الفصل الثالث

المنتمي بين الدين والعِلم والاشتراكية

«الفيلسوف هو الذي يضيف جديدًا إلى الفلسفة الإنسانية، أما الأديب المتفلسف فهو الذي يعبر تعبيرًا فنيًّا عما يأخذ به من هذه الفلسفة. وهو يفيد الفلسفة بذلك؛ لأنه يحولها إلى تجربة تعيش في النفس البشرية.»

يؤكد نجيب محفوظ بهذه الأسطر القليلة حقيقة هامة نستطيع أن نجتلي عناصرها فيما كتب من أعمال أدبية، فهو يصوغ وجهة نظر فكرية شاملة للإنسان والكون والمجتمع فيما تتضمنه هذه الأعمال من شخصيات وأحداث ومواقف. ووجهة نظر نجيب محفوظ لم تتكامل في رواية واحدة؛ بل لعلها لم تتكامل إلى الآن. غير أن هناك بعضَ الخطوط الرئيسية التي تزداد وضوحًا وثباتًا في كل عمل جديد. هذه الخطوط تشكل المحور الأساسي الذي تدور من حوله مختلف أفكاره القديمة والجديدة، وتنسجها مختلف أدواته التعبيرية. ويبدو هذا المحور في جلاء تام فيما يمكن ملاحظته من إلحاح الفنان على مجموعة من النقاط. وربما كان الانتماء إلى اليمين أو إلى اليسار أو كليهما معًا، في مقدمة النقاط التي تحدد طبيعة المحور الدرامي في مآسي نجيب محفوظ الروائية. ولا تجيء قضية الانتماء في المقدمة عبثًا، وإنما لترسم بعدئذ الطريق لكافة النقاط التالية.

فالنماذج البشرية الأخرى؛ كالضائع والمضطهد وغيرها، نراها دائمًا بين قوسين هما اليمين واليسار. واليمين غالبًا هو الموقف المتدين المستقر على جدران السلف. واليسار غالبًا هو ذلك الموقف العلمي من الدين والمجتمع. أي إن الدين عند اليميني واليساري على السواء، هو نقطة البداية في قضية الانتماء. وهو وضع يخص الحضارة العربية بالذات؛ لأن المسيحية في الغرب هي من ناحيةٍ بضاعة مستوردة من الشرق، ومن ناحية أخرى لا تثبت طويلًا أمام تحديات العلم الأوروبي. وانعدام الإيمان بها — ثالثًا — لا يهدد أنظمة الحكم القائمة حديثًا، ولا يضع المواطن الغربي في صف اليسار.

أما نحن فالأمر مختلف إلى حد كبير. إن التدين من العناصر الأصيلة في تكويننا الحضاري. والتدين أحد الأسلحة الخطيرة في أيدي اليمين. لهذا كان المنتمي إلى اليسار في موقف «رد الفعل» من الدين والمتدين معًا، وبصفة دائمة. إنه يجد نفسه وجهًا لوجه أمام حضارة كاملة يريد تغييرها. ويجد نفسه مرة أخرى وجهًا لوجه أمام نقطة شائكة أنَّ «أدوات التغيير» ليست صناعة محلية. إنه في مأزق لم يعرفه الثوري في الغرب. وهو في مأزق نفسي مرير؛ فبينما يتسلح الأوروبي بالماركسية — وهي صناعة أوروبية — في وجه الدين المسيحي وهو بضاعة مستوردة، يفاجأ الثوري في الشرق بأنه يقف في الطرف المقابل؛ يستورد العلم ونظريات التغيير من أوروبا ليواجه حضارة متدينة منذ آلاف السنين. لهذا يكون موقف المنتمي إلى اليسار في بلادنا هو رد فعل لجوهر هذه الحضارة. وردود الأفعال تتسم بالتضخم والانفعال والمبالغة. ومن ثم يصبح الموقف من الدين هو نقطة البدء عند اليساري العربي. وليس كذلك، موقف المنتمي اليميني من الدين … لأنه يرى فيه منذ البداية مسندًا مريحًا للكسل العقلي، وعاملًا خطيرًا في توطيد مصالحه الاجتماعية؛ فأغلبية الجماهير الشعبية متدينة، وجاهلة، وبالتالي يمكن الاعتماد عليها من هذه الزاوية، خاصةً إذا كانت هي الهدف في الاستغلال الاجتماعي. ومما يزيد موقف اليساري العربي تعقيدًا أنه يرتبط باليسار السياسي عن طريق الفكر. فهو يرى في النظريات المادية العلمية حلولًا لأزمته الشخصية. وأزمته الشخصية الأولى هي الصراع بين الدين والواقع. تجيء المشكلة الاجتماعية، إذن، تالية للمشكلة الفكرية. بل لعله — أي المثقف البرجوازي — يفاجأ بأن الحل المادي العلمي لأزمته الشخصية يقوده بالضرورة إلى ما لم يكن في الحُسبان، إلى أزمة أكثر شمولًا، هي أزمة المجتمع. وربما يستطيع في المدى الطويل أن يزاوج بين الأزمتين إلى درجة الالتحام — في ظروف النضال الفكري والسياسي — ومع هذا يظل الارتباط الفكري له الغلبة والسيادة على الارتباط السياسي. ومن هذا يبرز موقف اليساري من الدين عند المثقفين، أكثر منه عند العمال والفلاحين.

نجيب محفوظ أحسَّ بضراوة هذه المشكلة في أولى رواياته التي واجهت الواقع المصري المباشر. في «القاهرة الجديدة» نلتقي بمأمون رضوان وعلي طه، وهما نموذجان يلخصان أزمة اليمين واليسار في تلك المرحلة السابقة على الحرب العالمية الثانية. والسؤال الأول هو: كيف صور الفنان هذه الأزمة في نسيجها الفني؟ إنه لم يتجاهل قط أن الدعوات الدينية الكبرى هي الحصيلة الحضارية للمنتمي العربي في مصر، وأن الانتماء هو الاستناد على جدار نفسي من عقيدة فكرية معينة. هكذا يلتقي علي طه ومأمون رضوان في قوله: «نحن متفقان على ضرورة المبادئ للإنسان، هي البوصلة التي تهتدي بها السفينة وسط المحيط.» ثم يفترق الاثنان بعدئذٍ؛ فيقول مأمون: «حسبنا المبادئ التي أنشأها الله — عز وجل.» أما علي طه فيؤمن «بالعِلم بدل الغيب، والمجتمع بدل الجنة، والاشتراكية بدل المنافسة». الدين — إذن — هو المحك الذي يختلف كلاهما بشأنه، أحدهما ناحية اليمين، والآخر ناحية اليسار، ويشير الفنان إلى أن مأمون رضوان أصيب بمرض أقعده عن اللحاق بالمدارس حتى الرابعة عشرة، وأصيب أثناء الدراسة بالتطرف في كل شيء، في الاستذكار والمناقشات والعبادة. أما المناقشات فكانت مقصورة على الدفاع عن ثالوث الإسلام والعروبة والفضيلة، ولكن ميله للوحدة تأصل في طبعه منذ عهد مرضه العصبي الطويل، غير أن هذا الانطواء لم يمنعه من أن يعلن جهارًا أنه لا يؤمن بما يسمونه حينذاك بالقضية المصرية، ويقول بحماسه المعهود: إن هناك قضية واحدة هي قضية الإسلام والعروبة. وكان الشاب يجد بين زملائه مؤمنين صادقين، فلم يشعر في إيمانه بعزلة، ولكنه لم يظفر بواحد يشاركه حماسه في الدعوة إلى الإسلام والعروبة، فقد استغرقت الأذهان أمور أخرى في ذلك الوقت؛ كالقضية المصرية، ودستور عام ١٩٢٣م، ومقاطعة البضائع الأجنبية. نجيب — بهذه الكلمات — يحدد السمات المشتركة بين مأمون وجمهرة الشباب المصري آنذاك، كما يحدد السمات التي ينفرد بها مأمون رضوان من دونهم جميعًا. وهكذا تجمع الشخصية الفنية بين أصالة الفردية ونمطية النموذج الدالة على قضية فكرية.

ويترك الفنان «بداية» الانتماء إلى اليمين؛ لينتبه إلى «بداية» الانتماء إلى اليسار. فإذا كان الدين قد أغرق المنتمي اليميني في دوامة العزلة عن الحركة الوطنية بالالتفاف حول شعار الإسلام والعروبة، فإن الموقف النقيض عند علي طه أن يحب بشجاعة الإنسان غير المتدين، يحب عقل الفتاة كما يحب شخصها. ولا يفوت نجيب محفوظ أن يصوع علي طه في إطار الشخصية الحية، فيصفه قائلًا: «… والواقع أنه لم يكن يخلو من تناقض، كان كثيرًا ما يستهين بالملابس والمأكل ونظام الطبقات، ولكنه كان يلبس فيتأنق، ويأكل لذيذ الطعام حتى يشبع، وينفق عن سعة» … إلا أن هذا التناقض جاء امتدادًا للتحول الذي داهم الشخصية في مستهل حياتها الجامعية، فقد تزعزعت عقيدة علي طه «وتعرض لآلام التحول الفتاكة»، ثم ارتمى بين أحضان الفلسفة المادية؛ هيكل وأُستوالد وماخ، وآمن بالتفسير المادي للحياة، وارتاح أيما ارتياح للقول بأن الوجود مادة، وأن الحياة والروح تفاعلات مادية معقدة. إن هذا التصوير لشخصية المنتمي اليساري في ذلك الوقت، يبلغ درجة عالية من الصدق؛ لأن المادية — كما قلت — تحل أزمته الشخصية أولًا، ثم تقوده فيما بعد إلى أزمة المجتمع. والمادية التي عاشت في مصر قبيل الحرب العالمية الثانية ليست هي المادية الجدلية أو المادية التاريخية التي من شأنها أن تنظم العقلية اليسارية تنظيمًا علميًّا دقيقًا، وإنما كانت تلك المادية التي تبسط شئون الطبيعة والكون تبسيطًا مذهلًا يقرب بها من الرخص والابتذال. وبينما كانت أوروبا قد تجاوزت هذه المرحلة من مراحل تطور الفلسفة المادية، إلا أن الشرق العربي كان على حياء شديد في استقبال هذه المرحلة الفجة. وبينما كانت المادية المبتذلة تمثل مرحلة رجعية في الفلسفة العلمية عند الغربيين، كانت تمثل في بلادنا دورًا ثوريًّا للغاية. وذلك أن الدين عندنا كان، وما يزال، مؤسسة قوية من مؤسسات اليمين. ولم تكن مادية هيكل وماخ في واقع الأمر إلا حربًا على الدين. أما الجانب الاجتماعي فقد تلقاه معظم الشباب المصري في تلك الفترة عن أوجست كومت. ونعود إلى علي طه فنراه قد ظفر بأوجست كومت «وبشره الفيلسوف بإله جديد هو المجتمع، ودين جديد هو العقل، آمن بالمجتمع البشري والعلم الإنساني، وأعتقد أن للملحد — كما للمؤمن — مبادئ ومثلًا إذا شاء وشاءت له إرادته، وأن الخير أعمق أصولًا في الطبيعة البشرية من الدين، فهو الذي خلق الدين قديمًا وليس الدين الذي أوجده كما كان يتوهم. وجعل يقول في نفسه: كنت فاضلًا بدين وبغير عقل، وأنا اليوم فاضل بعقل وبلا خرافة … وثاب إلى مُثُله العليا آمنًا مطمئنًا ممتلئًا حماسًا وقوة؛ وشغف بالإصلاح الاجتماعي، وحلم بالجنة الأرضية، فدرس المذاهب الاجتماعية، حتى طاب له أن يدعو نفسه اشتراكيًّا!»

إن أسوأ ما في هذه الصيغة الخبرية أنها لا تجعل الشخصية في حالة «فعل»، إن الفنان يقف بيننا وبين شخصياته كوسيط بينها وبين القارئ في أحسن الأحوال، أو كوصي على ذكاء القارئ إذا لم تكن الأحوال حسنة. وهو يفسد بذلك مدلول الحركة عند الشخصيات، فلا نقتنع بيسارية علي طه أو يمينية مأمون رضوان، من خلال حركة اليسار الذي ينتمي إليه علي طه أو اليمين الذي ينتمي إليه مأمون. وإنما من خلال البوق الذي يمسك به المؤلف هاتفًا بإيمان مأمون واعتراضه على زميله بأن «للإسلام اشتراكيته المعقولة، فيه الزكاة التي تضمن، لو طُبقت بدقة، العدالة الاجتماعية دون جور على الغرائز التي يستمد منها الإنسان العون في كفاحه، فإذا أردت للدنيا نظامًا يهيئ لها الأُخوة الحقة والسعادة والعدالة، فدونك والإسلام.»

إننا نعلم يقينًا أن قضية الانتماء في القاهرة الجديدة قضية ثانوية؛ ذلك لأن الانتماء في تلك المرحلة لم تكن دعائمه توطدت بعد. الضائع هو الشخصية الرئيسية في الرواية، أما المنتمي إلى اليمين أو إلى اليسار، فهو شخصية ثانوية. بل إن درجة الانتماء نفسها لم تبلغ درجة عالية من النضج؛ لأن الضباب الفكري كان يحيطها بهالة رومانسية في أغلب الأحيان. هذا كله حق. وقد كان الفنان صادقًا غاية الصدق في تصور اللوحة التاريخية لعصرنا قبيل الحرب الثانية، غير أن منهجه في التعبير كان يتسم بسكونية واضحة تلتزم الشخصيات إزاءها بمنطق التبرير للمواقف والأحداث، ولا تدع إمكانية التناقض قائمة في السلوك العفوي لهذه العناصر الفنية جميعها. فيبدو لنا المنتمي اليساري أو اليميني في حالة «محلك سر» حينًا، أو في حالة توازٍ مع بقية خطوط الرواية أحيانًا أخرى. ومن هنا تفقد القضية أهمية الصراع الكامن بين أطرافها وتناقضاتها. فلا يكفينا مطلقًا أن يصرخ علي طه في وجه زملائه: الحاجة ماسة حقًّا إلى وُعَّاظ من نوع جديد، من كليتنا لا من الأزهر، يبينون للشعب أنه مسلوب الحقوق، ويدلونه إلى سبيل الخلاص. أو أن يرد عليه مأمون رضوان بنفس الدرجة من الثبات واليقين والعنف: الدين، الإسلام بلسم لجميع آلامنا. إنما إذا كان الهدف النهائي للفنان هو إيجاد حالة من التعاطف والتجاوب والإقناع بين القارئ وبينه، فإن هذه الحالة لن تستطيع أن تجد طريقها إلى العقل والوجدان إذا لم تحتك تلك المجردات التي يهتف بها طرفا النزاع، بالواقع الاجتماعي. وهذا بالضبط ما أشرت إليه فيما سبق بقولي: إن الشخصية الفنية هي الشخصية الحية في حالة فعل. لقد عثر نجيب محفوظ على كنز عظيم في مسألة الديمقراطية كمحور فكري لقضية الانتماء. كانت مصر تعاني من أزمة الحرية معاناة الأنبياء. وكان الموقف اليساري ينطق على لسان علي طه: الحكومة والبرلمان … فيجيبه محجوب عبد الدايم: «إن الحكومة أسرة واحدة، أو هي طبقة واحدة متعددة الأسر، وهي لا تأبه بأن تضحي بمصلحة الشعب إذا تعارضت مع مصلحتها، النائب الذي ينفق مئات الجنيهات قبل أن يُنتخب لا يمكن أن يمثل الشعب الفقير، والبرلمان في ذلك شأنه شأن المؤسسات الأخرى. انظر إلى قصر العيني مثلًا. فبالاسم مستشفى الشعب الفقير، وبالفعل حقل تجارب لإجراء اختبارات الموت على الفقراء، فقال علي طه بهدوء: السخط شعور مقدس، أما اليأس فمرض ومهما يكن من أمر فالبرلمان بُحيرة تلتقي فيها جداول متباينة المصادر لا محيد عن أن تمتزج أمواجها، وينشأ عنها نبع جديد.»

هذا هو موقف اليسار المصري بالفعل من قضية الديمقراطية عند احتداد الأزمة. لم يكن علي طه ذا هدف واضح، واختلطت عليه الوسائل. كان مهيأ للاشتغال بالسياسة، لكن، السياسة كما يعرفها هو لا كما يعرفها الناس. ولو وجد حزبًا ذا مبادئ اجتماعية لاشترك فيه بلا تردد، ولكن أين هذا الحزب؟ … فهل ينتظر حتى تنشأ الأحزاب الاجتماعية ثم يشترك فيها، أم يأخذ هو في الدعوة إليها منذ الآن؟ … لا شك في أن الانتظار أسهل وأحكم؛ إذ ما جدوى الدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي في بلد لا يشغله شاغل عن الدستور والمعاهدة؟ «ولعله من الخير أن ينتظر قليلًا ليستكمل عدته من العلم والمعرفة»، إن هذه الأسطر توضح وجهة نظر الفنان، بنفس القدر الذي تشارك به في تكملة الصورة التي كان عليها المنتمي اليساري ذلك الحين، فالفنان — في المستوى الأيديولوجي — لا يرى الحركات الاجتماعية الثورية التي كانت تتجمع حول الضمير المصري منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. والمنتمي اليساري — من جهة أخرى — ينهل من معين الفلسفة البرجوازية، فلا يرى سوى الإلحاد والمسألة الديمقراطية والاشتغال بالصحافة «للدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي»، وكذلك الأمر مع المنتمي إلى اليمين، إنه يكتفي بالتساؤل: ألا يمكن أن يبدأ كفاحنا الحقيقي في جمعية الشبان المسلمين؟ فنطهر الإسلام من غبار الوثنيات، ونرد إليه روحه الفتية، وننشر منها دعوة لا تلبث أن تشمل الشرق العربي جميعًا ثم بلاد المسلمين؟

يفتقد القارئ منذ البداية ماهية الصراع بين اليمين واليسار، وبينها وبين الواقع … فلا نستشعر جوهر اليسار الذي يمثله علي طه، أي أننا لا نتبين مكانه من اليسار المحلى القائم وقتذاك، ولا من اليسار العالمي كمقياس لتطور الحركة الاشتراكية في العالم، ولا من الحركة الاجتماعية في بلادنا. وكما أننا لا ندرك نوعية اليمين الذي يمثله مأمون رضوان، فهو بعيد تمامًا عن أن يكون تدينًا متطرفًا، وهو في نفس الوقت يبتعد عن أن يكون يمينًا منظمًا في إطار سياسي. إلا أننا لا نفتقد مطلقًا ما يمكن تسميته بالإيماءة الحيية إلى ما كانت عليه الخريطة الاجتماعية والسياسية للبلاد. فحين يقول محجوب: «ومن عجب أنه — أي مأمون — وعلي طه نقيضان. ومع ذلك فلا يبعد أن يقذف بهما المجتمع معًا إلى أعماق السجون غير مفرق بين عابده وكافره.» إنما يستلهم أحداث المستقبل القريب التي كان يحدسها الفنان ببصيرة نافذة وحساسية شفافة تجاه أزمة الديمقراطية.

وعندما تقع كارثة محجوب عبد الدايم يتخذ منها مأمون رضوان موقفًا أخلاقيًّا، محددًا ذلك أن «مأساة اليوم هي مأساة الزيغ.» ويتخذ منها علي طه موقفًا آخر فيرد على صاحبه: «… لا تنسَ نصيب المجتمع من جريرته.» ثم يختم نجيب محفوظ روايته قائلًا على لسان علي طه: «… ولكن المجتمع الذي نحلم به يمحو شرورًا نراها في وضعنا الحالي ضربًا من القضاء والقدر.» والحق أن هذه الخاتمة لها دلالتها بالنسبة لمنهج فنان في التفكير والتعبير معًا. فمأساة القاهرة الجديدة قد صيغت من نسيج اجتماعي أولًا لا مجاله للرؤية الميتافيزيقية فيه. ومأساة القاهرة الجديدة شاهدها «المنتمي» يمينًا ويسارًا على السواء. فأقر هذا المنتمي أن الضياع هو جوهر هذه المأساة. إلا أن صياغة أحداث المأساة على ضوء التركيب الاجتماعي السيئ، يجعل من هذه الأحداث تبريرًا قويًّا لموقف المنتمي إلى اليسار. ومن ثم تجيء الكلمات الأخيرة في القاهرة الجديدة، وكأنها تتويج «فكري» لتلك الأحداث الدامية التي لم يعُد يعوزها التفسير بالرغم من تساؤل الجميع: ماذا تخبئ لنا أيها الغد؟ لقد جاء هذا التساؤل كهمزة وصل فنية بين أحداث القاهرة الجديدة وأحداث خان الخليلي. وهو لا يشير لحظة واحدة إلى أي ارتياب في مدلول هذه الأحداث. ومأساة القاهرة الجديدة تؤكد أن الانتماء هو الاستناد على جدار نفسي من عقيدة فكرية معينة، وأن الانتماء لا يقابله اللاانتماء في مجتمعنا. فبينما يعتبر التصوف والرهبنة من صفات اللامنتمي، نرى التدين في بلادنا يقود المنتمي اليميني إلى جماعة الشبان المسلمين (حتى ذلك الوقت) … والانتماء اليساري يبدأ من الإيمان بالعلم وينتهي إلى الدعوة للإصلاح الاجتماعي، فاليسار هنا أقرب إلى التعبير المجازي عن المواقف الوطنية التقدمية الديمقراطية لبعض أبناء البرجوازية من المثقفين. وهذا النوع من الانتماء اليساري يعتمد على الثقافة، ووسيلته «الصحافة»، وهو بعيد بقدر المستطاع عن الأحزاب. ولذلك فهو يفصل بين المسألة الوطنية والمسألة الاجتماعية من ناحية، ثم يعالج المسألة الاجتماعية في إطار النظام القائم من ناحية أخرى. ويخلط المنتمي إلى اليمين بين العروبة والإسلام ولا يلتفت كثيرًا إلى المسألة الوطنية المحلية. ويلتقي اليميني واليساري في الحذر من السلطة ومهادنتها، يلتقي اليساري بالضائع في الكفر بالقيم اليمينية.

