشخصية. لا يصبح هو هو، وإنما تكون ثمة هوة عميقة بين الذات الأصلية «المضطهدة»، ولافتة العبقرية الشهيدة. هو حائر بين الأبحاث النظرية والاختراعات العلمية، لا يدري لأي شيء خلقت مواهبه على وجه التحقيق! ازدواج الشخصية من السمات البارزة في التراجيديا المصرية عند نجيب محفوظ.

مأساة الفرد الذي لا يعيش حياته، لا يحقق ذاته، لا يحقق وجوده. المضطهد شخصية مزدوجة. يقول أحمد عاكف: «إذا أردت التفوق في مجتمعنا فعليك بالقحة والكذب والرياء، ولا تنسَ نصيبك من الغباء والجهل.»

المفهوم الموضوعي للزمن هو تصور «طولي» لحركة التاريخ، فكما أن الأحداث في حالة «تطور» فإن الشخصيات في حالة «تجذُّر» … الجذور الاجتماعية والنفسية للنموذج البشري من الملامح الواضحة في العالم التراجيدي عند نجيب محفوظ. الجذور تُسهم في صناعة القَدر. والزمن الموضوعي زمن مستقبلي في المستوى الاجتماعي، ولكنه زمن عدمي في المستوى الفردي. إنه زمن يحمل في جوفه بذرة المأساة. الجذور بنت الزمن. الجذور والزمن هما القدر، والقدر روح التراجيديا … «إذا كنا نموت كالسوائم وننتن فلماذا نفكر كالملائكة؟ … هبني ملأت الدنيا مؤلفات ومخترعات فهل تحترمني ديدانُ القبر أو تلتهمني كما التهمت جثتَي رية وسكينة؟ … الدنيا أكاذيب وأباطيل، وما المجد إلا رأس الأكاذيب والأباطيل! وسلم نفسه إلى عزلة عقلية وقلبية مريرة. يئس من الحياة فهرب منها، ولكنه خالَ، وهو يُدبر عنها بائسًا عاجزًا، أنه يزهد فيها متعاليًا متكبرًا.»

الفنان حريص على أن يربط بين حلقات ملحمته المأساوية من خلال الشخصيات. أحمد عاكف يستعير لسان محجوب عبد الدايم «ما العظمة؟ … أو ما العظمة كما تعرفها مصر؟ أجاب على ذلك بكلمة واحدة: الظروف المواتية»، «إن الوظائف الكبرى في مصر وراثية»؛ بل هو يستعير الحالة النفسية التي ألمت بمأمون رضوان، فقد ألم به هو أيضًا مرض أشفى به على الجنون والموت. هذه العناصر المشتركة بين أحمد عاكف، والشخصيات الأخرى، تربط أولًا بين حلقة الضائع في القاهرة الجديدة، وحلقة المضطهد في خان الخليلي. كما أنها تفسير ازدواج الشخصية في المضطهد، وثقافته الصفراء.

الجذور تتفرع إلى شعيرات دقيقة موزعة في جميع أنحاء الشخصية. المضطهد لم يصبح شهيدًا بين يوم وليلة. لقد عرف التدليل المفرط في طفولته، ثم نهض بأعباء الأسرة المحطمة وهو دون العشرين، فلم تتلطف معه الدنيا — فضلًا عن أن تدﻟﻠﻪ — ساعة واحدة. لذلك كان شعوره العميق بالظلم لا يسكن ولا يهدأ؛ بل كان يجد لألمه لذة غامضة. بدأت لافتة العبقرية الشهيرة تتكون، وأخذت المسافة بين ذاته الأصلية واللافتة تتسع. كان يتسابق على ما يرضي غروره وكبرياءه وولعه بالظهور، تستهويه المعارضة لمجرد المعارضة، يميل إلى الحزب المغلوب على أمره بصرف النظر عن مبادئه السياسية، وسرعان ما تمثل نفسه في موقف زعيمه يتلقى ما يتلقى من ضروب الاضطهاد والاعتداء. وفي المستوى الميتافيزيقي، يحترق شوقًا إلى وقت يُتاح له فيه السيطرة على القوى الكونية، والاستئثار بمفاتيح المعرفة والقوة والسلطان «أوشك أن يُجَن لهفةً وأن يذوب هيامًا. متى يدين له عرش النفوذ اللانهائي فيأخذ ما يشاء ويدع ما يشاء، ويعبث بمن يشاء، فيرفع ويخفض ويغني ويفقر ويُحيي ويميت.» تطلعه الميتافيزيقي مرتبط أوثق الارتباط بمأساته الاجتماعية. يبدو هذا الارتباط من خلال رغبته في الانتقام والتدمير — وهما نفس الرغبة التي اجتاحت محجوب قبلًا — غير أن الفرق بين رغبة المضطهد في التدمير، ورغبة الضائع أن هذا الأخير شخصية مغامرة في لقائها مع القدر وإن استسلمت بعد حين. أما المضطهد فقد عرف اليأس المرير.

الجذور هي التفسير التاريخي للشخصية. الفنان إذن حريص على الماضي، ولكنه الماضي المتحرك إلى الحاضر، المتجه إلى المستقبل. الماضي عند نجيب محفوظ في حالة حركة، والشخصية دائمًا في حالة تجذر، والأحداث في حالة تطور. هكذا نبرر «الأضواء» التي لا يفتأ الفنان يسلط أشعَّتها على «المضطهد»: الابن ورث عن أبيه تبعته ومرضه! الماضي المتحرك والأضواء تخلق الشخصية المبررة. هناك فنانون كبار يحاصرون الشخصية في الماضي فقط، الماضي الساكن. يحاصرونها أيضًا في الظلام. يخلقون شخصيات غير مبررة إطلاقًا. هؤلاء لا يلتفتون إلى موضوعية الزمن. لا يعترفون بها … فالعبث لا يحتاج إلى مبرر نجيب محفوظ في تلك المرحلة يبرر كل شيء، يبرر حتى العبث. يضيء معنى القدر حتى نعِيَ من اتجاه سهم المؤشر معنى اتجاه المأساة. عندما يرث الابن تبعة أبيه ومرضه، فإن هذا لا يعني أن «الوراثة» هي محور المأساة. الوراثة أحد العناصر العامة فقط. الوراثة تعني جزءًا عامًّا من الماضي، جزءًا خطيرًا في مبنى القدر.

المأساة في خان الخليلي هي الحرب والموت. هي في نفس اللحظة مأساة الحرية. فقد عرفت بلادنا خلال الحرب الثانية أبشع صنوف الذل والعبودية. كبلتنا معاهدة التهادن عام ١٩٣٦م بقيود لا ترحم. نشب الاستعمار أظافره في لحمنا، جُعنا، واستشرى الانحلال والتفسخ في علاقاتنا. تربع أساطين الدكتاتورية على عرش السلطة. كانت مأساتنا مأساة الحرية. كانت تختلف عن مأساة العالم المشترك بكل ما يملك من رجال وقيم في أتون الحرب. سقطت أوروبا برجالها وقيمها في الميدان. تزعزعت ثقة شعوبها. تهاوت أحلامها في حضيض الفزع واليأس. لم يعد الموت ضيفًا يزور الناس بين الحين والآخر، كان «حياة» الناس الوحيدة في النهار، وأحلامهم في الليل. تجاوزت المأساة حدود المستوى الاجتماعي إلى المستوى الوجودي الأعمق. تجاوزت المشكلات الجزئية في حياتنا اليومية، إلى القضايا الكيانية الكبرى في مصيرنا الأشمل.

بلادنا لم تلتقِ مع الحرب والموت مباشرة، التقت مع شبح الحرب وشبح الموت، مع الغارات الجوية المتلاحقة والحريات المغتالة والجوع الرهيب. من هنا كانت الحرية هي قضية المضطهد، ولكنه لم يتصل بها عن طريق الانتماء. كان الانتماء طريقه الطبيعي للتعبير عن الذات المضطهدة. إلا أن ازدواج الشخصية باعد بينه وبين الانتماء. مأمون رضوان ذو الثقافة الصفراء كان منتميًا إلى اليمين، على أنه لم يكن قط شخصية مزدوجة. كان الانتماء في حياته تحقيقًا للذات. أما عقدة الاستشهاد ومركب العظمة وغيرها، فلم تُتِح لأحمد عاكف أن يكون منتميًا. أتاحت له فحسب تعميق الهوة بين ذاته الأصلية ولافتة العبقرية الشهيدة. المضطهد والحرب والموت، هم ثالوث خان الخليلي. فقد عانى أحمد عاكف ويلات أفظع ليلة في حياته، الليلة الجهنمية التي زلزلت القاهرة زلزالًا مخيفًا «لم يجئهم الموت كما أوهمهم … أراهم وجهه، ولكن لم يُذقهم طعمه.» هذا هو الفرق بين تجربة الموت عند الغربي والتجربة عند المصري. «وشعر أحمد بدُنو الموت دُنوًّا جعله يحس تردد أنفاسه على وجهه.» كان خليقًا بالمثقف الأصفر عند مواجهة الموت أن يتأمل فيما وراء الحياة الدنيا من متع الآخرة. ولكن التكوين الذاتي للمضطهد يهمس: «لَكَم يعذبنا حب الحياة، ولكم يقتلنا الخوف، ومع ذلك فالموت لا يرحم.»

مأساة خان الخليلي تبدأ من نهاية القاهرة الجديدة. أو يدِق القولُ بأن القاهرة الجديدة ما تزال مستمرة في خان الخليلي. لذلك لا تكون البداية الفنية للمأساة هي أزمة الوالدين. الفنان يختزل هذه المقدمات أو يضمِّنها ثنايا الأحداث دون أن يتعرض لها بشيء من التفصيل؛ لأنه سبق أن أتاح لها فرصة مفصلة في القاهرة الجديدة، ولأن القاهرة الجديدة وخان الخليلي حلقتان في سلسلة واحدة.

بداية الأزمة في خان الخليلي تشتمل على جوهر مأساة القاهرة الجديدة. فالأب متقاعد، والابن يخافه من الصغر؛ بينما كان يحب أمه، والدنيا ليست بأمه الحنون «فهل يُصدِّق الوالدان أن ذلك الكهل الأصلع الخائب قد ذهب ضحيتهما؟» بداية الأزمة واحدة، يختزلها الفنان ليدخل إلى الجوهر الخاص بمأساة خان الخليلي، مأساة البرجوازية الصغيرة مع الحرب والموت.

كانت حياة المضطهد حلقات من الفشل؛ في صباه أحب فتاة يهودية كانت تداعب قسمات وجهه بالسخرية «فاستقبح وجهه أكثر مما ينبغي»، ثم أحب جارته الحسناء بعد ذلك «فكان عليه أن ينتظر عشرة أعوام ريثما ينتهي من تربية أخيه»، وعرف البغايا فلم يجذب واحدة منهن فأضاف إلى عُقَده «نقيصة الجنس»، ثم سعى إلى خطبة كريمة أحد التجار فقيل له: «إن مرتبه صغير وعمره كبير»، لهذا أقام أحمد عاكف حجابًا ضخمًا بينه وبين المرأة. المقهى إذن هي ملاذ المضطهدين بوعي أو بغير وعي. وفي المقهى عرف «المتسع لمرضِية الله ومعصيته على السواء»، «المرضية والمعصية كالنهار والليل لا ينفصلان، وفوقهما مغفرة الله ورحمته.» المرأة مرة أخرى؟! قال له نونو الخطاط: «الذنب ليس بذنب حيِّنا، الذنب ذنب الأحياء الأخرى. لقد ضاقت بالفساد، فصدرت ما يزيد عن حاجتها إلينا على حد قول الراديو عن التجارة العالمية. هنا نحن نُصدر المواد الأولية والأحياء الأخرى توردها مصنوعة … فمن بعض أطراف هذا الحي تصدر الخادمات فتحولها الأحياء الأخرى إلى غانيات، في هذه الحرب قُلبت الدنيا رأسًا على عقب. تصور يا إنسان أني سمعت بالأمس بنت بائعة فجل تدعو أختها فتقول: تعالَي يا دارلنج» … انعكاسات الحرب على المجتمع المصري تصوغ شخصية المضطهد والضائع والمنتمي على السواء، تلونها بنفس الألوان الناسجة لشبح الحرب والموت. يتفاعل هذا الشبح مع الطبيعة المصرية للمجتمع — البرجوازية الصغيرة منه — تفاعلًا ديناميًّا يولد النماذج البشرية على نحو خاص متفرد. فنحن شعب متدين، عُرف الإيمان بالقدر منذ آلاف السنين. ونحن شعب زراعي سكوني ثابت الاقتصاديات. والبرجوازيون الصغار بيننا أكثر فئات الشعب حفاظًا على قشور القيم وانصياعًا لمطاليب القدر. البرجوازيون الصغار في المدينة هم أبناء المزيج المعقد من قيم الريف وأخلاقيات المدينة، حي الحسين، خان الخليلي بالذات، من أكثر الأحياء مزجًا لهذه القيم وتلك الأخلاقيات، أبناؤه هم «أولاد البلد»، وهم أولاد الحسين. والبلد هي القاهرة المُعِزِّية في أربعينيات هذا القرن.

هذا هو عنصر الاختيار الدقيق — من جانب الفنان — لأدواته التعبيرية. إن هذه العناصر كلها أدوات للتعبير عن الضائع المصري، والمضطهد في المأساة المصرية. يختار نجيب محفوظ بوَعي دقيق أكثر أحيائنا الشعبية عراقةً في التقاليد الإسلامية، وأكثرها مزجًا للقيم الريفية والعادات المدنية. يختار المدينة التي استقبلت أضواء الحضارة مع أغلال الاحتلال في كلمة، يختار أعقد مركبات التراجيديا المصرية. خان الخليلي تضم الضائعين؛ كنونو الخطاط بشعاره الأثير «ملعون أبو الدنيا». الضائع دائمًا يغامر، يعرف أن القدر قضاء محتم، فلا بأس من دخول اللعبة، يتزوج أربعة كما يسمح الدين، وينجب أحد عشر كوكبًا وأربع شموس و«ملعون أبو الدنيا، هذا شعار الاستهانة لا اللعن أو السب.» نونو ليس شخصية مفردة، إنه ضائع حقًّا، ولكن المقهى رمز كبير للضياع «وقد وجد في الحي من أمثال هذه القهوة عشرات، حتى قدر قهوات الحي بمعدل قهوة لكل عشرة من السكان.» الضياع ما يزال أرض المأساة. القهوجي نفسه يزدرد نصف درهم من الأفيون كل أربع ساعات «أهي لذة عصبية تكتسب بالعادة … أم سعادة وهمية تهرب إليها النفس من شقاء الواقع؟» بينما يلفت الأنظار على المقهى — رمز الضياع — ما يرى أحيانًا من جماعات تلبس الجلاليب يحيطون إحدى الموائد، كلٌّ منهم يعد رزمة من الأوراق المالية! الضياع من وجهة نظر المضطهد هو أن يكون الكذب عماد كل شيء «كذب الرجال جليل كالرجولة نفسها! … فأين أنتن من كذب التجار والساسة ورجال الدين؟ كذب الرجال محور هذه الحياة الجليلة التي تشاهدين آثارها في معترك الحكومة والبرلمان والمصانع والمعاهد؛ بل هو محور هذه الحرب الهائلة التي رمت بنا إلى هذا الحي الغريب.» المضطهد يميل إلى الضائعين والمنتمين إلى اليمين «إن القاهرة التي تريد أن تمحوها من الوجود هي القاهرة المعِزِّية ذات المجد المؤثل. أين منها هذه القاهرة الجديدة المستعبدة؟» إنه يحس في أعماق نخاعه بالمأساة، ولكن عقدة الاستشهاد تقرب به من الضياع واليمين.

«إن مأساة الحرية، هي بعينها مأساة التفكير السياسي الشائع:

– هتلر ينطوي على احترام عميق للبقاع الإسلامية.

– بل يقال إنه يبطن الإيمان بالإسلام.

– ليس هذا عليه ببعيد، ألم يقل الشيخ لبيب التقي النقي إنه رأى فيما يرى النائم عليَّ بن أبي طالب — رضي الله عليه — يقلده سيف الإسلام.

– سوف يعيد بعد فروغه من الحرب إلى الإسلام مجده الأول، وينشئ من الأمم الإسلامية اتحادًا كبيرًا، ثم يوثق بينه وبين ألمانيا بعهود الصداقة والتحالف.

– لذلك يؤيده الله في حروبه.

– وما كان الله لينصره لولا جميل طويته، وإنما لكل امرئ ما نوى.»

المناخ السياسي في هذا المكان من العالم. خليط معقد من القيم الدينية (الإسلام) والكرامة القومية (العداء للإنجليز) مهما تبلورت هذه القيم وتلك الكرامة في إحساس وطني غير ناضج. فالوضع السياسي نفسه على جانب كبير من التعقيد: عرش السلطة يتربع عليه مُمالئو الإنجليز، وقاعدة الوطن من الجماهير الشعبية ممزقة بين الاتجاهات الفاشستية البازغة مع «مصر الفتاة» أو «الإخوان المسلمين». التناقض بين السلطة المتحالفة مع الاستعمار والجماهير الشعبية تناقضٌ رئيسي، محوره مأساة الحرية. ففي ظل هذه المأساة لم تترعرع التيارات التقدمية في الفكر المصري الحديث ولم تتدعم الاتجاهات السياسية التقدمية في مجال الحركة والعمل. ومن ثم كان الجو مهيأ لأن تنحرف الجماهير وتضيع. ويصبح الأفيون والنساء والشذوذ والبطون الخاوية التجسيدَ البشع لهذا الضياع. ولا يملك المضطهد — في غمرة الإحساس بعبقريته الشهيدة — إلا التعاطف مع الضائعين والمنتمين إلى اليمين.

غير أن الضائعين مغامرون، أما المضطهد فيائس مستسلم. «نونو الخطاط يشعر بالله شعورًا عميقًا، ويحسبه في كل مكان يحله، ويتوكل عليه بكل قلبه، ويطمئن كل الاطمئنان إلى أنه لن يتخلى عنه، وتراه يلم بالمعصية دون أدنى شك في غفرانه ورحمته.» وعباس شِفة زوج رسمي فقط، وجد في الزوجية مهنة ومرتزقًا (ما أقرب الشبه بينه وبين محجوب عبد الدايم). المضطهد يائس أمام الموت، مستسلم للحياة. لذلك تبدأ قصة أحمد عاكف الحقيقية، قصة الكهل المضطهد، منذ أطلت عليه عينان جميلتان من فتاة القدر. القدر؟ هل يكمن في تلك المسافة البعيدة التي تفصل بين سِنِيه الأربعين، وصباها الريان المشرق؟ هل هو في هذه المسافة البعيدة على الرغم من أنها لا تبعد عنه أمتار؟ ألأنها أقبلت في آخر الزمان وعنفوان الأزمة «بحسبه أن قلبه صحا، وأنه منذ أيام ينتفض في اضطراب، ويضطرب في سرور، ويُسر في حيرة، ويتحير في رجاء، ويرجو في خوف، ويخاف في لذة. هذه هي الحياة، والحياة أجمل من الموت، مهما كابد الحي من تعب، ووجد الميت من راحة» … الحياة والموت؟ أم الحرب والموت؟ من الحياة والحرب والموت – إذن – تتعقد الشباك حول «المضطهد» الذي تصطرع داخله شتى التناقضات، وهو يستقبل هذا الأمل الجديد. إنه قريب حقًّا من الضائع واليميني، وهو يرى نفسه في تناقض أساسي مع المنتمي إلى اليسار، ولكن الأمل الجديد يقول شيئًا آخر. إن منهج الفنان في بنائه التراجيدي يعتمد على المتناقضات إلى درجة كبيرة. خان الخليلي تضم المنتمين إلى اليسار كما تضم الضائعين. وأحمد عاكف يختلف دائمًا مع أحمد راشد المحامي المثقف اليساري. ولكنه سمعه اليوم يقول: «الفلاح مضغوط تحت المستوى الأدنى للإنسانية، فلا يمكن أن يطالب بشيء، ولكنْ خليقٌ بكل إنسان أهل لشرف الإنسانية أن يمد يده ليرفع عن كاهله المتهالك هذا الضغط، وقديمًا حارب الرق الأحرارُ لا العبيد» … يستمع المضطهد إلى هذه الكلمات، والأمل الجديد يتدثر بالدفء بين ضلوعه، فتتنازعه عواطف شديدة التناقض. لو اعتدل ميزان العدالة في هذا الوطن ما عاقه عن إتمام تعليمه عائق، ولبلغ ما يشتهي من الشرف في الحياة. ولكنه — من ناحية أخرى — يغتاظ من هذا الحماس «للمشكلات الاجتماعية» والانصراف عن، أمور «العقل» كالمنطق والتصوُّف والأدب. في هذه النقطة بالذات يتناقض المضطهد مع الضائع أيضًا، فيتساءل نونو الخطاط: هل تطيل الكتب العمر؟ … تدفع المرض؟ … تمنع المقدور؟ … تجنب الشقاء؟ … تملأ الجيب؟! إنها — بالجملة — مأساة المعرفة.

الأمل الجديد يفجر هذه التناقضات جميعها؛ لأنه يفجر المأساة كلها، ومنذ البداية «كان عقله من العقول التي ترى دائمًا وراء المصادفات حكمة تدق على الألباب.» فالقدر هو قضية القضايا في حياة المضطهد: هل تكون أزمة هذا الحب هو الإحساس بالزمن من خلال الفارق الزمني بين عُمريهما؟! الزمن مرادف القدر. والقدر يلقي ظلاله على الأمل الوليد، حتى تصبح الرغبة في التدمير (شعار محجوب فيما مضى) هي شعار المضطهد المقبل على الحب بابتسامة واسعة «تمنى في صمته غارة جنونية تقذف القاهرة بالحمم فتدك مبانيها، وتهلك بنيها فلا يبقى منها إلا خرائب وآثار، وشخصان حيان لا غير، هو وهي! هنالك تصفو له بلا خوف ولا يأس ولا غيرة ولا جهد … وتمثلت لعينيه المظلمتين القاهرة المهدمة المحطمة، والشخصان الشريدان، يفزع أحدهما إلى الآخر لائذًا بجناحه ساكنًا إلى ذراعيه، والآخر سعيد — على ما يكتنفه من الخراب — بصاحبه، متلذذًا بانفراده به. انبعثت هذه الأمنية الغريبة من صدره وهو يفور بشعور طاغٍ بالاضطهاد والقهر والعذاب.»

القدر يلقي ظلاله منذ البداية، سوف يتسبب رشدي عاكف — ربيب المضطهد — في قلب أحلام أخيه رأسًا على عقب. كانت تربيته رد فعلٍ نفسي عنيف للمضطهد، فنشأ مُدلَّلًا شهوانيًّا سكيرًا، تستهويه المخاطرة. النوم عنده نقمة «إنه اختلاس جزء طويل لا يقوم بمال من حياتنا القصيرة.»

القدر يلقي ظلاله على المضطهد منذ تلك اللحظة التي يستشعر فيها العزلة «أنا من السابقين لزمنهم، فلا يرجى لي أي تفاهم مع الناس.» وهو ساخط دائمًا، وإن كان سخطه نابعًا من عقدته الأصيلة، لهذا لا يلتقي سخطه مع سخط الشعب؛ بل «هل يستأهل هذا الشعب التأليف بمعناه الحق؟ … هل يمكن أن يهضمه؟ إلا إنهم رعاع يقرءون رعاعًا» … وعندما تتجمع ظلال القدر، ظلال المنطق الصارم الذي يؤدي إلى التناقض الحاد، يكون رشدي عاكف قد نُقل من الصعيد إلى القاهرة، وفي أيام قصار يكون قد ظفر بقلب الفتاة التي استهوت أخاه الأكبر وأيقظت فؤاده الكهل بعد طول موات. ينطفئ الأمل وتتألق المأساة: مد يدَه ليجلو عروسه فتكشَّف له قناعها الموشي عن جمجمة ميت، هناك «قوة شيطانية» تترصده، هناك «طائر الشؤم» يلتقط منه كل ثمرة دانية. لا صحة، ولا أسرة، ولا مكانة، ولا مال! وماذا أفدت من المعرفة، ولخير لك أن تدمن على مخدر يُذهل العقل عن الوجود حتى يتداركك الذهول الأكبر، «الحياة مأساة والدنيا مسرح ممل، ومن عجبٍ أن الرواية مفجعة، ولكن الممثلين مهرجون، من عجب أن المغزى محزن، لا لأنه محزن في ذاته، ولكن لأنه أريد به الجد كل الجد، فأحدث الهزل كل الهزل … ونتوهم أن الرواية مأساة، والحقيقة أنها مهزلة كبرى.» إلى الكهف المظلم إذن، كهف الوحدة والوحشة.

منذ البداية، يصوغ الفنان قدَر المضطهد على ضوء موضوعية الزمن، ومن خلال شعيرات الجذور التي تصب عصارة الماضي في قلب الحاضر، وتنبت على جبين المستقبل. فما كان للأخ الأكبر إلا أن يعول والديه ويربي شقيقه الأصغر، فيجري به الزمن إلى أعتاب الكهولة، فيستند على عكازها المهشم وهو يتطلع إلى كل أمل وليد. منطق الأحداث يؤدي إلى أن يأخذ الكهل نصيبه في المؤخرة. ولكنا نفاجأ بأن تضحيته؛ بل تضحياته السابقة هي بعينها التي تقوده إلى نهاية المأساة. عاش مضطهدًا، وعندما آن الأوان ليعيش أخريات عمره بعيدًا عن الاضطهاد، رأيناه يرتفع إلى قمة الجبل، على خشبة الصليب. أو أنه عندما فتح ذراعيه ليستقبل الدنيا ارتسمت خلفه علامة الصليب. وكانت ذاته المضطهدة هي صليبه. كان هو صليب نفسه. ضحى من أجل والديه، ثم ضحى بالكثير من أجل شقيقه، ثم يأتي هذا الشقيق بالذات ليسرق أمله الأخير، ليكون هو اللحظة القدرية العابثة بحياته كلها. نجيب محفوظ — منذ كتب مجموعة همس الجنون — يصر على أن تتم اللحظة العبثية في حياة الفرد على يدي أقرب الناس إليه. ولو راجعنا قصة محجوب وعلي طه في القاهرة الجديدة، وقصة أنور وعبد الرحمن في «حياة للغير»، سوف نعثر على عنصر مشترك بين هاتين القصتين وبين قصة أحمد ورشدي عاكف في خان الخليلي. هذا العنصر هو اللحظة القدرية التي تجعل من الصديق ضحية لصديقه، أو من الشقيق ضحية لأخيه دون أن يدري من تسبب في المأساة أنه ساهم في صنعها «كيف يمكن اتقاء الشقاء المقدر ما دام يبدو في حُلل آمالٍ مشرقة وألوان ناضرة؟» إن التناقض المرير بين محبة الصديق أو الشقيق وما يسهم به أحدهما في مأساة الآخر، تتمزق معه نفسيةُ المضطهد تمزقًا ملتاعًا. إنه بعاطفته يحب أخاه، وبعاطفته أيضًا يمقت تلك المصادقة التي جعلته يختطف أمله الوليد في غمضة عين. وكما كانت رغبته في التدمير هي شعاره مع بداية الحب، فإنها أضحت حلمه الوحيد عند نهايته. تمنى لو كان من الممكن أن تخلو الدنيا من البشر. الخراب، الدمار، النهاية، الموت … هذا هو اللحن الجنائزي الطويل الذي ارتدَّت إليه حياة الكهل المضطهد. وما أيام السعادة والحب والأمل إلا مداعبات سخيفة من القَدَر.