هناك أزمة حقيقية إذن في حياة المنتمي إلى اليمين هي افتقاره إلى بناءٍ عقائدي متكامل من شأنه أن يعطي حلولًا لتغيير الواقع من حوله. وهي أزمة مرحلية تجاوزها اليميني بعدئذٍ حين ارتمى في أحضان الفاشية العلنية، سواء في جناحها المتدين (لإخوان المسلمين) أو في جناحها القومي (مصر الفتاة). وهناك أزمة حقيقية في حياة المنتمي إلى اليسار هي أنه يغترف من الفلسفة البرجوازية ما يعينه على الوقوف أمام حضارة كاملة في حاجة إلى التغيير من الداخل، من حيث الجوهر.

وأزمة كل من هذين النموذجين، كانت كفيلة بإحداث حركة درامية في الرواية، لولا أن المؤلف في ذلك التاريخ الذي كتب فيه روايته (١٩٤٨-١٩٤٩م) لم يكن قد بلغ درجة كبيرة من النضح في التفكير الفني والاجتماعي. إذ إنه من الناحية الفنية لجأ إلى صياغة كلٍّ من علي طه ومأمون رضوان في «أنماط» ساكنة غير قابلة للتفاعل المعقد مع بقية الشخصيات أو الأحداث أو المواقف. كانت «الحركة» تمضي في خطوط متوازية أو متقابلة لا تعرف الاحتكاك أو الانحناء أو التعرج، بالإضافة إلى الصيغة الخبرية، والمفهوم الاجتماعي القاصر عند المؤلف حينذاك، وبروز شخصية «الضائع» كشخصية رئيسية ألغت الأهمية البالغة لبقية الشخصيات الثانوية. وكان المفهوم الاجتماعي مقصورًا عند نجيب محفوظ لما يمكن تصوره من اختلاط قراءاته الفلسفية في المادية والعلم، مع موقفه السياسي إلى جانب الوفد. في مثل هذا الموقف تبهت القضية الاجتماعية وتتأكد أزمة الديمقراطية، وينعكس هذا المفهوم على الشخصية القريبة من وجدان الفنان، أو التي تحقق له ذاته في العمل الفني، وهي شخصية المنتمي إلى اليسار، الغارق إلى أُذُنيه في المفاهيم البرجوازية. وهي مفاهيم تتسم، أولًا وقبل كل شيء، برومانسيتها الشديدة كما لاحظنا في علاقة علي طه بالحب والصداقة والمجتمع. ورومانسيتها نابعة من التصور المثالي لأزمة المجتمع، وحلول هذه الأزمة. لم يعرض نجيب محفوظ موقفًا واحدًا للصراع الأيديولوجي بين اليمين واليسار أو بين أيهما والمجتمع حتى تكشف لنا الحركة الاجتماعية عن طبيعتها. وهذا يؤكد أن قوانين تطور المجتمع كانت غائبة عن وعي الفنان إبان تلك الفترة. وانعكس غيابها على قوانين الحركة الدرامية في العمل الفني فجاء الصراع بين اليمين واليسار والضائعين والسلطة مجرد حوار عنيف في مناقشات لا تنتهي.

أما «خان الخليلي» فهي تقدم لنا القضية خلال أزمة مصر أثناء الحرب العالمية الثانية. فأحمد عاكف — المضطهد — يدنو من ختام الأربعين على مرمى ومسمع من الموت المخيف، وقد أصيب منذ وقت مبكر بداء التشبه بالمفكرين. وهو بجانب تمثيله الرئيسي لشخصية «المضطهد» الرئيسية، إلا أنه «المحك» الذي يستخدمه المؤلف في إيضاح جوانب المنتمي إلى اليسار آنذاك. أحمد عاكف يقتني مجموعة من الكتب الأزهرية يعدها آيةَ العلم العسير الذي لا ينفذ إلى حقائقه إلا الأقلُّون. وهو يلتقي مع مأمون رضوان في جزئية صغيرة على الرغم من أهميتها، تلك هي أنه أصيب في فترة من حياته بمرض غريب هو الأرق، ولكنه كان من جملة الأسباب التي عقم بها عقلُه وأشفت به على الجنون.

النقيض المقابل لأحمد عاكف هو المحامي الشاب أحمد راشد، وهو الذي يصل حركة الانتماء إلى اليسار في القاهرة الجديدة بهذه الحركة في خان الخليلي، برباط جديد من الإيمان بالاشتراكية العلمية. والصراع بينه وبين أحمد عاكف لا يضيق حتى يصبح حوارًا ومناقشات في المبادئ الإنسانية كما هو الحال في القاهرة الجديدة. وإنما يجسم الفنان الصراع بينهما في موضوعات بعيدة نوعًا عن التقريرية والمباشرة، كأن يقول المنتمي اليساري أحمد راشد: «هذا الحي هو القاهرة القديمة، فهو بقايا متداعية حقيقةٌ بأن تهز الخيال وتوقظ الحنان وتستثير الرثاء. فإذا نظرت بعين العقل لم ترَ إلا قذارة تقتضينا المحافظة عليها التضحية بالبشر. وما أجدر أن نمحوها لنتيح للناس فرصة التمتع بالحياة الصحية السعيدة.»

حينئذٍ يقع المنتمي إلى اليمين في حيرة بالغة من هذا الأسلوب الجديد في التفاهم، ومن ثم يندفع قائلًا: «ليس القديم من البقاع مجرد قذارة، فهو ذكرى قد تكون أجل من حقائق الواقع فتبعث في النفوس فضائل شتى … إن القاهرة التي تريد أن تمحوها من الوجود هي القاهرة المُعِزِّية ذات المجد المؤثل. أين منها هذه القاهرة الجديدة المستعبدة؟»

إن الفنان ما يزال يضرب على وتر أزمة الديمقراطية، وموقف كل من اليمين واليسار في هذه الأزمة. ولكنه لم يعد يستخدم الشخصية بوقًا هاتفًا بآراء اليمين واليسار؛ بل هو يدع الشخصية في حالة فعل. ولكنه لا يتجاوز هذه الخطوة اليسيرة إلى ما هو أعمق من الصراع بين الشخصية والأخرى، إلى الصراع بين الفكر والواقع. إن تجسيم الحركة الدرامية في خان الخليلي يظل مقصورًا على طرفي اليمين واليسار، فحين يستشهد أحمد عاكف ببيت من الشعر في حديثه يقاطعه أحمد راشد قائلًا: «أأنت يا أستاذ عاكف من الذين يتشدقون بالشعر؟

فتساءل عاكف بإنكار: وماذا ترى في ذلك؟

– لا شيء البتة، إلا أنني أعلم أن الناس عادةً لا يعدلون بالشعر القديم شعرًا حديثًا، مما يوجب أن يكثر استشهادهم، إذا أرادوا أن يستشهدوا بشعر، بالقديم، وأنا أكره النظر في الماضي.

– لا أكاد أفهم.

– أريد أن أقول إنني أكره الاستشهاد بالشعر؛ لأنني أكره الرجوع إلى الماضي. أريد أن أعيش في الحال والمستقبل، وحسبي ما في عصرنا من حكماء هم أهل للإرشاد والتوجيه.

وكان أحمد عاكف على عكس صاحبه يحسب أن الماضي انطوى على العظمة الحقيقية، أو أنه لم يعرف غير بعض نماذج العظمة الماضية ولا يدري شيئًا عن عظماء «عصرنا»، فثارت ثائرته وقال منكرًا: وفيم إنكار عظمة الغابرين وفيهم الأنبياء والرسل.

– لعصرنا رسله كذلك.

وأوشك الرجل أن يعلن دهشته، ولكنه كان أحرص من أن يبدي — في حديث — دهشته إلا إذا أوجب ذلك جهل محدثه — لا علمه — طبعًا! فتساءل في هدوء: ومن رسل العصر الحاضر؟

– اضرب مثلًا بهذين العبقريين: فرويد، وكارل ماركس.»

إن نجيب محفوظ يسجل «المدى» الذي بلغته الحركة الفكرية في مصر بأنها عبرت مرحلة أوجست كومت في التفكير الاجتماعي إلى مرحلة كارل ماركس. وهو يضيف ظاهرة الخلط التي راجت في الفكر المصري الحديث بين فرويد وماركس، حتى إن سلامة موسى يقول: «لقد خرجت منهما بأزكى الثمرات.» المرحلة الواقعة بين كومت وماركس — عند نجيب محفوظ — هي مرحلة فكرية فحسب، لم يتصور انعكاساتها الاجتماعية، والنسيج الفني الذي يجسد هذه الانعكاسات … ولا شك أن العمل الفني عالم مستقل بذاته لا ينبغي أن نقارن بينه وبين العالم الواقعي إلا في حدود همزات الوصل القائمة بين الفن والحياة. أي أن قراءتنا لخان الخليلي في إطارها الواقعي لا ينسينا «المادة الخام» التي صاغها الفنان في هذا الإطار؛ فالمادة الواقعية الخام هي إحدى العناصر المكونة للعمل الفني … بالإضافة إلى بقية عناصره النفسية والأيديولوجية والجمالية. لهذا فهو — أي الفنان في هذه الرواية — يكتفي بوقع التطور على النماذج البشرية المختلفة، فيستأنف السرد حول أحمد عاكف «… وشَعَر بيد تضغط على عنقه تكتم أنفاسه! بل شعر بجرح عميق في كرامته لأنه لم يسمع قبل الآن بهذين الاسمين! وأضمر لصاحبه غضبًا جنونيًّا. ولكن لم يسعه إظهار جهله فهز رأسه هزة العارف العالم وتساءل: «أتراهما — أي فرويد وماركس — يضارعان العباقرة الأولين؟!

وكان سرور المحامي الشاب بعثوره على إنسان مثقف لا يعادله سرور، فرغب في المناظرة رغبة قوية، وأدنى كرسيه إلى كرسي صاحبه حتى لم يعُد يفصل بينهما شيء. وقال بصوت لا يسمعه سواه: لقد هيأَت فلسفة فرويد للفرد فرص النجاة من أمراض الحياة الجنسية التي تلعب في حياتنا الدور الجوهري، ونهج له كارل ماركس سبل التحرر من الشقاء الاجتماعي، أليس كذلك؟»

الفنان يلخص بهذه الأسطر أحد الأنباء المهمة في ذلك الوقت، هو أن الفكر الماركسي أصبح التعبير الثوري عن الحركة الاجتماعية المصرية. ومن ناحية أخرى أصبحت الثقافة هي الرباط النضالي الأول الذي يشد أبناء البرجوازية من المثقفين إلى الكفاح الثوري من أجل الاشتراكية. غير أن نجيب محفوظ لا يرى من هذا الكفاح سوى المسألة الوطنية والجانب الديمقراطي والمعركة ضد الرؤية الميتافيزيقية التي ورثناها عن أجداد الأجداد منذ آلاف السنين. أحمد راشد لا يرى «حكمة» في الماضي، فإذا قال عاكف «وديننا؟» رفع الشاب حاجبيه دهشة «ولو استطاع عاكف أن يستشف ما وراء النظارة السوداء لرأى نظرة احتقار تورث الجنون»، وكان عاكف يقرأ منذ بعيد فلسفة إخوان الصفاء الدينية فرغب أن يلخصها في كلمات لمحدثه البغيض؛ ليدفع عن نفسه تهمة الأخذ برأي العوام في الدين، فقال: «إن في الدين ظاهرًا حِسيًّا للعوام وجوهرًا عقليًّا للمفكرين، فهناك حقائق لا يضيق المثقف بالإيمان بها؛ مثل الله والناموس الإلهي والعقل الفعال.

فهز الشاب منكبيه استهانة وقال: إن العلماء المعاصرين يعلمون بما للذرة من عناصر، ربما وراء عالمنا الشمسي من ملايين العوالم، فأين الله؟ وما أساطير الديانات؟ وما جدوى التفكير في مسائل لا يمكن أن تُحل، وبين أيدينا مسائل لا حصر لها يمكن أن تُحل، وينبغي أن نجد لها حلًّا.»

ولا يفوت الفنان أن يصور المناخ السياسي والاجتماعي، فيلفت النظر إلى جماعة من لابسي الجلاليب أحاطوا بمائدة عند مدخل القهوة، ومضى كل منهم يعد رزمة ضخمة من الأوراق المالية، وكان منظرًا يستدعي الدهشة لما فيه من أوجه التناقض، فقال أحمد عاكف: «لعلهم من أغنياء الحرب.

فقال الآخر موافقًا: سيهجرون طبقة ويلحقون بطبقة أخرى.

– إن الحرب ترفع كثير من السفلة.

– السفلة! … هذا صحيح، ولكن لا يوجد حد فاصل بين السفلة والطبقة العالية، فأرستقراطيُّو اليوم كانوا سفلة الأمس. ألا تعلم أن رعاع الغزاة انتهبوا في الماضي أراضينا بحكم الغزو؟ … وها هم أولاء يكونون طبقة عالية متمتعة بالجاه والسؤدد والامتيازات التي لا حصر لها. ولأول مرة يميل إلى موافقته دون نزوع إلى المعارضة، فقال: هذا رأيي!

فاستدرك الشاب قائلًا: ويرى كارك ماركس أن العُمال سيظفرون بالنصر النهائي فيصير العالم طبقة واحدة متمتعة بالضرورات الحيوية والكمالات الإنسانية، وهذه هي الاشتراكية!»

إن المنتمي إلى اليمين والمنتمي إلى اليسار، يلتقيان في كثير من الأحيان. ولكنه لقاء ذو دلالة واضحة، فنجيب محفوظ يختم النقاش كما يختم القاهرة الجديدة بانتصار واضح لأحد الرأيين المتصارعين، فالموضوعية الكاملة في تصوير الموقف الدرامي لا تنفي أن هناك نتيجة موضوعية محددة هي الاشتراكية والفكر العلمي. ولما كانت نقطة الانطلاق الدرامية دائمًا هي «الموقف من الدين»، فإن امتدادات هذا الموقف تصوغ الأحداث هكذا: مناقشات حامية لا تنتهي بين اليساري المؤمن بالعلم واليميني المؤمن بالله. وتحجب الرؤية الاجتماعية القاصرة للفنان حينذاك، ما تؤكده حركة المجتمع من انتصارات إلى جانب العلم والاشتراكية … بغض النظر عما يمكن أن تؤدي إليه هذه الانتصارات من كشف لأوراق الدين والميتافيزيقا. فاليساري — بعد مرحلة رد الفعل — ينظر إلى الدين نظرة جديدة. إنه يراه معوقًا للحركة الثورية بلا شك، ولكنه يحاول ألا يجعل منه قضية أساسية في زمن معين، وبين الجماهير الشعبية بالذات. فالأهم هو القضاء على الاستغلال الاجتماعي الذي يؤدي بدوره إلى القضاء على الاستغلال العقلي. وفي أحيان نادرة كان الفنان يلتقط حركة الاحتكاك بين الفكر والواقع، فيصور ما آلت إليه الجماهير من ضلال خطير، فيدور مثل هذا الحديث بينهم: «… وهتلر ينطوي على احترام عميق للبقاع الإسلامية!

– بل يقال إنه يُبطن الإيمان بالإسلام!

– ليس هذا عليه ببعيد، ألم يقُل الشيخ لبيب التقيُّ النقي إنه رأى فيما يرى النائم علي بن أبي طالب — رضي الله عنه — يقلده سيف الإسلام.

– سوف يعيد، بعد فروغه من الحرب، إلى الإسلام مجده الأول. وينشئ من الأمم الإسلامية اتحادًا كبيرًا، ثم يوثق بينه وبين ألمانيا بعهود الصداقة والتحالف.

– لذلك يؤيده الله في حروبه.

– وما كان الله لينصره لولا جميل طويته، وإنما لكل امرئ ما نوى.»

هذا الاختيار الدقيق لانعكاسات اليمين الفكري على موقف الجماهير من المسألة الوطنية، يمثل ما سبق أن أشرت إليه بعملية التفاعل بين الفكر والواقع. فليس الأمر مجرد حوار بين منتمٍ إلى اليمين وآخر إلى اليسار، وإنما يتجاوز الحوار الثقافي المألوف إلى تلمُّس نبض الحياة في وجدان الشعب. وفي المستوى الجمالي تُعد هذه الخطوة جديدة من جانب نجيب محفوظ، ولكنها خطوة قصيرة المدى والفاعلية إلى حد كبير أيضًا. فمن غير المعقول — بعد عشر سنوات من أحداث القاهرة الجديدة — أن يظل المنتمي اليساري محصورًا في نطاق ضيق من المناقشات بإحدى المقاهي. بل إن علي طه كان أكثر تقدمًا بإقباله على العمل الحر في الصحافة وتأليفه مقالات داعية إلى توزيع الثروة الإنتاجية توزيعًا عادلًا … أما أحمد راشد فلا نراه إلا محاورًا ذكيًّا في أحد أركان المقهى، يسوي المنظار الأسود على عينيه ويقول: «لدي أمل واحد؛ أن ينتصر الروس ويحرروا الدنيا من الأغلال والأوهام.» أو يقول: «نحن شعب من الشحاذين … وحفنة من أصحاب الملايين.» أو أنه: «ليس يوجد شر من نظام يقضي على أناس بالانحدار إلى مستوى الحيوان الأعجم.» أو يتساءل: «لست أدري كيف تطيب الحياة لقوم عقلاء وهم يعلمون أن غالبية قومهم جياع؟» لا ريب أن هذه الكلمات تشير إلى اتجاه السهم في تكوين الشخصية الفنية؛ فأحمد راشد هو نموذج للمثقف البرجوازي المتقدم. وأعود مرة أخرى إلى القول بأن المقارنة بين الفن والواقع يمليها منهج الفنان في التعبير. فلقد آثر المنهج الواقعي الذي يستمد من الحياة مادته الخام. والمادة الخام تشترك، كما قلت، في صياغة العمل الفني على نحو ما. لهذا أقول إن تصوير المضطهد — أحمد عاكف — أسدل ستارًا كثيفًا على تصوير المنتمي. وعلى الرغم من ثانوية الدور الذي يقوم به أحمد راشد إلا أن استخدامه أصلًا كنموذج للمنتمي اليساري كان يفرض على الفنان مجموعة من الاعتبارات. الاعتبار الأول أن ثانوية الدور لا تعني بحال إهمال الشخصية، أو إلقاءها في الظل. فنحن لا نستطيع الزعم بأن أحمد راشد كان أكثر فاعلية من أي شخصية أخرى ترتاد المقهى. فبالرغم من تحدياته الفكرية لآراء أحمد عاكف، إلا أنه لم يكن ذا أثر إيجابي في تحريك الأحداث، ولو في المستوى الثاني أو الثالث لشخصيات الرواية. والاعتبار الثاني هو عزلة الحياة الخاصة عن الحياة العامة لشخصية أحمد راشد، أو أن هذه وتلك لم تكن سوى الأحاديث المتناثرة الخاصة بينه وبين الأصدقاء. أما صياغة الشخصية في حالة تفاعل مع الأحداث الخاصة والعامة. فإن ذلك ما لم يخطر على بال المؤلف الذي لم يتصور، فيما يبدو، أن وحدة الشخصية لا تنفي تناقضاتها الخاصة بين الفكر والسلوك، أو بين السلوك العام والسلوك الخاص. إن العام والخاص في حياة الشخصية الفنية يخلق ما يمكن تسميته بدراما الشخصية. والاعتبار الثالث هو الكشف عن العالم الداخلي لأحمد راشد. فلا أحد يعلم ما إذا كانت المحاماة وفقدان إحدى العينين ودخله الشهري وأصدقائه، لها تأثير خاص على ديناميكية حياته، أو أن نوعية يساريته كانت بمعزل عن عالمه الداخلي.