البناء التراجيدي لخان الخليلي هو امتداد للقاهرة الجديدة. الفنان يختار الشخصية المأساوية بطبيعة أبعادها وطاقاتها على التعبير الخاص والعام عن المأساة. المضطهد هو التجسيد الطبيعي للمأساة المصرية أثناء الحرب. سماته الخاصة تصنع من القدر أداة القهر والذل التي تحطم الآمال وتذيب الأحلام. الفنان يركز عدسته على الفرد على الرغم من معالجته مأساة الحرية في المستوى الاجتماعي. وعندما يضيف الحرب والموت الجانب الميتافيزيقي من المأساة فإنه يتناولها من الزاوية الاجتماعية في كيان الفرد. وهو يختار الأحداث وفقًا لمفهوم القدر الاجتماعي والزمن العدمي على السواء. ويربط بين الفرد — المضطهد — والمجتمع المضطهد من خلال الظروف العامة والخاصة بالمجتمع والفرد معًا. لهذا يتوقف بالمضطهد عند حدود مأساة العاطفية — بل مأساة وجوده — ليبدأ فصلًا جديدًا من خلال القصة الأخرى القائمة على أنقاض الأولى. قصة رشدي عاكف ونوال، الفتاة التي منحت الكهل نور الأمل في لحظة كانت الخلود، ثم أطفأته في لحظة كانت العدم. منهج الفنان في تحريك التراجيديا لا ينفصل لحظة عن الشخصيات في حالة فعل، أي عن الأحداث المتصلة بجوهر المأساة اتصالًا عميقًا، الأحداث التي تصبح هي والشخصيات شيئًا واحدًا. لذلك كان الحب الجديد بين الشقيق الأصغر والفتاة يترعرع على الطريق في مدينة القبور. كانت «الجبانة» هي مكان اللقاء اليومي بين الاثنين. وتمتزج رائحة القبور برائحة الحب، فيتحول رشدي — المغامر والمخاطر والمقامر والشهواني والسكير — إلى إنسان يستعر قلبه عاطفة صادقة. أزمة الحب الوحيدة كامنة في طبيعة رشدي، كما سبق أن كانت المأساة كامنة في أعماق أحمد. رشدي تحول إلى عاطفة جياشة صادقة، ولكنه لم يتحول قط عن طبيعة المغامرة. كما قاد الاستسلام واليأس المضطهدَ إلى المأساة، تقود المغامرة رشدي عاكف إلى المأساة. باستسلام عميق للقدر ويأس مرير من القضاء رأى أحمد أنْ لا مناص من أن ينسج كفنه بيديه فيطلب نوال لرشدي (كما فعل عبد الرحمن في «حياة للغير» حين طلب سمارا لأنور). والمضطهد مقتنع بأن الأمر «لن يخلو من تلك اللذة الغامضة التي تؤلف بينه وبين الألم كما تؤلف بين الفَراشة والنور، وفيه لذة الاستسلام إلى القضاء القهار، وفيه لذة التكفير عن مشاعره الباطنية التي لم يرتَح إليها، وفيه أخيرًا لذة كبريائه الجريح.» أما المغامر فقد ظل — مع حبه — يخاطر ويقامر حتى داهمه السُّل، وجسده على استعداد تام لاستقباله. أحمد أحس برغبة قوية في الذهول، في إلغاء شخصيته نهائيًّا بدلًا من ازدواجها. والفنان يؤكد هنا أن لا سبيل أمام المضطهد لأن يعيش حياته أو يحقق ذاته ووجوده. فهو إما أن يكون ذا شخصية مزدوجة، وإما أن يفقد كيانه ويصبح بلا شخصية على الإطلاق. المضطهد يرتاح إلى الاستسلام فلا يوجد في الدنيا ما يستحق التعب أو الحركة «إن الرقاد والاستسلام والرضا خير ما تجود به الدنيا.» منهج الفنان في تصنيف المأساة أن يكون المضطهد هو المحور التراجيدي، وأن تكون أزمته العاطفية هي الفصل الأول الذي يفضي تلقائيًّا إلى أزمة رشدي في الفصل الثاني. فلا ينبغي أن ندهش من اقتحام المضطهد لأروِقة هذا الجزء من البناء التراجيدي. رشدي يفقد وظيفته حقًّا فتتأزم العلاقة بينه وبين فتاته، وتضطرب حياة الأسرة ويتهددها الفناء. ولكن المضطهد هو محور هذا الدمار. الزمن يقود الفنان مرة أخرى إلى التركيز والتكثيف، فتتوقف حياة الأسرة على الستة أشهر التي قررها الطبيب لرشدي قبل فصله من العمل (نفس الموقف في القاهرة الجديدة) وبنفس الإحساس العميق بالزمن يغامر رشدي بمرضه ويخاطر بحياته ولا يستمع إلى نصائح الطبيب أو الشقيق، ويهرول إلى «الحياة» كما يدعو ليالي الخمر وموائد القمار. المغامر لا ينسى القبر مطلقًا، وهو مكان حبه، وكلما اشتدت أنياب الدَّرن في تمزيق صدره كلما تذكر الموت والحياة والحب.

إن مغامرة رشدي تمضي به إلى النهاية المحتومة. والمضطهد إزاء هذه النهاية يتردد بين الحفاظ على «بقية القيم»، فينقذ الفتاة من عدوى أخيه القاتلة، أم أن غيبوبة المعلم زفتة — القهوجي الذي يمضغ نصف درهم من الأفيون كل نصف ساعة — خير من هذه الحياة؟ إن الغيبيات هي الملاذ الوحيد عند البرجوازية الصغيرة، و«المضطهدين» من أبنائها بشكل خاص. لذلك يعجب أحمد «لسوء الحظ الذي يلاحق أسرته؛ فقد فقدت غلامًا، وها هو رشدي يصاب بالداء الخطير، أما هو فقد نصبه الدهر هدفًا للعثرات والإخفاق.» سوء الحظ بمعناه الغيبي هو الذي يولد عند المضطهد متعة الشعور بالاضطهاد «المؤلم اللذيذ معًا». ولأول مرة — منذ أمد بعيد — يفكر في الموت «كحقيقة ماثلة يطالع معالمها الرهيبة ويستشعر آثارها العميقة من الألم والخوف والقنوط. وتخيل المقبرة النائية التي ابتلعت شقيقه الأصغر فخالها تنفض عن ثغرها تراب الأرض وتفغر فاها.» أما رشدي فقد عرف الألم، وعرف معه حقيقيَّة الشقاء التي ينطوي عليها قلب الدنيا. وحينئذ تحوَّل المغامر إلى الاستسلام. هذا هو منطق التعبير الفني عند نجيب محفوظ. إن حيوية الشخصية المأساوية تتحقق عنده في غمرة التمزق الملتاع بين المتناقضات. أخيرًا، وجد رشدي «ارتياحًا في الإذعان المطمئن إلى إرادة الله وقضائه. ورأى تلك الإرادة الشاملة تحيط بماضيه ومستقبله فاستسلم إليها مطمئنًا.» غير أن الإنسان عند نجيب محفوظ يفتح ذراعيه ليستقبل الدنيا، فترتسم خلفه علامة الصليب، لقد مات رشدي ولم يفُز من حبه بشيء. ولم يمت أحمد، ولم يفز أيضًا من الحياة كلها بشيء. «وفغر القبر فاه كأنه يتثاءب ضجرًا من المأساة المعادة» … كلاهما ميت، وإن بقي المضطهد يدب على الأرض في ذهول «ما زالت الرائحة تزكم أنفه، رائحة الموت المخيفة! وفي صباح اليوم التالي وجد أنها ما تزال تنبعث في الجو، فتهيأ له أنها ربما كانت متصاعدة من الممر المفضي إلى خان الخليلي القديم ففتح النافذة ونظر منها، فرأى على الطِّوار كلبًا ميتًا وقد انتفخت بطنه وتشنجت أطرافه فصار كالقربة، وأكب عليه الذباب وأدام النظر قليلًا، ثم تحول عن النافذة بفؤاد مكلوم وقد امتلأت عيناه بالدموع …» ما أتعس الإنسان من الميلاد إلى الموت … بهذه الكلمات تترنم أعماق المضطهد دون أن تطفو على السطح، فذات يوم رأى صورة كبيرة لرشدي في زهو الصبا، وسرعان ما طرأت على ذاكرته صورة الكلب الميت! «حياتي الخائبة لا تستحق الوجود» في نفس الوقت الذي أعلنت فيه أبواق الحرب أن الوطن سيتحول إلى خرائب تنعق فيها البوم، ومستنقعات يرعاها البعوض، وضاقت القاهرة بسكانها، بينما يفكر المضطهد في الانتقال من الحي الذي ما أتى إليه إلا خوفًا من الموت. ولم يحثه الموت عن طريق الحرب، جاءه من داخله. وتحول أحمد عاكف إلى كتلة من «الماضي» من «الجذور» من «الزمن» الذي يهرول غاضًّا البصر عن آمالنا.

من هنا يستمع إلى نُذُر الحرب بدمار الوطن دون أن يساوره حزن كبير؛ بل «تتمثل له تلك الحالة التي يختلط فيها الحابل بالنابل وتُمحى التبعات وتنهار القيم، فيجد في أعماقه شعورًا بلذة خفية تعكسها أعصابه المتوترة، كأن ذاك الغزو المرتقب سيبيد فيما يبيد أحزانه وآلامه، وسيمحو فيما يمحو من آثار الماضي آثار ماضيه.» إن متعة الشعور بالاضطهاد تتحول بصورة عفوية إلى متعة الإشراف على الدمار والخراب والموت. لقد تجذرت فيه روحه ولم يعد سوى هذا المضطهد وعبقريته الشهيدة، فاقترب كثيرًا من الضائع — بل هو النبات الطبيعي في أرض الضياع — واهترأت في أعماقه الحاسة الوطنية. وتحددت آماله في الدرجة السابعة القريبة المنال، وسر في باطنه بالترقية المنتظرة.

الزمن الروائي لمأساة خان الخليلي اثنا عشر شهرًا. ستة أشهر منها تخصصت في الإجهاز على رشدي، ولكن الفنان يقصد بها أساسًا أن تكون بؤرة المأساة. فرشدي هو الذي وأد — من حيث المظهر — أمل أخيه. ولكن الحرب التي بدأت قبل ذلك التاريخ بعامين هي العامل الحاسم في بلورة المأساة. نجيب محفوظ يربط الحرب بالزمن الروائي ربطًا محكمًا، فالبداية هي الحرب والنهاية هي الحرب. وما بين البداية والنهاية هو الموت، الموت «المادي» للمغامر، والموت «المعنوي» للمضطهد.

والمضطهد هو موقف — لا شخصية فحسب — من القدر، هو موقف الاستسلام. القدر أسهمت في صنعه أيدٍ كثيرة: الحرب والدكتاتورية والجوع والانحلال والانسحاق … إلخ. الفنان يستخدم القدر في كافة مستوياته لصياغة مأساة الحرية «العامة» من خلال الأزمة العاطفية «الخاصة»، وهو بذلك يعيد صياغة مأساة الخبز والجنس والمعرفة. وهو يستهدف من إعادة الصياغة أن يضيف عنصر «المضطهد» إلى البناء التراجيدي لملحمة السقوط والانهيار.

خان الخليلي بناء مأساوي مرتبط أوثق الارتباط بالقاهرة الجديدة. وهو لا ينتهي بانتقال الأسرة إلى حي آخر (كما نُقل محجوب إلى الصعيد)؛ فالمأساة تتبنى نهاية مفتوحة، لأن الحرب تنذر بويلات جديدة بالرغم من الدرجة السابعة التي يتهالك المضطهَد على مقدمها. (والدرجة هي مشكلة محجوب في القاهرة الجديدة) سخرية الفنان من الدرجات ممزوجة بمرارة العلقم. خان الخليلي حددت أبعاد عقدة الاستشهاد في شخصية «المضطهد»، وهو تحديد يعِد بأن التراجيديا لم يكتمل بناؤها بعد. وإنما تقول بأن الصراع بين المضطهد والقوى الخارجية هو صراع ملحمي من نوع خاص لا يكفل الانتصار. صراع ملحمي لم ينته في خان الخليلي؛ لأنه بدأ على نحو آخر في «زقاق المدق».

•••

الضائع والمضطهد كلاهما لا يمثل أية بطولة تراجيدية؛ بل هما لا يمثلان البطولة الملحمية في معناها القديم المتداول. إنهما شخصيتان تراجيديتان يسهمان في الصياغة الملحمية بما يرمزان إليه من دلالات، وهما يتكاملان مع بقية رموز الملحمة بالرغم من الدلالة المستقلة لكل منهما. الضائع والمضطهد كلاهما يمثل التزاوج بين المغامرة والاستسلام إزاء القدر في حياة الشعب المصري، وهما لذلك المفتاح الفني إلى المرحلة الجديدة في «زقاق المدق» الجزء الثالث من ملحمة السقوط والانهيار. هما مفتاح «الطريق القصير» في تاريخ المأساة المصرية عند نجيب محفوظ. الطريق القصير الذي تجسده «حميدة»، ويسهم في صياغته عصرٌ كامل. استنفد الفنان مهام الشخصية التراجيدية في الضائع والمضطهد كزاويتين أساسيتين يقام عليهما البناء المأساوي في حياة مصر. برزت أمامه مهام جديدة تستلزم أدوات جديدة للتعبير. من هنا كانت زقاق المدق فتحًا جديدًا في تاريخ الرواية المصرية لا يقل أهمية عن فتح توفيق الحكيم في «عودة الروح». وإذا كانت الحرب العالمية الأولى إحدى الركائز المهمة في قصة الحكيم، فإن الحرب العالمية الثانية — نهايتها على وجه التحديد — هي الركيزة الأساسية في قصة نجيب محفوظ. إرهاصات الحرب كانت البداية في مأساة القاهرة الجديدة، والحرب هي المشهد الرئيسي في خان الخليلي، والنهاية هي القاعدة التراجيدية لزقاق المدق. النهاية هي بداية «الطريق القصير» في حياة تلك الفئة الضائعة المضطهدة من الشعب المصري، والطريق القصير — إذن — هو زاوية جديدة من زوايا البناء التراجيدي. هو الحلقة الثالثة من حلقات تطور ملحمة نجيب محفوظ. وكما استمرت القاهرة الجديدة الضائعة في خان الخليلي، فإن الضياع والاضطهاد لا يفارقان زقاق المدق. الفنان يستخدم الضائع والمضطهد والمنتمي كأدوات للتعبير، لا كنماذج بشرية رامزة فحسب. بمعنى أنه يخصص القاهرة الجديدة لتصوير الضائع، ثم يتحول الضائع في خان الخليلي إلى أرض للمأساة، فيصبح جزءًا أصيلًا منها يتحول عنه الكاتب ليصور المضطهد، وهكذا حتى إذا دخلنا زقاق المدق كان الضائع والمضطهد جزءًا أصيلًا من المأساة، فيتحول عنهما الكاتب ليصور شيئًا جديدًا هو ما أدعوه بالطريق القصير. أي إن الضائع والمضطهد يُمسِيان من الجزئيات الكثيرة المهمة التي تسهم في بناء الطريق القصير فما هو هذا الطريق القصير؟

زقاق المدق — كما يصفه الفنان — «يكاد يعيش في شبه عزلة عما يحدق به من مسارب الدنيا، إلا أنه على رغم ذلك يضج بحياته الخاصة. حياة تتصل في أعماقها بجذور الحياة الشاملة، وتحتفظ — إلى ذلك — بقدر من أسرار العالم المنطوي» … هذه المقدمة التي تكاد تكون تقريرية في مظهرها، هي التمهيد الطبيعي لصورة بعينها: من زقاق صغير في أحد الأحياء الشعبية بمدينة القاهرة؛ بل أجرؤ على القول: من المقهى الصغير الوحيد في هذا الزقاق، يرتبط بصرُ الفنان بالزمان والعالم والتاريخ. إذا تجاوزنا المظهر فإن هذا المقهى يشبه إلى حد كبير ثقب الحائط في «جحيم» باربوس الذي تراقب منه الشخصية العالَم كله «أكثر من اللازم وأعمق من اللازم.» الزقاق هو نقطة انطلاق نجيب محفوظ إلى أعمق أبعاد المأساة المصرية، لأنه رآها ترتبط بمأساة الإنسانية المتشابكة. الزقاق هو العين الفنية الحادة التي أبصرت ضياع القاهرة الجديدة ومضطهَد خان الخليلي في مستوى أكثر عُمقًا، فارتفع المستوى المأساوي لمحجوب عبد الدايم لأن يكون رمزًا للضياع الإنساني كله، ولأن يكون أحمد عاكف رمزًا لاضطهاد البشرية كلها؛ بينما هما يُشكلان زاويتين أساسيتين في مأساتنا المصرية. هذا هو الالتحام الداخلي بين حلقات هذه الملحمة، وقراءة إحداها منفصلة عن الأخريات لا يمنح القارئ فهمًا كاملًا لشخصياتها وأحداثها … إن الترابط الحي العميق بينها جميعا يزداد أصالة وقوة كلما ازددنا توغُّلًا في بقية الحلقات. لهذا أكرر أن زقاق المدق مرحلة جديدة، ولكنها طبيعية. إنها تقودنا إلى أدغال المأساة الكامنة في الطبيعة والمجتمع. والإنسان في الزقاق يمثلهما معًا، في وحدتهما وتمايزهما وتفاعلهما وصراعهما، ثم تمزُّقه؛ بل تمزقاته التي لا تنتهي، بينهما.

من المقهى، فالزقاق، فالقاهرة، فالعالم، ينطلق الفنان انطلاقة أسطورية. فالبناء في هذه القصة يبدو كالأسطورة … حتى إن المقدمة التي أشرت إليها تشبه التمهيد العفوي للأساطير. ومن المقهى، أيضًا، ينطلق البناء الأسطوري للتراجيديا بالشعار الذي أعلنه المعلم كِرشة أن الراديو — هذا الساحر الجديد — لم يعُد يفسح له مكانًا في المقهى … وكأن أسطورة أبو زيد الهلالي انتهت لتبدأ أسطورة الحلو وحميدة.

انتهت الربابة والناي، وبدأ الراديو. القاهرة القديمة انتهت، والقاهرة الجديدة بدأت، بالرغم من كافة بقايا المعِزِّ لدين الله في أرجاء خان الخليلي أو زقاق المدق. القاهرة الجديدة التي أعلنت ضياعها من خلال أزمة الحصول على درجة حكومية، عادت فأكدت أزمتها من خلال المضطهد في خان الخليلي، ثم جاء الشيخ درويش في زقاق المدق تتويجًا رهيبًا لهذه الأزمة التي حولته من مدرس للغة الإنجليزية إلى درويش ينطق الوحي بالإنجليزية.

كان الفنان حريصًا بالفعل أن يجعل من موضوع الدرجات — الذي عرفه شخصيًّا وعانى ويلاته — مظهرًا للأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تحول شريحة البرجوازية الصغيرة في مجتمعنا إلى مجموعة من الضائعين والمضطهدين — والقلة القليلة تنتمي إلى اليمين أو اليسار — ثم ترسم لهم حلولًا ميسورة، كالطريق القصير في زقاق المدق … ويجلس الشيخ درويش في المقهى الوحيد بالزقاق يراقب العالم بأعماقه، فيرى أكثر من اللازم وأعمق من اللازم. وهذا هو الدور الحقيقي الذي يسنده نجيب محفوظ للشيخ درويش في زقاق المدق، فهو القمة المأساوية التي وصل البرجوازي الصغير إلى ذروتها متسلقًا الأزمة الاقتصادية المرعبة. لذلك «هجر أهله وإخوانه ومعارفه إلى دنيا الله كما يسميها.» أي أن هذه الشخصية انفصلت عن تمثيلها للأزمة الاقتصادية — التي سبق لمحجوب وعاكف أن عبرًا عنها — واستحالت إلى ضمير روحي للكاتب قريب الصلة والشبه بشخصيات مجموعته القصصية «دنيا الله»؛ حيث نشاهد كثيرًا من أولئك الرجال الذين ينطقون كالأنبياء.

من داخل المقهى يمكن أن نرصد مع الشيخ درويش حركة الزقاق؛ هذه هي سنية عفيفي العجوز المتصابية التي يستخدمها الفنان كهمزة وصل بين الضياع الاقتصادي والطريق القصير إلى الحياة الفاخرة الذي تمثله حميدة. الزقاق بناء موضوعي بالغ الصرامة في موضوعيته. هناك مسافة دائمة بين الشيخ درويش وحميدة. لا علاقة بينهما على طول الرواية إلا علاقة الرقيب الحاد البصر بالمراقب المغامر الذي يتخذ شعارًا «على عينك يا تاجر»! أي سخرية في هذا المفارقة؟ حميدة فتاة لا تعبأ بشيء. الزقاق كله يتحاشى الشجار معها. لا يعرف لها أحدٌ أبًا أو أُمًّا، وتعيش برفقة امرأة تقتات معها على الفتات، ومع ذلك تردد: «أفي هذا الزقاق أحد يستحق الاعتبار؟» أو تقول «زقاق العدم.» أو تأسى لنفسها: «آه يا خسارتك يا حميدة! لماذا توجدين في هذا الزقاق، ولماذا كانت أمك هذه المرأة التي لا تميز بين التبر والتراب؟» فإذا اصطدمت عيناها بعيني عباس الحلو الحلاق أو سليم علوان صاحب الوكالة صرخت: «أدركوني يا هوه قبل التلف يا خسارتك يا حميدة!» والحق أنها لم تكن كاذبة. يستهويها العراك، نعم … ولكنها جميلة، وتعلم أنها جميلة، وتحافظ بقدر ما تستطيع على هذا الجمال.

والفنان يقول: إن حميدة «أخت بالرضاع» لحسين بن المعلم كِرشة. وأعتقد أن هذه الأخوَّة ترمز إلى أوجه الشبه بينهما، ومساهمتهما معًا في مصير عباس الحلو. قال له حسين ذات يوم: «هذا الزقاق لا يحوي إلا موتًا، وما دمت فيه فلن تحتاج يوما للدفن، عليك رحمة الله» … حسين وحميدة يشكلان مغامرة، الزقاق في هذا العالم. حسين يعمل في الجيش الإنجليزي «كنز الحرب» وهو كبير الأمل في استمرار هذه الحرب. عباس الحلو هو الصورة المقابلة لحسين؛ إنه يعشق الزقاق، وعم كامل بائع البسبوسة، وصالونه الصغير، وقبل ذلك كله، أو من خلال ذلك كله، يعشق حميدة. وهذه هي السمة الفنية البارزة في البناء الموضوعي لزقاق المدق: التضاد. الحلو هادئ لطيف مستسلم، أما حميدة فهي النقيض لهذه الصفات. والصراع بين النقيضين هو محور المأساة، وهو صراع لا يتم عبر الكراهية؛ بل من خلال الحب. الحب، قطعًا، من طرف واحد — هو الحلو — والرغبة في حياة أرغد من جانب الطرف الآخر: حميدة. الحلو ينشد مع محجوب عبد الدايم وأحمد عاكف نغمةَ البرجوازية الصغيرة «لماذا لم أولد غنيًّا؟» لذلك يتحول الزقاق إلى شيء كالقدر؛ «إنه زقاق لا يعدل بين أهله، ولا يجزيهم على قدر حبهم له، وربما ابتسم لمن يتجهمه، وتجهم لمن يبتسم له.» ولدت حميدة مقطوعة النسب، معدمة اليد، ولكنها لم تفقد قط روح الثقة والاطمئنان «كانت بطبعها قوية، لا يخذلها الشعور بالقوة لحظة من حياتها … فلم تفتأ أسيرة لإحساس عنيف يتلهف على الغلبة والقهر» ومن هذه النقطة بالتحديد، نتبين معالم الطريق القصير في زقاق المدق، الطريق الذي مضت فيه حميدة إلى النهاية. التكوين النفسي المتفرد للشخصية، مضافًا إليه جملة الظروف الموضوعية المحيطة به، هو المفتاح الذي يتسلح به الفنان في التمهيد لمأساة الطريق القصير. إنه يلتقط السمات الخاصة للغاية في كيان حميدة: فتاة فقيرة، جميلة، تميل إلى العنف، تستهويها مشاهدة المعروضات الثمينة في المحال التجارية «فتثير في نفسها الطَّموح المتلهفة على القوة والسيطرة أحلامًا ساحرة. ولذلك تركزت عبادتها للقوة في حب المال على اعتبار أنه المفتاح السحري للدنيا، المسخر لجميع قواها المذخورة» … يجب أن نحتفظ في ذاكرتنا بهذه اللافتة المضاءة عند بداية الطريق القصير كما احتفظت حميدة في ذاكرتها بقصة فتاة مثلها من بنات الصنادقية، أسعفها «الحظ» بزوج ثرى نقلها من حال إلى حال «فماذا يمنع القصة أن تتكرر؟» أليس هو الحظ، القادر على كل شيء؟

الفنان يصور ظروفًا واحدة متشابهة تظلل جميع الشخصيات، ولكنه يؤكد على الظروف الخاصة بكل منها، ومن تفاعل الظرف العام مع الظرف الخاص يتولد المصير الفردي للشخصية. فكما كانت الحرب هي الدافع لأن ينطلق حسين كرشة من الزقاق الهادئ المستسلم إلى «الأورنس»، متخيلًا أن الحرب «ستدوم إلى الأبد، كانت الحرب أيضًا هي السبب في أن يتشبث عباس الحلو بصالونه الصغير بعيدًا عن الخطر كما توهم. وكما كانت الحرب هي الدافع لفتيات صغيرات من أهل الدراسة أن يتخذن من الفتيات اليهود قدوة في العمل بالمحال والرطانة بالكلمات الأجنبية وعدم التورع عن تأبط الأذرع والتخبط في الشوارع الغرامية، كانت الحرب بعينها ترسم لحميدة طريقًا آخر … طريقًا أسهمت في صنعه كافة العناصر المتناقضة في الزقاق: المغامر والمستسلم، المتصوف والشاذ جنسيًّا، الدرويش والقواد. التناقض بين حميدة والحلو لا يمنع — مثلًا — من التقائهما، فهو الشاب الوحيد الذي يصلح لها زوجًا … وهكذا فالتناقضات الفنية لا تغني الانفصام؛ بل التمايز والتفاعل، فالصراع لا يتم إلا بين نقيضين بينهما وحدة.

حميدة فتاة شديدة الواقعية، حبها للسيطرة كان تابعًا لحبها العراك. أما الحلو فكان يحلق مع الأحلام هائمًا في السماء «فهي دون النساء جميعًا أملُه المنشود.» والشيخ درويش — قلب الزقاق وحدسه — يصيح في وجه الحلو أن يرتدي الطربوش «فمخ الفتى يتبخر ويطير، وهذا أمر معروف في المأساة» وينطق الكلمة بالإنجليزية ويصر على تهجيتها حرفًا حرفًا … هل هو اختيار عشوائي لهذه الشخصية التي تصادفنا — أول ما تنطق — منذ البداية بكلمة المأساة؟

الطريق القصير في حياة حميدة هو الشارع الرئيسي في مدينة طموحها. وهو شارع جانبي في حياة بقية الشخصيات التي أسهمت في صنعه. المعلم كرشة يراود أحد الغلمان عن نفسه قائلًا: «أجل، ما أكثر المظلومين، ومعنى هذا بالحرف الواحد ما أكثر الظالمين» ثم يستدرج الشاب الصغير من محل عمله إلى المقهى، مقابل الدراهم التي أغراه بها «فلاح الاهتمام والطموح» في وجه الفتى. والشيخ رضوان الحسيني لا يتوانى عن المشاركة في صنع الطريق القصير — يا للتناقض! — بعظاته وإرشاده. فهو يحارب الملل ويفلسف المصائب ويقول إن للألم غبطته ولليأس لذته. وينهى مريديه عن التمرد. زيطة صانع العاهات، يساهم في صنع الطريق القصير، فهو المسيح المقلوب، هو صانع المعجزات وصانع الحياة للآخرين، ولكن بواسطة العاهة لا بالشفاء من العاهة. زيطة يعيش في خرابة «السواد مصير كل شيء في هذه الخرابة»، بادل الناس مقتًا بمقت عن طيب خاطر، يتخيلهم في أحلام يقظته حشرات بشرية يأكلها الدود، ومع ذلك كان الشحاذون أحب البشر إلى نفسه، وتمنى كثيرًا لو كان الشحاذون أكثرية أهل الأرض. وكان للشيخ درويش حظ موفور في محكمة التفتيش التي ينصبها زيطة في خياله للبشر. جاء إليه أحدهم يطلب «عاهة» ليعيش من احتراف الشحاذة، فطالعته من زيطة عينان دهشتان لمنظره وسأله:

«أنت بغل بلا زيادة ولا نقصان، فلماذا تروم احتراف الشحاذة؟

فقال الرجل بصوت منكسر: لم أفلح في عمل أبدًا. حاولت أعمالًا كثيرة، حتى الشحاذة نفسها، ولكن لم يُقدر لي التوفيق، حظي أسود، وعقلي وسخ، لا أفهم شيئًا ولا أتقن شيئًا.

فقال زيطة بحقد: كان ينبغي إذن أن تولد غنيًّا.»

زيطة إذن يبدو كشخصية أسطورية، استخدمه الفنان ليكفر عن خطيئة المسيح القديم الذي أعاد للعُمْي البصر وللعجزة قوَّتهم، زيطة هو مسيح القرن العشرين، جاء ليرد للأصحاء المساكين عاهاتهم حتى يتمكنوا من الحياة «كما يقول توفيق حنا».٩ وقد يحدث أن يأتي اليوم الذي تنتشر فيه صوره في المعابد والمخادع، وتباع تماثيله في الحوانيت والموالد، وتؤلف الكتب عن أعماله وحياته، ولهذا تدركون تواضع ما نطالب به من صنع تمثال صغير يقام له الآن على رأس زقاق المدق «كما يقول يوسف الشاروني».١٠

زيطة مساهم نشيط في بناء الطريق القصير، فإذا كان الشذوذ الجنسي هو طريق المعلم كرشة والغلمان، وإذا كانت الصلوات والتسابيح والحج هي طريق الشيخ رضوان، فإن صناعة العاهات هي طريق زيطة ومعاونه الدكتور بوشي. وهي الأرباح الطائلة التي جناها السيد سليم من وراء الحرب. ولعل اختيار الفنان لمكان وكالة السيد سليم علوان في الزقاق، ومكانة صاحبها من أهله، كان اختيارًا هامًّا في تحديد جذور المأساة. فلربما كانت المرة الوحيدة التي صور فيها. نجيب محفوظ درجات البرجوازية الصغيرة الاقتصادية ومراحل تطورها الاجتماعي. فهذا التاجر «ابن التاجر» قد أثرى من الحرب ثراء فاحشًا (والحرب نفسها هي التي خربت أهل الزقاق بدرجات متفاوتة)، ومع ذلك يعيش السيد سليم في الزقاق كواحد من بنيه (إشارة إلى وحدة النسيج الاجتماعي للبرجوازية الصغيرة). وهو شديد القلق من أمر الوكالة بعد أن تخرج أولاده من الحقوق والطب وانقطعت الأسباب بينهم وبين بيئة التجار، فراحوا يضمرون نوعًا من الاحتقار للمهن الحرة جميعًا. وهو يعلم حق العلم أن التجارة التي تدر المال بلا حساب قد تبتلعه أيضًا في ساعة نحس واحدة. وهو إلى ذلك يعرف حق المعرفة سيرة تجار كبار ممن ربحوا أموالًا طائلة، وانتهوا إلى الإفلاس والفقر المدقع، أو إلى شر من ذلك؛ كالانتحار والموت كمدًا.

أي إن «انعكاسات» الحرب هي مفتاح الطريق القصير في زقاق المدق. الطريق الذي مضت فيه حميدة إلى النهاية؛ بينما كان شارعًا جانبيًّا في حياة بقية الشخصيات. حقًّا، كان زيطة قريبًا من أن يكون مسيح القرن العشرين، وكان الشيخ درويش قريبًا من أن يكون ضمير العصر، وحقًّا كان المعلم كرشة والسيد سليم نموذجين للشذوذ الجنسي والاقتصادي … ولكن حميدة وحدها هي رائدة الطريق القصير إلى المأساة الشاملة. ربما كان طريق الشيخ رضوان يؤدي إلى الله، وطريق الشيخ درويش يؤدي إلى جوهر الوجود، إلا أن طريق حميدة يؤدي إلى أعمق أبعادِ المأساة، ولا شك في أن مجموعة واحدة من القيم تحكم كافة التناقضات المتصارعة في شريحة البرجوازية الصغيرة، فالسيد سليم علوان «لا يكاد يفقه شيئًا — فيما عدا التجارة — من أمور الدنيا، ولا تكاد تسمو آراؤه أو معتقداته على آراء ومعتقدات عباس الحلو مثلًا، فكان مثله يضرع خاشعًا إلى ضريح الحسين، وكان مثله يبجل الشيخ درويش ويتبرك به.» كذلك كان المعلم كرشة — فيما مضى — وطنيًّا صميمًا، أما الآن فلا يبغي من الانتخابات سوى المال وإشباع الشذوذ … وهو موقف السيد سليم من السياسة التي لخصها ابنه المحامي قائلًا: «وهل البرلمان في بلادنا إلا كمريض بالقلب تهدده السكتة القلبية في أية لحظة.» فهو رجل يستغرقه العمل نهارًا، والغريزة ليلًا (وقد أصبحت الصينية المشهورة رمزًا لهذه الغريزة). الليل عند السيد سليم يخلو من أي لون من ألوان التسلية فلا شيء غير الزوجة «ولذلك تفنن في مسراته الزوجية تفننًا شذ به عن جادة الاعتدال» مجموعة واحدة من القيم تحكم علاقات الفئات البرجوازية الصغيرة مع بعضها البعض … لذلك أحب عباس الحلو حميدة، واشتهاها السيد سليم في نفس الوقت، فالرغبة لا ترحم ومزاياها تستهين بفوارق «الطبقات» كما يقول. إن «حيويته الخارقة» قريبة الشبه من شخصية أحمد عبد الحواد. غير أن الفنان، هنا، يستخدم الشخصية كأداة للتعبير لا كنموذج بشري فحسب. أي إن السيد سليم هنا يقوم في الطرف المقابل لعباس الحلو: الفقر أمام الثراء، الشيخوخة أمام الشباب، النهم الجنسي أمام الهيام العاطفي … كل ذلك يصوغ بداية الطريق القصير في حياة حميدة؛ بل في تاريخ زقاق المدق.

عقدة الكرامة هي المحور الأخلاقي في حياة البرجوازيين الصغار، فالكرامة هي العملة الوحيدة الصالحة لأن تكون تعويضًا للنقص الاجتماعي والاقتصادي. من محجوب عبد الدايم إلى أحمد عاكف إلى عباس الحلو وحسين كرشة إلى حسنين إلى كمال عبد الجواد … كانت عقدة الكرامة تتخذ لنفسها محورًا هامًّا في مأساة كل منهم، وإن اختلفت صورها: حسين كرشة لم يكن يعنيه شذوذ أبيه بقدر ما كان يغيظه «ما يثيره حولهم من فضيحة وجرسه». وعباس الحلو يلتمس الحب «الشعبي» ممزقًا بين الأحاسيس الرومانسية والشهوات الواقعية، و«كرامته» تأبى عليه أن يضيع بين هذه وتلك. وحميدة لم تكن تحبه ولم تكن تكرهه، ولعل كونه الفتى الوحيد الذي يصلح لها في الزقاق هو ما جعلها تشفق من قطعه أو صده بحزم وفظاظة. وكانت على الرغم من تجربتها المحدودة في الحياة تشعر بالفارق الكبير بين هذا الفتى الوديع وبين طموحها النهم الذي يضرمه نزوعها الغريزي إلى القوة والجموح والسيطرة والعراك. ولولا إيمانها «بالزواج» كنهاية طبيعية محتومة لما ترددت في نبذه والقسوة عليه «كانت الأخلاق أهون شيء على نفسها المتمردة، وقد نشأت في جو لا يكاد يتفيأ ظلها، أو يتقيد بأغلالها»، ولكن الحلو يبغي المضي في طريق طولُه ألف ميل، وهو يود أن يخطو الخطوة الأولى في هذا الطريق الطويل بأن يسافر إلى التل الكبير مستجيبًا لمغريات حسين كرشة التي يثرثر بها عن الجيش الإنجليزي، ومدفوعًا بخيالات حميدة وأحلامها في الطريق القصير إلى العز والجاه … فالصالون الصغير لن يحقق لهما شيئًا من ذلك.

وهذا هو المظهر الأول للتفاعل بين الاستسلام والمغامرة، فقد نجح الحلو أخيرًا في أن يهجر الزقاق ونوم صديقه — عم كامل بائع البسبوسة — الشبيه بالموت. وكانت هذه مغامرته الأولى في الحياة، كما كانت الأمل الأول في ظلمة حياة حميدة التي أضاءها «نور الذهب اللامع»، أضاءها الأمل في الطريق القصير إلى «الحياة» بعيدًا عن زقاق «العدم». وينطلق وحي الشيخ درويش — في أزمة النزاع بين المعلم كرشة وزوجته — قائلًا: «هذا شيء قديم.» ويصر على تهجية الكلمة حرفًا حرفًا، وكأنه يؤكد معاني أول كلمة نطق بها: المأساة. وكأنه صوت الغيب في عالمنا المثقل بالظلمات. حميدة ظلت مشغولة دائمًا بالموازنة والاختيار والتفكير، فلم تنجذب قط إلى الدنيا السحرية التي يهيم الحلو في سمواتها، كرامة الحب عندها قريبة الشبه من كرامة الزواج عند محجوب عبد الدايم. كلتاهما «عقدة» يتحتم تجاوزها إلى الدرجة السادسة، (عند الضائع في القاهرة الجديدة)، وإلى الطريق القصير (عند فتاة الزقاق). والزمن هو عقدة العقد في الطريق الطويل الذي اختاره الحلو؛ بينما سفره لا يمثل بالنسبة لحميدة إلا «خيال الطريق القصير» نور الذهب اللامع. لهذا وافقت على قراءة الفاتحة قبيل السفر. ووافقت على القبلة السريعة التي اختطفها فوق السلم «وكانت تجد نحوه في تلك اللحظة ودًّا عميقًا.»

لو أغفلنا الزوائد والحواشي والذيول التي أغرق فيها الفنان جزئيات كثيرة من مأساة الزقاق — مثل قصة حسين كرشة مع أسرته، وقصة سنية عفيفي مع الزواج، وقصص زيطة فيلسوف الزقاق مع زبائنه الدائمين — لاستطعنا أن نلتقي مع الطرف المقابل لعباس الحلو في الغرام بحميدة: السيد سليم علوان. فنحن الآن نستطيع أن نضيف ثنائية جديدة إلى سلسلة التناقضات بينهما التي لا تنتهي؛ فقد سافر الحلو وغادر الزقاق، وبقي السيد سليم في وكالته يرسل النظر إلى الفتاة الريانة العود، و(عقدة الكرامة) تتأرجح في صدره بين التجاوز المشروع عبر الزواج، والتراجع الحميد عبر مصاهرة «الطبقات الأدنى». وأخيرًا توكل على الله — فقد شارك سفر الحلو في هذا التوكل — وتجاوز العقدة بأن همس في أذن أم حميدة بأنه انتوى «الزواج» على سنة الله ورسوله، من فتاة الزقاق الجميلة. وتألقت عينا حميدة وهي تسمع الخبر «هي الثروة التي تحلم بها، هذا هو الجاه الذي تحلم به»، «حقًّا لوح عباس الحلو لطموحها العنيف ببعض الزاد، ولكن الحلو نفسه ليس بالرجل الذي تريد»، «ولكن الحلو لم يقبض على ملاك قلبها على أية حال» … إن القدر الذي يلقى ظلاله على المأساة المصرية عند نجيب محفوظ، القدر الذي يلتقي مع مأساة الحرية في محنة الإنسان المصري مع الخبز والجنس والمعرفة، هذا القدر يصيب السيد سليم بالذبحة الصدرية ويسقط مشلولًا طريح الفراش! ولم تكن قط أزمة السيد مع جنونه الجنسي، ولم تكن قط أزمة أم حميدة مع لقمة العيش الرغدة، وإنما كانت الأزمة الأولى للفتاة الفقيرة الجميلة مع «الطريق القصير».

الفنان يستخدم «القدر» كمنظم درامي الأحداث: حسين كرشة يشير للحلو بالتل الكبير فيذهب لتسقط آماله في حافظة السيد سليم، ثم يُشل السيد لتسقط هذه الحافظة في جيوب الأطباء — وليس هذا شيئًا هامًّا — ولتسقط حميدة بين ذراعي «فرج إبراهيم» وهذا هو الشيء الهام؛ لأنه بداية الأزمة الثانية لحميدة مع الطريق القصير. أو هو المدق الجديد (بداية الممشى) إلى الطريق القصير، هو مع البداية الحقيقية لهذا الطريق. من عباس الحلو «ونور الذهب اللامع»، إلى السيد سليم «ونور الوكالة الأكثر لمعانًا»، إلى فرج إبراهيم «واللمعان اللانهائي»، كانت حميدة تخطو في ثبات غريب نحو هدفها الكبير … وكانت مصر في ذلك الحين تدعم مأساتنا السياسية والاجتماعية بانتخابات مزيفة وتهريج مبتذل (حتى إن بعضًا من النقاد جعل من حميدة رمزًا لمصر كلها). وهمزة الوصل بين مأساة مصر ومأساة حميدة تمثلت في فرج إبراهيم (كما سبق لها أن تمثلت في سالم الإخشيدي في مأساة الضائع بالقاهرة الجديدة). والشيخ درويش يلمح زفَّة المرشح الجديد فينطق بلا تردد: «الله يخرب بيتك.» وكما كان فرج إبراهيم همزة الوصل بين مأساة مصر ومأساة حميدة، فإن السرادق المقام للمرشح الجديد كان القنطرة بين الطريق الطويل والطريق القصير في حياة الفتاة. اعترض المشهد سبيلها وهي تعاني اليأس المرير «وأبت أن تسلم بسوء حظها»، «وقد بعث ظهوره في نفسها ثورة عارمة جارفة استثارت كوامن غرائزها جميعًا». فرج إبراهيم يسوقه الفنان إلى هذا المكان ليمزج بين الفساد السياسي والفساد الاجتماعي — وليس هذا بكل شيء — وهو يسوقه كواحد من خبراء الطريق القصير إلى «الحياة» في تصور حميدة. الطريق القصير — كما لا تدري حميدة — لا يدع الإنسان يعيش حياته الحقيقية؛ بل يحيا خارج جلده (كما كان الضائع والمضطهد كلاهما شخصية مزدوجة أو شخصية ملغاة … المهم أنهما لم يعيشا حياتهما المفردة الحقيقية). وهذه النقطة من أخطر معالم المأساة المصرية في المرحلة التي صاغها نجيب محفوظ. فالشخصية تتوهم أنها تحقق وجودها إذا قالت: «طظ» أو «انحنت للعاصفة» أو سارت في «الطريق القصير»، ولكنها تفاجأ بأنها «تمثل» مشهدًا هزليًّا هو في حقيقته جوهر المأساة؛ لأنها لم تعش حياتها قط. الطريق القصير إلى «المجد» في حياة حميدة يؤدي إلى الحياة اللاحقيقية منذ اللحظة الأولى، فالقواد يمثل دور العاشق، وعابدة المال تمثل دور العاشقة. فرج إبراهيم يحل التناقض الفني بين عباس الحلو والسيد سليم، فهو يجمع بين نضارة الشباب والجيب المتوَرِّم في آن واحد؛ لذلك استولى على حميدة «نزوع طاغٍ إلى المغامرة» فهفت إليه بقوة فوق إرادتها، ودعاها شعورها المتمرد إلى خوض غمار هذه المعركة «وداخلها شعور غريب بأن هذا اليوم هو أسعد أيام حياتها على الإطلاق» … وعندما يركز الفنان عينيها على يدي فرج إبراهيم التي توحي بالقوة والجمال يجب أن نتنبه إلى إحدى خصائصه في التعبير التراجيدي، وهي «الرمز» بجزئيات صغيرة إلى كليات كبيرة صانعة للشخصية بشكل عام، وللطريق القصير في زقاق المدق بشكل خاص «وقع بصرها اتفاقًا على يدها فأدركت لأول وهلة الفارق الكبير بين يده الجميلة ويدها الخشنة.» وأحبت كلماته، هو الخبير، بقلبها، هي المسحورة، كما تلعب أنامل العازف بأوتار الكمان. ومن ثم عرفت أن الزواج والأطفال ومخلفاتهما هي ملامح الطريق الطويل. أما مدرسة الدعارة التي يتشرف فرج إبراهيم بنِظارتها والإشراف على تخريج أدوات التسلية لجنود الحلفاء، فهي وحدها الطريق القصير إلى «الحياة» و«المجد». فإذا قال إن القواد هو سمسار السعادة في هذه الدنيا أيقنَت هي أنه سمسار الطريق القصير «وخفق قلبها خفقانًا متتابعًا فعضَّت على شفتيها حتى كادت تدميهما. إنها لتعلم ما تبتغي، وبما تهفو إليه نفسها. كان يجرى قبل اليوم في شعورها متقلقلًا بين النور والظلمة، ولكنه شق اليوم غشاوة الغموض وأسفر جليًّا لا لبس فيه ولا إبهام»؛ لذلك جاءت استجابتها لنداء الطريق القصير استجابة لا واعية لما تختزنه أعماقها «اختارت سبيلها بالفعل وهي لا تدري، ووقع اختيارها عليه وهي بين يدي ذلك الرجل، في بيته! كان لسانها يهدر غضبًا وأعماقها ترقص طربًا، كان وجهها يربد ويعبس وأحلامها تتنفس وتمرح! … وفوق هذا كله فإنها لم تمقته لحظة واحدة؛ لا بل لم تحتقره قط. وكان — كما لم يزل — حياتها ومجدها وقوتها وسعادتها.» وهل من سبيل إلى الإفلات من ربقة الماضي إلا بواسطة هذا الرجل؟ لقد أصبحت حياتها في الزقاق ماضيًا قبل أن تبدأ! … والحق أنها بداية النهاية. الفنان يقول بالحرف — في جملة واحدة — لقد «اختارت سبيلها بالفعل»، «وهي لا تدري»؛ الجبر والاختيار في لحظة واحدة. كما أن ماضيها المعاصر تبدَّى لها دفعة واحدة. هذه المزاوجة بين المتناقضات هي — على المستوى الفني — تركيز لموضوعية الزمن، وتحديد مُلِح لطبيعة المأساة المصرية الجامعة بين النقائض. كانت حميدة تنحدر إلى مصيرها المحتوم — يقول الكاتب — لا يعوقها من وازع إلا ما يعوق المنحدر إلى الهاوية من دقائق الحصا. وإذا كان التناقض يعني التعارض، فإذن هذا لا ينفي أن موضوعية البناء التراجيدي عند نجيب محفوظ تقوم على أساس من التعادل التام والتكافؤ الصارم بين عناصر التجربة، حتى إذا اختل التوازن بين هذه العناصر كانت المأساة. وهذا ما يجعل المنطق الصارم يؤدي — في نهاية السياق — إلى التناقض الحاد. حميدة من أجل المجد أو الحياة كما تتصورها، تنقلت من الحلو إلى السيد سليم إلى فرج إبراهيم … ولم تكن تدري قطعًا أن هذه «النهاية» لن تكون المجد أو الحياة الحقيقية. لن تعيش حبًّا حقيقيًّا، لن تتنفس هواء حقيقيًّا؛ بل «ستمثل» الحب والعشق، و«ستتاجر» بجسدها الحقيقي مقابل حياة غير حقيقية … لقد عبرت الطريق القصير في أسلوب منطقي تمامًا، فانتهت إلى نكران إنسانيتها؛ إذ أصبحت سلعة وتاجرة في وقت واحد. أصبحت سلعة بشرية من العبيد، من الرقيق الأبيض، وكانت تتوهم أنها تتخلص من عبودية الزقاق من أجل «الحرية». كانت تتوهم أنها تتمرد على العدم من أجل الحياة، فراحت تسلك سبيلها إلى الطريق القصير في خطوٍ ثابت «وأزاحت عن صدرها الغطاء الوثير، فبدا فستانها مستخذيًا خجلًا فيما يغمره من مخمل وحرير، ما أعمق الهوة التي تفصل ما بينها وبين الماضي». وقد حفظت عن ظهر قلب شعار الطريق القصير كما علمها إياه فرج إبراهيم: وما الدنيا – لو تعلمين – إلا أسماء. لذلك تحولت حميدة إلى «تيتي»، وظل القواد يضخم شعار طريقه القصيرة: الحياة فانية يا تيتي، وأجمل ما فيها كلمة حلوة، وهل دام شيء لإنسان؟ الواحد منا يشترى حق الفازلين ولا يدري أيكون لشعره أو لشعر ورثته. ومضت حميدة في الطريق القصير؛ تعلمت الرقص الشرقي والغربي وكلمات الغرام الأجنبية، وارتدت أزهى الثياب وأغلى الحلي وأكلت وشربت أشهى الأطعمة وأعذب الشراب.

الطريق القصير في حياة حميدة شارع رئيسي، ولكنه في حياة بقية شخصيات المدق شارع جانبي. لهذا تحكم تطورات الزقاق مجموعةٌ واحدة من القيم والشعارات. السيد سليم يفزع من الموت فزعًا رهيبًا، ويعد معجزة حياته أن «كتب له عمر جديد»، وزيطة يقول: لا فائدة تُرجى من الأحياء، وقليل من الموتى ذو نفع «وألقى زيطة نظرة متحجرة على الجثث المدرجة في أكفانها (وهو يزورها كثيرًا برفقة الدكتور بوشي لسرقة الأطقم الذهبية) مطروحة في تتابع وتوازٍ حتى غيابات القبر، ويرمز نظامها إلى تسلسل التاريخ واطراد الزمن، وينطق صمتها الرهيب بالفناء الأبدي.» وعباس الحلو يعود من التل الكبير — ومعه الشبكة لحميدة — ليقول «هذا يوم أغر من الأيام المعدودة في العمر.» ولكن القدر الذي أسهمت في صنعه أيدٍ كثيرة، يقول شيئًا آخر. فقد أصبحت حياة السيد سليم أبشع من الموت منذ سقط مشلولًا بفاعلية القلق المدمر على مصير الوكالة ومصير الرجولة معًا. كذلك ضبط البوليس زيطة والدكتور بوشي أثناء اقتحامهما لأحد المقابر، فقبض عليهما وسيقا إلى السجن. وعاد عباس الحلو ليستمع إلى الخبر المذهل: اختفت حميدة من الزقاق!

الحرب والموت كلاهما يمثل محورًا خطيرًا للمأساة، وهمزة وصل تراجيدية بين الزقاق والعالم. ومقهى المعلم كرشة هو «ثقب الحائط» الذي يراقب منه الفنان — بحدس الشيخ درويش — مجرى الأحداث. ألم يكن شيئًا منطقيًّا أن يحب الحلو حميدة، ثم يغامر بالسفر إلى معسكرات الإنجليز فيحضر الشبكة ويتزوج حبيبته؟ إن هذا التصور المنطقي لسير الأحداث هو التصور المألوف، ولكنَّ ثغرةً ما في هذا التصور تفاجئنا نتائجها على غير ما نحب، تفاجئنا بالفاجعة. لهذا يؤدي منطقنا الصارم إلى تناقض حاد؛ إذ عندما فتح عباس الحلو ذراعيه ليستقبل الدنيا، ارتسمت خلفه علامات الصليب … وهذا هو التصور الأعمق للمأساة.

ويترجم الفنان هذا المعنى على لسان الحلو: «أرأيت كيف يحلم إنسان بالسعادة إذ الشقاء يترقب يقظته ساخرًا هازئًا طاويًا مصيره بيديه القاسيتين.» إن التصور البشري لمنطق الأحداث تصور بسيط لا يتناسب مطلقًا مع ما أصبحت عليه الحياة الإنسانية من التشابك والتعقيد … لذلك تختل عناصر التجربة — القائمة على التعادل التام والتكافؤ الصارم كما هو الحال عند شكسبير — وتحدث الثغرة في منطقنا البسيط المألوف، وتتفجر المأساة. كان الحلو «يعيش على الفطرة لا يدري شيئًا عما وراءها، مخلصًا لقوانين الحياة الأولية، فوجد في الحب جوهر حياته وخلودها، فلما أن فقده فقد الأسباب التي تصله بالحياة». والحق أن الحلو منذ غادر الزقاق كان قد بدأ حياته الجديدة كمغامرة. أي أنَّ هرب حميدة في ذاته لا يقيم الحجة على مستقبل الحلو في الحياة؛ لأن الطاقة التي واتته على مغادرة الزقاق انطلقت نهائيًّا من مكمنها في اللحظة التي أعطى فيها ظهره للمدق. ولا ريب أن حسين كرشة هو الفتيل الذي أشعل هذه الطاقة، وما زال يشعلها حتى كان الانفجار الأكبر. حسين كرشة من شخصيات الزقاق التي جعلت من الطريق القصير شارعًا جانبيًّا، لهذا يأسف على الحرب التي انتهت وما كان يظنها تنتهي أبدًا، وينطق بنفس شعارات الطريق القصير «ربحت كثيرًا، وضيعت كثيرًا، وهذه هي «الحياة» إن أعمارنا ذاهبة فلماذا تبقى النقود؟» ومن ثم يكون الجواب هو الخمر التي كان يشربها عباس الحلو لأول مرة!

كان اللقاء حارًّا بين الحلو وحميدة عند ما كانت التناقضات بينهما في مستوًى صراعي منخفض. أما الآن فقد ارتفع مستوى الصراع إلى الذروة؛ رآها «مصادفة» تحف بها معالم الطريق القصير من شعر الرأس إلى أخمص القدم، رآها في ذروة «مجدها» و«حياتها» و«حريتها» … يكرر هنا الفنان أنها اختارت سبيلها (من بادئ الأمر) بمحض إرادتها، ثم يضيف: «وبعد تجربة وعناء تكشف لها أفقه عن أفراح وضاءة وخيبة مريرة.» وعند ما رآها الحلو (مصادفة) كانت تقف فوق «قمة الامتحان، تردد عينيها بين اليمين والشمال متحيرة متلهفة» لقد عرفت أخيرًا أنها «لكي تتمرغ في التبر ينبغي أن تتمرغ في التراب» … ويكمل الكاتب: «فلم تبالِ شيئًا». هذه المزاوجة بين الجبر والاختيار، بين السبب والنتيجة، بين المظهر والجوهر … تتفاعل هذه العناصر جميعها في مركب واحد متفرد هو التكوين الخاص بحميدة ورمزيتها إلى مأساة مصر كلها. وليست المصادفة في هذه المأساة إلا العنصر الدرامي المضاف من جانب الفنان ليمزج هذه العناصر ببعضها، ويلهب التفاعل والصراع بينها جميعًا. حميدة مضت حتى نهاية الطريق «فارتضت» أن تكون داعرة رهن الإشارة لكل عابر، ولكنها فوجئت بأنها «مقيدة» بأغلال العشق لقَوادها … ومن هذا التناقض «نجمت الخيبة المريرة التي منيت بها»، فلم يعُد القواد بالرجل الذي عرفته من قبل، وهذه هي الخيبة المريرة … حتى إذا رأته أو ذكرته انتابها إحساس بالأسر والذل. لقد فقدت حريتها من حيث أرادت التمرد على عبوديتها … ذلك أنها «اختارت» الطريق القصير الذي «أجبرها» على المضي إلى نهاية محددة. «الحقيقة المفجعة» في حياة حميدة أنها استهانت بكل شيء في سبيل الحياة، ثم اكتشفت أن حياتها سراب، ومع ذلك فالسراب في أعماقها هو الأب الشرعي للسراب في الخارج. تكوينها الذاتي الأصيل يتضمن هذه «الحقيقة المفجعة»؛ لهذا أحست أن بها جرحًا عميقًا «ولكن الجريح يعيش حتى وهو ينزف؛ بل يستطيع أن يتمتع بحياة عريضة فيها الذهب والسرور والسطوة والعراك»؛ ولهذا أيضًا كان اللقاء بينها وبين عباس الحلو مستحيلًا، لقد أفرخ التناقض بينهما صراعًا عميقًا إلى أبعد حد. ولكنها التفتت إليه عندما رأته على بعد ذراع منها لاهثًا ونادت عليه. راح بصره «يعاين المرأة الواقفة حياله بلباسها الجديد وزينتها الغريبة، متلمسًا عبثًا أن يجد فيها موضعًا للفتاة التي أحبها، فارتدَّ البصر قليلًا وتجرع قلبه غصص اليأس المرير.» وامتلأ قلبه المقهور شعورًا بتفاهة الحياة وعبثها (لأول مرة في زقاق المدق يخلق نجيب محفوظ نماذج بشرية غير مثقفة تنطق حياتها بعبث الوجود). أما هي فقد استشعر قلبها خوفًا «حيال هذا الأثر من الماضي الذي تتحاماه.» وهي تفلسف المأساة هكذا: هذا قضاء الله الذي لا يُرَد، أردتُ شيئًا وأرادت الأقدار سواه، هذه حياتي، النهاية التي لا مهرب منها، لم يعُد بوسعي الرجوع، إني لأُقر بعجزي حيال حظي ومصيري. وهو «مصير أسود» كما قال عباس. هنا — على حد قوله — «جريمة لا تغتفر»، وهنا تكفير — على حد قولها — «إني أؤدي ثمنها من لحمي ودمي.» ولم يبقَ سوى «الغفران» الحلقة المفقودة في مأساة حميدة: «لا يصح أن نشقى بلا ثمن. انتهت حميدة، وانتهى عباس.»

إذا كان الفنان يسند إلى زيطة وحسين كرشة والمعلم كرشة دورًا ما في فلسفة المأساة، فإنه يسند إلى المتصوفين من أمثال الشيخ رضوان الحسيني دورًا مماثلًا تؤهله له طبيعته كواعظ ومرشد: وما الشر إلا عجز مرضي عن إدراك الخير في بعض جوانبه الخافية، إن المصابين في هذه الدنيا هم أحباب الله، إن الله أعدل وأرحم من أن يأخذ البريء بالمذنب. وهكذا إلى بقية المحاور الخلقية التي يصوغ منها الإسلام إطارًا نظريًّا للمأساة. فالحلو لم يزل يحب الفتاة، وإن كانت أسبابها قد انقطعت إلى الأبد، وأن رغبته في الانتقام من غريمه لا تقاوم. وكان نزوعه هذا إلى الانتقام ظلًّا لتعلقه بالمرأة التي يحبها ولا يطيق هجرها. وهذا هو العذاب الذي انتهت إليه حياة عباس منذ وقع بصره على فتاة الزقاق الجميلة. نجيب محفوظ يسير مع منطقنا البسيط في تتبعٍ مسار الشخصية والأحداث، وهو يخفي علينا أشياء كثيرة. يخفي علينا أن غرام الحلو لا يعني أنه المعادل العاطفي لتكوين حميدة، ويخفي علينا أن تجارة فرج إبراهيم في الرقيق الأبيض لا تعني أنها المكافئ العقلي لشخصية حميدة … فالتعادل التام والتكافؤ الصارم بين عناصر التجربة لا ينطبقان على جوهر الشخصيات وتفصيل الأحداث، والتشابك المعقد الذي يضمها جميعًا. التعادل يتم بين الخطوط العريضة والمظهر العام … والتناقض بين العام والخاص، بين الكلي والجزئي، يولد أزمات لا نهاية لها. ومأساة الطريق القصير تبدأ من التناقض الجوهري العميق بين عباس وحميدة من جهة، وبين فرج إبراهيم وعباس من جهة أخرى، وبين فرج وحميدة من جهة ثالثة … إلى ما لا نهاية من التناقضات الصانعة للمأساة.