إن الفنان لا يتجاهل هذه الاعتبارات تمامًا، ولكنه يصوغها على نحو قريب من المباشرة التي تخلص منها إلى حد ما في هذه الرواية. بل إن هذا النقص في التكوين الدرامي لشخصية أحمد راشد يحدث خلخلة عميقة في الهيكل الروائي العام … ففي أكثر المواضع يلجأ الفنان إلى تجسيم الانفعال الشعوري بحيث يبتعد به عن المباشرة أو التقرير. فإذا جاء عند شخصية أحمد راشد سمعناه يقول: «لا غنى عن التسلُّح بالعلم للمكافح الحق، لا للاستغراق في تأملاته، ولكن لتحرير النفس من أصفاد الأوهام والتُّرَّهات، فكما أنقذتنا الديانات من الوثنية ينبغي أن ينقذنا العلم من الديانات.» أو هو يجيب على أحد المتحمسين للألمان هكذا: «الظاهر أنك تجهل حقيقة روسيا، روسيا الاشتراكية غير روسيا القيصرية، الشعب الاشتراكي كتلة من الصلب والإيمان والعزيمة، وهو ربما تقهقر ريثما يأخذ أنفاسه، ولكنه لن يلقي السلاح أبدًا، لن يسلم لدواعي الهزيمة.» أو هو يعلق على حادثة شراء أحد المسنين الأثرياء لفتاة جميلة فقيرة تصغُره سنًّا بسنوات كثيرة، فيقول: «… انظر إلى المال كيف يَستذِل الحسن؟ إن أقبح ما في عالمنا هو خنوع الفضائل والقيم السامية للضرورات الحيوانية، فكيف سامت الحسناء نفسها قبول يد هذا القرد الدميم؟ ولن يكون اجتماعهما زواجًا، ولكنه جريمة مزدوجة تعد من ناحيةٍ سرقةً، ومن ناحية اغتصابًا. ولن يزال جمالها فاضحًا لقبحه، وقبحه فاضحًا لجشعها … ولا يمكن أن تُقترف هذه الجريمة وأمثالها في ظل الاشتراكية.» أو هو يقول للفتاة التي يقوم بتدريبها: «يخيل إليَّ أنكِ لا تحبين العلم كما يجب، وإن لم ينقصك الاجتهاد أو حسن الفهم، فأحبيه كما تحبين الحياة؛ فهو منها بمثابة العقل من شخص الإنسان، وينبغي أن يتغذى به عقلك ويتمثله كما يتغذى جسمك بالطعام ويتمثله. أين الشوق إلى أسرار الوجود؟ أين اللهفة على المعرفة؟ … لا يجوز أن يتخلف قلب المرأة عن قلب الرجل في طريق العرفان والمجهول.»

إن هذه المحاورات الذكية تضيء لنا الإطار العام للشخصية الفنية التي يمثلها المنتمي اليساري. بالإضافة إلى استخدام الفنان للمضطهد كمرآة — من أحد جوانبها — للضمير اليميني. ولكنها، هذه المحاورات، لا تصوغ بحالٍ جوهر هذه الشخصية، ما دام هذا الجوهر بعيدًا عن أي امتحان أو تفاعل أو احتكاك مع الواقع الاجتماعي أو الآراء الفكرية الأخرى. فنحن لا ندري بعد مرور عشر سنوات على أحداث القاهرة الجديدة، ما إذا كان المنتمي اليساري في مصر قد تجاوز — وما أكثر ما يتجاوزه — مرحلة رد الفعل إزاء الدين، فتكونت معالمه وخصائصه الذاتية بمعزل عن التضخم والانفعال والمبالغة. هل ما يزال الدين هو نقطة الانطلاق في الانحياز إلى اليسار الاجتماعي. وما هو الفرق بين أن يكون الدين هو هذه النقطة، أو أن يكونها المجتمع بطبقاته وصراعاته المختلفة؟ أم أن هناك أكثر من وشيجة اتصال وامتزاج بين الدين — كحركة فكرية — وصراع الطبقات كحركة اجتماعية؟ … إن الإجابات الحاسمة على هذه التساؤلات كان يمكن للشخصية الفنية المتكاملة أن تجيب عنها، ولكن عناية نجيب محفوظ بالشخصيات والأحداث الرئيسية وتجاهل الشخصيات والأحداث الثانوية؛ أوجد ما يشبه التضخم في العمل الروائي من جهة، والهزالَ في بعض جوانبه الأخرى.

غير أنه في رواية «بداية ونهاية» حاول الفنان أن يخطو خطوة جديدة، فإلى أي مدًى حققت هذه الخطوة أحلامنا؟ كان المنتمي اليساري في الأعمال السابقة، يتميز بالوضوح الكامل، وكان وضوحه يقترب من المباشرة والتقريرية. أما في «بداية ونهاية» فنحن أمام مأساة البرجوازية المصرية الصغيرة، التي تنبت في كثير من الأحيان ذلك المنتمي غير المحدد الذي يتسم في معظمه بالغموض. استقبل «حسين» موت أبيه بقلب صامد، ولكنه أبى أن يُحمِّل الله المسئولية … مسئولية هذه «المصيبة»، فيوجه الحديث إلى أحد إخوته قائلًا: «ألا ترى أن الله إذا كان مسئولًا عن موت والدنا فليس مسئولًا عن قلة المعاش بحال الذي تركه؟» … أي إن المنتمي هنا يتجه ضميره إلى المأساة الاجتماعية مباشرة. ويعنيني هنا أن ألفت النظر إلى الزمن الروائي لبداية ونهاية، فهو ثلاث سنوات تبدأ مع القاهرة الجديدة قبيل الحرب، وتنتهي بعد الحرب. ومعنى ذلك أن حسين قد عاصر — فنيًّا — علي طه. ومعناه — روائيًّا — أن الفنان يقدم أكثر من نموذج للانتماء اليساري، أو أنه يشير إلى أن ثمة درجات عديدة للانتماء نحو اليسار، ولعل حسين يمثل الحد الأدنى من عملية الانتماء. فهو ليس شابًّا جامعيًّا كعلي طه أو أحمد راشد حتى يمكن القول إنه تلقى ثقافةً ما تعينه على التفكير والتأمل. وهو لم يقف ذلك الموقف العنيد من قضية «الدين» … بل هو أقرب إلى «الحساسية الشعبية» التي تنفرد بحصيلة لانهائية من المعاناة، من التجربة؛ فهي بفطرتها الخام تستشعر الأسى العميق في بلواها الاجتماعية، والمأساة تحركها بصورة عفوية نحو اليسار. لهذا لا ندهش كثيرًا حين نستمع إلى حسين يردد في صفاء: «إننا نأكل بعضنا بعضًا، ينبغي أن نُسَر بتهريج حسن وعبثه ما دام يجيئنا كل شهر بفخذ خروف. وينبغي أن نُسَر بأختنا الخياطة ما دامت تُعد لنا لقمتنا الجافة. وهذا الشاب المتذمر — يقصد حسنين — ينبغي أن يُسر بانقطاعي عن التعليم ما دام سيتم تعليمه هو. يأكل بعضنا البعض. أي وحشية. أي حياة! لعلي لا أجد إلا عزاء واحدًا وهو أن قوة أكبر منا جميعًا تطحنُنا طحنًا وتلتهمنا التهامًا، وأننا نصمد ونقاتل» … قلت إننا لا ندهش كثيرًا حين نستمع إلى هذه الكلمات؛ فهي تحدد «طبيعة» الانتماء اليساري عند حسين من ناحية، وهي تحدد «المدى» الذي تذهب إليه هذه اليسارية من ناحية أخرى. والفنان هنا يرسم الشخصية الحية في حالة فعلٍ بالرغم من كل ما تشير به الكلمات من حوار ذهني. فالحوار هنا يجيء جزءًا لا ينفصل عن بناء الشخصية. الحوار يسهم في بلوَرة الشخصية ويكسوها باللحم والدم. يبعث فيها وهجًا حارًّا من السلوك الواقعي البعيد عن التجريد.

وإذا وصل الحوار إلى درجة التجريد، فإنما ليعبر عن جانب آخر من جوانب الشخصية. الحوار التجريدي عند علي طه أو أحمد راشد كان يمثل الجانب الوحيد، أو الأداة الوحيدة في صياغة الشخصية، ومن هنا كان يحمل قدرًا لا بأس به من الافتعال. أما في شخصية حسين فإن التجريد يمثل أحد وجوه الشخصية، فهكذا يردد حسين: «يا للعجب! … إن مصر تأكل بنيها بلا رحمة. ومع هذا يقال عنا إننا شعب راضٍ. هذا لَعَمري منتهى البؤس. أجل غاية البؤس أن تكون بائسًا وراضيًا. وهو الموت نفسه. لولا الفقر لواصلت تعليمي، هل في ذلك شك؟ … الجاه والحظ والمهن المحترمة في بلدنا هذا وراثية، لست حاقدًا، ولكني حزين. حزين على نفسي وعلى الملايين. لست فردًا، ولكنني أمة مظلومة، وهذا ما يولد في روح المقاومة ويعزيني بنوع من السعادة لا أدري كيف أسميه. كلا لست حاقدًا ولا يائسًا أيضًا، وإذا كانت فرصة التعليم العالي قد أفلتت من يدي، فلن تفلت من يد حسنين، وربما وجدت نفيسة الزوج المناسب، سوف ترد الروح إلى أسرتنا فنذكر أيامنا السود بالفخار» … هذا الحوار المجرد من حدث أو موقف يعود بعدئذٍ فيرتبط بكل أطراف الحدث الدرامي الصانع للمأساة. هذا الحوار التجريدي يجسم «المستوى الفردي» الذي ينطلق منه تفكير هذا النوع من المنتمين. إنه يتمثل مصر كلها ترقد بين ذرات دمه. ومع هذا يعتقد أن تخرج حسنين من هذه المرحلة العالية يكفل له الأمن ولأسرته الاستقرار. وهذه الرؤية القاصرة عند حسين، هي بعينها، كانت تشكل حياة حسنين. ومن هنا جاءت النهاية المأساوية ترسم خطوط الفاجعة بصرامة. فقد تجاوز نجيب محفوظ رؤيته المحدودة فيما مضى إلى آفاق أكثر رحابة وعمقًا. تمكن من أن يرى أن الأسلوب الفردي في التمرد على النظام القائم ليس حلًّا موضوعيًّا لمأساة مصر في ظل الحكم البرجوازي شبه الإقطاعي المتحالف مع الاستعمار. لذلك جاءت النهاية في «بداية ونهاية» دامغة للأسلوب الفردي في التمرد والمستوى الفردي في التفكير. جاءت النهاية ردًّا حاسمًا على تساؤلات حسين الذي تمثل مصر في ذاته كما تمثل القوة الطاحنة لمصر، ولكنه لم يتمثل قط حلًّا ثوريًّا كاملًا. ليس الحوار تجريديًّا إذن، ما دام يرتبط بالشخصية والحدث العام والموقف الدرامي. كانت تصورات حسين وتخيلاته عن كارثة مصر ومصيبته هو شخصيًّا، ترتبط ديناميًّا بالحركة الاجتماعية الدائرة من حوله. وكان الفنان يقول إن هذه الدرجة الباهتة من درجات الانتماء إلى اليسار لا تحقق — في المستوى الاجتماعي — سوى هذه الدرجة البشعة من درجات المأساة. كان حسين يزاوج بين همومه الفردية الخالصة، فيعِز عليه كثيرًا أن يرى أمه منزوية في العربة الحقيرة وسط البؤس والبائسين، وبين هموم مصر كلها حين يسمع أحدهم يسأله: هل سمعت عن شخص واحد بمصر مات جوعًا؟! فيجيب بمرارة أصل شعبنا اعتاد الجوع! ولكن هذه المزاوجة لم ترتقِ إلى مستوى التفاعل أو الالتحام العضوي. نحن لا نلاحظ ارتفاعه إلى هذا المستوى كلما التقى بمأزق خاص، كالحب. فعندما تقرر الظروف المحيطة أن يصبر قليلًا على الزواج يتأزم على نحو غريب حتى يصفه الفنان بقوله: كان في تلك اللحظة عدوًّا لنفسه وللبشر جميعًا. أما هو فيقول: «ما قيمة هذا كله؟! الموت أرحم من الأمل.» وإذا قرأ كتابًا عن الحركة الاشتراكية لمكدونالد أحس بسعادة غامرة ما دامت الاشتراكية في رأي المؤلف لا تتعارض مع الدين ولا الأسرة ولا الأخلاق «كان في وحدته وضيقه يسعد بأحلام الإصلاح ويتخيل مجتمعًا خيرًا من المجتمع الذي يعيش بين أحضانه، وحالًا خيرًا من الحال المقدرة له، وأسعده الأمل في إمكان تحقيق خياله دون الاعتداء على العقائد التي أُشرِب حبها والإيمان بها منذ طفولته»، «ووجد نفسه ذات يوم، يتأمل في صمت حزين الفوارق الطاغية التي تميز بين الموظفين، وامتد خياله وهو لا يدري إلى الفوارق التي تفصل بين الناس عامة.»

•••

لقد عُني نجيب محفوظ بتجسيد النسيج الأساسي للبرجوازية الصغيرة. وقدَّم المنتمي إلى اليمين أو إلى اليسار كخطَّين ثانويين، ولكنهما يكملان الصورة، فظهرا في شكلهما التقريري المباشر الذي يومئ بضعف حركة الانتماء ويبدو هذا واضحًا في أعماله الثلاثة «القاهرة الجديدة»، «خان الخليلي»، «بداية ونهاية». وقد أراد نجيب محفوظ أن يقول إن المنتمي اليساري المصري في أزمة، وقدم نفسه تعبيرًا حاسمًا عن هذه الأزمة العقلية من خلال كمال عبد الجواد. ثم أوضح معالم الأزمة «المحسوسة» من خلال أحمد وعبد المنعم، فلم يكن يعنيه سوى هذه المعالم التي تتركز في أزمة الحرية. أما النماذج فليست إلا ركائز بعيدة عن الواقع. يتضح هذا البعد في تصوير الفنان لشخصية أحمد شوكت على أنها اليساري المثال، أو المنتمي النموذجي وكما لم تكن الحركة اليسارية في مصر أثناء كتابته القاهرة الجديدة على تلك الدرجة من الضعف والوهن، كذلك لم يكن المنتمون اليساريون في المرحلة التاريخية التي تقع أثناءها أحداث السُّكَّرية على درجة عالية من الكمال والنضج. لهذا تقترب رؤية نجيب محفوظ للحركة الاجتماعية إبان تلك الفترة من المستوى النظري المحض، وتبتعد كثيرًا عن تلمُّس اتجاهات هذه الحركة في الواقع الحي. مما أدى بالشخصيات التي تمثل اليمين واليسار إلى ما يشبه الجمود، لولا رمزيتها التي تمثل بها جانبًا خفيًّا من أزمة كمال عبد الجواد. كذلك كان الاتساع والشمول في لوحة العرض البانورامي التي عشناها في الثُّلاثية عاملًا هامًّا في التأكيد على الدرجات المتفاوتة من الانتماء. أي إننا نلاحظ على شخصية فهمي بعض الملامح التي لاحظناها على حسين. فبينما كانت الوطنية تجمعهما يختلف فهمي عن حسين بأنه كان ثوريًّا بالمعنى التطبيقي، فلم ينزوِ قط بأبراج همومه الفردية، ولكنه بادر بالهجرة من هذه الأبراج إلى ساحة النضال، مهما كان الموت من احتمالات الطريق.

كشف نجيب محفوظ خلال هذه الشخصيات جميعها عن الوجه الرجعي الملازم للبرجوازية الصغيرة، وهو خوفُها المستمر من السقوط، وإحساسها العميق بالملكية الفردية. كما أنه كشف عن وجهها التقدُّمي كشريحة كادحة. أما أزمة المنتمي اليساري، فقد حددها على ضوء طبيعة البرجوازية الصغيرة، فهو — أي المنتمي — لا يتخلص تمامًا من عناصر الضياع والاضطهاد … إلخ، كما أنه يتبنى قِيَم طبقة أخرى غير طبقته، أي أنه ليس أصيلًا في انتمائه إليها. إن المنتمي في أدب نجيب محفوظ — حتى الثلاثية — هو الفرد الملتزم بقضايا المجتمع الذي يعيش فيه … ويبدأ الالتزام من التعاطف النظري مع هذه القضايا إلى الارتباط التنظيمي بالحزب أو الجماعة المعبرة عن هذه القضايا. والانتماء الذي تخصص نجيب في تحليله هو انتماء البرجوازي الصغير. فإذا كان النسيج الأساسي للبرجوازية الصغيرة المصرية هو الضائع والمضطهد والطريق القصير والمسدود والسراب، فإن الاستقطاب الانتمائي ناحية اليمين أو ناحية اليسار يصوغ كيان المرحلة التاريخية الجديدة التي كانت تجتازها مصر في نهاية الثلاثية. هذا الاستقطاب الذي تنتمي أغلبيته إلى اليمين، وأقليته إلى اليسار. فيتبنى اليميني أكثر القيم رجعيةً، وبالتالي يتفق مع مضمون الطبقة السائدة. في حين يتبنى اليساري أكثر القيم تقدمًا فيخرج بذلك عن الطبقة ويصبح من أعدائها. ومن هنا تبدأ أزمته التي ندعوها بأزمة الحرية. يلتقي اليميني واليساري إذن في أنهما يرغبان في تغيير الشكل الاجتماعي (ككل)، مختلفَين بذلك مع النسيج الأساسي لشريحتهما الاجتماعية، فهما لا يتجاوزان مأساة البرجوازية الصغيرة كما يفعل الضائع أو المضطهد، وإنما مأساة المجتمع بأكمله … ثم يفترقان من حيث تحديد هذا الشكل.

إن معالجة أزمة المنتمي العربي في مصر — على هذا النحو — ترفض المقارنة مع أية أعمال أخرى في الشرق أو في الغرب. ففي أدب القرن التاسع عشر، نستطيع أن نقرأ لدستويفسكي قمة شوامخه «الإخوة كرامازوف» فنضع أيدينا على نماذج الشباب الثوري حينذاك، وهو يتخذ موقفًا بالغ الصرامة من الدين، وموقفًا مماثلًا من أزمة المجتمع. ولكن الطرف النقيض لهذا النموذج من هو الابن الآخر الذي ترهبن، وأصبحت «السماء» هي مملكته الحقيقية. فهل يمكن أن تكون هذه هي خريطة اليمين واليسار في روسيا القيصرية؟ كلا، وإنما كان الراهب الشاب نموذجًا للامنتمي ولم يكن قط منتميًا إلى اليمين على بالرغم من تدينه الحاد. لماذا؟ لأن الرهبنة والتصوف وما إليهما ليس تجنيدًا للفرد في خدمة اليمين، وإنما هي زلزلة عقلية أساسها الشعور الحاد بالانتماء. على عكس الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين أو مصر الفتاة؛ فهما منظمتان سياسيتان من حيث الجوهر، وما الدين عند الإخوان المسلمين، أو القومية عند مصر الفتاة، إلا دعامة أساسية يقام عليها صرح الفاشية. واللاانتماء الذي يصدر عن إيمان عميق بحرية الفرد يختلف تمامًا عن الانتماء إلى الفاشية أو النازية، وكلاهما يلتزم الإيمان العميق بالفرد وامتيازه. إن حرية الفرد شيء، وامتياز الفرد أو الصفوة الممتازة شيء آخر … أو لنقُل إن الديمقراطية شيء والنيتشوية شيء آخر. وهذا هو الفرق الكائن بين اللامنتمي الغربي حين يتوسل بالرهبنة إلى التمرُّد بالذات، وبين الأخ المسلم حين يتوسل بالإسلام إلى تقلُّد مقاليد الحكم وإقامة الفاشية الدينية.

إن أعظم ما في الثلاثية أنها طرحت قضية الانتماء على أوسع نطاق تاريخي بلغ الربع قرن. طرحت القضية في مستوياتها العديدة ومراحلها المختلفة. فإذا كانت بين القصرين تمثل حركة الانتماء إلى الحزب الوطني والإرهاص إلى تكوين الوفد، فإن قصر الشوق تمثل مرحلة الأزمة بين الانتماء الوفدي والانتماء اليساري المتكامل؛ بينما تمثل السكرية مرحلة الانتماء الإيجابي إلى اليسار. هذا البناء التاريخي الدقيق هو أحد عناصر العمل الفني العظيم. فالمرحلة التي كان يمثلها الحزب الوطني هي سنوات الحرب العالمية الأولى. ونهاية بين القصرين رامزة إلى نهاية هذا الحزب كممثل للحركة الوطنية. كذلك كانت هذه المرحلة هي سنوات الميلاد لثورة ١٩١٩م. ونهاية الجزء الأول من الثلاثية يؤكد أن هذه الثورة لم تنجح تمامًا. لهذه الأسباب كان فهمي نموذجًا رائعًا للمنتمي الذي يصور أحلامه كأنها في جلاء الإنجليز والاستقلال التام. ولقد أدى غياب المشكلة الاجتماعية عن أذهان ووجدان القائمين بأمر المسألة الوطنية إلى نهاية الحزب الوطني والثورة معًا. وفهمي هو المثال القوي لهذا المنتمي إلى الحركات السرية المناوئة للإنجليز، لكنه لا ينشغل لحظة واحدة بمأساة الفئات الكادحة من المجتمع المصري التي شاركت في حركة الحصول على الاستقلال دون أن تنال ثمرة تذكر.