وتعود عقدة الكرامة كمحور خلقي في حياة البرجوازية الصغيرة — أكثر الفئات الاجتماعية إحساسًا بالنقص الاجتماعي — فتتبلور عند عباس كإمكانية في حل الأزمة يتجاوزها عبر القتل! … وتجسدت نهاية الطريق القصير حين «تصادف» أن يمر عباس وحسين أمام الحانة التي تذهب إليها حميدة (أو تيتي) للترفيه عن جنود الحلفاء المنتصرين. و«تصادف» أن كانت حميدة هناك في جلسة شاذة تشرب الخمر بين الجنود، فما كان من عباس إلا أن هجم عليها بغية قتلها (وهو الذي لم يفكر قط في مصيرها؛ بل كان همه الحالي هو التخلص من غريمه حسب الاتفاق الذي تم بينه وبين حميدة عندما رآها فور عودته من التل الكبير)، ولكن الجنود الإنجليز — وتوقف شجاعة حسين كرشة عن العمل — كانوا أسرع منه بكثير فسقط بينهم ترسم دماؤه كلمات عديدة. كلمات لخصها يوسف الشاروني بقوله: «منذ ست سنوات كان هتلر قد أعلن الحرب على إنجلترا، ثم على الروسيا، وبذلك كان مصير الملايين من البشر قد تقرر فيما تسمونه القدر. كان قد تقرر أن يموت هذا غريقًا، وأن تتثكل هذه وتترمل تلك، وأن تصبح حميدة عاهرة. ويموت خطيبها عباس الحلو مقتولًا وهو لما يزل في الثالثة والعشرين. فصراع العصر لم يعد يقتصر على هؤلاء الذين يريدونه ويعلنونه ويشاركون فيه؛ بل هو يمتد إلى الآخرين الذين لا يدلون برأي في المعركة ويحاولون عبثًا أن يتجنبوا لفح الصراع، وهكذا يشارك كلٌّ بما يملك أو يستطيع، فشاركت حميدة بجسدها، وشارك عباس الحلو بمصيره».١١ دماء عباس الحلو رسمت بدقة انعكاسات الحرب والاستعمار، وأعلنت قضية القضايا في تاريخنا المأساوي: الحرية. قُتل عباس الحلو يا أبي — يقول حسين كرشة — قتله الإنجليز! والإنجليز؟ — يسأل المعلم — فيقول الابن: تركناهم والشرطة تحيط بهم، ولكن من ذا يستطيع أن ينال منهم حقًّا؟ إذن فهو القدر؟ هو الطريق القصير في حياة حميدة، هو الحرية، في حياة عباس، أو كما يقول يوسف الشاروني١٢: «في هذه اللحظة حصل عباس الحلو على قمة تحرره وزايله فجأة تهيُّجه وتردُّده، وأحس أنه يقوم الآن بمغامرة حياته، وهي مغامرة لا يعرف لأول مرة نتائجها ولا يحسب فيها خطواته، ومن قبل كان قد غادر الزقاق على أن يعود، أما الآن فقد كان يغادر الزقاق فقط.» ويعلق الشيخ درويش: أليس لكل شيء نهاية؟! بلى لكل شيء نهاية. ويكرر نطقها بالإنجليزية، ويعيد تهجيتها حرفًا حرفًا.

إن موضوعية البناء الروائي للمأساة في زقاق المدق، يتميز عن القاهرة الجديدة وخان الخليلي بجملة أشياء، ولكنه يتصل بهما أوثق الاتصال، مهما يؤديان إليه، وهو يمتص كافة خصائصها التراجيدية ليسلك حلقة ثالثة في حلقات هذه الملحمة الفاجعة. إن الزقاق يضم الكثير من الضائعين والمضطهدين وكافة الذين يفتحون أذرعهم للحياة فترتسم خلفهم علامة الصليب. وهو يقوم على أسس راسخة من التضاد والتعادل والتخلخل الذي يؤدي إلى المأساة. غير أن أخطر ما يتسم به الزقاق هو ذلك الجو الأسطوري الذي يشيع بين جوانبه، فيكتسب رمزيته العميقة الدلالة من شخصيات كزيطة والشيخ درويش، ومن أحداث كسفر الحلو وشلل السيد سليم ومجيء فرج إبراهيم مع سرادق الانتخابات. هذا الجو الأسطوري يفوح من جميع جوانبه برائحة المأساة؛ معركة الخبز الطاحنة وأزمة الجنس الرهيبة وضراوة الجهل المطبقة على الجميع. والزقاق هو الرواية الأولى لنجيب محفوظ التي يصوغ فيها مأساة الحرية من الجماهير الشعبية المسحوقة لا من خلال نماذج المثقفين. لذلك كان الطريق القصير بالذات — لا الضائع ولا المضطهد — هو الخامة الأساسية للتراجيديا. ولذلك، أيضًا، كان للحرية والموت معنًى عميق شامل في كافة مراحل تطور المأساة. الحرب الخالقة لجيل اللاانتماء في أوروبا هي الصانعة للطريق القصير في المأساة المصرية (فهذا الطريق لم يقتصر على فئات البرجوازية الصغيرة؛ بل كان الطريق الوحيد أمام جميع فئات المجتمع المصري أثناء الحرب فيما عدا الطبقة العاملة. واختيار الكاتب للبرجوازية الصغيرة هو تركيز عنيف الجوهر المأساة). زقاق المدق هو التعبير الضخم عن تشابك الأسرة الإنسانية في العالم، وهو التجسيد الحقيقي لقاعدة المأساة المصرية: الجماهير الشعبية، فهي الجسم البشري لمأساة مصر في الحرية.

كتب نجيب محفوظ «زقاق المدق» في الفترة ما بين ١٩٤١م و١٩٤٢م، ومعنى ذلك أنه كان يتابع الحرب بفنه عامًا بعد عام، إذا استثنينا عام البداية ١٩٣٩م؛ فهو لم يكتب فيه شيئًا (إلا تكملة القاهرة الجديدة) … ويبدو أنه كان يختزن في أعماقه مرحلة «الإرهاص» للحرب، حتى إذا أقبل عام ١٩٤٢م كان قد اكتشف في تلك المرحلة السابقة «خامة فنية» لإنجاز المهام الفكرية للمأساة المصرية؛ حيث جاءت خاتمة الجانب الاجتماعي منها في «بداية ونهاية» وكأنها إحاطة شاملة لجذور المأساة وثمارها في نفس الوقت، ولهذا كان اختيار العنوان هامًّا للغاية حين أومأ الفنان بأن هذه الحلقة الرابعة في ملحمة السقوط والانهيار هي «بداية» — لأنها تصوغ إرهاصات الحرب — و«نهاية» لكونها تصوغ رؤية الفنان لانعكاسات هذه الحرب على تطور المأساة المصرية، وهي رؤية تقرب من النبوءة العلمية؛ حيث تضمنت تشريحًا دقيقًا للمحاولة الأخيرة في سلسلة محاولات البرجوازية الصغيرة، لتجاوز المأساة. فكما أن الضائع والمضطهد كلاهما يمثل النسيج الأقوى أو التجسيد الجوهري للبرجوازية الصغيرة، وكما أن الطريق القصير كان إحدى المحاولات الكبرى في تاريخ هذه الطبقة لاجتياز أزمتها … فإن الطريق المسدود في «بداية ونهاية» هو المحاولة الأخيرة اليائسة التي انتهت فيما بعد — كسابقتها — بالسراب.

كان الفنان حريصًا في الأجزاء السابقة من المأساة على تركيز الزمن تدليلًا على مأساويته من ناحية، وعمق أزمة الحرية من ناحية أخرى. فهو في خلال ما لا يزيد عن سنة واحدة يمركز الأحداث التي تؤدي إلى الحرب والموت والانهيار في بؤرة زمنية قصيرة؛ بل ويكتشف سمات العصر في شخصيات أسطورية. واتضح ذلك المنهج في التعبير بشكل خاص في «زقاق المدق»؛ حيث إن التماس أوجه الشبه بينها وبين جَو قصة «الأب جوريو» لبلزاك يخفي في ثناياه إغفالًا تمامًا لسمات العصر التي كانت تتضمنها شخصيات كزيطة والشيخ درويش، وهي سمات مختلفة تمامًا عن سمات القرن التاسع عشر في أوروبا التي استلهمها بلزاك في صياغة شخوص قصصه. وإذا جازت لنا المقارنة فإنها تنحصر في التكنيك الروائي الذي يجسد بعضًا من صفات العصر في الشخصية الإنسانية حتى لتكاد تبدو وكأنها «متشائمة أكثر من اللازم» أو أنْ «لا علاقة لها بالواقع» وغير ذلك من التعبيرات التي تفيد بأن الشخصية أسطورية التركيب؛ بينما هي في حقيقة الأمر أكثر اقترابًا من الواقع — وإن لم تكن واقعية — لأنها أكثر تمثيلًا له واستقصاء لملامحه وشمولًا في النظرة إليه.

نجيب محفوظ في بداية ونهاية بعيد تمامًا عن التركيز، هو يستغل النهاية المفتوحة في زقاق المدق — متجاوزًا المفهوم التاريخي للزمن — ويسلك حلقة جديدة من حلقات المأساة تعتمد أساسًا على فتح الذراعين وشمول جوهر المأساة — على الصعيد الاجتماعي — من البداية إلى النهاية. فهو يمتص كافة الأبعاد السابقة في الضائع والمضطهد والطريق القصير، ثم يجسدها جميعًا كتمهيد لا فرار منه إلى الطريق المسدود، المحاولة الأخيرة لتجاوز المأساة «اجتماعيًّا». من هنا سوف نلتقي بنماذج ومشاهد سبق لنا التعرف عليها فيما مضى من حلقات. لا شك أنها سترتدي أسماء جديدة وتقسيمات جديدة إلا أنها، في نفس اللحظة، تتحول إلى أنماط وأقنعة مهما اكتسبت خلال الأحداث من تفرد واستقلال. ولكن هذه النماذج كلها هي «الأرض» الفنية التي يشق عليها الفنان الطريق الجديد، الطريق الأخير، الطريق المسدود. ولكونها أرض المأساة فإنها تشترك مع بقية الحلقات في التكوين الملحمي «العام» للتراجيديا. ثمة وحدة دينامية بين جميع الحلقات، وثمة تمايز بينها أيضًا. ويتضاءل «مظهر» هذا التمايز كلما اقتربنا من نهاية الملحمة. فإن كل حلقة جديدة منها تجعل من كل ما سبقها «أرضًا». وفي تكوين الأرض تتقارب العناصر المكونة لها تقاربًا شديدًا؛ لأن تماسكها الداخلي هو الذي يتيح الفرصة لتشييد البناء الجديد … وهكذا.

لن ندهش إذا التقينا في بداية ونهاية بالبرجوازية الصغيرة وكافة القيم التي تحكم مسارها وتضبط حركتها. فسوف نلتقي بالأسرة التي يموت عائلها (الموظف الصغير) فتنبت الفتى الضائع والابن المضطهد وفتاة الطريق القصير (وإن اختلفت سماتهم عن سمات نظائرهم في الأجزاء السابقة). سوف نلتقي بالموت من اللحظة الأولى إلى اللحظة الأخيرة، والطموح المتوثب عبر الرواية كلها، والأحلام التي يضيء الفجرُ فتبدو كالسراب، والعذاب الذي لا ينقطع، وسخرية القدر المريرة التي لا تنتهي.

دور الوالدين في أعمال نجيب محفوظ دور هام (في زقاق المدق كان لهما بالغ الأهمية بالنسبة لحميدة بالرغم من يتمها … اليتم نفسه كان تبريرًا رامزًا إلى دور الأب والأم في حياة تلك الشريحة الإنسانية البائسة في المجتمع). لذلك تبدأ مأساة الضائع، محجوب عبد الدايم، مع شلل الأب، ومأساة المضطهد — أحمد عاكف — مع فصل الأب من العمل، ومأساة الطريق القصير — حميدة — مع انعدام وجود الوالدين. ومأساة حسن وحسين ونفيسة وحسنين — في بداية ونهاية — مع موت الأب وفقر الأسرة الوراثي … ألا يشي هذا الدور الهام الذي يسنده نجيب محفوظ إلى الوالدين بشيء آخر غير دورهما الاجتماعي (كسند وحيد في حماية الأسرة البرجوازية الصغيرة في المجتمع المصري)؟ ألا يقومان بدور العقيدة (كجدار سيكولوجي) في حياة الفرد يحميه من الانهيار؟ ألا يرمزان إذن — في العجز والشيخوخة والموت … إلخ — إلى افتقار الإنسان بشكل عام إلى جدار دائم يحول بينه وبين السقوط؟ إن دور «الأم» في بداية ونهاية — وفي الثلاثية فيما بعد — هو المدخل الطبيعي للإجابة على هذه التساؤلات.

«موت الأب» هو البداية الفنية للمأساة، أما استجابة كلٍّ من أفراد الأسرة وكيفية استقبالهم لها، فهي التي تشكل في تشابكها وتعقدها جوهر المأساة. حسنين يرنو إلى جثة أبيه مذهولًا «انتهى، انتهى، أبشِع بها مِن كلمة»، «ما هذا الموت؟» «أيموت الإنسان وهو يأكل ويشرب». حسين كان يبكي ولسانه يتلو بطريقة آلية بعض السور الصغيرة استنزالًا للرحمة. حسن راح يتساءل كيف حدثت الوفاة. نفيسة دفنت وجهها في مسند الكنبة وأخذت تنتفض من البكاء. الأم وحدها كانت صامتة «كانت تدرك من هول الكارثة» ما لم يدُر لواحد منهم بخَلَد. إن موقف كل شخصية من الموت بشكل عام، ومن موت الأب في هذه الأسرة بالذات بشكل خاص، كان يحدد في واقع الأمر «التكوين النفسي» المحرك لسلوكها على طول الرواية. حسنين — هذا الحائر المذهول — هو الذي تحرك لشق الطريق المسدود بكلتا يديه. هو الذي «كان يرجو لأبيه جنازة رائعة تليق بمقامه وبمكانته هو التي يجب أن يظهر بها أمام الناس. لم يكن أخواه ليكترثا كثيرًا لهذا الأمر، أما هو فكان يعد إخفاق الجنازة كارثة كالموت نفسه». كان حريصًا على ألا تقع عينٌ على القبر حفظًا «لكرامة» الأسرة: «لا مقبرة ولا يحزنون، لماذا لم يبنِ والدنا مقبرة تليق بأسرتنا؟» عقدة الكرامة دائمًا — في مأساة البرجوازية الصغيرة — هي إحساس حاد ملتهب بالنقص الاجتماعي، هي تعويض نفسي عن الخوف والجبن أمام الواقع، هي المحور الذي يمركز فيه الكاتب مأساة الطريق المسدود في بداية ونهاية. عقدة الكرامة في الحلقات السابقة أمر بالغ الأهمية، ولكنها في بداية ونهاية هي نقطة انطلاق التراجيديا. حسنين يؤكد لذاكرته أن هذا القبر المغمور في العراء سيظل رمزًا لضياعهم المخجل في هذه المدينة الكبيرة. ربما كانت الأم هي النقيض المقابل لحسنين — حسب المنهج التعبيري للفنان الذي يعتمد على التضاد — فهي وحدها التي تعرف أن نهاية زوجها تعني «لا قريب ولا نسيب، ولم يخلف الراحل شيئًا». وبين طرفي التناقض تحتل نفيسة مكانًا تاليًا لحسنين، ويحتل حسين مكانًا تاليًا للأم، ويقف حسن في الوسط ضائعًا متمزقًا كهمزة وصل تراجيدية بين الأحداث. نفيسة تقف خلف حسنين مباشرة بعيدًا عن أن تكون طرفًا في التناقض؛ لأنها تمتلك كافة أسباب التمرد: «فتاة» في الثالثة والعشرين من عمرها بلا مال ولا جمال ولا أب، فمصيرها معلق على الحافة بين الطريق القصير والطريق المسدود. ذلك أن إمكانياتها الخاصة لا تتيح لها ولوج أي من الطريقين بكل ما يتطلبان من مؤهلات. هي تقترب كثيرًا من حسنين الذي يرغب في التغيير السريع لوضع الأسرة (فربما كان الوضع الجديد يتيح لها حلًّا جديدًا لأزمتها) ومع ذلك فهي، كما يسميها أنور المعداوي، «واجهة عرض مزدوجة»؛ لها مأساتها، وتسهم في صنع مأساة حسنين. مع اقترابها الشديد من حسنين — في جوهره — تكون هي أقرب الجميع إلى الانتهاء به — ومعه — إلى ذروة المأساة! وعلى النقيض من ذلك حسين؛ إنه يقف قريبًا من أمه في الطريق المقابل لحسنين، فهما نقيضان لا سبيل إلى المصالحة بينهما، ومع هذا فهو من خلال هذا التناقض الأصيل، من خلال شخصية المضطهد (المضحي) من أجل الآخرين يتنازل عن مستقبله من أجل حسنين، أي أنه كان إحدى المحاولات الجادة للحيلولة بين حسنين ونهايته المأساوية، كان أبعد الجميع — باستثناء الأم — عن المشاركة في صنع هذه النهاية. حسن وحده هو الذي كان قريبًا للغاية من الجميع وبعيدًا عنهم في آن واحد، هو الوحيد الذي شارك في صنع حسنين وفي صنع مأساته أيضًا.

هذا التصور للبناء التراجيدي في بداية ونهاية ييسر لنا التقاط الزوايا والمواقف ذات الدلالة. يعنينا مثلًا منطق الأم في استقبال الكارثة «مصيبتنا فادحة، ليس لنا إلا الله، والله لا ينسى عباده.» نفيسة قالت: «لا أحد يموت جوعًا.» حسن — الذي كان الضحية الأولى لفقر أبيه وتدليله — فهجر المدرسة فور توالي سقوطه وطُرد من أعمال كثيرة وأصبح شريدًا، حسن هذا ظل سادرًا مستهترًا حتى فاجأه موت الأب، فاستقبل الكارثة بمنطق المعارضة للأم «أنت تقولين إن الله لا ينسى عباده، وأنا عبد من عباده. فلننظر كيف يذكرنا. لماذا أخذ والدنا؟ لماذا يعلن عن حكمته على حساب أمثالنا من الضحايا؟» حسنين اتخذ جانب المعارضة — في مستوى آخر — حين أقبلت المناسبة واقترحت الأم أن ترتزق نفيسة من الخياطة، فقال بحدة «لن تكون أختي خياطة، كلا، ولن أكون أخا لخياطة» … إذن فهناك عدة مستويات تتدرج خلالها الأزمة، فتتخذ أشكالًا متنوعة للتعبير عن نفسها. فمن لحظة التفكير في الموت كمشكلة ميتافيزيقية، إلى الوقوف أمامه كمحنة اجتماعية، تختلف الشخصيات وتتقارب وتتطاحن وتلتقي، كخيوط تتوازى وتتشابك وتتعقد إلى أن تتبلور القضية التي يعرض لها الفنان بالمناقشة في خطوط واضحة أشد الوضوح مهما الْتوَت أو تعرجت، قصرت أو طالت. عندما يقول حسين: «الحق أننا نغالي في تحميل الله مسئولية مصائبنا الكثيرة. ألا ترى أن الله إذا كان مسئولًا عن موت والدنا فليس مسئولًا بحال عن قلة المعاش الذي تركه.» نضع أيدينا بهذه الكلمات على أحد مستويات التمرد على المأساة.

  • حسين بالذات هو الابن الأكبر (كأحمد عاكف) الذي يُكلف تلقائيًّا يحمل العبء بدلًا من رب الأسرة الميت. وهو الذي يضحي بمستقبله الجامعي (كأحمد عاكف أيضًا) من أجل أخيه الأصغر. حسين يرقب الأزمة بحساسية اجتماعية مرهفة فينظر إلى كافة الأمور نظرة المصير الشامل للمجموع: يستذكر ويجتهد لينجح، يتوظف بالبكالوريا ولا يتزوج لينفق على الأسرة، يتنازل عن حبه من أجل أخيه الطموح، ثم يعود إلى نفس الحب لنفس السبب. حسين إذن موقف من المأساة أو هو أحد الحلول المطروحة للأزمة … فماذا كان مصير هذا الحل؟

  • لنتتبع حلًّا آخر ممثلًا في حسنين؛ هو شخصية مزدوجة يمثل أمام التلاميذ دور الفتى الثري، وأمام الأسرة دور المنقذ من الهاوية، وأمام المجتمع دور البطل «متاعبنا تتلاحق بحيث لا تدع لنا وقتًا للتفكير في الحزن» … حسنين بالذات هو الابن الأصغر المدلل، يرغب في دخول الحربية مهما كلفه ذلك من ازدواج الشخصية ومد اليد إلى أكثر الإخوة ضياعًا أو الفتاة الوحيدة الممزقة. حسنين لا يملك حلًّا سوى «ركوب» الطبقات العليا في المجتمع، التسلق على كتفي امرأة أرستقراطية تضمن له أن يتجاوز عقدة الكرامة بشرف! ثورته على المجتمع والسلطة منذ كان يهتف في المظاهرات ضد تصريح هور (ابن الثور) تنتهي إلى طريق مسدود هو التسلق البرجوازي عبر المصاهرة … فماذا كان مصير هذا الحل؟

  • حسن مريض بالفن، بتأوُّهات الأستاذ علي صبري على وجه التحديد. وحسن لا يتجلى إلا إذا استشعرت أعضاؤه بالتحدي والاستفزاز. لذلك فهو يمزج الفن بالبلطجة بعشق المومسات بإمداد الأسرة شيئًا ما في المواسم. وهو يتصور مجرد بُعده عن البيت غنيمة للأسرة؛ إذ لا يكلفهم شيئًا. ويوافق أن تعمل أخته خياطة، ويهلل لتخرج حسين وتوظُّفه ويمده بما يمتلك لقضاء الشهر الأول من التوظف، ويفرح لرغبة حسنين في الالتحاق بالحربية ويمده بمصروفات القسط الأول، ويعتقد أن الأسرة بذلك قد أمِنت عوادي الزمن في ظل الرابطة المتينة التي تجمعهم في شخصية الأم الحازمة … فهل كان هذا حلًّا من «الضائع الأبدي»؟ وما مصير هذا الحل؟

  • نفيسة توافق بعد جهد يسير على العمل كخياطة — تحت ضغط الأمعاء الخاوية — كما توافق بعد جهد مماثل على الذهاب مع ابن البقال المجاور لمنزلهم إلى الشقة تحت مُغريات الزواج، وهي تقرض حسنين ما يفيض عن حاجتها وحاجة الأسرة من نقود حتى يستطيع أن يبدو في المظهر اللائق به … فهل أسهمت حقًّا في حل الأزمة؟

  • والأم، بتدبيرها وحزمها وسياستها الاقتصادية التي لا تلين أمام العواطف، حرمت ابنيها من المصروف اليومي، وهي التي اقترحت أن تعمل ابنتها خياطة، ونزلت إلى الدور الأرضي في شقة رخيصة، وباعت الكثير من أثاث الشقة، وحرصت على استبعاد أية كماليات من الميزانية، حتى «النور» اعتبرته من الكماليات. فهل أسهمت هي الأخرى في حل الأزمة؟

هذا التخطيط لموقف الشخصيات من المحنة الشاملة لمصيرهم جميعًا، موقف الجزء من الكتل. يبقى بعدئذٍ تخطيط مقابل، يضع في اعتباره أن هذه الأزمة العامة انعكست على الأفراد بشكل يختلف من فرد إلى آخر حسب تكوينه الذاتي، ومن ثم كان لكلٍّ منهم صفاته الخاصة التي تستمد أصولها من المأساة المشتركة ومن شخصياتهم المفردة معًا. التخطيط المقابل يرسم خطًّا بيانيًّا لدور «الكل» بالنسبة للجزء، موقف المجموع بالنسبة للفرد. ومع ذلك تنقص الخريطة الفنية للمأساة عناصرُ المناخ السياسي والبيئة الاجتماعية والحضارة الفكرية ودور الشرائح الطبقية الأخرى. فهذه كلها تحيل التخطيطات النظرية السابقة إلى شبكة معقدة من المصاير والأحداث والقيم التي تتداخل فيما بينها وتتفاعل وتتصارع لتؤدي في النهاية إلى جوهر المأساة.

الموت كمأساة اجتماعية يحدد معنى الزمن والقدر على ضوء الواقع السياسي والاقتصادي في المجتمع. بمعنى آخر تتوارى الأصداء الميتافيزيقية للموت إذا ألحت المشكلة الاجتماعية على شعب ما كالشعب المصري، ويصبح الزمن هو الجسر الممتد عبر طريق طويل من الأحلام إلى القبور المعدة لها. ويصبح القدر هو النظام الصارم الذي يستقل بقوانينه الخاصة عن إرادة الإنسان، فتُمسي هذه الإرادة بلا نصير في العالم، إلا إذا تعرفت على القوانين الضابطة لحركة المجتمع وسيطرت عليها لمصلحتها. (والنماذج التي تلتقي إرادتها مع «معرفة» تلك القوانين وتناضل من أجل السيطرة عليها، نماذج نادرة في البرجوازية الصغيرة. وسوف يرد الحديث عنها في الفصل القادم). التقاء الإرادة الإنسانية مع القوانين الموضوعية التي تصوغ النظام الاجتماعي على نحو معين، فالصراع مع هذه القوانين من أجل تغيير هذا النظام من شكله المأساوي إلى الشكل الأكثر تقدمًا هو الطريق إلى الحرية. (ولا يكتشف هذا الطريق سوى المنتمي إلى اليسار الذي لا يشكل النسيج الأساسي في بنيان البرجوازية الصغيرة). وإذن فإن مأساة الضائع والمضطهد والطريق القصير — والطريق المسدود — أولئك الذين يشكلون النسيج الأساسي في شريحة البرجوازية الصغيرة — مأساتهم تنبع من داخلهم، من طبيعة تكوينهم الأيديولوجي والنفسي الذي يعاني ويلات أزمة «المعرفة» — همزة الوصل بين الإرادة والقوانين الاجتماعية — هذه الأزمة التي تبلغ ذروتها في تجاهلها المطلق وحسبان أن الجنس والخبز هما جوهر مأساة الحرية. ولا شك أنهما عنصران أساسيان — فهما يرمزان إلى إشباع احتياجات الإنسان، ولكنهما لا يكتملان إلا بالمعرفة … لذلك كانت حميدة في زقاق المدق، عبر طريقها القصير، نموذجًا للتمرد المنحرف، كما أن حسنين، في طريقه المسدود، هو النموذج الثوري المنحرف … ومهما قيل في حميدة أو حسنين، فسوف يظل لهما شرف المحاولة لتجاوز المأساة. (ولعل مأساة البرجوازية الصغيرة كامنة في طبيعة تكوينها العضوي، فنسيجها الأساسي من الضائعين والمضطهدين وهواة الطريق القصير أو الطريق المسدود. وهؤلاء جميعًا يرغبون في «تجاوز» المأساة، لا في العبور من قلبها كما يفعل المنتمي اليساري).

شعارات البرجوازية الصغيرة المتقاربة تعكس مجموعة القيم التي تتحكم في مسار هذه الطبقة. فعندما تتساءل نفيسة: «لماذا خُلقنا أسرى أذلاء للغذاء والكساء والمسكن؟» فإنما تردد نغمة قديمة سبق أن سمعناها في القاهرة الجديدة وخان الخليلي وزقاق المدق … ولكن إذا همس أحد أفراد الأسرة — حسن — لنفسه: «لم أسمع عن إنسان مات جوعًا.» فإن الجميع يرددون في أعماقهم صدى هذه الكلمات إلا واحد فقط، إلا حسنين. ذلك أن الفنان كان قد أعد هذه الشخصية لافتتاح الطريق الجديد. أعده من حيث التكوين الذاتي «الطموح، ازدواج الشخصية»، وأعده من حيث التكوين الاجتماعي «ابن المرحوم كامل أفندي علي، الذي ترك معاشًا قدره خمسة جنيهات شهريًّا»، وأعده من حيث التكوين الثوري. سأل أخاه عن صديق والدهم أحمد بك يسري: «خبرني كيف صار ذلك البك غنيًّا.

– لعله وجد نفسه غنيًّا.

– يجب أن نكون جميعًا أغنياء.

– وإذا لم يمكن هذا؟

– إذن نثور.»

لقد أعد الفنان مأساة حسنين من داخله ومن خارجه، من صميم تكوينه الذاتي وتكوينه الاجتماعي على السواء. فقد أسهم طموحه وازدواج شخصيته في أن يسلك طريقًا غريبًا على الثوري الصحيح، طريقًا يفتقد همزة الوصل بين الإرادة الإنسانية والقوانين الموضوعية للمجتمع، طريقًا يفتقر إلى «المعرفة»، لا إلى الخبز والجنس فحسب، طريقًا لا يوصل إلى الحرية. سلك حسنين طريقًا مسدودًا بفاعلية تكوينه الذاتي المنحرف. كذلك أسهمت الأسرة بفقرها المتوارث في شق هذا الطريق بالأخ الأكبر حسن، الذي فضل أن يشتغل بلطجيًّا على أن تعوله الأسرة، بنفيسة الأخت الدميمة التي فضلت أن تشتغل خياطة بدلًا من أن تشتغل الأسرة كلها بالتسول. وبفاعلية هذا التكوين الاجتماعي السيئ لم يتردد حسنين في شق طريقه المسدود.

نفيسة — كما يصفها أنور المعداوي — «فتاة لا تستطيع أن تحلم ككل الفتيات بالشاب الذي يمكن أن يطرق بابها يومًا ليتخذها شريكة لحياته. إنها بمعنًى آخر محرومة من نعمة الشعور الأنثوي بأنها مطلوبة. وإذا كان الناس عادة يطلبون الجمال أو يطلبون الغنى الذي يعوضهم عن الجمال، فهي ليست جميلة وليست غنية. والفقر والدمامة معناهما الحرمان من الطلب.»١٣ وقد وصفت هي مأساتها في جملة واحدة حين قالت: «لا جمال ولا مال ولا أب.» وهي قريبة الشبه من حسنين كما قلت؛ فشخصيتها لا تلبث أن تزدوج فيصبح الكذب هو الحائط الوهمي بين الكرامة والضعة. وعندما عرفت طريقها إلى العرائس لتجهيز ثيابهن، كان أنفها يمتلئ برائحة الحرير الجديد فتشعر للَمسِه وهو ينزلق بين أصابعها بإحساس غريب «فيه اشتهاء وفيه ألم». من هنا كانت تقيس نفسها بإخوتها الذكور، فتنضح المقارنة بمرارة قاسية: إني ميتة كأبي، هو في باب النصر، وأنا في شبرا. لهذا كان شوقها إلى عاطفة أي شخص آخر يعانق قلبها، شوقًا طاغيًا. لقد طغت مرارة أعماقها على لسانها سخرية لاذعة من الناس ومن نفسها، فاشتهرت بالعبث الضاحك، ولكنها لم تحظَ طوال حياتها بقلب يحنو عليها. لذلك كانت تملك الاستعداد الكافي لأن تهوى أي إنسان — أيًّا كان — يبدي نحوها ميلًا.

ولم يكن سلمان بن جابر البقال سوى «أي إنسان» أبدى نحوها ميلًا ومس دون أن يدري جرحها الدامي حين أخبرها أنها أجمل فتاة رآها في حياته «وانساقت إلى تشجيعه بدافع من عواطفها المشبوبة المكبوتة، ويأسها الخافق، والرغبة في الحياة التي لا تموت إلا بالموت. وبات مع الأيام صورة مألوفة؛ بل محبوبة. أنبتت لها في جدب الحياة زهرة مترعة بالأمل.» أما سلمان، هذا الفتى الذي هو أي إنسان «لم تكن عينه العاشقة من العَمَى بحيث تراها جميلة، ولكن كان من أبيه المستبد في ضيق وحرمان، فرحب بهذه الفرصة التي تتيح له الممكن من الحب. فتًى! في مثل حالها من اليأس والدمامة والعجز، وجد فيها، مهما تكن، أنثى تنتسب للجنس المحبوب العزيز المنال» … هذه المفارقة هي أسلوب الفنان في التعبير عن معنى المأساة. في المستوى الطبقي يستشعر موظفو البرجوازية الصغيرة تعاليًا على أصحاب المهن الحرة (ولنذكر موقف أبناء السيد سليم من وكالة والدهم في زقاق المدق، أي بين أبناء الأسرة الواحدة) لذلك كان سلمان هو مجرد أي إنسان بالنسبة لنفيسة — في أوائل عهدها بالحب — ومع هذا فهو أيضًا كان يرى فيها مجرد أنثى! أي أن كليهما ينتسبان إلى نقصٍ ما في التكوين النفسي أو الاجتماعي — ومن هنا يلتقيان على صعيد العجز والرضا بالقليل — ولكنهما في نفس الوقت لا يرى الواحد منهما في الآخر كُفُؤًا له من وجهتَي نظر مختلفتين؛ هي الجانب الطبقي عند نفيسة، وهي الجانب الجنسي عند سلمان. ومن هنا لا يدوم اللقاء بينهما على صعيد الزواج «كان يبدو لها دائمًا، على دمامته وحقارته، فتًى رائعًا لحرارة عاطفته وشدة انكبابه عليها، وكانت لهذا تحبه من أعماقها؛ بل كانت مجنونة به. واعتقدت أنه الحبيب الأول والأخير، ليس لها سواه، ولن يكون لها سواه، فتعلقت به بقوة الأمل، وبقوة اليأس، وأحبته بأعصابها ولحمها ودمها، ووجدت فيه غرائزها المشبوبة العارمة أداة نجاة تنتشلها من الأعماق. كان أول رجل بعث فيها الثقة، وطمأنها إلى أنها امرأة كبقية النساء» … ولعل المقارنة الثانية التي يعتمد عليها الفنان، في بلورة أزمة التناقض بين نفيسة وسلمان، أن الثقة والطمأنينة التي بثها في روحها لم يكن هو يمتلك مثلها. فقد كانت مصلحة والده كتاجر أن يصاهر تاجرًا آخر لا يستطيع سلمان أن يرفض ابنته. والمفارقة الثالثة أن تذهب نفيسة. لتجهيز ثياب العروس، وأن يكون حسن مطرب العرس! هذه المفارقات تصوغ مأساة نفيسة «رضيتُ بالهم، ولكن الهم لا يرضى بي.» ونفيسة لا تحب الحياة المليئة بالمخاوف، فزادها الخوف تعلقًا به … بلا جدوى! فإذا تراكمت هذه التناقضات واشتد صراعها «جاءت لحظة فشعرت بأن باطنها ينقلب رأسًا على عقب، وأنها تغوص في أعماق ما لها قرار»، هي لحظة التحول الشامل، لحظة التغير الكيفي العميق في حياتها من نفيسة الأزمة إلى نفيسة المأساة. فلم تعد فتاة فقيرة دميمة أبوها ميت فحسب؛ بل أضحت امرأة لا تملك أحلام العذارى، امرأة بلا مستقبل «شريف» و«كريم» كما تفهم طبقتها الشرف والكرامة. فهي من حيث أرادت تجاوز «الكرامة» الطبقية وأحبت ابن البقال رغبة في شرف «الزواج» فقدت الكرامة والشرف كليهما في لهيب حرمانها الطويل. كيف أسهمت نفيسة بفقدانها الكرامة والشرف في مأساة حسنين؟ لقد كانت عنصرًا هامًّا في التكوين الاجتماعي لحسنين، فكيف أسهم هذا العنصر في صياغة الطريق المسدود؟

الكرامة والشرف وبقية القيم الأخلاقية تحرص البرجوازية الصغيرة أكثر من أي فئة اجتماعية أخرى على الانفعال بها في مواجهة بقية الفئات. أكثر أبنائها ضياعًا حين يقول: «إني أعيش في هذه الدنيا على افتراض أنه لا يوجد بها أخلاق ولا رب ولا بوليس.» فإنه لا يتوانى عن الانفعال بالقيم إذا رأى الأسرة تستنجد به في إحدى مصائبها. والكرامة — بالذات — من دون الأخلاقيات البرجوازية، يجسد الفنان عقدتها في الأسرة كلها كمحور لعلاقتها بالفئات الاجتماعية الأخرى. ربما كانت علاقة الند للند قبل وفاة كامل أفندي علي كما هو الحال بينهم وبين أسرة فريد أفندي، أو هي علاقة من أسفل إلى أعلى كما هو الحال بينهم وبين أسرة أحمد بك يسري … وهكذا.

عقدة الكرامة شاركت في تأزم نفيسة منذ البداية: «لست إلا خياطة، ليست كرامتي التي تعز عليَّ، ولكن كرامتك أنت يا أبى.» ثم عاودها هذا الشعور الثقيل الرهيب بأنها تموت «كيف تقاوم هذا الانحلال والتهدم الساريين في روحها وجسدها؟ ما هي بخيبة الحب، هي خيبة الحياة كلها»، أو كما يقول الكاتب: انحدار يعقبه انحدار ولا تدري أين يقف «لقد انتهت. انتهت بلا أدنى ريب»، «كانت شيئًا وليست الآن شيئًا على الإطلاق. عدمٌ مخيف ويأس قاتل»، «فقدت سلطان الإرادة على جسدها وروحها وعواطفها». عقدة الكرامة شاركت في أزمة نفيسة، وحولتها إلى مأساة، ومأساة نفيسة شاركت في تحويل حسنين إلى الطريق المسدود.

ويلاحظ هنا أن معظم فتيات البرجوازية الصغيرة في ملحمة نجيب محفوظ (إحسان، حميدة، نفيسة) يرغبن في الزواج كحل اقتصادي ونفسي، ولكنهن ينتهين إلى دنيا العاهرات كحل يرضي أمعاءهن (كما في حالة إحسان)، وأنفسهن (كما في حالة حميدة)، وأجسادهن (كما في حالة نفيسة)، عقدة الكرامة حولت نفيسة إلى مومس من حيث أرادت أن تكون زوجة «متواضعة»، نفيسة بعينها كانت جزءًا من عقدة الكرامة في حياة حسنين. الكذب هو عماد الشخصية المزدوجة، والكذب هو حذاء ابن البقال الذي هوى به على رقبة بنت الموظف، ومن ثم بدا لها الأمر «كحلم، أو هذيان مرضى، أو حال لا تمت بصلة إلى عالم الحقيقة»، «والغالب أن الدنيا كذبة كبيرة» … هذا التمزق بين الواقع والحلم، بين الكبرياء الزائف والضعة الحقيقية هو الذي بعث في نفسها رغبتين متناقضتين تناوبَتاها تناوبًا متواصلًا: رغبة في التمرد والجموح، ورغبة في الاستزادة من الظلم والتعذيب حتى الموت. إنها تناقضات الشخصية الحية في أدب نجيب محفوظ، وهي تناقضات الشخصية الإنسانية البعيدة عن الجو الأسطوري. بداية ونهاية لا تخضع في بنائها الفني إلى شكل الأسطورة؛ فشخصياتها تقترب في الكثير من الواقع المرئي المباشر، والزمن لا يتركز في بؤرة قصيرة المدى؛ بل يمتد إلى ثلاث سنوات، والأحداث ليست مسوقة بمبررات شاذة؛ بل تتشابه مع منطق الحياة اليومية المألوف. ومع ذلك — كما يريد الفنان أن يقول — تتفجر المأساة. أي أنه يخلق مستويات عدة للتثبت من وجود المأساة في نسيج الحياة، سواء تركزت ألوان هذا النسيج في حزمة أسطورية من الخيوط الإنسانية بشخصياتها وظروفها وأحداثها، وسواء تناثرت هذه الخيوط وتخففت من قيود الرمز وثقل سمات العصر. لهذا كانت بداية ونهاية قوسين كبيرين يضُمان تفاصيل المأساة المصرية — في مرحلة معينة — بإرهاصاتها ونتائجها التي حددت معالم الطريق الأخير أمام البرجوازية الصغيرة لتجاوز المأساة. من أجل هذا تستحق الدنيا — تقول نفيسة — أن تكون طعمة للنيران «ولن تكون أحمى من النيران التي تلتهم قلبها»، فهي إذن شخصية رامزة إلى داخلها ومشاركتها في مأساة حسنين فقط … أي إنه لا علاقة لها بمفردها بأي معنًى مجرد خارجها. والمعنى المجرد — أي جوهر المأساة — نحصل عليه من اضطراب الأحداث والشخصيات فيما بين البداية والنهاية. وإذا كانت المفارقة هي الأساس التعبيري عند نجيب محفوظ، فإنه يقوم باختيار شخصيتين متناقضتين لإيضاح المعالم الشاملة للقطاع الاجتماعي الواحد. ففي ظل الأب والجمال تعيش بهية في الدور العلوي الذي تقيم نفيسة في أسفله (وهي الفتاة التقليدية عند الكاتب في صياغة التناقض بين الأخ الأكبر والأخ الأصغر إزاء الحب)، وهي الفتاة التي تصوغ التناقضات واللقاءات بين أسرتها وأسرة حسنين. فقد طلب والدها إلى حسين وحسنين — عن طريق أمهما — أن يعطيا درسًا لابنه الصغير مقابل مصروفهما الشهري. وفي هذه الأثناء نشأت العاطفة بين بهية وحسنين، فتمت خطبتها له بالرغم من أنه كان ما يزال تلميذًا في الثانوي. وفي هذه الأثناء أيضًا كان فريد أفندي — والد الفتاة — يتكرم بالهدايا الموسمية على أسرة جاره السابق وصهره اللاحق … مما تسبب في تضخم عقدة الكرامة عند حسنين تضخمًا لم يكن يلاحظ منه سوى جزئيات مظاهرِه. حتى إذا تراكم هذا التضخم بين تلافيف اللاشعور كان الانفجار المأساوي في حياة الأسرة كلها.

إذا كانت نفيسة قد أسهمت في صنع مأساة حسنين من خلال مأساتها الخاصة بشكل عام، وعقدة الكرامة بشكل خاص، فإن حسن كان العنصر الآخر في التكوين الاجتماعي لحسنين، الذي شارك في صنع طريقه المسدود. حسن أصبح فتوة أحد الأحياء الشعبية بفضل قواه البدنية، وظل يعيش برفقة إحدى المومسات بدرب طياب حياة تعيسة قوامها الخوف المستمر «ليست أمي وحدها التي تكابد من حياتها المرة في سبيل العيش.» المعارك العضلية والمخدرات وقطع الطرق هي وسائل الضائع الأبدي لكي يحيا مجرد الحياة. حسن — بمأساة ضياعه — كان يزيد بالرغم منه عقدةَ الكرامة عند حسنين تضخمًا.

نفيسة أحست أن العجلة دارت بها منذ لحظة التحول التاريخية في حياتها، وأن هذه العجلة غير قابلة للتوقف — تمامًا كما هو الحال في شأن حسن — شعاراتها: لن أخسر جديدًا، ليس ثمة ما أخاف عليه، لم يعد ثمة أمل على الإطلاق. «على أن الأمر لم يكن مجرد يأس فحسب، فهناك هذه الرغبة المشبوبة التي تشتعل في دمها ولا حيلة لها فيها. وكلما استنامت إلى قبضة اليأس شكَّتها في الأعماق كشوكة مستعِرة، وأدركت بغريزتها أنها لن تتراجع، سلمت تسليمًا نهائيًّا، وانتهى في تلك اللحظة الصراع العنيف المحزن الذي نشب في قلبها منذ أسابيع»، «ما ألذ الغزل ولو كذب»، «حال مخزية، ولكنها ترد إليها اعتبارها كأنثى مهيضة الجناح». وتهمس لنفسها حول رغبة عابر سبيل «ليته يدري من أنا، ومن كان أبي.» عقدة الكرامة تستمر في صياغة الطريق المنحدر إلى الهاوية بقوة الدفعة الأولى من ناحية، وبقوة اليأس من ناحية أخرى. نفيسة، لهذا، تختزل في تكوينها كافة صور المأساة، هي ضائعة كمحجوب عبد الدايم (اللامبالاة بالقيم تحت ضغط الإرهاب الاقتصادي)، وهي مضطهدة كأحمد عاكف (الإحساس بالظلم، واستعذاب الألم، وتمني الدمار للعالم)، وهي من زبائن الطريق القصير كحميدة (اختيار الدعارة وسيلة ارتزاق المعِدة والجسد). وهي لذلك مزيج من المغامرة والاستسلام، وهي من المقدمات الأساسية للطريق المسدود. نفيسة إذن هي البداية والنهاية، هي القوسان اللذان يضمان أو يلخصان تفاصيل المأساة كخاتمة تراجيدية للملحمة على الصعيد الاجتماعي.

المناخ السياسي يشترك مع نفيسة وحسن في حفر الطريق المسدود أمام حسنين. فالقصة تبدأ وما تزال صدى المظاهرات تهتف ليسقط «تصريح هور. ليسقط هور ابن الثور» وما يزال الناس يترحمون على شهداء الآداب والزراعة ودار العلوم «لا بد من التضحية؛ فالدم هو اللغة الوحيدة التي يفهمها الإنجليز»، وفي منتصف الرواية يصيح حسن في وجه حسين «إني أدرك الآن لماذا تفتح الحكومة المدارس. إنها تفعل كي تبغض لكم اللحوم فتأكلها دون منافس.» وإذا استنكرت الأم دماء السياسة والمظاهرات صرخ حسنين: إن الأوطان تحيا بموت الأبطال. ولم يألُ جهدًا في تبرير الاستشهاد بما حدث حينذاك من جمع الشمل في جبهة وطنية شرعت في المفاوضات وانتهت إلى اتفاق أدى بدوره إلى ما يشبه الارتياح. لذلك استطرد حسنين قائلًا: لقد عشت يا أماه نصف قرن في ظل الاحتلال، فلندعُ الله أن يمد لنا في عمرك نصف قرن آخر في كنف الاستقلال.»

والمناخ الاجتماعي لا ينفصل عن المناخ السياسي في المشاركة بنصيب ما في صنع المأساة؛ لذلك يختار الفنان أسرة أحمد بك بسري كنموذج للطبقة الأعلى في اصطدامها مع الطبقة الأدنى (ويبدو أن هذا أسلوبه في التعبير عن الصراع الطبقي كما لاحظنا في القاهرة الجديدة بين محجوب وقريبه الثري وابنته الأرستقراطية). حسين يزور أحمد بك برفقة أخيه ليبحث له عن عمل (تمامًا كما حدث لمحجوب)، فيصطدم تكوينه الذاتي بتلك الطبقة العالية وجهًا لوجه، فترتسم عليه مجموعة من علامات الاستفهام: هل يثير موت رجل كأحمد بك حزنًا في نفوس ورثته؟ لماذا لم يكن أبونا غنيًّا؟ لماذا لا نثور ونقتل ونسرق؟ ويجيب نفسه بأسى: «أيقنت الآن فحسب، وبعد أن تنسمت عبير الحياة الحقة في هذه الفيلَّا، أنه من الظلم أن نعُد أنفسنا بين الأحياء.»

المناخ السياسي والاجتماعي حركة مستمرة الغليان لا تعرف السكون. تستمد الحركة تخطيط مسارها من طبيعة اللقاء بينها وبين البشر، فالصورة لا تكتمل إلا بالفعل ورد الفعل معًا. كيف استجابت الشخصيات لهذا المناخ؟ وماذا أكسبها من صفات جديدة؟ وكيف تفاعلت مع غيرها؟ حسن — الضائع الأبدي — كان يردد فيما سبق: مثلي لا يضيع في الحياة! أية سخرية من الفنان أن تنطق هذه الشخصية بما يتناقض تمامًا مع واقعها. لقد اعترف حسن بعدئذٍ — بينه وبين نفسه — أن الحصول على لقمة العيش أمرُّ من العلقم. ومع هذا لا يتردد في أن يعطي أخاه حسين — فور حصوله على البكالوريا — أساور عشيقته ليقضي شهره الأول في التوظف بمدينة طنطا. حسن نفسه لا يتردد في أن يعطي حسنين كل ما يملك لتسديد أقساط الكلية الحربية! أما حسين فكان أشبه الأبناء بأخلاق أمه في صبرها، عقلها، وإخلاصها، لنسمعه الآن يقول: «إننا نأكل بعضنا، ينبغي أن نسر بتهريج حسن وعبثه ما دام يجيئنا كل شهر بفخذ خروف. وينبغي أن نسر بأختنا الخياطة ما دامت تعد لنا لقمتنا الجافة (ما أشبه دورها بإحسان في القاهرة الجديدة). وهذا الشاب المتذمر ينبغي أن يسر بانقطاعي عن التعليم ما دام سيتم تعليمه هو. يأكل بعضنا البعض. أي وحشية. أي حياة! لعلي لا أجد إلا عزاء واحدًا وهو أن قوة أكبر منا جميعًا؛ تطحننا طحنًا وتلتهمنا التهامًا، وإننا نصمد ونقاتل.» نفيسة كانت تقول: لا أحد يموت جوعًا. وقد أثبتت صدق هذا القول وهي تبيع جسدها مقابل قروش من ناحية، ولذتها الخاصة من ناحية أخرى، فأصبحت «تمثل بنفسها أفظع تمثيل»، أو كما يقول الفنان: قُضي عليها أن تقضي على نفسها. حسنين قال بسخط: إن من يستسلم للأقدار يشجعها على التمادي في طغيانها. ولا يصل به السخط إلا إلى نهاية الطريق المسدود.

إن جميع هذه التفاعلات بين مختلف الشخصيات والمناخ السياسي والاجتماعي تشكل موقف كلٍّ منها إزاء القدر. أي إن هذا المناخ — بالتحديد — هو القدر عند هذه الشخصيات. وجميعهم بلا استثناء يمزجون المغامرة بالاستسلام على درجات متفاوتة. ويبدو أن اختيار الفنان لشخصية حسين كان عاملًا هامًّا في تجسيد مشاعر الأسرة في رابطة قوية هي الأم، فهو أقرب الأبناء إليها من ناحية القلب والفعل. والكاتب يستخدم طبيعته في التضحية ليهمس لنا بأولى نتائج التفاعل بين القدر والأسرة: «يا للعجب! إن مصر تأكل بنيها بلا رحمة. ومع هذا يقال إننا شعب راضٍ. هذا لعَمري منتهى البؤس. أجل غاية البؤس أن تكون بائسًا وراضيًا. هو الموت نفسه. لولا الفقر لواصلت تعلُّمي، هل في ذلك شك؟ الجاه والحظ والمهن المحترمة في بلدنا هذا وراثية. لست حاقدًا، ولكني حزين. حزين على نفسي وعلى الملايين. لست فردًا، ولكني أمة مظلومة.» إنه يتجاوز أسوار المضطهد في خان الخليلي إلى مدى أكثر عمقًا ومأساوية، فالاضطهاد لا يستحيل مع تكوينه الخاص إلى عقدة الاستشهاد؛ بل يغمس آلامه في أحزان الآخرين، وينظر إلى الغد بعين المجموع: «كلا، لست حاقدًا ولا يائسًا أيضًا، وإذا كانت فرصة التعليم العالي قد أفلتت من يدي، فلن تفلت من يد حسنين، وربما وجدت نفيسة الزوج المناسب، سوف ترد الروح إلى أسرتنا فنذكر أيامنا السود بالفخار» … حسين — بهذه الكلمات — يقف على الحافة الحادة بين المضطهد والمنتمي، يتجاوز الانعكاس الفردي للمأساة فيصبح الأخ الأصغر منقذًا لا غريمًا. ولا يكون ثمة حقد وعبقرية شهيدة؛ بل تطلُّع متفائل إلى المستقبل ومشاركة اختيارية في صنعه. وهي مشاركة تنبع أساسًا من تكوينه الذاتي الذي تمور به التضحية بعقدة الكرامة بالوطنية. إنه كفرد من أفراد هذه الأسرة يعاني ويلات عقدة الكرامة؛ فقد ذهبت إليه والدته ذات يوم في طنطا، وحين عاد معها إلى المحطة ليقطع لها التذكرة مودعًا «عز عليه أن يراها منزوية في العربة الحقيرة وسط البؤس والبائسين وعاد إلى البيت كثير الهم والفكر»، وإذا سئل: هل سمعت عن شخص واحد بمصر مات جوعًا؟ أجاب: أصل شعبنا اعتاد الجوع. هو — إذا — أحد البائسين الذين يحسون بؤسهم حتى النخاع، ذلك تغمزه عقدة الكرامة في قلبه حين يرى أمه وسط البائسين! هو يستقبل نبأ نجاح أخيه بفرح سرعان ما يتحول إلى حزن كلما تذكر أن دخوله الحربية يحول بينه وبين الزواج، مجرد الزواج «كان في تلك اللحظة عدوًّا لنفسه وللبشر جميعًا»، «ما قيمة هذا كله؟ الموت أرحم من الأمل»، «سيحزن طويلًا ما دام الشعور لا يخضع للعقل» … وهكذا يتأرجح حسين في دوامة لا تهدأ، بين أحاسيس المضطهد ومشاعر المنتمي، لهذا كان دوره فوق هذه الحافة الحادة كصمام الأمن في البناء التراجيدي للمحنة الاجتماعية. ذلك «أن شعوره بالواجب يفوق مشاعره الأخرى». ومن خلال أزمة حسين سوف نرقب معالم الطريق المسدود في حياة حسنين؛ بل في حياة الأسرة كلها، فهو المحك لتطور عقدة الكرامة عند بقية الشخصيات في موازاة تطور الأحداث.

نتعرف على معالم الطريق المسدود منذ حصول حسنين على البكالوريا ورفضه الالتحاق بأي معهد بالمجان حتى لا يُعيِّره الناس فيما بعد. وتستهويه الكلية الحربية حتى يقال فيما بعد أيضًا إن نفيسة أخت الضابط، وإن أمه هي أم حضرة الضابط. ويحرص الفنان على كشف طبيعة تكوينه الثوري المنحرف فيلتقط أعماقه من هذه الكلمات: «إني أكره الفقر وسيرته، ولا أحب أن أخفض رأسي بين أناس مرفوعي الرءوس»، إن كراهيته للفقر تمثل الجانب الثوري، أما أن يكون الدافع لذلك هو الرغبة في أن ترتفع رأسه بين — أي في صف واحد — بقية الرءوس المرفوعة (أي أبناء الطبقات العليا) فإن ذلك يمثل جانب الانحراف الذي يؤدي به، فيما بعد، إلى نهاية الطريق المسدود. لقد سبق لنا أن تعرفنا على التكوين الاجتماعي لحسنين الذي شارك في حفر هذا الطريق — وهو أزمة نفيسة وأزمة حسن — وها هو ذا يطالعنا تكوينه الذاتي (الطموح وازدواج الشخصية) في صراعه الجبار مع القدر، مع القوى الخارجية المستقلة عن إرادته. الصراع الذي يمكن التنبؤ بنهايته التراجيدية، لفقدانه عنصر المعرفة أو الوعي بالقوانين الضابطة لحركة القوى الخارجية.

إن هذا الصراع مقضي عليه بالهزيمة منذ البداية. فالانحراف الجذري في تكوين شخصية حسنين يعطي الغلبة في النهاية للطرف الآخر في الصراع؛ ذلك أن ثوريته تتوقف عند حدود الإحساس العميق بالبؤس والرغبة العميقة في تغييره، ولكن في حدود «القانون» و«القيم» أي في حدود النظام القائم. ولهذا السبب يسلك في محاولة التغيير أكثر السبل تدعيمًا للنظام ورفعًا لرأسه بين بقية الرءوس المرفوعة فيطلب مصاهرة أحمد بك يسري، ويهجر عطفه نصر الله وابنة فريد أفندي إلى حي مصر الجديدة، ويطلب إلى شقيقته الاستقرار في البيت وترك الخياطة، ويقلقه أشد القلق أن شقة حسن تناصب «القانون» العداء. إنه حريص أيما حرص على القانون السائد والقيم السائدة، على أن يرتفع هو بأسرته إلى مصاف الطبقة التي لها المصلحة الأولى في ذلك القانون وتلك القيم. ثورته إذن تنحرف لتُمسي تطلعًا طبقيًّا وتسلقًا ووصولية ومحاولة ساذجة للصعود إلى أعلى. ثورته عمياء تعاني بقسوة من أزمة الوعي، من مأساة المعرفة (وذروة المأساة أنه يجهلها)، فيعتقد أن محاربة الفقر — في المستوى الفردي — هي تجاوزه إلى أعلى، أما في المستوى الاجتماعي فهو لا يدري شيئًا على الإطلاق، إنها «نقطة» لم تخطر على ذهنه قط … وهكذا يصور الفنان أدق الشعيرات النفسية الصانعة للكيان الأيديولوجي في شخصية حسنين، فالكفاح الفردي الضيق — كما يقول عباس صالح — هو راية الثورة عند هذه الفئة. وأضيفُ أنها الفئة التي تميزت من البداية بفقدان الاتجاه، وتحولت إلى طريق مسدود.