أما في قصر الشوق فإن كمال عبد الجواد يحتل الشاشة كلها، ويصبح هو البطل المأزوم، بطل العصر الممزق بين الفكر اليساري المتكامل والسلوك الوفدي القلق. وجاءت نهاية الجزء الثاني من الثلاثية إعلانًا صريحًا بجوهر الأزمة. لقد وصلت المشكلة الاجتماعية إلى مرحلة عالية من النضج والاكتمال؛ بحيث لم يعد حزب الوفد قادرًا على تجاوز هذه المشكلة أو حلها. أصبح المنتمي إلى الوفد عاجزًا عن تقديم الحل الثوري الممكن للمرحلة. وأثبت حزب الوفد بما لا يدع مجالًا للشك أنه حزب البرجوازية المسوَّر بأسوارها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؛ بحيث لا يستطيع أن يقدم شيئًا إلى مشكلات الطبقات الشعبية التي آزرته أثناء الكفاح المشترك ضد الاستعمار. إن أزمة المنتمي في تلك المرحلة الوسطى هي أزمة الحرية في مدلولها العميق، أي حين يصبح شعار «الخبز والحرية» هو الشعار الأكثر ثورية لطبيعة المرحلة. وقد كانت جميع المدارس الليبرالية في الكفاح المصري — وعلى رأسها الوفد — قد استنفدت طاقتها الثورية إلى أبعد مدًى يتسع لمصالح الفئات الطبقية التي تعلمت النضال في المدارس الليبرالية وحدها. وكان المثقف الثوري في محنة مريرة، عندما يجد حزبه الأثير — الوفد — ينكص عن الكفاح؛ بينما ما تزال في الجعبة النظرية مشكلات فورية عديدة تتطلب حلولًا سريعة. وكان واضحًا أن هذه الحلول لم تعد في حوزة الوفد بصورة نهائية ومطلقة.

والحق أن الطبقات الشعبية لم تكن في انتظار القيادات البرجوازية المأزومة؛ بل كانت تبحث بنفسها عن حلول ثورية لأزمتها. وبالرغم من أن السكرية تعرض بالتفصيل لهذا الحل الثوري الذي استراحت إليه الطبقات الشعبية وجدت فيه المخلص الطبيعي … إلا أن نجيب محفوظ لم يعد ذلك الفنان الذي يستعرض الحلول بطريقة آلية مباشرة ومن خلال حواريات تقريرية مُبتَسرة. لقد أفاد بلا ريب من وسيلة «الاستقطاب» للنسيج الأساسي في شريحة البرجوازية الصغيرة، وأحس أنه أوفى هذا النسيج حقه فيما سبق الثلاثية من أعمال. وبقي أمامه استقطاب جديد يحل مكان الاستقطاب القديم ولا يُلغيه. بقي أمامه اليمين واليسار.

وكان اليسار الإيجابي المتكامل، هو الحل الذي تراءى لنجيب محفوظ، كي ينقذ مصر من أزمتها الاجتماعية. كان هذا اليسار رؤيا ضبابية غائمة في بين القصرين؛ فلم يرتفع فهمي إلى المستوى الثوري الشامل للقضية الوطنية والقضية الاجتماعية معًا. وكان هذا اليسار في أزمة المخاض التي أصابت كمال عبد الجواد في قصر الشوق، فلم يتجاوز محنة التناقض بين الفكر والسلوك، ثم جاء هذا اليسار في السكرية، واقعًا حيًّا متطورًا مع أحداث الفن والتاريخ.

أقول إذن: إن رؤية نجيب محفوظ لأزمة المجتمع المصري كانت رؤية يسارية، تتضح من فهمه للبناء التركيبي للأحداث. فتطور مراحل الكفاح المصري من الحزب الوطني إلى حزب الوفد إلى الحركات الاشتراكية، هو تطور يتفق مع مفهوم اليسار لحركة التاريخ. كذلك جاء تفسيره لمراحل التطور المختلفة من نهاية الحزب الوطني والثورة إلى أزمة الوفد إلى بزوغ الحل الاشتراكي، تفسيرًا يساريًّا واضحًا. ولكن علاقة نجيب محفوظ بالتاريخ ليست هي علاقة المفكر السياسي، وإنما هي علاقة الفنان. وقد سبق لي أن قلت في غير هذا المكان إن هناك اتجاهين أساسيين في علاقة الفن بالتاريخ: أولهما يتخذ فيه الكاتب من التاريخ ما يُبَلوِر له قضيته الفكرية، من شخوص وأحداث وتجارب. والآخر تستهويه من التاريخ بعض مراحله، فيميل إلى تفسيرها وتحليلها — على ضوء منهجه في التفكير — تفسيرًا فنيًّا. وهناك اتجاه يستميله التاريخ لمجرد أن أحداثه مليئة بعناصر الحبكة الدرامية.١ ويخيل إليَّ أن مؤلف الثلاثية قد أفاد من هذه الاتجاهات الثلاث، فإن قضيته الفكرية — الانتماء — لم تفارقه قط، كما أن وجهة نظره الفكرية — اليسار — لم تفارقه قط، كذلك كان منهجه في التفكير الفني قد تجاوز التحديدات والقوالب السكونية، وأضحت الشخصيات والأحداث والمواقف كلًّا واحدًا متفاعلًا، يتصارع فيه الفكر مع الواقع صراعًا ديناميًّا حارًّا.
يقول جاك جومييه في دراسته الموجزة عن الثلاثية: «لقد اتسعت — أي الثلاثية — في مداها كله لتوضيح شخصية أحمد عبد الجواد وكمال وياسين وعائشة وخديجة من جميع النواحي في فترة ربع قرن. أما الأحفاد الثلاثة فلم يبلغوا مبلغ الرجال إلا في نحو ١٩٤٠م، فلم يتسع المجال في الثلاثية لتوضيح شخصياتهم من جميع جوانبها.» وليس هذا القول صحيحًا. فالتراكم الكمي لأحداث بين القصرين وقصر الشوق كان بمثابة الأرضية للتغير الكيفي الذي حدث في السكرية. أي إن السكرية هي لحظة التغير الثوري في مجرى التاريخ المصري الحديث. ومعنى ذلك أن تجسيد هذه اللحظة لا يتطلب أكثر من بلوَرة الاستقطاب الأيديولوجي الذي حدث في نماذج نمطية. وهذا ما يفسر لنا كثرة التفاصيل ودقتها وضرورتها في الجزء الأول والثاني من الثلاثية؛ فقد كانت هذه التفاصيل هي الصياغة الوحيدة الصحيحة التي تستوعب أطنان التراكمات الكمية التي أدت فيما بعد إلى ذلك التغير الكيفي الحاسم في الخريطة السياسية المصرية. فلم تكُن ضبابية المنتمي اليساري أو دروشة المنتمي اليميني في القاهرة الجديدة وخان الخليلي وبداية ونهاية إلا تجسيدًا لخطوات المنتمي من حيث الكم والنوع في تلك المرحلة السابقة على إبرام المعاهدة. فقد كانت المعاهدة مرحلة كاملة في تاريخنا السياسي هي مرحلة الأزمة التي سببت بلبلة هائلة في تفسير الأحداث وتوجيهها على السواء. ولقد كانت إيذانًا لليسار بأن ينفلت من الضباب، كما كانت فرصة اليمين في التنظيم السياسي الشامل. والتفرقة الحاسمة بين التاريخ والفن هي التي توجب علينا ألا نحاسب نجيب محفوظ حسابًا تاريخيًّا على دقائق الخريطة السياسية للبلاد. فإذا كانت مصر الفتاة تمثل جناحًا فاشيًّا خطيرًا حينذاك، فإن الإخوان المسلمين كانوا أكثر تمثيلًا للفكرة الفاشية؛ لأنهم أكثر توغلًا بين الجماهير. وفي مجال الفن يضيق العمل الروائي بالحصر ويكتفي بالنمط والنموذج؛ لذلك يكتفي الفنان بما جاء على لسان عدلي كريم من أن مصر الفتاة جماعة فاشية مجرمة، ولكنه يتيح الفرصة كاملة أمام عبد المنعم شوكت ليُدلي بوجهة نظر اليمين المتطرف ممثلًا في الإخوان المسلمين. ولقد مر المؤلف بنماذج سبق أن التقينا بها في أعماله السابقة؛ كرضوان ياسين الذي يقترب في وصوليته وانحلاله من شخصيته محجوب عبد الدايم، وشخصية عبد الرحيم باشا عيسى التي تقترب من قاسم بك فهمي، وهكذا. إلا أن اتجاه السهم في الثلاثية كان أحمد وعبد المنعم شوكت في صراع متبادل وتفاعل حي، جعل نجيب محفوظ يقول في حديث له: «… ولا أعتقد أن أحدًا قرأ الثلاثية دون أن تتركز عواطفه في شيء معين واضح.»٢ واكتفى مؤقتًا — بهذه الكلمات — في نفي أسطورة الحياد التي يلصقونها عن جهل بأدب نجيب محفوظ.

وسوف تتحدد مهمتنا الآن في الكشف عن طبيعة الحركة الصراعية التي تتفاعل بها الشخصيات والأحداث والمواقف في السكرية، رواية الانتماء الإيجابي المتكامل ناحيتَي اليمين واليسار. وذلك حتى نضع أيدينا على اتجاه السهم الذي يشير به نجيب محفوظ إلى مفهومه عن حركة التاريخ. وأراني أعود إلى جومييه لأجده يقول: «… إننا نلاحظ أن كلًّا من الأخوين بريء من هذا الصراع أو الانقسام النفسي الذي كان يشمل حياة كمال خالهما ويمنعه من المضي في أي اتجاه.» والحق أن هذا هو رأي كمال نفسه «إن الجيل الجديد يشق سبيله العسير إلى هدف بيِّنٍ دون شك أو حيرة، ترى ما سر دائي الوبيل؟!»

كانت نقطة انطلاق الصراع هي الاتفاق على أن الوفد أفضل الأحزاب، ولكنه لم يعد مقنعًا على وجه شافٍ. ومن نقطة الاتفاق هذه ينطلق الاختلاف ثم الصراع. والاختلاف يتبلور في الأرضية السياسية لكل منهما. فعبد المنعم لم يعُد كمأمون رضوان يكتفي بالحماسة الدينية والتخصص في الشريعة الإسلامية. كلا، بل هو يستمع إلى أحد زملائه في الشعبة يسأل مرشدهم: أليس من الحكمة أن نتجنب السياسة؟ فيجيب الشيخ بهذه الكلمات التي تستقر في أعماق عبد المنعم: «الدين هو العقيدة والشريعة، والسياسة، إن الله أرحم من أن يترك أخطر الأمور الإنسانية دون تشريع وتوجيه.» وعبد المنعم يشارك مأمون رضوان في «الحساسية الدينية» إزاء ما سمياه بالخطيئة، فهو يرفض اللقاء المختلس على بسطة السلم في مع الظلمة مع بنت الجيران. وهو في هذا السلوك يريد أن يكون منطقيًّا مع ما يفكر به وهو يحاول إقناع أصدقائه قائلًا: إن الشبان يتهددهم زيغ في العقيدة، وانحلال في الخلق، وليس الرجم بأشد ما يستحقونه. أما أحمد فيستشعر هو الآخر إيمانًا عميقًا وتعصبًا شديدًا لما يؤمن به «بإيماني الخاص، إيماني بالعلم وبالإنسانية وبالغد. وبما التزمه من واجبات ترمي في النهاية إلى تمهيد الأرض لبناء جديد» … وهنا يلتحم به عبد المنعم قائلًا: «هدمت كلَّ ما الإنسانُ إنسانٌ به.

– بل قُل إن بقاء عقيدة أكثر من ألف سنة آية لا على قوتها، ولكن على حِطَّة بعض بني الإنسان، ذلك ضد معنى الحياة المتجددة، ما يصلح لي وأنا طفل يجب أن أغيره وأنا رجل، طالما كان الإنسان عبدًا للطبيعة والإنسان وهو يقاوم عبودية الطبيعة بالعلم والاختراع كما يقاوم عبودية الإنسان بالمذاهب التقدُّمية، ما عدا ذلك فهو نوع من الفرامل الضاغطة على عجلة الإنسانية الحرة!

فقال عبد المنعم، وكان في تلك اللحظة يكره فكرة أُخوَّة أحمد له: الإلحاد سهل، حل سهل هروبي، هروبي من الواجبات التي يلتزمها المؤمن حيال ربه ونفسه والناس، وليس من برهان على الإلحاد يمكن أن يُعد أقوى من البرهان على الإيمان، فنحن لا نختار هذا أو ذاك بعقولنا بقدر ما نختاره بأخلاقنا.»

ولا يفوت الفنان أن يومئ إلى اتجاه آخر يتستر خلف العلم قائلًا على لسان أحد أصدقائهما — حلمي عزت — «إيمان … إنسانية … الغد، كلام فارغ! النظام القائم على العلم وحده ينبغي أن يكون كل شيء، يجب أن نؤمن بشيء واحد هو استئصال الضعف البشري بكافة أنواعه، ومهما بدا عملنا قاسيًا، وذلك للوصول بالبشرية إلى مثال قوي نظيف.» ولا يكتفي نجيب بهذه الإيماءة؛ بل يضيف قائلًا بأنه: «كان أحيانًا تعتريه نوبات ثائرة غامضة.»

إن شخصياتٍ كرضوان ياسين وحلمي عزت ورياض قلدس، لا يجيء بها المؤلف عبثًا؛ بل هو يصوغ الواقع الأيديولوجي كانعكاس للواقع الاجتماعي. ثم يبادر بإلقاء اليمين واليسار على السواء بين أحضان هذا الواقع، حتى يتم التفاعل والصراع في إطار كامل الموضوعية. لذلك نحن نلتقي بشخصية قلدس — على سبيل المثال — كممثل لتيار الشباب القبطي المتحرر من سلطان العقيدة. ولكنه أسير الانتماء إلى أقلية مضطهدة، فهو يرى أن الأقباط جميعًا وفديون؛ لأنه حزب القومية الخالصة التي تجعل من مصر وطنًا حرًّا للمصريين على اختلاف عناصرهم وأديانهم. ورياض قلدس نموذج لهذا القلق المرير الذي يحسه كل من عانى ويلات هذه المشكلة. يقول رياض: «المرجو ألا تكون ثمة مشكلة، يؤسفني أن أصارحك بأننا نشأنا في بيوت لا تخلو من ذكريات سود محزنة، لست مُتعصبًا، ولكن من يستهين بحق إنسان في أقصى الأرض — لا في بيته — فقد استهان بحقوق الإنسانية جميعًا.» ثم يحلل المشكلة تحليلًا علميًّا دقيقًا، فيؤكد أنها ذابت في مشكلة الشعب كله. بمعنى آخر، أزمة الأقباط هي أزمة الديمقراطية التي يعانيها الشعب المصري جميعه. لهذا يحتقر رياض الفاشية والنازية وكافة النظم الدكتاتورية، «أما الشيوعية فخليقة بأن تخلق عالمًا خاليًّا من مآسي الخلافات العنصرية والدينية والمنازعات الطبقية.»

هذه الأرضية الأيديولوجية لعالم السكرية تلتقي بواقع اجتماعي محدد؛ فأحمد شوكت يقع في هوى فتاة أرستقراطية تجعله يقول: «إن القلب في أهوائه لا يعرف المبادئ، وهيهات أن تتعارض المبادئ الشعبية مع الحب الأرستقراطي.» ثم يفاجأ بأن الفتاة حددت مع والدها شروطًا لزوج المستقبل، أقلها احتمالًا ألا يقل مع مرتبه عن خمسين جنيهًا شهريًّا. ولكن أحمد يبادر بالتهكُّم عليها وتركها. ثم يعمل بالصحافة الحرة، لا كما كان يعمل علي طه؛ بل إن الأحرار كثيرًا ما يضطرون إلى إذاعة آرائهم بالمنشورات السرية كما تقول سوسن حماد. وهي الفتاة التي التقى بها في مجلة الإنسان الجديد. وهي على الطرف النقيض من علوية صبري — الفتاة الأرستقراطية — لأنها ابنة عامل مطبعة، ومثقفة من الداخل، وتعمل بالصحافة، وثورية أيضًا فيما يبدو. إن سوسن تعرف كمال عبد الجواد من كتاباته. وينتهز الفنان هذه الفرصة لكي تصبح هذه الكتابات هي المحك للتفاعل بينها وبين أحمد، فتقول وهي تبتسم: «لا موقف له، إن موقف الكاتب لا يمكن أن يخفَى، إنه مثل من المثقفين البرجوازيين يقرأ ويستمع ويتساءل، وقد تجده في حيرة أمام المطلق، وربما بلغت به الحيرة حد الألم، ولكنه يمُر سادرًا بالمتألمين الحقيقيين في طريقه.» ولما كان أحمد شوكت هو الوجه الآخر لكمال عبد الجواد، هو الجانب الخفي من تكوينه الرامز إلى جيل الأزمة، فإنه — كمال — يسارع بالقول: «ربما كان من الخطأ أن نبحث في هذه الدنيا عن معنًى، بَينا أن مهمتنا الأولى أن نخلق هذا المعنى.» وفي المستوى السياسي يسخر من أعماقه الصارخة: «يجب أن تَعبُد الحكومة أولًا كي تعيش مطمئنًا.» أو: «متى يعامَل المصريون كالآدميين؟» وقد علمته الحياة السياسية في مصر — يقول المؤلف — أن يمقت الدكتاتور من صميم قلبه.

وكما كان اللقاء بين سوسن وأحمد بمثابة المحك المباشر لشخصية كمال، كان هذا اللقاء أيضًا بمثابة المحك المباشر لشخصية عبد المنعم. فهي تنفذ إلى جوهر الدعوة الاشتراكية في الإسلام، لتصيح في وجه أحمد: «قد يكون في الإسلام اشتراكية، ولكنها اشتراكية خيالية كالتي بشر بها توماس مور ولويس بلان وسان سيمون، إنه يبحث عن حل للظلم الاجتماعي في ضمير الإنسان بَيْنا أن الحل موجود في تطور المجتمع نفسه، إنه لا ينظر إلى طبقات المجتمع، ولكن إلى أفراده، وليس فيه بطبيعة الحال أية فكرة عن الاشتراكية العلمية، وفضلًا عن هذا كله، فتعاليم الإسلام تستند إلى ميتافيزيقا أسطورية تلعب فيها الملائكة دورًا خطيرًا، لا ينبغي أن نبحث عن حلول لمشكلات حاضرنا في الماضي البعيد، قل هذا لأخيك.

فضحك أحمد في سرور غير خاف وقال: أخي شاب مثقف وقانوني ذكي، إني أعجب كيف يتحمس أمثاله للإخوان!

فقالت بازدراء: الإخوان يصطنعون عملية تزييف هائلة، فهم حيال المثقفين يقدمون الإسلام في ثوب عصري، وهم حيال البسطاء يتحدثون عن الجنة والنار، فينتشرون باسم الاشتراكية والوطنية والديمقراطية.»

ولا يقتصر التفاعل بين سوسن وأحمد على النقاش العقلي المحض، وإنما يتجاوزه إلى ما هو أكثر عمقًا، إلى صميم العلاقة بين سوسن وأسرة آل شوكت. فإذا كان الفارق الطبقي هو الذي حال بشكل واضح بين أحمد وعلوية صبري، فإن هذا الفارق ما يزال قائمًا بصورة معاكسة بينه وبين سوسن حماد. وبالرغم من أن أحمد يحب سوسن ولا يُعِير كلامها عن أسرته أدنى التفات، إلا أنها تتمسك «بالكرامة» التي يجب أن يضعها في الاعتبار عند أهله وهم يناقشون المسألة. ولقد كانت سوسن مُحِقة تمامًا في إثارتها هذه النقطة؛ وذلك أن الأسرة الشوكتية لم تسلم لابنها بسهولة. فكما أنها ناهضت عبد المنعم في زواجه من ابنة زنوبة العوادة، فإنها كذلك تناهض أحمد في زواجه من ابنة عامل المطبعة. ويؤدي هذا المحك للتفاعل، إلى موقف ممتاز لكمال عبد الجواد، إذ هو يبادر بالوقوف إلى جانب ابن أخته. ولا شك في أن لهذا الموقف جانبَه الرمزي الصرف، فهو يعني أن كمال ينتصر بعقله للزواج. أو بالأحرى جانب من عقله. ومع ذلك فإن تسلسل الأحداث يحيطنا علمًا بأن كمال رفض الصورة الجديدة من عايدة حين رفض شقيقتها بدور.

ويلح نجيب محفوظ على توجيه حركة الانتماء إلى اليسار إلى مزيد من الوضوح والتبَلوُر، فنحن نستمع إلى عدلي كريم يوجه حديثه إلى أبنائه من الشباب الثوري قائلًا:
  • حسن أن تدرسوا الماركسية، ولكن تذكروا أنها، وإن تكن ضرورة تاريخية إلا أن حتميتها ليست من نوع حتمية الظاهرات الفلكية، إنها لن توجد إلا بإرادة البشر وجهادهم، فواجبنا الأول ليس في أن نتفلسف كثيرًا، ولكن في أن نملأ وعي الطبقة الكادحة بمعنى الدور التاريخي الذي عليها أن تلعبه لإنقاذ نفسها والعالم جميعًا.

  • المجتمع الفاسد لن يتطور إلا باليد العاملة، وحين يمتلئ وعيها بالإيمان الجديد. ويمسي الشعب كله كتلة واحدة مع الإرادة الثورية، فهنالك لن تقف في سبيلنا القوانين الهمجية ولا المدافع.

  • إن مهمتنا الأولى أن نحارب روح القناعة والخمول والاستسلام، أما الدين فلن يتأتى القضاء عليه إلا في ظل الحكم الحر.

  • حتى الرجعيون لم يجدوا بُدًّا من استعارة اصطلاحاتنا، وهم لو سبقونا إلى الانقلاب فسوف يحققون بعض مبادئنا ولو تحقيقًا جزئيًّا، ولكنهم لن يوقفوا حركة الزمن المتقدمة إلى هدفها المحتوم، ثم إن نشر العلم كفيل بطردهم كما يَطرد النورُ الخفافيش.

أقول إن نجيب محفوظ يُلح على توجيه حركة الانتماء إلى اليسار إلى مزيد من الوضوح والتبلور، وأضيف أنه يجند خاتمة السكرية في إنارة الجزء الأخير من السهم الذي يشير إلى مفهومه عن حركة التاريخ. فأزمة الحرية لا تعني بالنسبة لأحمد شوكت إلا إحدى محطات الوصول إلى الحرية. وإذا كانت الأزمة تجمع الشيوعي والإخواني والسِّكير والسارق في مكان واحد مظلم رطب، بسجن أحد أقسام البوليس … فإن أحمد شوكت وحده هو الذي تلوح له خلال قضبان النافذة الصغيرة «وطلائع النور وآنية رقيقة»! من أعماق الظلمة يرى المنتمي اليساري طلائع النور القادمة مع الغد. وهو وحده الذي يردد بكل إيمان وثقة: «إني أؤمن بالحياة والناس، وأرى نفسي ملزمًا باتباع مُثُلهم العليا ما دمت أعتقد أنها الحق؛ إذ النكوص عن ذلك جبن وهروب، كما أرى نفسي ملزمًا بالثورة على مثلهم ما اعتقدت أنها باطل؛ إذ النكوص عن ذلك خيانة، وهذا هو معنى الثورة الأبدية.» هذه الكلمات بعينها هي التي يرددها كمال — الحائر العظيم — في نهاية الثلاثية، يرددها بعد أن طار فكره فجأة إلى الطور، إلى المعتقل. هذه النهاية التي توضح أكثر فأكثر منهج الفنان في التفكير الفني. فهو يخلق اليمين واليسار — وهذه هي الموضوعية — ثم يُسقط وجهة نظره الفكرية على مسار الأحداث، فلا نرى عبد المنعم إلا تائهًا بين شيخه وزوجه؛ بينما تتتابع ملامح الثورة على وجه أحمد وسوسن وعدلي كريم ورياض قلدس، إلى أن تتركز تمامًا في شخصية أحمد شوكت. ومن هذا التركيز تتفرع أشعة «القِيم» التي يدعو إليها نجيب محفوظ، وهي قيم العلم والإنسان والمستقبل، قيم اليسار التي يصوغها أحمد في كلمات: «ماذا يدفعني في هذا السبيل الخطير الباهر؟ إلا أنه الإنسان الكامن في أعماقي، الإنسان الواعي المدرك لموقفه الإنساني التاريخي العام.» قيم المنتمي اليساري هي رأس السهم الذي ترسمه نهاية السكرية في اعتراف أحمد شوكت: «… بوسعنا أن نتزوج وأن نتجنب المتاعب ونقنع برغَد العيش، ولكنها تكون حياة بلا روح، لَشَد ما يبدو لي المبدأ أحيانًا كأنه لعنة مصبوبة علينا من القضاء والقدر، إنه دمي وروحي، كأنني المسئول الأول عن الإنسانية جميعًا.»

لم يعد الانتماء إلى اليسار مجرد رد فعل على الدين، ولكنه موقف إلى جانب العلم والمجتمع الإنساني والتاريخ. وإذا كانت النهاية في السكرية هي السجن، فإنها تعنى شيئًا واحدًا، هي أن المنتمي إلى اليسار دخل مرحلة جديدة من مراحل أزمة الحرية في بلادنا، ولكنها مرحلة مختلفة كيفيًّا عن مرحلة كمال عبد الجواد. ولقد تسلح المنتمي بمعظم أدوات التغيير الحضاري الشامل، ولم يعد أمامه سوى التوقيت الصحيح. والأزمة الجديدة ليست أزمة الديمقراطية الليبرالية في ظل الأحزاب الرجعية وحدها، إنها أزمة جذرية عميقة تضع النظام الاجتماعي بكامله بين قوسين.

لقد سبق لإحسان عبد القدوس أن صور الانتماء اليساري على أنه لعبة جنسية في «لا شيء يهم»، كما صوره يوسف السباعي على أنه خائن في «جفت الدموع»، كما صوره ثروت أباظة على أنه حاقد في «قصر على النيل». وقبلهم قال نجيب محفوظ كلمته، ولكنه يعود ليقولها مرة أخرى.

•••

الفرق بيننا وبينهم في الغرب، هو فرق حضاري، فنحن لم نعانِ الثورة الحضارية المعاصرة، بمعنى أننا لم نسهم — نحن المعاصرين — في بناء عصر هذه الثورة. في أوروبا — على المستوى الفكري — أسهموا في حل مأساة مجتمعهم منذ الاشتراكيات الخيالية إلى الاشتراكية العلمية. وفي المستوى التكنولوجي، صنعوا بأيديهم وأذهانهم ووجدانهم كل شيء. نحن — بمعنًى أدق — متخلفون. ومن هذه الزاوية تنشأ، عند المثقف في بلادنا، أزمة التناقض بين «الاتجاه» العقلي نحو الغرب، و«التكوين» الحضاري المتخلف عند الشرق. والتخلف هو الأنظمة الاجتماعية البدائية، والأنظمة المتسلقة على كتفي الفكر الأوروبي الحديث، وهو أيضًا الفرق بين الكنيسة الأوروبية والمسجد العربي، بين الحضارة المستوردة والحضارة الأصيلة. إن الفرق بيننا وبين الغرب يرادف التشابه القائم بين الفلاح المصري الذي يعيش في عصر الفراعنة دون أن يصنع مجدًا حضاريًّا مثلهم، وبين المثقف المصري الذي يعيش في القرن العشرين دون أن يسهم في حضارته. وهذه هي الأزمة التي بلورت في وجدان نجيب محفوظ الخيوطَ الأولى في روايته الكبرى «أولاد حارتنا».

فلقد أحس نجيب محفوظ منذ الوهلة الأولى أن الدين يشكل ركيزة أساسية في بناء القيم الذي نعيش بين جدرانه، في الشرق. وعن طريق الدين أراد أن يدخل عالمنا الروحي حتى يستطيع — وهو داخل البناء — أن يستبدل بهذه الركيزة الكبرى في حياتنا ركيزة أخرى عرفت طريقها إلى العالم المتحضر منذ زمن بعيد. وكانت الركيزة الجديدة التي حاول نجيب أن يحلها مكان الركيزة القديمة هي العلم. ولذلك فزعت الرجعية في مصر فزعًا شديدًا حين كانت «أولاد حارتنا» تنشر يوميًّا في جريدة الأهرام خلال الفترة الواقعة بين ٢١ سبتمبر عام ١٩٥٩م و٢٥ ديسمبر من نفس العام. وليس من قبيل المصادفة أن تنتهز الرجعية فرصةً ملاءمة في ذلك الحين هي أزمة الديمقراطية التي شملت أرجاء العالم العربي، فتوجه ضربتها — الأدبية — إلى أول عمل أدبي مباشر — على الرغم من رمزيته — يرفع شعارات العلم والتقدم والاشتراكية والحرية. وليس من قبيل التداعي الفكري أن أسجل هنا نقطة مهمة فيما أرى، بصدد مرحلة الصمت التي رافقت قلم نجيب محفوظ منذ انتهائه من كتابة السكرية عام ١٩٥٢م إلى بداية كتابته لأولاد حارتنا عام ١٩٥٩م. لقد سئل نجيب محفوظ أكثر من مرة عن هذه السنوات السبع، فكان يجيب دائمًا بأنه أحس فجأة عندما قامت الثورة المصرية في ٢٣ يوليو ١٩٥٢م أنه قال كل ما عنده، وأنه لا يجد جديدًا يمكن إضافته. كذلك أجاب بأن الإطار الواقعي استنفد كل ما لديه من طاقة فنية، وأنه سوف يبحث عن شكل تعبيري جديد إذا واتاه المضمون الإنساني الجديد. ولا شك في أن نجيب محفوظ — بعد الثلاثية — كان يعاني صراعًا عنيفًا خاصًّا بأشكال التعبير. ولكن أزمته الحقيقية لم تكن قط أنه لا يجد ما يقوله، وإنما كانت على وجه التحديد هي أنه لا يستطيع أن يقول ما يريد. فالنهاية الحزينة التي اختارها للثلاثية تقول بصراحة وجرأة إن هناك أزمة في هذا المجتمع، وإن هذه الأزمة هي أزمة الحرية والتخلف الحضاري. ولا يمكن لفنان ناضج كنجيب محفوظ أن يقتنع بأن هذا المجتمع المأزوم قد تخلص مما يعانيه، ولم يعد للفن دور يؤديه في تغيير هذا المجتمع. بل إن نجيب محفوظ الذي أخلص لقضية الانتماء الثوري إلى جانب التقدم لا يستطيع أن يعفينا من تفسير موقف الصمت الذي اتخذه طوال الأعوام السبعة على ضوء الأزمة العميقة في كيان المجتمع المصري. أكثر من ذلك أنه لم يلجأ إلى الشكل الرمزي في «أولاد حارتنا» إلا لأنه لم يكن قد تخلص بعدُ من الإحساس بضرورة الأزمة. وانعكس هذا الشعور بالاضطرار على البناء الروائي «لأولاد حارتنا»؛ فتأرجحت تأرجحًا شديدًا بين استخدام الرمز والمباشرة في إسقاط الرمز على الواقع.

فالحارة يمكن أن تكون البشرية بأسرها، ويمكن أن تكون مصر وحدها، ويمكن أن تكون رمزًا مزدوجًا. فهي تجمع بين خصائص التطور الإنساني العام وبين ملامح الأزمة الحضارية التي تعيشها مصر. فقد تسبب الانفصال التاريخي في حضارتنا بين المرحلة الفرعونية والقبطية والإسلامية والعربية في صياغة الإنسان المصري على نحو حضاري معقد، كما كان لهذا الانفصال دوره في تركيز معالم التاريخ الحديث التي ورثناها في مرحلتنا المعاصرة. لهذا يجيء نجيب محفوظ في «أولاد حارتنا» ليعيد صياغة هذا التاريخ الممزق في وحدة فنية تجسد الرمز والواقع معًا.

الحارة إذن، قد تكون هي الإنسانية في مختلف مراحل تطورها منذ المجتمع المشاعي الأول إلى التقسيم الكبير الأول في حياة البشر الذي أحالهم إلى سادة وعبيد إلى عصرنا العلمي الحديث الذي يقدم الاشتراكية حلًّا حاسمًا لمأساة الإنسان. والمأساة الإنسانية — على هذا الوجه — ليست المشكلة الاجتماعية فحسب؛ بل المشكلة الميتافيزيقية أيضًا. فثمة خطان متوازيان يلتقيان حينًا ويفترقان أحيانًا هما علاقة الإنسان بسر هذا الكون، أو علاقة النسبي بالمطلق، وعلاقة الإنسان بهذا المجتمع، أو علاقة الفرد بالمجموع.

غير أن الحارة أيضًا — على وجهها الآخر — هي مصر في أحدث مراحل تطورها التي تجمع في تكوينها عصارة ماضينا كله؛ بل إن هذا الماضي يشترك في خلق الحاضر بكل متناقضاته وتمزقاته العديدة، ويحمل له في الوقت نفسه الحل الناجز لهذه المتناقضات، الحل المتمثل في العلم والاشتراكية.

وسواء كان نجيب محفوظ يعني بحارته، الإنسانية أو مصر، أو كليهما معًا، فإن قضية «الدين والعلم» هي المحور الرئيسي في الرواية، هي المحور الرئيسي بمعنى أنها العمود الفقري المكون من حلقات الانتماء التي تنتهي بالاشتراكية.

وتبدأ «أولاد حارتنا» بإشارة مهمة من المؤلف تتركز في قوله: «… وما أكثر المناسبات التي تدعو إلى ترديد الحكايات. كلما ضاق أحد بحاله، أو ناء بظلم أو سوء معاملة، أشار إلى البيت الكبير على رأس الحارة من ناحيتها المتصلة بالصحراء، وقال في حسرة: هذا بيت جدنا، جميعنا من صلبة، ونحن مستحقو أوقافه، فلماذا نجوع وكيف نضام؟» هذه الإشارة الذكية تفسر أول ما تفسر لماذا يكتب الفنان هذه الرواية. إنه أحد أولئك الذين ضاقوا بالحال والظلم وتساءلوا: لمَ نجوع، وكيف نضام؟ ولكن السؤال — هذه المرة — لم يكن موجهًا إلى البيت الكبير أو صاحب البيت الكبير. ومنذ اللحظة الأولى يجب أن نوافق نجيب محفوظ فيما ذهب إليه في حديث له من أن أولاد حارتنا هي النقيض، على الأرجح، لرحلة سويفت المشهورة. فتلك كانت نقدًا للواقع عن طريق الأسطورة. أما أولاد حارتنا فهي — على حد قول صاحبها — نقد للأسطورة عن طريق الواقع.٣ من هنا نستطيع أن نؤكد على نقطة الانطلاق هذه؛ وهي أن الفنان يصور قصة الحارة البشرية على نحو مغاير للحكايات التي توارثناها جيلًا بعد جيل منذ قديم الزمن «لعل الخيال أو الأغراض قد اشتركت في إنشائها». كذلك فهو — أي الفنان — يومئ بالعلاقة الجوهرية بين مصر والحارة والإنسانية حين يستطرد: «وحارتنا أصل مصر أم الدنيا.» أما الجبلاوي صاحب البيت الكبير القائم على رأس الحارة التي سميت باسمه، فإنه مهما اختلفت الأقاويل بشأنه، فإن الجميع يتفق على أنه كان أحد الفتوَّات الذي استطاع بقوته وبطشه، أو بحيلته ودهائه، أن يستولي على الحارة كلها. وبالرغم من أننا سنكتشف فيما بعد أن الجبلاوي هذا هو «المطلق» بالنسبة للإنسان، أو هو «السر» الخالد في حياة البشر، إلا أن تصوير الفنان لبداية علاقته بالحارة على أنه أول فتوَّاتها الكبار يضعنا وجهًا لوجه أمام المنهج الفكري والتعبيري لنجيب محفوظ في هذه الرواية. هذا المنهج الذي سيتكشَّف لنا رويدًا رويدًا، كلما استطعنا أن نلتقط المفاتيح المتناثرة على طول الرواية. وأعود إلى القول بأنه على الرغم من تجسيم الفنان للجبلاوي كرمز للمجهول، فإن تجسيمه له على أنه فتوَّة كانت الوحوش تهاب ذكره يضعنا أمام أحد أمرين: إما أن الفنان يسجل موقفين للإنسان إزاء وجوده على الأرض، وإما أنه يرى وجهين لقضية الإنسان على هذه الأرض، أحدهما الوجه الميتافيزيقي، والآخر هو الوجه الاجتماعي. فهو حين يتساءل: «أليس من المحزن أن يكون لنا جَدٌّ مثل هذه الجد دون أن نراه أو يرانا؟ أليس من الغريب أن يحتفي هو في هذا البيت الكبير المغلق وأن نعيش نحن في التراب؟!» إنما يبلور لنا جوهر الأزمة التي يعرض لها بالتفكير والتعبير، وأقصد بها أزمة العلاقة بين مأساة البشر الاجتماعية والحل الميتافيزيقي لها، إنه هنا يردد كلمات تشبه الصدى لما سبق أن سمعناه على لسان كمال عبد الجواد. لم يكن كمال مؤمنًا بالدين، ولكن إيمانه بالله لم يفارقه قط. فإذا نحن سمعنا نجيب يقول: «ولن تظفر بما يبل الصدر أو يريح العقل.» فكأنما نحن نستمع إلى صوت كمال عبد الجواد الذي يفيض بالشك. إلا أنَّ تَتابُع الأحداث يؤكد تطور المنتمي المأزوم إلى الوعي العميق المسئول، بأوجاع البشر وآلام المجتمع الذي يعيش بين جنباته فلقد أصبح الناس في زمن يشترون «السلامة بالإتاوة، والأمن بالخضوع والمهانة، ولاحقتهم العقوبات الصارمة لأدنى هفوة في القول أو في الفعل؛ بل للخاطرة تخطر فيشي بها الوجه.» وهي عبارات صريحة لا التواء فيها، ولا يجدي معها التفسير بأنها رمز إلى حال البشرية جمعاء، فحتى إذا كان هذا صحيحًا، فإن صدورها عن كاتب مصري يقول «بتنا من الفقر كالمتسولين.» له مغزاه الشديد الوضوح. ومن المفيد أن ننقل ما قاله نجيب محفوظ على لسان سوسن حماد في السكرية من أن الأحرار «يضطرون إلى إذاعة آرائهم بالمنشورات السرية، المقالة صريحة ومباشرة، ولذلك فهي خطيرة، خاصة وأن الأعين محملقة فينا. أما القصة فذات حِيَل لا حصر لها، إنها فن ماكر.» من المفيد — كما قلت — أن ننقل هذا النص للمقابلة بينه وبين ما قاله نجيب في بداية «أولاد حارتنا»: «شهدت العهد الأخير من حياة حارتنا، وعاصرت الأحداث التي دفع بها إلى الوجود عرفة ابن حارتنا البار. وإلى أحد أصحاب عرفة يرجع الفضل في تسجيل حكايات حارتنا على يدي؛ إذ قال لي يومًا: أنت من القلة التي تعرف الكتابة فلماذا لا تكتب حكايات حارتنا؟ … إنها تُروى بغير نظام، وتخضع لأهواء الرواة وتحزباتهم، ومن المفيد أن تسجل بأمانة في وحدة متكاملة ليحسن الانتفاع بها.» إلى أن قال: «كانت مهمتي أن أكتب العرائض والشكاوى للمظلومين وأصحاب الحاجات. وعلى كثرة المتظلمين الذين يقصدونني فإن علمي لم يستطع أن يرفعني عن المستوى العام للمُتَسوِّلين في حارتنا، إلى ما أطلعني عليه من أسرار الناس وأحزانهم حتى ضيق صدري وأشجن قلبي. ولكن مهلًا، فإنني لا أكتب عن نفسي ولا عن متاعبي، وما أهون متاعبي إذا قيست بمتاعب حارتنا» … إن التقابل بين عبارات النصين يعنيني من زاويتين: أولهما أن الأمانة والوحدة المتكاملة التي ينشدها ليست إلا «وجهة النظر» أو العدسة الفكرية التي سيرى بها ويرينا نحن معه أسرار المأساة. فكلمة الأمانة الواردة في النص لا تتضمن أية تأكيدات من أنه سيروي لنا الحكاية عن مصدر موثوق به لم يكن قائمًا حين سجلت الحكاية مرارًا فيما مضى، وإنما هو يقصد بها الموضوعية في تصور الأحداث على ضوء العهد الأخير الذي شاهد أحداثه. أما عبارة الوحدة المتكاملة فلا يقصد بها سوى المنهج الفكري الذي آثره في تتبع أحداث الحارة البشرية وهي أنها ليست أحداثًا عضوية تتراكم فوق بعضها بعض، وإنما هي مجموعة من المراحل التاريخية المتفاعلة مع ظروفها الموضوعية والمؤدية إلى نتائج محددة بفاعلية البشر ومدى إسهامهم في توجيهها. والتقابل بين هذا النص والنص السابق عليه هو أن القصة رغم موضوعية بنائها الفني إلا أنها إحدى الحيل التي يلجأ إليها الأحرار في التنفيث عن آرائهم الثورية في تغيير المجتمع. وهذا بالضبط ما يكمله الجزء الأخير من النص الثاني حين يشير إلى الدافع الحقيقي لكتابته هذه القصة، هذا الدافع الذي لم يكن ذاتيًّا فحسب — فهو لم يرتفع عن مستوى المتسولين — وإنما كان دافعًا موضوعيًا هو متاعب الحارة.

صور نجيب محفوظ البيت الكبير على أنه الفردوس المفقود؛ فقد خرج منه أدهم وأميمة لمحاولتهما التعرف على السر الرابض في إحدى الغرف، السر المكتوب الراقد بين دفتي مجلد موضوع على منضدة بهذه الغرفة العجيبة. كان البيت الكبير فردوسًا حقًّا، فأصحابه لم تتلوث أيديهم وجباههم بلعنة العمل، فلم يكن ثمة شيء يفعله أدهم سوى العزف على الناي. وهو يحس أثناء قيامه بالعزف وكأنه يجدُّ في البحث عن شيء «ما هذا الشيء؟ الناي أحيانًا يكاد يجيب ولكن السؤال يظل بلا جواب». وإذا كان إدريس أحد أبناء الجبلاوي، قد طرده أبوه لتطاوله عليه، فإن طرد أدهم وزوجته أميمة كان طردًا ذا حيثيات أعظم وأجل خطرًا؛ لأنهما أرادا أن «يعرفا» السر، وأن يتحررا من أغلال «المجهول» … فالمعرفة هي الحرية، وإرادة الحرية هي اللعنة التي لاحقت أدهم وأميمة. وهكذا يدور بينهما هذا الحوار تقول أميمة: «من ذا يقاوم الرغبة في الاطلاع على المستقبل؟

– تعنين مستقبلك أنت.