حسنين يدرك تمامًا أنه قصد بيت حسن في درب طياب — حيث الشقة التي تناصب القانون العداءَ — في سبيل الحياة، ويدرك أيضًا أن أخاه يتخذ من البلطجة سبيلًا للحياة «فما أفظع ما تسومنا الحياة من سخف.» هذا هو الإحساس الثوري الخام، ولكنه إحساس ذاهل عما في هذه الحياة من عالم معقد. لقد أتى إلى هذا البيت «المحرم» ليمد يده إلى «مجرم» كما يصف حسن، فينسى كل شيء إلا أن هذا الشقيق يحيا مع عاهرة ويقترح عليه أن يتركها ويتزوج من «الوسط» الجدير به، وهنا تبرز أولى مظاهر التناقض بين الضائع الأبدي والسائر في الطريق المسدود، يجيبه حسن: «إنها أفضل من سيدات كثيرات؛ تحبني وتخلص لي ولا تضن علي بمال.» فإذا غمز حسنين أخاه بأن الجيران يدعونه بالروسي ضحك حسن وقال إنه يكسب من عرق أو دم جبينه، و«ثمة أناس يكسبون دون أن يعرق لهم جبين»، وعند ما يفصح حسنين — أخيرًا جدًّا — عن السبب الحقيقي للزيارة المفاجئة (القسط الأول من مصروفات الحربية) يذكر حسن كيف كان يعد فيما مضى الخائب الفاشل وهم يرونه الآن منقذًا لهم من المصائب و«مخلصًا» في الوقت المناسب. ولعلها — كما سبق أن قلت — سخرية مريرة من الفنان؛ حيث يجعل من حسن — بالذات — ضائعًا ومنقذًا في وقت واحد! فإذا طلب حسنين عشرين جنيهًا نطق هذا الضائع: «إن جيشنا كله لا يساوي هذا المبلغ»، محددًا طبيعة المناخ السياسي الذي كنا نعيش فيه (دائمًا، يلتقط نجيب محفوظ ما يمس قضية الحرية مسًّا مباشرًا في القالب الفني البعيد نهائيًّا عن المباشرة أو التقرير). لقاء حسنين بحسن هو بداية الصراع بين التكوين الذاتي الأصيل (الطموح)، والتكوين الثوري (المحافظ) على القوانين والقيم السائدة، والتكوين الاجتماعي التعِس والمجسم في حسن. لذلك «بدا يترنح كأنما ضربة هائلة قد هوت على رأسه فأفقدته وعيه، وكلما جد في السير امتلأ شعوره بفداحة الخطب» فقد انحني للواقع السيئ مرتين: الأولى وهو يأخذ من أخيه ما طلب «فإما الحربية وإما الموت»، والثانية وهو يقرر أنه سيعود إليه راضيًا — مرة أخرى — ليأخذ الباقي شاكرًا مُمتنًّا، «ولو علم أنه ذاهب إلى السويس ليسرقها ما وسعه إلا أن يدعو له بالتوفيق.»

وإذا كان حسن ونفيسة يمثلان الوجه الاجتماعي في أزمة حسنين، فإن الأزمة العاطفية تؤدي دورًا لا يقل شأنًا عنهما في هذا الصدد. إن الوجه العاطفي لأزمة حسنين ليس إلا قناعًا لمعنى الصراع الطبقي كما تصوره. فهو إذا كان قد أحب بهية وهو بعدُ تلميذ في الثانوي، فإنه الآن وقد جاء إلى أحمد يسري ليتوسط له في دخول الحربية، لا يرى بأسًا من الصعود درجة في السلم العاطفي؛ فابنة الرجل تفرش له الأحلام إلى ما لا نهاية «ما أجمل أن أملك هذه الفيلا وأنام فوق هذه الفتاة. ليست شهوة فحسب، ولكنها قوة وعزة. فتاة مجدٍ تتجرد من ثيابها وترقد بين يديَّ في تسليم مسبلةً الجفون وكأن كل عضو من جسدها الساخن يهتف بي قائلًا: سيدي! هذه هي الحياة. إذا ركبتها ركبت طبقةً بأسرها» … إنه ليس حلمًا؛ بل جوهر مأساة حسنين في طريقه المسدود. لقد أصبحت ثورته هي «مصالحة» الطبقات العليا وتضخم «ازدواج» الشخصية … فكما كان الكذب شعاره في التمويه على تلاميذ المدرسة كان شعاره مع أحمد يسري وطلبة الكلية الحربية على السواء، كما أصبح المظهر الذي تضفيه البدلة العسكرية هو كل ما يأمله في اكتساب الاحترام وتجاوز عقدة الكرامة (كانت العقدة في الواقع تتضخم في موازاة ازدواج الشخصية). لهذا لم يجرؤ على صحبة فتاته إلى السينما أو الطريق العام حتى لا يراها زملاؤه، وبات يخجل منها «وهو لا يدري». أما كريمة أحمد بك يسري فقد تمثلت لعينيه رمزًا حيًّا للعالم الرائع الذي يتوق إليه بجنون «لم تكن فتاة بقدر ما كانت طبقة وحياة» … أيمكن محو الماضي من الوجود؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه السائر في الطريق المسدود على المجهول، على القدر، وهو يحدس بأن الزمن مرادف القدر فينطق بلسانه الأنبياء: قد تسوي هذه الأمور — حسن ونفيسة وبهية، وعطفة نصر الله — مع الزمن، «ولكن بعد أن تكون قضت عليَّ.» ويدير الفنان حوارًا بالغ الأهمية عند منعطف الطريق المسدود بين الفتى وأمه؛ يذكر لها حسن وسمعته كضابط وقبر والده المكشوف، ويحس في النهاية أنه «وحيد في معركة الحياة أو الموت» … إنه حقًّا وحيد بين ضياع حسن الأبدي، وضياع نفيسة اللانهائي؛ لم تعد «النقود» هي الدافع الحقيقي وراء الانحدار المخيف واليأس المرعب. إن الرغبة القاسية في الاستسلام تقودها غريزةٌ أدمنت الاشتعال، هي الدافع الأساسي الآن لما هي فيه من ذل الجسد. لم يعد ثمة أمل على الإطلاق. اليأس يسوقها إلى هاوية غير متناهية القرار.

وحان الوقت للفنان أن يستجمع الصراع في بوتقة واحدة؛ لقد تخرج حسنين وأصبح ضابطًا. وإذن فلا بأس من اللقاء الحاسم بين تكوينه الذاتي الأصيل من طموح وتوثُّب وازدواج شخصية، وبين تكوينه الاجتماعي من ضياع حسن إلى مأساة نفيسة، وبين المناخ السياسي والاجتماعي من أسرة فريد أفندي إلى أحمد بك يسري وكريمته. لقد أصبح ضابطًا فكانت البدلة الزاهية بمثابة السلاح الأول في المعركة، أو هي القنطرة بين الماضي والمستقبل، التي يتجاوز بواسطتها عقدة الكرامة ويحقق «الثورة». فما هو شكل الصراع الذي اختاره الفنان ليصوغ ذروة المأساة أو نهاية الطريق المسدود؟

كان يرى في حسن مشكلة الأسرة رقم واحد، فتوجه إلى البيت «المحرم» تنثال على ذاكرته في كآبة زيارته له منذ عام. وعندما فاجأ أخاه أيقن في نفسه «انتهى حسن» فحاول أن يدخل في الموضوع من الباب الخلفي، من زاوية الوسط «الشرير» فاغتاظ حسن من هذا الالتواء وسدد إليه الضربة الأولى «ما وجه الغرابة في أن أكون شريرًا»، وما لبث أن ناوله الثانية «حسبتك جنت تطلب نقودًا!» ثم عالجه بالثالثة القاضية «إنك يا حضرة الضابط تريد أن تطمئن على نفسك لا عليَّ أنا» … الضائع الأبدي يمتلك عينًا حادة لا تخيب، لقد عكرت الحياة نفسه وجسده فتمزقت الأردية والأقنعة الكثيرة التي تعلَّم ارتداءها بين صومعات القيم (ويبقى بعد ذلك فرق هائل بين الضائع واللامنتمي الذي يرفض القيم في ظل الحرية، فيكتسب رفضه صفة العلانية) … غير أن حسنين لا يستسلم أمام هذه الضربات، فهو يعلم أن المسألة ليست لهوًا وعبثًا «هي حياة أو موت، ولن يستطيع السير في حياته قُدمًا ووراءه هذا البيت» … العلاقة بينهما تعيد إلى الذاكرة مسرحية برنارد شو «مهنة مسز وارين» مع اختلاف شامل في التفاصيل. فالفقر هو الذي دفع الأم إلى احتراف الدعارة كي تُهيئ لابنتها فرصة دخول الجامعة. ولكن حسنين — محور بداية ونهاية — يتميز عن الفتاة الإنجليزية بذلك الطموح الملتهب الذي لا يهدأ لدفن الماضي. حسن يكشف النقاب نهائيًّا عن أعماق حسنين في كلمات قصيرة: «لماذا لم توجه إليَّ هذه النصيحة من قبل؟ … منذ عام مثلًا؟ … كنت قبل عام في حاجة جنونية إلى النقود، فلمْ تهتمَّ بالنصح والإرشاد؛ أما الآن، وقد أصبحت ضابطًا، فلا يهمك إلا الدفاع عن هذه النجمة اللامعة.» حسنين يستمع إلى الكلمات بوعي غائب. هو يتصور الدائرة التي لا فكاك منها — أمام المجتمع — التي تضمه، هو الضابط، مع أخيه البلطجي بائع المخدرات مرة واحدة. هذا التصور ينسيه كلمات حسن ويدفع به إلى تحديد مفهوم «الشرف» كما يراه: «ليس أحب إلى من أن تبدأ حياة جديدة شريفة.»

فضحك حسن عاليًا ثم قال بسخرية: بفضل حياتي غير الشريفة أمكنني أن أدفع عن أسرتنا غائلة الجوع، وأن أزود أخاك حسين بما كان في حاجة إليه كي يباشر عمله الحكومي، وأن أهيئ لك قسط المصروفات الذي جعلك ضابطًا والحمد لله، ثم ما هي الحياة غير الشريفة؟ ليس ثمة إلا حياة فحسب، وكلنا نسعى للرزق (أليس غريبًا أن تكون نفس الكلمات التي صارح بها حسنين نفسه وهو في طريقه إلى أخيه في الزيارة الأولى)؟

وأخذ حسن — بدوره — يحدد مفهومه للشرف صارخًا في وجه أخيه: «حياة شريفة، حياة شريفة! لا تُعِد هذه العبارة على مسمعي فقد أسقمتني، ميكانيكي بقروش معدودات في اليوم، أهذه هي الحياة الشريفة؟! السجن أحبُّ إليَّ منها! ولو أنني استمسكت بها طوال حياتي لما حلَّيت كتفك بهذه النجمة. أتحسب أن حياتي وحدها غير الشريفة! … يا لك من ضابط واهم … حياتك أنت أيضًا غير شريفة، فهذه من تلك، ولقد جعلت منك ضابطًا بنقود محرمة، مصدرها تجارة المخدرات وأموال هذه المرأة (مشيرًا إلى الصورة)، فأنت مدين ببدلتك لهذه المومس والمخدرات، ومن العدل إذا كنت ترغب حقًّا في أن أقلع عن حياتي الملوثة أن تهجر أنت أيضًا حياتك الملوثة، فاخلع البدلة ولنبدأ حياة شريفة معًا!»

وهكذا بلغ التناقض ذروته بين حسن وحسنين حول مفهوم الشرف (الذي يستند في حقيقة الأمر على قاعدة واحدة هي الأزمة الاقتصادية والضياع الاجتماعي)، ويلاحظ أن الفنان يركز على ضراوة الصراع بين حسن وحسنين على الرغم من أن نفيسة — الشق الآخر في تكوينه الاجتماعي التعس — كانت تتدهور بسرعة مخيفة، وهو يومئ بذلك إلى أن حسنين كان مرتاحًا إلى «استقرار» نفيسة وتوقفها عن الخياطة، وبالتالي فقد تصور أن أزمتها انتهت، فأغلق إحدى عينيه عنها وخصص العين الباقية كلها في توقع «الكارثة» من حسن. والفنان يصور حسنين على هذا النحو (التركيز على حسن وإغفال نفيسة) ليحدد فيما بعدُ معنى القدر من زاويتَي عقدة الكرامة ومفهوم الشرف الذي سبق أن حدده خلال الصراع بين حسن وحسنين، فقد كان هذا الأخير يظن أن شرفه، وشرف الأسرة كلها، معلق بمستقبل حسن. ويبدو أن للكاتب رأيًا آخر.

من تناقضات التكوين الذاتي والتكوين الاجتماعي القاصر على حسن، ينتقل بنا الفنان إلى الصراع بين التكوين الذاتي ثانية والإطار العاطفي لمعنى الفوارق الطبقية عند حسنين. فقد تبين له أن بهية لم تعُد الزوجة الأمل في هذه الدنيا، وقال لنفسه: «فتاة طيبة، ولكنها ليست أهلًا لأن تكون زوجَ ضابط مثلي» وقرر ألا تكون هذه المرأة — أم بهية — حماته، ولا أبوها حماه، ولا الفتاة زوجه «كل أولئك هم عطفه نصر الله بلا زيادة.» وانتقل إلى مصر الجديدة يرفع شعار الطريق المسدود: الحرية والمجد! فسخ الخطبة قائلًا: «إن مصيري يتقرر بيدي لا بيدٍ أخرى.» وهذه هي الحرية. وراح يخطب كريمة أحمد بك يسري، وهذا هو المجد. إن التناقض مع أسرة فريد أفندي هو من صميم تناقضات البرجوازية الصغيرة فيما بينها. لذلك يكون حسين هو الحل النموذجي عند هذه الفئة الاجتماعية لمثل هذه المشكلة، فلا تتحول الأزمة إلى مأساة. كان حسين يحب الفتاة، وهو على استعداد للزواج منها، وأبواها لا يرفضان الطلب، وينتهي الأمر ويستريح ضمير حسنين. أما التناقض مع أسرة أحمد بك يسري فله شأن آخر … لقد زارهم فور تخرجه ورأى البنت الأرستقراطية فهمس: «ليس ركوب هذه الفتاة بعمل جنسي، ولكنه غزو كامل وفتح مظفر.» وكانت الأكاذيب تنبعث في نفسه أحيانًا بوحي البديهة. وعندما أخذ أُهبته للزيارة الخطيرة. أحس أنه يقتحم لحظة رهيبة من حياته (فالأمر لا يتعلق بفتاة يحبها؛ وإنما بطبقة يجتهد في التسلق إليها)، كانت اللحظة رهيبة حقًّا تتمدَّد في خاطره أفظع التأملات السوداء حول مجيء البوليس إلى منزله — منذ أيام — بحثًا عن حسن! صحَّ ما توقعه، وها هي الطامة الكبرى تقع مع أنظار الجيران المتلصصة. ماذا حدث؟ صرخ يومها بلا وعي: انتهينا! أحس برغبة جارفة في أن يقتل نفسه «ما دمت لم أجد من أقتله»، (هذه الحساسية الطاغية تمهيد للأحداث القادمة). كانت نفيسة تبكي بكاء هستيريًّا تغالب به خوفًا لا يُغلب، فقد تصورت أنها هي التي يطاردونها لغير ما سبب ظاهر. كان هذا الحادث دافعًا أساسيًّا لأن يودع عطفة نصر الله إلى غير رجعة، وأن يذهب لتوِّه إلى فيلَّا «المجد»؛ حيث يأمل أن تنتهي متاعبه في مصر الجديدة — مع كريمة أحمد بك يسري — إلى الأبد. ولم تقرأ عينه القصيرة النظر ما يشير إلى الرفض على وجوه أفراد الأسرة «الراقية»؛ بل سمع النبأ من أحد زملائه المتصلين بهم اتصالًا وثيقًا. وأحس بانهيار في كرامته ورجولته «كان يشعر دائمًا بأن مطرقة ثقيلة من ماضيه معلقة فوق رأسه تهدده في كل حين، وها هي قد أهوت على يافوخه ونثرته هشيمًا.» قال له الزميل إنهم تحدثوا كثيرًا عن «أخ لك» و«أخت تعمل»، ومعنى ذلك أنه، ببساطة، لن يتزوج الطبقة العليا … هنا وجه الشبه بين الضائع — محجوب عبد الدايم — والسائر في الطريق المسدود. حسنين حيال الفئات العليا من المجتمع. وهنا أيضًا فرق عظيم بين أزمة المنتمي — كمال عبد الجواد — ومأساة الطريق المسدود في الإطار العاطفي، هو الفرق بين التطلع الطبقي العقلي (الرومانسي) والتطلع الطبقي الصِّرف. لهذا تشابهت أُمنية محجوب مع أمل حسنين «آه لو كان في وسع الإنسان أن يخلق حياته من جديد، فيولد في أسرة جديدة وينشئ ماضيًا جديدًا» وقد صدع صدره من الأعماق إحساس بالخزي أذابه ذوبانًا. وتساءل في نفسه: لماذا يبدو المتشائم الوحيد في هذه الأسرة؟ «أليس الدور الذي يلعبه الشيطان في هذه الدنيا أخطر من أدوار الملائكة مجتمعين؟» ثم سطت على أعماقه نُذُر شر مستطير لا يدري كنهه إلا وحسن يحمل جريحًا في حالة إغماء تام! الفنان ما يزال يركز الأضواء على حسن، وما يزال يغمض إحدى عينَي حسنين، فما إن طرق أحد رجال الشرطة باب المنزل حتى كان القدر يقول شيئًا آخر. حقًّا هرب حسن من النافذة، ولكن الأمر لم يكن يخصه قط، كان القدر هذه المرة كامنًا في أعماق تلك الفتاة الفقيرة الدميمة التي دفعت عجلة انهيارها محاولتها ذات ليلة أن تتجاوز عقدة الكرامة مع ابن بقال … فظلت العجلة تدور وتدور، تسحق الفقر مرة والرغبة الدفينة مرات، حتى انتهت بها إلى بيت للدعارة في السكاكيني. ولم تكن هذه المرة من أجل الخبز، وإنما لإشباع تلك الرغبة القاسية المعذبة التي تسومها الهوان في قطرات مريرة من اللذة والألم. كان ضابط القسم يزف النبأ إلى حسنين فأنصت إليه «وهو لا يزال يحملق في وجهه، تمتلئ عيناه بوجهه تارة فلا يرى سواه، ويغيب عنهما أخرى فيسمع الصوت ولا يرى شيئًا، وثالثة لا يرى إلا شفتين تنطبقان وتنفرجان فينثال من بينهما كلام هو الفزع واليأس والغرابة، وبين هذا وذاك ترمش عيناه في حركة عصبية فتلتقطان منظرًا غريبًا هنا وهناك، بندقية مثبتة في جدار، أو صفًّا من البنادق أو محبرة، وربما امتلأ أنفة برائحة دخان محبوس أو رائحة جلود غريبة، ثم ينحل وعيه وهو يتراجع فجأة إلى ذكرى بعيدة لا صلة لها بالحاضر، فيلوح لذاكرته منظر عطفه نصر الله وهو صبي يلاعب حسين البِلْي … ضبطت في بيت؟ … أي بيت؟ إن أحدنا فاقد العقل ولا شك، ولكن من هو؟ ينبغي أن أتحقق من أني عاقل أو لا …» كان يتوقع الكارثة من حسن، فجاءت من نفيسة؛ بل منهما معًا، من مأساة الخبز ومأساة الجنس، وبينهما تقع مأساته هو، مأساة الثورة العمياء التي تؤدي إلى طريق مسدود، مأساة المعرفة التي دفع ثمنها غاليًا فلم يعرف الطريق الحقيقي المفتوح إلى الثورة، لم يره قط، فحاول التسلُّق على كتفي الطبقة العليا، حاول أن يعقد معها معاهدة صلح، فكان طريقًا مسدودًا بكافة القوانين الموضوعية التي لم يعرف قط طريقه إلى الوعي بها والسيطرة عليها والثورة الحقيقية بواسطتها. مأساة الطريق المسدود الذي سلكه حسنين هي مأساة المعرفة بحق، مأساة تحتضنها من جهةٍ مأساةُ الخبز ممثلة في حسن، ومأساةُ الجنس من الجهة الأخرى ممثلة في نفيسة. وهو ما كان يتوقع قدوم الكارثة من ناحية نفيسة؛ لأن طبيعة تكوينه الذاتي من طموح وتوثُّب وازدواج شخصية سدت عليه كافة منافذ المعرفة، فلم يدرِ مطلقًا أن أزمة نفيسة لم تكن «الخياطة» فحسب؛ بل كان تكوينها الذاتي الأصيل نفسه. قدرها من داخلها، وداخلها أسهمت في صنعه أيدٍ كثيرة. عندما رآها ملقاة كجثة من العار «ود في تلك اللحظة لو يقتحم تجارب الكُفر والقسوة والموت … وتساءل في نفسه: ترى أين ينتهي الطريق؟» ونهاية الطريق سبق له أن حددها في تجربة سابقة أقل قسوة، فقد قال بالحرف عندما طرق البوليس بابه ذات يوم يسأل عن حسن: دعوني أقتل نفسي ما دمت لا أجد من أقتله. ويومها لم يقتل نفسه ولم يقتل أحدًا آخر. أما الآن فالوضع مختلف؛ إن الشرف الذي كان يناقش حسن بشأنه لم يعد مادة للمناقشة؛ بل أضحى مضمونًا للكارثة. وعقدة الكرامة التي تزدوج شخصيته في محاولة تجاوزها بلغت من تضخُّمها حدًّا سد في وجهه الطريق تمامًا.

أما نفيسة فلم يكن في رأسها شيء. كانت تعلم أن ما وراءها في الحياة أفظع من الموت. أثقلت الهموم رأسها فانحنى على صدرها «كما ينحني رأس من سدت في وجهه منافذ النجاة تحت جدار منهار». هانت عليها الحياة حقًّا، بالفعل لا بالقول، هانت الهوان الذي يجعل من الموت نجاة. لهذا وافقت على الفور أن تموت. لم تفاجأ باقتراح حسنين بأن تختفي نهائيًّا من الحياة. ورمقت الموت الذي تنهب الأرض إليه باستسلام كأنه التخدير «هذه هي النهاية الوحيدة … لا داعي للتفكير … إني ميتة، إن حسنين في نهاية الطريق المسدود ونفيسة تحت الجدار المنهار يلتقيان على حافة هاوية واحدة. إنه لقاء التكوين الثوري المنحرف بذروة الصراع الجبار مع القدر. كان يسوق نفيسة إلى الموت وكأنه يسوق هوان الفقر وذل الكرامة وشقوة الطموح وتعاسة التطلع إلى أعلى، فما كاد النِّيل يبتلع صرختها أمام الموت — آخر مظاهر الحياة — حتى كان يفكر في مصيره هو تفكيرًا ينسجم مع نهاية الطريق المسدود: الانتحار! رأى الماضي عملاقًا ضخمًا متجسدًا فيه هو، فتساءل بيأس، لماذا هذا كله؟ إنه سؤال يومئ به الفنان إلى أعمق أبعاد المأساة، لهذا يجيب حسنين بلا وعي تقريبًا: «في طبيعتنا خطأ جوهري لا أدريه.» وعندما تواجه عيناه جثة أخته على الشاطئ ينطق وجهها الأزرق بالعدم اللانهائي يوجز الفنان مأساة العجز البشري أمام قدره، مأساة الخطيئة والفداء والغفران، كما يوجز مأساة الخبز والجنس والمعرفة كجوهر للمأساة المصرية، مأساة الحرية، فيتمتم حسنين وعيناه عالقتان بلون العدم — وهنا بالتحديد انتحر حسنين لا عند ما ارتفق السور — «قُضي علي، كنا جميعًا فريسة للشقاء فما كان لأحدنا أن يعين الشقاء على أخيه. ماذا فعلت؟ إنه اليأس الذي فعل، ولكني قصيت عليها بالعقاب الصارم. أي حق اتخذت لنفسي؟! أحق أني الثائر لشرف أسرتنا؟ إني شر الأسرة جميعًا، حقيقة يعرفها الجميع، إذا كانت الدنيا قبيحة فنفسي أقبح ما فيها. ما وجدت في نفسي يومًا إلا تمنيات الدمار لمن حولي فكيف أبحث لنفسي أن أكون قاضيًا وأنا على رأس المجرمين! … لقد قُضي عليَّ.» هنا انتحر حسنين، وهنا تحرر حسنين! فلأول مرة يتعرَّى هكذا أمام نفسه. ولكن بعد أن دفع الثمن من مسيره الذي لا يتعرج إلى نهاية طريق مسدود في وجه ثورته. لأن هذه الثورة منذ البداية كانت عمياء عن الطريق الصحيح للتغيير الاجتماعي. لهذا كان الطريق المسدود هو قدر حسنين كما كان الطريق القصير قدر حميدة … بمعنى أنه كان مرسومًا بدقة في أعماقه، التي صارعت بتكوينها المنحرف التكوينَ الاجتماعي السيئ والنظام الشامل الأكثر سوءًا، فكانت البداية هي مأساة النهاية.

•••

انتهى نجيب محفوظ من كتابة «بداية ونهاية» عام ١٩٣٤م، وكان قد بدأها قبل ذلك بعام واحد … ومعنى ذلك أنه كان يمتلك مسافة موضوعية بينه وبين أحداث الرواية تكفل له رؤية أكثر عمقًا. خاصة وأن الزمن الروائي الذي بنى عليه القصة هو ثلاث سنوات كاملة؛ منذ معاهدة ١٩٣٦م إلى ما قبل الحرب مباشرة. وهي مرحلة لها دلالتها بالنسبة لتاريخ مصر الحديث؛ إذ المتوقع أن تكون مرحلة استراتيجية جديدة في الكفاح ضد الاستعمار، فأقبلت إرهاصات الحرب مع رواسب الأزمة الاقتصادية الشاملة للعالم الرأسمالي، وجعلت منها مرحلة مليئة بالمخاوف الوافدة. فإذا اختار الفنان البداية من اتفاقية التحالف الإنجليز، والنهاية من الحافة السابقة على الحرب … فإن ذلك يعني أن مجموعة القضايا التي تناولها بالتعبير الفني هي قضايا «المجتمع» المصري أحد وجوه المأساة المصرية. فبالرغم من أن ضائع القاهرة الجديدة ومضطهد خان الخليلي والطريق القصير في زقاق المدق، والطريق المسدود في بداية ونهاية … كلها تعبيرات مختلفة عن الشخصية المصرية إلا أنها في نفس الوقت تعبيرات «اجتماعية»؛ لأنها تجسيد عفوي لمعظم الخصائص المصرية على الصعيد الاجتماعي. فهي تشكل رقعة النسيج الغالبة على تكوين البرجوازية الصغيرة المصرية منذ نشأتها، والبرجوازية الصغيرة في بلادنا تمثل رقعة النسيج الغالبة على كيان المجتمع المصري.

والارتباط الملحمي بين القصص الأربع ينبع من تصور الفنان لطبيعة المأساة؛ فالضائع والمضطهَد كلاهما يمثل الخيط السائد على النسيج البشري في تلك الشريحة الاجتماعية ولحظتها التاريخية وبيئتها الحضارية، وكلاهما يدرك أن مأساته هي القفص الحديدي الذي وُضِع فيه وشارك بنفسه في هذا الوضع. فهو يخاف أشد الخوف «السقوط إلى حضيض الطبقة العاملة»، ويعلم حق العلم أن عنقه يرهقه الضنى في التطلع إلى أعلى. إنه «معلق» في الهواء على السلم الطبقي للمجتمع. فيه الجانب الثوري لارتباطه — رغمًا عنه — بالكادحين، وفيه الجانب الرجعي لرغبته الأيديولوجية في التسلق إلى المستغلين. وهو بين هؤلاء وأولئك يدرك بصورة تراجيدية حادة أنه في أزمة مصيرية بالغة العنف، يحاول أن يتجاوزها عبر الطريق القصير فيهوي في بئرٍ لا قرار لها، ويحاول ثانية عبر الطريق المسدود فيفاجأ بالنهاية الفاجعة. هذه خريطة فنية إذن أجاد الفنان تخطيطَها في المستوى الاجتماعي؛ غير أن التخطيط لا يكتمل إلا في مستوًى آخر، هو الفرد. أي أن الأمر يعوزه الانتقال من قضايا المجتمع المصري إلى قضايا الشخصية المصرية، ليحصل في النهاية على مقومات المأساة في مصر من كافة الزوايا. والشخصية المصرية في رواية «السراب» — التي كتبها فيما بين ١٩٤٣ و١٩٤٤م — هي تتمة طبيعية للحلقات السابقة من ملحمة السقوط والانهيار، لا لكونها تمثل رؤية الفنان للمأساة من خلال الفرد فحسب؛ بل لأن الضائع والمضطهد كلاهما في محاولة تجاوز المأساة عبر الطريق القصير أو الطريق المسدود؛ فوجئ بأن نهاية أيٍّ من الطريقين هي السراب. فجاء الفنان والتقط هذا المعنى الكُلي وحاول تعمُّقه من خلال الجزئي-الفرد، حسب منهجه في التعبير الفني الذي يعتمد أساسًا على التناقضات، مهما تكافأت أو تعادلت. بل ربما كان التعادل والتكافؤ الصارم بين التناقضات هو التجسيد الجوهري لمعنى المأساة، الذي ينبثق من كون هذا المنطق الصارم يؤدي في النهاية إلى التناقض الحاد.