– مستقبلي ومستقبلك، ومستقبل إدريس الذي حزنت عليه رغم ما سبق منه ضدك.»

ويحس أدهم أن المرأة تعرب عما في نفسه «والحق أنه لم يتركها تسترسل في حديثها إلا لأن جزءًا من نفسه كان بحاجة إلى تأييدها» وبالغ هذا الجزء من النفس في تأييدها حين انطلقت تعدد له المزايا المحيطة بمعرفة «المصير» … المصير الذي قدر هو أن نجوم السماء لا تعرفه.

فما إن أقدم أدهم على محاولته الخطيرة، حتى كُشف أمره وطُرد من البيت الكبير، فترك الناي وبدأ يتوكأ على إحدى العربات يبيع الخيار، وراح يردد لنفسه: لا شيء حقيقي في هذه الدنيا. كما راح يخاطب أباه العظيم: لماذا كان غضبك كالنار تحرق بلا رحمة؟ لماذا كان كبرياؤك أحب إليك من لحمك ودمك؟ وكيف تنعم بالحياة الرغيدة وأنت تعلم أننا نُداس بالأقدام كالحشرات؟ والعفو واللين والتسامح ما شأنها في بيتك الكبير أيها الجبار؟ ثم رأى من الحكمة نسيان الماضي وإن كان «ليس لنا من زمن غيره»؛ فهو لا يفتأ يقارن بين الحال في البيت الكبير والحال الراهنة قائلًا: إن العمل من أجل القوت لعنة اللعنات، كنت في الحديقة أعيش، لا عمل لي إلا أن أنظر إلى السماء أو أنفخ في الناي. أما اليوم فلستُ إلا حيوانًا أدفع العربة أمامي — ليل نهار — في سبيل شيء حقير نأكله مساءً ليلفظه جسمي صباحًا، العمل من أجل القوت لعنة اللعنات، الحياة الحقة في البيت الكبير، حيث لا عمل للقوت، وحيث المرح والجمال والغناء. ولا تملك أميمة إلا أن تقول: ربما كان العمل لعنة، ولكنها لعنة لا تزول إلا بالعمل.

وتتوارث الأجيال هموم الآباء والأجداد، فها هو ذا الجيل الثاني «قدري وهمام» أحدهما يرى العمل لعنة من لعنات الدهر، والآخر يود لو يعرف أمر الوصية التي تسببت في هذا الشقاء كله. فالقضيتان قائمتان معًا ومتجاورتان، أو هما وجهان لعملة واحدة. فإرادة المعرفة والسيطرة على أسرار المجهول، تمضي جنبًا إلى جنب مع إرادة التحرر من أسر العذاب اليومي من أجل اللقمة؛ لذلك يأسى همام أسًى مريرًا وهو يحدث نفسه: «ستفرح أمي يوم تلد هذه العنزةُ، ولكن ميلاد إنسان قد يجيء بالكوارث، فوق رءوسنا لعنة من قبل أن نولد، وأعجب عداوة التي لا تجد لها من مبرر إلا أنها بين أخوين، إلى متى نعاني من هذه الكراهية. ولو نسي الماضي لابتهج الحاضر، ولكننا سنظل نتطلع إلى هذا البيت الذي لا عزة لنا إلا به ولا تعاسة إلا بسبب منه.»

وذات يوم أرسل الجبلاوي في طلب همام من الخلاء حيث يأوي مع والديه، فما إن عاد همام من عند جده حتى تأججت نيران الغيرة في صدر قدري، ووقعت أول جريمة قتل في التاريخ، فقد اغتال قدري شقيقه همام في قلب الصحراء ودفنه بين أحشائها، لهذا ردد أدهم بحنق أن الحياة أيضًا أفظع من الموت. خاصة وأن قدري هرب بعدئذٍ كما هربت هند ابنة إدريس «وأصبح للجبلاوي العظيم حفيدة عاهرة وحفيد قاتل» … على أن أدهم — وهو يقرع بكلتا يديه هاوية اليأس — فوجئ بأنه يسمع صوتًا يناديه، صوتًا خُيِّل إليه أنه يعرفه، صوتًا كان يطلب إليه أن يذهب لملاقاة الجبلاوي. وهناك سمع أدهم هذا الوعد الباهر: سيكون الوقف لذريتك. وفي تواريخ متقاربة مات أدهم وأميمة وإدريس، وعاد قدري وهند ومعهما أطفال. وانتشر العمران بفضل أموال الوقف. ومن هؤلاء وأولئك جاء أبناء حارتنا.

إن هذا المدخل الفني لرواية «أولاد حارتنا»، يثير قضية الحقيقة الجزئية والحقيقة الكلية عند نجيب محفوظ. فأدهم في دقائق حياته اليومية، في رغبته الملحة للتعرف على ما تنطوي عليه الوصية المغلقة، وفي خروجه من البيت الكبير إلى الخلاء يبيع البطاطا والخيار، وفي علاقته اليومية بشقيقه المطرود إدريس، وفي علاقته بابنيه قدري وهمام؛ في هذه التفاصيل جميعها كان يمثل حقيقة جزئية تتراكم مع بقية الحقائق الجزئية الأخرى على طول الرواية، لتؤدي فيما بعد إلى الحقيقة الكلية في المدى اللانهائي. والحقيقة الجزئية التي يمثلها أدهم ليست هي المعرفة أو الحرية على الرغم من أنه هو مفتاح هذه القضية الرئيسية؛ وإنما تمثل حياة أدهم في البيت الكبير وخارجه، أول معاني الحرية، أو إحدى الخطوات إلى جوهرها. فلقد عرفنا أن الحرية هي العودة إلى البيت الكبير من ناحية، وهي معرفة المصير من ناحية أخرى، وكان أدهم هو الشمعة الأولى التي أضاءت لنا الطريق إلى هاتين الناحيتين، أو هو الحقيقة الجزئية الأولى في الطريق اللانهائي إلى الحقيقة الكلية.

ثم جاء تفسير الفنان للانقسام الأول في تاريخ البشرية معبرًا عن معنى الحقيقة الجزئية في رواية «أولاد حارتنا»، فالانقسام لم يحدث قط في البيت الكبير — مرآة المجتمع المشاعي في البدائية الأولى — وإنما حدث خارج جدران هذا البيت؛ حيث الإحساس الجديد بالملكية الفردية يغزو قلوب البشر وعقولهم، ويحدد لهم مصالحهم واتجاهات سلوكهم وقيمهم، فهكذا رسم نجيب صورة الحارة: بيت ناظر الوقف على رأس الصف الأيمن من المسكن، وبيت الفتوَّة على رأس الصف الأيسر قبالته. أما أهل الحارة فمنهم البائع الجوال، ومنهم صاحب الدكان أو القهوة، وكثيرون يتسولون، وثمة تجارة مشتركة يعمل فيها كل قادر هي تجارة المخدرات. لقد بدأت الكارثة على أثر اعتزال الجبلاوي الحياة العامة، فبالرغم من وعده لأدهم بأن الوقف سيكون لذريته، إلا أن مأساة رهيبة بدأت حين استأثر أحد النظار بالريع. ثم اطمأن إلى حماية نفسه بنَبُّوت أحد الفتوات مقابل الإغداق على الفتوة وأسرته. وعمد الأقوياء إلى الإرهاب والضعاف إلى التسوُّل، والجميع إلى المخدرات. الفتوة وحده يعيش في بحبوحة ورفاهية، وفوق هذا الفتوة الأكبر، والناظر فوق الجميع، أما الأهالي فتحت الأقدام … وإذا عجز مسكين عن أداء الإتاوة انتقم منه فتوة حيِّه شر الانتقام، وإذا شكا أمره إلى الفتوة الأكبر أسلمه إلى فتوة حيه ليعيد تأديبه. فإذا سولت له نفسه أن يشكو إلى الناظر ضربه الناظر والفتوة الأكبر وفتوات الأحياء جميعًا. «وهذه الحال الكئيبة شهدتُها بنفسي في أيامنا الأخيرة، صورة صادقة مما يروي الرواة على أزمان ماضية. أما شعراء المقاهي المنتشرة في حارتنا فلا يروون إلا عهود البطولات مُتجنِّبين الجهر بما يحرج مراكز السادة، ويتغنون بمزايا الناظر والفتوات، بعدلٍ لا نحظى به ورحمة لا نجدها وشهامة لا نلقاها وزهد لا نراه ونزاهة لا نسمع بها، يقول أهالي الحواري حولنا: يا لها من حارة سعيدة تحظى بوقف لا مثيل له … ونحن لا ننال من الوقف سوى الحسرات، ومن قوة فتوَّاتنا إلا الإهانات والأذى. على ذلك كله فنحن باقون، وعلى الهمِّ صابرون. نتطلع إلى مستقبل لا ندري متى يجيء، ونشير إلى البيت الكبير ونقول: هنا أبونا العتيد، ونومئ إلى الفتوات ونقول: وهؤلاء رجالنا، ولله الأمر من قبل ومن بعد.»

أعتقد أنه بات واضحًا — من هذا النص المطوَّل — أن الحارة هنا هي مصر بعينها. فالراوي قد شهد أحداث الحارة ومآسيها بنفسه، وهو يشير على وجه التحديد، إلى ما دعاه بأيامنا الأخيرة التي لا تختلف عما تقوله الحكايات في أزمنة مضت. والحارة هي مصر بعينها ما دامت بقية الحارات تحسدها على ما جادت عليها به الطبيعة من «وقف» عظيم، بالرغم من أن أهل الحارة لا يتمتعون به. والحارة هي مصر بعينها؛ إذ الصبر هو شيمة أهلها والتواكل الغيبي من سماتهم الرئيسية.

والانقسام الأول إذن هو التصور الطبقي للمجتمع. وليس الفتوات والناظر وبقية الأقوياء إلا الطبقة السائدة ودولتها وجهاز أمنها. وما المتسولون إلا أغلبية الشعب المقهور. وهذه كلها ليست رموزًا غامضة في العمل الروائي، وإنما هي تكاد، مع رمزيتها، أن تكون شديدة الوضوح والمباشرة. وتدرجت الرموز من البساطة إلى التركيب حين كان التصور الطبقي للمجتمع يتداخل مع تصور مساره الروحي، فلقد تورط نجيب محفوظ منذ البداية في أنه أقام الوحدة الفنية في الرواية على ضوء التطورات الروحية الكبرى في حياة الإنسان من اليهودية إلى الإسلام. تورط لأن هذه التطورات ليست صدًى موازيًا تمامًا للتطورات الاجتماعية. فبينما يؤكد الفنان أنه عاصر الأيام الأخيرة في الحارة ورأى أنها لا تختلف من حيث الجوهر عن الأيام الغابرة، نراه يصوغ الوحدة الدرامية في الرواية على افتراض أن ثلاث حركات روحية كبرى قد أسهمت في تغيير الضمير والمجتمع الإنسانيَّين تغييرًا بعيد المدى. ولا شك في أن هذا التغيير قد حدث بالفعل، وكان تغييرًا كيفيًّا، ولكنه لم يكن قط صدًى حقيقيًّا للتغييرات الجذرية الحاسمة التي عرفها الواقع الإنساني عبر سلسلة طويلة من النضال الثوري والتقدم العلمي وغيرهما من عوامل الثورات الاجتماعية الشاملة في تاريخ الإنسانية. بل إن تصور الفنان لتطور الحارة على ضوء الحركات الروحية الكبرى، انعكس على البناء الروائي بأن تجمدت الشخصيات الثلاث الممثلة لهذه الحركات في قوالب متشابهة من ناحية، وفي إطار المصادر الدينية من جهة أخرى.

وها نحن ذا نستقبل «جبل» رائد المنتمين إلى قضية الإنسان، فهو يستمع إلى أنغام الأوتار في الحارة؛ تبدأ بتحية ناظر الوقف والفتوة زقلط و«عند ذاك تحركت أمواج التمرد»، فاحتج دعبس أحد أبناء الحارة على ما يردده الشاعر — نجيب محفوظ يتخذ من الشعر والشعراء مثالًا على ما يُروِّج له الفن حول السلطة والسلاطين — احتج دعبس وراح يُدَمدِم أن سيد الناس يضرب الناس ويظلم الناس ويغتال الناس. آل حمدان تمرغوا في تراب القذارة والبؤس. فتوتهم يسير بينهم مختالًا يصفع من يشاء ويأخذ الإتاوة ممن يشاء «لذلك نفد صبر آل حمدان واصطخبت في حيهم أمواج التمرُّد.»

ويقع اختيار الفنان على ربيب نعمة الناظر، أو نعمة زوجة الناظر على وجه أدق، ذلك أن هذه السيدة كانت بمثابة الأم لجَبَل الذي وُلد حقًّا في حي حمدان، ولكنها هي التي ربته وتكفلت به. ولعل الفنان هنا يريد أن يؤكد على ظاهرة قديمة في تاريخ الانتماء إلى قضية الإنسان؛ تلك هي أن المنتمي غالبًا ما يكون مرتبطًا بوشيجة أو بأخرى، بالفئة التي يعاديها فكرُه وضميره ورؤيته لحركة التاريخ. هذا الارتباط — أيًّا كانت درجته أو طبيعته — يصيب المنتمي في بداية انتمائه بحالة انقسام في الشخصية، سرعان ما يلتئم في أتون النضال الثوري من أجل القضية التي نذر لها نفسه. لهذا بدا في وجه جبل، وهو يخاطب سيدته بشأن آل حمدان، أنه يعاني ألمًا صادقًا، ولكنه لم يتردد في أن يقول بحزن واضح: إنهم بؤساء يا سيدتي رغم أنهم أكرم أهل الحارة أصلًا. شتت الحزن قلبه. ومن عجبٍ أن آل حمدان لا يحبونه، فهم ينظرون إليه نظرة خاصة لطول ما فارقهم وعاش بين جدران الناظر. وهذه أيضًا إشارة رامزة إلى أزمة المنتمي بين وضعه الأيديولوجي وارتباطاته الطبقية، فالفئات المسحوقة لا تراه نقيًّا تمامًا من رواسب الطبقة التي عاش فيها. وفي لحظات التأزم هذه يتضح انقسام الشخصية أكثر من ذي قبل «وجد جبل أنه ليس شخصًا واحدًا كما توهم طوال عمره، ولكنه شخصان، أحدهما يؤمن بالوفاء لأمه، وثانيهما يتساءل في حيرة: وآل حمدان؟!» ونظر إلى الشفق بعين لم تعُد ترى إلا ما يكدر الصفو. أصوات تهتف به من النوافذ وهو مارٌّ: يا خائن يا لئيم. وأصوات تهتف به من أعماق نفسه: لن تطيب الحياة على حساب الغير. وجميع الأمور تجري في الحارة على سُنة الإرهاب. فليس عجيبًا أن يُسجن سادتها في بيوتهم، وحارتنا لم تعرف يومًا العدالة أو السلام. الرجال سجناء في البيوت، والنساء يتعرضن في الحارة لكل سخرية «وأنا أمضغ المهانة في صمت. ومن عجب أن أهل حارتنا يضحكون! علام يضحكون؟ إنهم يهتفون للمنتصر أيًّا كان المنتصر. ويهللون للقوي أيًّا كان القوي. ويسجدون أمام النبابيت يدرءون بذلك كله الرعب الكامن في أعماقهم. غموس اللقمة في حارتنا الهوانُ. لا يدري أحد متى يجيء دوره ليهوي النبوت على هامته» … بهذا الحوار الداخلي العنيف يربط نجيب محفوظ بين الحارة ومصر، وبين الحارة والمنتمي. فالإرهاص لحركة الانتماء هو اكتشاف مراكز الاستقطاب في الحركة الاجتماعية، هو التعرف على مَواطن العبودية والاستغلال، هو الوعي بطرفي النقيض في مأساة الخبز والحرية. فالتأكيد المُلِح على أزمة الديمقراطية في الحارة، لا ينفصل مطلقًا عن التأكيد الملح على مأساة الجوع. فإذا أقبل الامتحان الأول لجبل في صورة فتوة يصارع أحد أبناء آل حمدان، سارع جبل بالوقوف إلى جانب آل حمدان مهما أدى ذلك به إلى ارتكاب جريمة قتل. ويحسم جبل الصراع الداخلي في أعماقه بأن يتوجه إلى سيدته قائلًا في يأس: سيدتي، سأجد نفسي مضطرًا إلى الانضمام إلى أهلي في سجنهم لألقى معهم مصيرهم. فقد أصيب الفتوات بالجنون حين ترامت إلى آذانهم أنباء مقتل زميلهم في الصحراء. ويؤكد جبل أن انتماءه إلى أهل الحارة هو أشبه بالقضاء والقدر حين يقول لسيدته: «لا خيارَ لي. من العار أن أترك أهلي يبادون وأنا أنعم بظلك.» وعند خروجه من بيت الناظر أدرك صدى «الانقلاب» الذي جرى في حياته حتى إذا سئل في ارتياب من أحد أبناء آل حمدان، أجابه جبل في هدوء: إني أعود إلى أهلي … وأخذ جبل يعد العُدة لكفاح طويل بدأ أول الأمر برحلة إلى الخلاء المجاور للحارة، فتزوج وتعلم حرفة الحُواة والثعابين. وعاد إلى الحارة وهو يفكر «هنالك سبيل إلى السعادة الشاملة.» ونجيب محفوظ يستمد الصياغة هنا من التجربة المُوسَوية الواردة في التوراة، ولكنه يجردها من ميتافيزيقيَّتا ويبقي منها على الجانب الرمزي الذي يوضح المراحل الثلاث في حياة المنتمي من الرفض للواقع الراهن، إلى التمرد عليه، إلى الانتماء ضده. كذلك يرمز هذا الجانب، في جبل ورفاعة وقاسم على السواء، إلى دور الفرد في التاريخ حين يقف هذا الفرد إلى جانب القوى الأكثر تقدمًا. ولم يعُد جبل يرى سوى «الأفندي» رأس الاغتصاب وزقلط رأس الإرهاب، ولم يعد أمام جبل إلا أن يتمثل قول عبدون — أحد أبناء آل حمدان: علام نخاف وليس هناك أسوأ مما نحن فيه؟ وهو دستور الفئات الكادحة من الشعب التي لا تملك سوى قوة عملها. فهي لن تخسر في النهاية سوى أغلالها.

على أن الفنان كان حريصًا للغاية على توكيد معالم الشخصية الإنسانية في جبل، فهو لا يلبث أن يكابد في أعماقه حنينًا أليمًا إلى أمه، وفي الوقت نفسه يمد يده إلى حمدان «للتعاهد في حماس وفي رجاء» ويدرك نجيب محفوظ أن كثيرًا من حركات الانتماء قد تمت في حدود النظام القائم، ويرمز إلى مثل هذه المحاولات بما قام به جبل من تصميم على مقابلة الناظر والتفاوض معه. وعند سيدته جهر بأن آله يعانون ذلًّا ألعن من الموت «جئت مطالبًا بحقوق آل حمدان في الوقف وفي الحياة الآمنة.» فلم يكن من الأفندي إلا أن وصف هذا المطلب بأنه خرافة. والحق أن السيدة زوجة الناظر لا تمثل سوى الجانب العاطفي من ارتباط جبل بالطبقة السائدة. أما الناظر وفتوته فيمثلان الجانب العملي أو الواقعي. لهذا وقعت أحداث الشر على آل حمدان، ويغمز الفنان دور المثقفين في المعركة حين يصيح جبل بأحد الشعراء: «تروون حكايات الأبطال وتغنون على الرباب، فإذا جد الجد تقهقرتم إلى الجحور وأشعتم التردد والهزيمة، ألا لعنة الله على الجبناء» ولكن جبل لم يكن وحده، أيده كل رجل وأيدته كل امرأة. وبدأت ثعابين جبل تعرف طريقها إلى بيوت الفتوات حتى وصلت بيت الناظر، فاستغاثت زوجته بجبل فقد بلغها أنه يستطيع أن يطرد الثعابين ويحول بينها وبين أن تلدغ أحدًا. وأخذ جبل التعهدات على الناظر والفتوات بأن تنعم الحارة بسابق عهدها السعيد، فوافقوه وهم يدبرون فيما بينهم خطة لإبادة آل حمدان. ولم يكن هؤلاء بمعزل عن الإشاعات، فتجمعوا في مكان وراء إحدى البوابات وحفروا كمينًا لعصابة الفتوات فما إن أقبلت بهراواتها حتى سقطوا جميعًا في الهوة العميقة وراحت دماؤهم ترسم علامة الاستسلام الأبدي. ودخل حي حمدان مرحلة جديدة من تاريخه بزعامة جبل؛ بل إن الحي أصبح يُدعى بحي جبل. واكتشف الجميع أن جبل التقى بالجبلاوي في الخلاء، وهو الذي حثه على استرداد حق آل حمدان. وتولى جبل إدارة الوقف ليحقق حلم أدهم في ألا يكون ثمة عمل للإنسان سوى الغناء. وأحصى جبل ما في كل أسرة من أنفس ووزع الأموال بالتساوي فيما بينها، «وحتى شخصه لم يخصه بامتياز»، وأرسى القيمة الروحية أو الأخلاقية التي تقول «عين بعين». ثم يقول نجيب محفوظ: «هذه قصة جبل، كان أول من ثار على الظلم في حارتنا.»