والحق أنه إذا كانت زقاق المدق قد رفعت أحداث وشخصيات القاهرة الجديدة وخان الخليلي من المستوى الواقعي المباشر إلى المستوى الرمزي الشامل للإنسانية كلها — فأصبح محجوب رمزًا للضياع الإنساني في هذا الكون، كما أصبح أحمد عاكف رمزًا لاضطهاد الإنسان عمومًا في هذا العالم — وإذا كانت بداية ونهاية قد أحاطت المأساة كلها بذراعيها انطلاقًا من المستوى المفرط في المحلية والمباشرة، وانطلاقًا من نقطة زمنية سابقة على الحرب … فإن «السراب» قادمة لتؤكد تلك المعاني الكلية المطلقةَ التجريد من خلال جزئيات الواقع النسبي. ويبدو أن نجيب محفوظ كان يكتشف دومًا أن إنسان البرجوازية الصغيرة هو النمط الإنساني الصالح لتمثيل مستويات المجتمع البشري متدرجًا من مقهى صغير بزقاق مجهول إلى العالم أجمع. فهو يرى أن مأساة البرجوازية الصغيرة المصرية تؤهلها لأن تمثل مأساة مصر بأكملها، لا لأنها تشكل الغالبية العددية من السكان؛ بل لأنها بحكم نشأتها وتاريخها وتكوينها قد امتزجت في دمائها أغلب العناصر المأساوية في حياة الشعب المصري. يتدرج نجيب محفوظ من تنصيب البرجوازية الصغيرة ممثلًا للمأساة المصرية إلى محاولة تنصيبها ممثلًا للمأساة البشرية … ذلك أن الضائع والمضطهد والطريق القصير والطريق المسدود والسراب هي العناصر الأساسية في عالم اليوم (وإذ كانت هذه العناصر قد تركزت في الحياة المصرية. فلأن مأساة الحرية — في الخبز والجنس والمعرفة — كانت قد تركزت في تاريخنا الحضاري الطويل تركيزًا شديدًا).

من هنا ننظر إلى قصة السراب على أنها حلقة النهاية في ملحمة السقوط والانهيار، تجسد المستوى الفردي الشديد الفردية للمأساة المصرية، وتمثل الجانب الإنساني العام الشديد العمومية للمأساة البشرية في آن واحد معًا. ولما كانت هذه القصة تعتمد أساسًا على عقدة أوديب فسوف أعتمد بدوري بصورة رئيسية على كتاب «أوديب: الأسطورة والعقدة» — للعالم الأمريكي باتريك ملاهي — في محاولة اكتشاف العناصر الأوديبية في السراب.

كتب الفنان هذه القصة بضمير المتكلم، وكانت المرة الأولى في تاريخه الفني أن يتتبع إحدى الشخصيات من الداخل بهذه العدسة الميكروسكوبية؛ عدسه الذات حين تخلو إلى نفسها في حالة عراء كامل من الأغطية الاجتماعية المرهقة للصدق. نلتقي ﺑ «كامل رؤبة لاظ» إذن في تلك اللحظة الفذة من تاريخ الفرد، نتجول معه في رحلة اكتشاف عميقة الأغوار، ليس معنا دليل سوى هذه الكلمات: كنت أحيا على حافة عالم الجنون، وهكذا فقدت كل شيء، ووجدت نفسي في خلاء مظلم مخيف. كانت أمي وحياتي شيئًا واحدًا، وقد ختمت حياة أمي في هذه الدنيا، ولكنها لا تزال كامنة في أعماق حياتي، مستمرة باستمرارها، ولم أعرف أن لي أبًا إلا بلسان أمي، وحديثها المفعم مرارة وحزنًا، فنَمَت كراهيتي له على الأيام. يجب أن نضيف صفة ثانية إلى ضمير المتكلم، هي «الماضي». الماضي يخلق مسافة موضوعية بين الشخصية والحدث. هذا التناقض بين ذاتية التجربة وموضوعية الرؤية هو العمود الفقري للرواية، هو السبب الرئيسي الذي تحول بالطبيعة الفنية للقصة من المونولوج الداخلي إلى الذكريات.

لن ننسى هذه النقطة ونحن نتابع المجرى الداخلي للشخصية الرئيسية، فالماضي والذكريات ليسا أداة تعبيرية فحسب؛ وإنما يشكلان عنصرًا هامًّا من عناصر المأساة «إني شديد الحنين إلى الماضي، وقد بت في هذه الفترة الأخيرة أشد ما أكون حنينًا إليه، ولعل ذلك مني ليس إلا توقًا صريحًا إلى الطفولة. وإني لأدرك ما في هذا الحنين والتوق من خطورة هي سر دائي الأسيف في الحياة» … ويحسن بنا أن نتوقف عند هذا الحد لنستمع إلى فرويد وهو يقول: إن الطفل يعبر عن رضاه عندما يكون الأب غائبًا أو مسافرًا، وكثيرًا ما يعبر الصبي عن عواطفه بكلمات ووعود بأنه سوف يتزوج أمه، «فهو يعتبرها ملكًا خاصًّا به». وعندما يكون الحب للأم في هذا الطور المبكر شديدًا، يغار الولد من الأب ويعتبره منافسًا له. إلا أن الأم في هذا الوقت ليست ذات أهمية كبرى من ناحية جنسية للولد، ولكنها ما تزال الشخص الذي يحميه ويرعاه ويوفر الغذاء له، «كذلك فهي مصدر سرور له»، بالإضافة إلى أنه ليس بالإمكان اجتياز جميع الأطوار الطبيعية والتغلب عليها حسب سُنة النمو، فقد يبقى — على ما يبدو — جزء من كل حافز جنسي متوقفًا في طور مبكر من أطوار التطور، وهذا التوقف يُدعى التثبيت Fixation.

التوقف عند إحدى مراحل الطفولة هو الإطار العام الشامل لمأساة كامل رؤبة … الطفولة التي قضاها في أحضان أمه على الفراش، وفي الحمام، وفي كل مكان حتى باتت إمكانية مفارقته لها وهمًا من الأوهام، وأصبح الخوف جوهرًا أصيلًا في نفسه تدور حوله حياته كلها، «إن الخوف كان أعمق في حياتي من هذه الأشياء التي يتمثل لي فيها، لقد استطال ظله الكثيف حتى أظل الماضي والحاضر والمستقبل، واليقظة والنوم، وأسلوب الحياة وفلسفتها، والصحة والمرض، والحب، والكراهية، فلم يترك شيئًا خالصًا.» من الطبيعي بعدئذٍ أن الخوف يتراكم شيئًا فشيئًا ليثمر في النهاية «العجز» … ويأخذ العجز كافة الصور الفردية والاجتماعية مندرجًا من الانطواء عن صداقات الصبا إلى الانزواء في مظاهر الأنوثة؛ كالصمت والخجل (بل وارتداء الثياب الأنثوية وإطالة الشعر أحيانًا) إلى العجز عن المشاركة في أي عمل إيجابي؛ كالذهاب إلى المدرسة أو الاعتماد على النفس في أعمال صغيرة تافهة، إلى العجز الجنسي في النهاية. والعجز الأكبر هو الإيماءة التي يرمز إليها الفنان من أعماق هذا البناء التراجيدي للسراب. العجز هو الموت، والعالم هو السجن، والوجود هو اللاحرية. هكذا يسأل كامل أمه.

«سنموت جميعًا؟!

فساءها السؤال، وحاولت أن تلهيني عنه، ولكني وقفت عنده لا أتزحزح.

فقالت: بعد عمر طويل — إن شاء الله.

فرمقتها بإشفاق وسألتها مرة أخرى: وأنت يا أماه؟

فقالت لي وهي تداري ابتسامة: طبعًا سأموت يومًا ما.

فوقع قولها من نفسي موقعًا أليمًا وهتفت بها: كلا … كلا … لن تموتي أبدًا.»

بهذه المقدمة التمهيدية ينفذ بنا الفنان — مع كامل رؤبة لاظ — إلى أدغال العالم السراب … وهو يتخير «التجربة الإنسانية» محورًا فنيًّا لاصطدام هذه الشخصية بالعالم الخارجي. أي أن التفاعل والصراع بين كامل والمجتمع يتم من خلال مجموعة هامة من التجارب، تنصهر بواسطتها مكونات أعماقه وتنكشف لنا محتويات رمزيته، ويتبين أخيرًا أن توقفه الداخلي (التثبيت) عند إحدى مراحل تطوره، وخوفه وعجزه، هي العناصر الرئيسية في بلورة جوهر «الحرية»، ومعنى «الموت» إذا تلازما في كيان أزمة الفرد مع المجتمع من ناحية، ومع الوجود من ناحية أخرى. والفنان يومئ لنا بأن السراب هو النتيجة النهائية المأساة الحرية والموت معًا، وليست عقدة أوديب إلا الهيكل الرمزي لهذه الخاتمة، أو هذا المصب الذي يجرى إليه الضائع والمضطهد، كما يؤدي إليه الطريق القصير والطريق المسدود على السواء.

قبل أن ندخل إلى قلب العالم السراب مع تجارب كامل رؤبة لاظ، ينبغي أن نستعيد كلمات يونج حول الشخصية. فالواقع أن يونج يستخدم كلمة «شخص» للدلالة على الدور الذي يلعبه المرء في الحياة. وهذه الصورة ليست حقيقية؛ لأنها لا تمثل الإنسان كما هو في جوهره. لذلك فهي غير فردية وغير مقتصرة على الشخص بالمعنى الصحيح؛ بل هي بديل عن الفردية، والشخص حسب تعريف يونج هو في الحقيقة شريحة Slice من النفس الجماعية. سوف يعيننا هذا التفسير في التعرف على نوع الازدواجية في شخصية السراب. إن تجربته الأولى مع الحياة كانت مع الطفولة المتوثبة إلى الحرية، فقد انسل من الشقة هاربًا ليلعب مع أترابه الصغار غير مبال بصوت أمه في غمرة فرحته الشديدة وهو يأخذ مكانه في حلقة اللعب. إلى أن نشب خلاف بينه وبين الصِّبية فانهالوا عليه ضربًا ثم جاء البواب فنقله إلى أمه يكاد يكون فاقدَ الوعي. أما هي فقالت له بعنف: «إن الله يغفر كل شيء إلا من يعاند أمه.» وأما هو فقد كان يختزن في أعماقه شيئًا آخر فقال: «آلمتني هزيمتي أمامها أضعاف ما آلمني الضرب.» وحدثت التجربة الثانية في ظروف مشابهة حين قدِم إليهم ذات يوم خالته وأبناؤها، فألقى بنفسه في أحضان اللعب بشراهة ونهم، وأخيرًا حان يوم الوداع فقالت له أمه: «عد إلي كما كنت لا تفارقني ولا أفارقك.» ومنذ ذلك الوقت راح يقلدها إذا صلَّت «ولعلها وجدت الفرصة مناسبة فمضت تلقنني مبادئ الدين كما تعرفه. عرفت الدين مبتدئًا بالجنة والنار، فانضافت إلى معجم مخاوفي كلمات جديدة.» وأدت هذه الحال لأن يتأخر إلى سن السابعة دون أن يتعلم حرفًا أو يلتحق بمدرسة. وأقبلت اللحظة الحاسمة أو التجربة الثالثة التي اضطر فيها جده لأن يدفعه إلى أبوابها. فوقف ينظر إلى التلاميذ في الفناء «بخوف» وطار خياله إلى البيت فتمثلت له أمه وحيدة وتساءل: ترى هل نسيتني؟! ثم قرر أن يكون ذلك اليوم الأول والأخير. ولم يكد يصل إلى البيت حتى انفجر باكيًا وهو يتمتم بين ذراعَي أمه «لن أبتعد عنك ما حييت.» غير أن جده لم يوافق قط على هذا التدليل فعاد به إلى المدرسة ليخطئ مرة أخرى وهو ينادي المدرس قائلًا «يا نينة» بدلًا من أن يناديه «يا أفندي». ومنذ تلك اللحظة كانت حياته المدرسية «شقاء كلها»، حتى إنه لم يعرف صديقًا طوال عمره. ويومًا قُرئت عليه في حصة الدين هذه الآية فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ … إلخ، فزلزلته هذه الكلمات «وكانت أول نذير لي عن مأساة الحياة.» وربما كانت هذه التجارب الثلاث بمثابة التحديد الفني لعلاقة «أوديب» بالعالم، وهي علاقة رمزية إلى حد ما. فيقول رانك: إن فقدان البصر — عند أوديب — يمثل رجوعًا إلى ظلمة رحم الأم. واختفاؤه النهائي يعبر مرة أخرى عن نفس الرغبة المتجهة نحو العودة إلى داخل الأرض الأم. إن أوديب المصري عند نجيب محفوظ لا يفقد البصر العيني، ولكنه يفقد البصيرة الداخلية فيصاب بالعجز الكلي والشلل التام. إن تجربته الرابعة — وهي الأولى بصورة ما — كانت هروب شقيقته مع رجل تزوجها في مدينة أخرى وأنجب منها طفلة. فهو يسأل: لماذا هربت من أمي إلى رجل غريب؟ ولا يجيبه أحد إجابة شافية، كان يعلم أن أباه — منذ طلق أمه — يعيش مع ابنه الأكبر وابنته الأخرى في دنيا من الذهول، في عالم محكم الغلق بالثراء والخمر … ولكنه لم يَدرِ لماذا هربت أخته مع رجل غريب ولم تحضر إليهم عند جده وأمه، لقد عرف الجواب في تجربة قاسية مريرة لوثت حياته كلها بظلال قدرية صارمة: «جاءني العون من حيث لا أدري، فتطوعت الخادمة لإماطة اللثام عما حير خيالي وألهبه. كانت تكبرني بأعوام، وكانت دميمة قبيحة. صارحتني مرة بأنها تعلم أمورًا خليقة بأن تُعرف. وانجذبت إليها على قبحها في اهتمام وسرور، وواجهت التجربة بلذة وسذاجة.» ومن الطبيعي أن تضبطهما الأم بعدئذٍ فتطرد الخادمة حقًّا من البيت، على أنها لم تنجح مطلقًا في طردها من مكان أكثر خطورة، من كيان كامل وأعماقه. من هذه اللحظة تصبح الخادمة الدميمة بديلًا لا شعوريًّا للأم؛ البديل عن الخوف والعجز والطفولة المتوقفة عن النمو. فإذا سمع رجلًا ما تقدم إلى جده ليخطب أمه تصور ما حدث لشقيقته، وما حدث بينه وبين الخادمة، وارتمى في أحضانها وهي ترفض الزوج الجديد «لن أفارقك ما حييت.» ومن ثم كان يومًا تاريخيًّا حين اكتشف بنفسه الاستمناء الذاتي «فقضيت وحدتي في لذة جنونية.» إلا أن عشق الدمامة والقذارة ظل سره — أو داءه — الدفين «إذا طالعت وجهًا ناضرًا مشرقًا يقطر نورًا وبهاء ملكني الإعجاب وبردت حيوانيَّتي … وإذا صادفني وجه دميم ذو صحة وعافية أثارني وتملكني، واتخذته زادًا لأحلام الوحدة وعبثها.» كان الحلم هو البديل الأسطوري للواقع المغتال، كان السراب منذ البداية هو القدر الوحيد. كان يمكث في الفصل غائبًا عما حوله، وخياله يصنع المعجزات، يحارب ويقتل ويقهر، يمتطي متون الجياد ويعتلي الطائرات ويقتحم الحصون ويستأثر بالحسان وينكل بالتلاميذ تنكيلًا مروعًا، ولم تقف أحلامه عند حدود الأرض، فارتفعت إلى ألوية السماء «وكان إيماني قديمًا راسخًا يعمر قلبي وروحي بحُب الله وخوفه معًا. وقد أديت الفرائض في سن مبكرة أخذًا عن أمي ومحاكاة لها. ولما أوجدت لي لذتي الخفية شعورًا بالذنب لم يكن لي به عهد قَوِيَ شعوري الديني، ولفحت إيماني لهفة حارة إلى الله ورحمته فما ختمت صلاتي مرة حتى بسطت يديَّ مستغفرًا. بيد أن أشواقي لم تقف عند حد، وانقلبت طلعة لمعرفة الله وتمنيت من صميم فؤادي لو كان أتاح لعبيده رؤيته وشهود جلاله الذي يحيط بكل شيء ويوجد في كل مكان. وسألت أمي يومًا: أين يوجد الله؟

فأجابتني بدهشة: إنه تعالى في كل مكان.

فرنوت إليها بطرف حائر، وتساءلت في خوف: وفي هذه الحجرة؟

فقالت بلهجة تنُم عن الاستنكار: طبعًا استغفره على سؤالك هذا.

واستغفرته من أعماق قلبي، ونظرت فيما حولي بحيرة وخوف، وشقَّ علي النزاع المتواصل فانتهى بي إلى التفكير الجدي في الانتحار … وجدتني لأول مرة ألقي على الحياة نظرة عامة شاملة متأثرًا خيط الحياة من البداية إلى النهاية، حتى لم أعد أرى منها إلا البداية والنهاية، متعاميًا عما بين هذا وذاك. ميلاد وموت، هذه هي الحياة! … وقد فات الميلاد فلم يبقَ إلا الموت. سأموت وينتهي كل شيء كأن لم يكن، ففيم تحمل هذا العناء؟!»

هذا النص يدلل بغير عناء على رمزية جميع الأحداث؛ فالتوقف أو «التثبيت» عند الطفولة، فالخوف، فالعجز، فالاقتناع بعبثية الوجود، تتخذ من مرُكَّب أوديب نقطة انطلاق لها إلى تجسيد العالم-السراب، في شخصية تراجيدية محددة الأبعاد. ويقول رانك: إن المأساة الروائية حين ترمز إلى الأم وعقوبات البطل الأسطوري بسبب إثمه المحزن، تتم في صورة مختلفة للرغبة الأصيلة المكبوتة. وفي فن المأساة حيث يتخذ الكائن البشري الحي نفسه كهدف له، تعيش الصفة البدائية المخيفة للرغبة الأصيلة المكبوتة كإثم محزن في شكل مخفف، ويستطيع كل فرد بشري متفرج أن يعيد تمثيل هذا الإثم عن طريق العودة إلى اختياره بصورة مستمرة. ويستطرد رانك: لقد نتجت الثقافة المصرية بفاعلية ثلاثة عوامل يمكن إرجاعها إلى المحاولة الأولى لكبت الموقف الإيجابي حيال الأم، الذي يبدو في نظر العالم الآسيوي أنه أدى إلى تقدير جنس سامٍ للأم الأصلية. أما الفكرة المسيحية الخاصة بالإثم التي لا نزال نعيش تحت سيطرتها كما نعيش تحت سيطرة فكرة الخطيئة اليهودية، فهي رد فعلٍ لميول إرادة الإنسان الإيجابية الخلاقة، وإلى رغبته الجريئة في أن يصبح، ليس فقط عالمًا بكل شيء كالإله؛ بل أن يصبح الله نفسه، إن معرفة النفس تؤدي في النهاية إلى وعيها الدائم بذاتها.

نجيب محفوظ يصوغ إذن العالم-السراب في شخصية تراجيدية مزدوجة، إلا أن ازدواجها عنا لا يتفق مع الدلالة الاجتماعية للتعبير. كما أن ازدواجية السراب هي النقيض المقابل لانقسام الشخصية في البطل التراجيدي. فهي خاصة بالفرد من غير أن يرتدي أقنعة اجتماعية، ولكنها أيضا لا تخص الفرد من الداخل؛ حيث يقتصر الصراع على نقائض النفس البشرية. وإنما يدور الصراع في كامل رؤبة بين الفرد والشخصية، بين التفرد والنموذج، بين الذات والحرية … لذلك كان «انعدام الثقة بالنفس» مظهرًا للغلاف الذي يحوط فردية كامل برعاية الأم وتدليلها وتنميتها لثمار الخوف والعجز في أعماقه، ومساهمتها الفعالة في «تثبيت» إنسانيته عند مرحلة الطفولة. لهذا كان التفكير الجدي في الانتحار والاقتناع بلا جدوى الحياة من نتائج الانشطار المأساوي بين الفرد والشخصية في التكوين الذاتي لكامل رؤبة. فصراعه الدائم للتحرر من أغلال أمه لم يكن سوى الصراع الأكبر بين الذات والحرية … ومن هنا كانت المعرفة أو الوعي بالذات والعالم، هي المحور الدرامي للمأساة؛ بينما كان الجنس والخبز إطارًا رمزيًّا للأحداث، أي إن الوضع الأوديبي — كما يدعو رانك العلاقة بين الابن والأب والأم — هو المادة الخام التي صاغها الفنان على نحو جديد متفرد. ولقد حاول كامل أن ينتحر بالفعل، كما أنه التقى بوالده لأول مرة — برفقة جده — في محاولة يائسة لأن يقوم بإعالته، وذهب إلى المدرسة الثانوية «فداخلني إحساس بالحرية لم يداخلني من قبل» … وتوالت عليه التجارب، فلم يظفر من الحياة بصديق كما لم يظفر في حياته بالثقة في النفس، وبالتالي لم ينَل ما يتوق إليه من حرية. وانتهت المرحلة الأولى من العمر مع حصوله على البكالوريا. انتهى الفنان من تحديد الجذور التاريخية للمأساة … ساعده على هذا التتبع التاريخي أنه لم يسلك قط طريقة المونولوج الداخلي على الرغم من استخدامه لضمير المتكلم … لقد أتاح لنا أن نغوص في أعماق الشخصية في إطارها الموضوعي بالرغم من ذاتية التجربة. ولذلك كانت هناك المسافة الدائمة بين الماضي والحاضر، فارتدت القصة ثوب الذكريات المدعَّمة ببناءٍ منطقي يرتب الأحداث وفق العمود الفقري للمأساة ترتيبًا محكمًا. وما تَلَمَّسناه بين الحين والآخر من ثغرات لا منطقية، فإنها لا تخرج عن كونها من منطق الأقدار. وهو العنصر التراجيدي الذي لا يستغني عنه نجيب محفوظ في تبويب الأحداث. فهو ما يزال يعتمد على التناقضات المتصارعة في جزئيات التجربة من جهة، وبين مجموعة التجارب من جهة أخرى. من هنا يروي لنا «السراب» بضمير المتكلم في صياغة ذهنية منطقية بعيدة عن المونولوج الداخلي، فتجتمع لنا على صعيد واحد موضوعية الرؤية وذاتية التجربة. كذلك فهو لا يضع السراب في إطار تاريخي محدد، ومع هذا يتبع منهج التقسيم الزمني للرواية إلى مراحل هي نتاج تقسيم مفصل إلى تجارب … وهكذا، فإننا نلتقي في تلك المرحلة الأولى بالجذور التاريخية للمأساة، وتظل — هذه الجذور — على طول الرواية جزءًا لا ينفصل عن لوحة التجربة ككل، فإذا بها جذور وفروع في نفس الوقت، هي المقدمات والنتائج في آن واحد. أي أن بذرة المأساة هي المأساة بعينها.

تبدأ المرحلة الثانية لندخل مباشرة إلى جوهر المأساة، إلى قلب العالم السراب، فإذا كانت الجذور في المرحلة الأولى تقول: إن الخادمة الدميمة هي البديل اللاشعوري للأم، هي البديل عن الخوف والعجز والطفولة المتوقفة عن النمو. وإذا كان الحلم هو البديل الأسطوري للواقع المغتال، فإن السراب — منذ البداية — هو القدر الوحيد. على سلم الترام في طريقه إلى العمل، بعد أن فشل في كلية الحقوق وتوظف بالبكالوريا في إحدى المصالح الحكومية، التقى بعنصر الخلخلة في الوضع الأوديبي. التقى بفتاة لا علاقة لها بفتيات أحلامه، فتاة صِيغت على نسق من نقائض الدمامة، وأحس ارتياحًا عميقًا في لقائه بها «ما أحوجني إلى رفيقة لحياتي في مثل كمالها.» وبدأ خياله النشيط يصورها له في رداء طويل تحوط بها هالة من الوقار والاحتشام، وتواصلت أيام دون أن يفصح عن رغبته، «وأحرقتني الرغبة في إثبات وجودي، ولكن شدني عجزي إلى موقفي لا أتعداه.» وأقبل على تجربة الحياة الكبرى مزودًا بهذه الباقة التي لا تنفد من التناقضات بين الحلم والواقع، بين الحبيبة والأم، بين صورة الحب وصورة الجنس، بين الجمال والدمامة، وأخيرًا بينه وبين هذه كلها. وهي تناقضات تعيش في داخله ضمن دائرة محكمة من القدر الصارم. فهو يمارس عادته ذات «اللذة الجهنمية» وينام في حضن أمه، ويتوق إلى طيف حبيبته، ويعيش مع أحلام شيطانية لا تهدأ … في وقت واحد.

الفنان حريص على أن يعطى حلم اليقظة في حياة كامل دورًا هامًّا، فاليقظة وأحلامها هي المرآة الوحيدة لازدواجية الشخصية في العالم السراب، وهي الصدى الوحيد للصراع بين الذات والعالم، بين الإنسان والحرية. لهذا كان الزواج في أحلام اليقظة جنة، وكانت الأم في عداد الأموات. ومن هنا يأتي دور الخمر في حياة كل شخصية مزدوجة، وكم بالأولى في العالم السراب.

لقد شرب الكأس حتى الثمالة، وعرف الطريق إلى أوكار الدعارة. وعاد إلى البيت مهيض الجناح «يمضُّني الشعور بالهزيمة والإخفاق والخيبة. لم أكن أتصور أن يتمخض الحلم المرموق عن هذه البشاعة الفظيعة.» ولكنه لم ينسَ نشوة الخمر فآنس منها رفيقًا طيبًا للوحدة والفراغ الرهيب معًا. وهنا تبدأ المرحلة الثانية من المأساة فعلًا، بداية التركيز على الجانب الاقتصادي ونشأة أسرة برجوازية صغيرة … إذ مات الجد و«لست أعلم شيئًا على الإطلاق عن الكفاح الذي يشقى به الناس في سبيل الحياة.» ومن ثم كانت مرارة الخيبة وراء كل أمل جديد وتجربة جديدة. ولا يتورط الفنان في البقاء على سطح التجربة؛ حيث تطفو المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وإنما يظل في باطن التجربة يتحسس الملامح النفسية للتحول الاجتماعي. يتذكر كامل أن أباه انتظر على مضض موت أبيه، وكيف ساقه الجزع إلى الشروع في الجريمة التي قضت عليه بالحرمان من ثروة واسعة، والآن هو يعاني نفس المشاعر التي عاناها أبوه قبل ثلاثين عامًا؛ «ولعله لو كان لي بعض قوته لسلكت الطريق الذي سلك.» وداخله سخطٌ شامل على الوجود كله. هكذا كانت الأحلام والخمر هي الزاد الوحيد لحياة جناحاها العجز والفقر. فراح يتصور ما ينبغي أن تمضي إليه قصة حبه، وما يجب أن يكون عليه المجتمع من قيم؛ الغريب في الأمر أن المقامرين جميعًا يخسرون ولا أدري من يربح إذن. الظاهر أن الله خلق ثروة محدودة واحدة، لا يتغير مقدارها، ويتغير حظ الناس منها وإلا فلماذا لا يثري الناس جميعًا. لو أحب الناس جميعًا الخمر كما أحبها واستهانوا بالمال، لأمكن حل مشكلة الدنيا بكلمة واحدة، إن قيمة المرء الحقيقية فيما يعمل من شر، كيف أصدق أن إلهًا عظيمًا سبحانه يحرق مخلوقًا مثلي لأنه يشرب الخمر. وقد أسهم الأب بقدر مساوٍ لنصيب الأم في صنع المأساة. لا لأنه لم يوافق أن يعطي ابنه مليمًا كي يتزوج من حبيبته؛ بل لأن قوله: «الزواج شيء سخيف لم أحتمله أكثر من ليلة واحدة.» كان كإصبع الديناميت الذي فجر في أعماق الشخصية ما كان راقدًا فيما يشبه السبات.

يقول رانك إنه لذلك يجب التمييز بين الرغبة الجنسية المحرمة وبين الأفكار التي يكونها الولد عن الأب. فالأولى هي رمز الخلود الفردي الذي يتشبث به المرء كي يتخلص من إكراه الخلود العرقي في الجنس، وفي نفس الوقت يحمي الفرد نفسه من قبول دور الأب الجديد. ويترجم نجيب محفوظ هذه الكلمات في السراب بأن ينطق كامل في وحشية غريبة عليه «موته وحده بيده أن يغير وجه حياتي، أجل لا أمل البتة إلا في موته.» ويبدأ حلم اليقظة دوره، فلا يكون ثمة وجود للأب ولا للأم. أما هو فقد تحول إلى دمية تسير بقوة الدفعة الأولى «وكأني لست من هذا المجتمع فلا أدري شيئًا عن آماله وآلامه، قادته وزعمائه، أحزابه وهيئاته، ولكم طوقت أذني أحاديث الموظفين عن الأزمة الاقتصادية وهبوط أسعار القطن وتغيير الدستور فلم أكن أفقه لها معنى، أو أجد لها في نفسي صدًى. لا وطن لي ولا مجتمع، لا لأني أسبق الوطنية، ولكن لأني لم أدركها بعد. ولعلي أشعر أحيانًا بأني أحب الناس جميعًا، الناس كشيء معنوي عام، ولكن ما كان أحد من هؤلاء الناس — إذا اتصلت أسبابه بأسبابي — إلا ليثير في نفسي الجفاء والنفور، وحتى إيماني العميق لم يستطع أن يستنقذني من هذه الوحشة المخيفة. فضلًا عن أنه أثقل ضميري بالقلق والتأنيب، وأوسعني إحساسا حادًّا بالخطيئة من جراء العادة المجنونة التي استبدت بي … لذلك كان إذا جاء يوم الأحلام انطلقت إلى حانتي بسوق الخضر لا ألوي على شيء، وطلبت الدورق الجهنمي الذي لم يعُد لي من عزاء سواه.» هكذا ذاق لذة اليأس في سرور هذياني غريب، وهو يخطو في طريق الزواج الخطوة الأولى، فقد تلاشى — مؤقتًا — شبح الأم في كئوس الخمر وأحلام اليقظة وموت الأب، وتصور أنه أزاح — إلى الأبد — أضخم سد اعترض حياته، وخيل إليه أنه تحول إلى عملاق جبار يخِرُّ له الموت نفسه صريعًا بضربة واحدة. وأصبح حلمه الوحيد هو «الجزيرة المهجورة» التي تضمه مع حبيبته في لقاء أبدي لا يموت. وهكذا بدأت المرحلة الثالثة من المأساة بتحقيق الأمل والحصول على الزوجة الجميلة الوقور المحتشمة. ولكن … هل تجاوز أضخم سد اعترض حياته بالفعل؟ هل استطاع أن «يزيح «الأم» والخوف والعجز والتوقف عند مرحلة الطفولة؟ بل هل تستطيع الزوجة أن تكون» عاملًا حاسما في التجاوز والتخطي؟ الحق أن الفنان اختار هذه الفتاة الوقور «زوجة» لكامل رؤبة؛ لتكون بمثابة الفتيل الذي يؤجج نيران المأساة اللاهبة في وجدانه … فالتثبيت السيكولوجي عند مرحلة الطفولة هو بعينه التوقف الجنسي عند عتبات الدمامة. وبالتالي فإن الزوجة الجميلة ليست إلا بديلًا شرعيًّا للخادمة القديمة من ناحية، كما أنها النقيض العاطفي للأم. وإذن فهي عنصر تراجيدي يسهم في تفجير المأساة فنيًّا وإنسانيًّا. في المستوى الفني تصبح هي التجسيد الدرامي لجوهر الأزمة، فهي مرآة العجز التام من جانب الشخصية التي صاغها الفنان في الإطار الأوديبي، فكأن العجز الجنسي هو المرادف للشلل الكامل. ومن ثم تكون المرأة الدميمة التي التقى بها فيما بعد هي البديل اللاشعوري للخوف والعجز والتثبيت، فقد كانت الأنثى الوحيدة التي «لم يعجز» عن القيام بعلاقة جنسية كاملة معها. كانت الدمامة هي مرآة الحرية بحق. وكان الصراع بين الحاجة إلى الزوجة والحاجة إلى العشيقة هو الصراع بين الواقع المشوه والحلم، بين العبودية والحرية المهيضة الجناح، بين العالم البشع والعالم السراب. لقد سبق لفرويد أن فسر عقدة أوديب كنتيجة للنزاع بين «الواقع» كما يمثله الوالدون والمجتمع وبين شهوات الطفل غير المعقولة. أما فروم فيرى عقدة أوديب تعبيرًا عن نزاع بين كفاح الإنسان الشرعي في سبيل الحرية والاستقلال، وبين تلك الأوضاع الاجتماعية التي تعترض تحقيق الذات والاستقلال. لهذا لم تكن مصادفة أن يصوغ الفنان شخصية كامل فاقدةً للوعي السياسي والاجتماعي والوطني في الوقت الذي تنطق فيه إحدى الشخصيات الثانوية: «أرى الآن المصريين جميعًا يعيشون في سجن كبير.» أي أن مكونات الشخصية الرئيسية في القصة من خوف وعجز وتوقف تام عن النمو ارتفعت بالوضع الأوديبي للأحداث إلى مستوى الرمز الشامل لقضية الحرية بشكل عام، ومأساة المعرفة — أو الوعي — بشكل خاص، وإن حلقت هذه المأساة بجناحين من أزمة الخبز وأزمة الجنس. ولعل البناء الفني هو الذي حدد الطبيعة الرمزية للوضع الأوديبي هكذا؛ فقد كانت بذرة المأساة هي التثبيت عند حدود التعلق المفرط بالأم. واللذة اللانهائية في ممارسة العلاقة الجنسية مع أشباح الدمامة والقبح. وعندما نمت الشخصية مع جريان الأحداث لم يحدث النمو في واقع الأمر إلا من الناحية الشكلية، من ناحية المظهر. أي أن كامل — وهو شاب — لم يكن إلا الطفل المدلل الذي عرفناه في بداية القصة. ومن ثم كان طبيعيًّا أن يعجز عن اللقاء الجنسي مع زوجته الجميلة التي تنطبق مواصفاتها في الحقيقة على الأم. كما كان طبيعيًّا للغاية أن ينجح هذا اللقاء مع المرأة الدميمة التي تنطبق مواصفاتها على الخادمة. وعندئذ تقوم الزوجة-الأم بدور «الدمار» في حياة الشخصية، وترتدي العشيقة-الخادمة ثياب «المنقذ» من الدمار، غير أنه عندما رُد إليه البصر «رأى سعادته سرابًا»! كانت المرأة هي فرصته «الوحيدة لاسترداد الثقة الضائعة.» يقول كامل بين أحضانها: «وشعرت من الأعماق برغبة إلى هذه المرأة ليست دون الرغبة إلى الحياة؛ بل هي الحياة نفسها والكرامة والرجولة والثقة والسعادة … ولم أسائل نفسي عما إذا كنت قد أخطأت لأن ما استرددته من السعادة والثقة كان فوق الخطأ والصواب.» كانت المرأة الدميمة توكيدًا لا واعيًا لذاته، وتحقيقا لا شعوريًّا لوجوده. الذات والوجود؟! أجل هما المحور الحقيقي لذلك الصراع الجديد الذي بدأ بين روحه وجسده كما يقول، وبين الزوجة الجميلة (أو الأم) والعشيقة الدميمة (أو الخادمة)، كما تقول الأحداث، وبين التثبيت والنمو كما يقول فرويد وبين الفرد والعالم السراب، أو بين الإنسان والحرية كما يقول نجيب محفوظ. يصف كامل المرأة الدميمة قائلًا: «وكانت تملؤني ثقة لا حد لها، فلم أكن أحمل لشيء همًّا. ولولا ما كان ينتابني من قلق منشؤه ذلك الانفصال المخيف بين روحي وجسدي، لتمليت الحياة صفاء خالصًا.» والروح هنا هي الزوجة الأم، الطفولة، العجز. والجسد هو العشيقة، الدمامة، النمو، الحرية. والمرحلة الرابعة من المأساة الخاتمة التلقائية العفوية لهذا البناء القدري. فالزوجة العذراء «تخون» طفلها «البكر» في نظرها فتموت على مشرحة الخيانة وعشيقها الطبيب يحاول إنقاذها. تنتهي المأساة إذن بانفصال أبدي بين الروح والجسد! ماتت الزوجة وماتت الأم، وبقيت العشيقة الدميمة. واجتاحت كامل ثورة عارمة «تتحدى قوة الموت» واستحال شخصًا جديدًا مخيفًا «غير الشخص الذي عرفه العالم قرابة ثلاثين عامًا»، «لقد تمخض خضوع العمر عن ثورة جائحة.» ثورة إلى أين؟ يجيب في صدق عميق: «آه، لا يمكنني أن أولد من جديد.» أما الله «ألا يزال أرحم الراحمين، وداعًا فلن أعبده بعد اليوم، وأحسبني منذ اليوم في عداد الأموات. نِمت دهرًا طويلًا غائبًا عن دنياي المتجهمة، فما ألذ أن أنام إلى الأبد، لم تكد تبقى ثمة حياة إلا في خيالي.» انفصلت الروح عن الجسد، تبعثرت نقائض الصراع، ولم يعد هناك سوى السراب. والتعبير الفكري عن العالم السراب هو التصوف «وإنما خلقت للتصوف. والتصوف؟ لست أدري ما هو على وجه التحقيق! ولكنه وحدة وعزوف وتكفير، وما أحوجني للوحدة والعزوف والتكفير.»

ولا شك في أن ثالوث التراجيديا لم يتضح من قبل كما اتضح الآن في خاتمة ملحمة السقوط والانهيار. فالعقاب والتكفير والغفران كامتداد لمعنى الخطيئة في المأساة هي العناصر الرئيسية التي أسهمت في صياغة العالم-السراب. لقد حاول الفنان أن يتجاوز إنسانه البرجوازي الصغير، إنسانه المعذب إلى الأبد، إلى عالم الخلاص، ولكنه لم يكتشف سوى السراب. في المستوى الفردي تركزت عند نجيب محفوظ كافة الإمكانات الفنية للبحث والاستكشاف … ومع هذا تأكد لديه أن الضائع والمضطهد في محاولتهما لاجتياز الطريق القصير أو الطريق المسدود أن يجدا سوى السراب. فالسراب هو النتيجة النهائية لمحاولة التجاوز، وهي محاولة ملحمية بالرغم من كافة العناصر التراجيدية المشتركة في صياغة المأساة. هي محاولة ملحمية؛ لأن الصراع الغالب يتم بين الداخل والخارج. أما المحاولة التراجيدية فتم في كافة المستويات الداخلية والخارجية معًا. والصدق الموضوعي العظيم الذي التزم به الفنان هو الذي اتجه به — ملحميًّا — إلى الضائع أو المضطهد … لأن البطولة التراجيدية كانت من نصيب المنتمي فحسب.

•••

لماذا أقول بأن البناء الروائي في القاهرة الجديدة وخان الخليلي وزقاق المدق وبداية ونهاية والسراب، هو بناء ملحمي؟ لا شك أني لا أستخدم هذا التعبير من قبيل المجاز؛ لأني ألمح بالفعل تشابكًا بين هذه الروايات الخمس — هو قريب الشبه من تشابك قصص بلزاك في الكوميديا البشرية — كما أنني أرى الكثير من العناصر الملحمية ضمن هذه الوحدة الدينامية بين القصص. فكل قصة تؤدي إلى الأخرى بغير تعسف أو افتعال كأي حلقة تتماسك مع التي تليها في سلسلة واحدة، والصراع الرئيسي في كل قصة يدور بين الذات والعالم الخارجي، وقلما نشاهد صراعًا داخليًّا بصورة رئيسية. لهذا كانت الشخصيات الأساسية هي شخصياتٍ تراجيديةً لا أبطال تراجيديين وهي شخصيات تصوغ فيما بينها البطولة الملحمية أي إن الضائع والمضطهد وعابرة الطريق القصير وعابر الطريق المسدود والماضي إلى السراب، كل أولئك شخصيات تراجيدية إذا انفصلت كل منها على حدة، ولكنها تكون في مجموعها «البطل الملحمي»، وبمعنى آخر، هي وجوه متعددة للبطل الملحمي الواحد. وملحمية البطولة هنا في الصراع الذي لا ينقطع بين الشخصية التراجيدية والواقع المحيط بها. إلا أنها ملحمية من نوع خاص متفرد، فقد عودتنا الملاحم. في معظمها على انتصار البطل في النهاية، والملاحظة السريعة على ملحمة نجيب محفوظ أنها، دائمًا، ملحمة السقوط والانهيار. لذلك كانت هذه الملحمة القصصية ذات طابع تراجيدي وإن لم تكن من التراجيديا في شيء. هي تكتسب طابعها التراجيدي من معنى القدر ومعنى الشر ومعنى الخطيئة، وبقية المعاني التي تتسم بها التراجيديا. ولكنها لم تكتسب قَط البطولة التراجيدية القائمة على الصراع الذاتي المضطرم الذي ينتهي بمأساة الشخصية العظيمة المنقسمة على ذاتها (وإن كانت التراجيديا في نظر القرون الوسطى تعني قصة أكثر منها تمثيلية. برادلي) وأرجو أن يكون قد اتضح لنا من سياق الدراسة أنَّ قدر نجيب محفوظ يقترب كثيرًا من القدر الشكسبيري الذي وصفه برادلي بأنه تعبير أسطوري عن جهاز أو نظام بكامله يؤلف فيها الأفراد جزءًا تافهًا لا يعتد به، ويبدو أنه يحدد — أكثر بكثير مما يفعلون هم — ميولهم الفطرية وظروفهم، وهذه تؤدي إلى تحديد تصرفهم، وهو بالغ من العظم والتعقد حدًّا قلَّما يستطيعون معه فهمه فهمًا تامًّا، أو التحكم في تصرفاته، وله خاصية واضحة محددة إلى حد يجعل أية تغييرات تطرأ عليه تولد تغييرات أخرى حتمية دون مراعاة لرغبات الناس وما يبدون من ندم. (ذهب عباس الحلو إلى معسكرات الإنجليز من أجل حميدة، ثم اختصرت هي الطريق وذهبت إلى الإنجليز في الحانات، كل منهما منطقي تمامًا مع نفسه. ذهب الحلو إلى الإنجليز ليأخذ حميدة وعاد ليجد الإنجليز سبقوه إليها؛ بل هم الذين يقتلونه من أجلها. والكل منسجم مع تفكيره. إلا أن التعبير الأسطوري عن النظام، الذي يؤلف الأفراد فيه جزءًا تافهًا لا يعتد به، يخلق الثغرات التي تجعل المنطق الصارم يؤدي إلى التناقض الحاد، أو، كما عبر أراجون، تجعل الإنسان يفتح ذراعيه ليستقبل الدنيا فترتسم خلفه علامة الصليب، ونستطيع أن نتتبع هذه الظاهرة في جميع أحداث الروايات الخمس)، فإذا استطعنا أن نتصور البناء الفني لهذه المجموعة من القصص في الإطار الملحمي المشبع بجوِّ المأساة لا بد لنا من اعتبار محجوب عبد الدايم وأحمد عاكف وحميدة وحسنين وكامل رؤبة لاظ بطلًا ملحميًّا — من نوع خاص — هو الإنسان البرجوازي الصغير في مصر الذي يتضمن في تكوينه المأساة المصرية بكاملها، ويرمز في نفس الوقت إلى المأساة الإنسانية الشاملة … وإذا كان الفنان قد استخدم النثر القصصي في هذا البناء الملحمي، ونحن في النصف الثاني من القرن العشرين، فإنني أعود بهذه الظاهرة إلى مرحلة الاضطراب أو الفوضى التي تميَّز بها تاريخنا الأدبي الحديث؛ حيث التقينا بفجر العصر الحديث نحمل على أعناقنا تراث القرون الوسطى.

ومنذ «حديث عيسى بن هشام» إلى «زينب» إلى «حواء بلا آدم» نلتمس إرهاصات الصياغة الملحمية للمأساة المصرية، غير أن التوقف عند حدود المعنى الرومانسي للمأساة — الذي عثر على امتداداته في يوسف السباعي وعبد الحليم عبد الله — قد جعل من روايات نجيب محفوظ الخمس نقلة خطيرة إلى الاتجاه الواقعي الذي يقترب بهذه المجموعة من القصص إلى المستوى الملحمي … تمامًا كما فعل بلزاك في كوميدياه البشرية، وكما فعل سنو في الأدب الإنجليزي.

ولعله من السمات الملحمية البارزة على جبين الشخصيات التراجيدية في ملحمة السقوط والانهيار مبدأ «النمطية والتفرد» في الشخصية الواحدة، أي أنْ تكون هذه الشخصية واجهة عرض مزدوجة، كما يقول أنور المعداوي. فهي تشترك مع جميع الشخصيات في بعض الصفات؛ بل قد تجسد بعضًا من صفات العصر، ولكنها تتميز في نفس الوقت بصفات خاصة بها. وبالتالي فهي تشارك في صنع مأساة الآخرين كما أنها تتسبب في مأساتها الخاصة. ومن هنا تصبح نموذجًا وفردًا في آن واحد. كذلك من هذه السمات «ازدواجية الشخصية»، أي الشخصية التي لا تعيش حياتها ولا تحقق وجودها، ولا يعنيها ذلك في شيء، بقدر ما يعنيها أن «تصل» إلى هدف صغير في ثياب مزيفة أو قناع مضلل.

على أن أهم ما تتسم به ملحمة السقوط والانهيار عند نجيب محفوظ هو موضوعية البناء التراجيدي. فهو بناء موضوعي يرتكز أساسًا على الإحاطة الشاملة بجوهر المأساة وعناصرها التفصيلية. لذلك يعتمد على التناقضات والمفارقات والتباين، بالإضافة إلى الاختيار. ومعنى هذا أن موضوعية البناء الفني شيء مختلف عن الحياد الفكري. أي أن نجيب محفوظ يستكشف ملامح المأساة المصرية من وجهة نظر المنتمي إلى المأساة، المنتمي المأموم على وجه الخصوص، ولكنه يصوغ وجهة النظر هذه في بناء موضوعي يقوم من زاوية رئيسية على الاختيار. فحين نكون غارقين في مأساة — يقول برادلي — نُحِس نحو الأمزجة والتصرفات والأشخاص بمشاعر مثل الانجذاب والنفور والعطف والدهَش والخوف والفزع، وربما الكراهية، ولكننا لا ندين أحدًا أو نحكم عليه. ونحن طوال وجودنا في عالم المأساة نرقب ما يحدث ونرى أنه هكذا حدث وكان يجب أن يحدث. مدركين أنه أمر يرثى له «مخيف فظيع غامض»، ولكننا لا ندين الفاعل أو نتساءل عما إذا كان تصرف القدر نحوه تصرفًا عادلًا. ولا ريب أن القدر — هذه الثغرة التي تحدث لمنطقنا المألوف في رؤية الأشياء — من عناصر البناء الموضوعي في ملحمة نجيب محفوظ. هذه الملحمة التي تستلهم موضوعيتها من نظرية الفنان في عملية الخلق الفني من ناحية، ومن طبيعة المأساة المصرية من ناحية أخرى. إننا نجد في التراجيديا الشكسبيرية، كما يقول برادلي: إن المصدر الرئيسي للأزمة التي تولد العذاب والموت لا يكون قط مصدرًا صالحًا. والصلاح لا يساهم في إحداث هذه الأزمة إلا من جراء تورطه المؤسي مع نقيضه في الشخصية الواحدة. فالمصدر الأساسي هو، على العكس، شر في جميع الحالات. والنتيجة أنه إذا كان الشر بالذات هو الذي يُحدِث اضطرابًا عنيفًا في نظام العالم، فإن هذا النظام لا يمكن أن يكون موقفه وديًّا من الشر أو سلبيًّا بين الشر والخير. إن الشر الذي يتصدى له الجهاز أو النظام القدري والأشخاص الذين يكمن فيهم هذا الشر ليسوا في واقع الأمر شيئًا خارجًا عن النظام؛ بحيث يستطيعون مهاجمته أو يعجزون عن الانسجام معه؛ لأنهم في نطاقه وجزء منه «إنه هو نفسه يولدهم» إن الذي نحسه يتفق إلى حد مماثل مع فكرة أنهم هم أنفسهم أجزاء هذا النظام والمعبرون عنه ونتاجه، وأن هذا النظام يدخل في صراع واصطدام مستمر مع نفسه. ويبدو أن الكل أو النظام الذي يُظهر الجزء الفردي نفسه عاجزًا أمامه إنما مبعثُه التطلع إلى الكمال. ولا يمكننا بغير ذلك تعليل سلوكه نحو الشر.

على ضوء هذا التحديد نقول: إن نجيب محفوظ أثناء العملية الإبداعية لا يتعسف مع الواقع فيحنطه ضمن أُطُر حديدية من النظريات الفكرية … ولكنه يستلهم من الواقع، بطريقة موضوعية تمامًا، بضعَ جزئيات يتم تنسيقها، في مستوى عملية الخلق، وفق وجهة نظر المنتمي-المأزوم، إلى المأساة. ونتتبع هذا المعنى على وجه مفصل فنربط بين اختيار الفنان للجانب المأساوي من الحياة إلى «صدق موضوعي صارم» مع النفس من جهة، ومع جوهر الحياة من جهة أخرى. ذلك أن قضية الحرية في بلادنا هي قضية القضايا في حياة البشر، وبالرغم من ذلك فقد عاش تاريخنا مكبلًا بأغلال العبودية منذ فجر أيامنا. ومن هنا كانت مأساة الحرية جوهرًا حقيقيًّا لحياة الشعب المصري، كما كانت أجنحتها الثلاثة — الخبز والجنس والمعرفة — تفصيلًا حقيقيًّا لمأساة هذا الشعب. ولا يؤكد على هذا المعنى إلا الفنان المنتمي إلى هذه المأساة، وإن ظل هذا الانتماء في إطار الحقيقة الموضوعية، كما قال نجيب محفوظ بالضبط. ومن هذا المستوى تصبح قضية، أو قضايا، المأساة المصرية هي الخامة المالئة لكيان ملحمة السقوط والانهيار، وليست مسحًا اجتماعيًّا على الإطلاق كما توهَّم البعض. فليس المجتمع والتاريخ في هذه الروايات الخمس إلا عناصر الإطار الموضوعي لمأساة الحرية في الخبز والجنس والمعرفة من خلال قضية الضائع أو المضطهد أو الطريق القصير أو الطريق المسدود أو السراب. أي إن ثمة قضايا فكرية محددة تنسج محورها وتفاصيلها من خلال قضية كبرى شاملة، وليس الإطار الاجتماعي أو التاريخي إلا تحديدًا فنيًّا لموضوعية المأساة. ولا شك في أن موقف الفنان المنتمي-المأزوم، من هذه المأساة لن يكون، كما لاحظنا، موقفًا متكاملًا متماسكًا. ذلك أن أزمته الموضوعية (التي تستمد كينونتها الخاصة من أزمة الديمقراطية وانعكاسها على مثقفي البرجوازية الصغيرة) قد انعكست بصورة واضحة على منهجه في التخطيط الفني للمأساة؛ إذ استطاع أن يضع كلتا يديه على جوهر المأساة المصرية — وهو أحد أبناء جيل المأساة في تاريخنا الأدبي والاجتماعي على السواء — فحددها في الحرية بأبعادها الثلاثة من إحدى الزوايا، وفي علاقة الذات بالعالم من زاوية أخرى. كذلك استطاع أن يتعرف على الضائع والمضطهد والطريق القصير والطريق المسدود والسراب، كمكونات للنسيج — أو التجميد — الحياتي للبرجوازية الصغيرة؛ بينما الانتماء إلى اليمين أو اليسار هو التلخيص الفكري — لا التجسيد — لاستقطابات هذه الشريحة الاجتماعية. نتبين انعكاس أزمة الانتماء عند نجيب محفوظ في تفصيله لدقائق النسيج الأساسي للبرجوازية الصغيرة من ضياع واضطهاد … إلخ، واعتماده المفرط على التلخيص والتعميم — وما يجنحان به إلى مثالية بعيدة عن الواقع — إذا تصدى للمنتسبين إلى اليمين أو إلى اليسار. كذلك تتضح هذه الأزمة في صياغته لعلاقة الحرية بمأساة الخبز والجنس والمعرفة … فهو يربط بين هذا الثالوث في مستوى مطلق هو البؤس بشكل عام، ولا يوضح الاختلافات الدرجية أو الكيفية في المستوى الاجتماعي؛ حيث ترتبط قضية الحرية بمأساة الخبز والجنس والمعرفة بصورة تتفاوت طبقيًّا فئة إلى أخرى. لهذا جاء الارتباط بين الحرية وأجنحتها الثلاثة أقرب إلى المنهج الرياضي الذي يصل بين المقدمات والنتائج بصورة جبرية بعيدًا عن حرارة التجربة الإنسانية الحية التي لا تخضع في كثير من الأحيان لهذه الخطوط العريضة. نشأ عن ذلك ما يشبه التسوية بين النسيج الأساسي للمأساة (الضائع، المضطهد … إلخ) واستقطاباتها الفكرية (المنتمي إلى اليمين أو اليسار)؛ بينما كان الارتباط التفصيلي بين مأساة الحرية والمجتمع المصري — الذي أدى به لأن يتعلق بالبرجوازية الصغيرة كنموذج ومثال — كان يؤدي به هذا الارتباط الحي الناجم عن تشابك التجربة الإنسانية، لا عن معادلات رياضية، إلى اعتبار أن المنتمي اليساري النموذج الأكثر كمالًا والمثل الأكثر حياة في تجسيد قضية الحرية في ظل القهر الذي يعانيه أضعاف أضعاف النماذج الأخرى في المجتمع الطبقي المتخلف حضاريًّا.

غير أن نجيب محفوظ قد أفاد من المنهج العلمي في التعرف على الواقع تعرفًا حميمًا. ذلك أن أسس البناء المأساوي في ملحمة السقوط والانهيار لم تخرج عن القوانين الأساسية للمنهج الجدلي: الترابط – التناقض – الحركة – التغيير. هذا لا يمنع أن أزمته كمُنتَمٍ انعكست على استخدامه لهذا المنهج. فقد أفاد منه في المستوى الفني أضعاف إفادته منه في المستوى الفكري. كان الترابط بين الأحداث والظواهر والأفكار والشخصيات يخلق في القصة تماسكًا قويًّا بين المقدمات والنتائج … ولم يكن هذا يتم بمعزل عن الصراع الذي لا ينقطع بين جزئيات التجربة الإنسانية ككل؛ بل إن التناقضات المستمرة بين المواقف من جهة، وبين الأسباب والنتائج من جهة أخرى هي التي خلقت ما أدعوه بالوحدة الدينامية في العمل الفني. وهي دينامية لأنها تقوم على الحركة الدائبة المستمرة التي تُشيع في البناء الملحمي حياةً وحرارة قلما نحصل عليهما في الأعمال القائمة على التشويق المفتعل. فالحركة الداخلية في العمل الأدبي تؤدي إلى التغيير في مجرى الأحداث أو في حياة القارئ على السواء. والتغيير في مفهومه الجدلي العميق لا ينبغي أن يقترن في أذهاننا بالصور الجميلة المتفائلة. فالحق أن نهايات حلقات ملحمة السقوط والانهيار تكتسب لونها الأسود عن جدارة. ومع هذا فإرادة التغيير كامنة في هذه النهايات التي لا تنفصل عن مقدماتها. فالحصيلة الختامية التي نفوز بها هي أن جميع الطرق مسدودة أمام الوسائل الفردية للتمرد، ولم يعد هناك سوى الثورة الشاملة. لقد أكد نجيب محفوظ — بالرغم من أزمته كمنتمٍ وتمشيًا مع صدقه الموضوعي مع النفس والواقع — أن محاولات الضائعين والمضطهدين وهواة الطريق القصير والطريق المسدود تؤدي جميعها إلى السراب. وإن حقيقة التغير الجذري كامنة في أحد الجناحين اللذين يلخصان الاستقطابات الفكرية في المجتمع. هذا الجناح هو اليسار على وجه التحديد. وإذا كانت مأساوية المحاولات البعيدة عن اليسار تتم من خلال أزمة الوعي، فإن مأساوية المنتمي اليساري تتم من خلال ذروة الوعي، فالتناقض مع المجتمع والسلطة الطبقية.

أي أن المأساة في الحالين هي عصارة الحياة المصرية إذا شئنا أن نكون صادقين أولًا، وموضوعيين ثانيًا. يقول نجيب محفوظ في حديث له: «لم أتعمد الحزن لكنني كنت حزينًا بالفعل، ومن جيل غلب عليه الحزن حتى في لحظات البهجة، ولم يوجد به سعيد إلا من كان لا مباليًا أو من الطبقة العالية غير الشعبية.» ويؤكد أن اهتمامه بالفكر الاجتماعي «مبعثه الشعور بالاضطهاد الاقتصادي والسياسي كما ترى في القاهرة الجديدة وخان الخليلي وزقاق المدق وبداية ونهاية.» ثم يقول: «لم يلقَ شعب ما لقيه الشعب المصري من الاضطهاد.»١٤

يجب أن نضع في اعتبارنا هذه الكلمات المباشرة من الفنان، ونحن نرصد العلاقة بين الواقع والرمز في ملحمة السقوط والانهيار، العلاقة بين الأسطورة والمأساة.

١  د. صقر خفاجة، المأساة اليونانية، مكتبة الأنجلو، ١٩٦٢م.
٢  دار إيزيس للنشر بالقاهرة، ١٩٥٤م.
٣  قام الدكتور ثروت عكاشة بترجمة النص الكامل، ونشرته دار الكاتب العربي بالقاهرة ١٩٦٧م.
٤  «المسرح الديني في العصور الوسطى»، ترجمة: الدكتور محمد القصاص، المؤسسة المصرية العامة للنشر، ١٩٦٣م.
٥  الترجمة: حنا إلياس، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر، ١٩٦٣م.
٦  الناشر: دار الطليعة، بيروت، ١٩٦٢م.
٧  «المسرح المصري».
٨  إشارة إلى الطبعة التي أصدرها نادي القصة تحت هذا العنوان.
٩  مجلة «الرسالة الجديدة»، أغسطس، ١٩٥٦م.
١٠  كتاب «العشاق الخمسة»، طبعة الكتاب الذهبي.
١١  المصدر السابق.
١٢  المصدر السابق.
١٣  راجع «كلمات في الأدب»، المكتبة العصرية، بيروت.
١٤  الآداب، يونيو، ١٩٦٠م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