أقول مرة أخرى: إن نجيب محفوظ تورط في صياغة قصة الحارة على ضوء الحركات الروحية الكبرى في حياة الإنسان. ذلك أن المقارنة — التي سيضطر إليها القارئ اضطرارًا — بين جبل وموسى، سوف توقع به بين براثن الفروع الثانوية التي جاءت عرضًا في الرواية كشعب الله المختار الذي يقابل آل حمدان، وكقصة موسى مع فرعون وزوجته وبني إسرائيل. هذه التفاصيل التي لم تجئ في «أولاد حارتنا» إلا خضوعًا لصياغتها وفق الحركات الدينية الثلاث التي عرفتها المنطقة. فبالرغم من أن الفنان كان يربط دائمًا بين الحارة الأسطورة والحارة المصرية، إلا أن طلاوة الجانب الأسطوري كانت تستهوي مُخَيِّلته الفنية، فيستطرد في تلك التفاصيل التي قد تضلل القارئ. إلا أن لهذه التفاصيل وجهًا آخر هو التفسير الذي أضمره المؤلف في صياغة الأحداث، فلم تكن ثمة معجزات، وإنما هي أقرب إلى عمل الحواة. وهذا هو المنهج الذي سيعالج به الفنان الحلقة القادمة من الرواية. إلا أن هذا المنهج بعينه هو الذي أصاب بعض الشخصيات الرئيسية بما يشبه الجمود، لما بينها من تقارب شديد في المقدمات والنتائج. ولم ينقذ هذه الشخصيات من الجمود التام سوى اختلاف القضايا النظرية التي تناقشها. فبينما تناقش شخصية جبل إمكانية التغيير الاجتماعي في حدود النظام القائم، تُقبل شخصية رفاعة لتناقش إمكانية التغيير الروحي أولًا، ذلك أن الوقف — يقول رفاعة — لا شيء، والحياة السعيدة هي كل شيء، ولا يحول بيننا وبينها إلا العفاريت الكامنة في أعماقنا. ويكاد رفاعة أن يرتدي ثياب المسيح كما هي في الإنجيل، لولا بعض التعديلات الطفيفة التي أدخلها الفنان على البناء الروائي؛ كأن تكون ياسمينة زوجة رفاعة التي تخونه مع الفتوة، هي المقابل لشخصية يهوذا الذي أسلم المسيح إلى أيدي جلاديه كما يقول الإنجيل. وكما جعل الفنان من جبل حاويًا يُدخل الرعب في القلوب بقوة العلاقة الغريبة القائمة بينه وبين الثعابين، كذلك رفاعة فهو يتعلم مسألة إخراج العفاريت من النفوس من «كودية زار». وهكذا يصبح منهج المؤلف هو استعارة الهيكل العظمي للأسطورة، ثم يكسوه بما لديه من لحم ودم يمثل وجهة نظره الفكرية. ونجيب محفوظ يرى من الناحية الفكرية، أن المسيحية خطوة أكثر تقدمًا من الموسَوية من حيث الطريق إلى السعادة الشاملة للبشر. وهذه الفكرة ترد حسب نظريةٍ ما تقول إن الأديان جميعها كانت مراحل تقدُّمية في تاريخ الفكر الإنساني. وبالرغم من أن هذه الفكرة صحيحة بالنسبة لدين كالإسلام مثلًا، إلا أنها لا تصدق المسيحية بالذات. فإذا كان المنطق الأساسي عند رفاعة — أو المسيح — هو المنطق الميتافيزيقي فإنه يصعب القول بأن هذا المنطق من شأنه أن يغير المجتمع تغييرًا ثوريًّا. فحين تصبح مملكتنا في السماء، وعندما نطالب بأن تقاوم الشر بالخير، وأن نحول خدنا الأيسر لمن ضربنا على الخد الأيمن، لا يمكن أن تؤدي هذه المجموعة من القيم إلى تغيير المجتمع. ولا أشك لحظة في أن أفكارًا ثورية يمكن أن تبزغ في مكان ما وزمان معين وتبطش بها القوى السائدة، فلا يدري بها التاريخ، بينما تتاح الفرصة كاملة للكثير من الدعوات الرجعية أو السلبية — على أقل تقدير — لأنها هادنت أو تجاهلت أو أيدت الأوضاع القائمة. والمسيحية لم تكن قط النظرية الثورية للعبيد في ظل الإمبراطورية الرومانية، فقد قامت الثورات حينذاك على أكتاف الوثنيين في الأغلب، وانضم إليها الفقراء من المسيحيين كفئة مسحوقة لا كطائفة مسيحية. من هنا يتضح مدى التورط الذي انزلق إليه نجيب محفوظ عندما اتخذ من الحركات الدينية الكبرى إطارًا للبناء الروائي. فهذا الجزء الخاص برفاعة لا يشارك في هذا البناء بنصيب ما، ذلك أنه يشبه جبل في مراحل استقبال الدعوة عن طريق اللقاء الخلوي مع الجبلاوي، ثم يختلف عنه في الاهتمام بالجانب الروحي من حياة البشر. ولكن هذا الاختلاف البيِّن لم يجعل من رفاعة شخصية روائية ترتفع إلى مستوى الضرورة، فنحن مع قاسم سوف نستشعر هذه الضرورة في مستواها الأرفع. لهذا أقول: إن الفنان لم يلجأ إلى خلق هذه الشخصية إلا لأنها ترادف الحلقة المسيحية من حلقات التطور الديني للإنسانية. ولكن هذا السبب اليتيم لم تُبرِّرْه وجهة النظرية الفكرية للمؤلف من ناحية، ولا البناء الروائي من ناحية أخرى. فهو على الصعيد الفكري يريد أن يقدم الدين في مقابل العلم، أو العلم كامتداد للدين في عصر جديد. وكان يمكن في هذه الحدود أن يكتفي بانعكاس إحدى الأفكار الدينية الكبرى — كالإسلام — على إحدى مراحل تطور المجتمع البشري. فكانت مراحل التطور هذه، تصبح هي العمود الفقري للرواية، وما الدين أو العلم إلا المادة الخام التي يوزعها الفنان كمحاور فكرية للبناء الروائي. وهو، على الصعيد الجمالي، كان باستطاعته أن يمنح الرواية قدرًا أكبر من الصراع الدرامي والتوهُّج والحرارة إذا خلت من الشخصيات والزوايا والأحداث والمواقف المتشابهة أو المتقاربة. فالجزء الخاص برفاعة لم يكن همزة وصل ضرورية بين جبل وقاسم، كما لم يكن جبل أيضًا همزة وصل ضرورية بين أدهم وقاسم … فالحدث الجوهري الذي تلقيناه من أدهم هو جوهر المأساة … فالعلاقة بين الإنسان والمصير هي علاقة مزدوجة بين الإنسان والمعرفة، وبين الإنسان والحرية. هذه العلاقة تصطدم في خط سيرها، بسِر هذا الوجود من جهة، وبأزمة هذا المجتمع من جهة أخرى … وهما يشكلان فيما بينهما مأساة الإنسان الضارية في هذا الكون. ولم يكن جبل سوى المحاولة الأولى للتمرد، وهو يمهد لقضية الانتماء الأصيلة في وجدان البشر. غير أن القضية الفكرية ليست بحاجة إلى المنهج التاريخي في تأكيدها، خاصة إذا كانت الرواية هي البناء الفني للقضية، وخاصة إذا كانت الرواية تستخدم الصياغة الرمزية في بنائها للقضية. لهذا كانت شخصية واحدة تمثل إحدى الحركات الروحية الهامة في التاريخ — مثل قاسم — كافية تمامًا لأن تمثل دور «الدين» في قضية الدين والعلم التي يناقشها نجيب محفوظ بالتعبير الفني.

قاسم يلتقي — أيضًا — بالجبلاوي، وهو يرى أن السعادة الصافية لا سبيل إلى وجودها إلا إذا توافرت للجميع، كما يرى أن الحارة يجب أن تصير امتدادًا للبيت الكبير. ويبدو واضحًا أن اللقاء بالجبلاوي، وأمنية البيت الكبير هي القاسم المشترك الأعظم بين الشخصيات الثلاث: جبل ورفاعة وقاسم. وهو قد يكون خلوة بالذات تعقب الرفض الحاسم للواقع المعاش، واستعدادًا لمرحلة التمرد فالانتماء إلى قضية الأغلبية الساحقة من أهل الحارة. والجبلاوي ليس تجسيدًا للمطلق أو للقضية الميتافيزيقية فقط، وإنما هو يشترك أيضًا في صياغة المشكلة الاجتماعية؛ لأنه لا يمتلك «حجة المستقبل» أو المصير فحسب؛ بل هو صاحب هذا الوقف أيضًا، وقد وعد به لذرية أدهم بالتساوي. لهذا فاللقاء الذي يخيل إلى الشخصيات الروائية الثلاث أنه تم بينها وبين الجبلاوي، ليس إشارة ميتافزيقية بقدر ما هو دلالة اجتماعية في نفس الوقت. وقاسم بالذات لا يلتقي بالجبلاوي ويجنح إلى الخيال والأحلام والروحية كرفاعة، أو التمني بالسعادة لحى بعينة من بين أحياء الحارة كما فعل جبل. إن قاسم هو الشخصية الوحيدة التي تلتقي بالجبلاوي — في صورة ما — ثم يخصص جهاده من أجل الحارة بأسرها، لا عن طريقة النقاء الروحي؛ بل «لن نطهر حارتنا من الفتوات إلا بالقوة، ولن نحقق شروط الواقف إلا بالقوة، ولن يسود العدل والرحمة والسلام إلا بالقوة.» وسيتم هذا عن طريق تقوية الأبدان والأرواح معًا.

لقد استفاد نجيب محفوظ إلى أبعد حد من تاريخ محمد والإسلام في صياغة الدعوة القاسمية. ولم يكن بحاجة مطلقًا إلى أن يفسر أمورًا غيبية بمعادلاتها المادية. ذلك أن الإسلام في نضاله الثوري خلا إلى حد بعيد من غيبيات المسيحية. فالفنان هنا مقيد بالواقع التاريخي إذا كان ملائمًا للصياغة الروائية من جهة، ومناسبًا للتفسير النظري من جهة أخرى. وهكذا كان هذا الجزء من الرواية هو أكثرها حيوية وقربًا من الدلالة العامة التي يرمي إليها المؤلف. فالإسلام — بحق — كان تعبيرًا ثوريًّا عن مرحلته التاريخية؛ لأنه وقف بصلابة إلى جانب الفئات الكادحة من المجتمع في شبه الجزيرة العربية، فلم يقدم خبزًا للبطون الخاوية وحسب؛ بل قدم الخبز الروحي للقلوب الفارغة، وقدم الخبز المادي للبطون، في وقت واحد. وهذا هو السر في عظمة قاسم التي ترتفع به عن مستوى رفاعة وجبل.

لم يقدم لنا نجيب محفوظ في النماذج الثلاثة سوى المنتمي المثال، أو المنتمي المفترض، أي أنه يبتغي أن يقدم لنا الانتماء في صياغته النظرية. فالأحاسيس العفوية للمنتمي تتوزع بين الارتباط العضوي بالأغلبية المسحوقة، والارتباط العاطفي بالمستغلين، ثم تتم حركة الانتماء من خلال صراع ذاتي مرير بين العاطفتين، فيرتبط المنتمي نهائيًّا بالأغلبية المسحوقة. والانتماء في جوهره معركة مع القيم من أجل الارتباط بها، أي من أجل العمل لتغيير القيم الفاسدة بأخرى تسهم في التطور الاجتماعي.

أكد نجيب محفوظ — بلا ريب — على أن هناك رابطة دم بين حركات الانتماء العفوي (جبل، رفاعة، قاسم) والاختلاف الكيفي بينها وبين الانتماء العلمي الذي سيرد ذكره الآن في الحديث حول عرفة وحنش. وهو حين يؤكد على رابطة الدم هذه إنما يجمع الحركات الثلاث في دائرة واحدة هي «الدين»، لينطلق بعدئذٍ إلى دائرة أخرى هي «العلم». فقد ناقش الفنان قضية الانتماء في مستوياتها الثلاثة: المستوى الإنساني المطلق، ومن هنا كان تحديده للمنتمي المثال، النموذجي، النمط، أي المنتمي المفترض. والمستوى العربي الذي ناقش بواسطته علاقة المسألة الميتافيزيقية بالانتماء الاجتماعي. إذ تصادف أن الحركات الدينية الكبرى نشأت وترعرعت في هذه المنطقة العربية، مما تسبب في الكثير من الآثار الحضارية البعيدة المدى. فالحضارة العربية المعاصرة، بإنسانها العربي الحديث، يحملان العديد من معالم الحركات الروحية الكبرى التي وُلدت في أرضنا، ولهذا فثمة اختلاف كيفي خطير بين المنتمي العربي الذي لا يتجاوز أسوار حضارته، والمنتمي العربي الذي يعيش في عصر العلم، في قلب الحضارة الإنسانية للقرن العشرين. هذا المنتمي الجديد الذي لم يأخذ من الغرب إحساسه المأساوي الحاد بعبث الوجود، ولكنه طرح أرضًا كافة القيم الرجعية التي تَحُول بينه وبين أن يتجاوز ماضيه وحاضره، إلى حاضر الإنسانية المتقدمة ومستقبلها. المنتمي الجديد الذي يتبنى أروع القيم الإنسانية المتمشية مع العلم. إنه المنتمي الاشتراكي المصري، المستوى الثالث الذي يبلوره نجيب محفوظ في شخصية «عرفة» ليربط مرة أخرى بين الحارة الأسطورية والحارة المصرية. ورسم الفنان عرفة في إطار المنتمي المثال أيضًا، ليقود المثقفين إلى الطريق المضيء في تلك المرحلة السوداء. أي إن عرفة هو اتجاه السهم الذي يشير به نجيب محفوظ إلى الانتماء الثوري الصحيح. ومن اسم عرفة نستدل على تلك الآية الجديدة التي تقودنا في طريق الثورة، آية المعرفة. ومن حرفة صاحب الاسم — السحر — نستدل على مادة هذه المعرفة، وهي القوانين العلمية المضمرة في المجتمع والطبيعة على السواء. ومن قصة عرفة مع الحارة نعلم أن الوعي بالقوانين العلمية هو الطريق إلى الحرية، وأن الحرية هي إشباع احتياجات الإنسان المادية والروحية. وعلى النقيض من جبل ورفاعة وقاسم، لا يلتقي عرفة مع الجبلاوي في الخلاء قبل أن يبدأ انتماؤه إلى قضية الحارة المعذبة. إنه يقبل على الحارة ولا أحد يعرف له أبًا، ذلك أن العلم الذي يرمز إليه لم يكن إحدى حلقات الانتماء العفوي في سلسلة جبل، ورفاعة وقاسم؛ وإنما العلم مستوًى كيفيٌّ جديد. والمستوى الكيفي الجديد لا يرفض التراث القديم؛ بل يضيف إليه. والحلقة الأخيرة في التراث القديم — وكان يمثلها قاسم — كانت تلح على نقطتين: الأولى عبَّر عنها في حديثه الداخلي عن الجبلاوي «طعن في السن وخفَّت خشيته كهذه الشمس المائلة نحو الأفق. أين أنت؟ وكيف أنت؟ ولِمَ تبدو وكأنك لم تعُد أنت؟» وهذه هي المسألة الميتافيزيقية. ثم لنسمعه يخاطب أبناء الحارة جميعًا: «راقبوا ناظركم فإن خان اعزلوه، وإذا نزع أحدكم إلى القوة اضربوه.» وهذه هي المسألة الاجتماعية. جاء عرفة لا يجيد عمل الحواة كجبل، أو إخراج العفاريت كرفاعة، أو المعارك كقاسم. جاء عرفة وهو يجيد الإحساس بمأساة الحارة من زاويتين: الأولى هي «القوى المجهولة» التي يتشوق للاتصال بها وامتلاكها إن استطاع، والثانية أن الغناء ليس هو الهدف الأخير «تصور أن يمضي العمر في فراغ وغناء؟ هو حلم جميل، لكنه مضحك … الأجمل حقًّا أن نستغني عن العمل لنصنع الأعاجيب.» وليس الانتماء إلى قضايا الآخرين أمرًا لا علاقة له بالذات، فلا بد من أن يوجد الدافع الذاتي للفرد حتى يكون ثمة همزة وصل بينه وبين المجتمع الذي يناضل من أجل سعادته. لهذا كانت قصة الحب التي تربط بين عرفة وإحدى بنات الحي الذي يسكن بدرومًا فيه؛ كانت بمثابة الشرارة التي أوقدت بين ضلوعه نيران الرفض للواقع، فالتمرد عليه، ثم الانتماء إلى قضاياه. وقصة الحب هذه ليست إلا تجسيمًا فنيًّا للدافع الذاتي المشتعل في حنايا المنتمي «حقًّا ما أنا بفتوة، ولا برجل من رجال الجبلاوي، ولكني أملك الأعاجيب في هذه الحجرة، وفيها قوة لم يَحُز عُشرها جبل ورفاعة وقاسم مجتمعين.» ومن هذه النقطة يبدأ عرفة رحلة تمرُّده على الفتوات والجبناء والحكايات عن بطولة جبل ورفاعة وقاسم «سيغني الشاعر وتستيقظ الغرز يا حارة الحسرات.»

إن عملية الرفض للواقع تُزاوج بين المأساة الميتافيزيقية والمشكلة الاجتماعية تَزاوجًا يبلغ درجة الالتحام، فهكذا يصيح عرفة: «كل مغلوب على أمره يصيح كما صاح المرحوم أبوك يا جبلاوي، ولكن هل سمعت أحفاد مثلنا لا يرون جدهم وهم يعيشون حول بيته المغلق؟ وهل سمعت عن واقف يعبث العابثون بوقفه على هذا النحو وهو لا يحرك ساكنًا؟» فالشك من أولى سمات الرفض للجانب الميتافيزيقي، كأن يقول عرفة: لم أسمع عن مُعمَّر عاش طول هذا العمر. فإذا قيل له: إن الله قادر على كل شيء، أجاب في ثقة أن السحر أيضًا قادر على كل شيء، وقد يتمكن يومًا من القضاء على الفتوات أنفسهم، وتشييد المباني، وتوفير الرزق لكافة أولاد حارتنا. فإذا قيل له: إن قاسم حقق العدالة في زمن قصير بغير السحر، أجاب في اعتداد أن عدالة قاسم سرعان ما ولت، أما السحر فأثره لا يزول. غير أن السحر لن يؤتي أثره الحق إلا إذا كان أكثرنا سحرة، ولن يتأتى ذلك إلا إذا تحققت العدالة أولًا، إذا استغنى أكثرنا عن الكد وتوافروا على السحر.

هذا المنهج في التفكير يختلف عن منهج كاتبٍ آخر كتوفيق الحكيم. فالعلم عند نجيب محفوظ هو المنهج العلمي في التغيير الاجتماعي. والتغيير الاجتماعي وحده هو الذي يتيح الفرصة لجميع البشر أن يكونوا علماء. أما توفيق الحكيم في «الطعام لكل فم» فيفهم الموضوع على نحو آخر. العلم عنده هو المعمل لا المنهج، فالعلم المعملي هو الذي سيحول طاقات الطبيعة إلى غذاء بأرخص النفقات، فيقضي على الجوع. هذا المنهج في التفكير يتجاهل تمامًا الخريطة الطبقية للمجتمع. لهذا لا يفكر في أن حل أزمة المجتمع يجيء أولًا عن طريق الحل الاشتراكي للأزمة الاجتماعية، ثم يتيح هذا الحل أن تصبح الغالبية علماء تحارب الجوع أو الفقر كجزء من خطتها في السيطرة على الطبيعة. إن فهم نجيب محفوظ للقضية في إطارها الصحيح هو الذي قاده إلى أن يجعل من عرفة — العالم الساحر — منتميًا ثوريًّا إلى جانب الغالبية المسحوقة من أهل الحارة. لكن الجبلاوي لم يعهد إليه بشيء. وهو لا يبدو كبير الثقة بالجبلاوي ولا بما تحكي الرباب. ومن المؤكد أنه بات يعطي السحر من جهده ووقته أضعاف أضعاف ما يتطلبه الرزق. وإذا فكر جاوز تفكيره شخصه وأسرته إلى مسائل عامة لا يعني بها أحدًا، كالحارة والفتوة والنِّظارة والوقف والريع والسحر «… أريد أن أطَّلِع على الكتاب الذي طرد بسببه أدهم إن صدقت الحكايات؟ لا أدري ما الذي يجعلني أؤمن بأنه كتاب سحر، وأعمال الجبلاوي في الخلاء لا يفسرها إلا السحر لا العضلات والنَّبُّوت كما يتصورون. ليس غريبًا على مجهولِ الأب أن يتطلع بكل قوته إلى جده، وحجرتي الخلفية علمتني ألا أؤمن بشيء إلا إذا رأيته بعيني وجربته بيدي، فلا محيد عن الوصول إلى داخل البيت الكبير، وقد أجد القوة التي أنشدها، وقد لا أجد شيئًا على الإطلاق، ولكنني سأبلغ برًّا هو على أي حال خير من الحيرة التي أكابدها. ولست أول من اختار المتاعب في حارتنا. كان بوسع جبل أن يبقى في وظيفته عند الناظر، وكان بوسع رفاعة أن يصير نجَّار الحارة الأول، وكان في وسع قاسم أن يهنأ بقمر وأملاكها، وأن يعيش عيشة الأعيان، ولكنهم اختاروا الطريق الآخر.»

لقد آثرت أن أنقل هذا النص المطوَّل حتى نكتشف معالم الرحلة المريرة التي قادت عرفة من الرفض إلى التمرد فالانتماء الثوري. كان عرفة قد نجح في صنع إحدى الزجاجات في معمله، وهي تشبه القنبلة في آثار انفجارها. ولكنه بدأ الرحلة إلى البيت الكبير أولًا، وأرجأ العمل مع الفتوات والناظر مؤقتًا. وفي البيت الكبير لم يلتقِ بالجبلاوي، وإنما اصطدم بعملاق أسود فتبادر إلى ذهنه أنه خادم الجبلاوي فسارع إلى قتله والعودة خلال الخندق الطويل الذي حفره من خارج السور إلى داخل البيت. ثم فوجئ بعدئذٍ بالحارة تنقلب رأسًا على عقب فقد جاء من يصرخ قائلًا: لله الأمر، من بعد العمر الطويل مات الجبلاوي. وهي أقرب إلى صيحة نيتشه منها إلى صيحة العلم. وغاص قلب عرفة في أمواج الحيرة، فهو لا يدري إذا كان قد قتل الخادم أو سيده. ولم يعد له إلا أمل واحد هو إعادة الحياة إلى الجبلاوي. أو أنه ما دامت كلمة من الجد العظيم كانت تدفع الطيبين من أحفاده إلى العمل حتى الموت، فإنه ينبغي على الابن الطيب أن يفعل كل شيء «أن يحل محله، أن يكونَه.» ولكن الناظر والفتوات كانوا لعرفة بالمرصاد، فهم على يقين بأنه هو الذي تسبب في موت الجبلاوي. وهم على استعداد لإعلان هذه الجريمة لو أنه لم يرضخ لما يطلبون. لهذا كان على عرفة أن ينتقل من بدرومه الحقير إلى بيت فخم يقابل بيت الناظر، لكي يعمل لحسابه. وهنا يحس عرفة أنه أصبح في المكان المعادي لأهل الحارة المعذبة. فيستكين قليلًا، إلا أنه لا يهدأ في البحث عن مخرج. وفي هذه الأثناء يسأل عرفة: لماذا نموت؟ وما جدوى ذلك كله والموت يتبعنا كالظل؟ ويهز رأسه في تسليم وهو يتمتم: الموت يكثر حيث يكثر الفقر والتعاسة وسوء الحال … وإذا حسنت أحوال الناس قل شرهم، فازدادت الحياة قيمةً، وشعر كل سعيد بضرورة مكافحته حرصًا على الحياة السعيدة المتاحة. وسيجمع الناس السحرة ليتوافروا لمقاومة الموت؛ بل سيعمل بالسحر كل قادر «هناك يهدد الموت الموت.» وفي هذه الأثناء أيضًا، تأتي عجوز إلى عرفة تصرح له بأن الجبلاوي قال لها قبل صعود السر الإلهي: اذهبي إلى عرفة الساحر وأبلغيه عني أن جده مات وهو راضٍ عنه! وأكدت المرأة أن الجبلاوي لم يُقتل وإنما مات موتًا طبيعيًّا بين يديها. ويدخل عرفة والناظر في معارك خفية وسافرة إلى أن يقول له الناظر مُهددًا: إذا رميتنا بزجاجة انهالت عليك زجاجات. ولكن عرفة كان قد احتاط للأمر، فكتب كل أسراره السحرية في كراسة صغيرة وأعطاها لمساعده «حنش» الذي هرب بها على الفور «وسوف يعود يومًا بقوة لا تقاوم فيخلص الحارة من شَرِّك.» هكذا يجيب عرفة وهو في طريقه إلى الاستشهاد. إنه لم يستطع أن يخون حارته ولا زوجته الرامزة إلى علاقته الحميمة بهذه الحارة، لم يستطع، وآثر أن يدفن حيًّا على يدي الناظر والفتوات بدلًا من العيش المترف في حارة العذاب. وكانت رسالته قبل الموت هي: لا تخَف. الخوف لا يمنع من الموت، ولكنه يمنع من الحياة … ولستم يا أهل حارتنا أحياء، ولن تتاح لكم الحياة ما دمتم تخافون الموت. والغريب حقًّا أن الحارة فرحت بمقتل عرفة؛ لأنه في نظرهم هو السلاح الذي أعطى الناظر والفتوات قوة جديدة واستبدادًا عظيمًا»، «وبدا المستقبل قاتمًا أو أشد قتامة مما كان، بعد أن تركزت السلطة في يد واحدة قاسية.» غير أن الحارة سرعان ما علمت بحقيقة عرفة، وكيف أنه هادن الناظر من أجل الحارة، وكيف أنه أكب على أسرار السحر من أجل الحارة وتخليصها الأبدي من العذاب. وبالرغم من أن الناظر أخذ يوحي إلى شعراء الحارة بالتأكيد على مقتل الجبلاوي بيد عرفة، إلا أن الناس تلقوا أكاذيب الرباب بفتور وسخرية، وبلغ بهم العناد أن قالوا: «لا شأن لنا بالماضي، ولا أمل لنا إلا في سحر عرفة، ولو خُيِّرنا بين الجبلاوي والسحر لاخترنا السحر.» ووقعت الحقيقة من أنفسهم موقع العجب، فأكبروا ذكراه ورفعوا اسمه حتى فوق أسماء جبل ورفاعة وقاسم. وقال أناس إنه لا يمكن أن يكون قاتل الجبلاوي كما ظنوا، وقال آخرون إنه رجل الحارة الأول والأخير، ولو كان قاتل الجبلاوي، «وحدث أن أخذ بعض الشبان من حارتنا يختفون تباعًا، وقيل في تفسير اختفائهم إنهم اهتدوا إلى مكان حنش فانضموا إليه، وإنه يُعلِّمهم السحر استعدادًا ليوم الخلاص الموعود. واستحوذ الخوف على الناظر ورجاله فبثوا العيون في الأركان، وفتشوا المساكن والدكاكين وفرضوا أقسى العقوبات على أتفه الهفوات، وانهالوا بالعِصِيِّ للنظرة أو النكتة أو الضحكة، حتى باتت الحارة في جو قاتم من الخوف والحقد والإرهاب. لكن الناس تحملوا البغي في جَلَد، ولاذوا بالصبر واستمسكوا بالأمل، وكانوا كلما أضر بهم العسف قالوا: لا بد للظلم من آخر، ولليل من نهار. ولنَرَيَنَّ في حارتنا مصرع الطغيان ومشرق النور والعجائب.»

•••

عرفة إذن يمثل علاقة المنهج العلمي بكلٍّ من الطبيعة والمجتمع، فهو يبحث عن المجهول ويكشف عن علاقة النسبي بالمطلق، ويحلل أزمة الإنسان الاجتماعية. ويقودنا عرفة إلى مجموعة من الملاحظات:
  • فالعلم — أولًا — لم يقتل الجبلاوي؛ بل إن الرواية تبدأ وتنتهي دون أن يتمكن المنطق العلمي المألوف من السيطرة على هذا الجزء الخفي من أسرار الطبيعة. وهذا يعني أن نجيب محفوظ يرى أن «مشكلة الله» لا تدخل في نطاق العلم أو منطقة نفوذه. وهو في الوقت نفسه لا يعلق المشكلة في مستواها الميتافيزيقي؛ بل هو يؤكد أن الله مات! وهي الحقيقة التي عاصرت العلم، وإن لم تكن حقيقة علمية! وهذا هو الفرق الكيفي بين عصور موسى والمسيح ومحمد وعصر العلم، أو هو الاختلاف الجوهري بين الدين والعلم في محاولة الكشف عن مأساة الإنسان. فبينما يصبح المطلق أو المجهول أو الجبلاوي أو الله، هو الجدار النفسي الذي يعتمد عليه البشر لحل أزمتهم في عصر الدين … يتهاوى هذا الجدار «من بعد العمر الطويل» لا بيد عرفة (!) إشارة إلى انعدام فاعليته في الواقع الإنساني، يتهاوى الجدار الإلهي، ليبدأ عرفة عصرًا جديدًا يعتمد فيه الإنسان على نفسه بمعونة السحر أو العلم.

  • كان العلم — ثانيًا — منهجًا في التفكير الاجتماعي، فقد أيقن عرفة أن الغالبية المسحوقة لن تستطيع أن تعيش حياتها في ظل الناظر والفتوات والأثرياء الآخرين؛ بل عليها أن تناضل حتى تصل هي بنفسها إلى النِّظارة، إلى السلطة. بهذا وحده يتحقق مبدأ العدالة الاجتماعية، فإذا توافرت هذه العدالة أمكن لأهل الحارة، أو للمجتمع الإنساني، أو لمصر في ذلك الحين، أن يصنعوا بأنفسهم الأعاجيب. فلن يكون «الغناء» هو الهدف النهائي كما ظن أدهم؛ بل ستصبح «صناعة الأعاجيب» هي هذا الهدف المتجدد اللانهائي. المنهج العلمي إذن هو السبيل الثوري الوحيد أمام الطبقات الشعبية للوصول إلى السلطة وتسويد النظام الاجتماعي العادل. وهذا النظام الاجتماعي العادل، هو السبيل الثوري الوحيد الذي يخلع عن الإنسان نير العبودية إلى الأبد، ويتسع له المجال للخلق أو كما دعاه المؤلف يصنع الأعاجيب.

  • لقد ماتت العدالة بموت جبل، ثم بموت رفاعة، فبموت قاسم، ولكنها لم تمت قط بموت عرفة، أي إن العلم — ثالثًا — لا يموت، فهو ليس علمًا معمليًّا — وقد قال الناظر لعرفة إنه يستطيع أن يرمي عليه بدلًا من الزجاجة زجاجات! — وإنما العلم هو منهج، هو طريقة رشيدة، للحياة. لهذا سوف يعود حنش إلى الحارة؛ بل سيذهب إلى حنش أبناءُ الحارة الذين يختفون منها تباعًا … ثم يعود الجميع لتخليص الحارة نهائيًّا من عصر العبودية. العلم — إذن — هو الثورة. هو الثورة الاجتماعية؛ بل هو الثورة الحضارية الشاملة التي سيشهد أبناؤها عصر الأعاجيب. والمجهول الذي يؤمن به البعض يبارك هذه الثورة، ما دام هذا المجهول هو اشتياق الإنسان الأبدي إلى مجموعة مجردة من القيم والمثُل العليا، واشتياقه إلى حل طلاسم الوجود. فهذه المرأة العجوز التي جاءت إلى عرفة وهمست له بأن الجبلاوي مات وهو راضٍ عنه، إنما تمثل ضمير هذا الشعب الذي صاح بنفسه: لو خُيرنا بين الجبلاوي والسحر لاخترنا السحر. الشعب إذن إلى جانب العلم، إلى جانب الثورة، إلى جانب التاريخ … حتى ذلك الجزء الخاص بتكوينه الروحي عبر آلاف السنين يقف إلى جانب هذه القيم جميعها تعبيرًا صادقًا عن كونها هي بعينها مجموعة القيم «المطلقة» التي كانت تجذب اشتياقه إلى المجهول والمطلق. لهذا تصبح أمنيةُ عرفةَ هي إعادةَ الحياة إلى الجبلاوي، فليس التعبير هنا مرادفًا لعودة الإيمان بالله … كلا، وإنما هي الرسالة الحقيقية للعلم في اكتشاف أسرار الكون، وتحقيق مجموعة القيم المطلقة في حياة الإنسان. إن مجرد التمني بإعادة الحياة إلى الجبلاوي، هو اعتراف بموته. ولقد مات الجبلاوي القديم، المطلق بمعناه التقليدي الذي عرفته الأديان والفلسفات المثالية، وبدأ عصر العلم صراعه الجبار مع الطبيعة والمجتمع على السواء، مع الطبيعة ليحصل من جُزئيات أسرارها على سرها الأكبر، ومع المجتمع حتى يحقق القيم الإنسانية في أرفع مستوياتها، وعلى أسس راسخة من الواقع الموضوعي.

ومعنى ذلك، أنه يتعين علينا أن نجيب عن هذا السؤال: هل كانت «أولاد حارتنا» صياغة روائية للمادية التاريخية والمنطق الجدلي؟ يقول أحمد شريف الرفاعي في العدد ٤٥١، ٢٣ يناير ١٩٦٠م من جريدة الأيام العدنية في سنتها الثانية: «إن مفهوم الواقعية عند نجيب هذه المرة هو الصدق الفوتوغرافي. فنحن لم نتعود منه في قصصه السابقة أن يكون صادقًا. كنا نحس أنه فنان مخلص لفنه … أما في «أولاد حارتنا» فنجيب محفوظ صادق، ولهذا فهو لم يكن فنانًا. فالفن هنا في الهامش أو خارج الهامش. وأنت تحس من قراءة الرواية أنه يكتفي بأن يقوم بوظيفة مسجل بكلية أصول الدين أو كلية اللاهوت. يسجل وينقل بلا حذف وبلا إضافة. وأغلب الظن أنه لم يكن في مستطاع نجيب محفوظ أن يتجنب الصدق الفوتوغرافي وهو يعالج أقدس شخصياتٍ في تاريخ البشرية. ولكن من شأن هذا الصدق الفوتوغرافي إشاعة الجمود والبرود والجفاف في أحداث الرواية، فالنغمة واحدة والإيقاع واحد عند كل من جبل ورفاعة وقاسم. فقد جُبلوا على حب الخير ليس إلا. والفتوَّات كذلك على نمط واحد. لا نستطيع أن نفرق بين واحد وآخر. فهم جميعًا مطبوعون على النهب والفوضى والانحلال. ولهذا فإن الذين قرءوا الرواية شعروا أن فكرة الصراع قد تساقطت من يد الأديب. ونحن نقصد الصراع الذي يدور في نفس البطل من الداخل، فدون الإشارة إلى هذا النوع من الصراع لا يستطيع القارئ أن يتجاوب مع أحداث القصة. والذي يمنع ظهور هذا التجاوب في رواية محفوظ هو تأليه الأبطال بدلًا من تأنيسهم … أي بدلًا من جعلهم آدميين.»

والعلاقة بين هذه الإجابة وسؤالي الذي طرحته قبلها، هي الفرق بين تصوُّرَين للبناء الروائي في «أولاد حارتنا». التصور الأول أنها تؤرخ لتطور المجتمع البشري، والتصور الآخر هو أنها تترجم كتب الدين الرئيسية: التوراة والإنجيل والقرآن، وكلا المفهومين خاطئ من الأساس. فلربما نجد جانبًا من تطور المجتمع في الرواية، وربما نجد تفسيرًا للأديان من جانب آخر، ولكن تداخلهما وافتراقهما لا يكون المحور الفكري أو الفني في البناء الروائي. أما المحور الفكري، فهو كما قلت، قصة الدين والعلم في خطوطها العريضة. قصة الدين والعلم في محاولة الإنسان تغيير مجتمعه. الصراع النفسي الذي يطالب به الناقد العدني يمكن ملاحظته بسهولة في جبل ورفاعة وقاسم وعرفة. كان ارتباط جبل بزوجة الناظر، وارتباط رفاعة بأمه، وارتباط قاسم بزوجته … كانت هذه الأشكال المختلفة من الارتباط تمزق نفوس أصحابها تمزيقًا نفسيًّا رهيبًا. ولعل التشابه في الإطار العام بين حركة جبل ورفاعة وقاسم، كان تشبيهًا مقصودًا من المؤلف، لأنه يريد أن يقول إن هذه الحركات الثلاث — من حيث الجوهر — واحدة، هي موقف الدين من التغيير الاجتماعي. أما في العلم فهو لم يكن محتاجًا لأكثر من عرفة وحنش للتأكيد على أن ثمة فرقًا بين التغيير الديني والتغيير العلمي، هو أن هذا الأخير لا يموت بموت الأفراد. لهذا كانت زوجة عرفة شخصية ضرورية تؤكد ارتباط العلم بالمجتمع ارتباطًا حيًّا ديناميًّا.

وعندما يكون ثالوث الدين – العلم – المجتمع هو العمود الفقري في البناء الروائي، فإن التطور الاجتماعي من عصر إلى آخر لا يصبح صياغة للمادية التاريخية أو المنطق الجدلي. كما أن تفسير الحركات الدينية الثلاث تفسيرًا جديدًا لا يعتبر ترجمة فنية لما جاء في كتب الدين. في الحالة الأولى يلاحظ أن نجيب محفوظ تجاوز الماركسية، فطرح ما تثيره من أسئلة تدخل في منطقة نفوذها، وطرح ما لا تثيره من تساؤلات خارج هذه المنطقة. والتجاوز هنا لا يعني الإضافة، وإنما الاعتراف بها، ثم الانشغال بقضية أخرى تؤرق الرؤية الفلسفية للإنسان العربي الذي عاش آلاف السنين في ظل حضارة غيبية. نجيب محفوظ يمضي مع سارتر خطوة في أن الماركسية هي الصورة الثورية الوحيدة للعالم المعاصر، ثم يختلف معه خطوات في أن الوجودية هي المنهج الصحيح لفهم الماركسية في ثوريتها أو في الحيلولة دون تجميدها. وهو يمضي مع لوفافر خطوة في أن الماركسية المعاصرة تعاني أزمة حقيقية على أيدي المعمَّمين من الداخل الذين أحالوها إلى مادية مبتذلة، ثم يتركه وهو يسد الطريق أمام الحل الماركسي للأزمة.

نجيب محفوظ يستخدم البناء الرمزي المباشر في «أولاد حارتنا»، ليقول: إن تراث المنتمي اليساري هو العلم، بالإضافة إلى العُصارة النقية لأكثر القيم تقدمًا التي عرفتها البشرية على مدى التاريخ. أما المنتمي الذي يتوقف عند حصيلة الحركات الروحية الثلاث، فإنه في عصرنا يتجمد في قوالب حجرية تعوق حركة المجتمع من الانطلاق، لذلك فهو مثال المنتمي اليميني الذي يتحول للوقوف إلى جانب القُوى المعادية لحركة التاريخ. وهذه الرواية — في المستوى الفني — هي أشبه برؤيا تحيل الواقع بجزئياته إلى حلم تجريدي. فلو أننا جمعنا الناظر والفتوات وأهل الحارة والجبلاوي وأدهم وإدريس ورفاعة وقاسم وجبل وعرفة وحنش … لو جمعنا هؤلاء جميعًا في لوحة واحدة، أو في عدة لوحات، لاستطعنا أن نرسم لوحة تجريدية تستخدم جزئيات الواقع لتبني كُلًّا غير واقعي، ثم تصل عن طريق هذا الكل الرمزي إلى أعمق أعماق الواقع. الفتوات والنبابيت والنهب والسلب، جميعها جزئيات ترتبط بواقعنا أوثق الارتباط، ولكن الإطار الميثولوجي الذي ارتدته هذه الجزئيات كان يستهدف أن يجعلها في اتجاه واحد للسهم الذي يشير به نجيب محفوظ مرة أخرى … إلى الواقع. إنه يلف ويدور من الواقع إلى الأسطورة إلى الواقع، وهكذا حتى يصل إلى ما لم يستطع أن يصل إليه في ظل أزمة الديمقراطية التي جعلته يتوقف بأحداث الثلاثية عند سنة ١٩٤٤م. إن «أولاد حارتنا» شكل اضطراري، وليس امتدادًا أصيلًا لاتجاه نجيب الروائي. وليس تمهيدًا لمرحلة جديدة من مراحل تطوره الروائي. وعندما تقول سمون دي بوفوار إن الرواية الميتافيزيقية إذا قُرئت بشرف، وكتبت بشرف، أتت بكشف للوجود لا يمكن لأي نمط آخر في التعبير أن يكون معادلًا له. ربما كانت تقصد مثل هذا الشكل الروائي الذي أتى به نجيب محفوظ في «أولاد حارتنا»، خاصة حين تستطرد في قولها: «إن الرواية الميتافيزيقية، وهي بعيدة عن أن تكون، كما زعم أحيانًا، انحرافًا خطيرًا للفن الروائي، هي على العكس، كما يبدو لي، وبمقدار ما تكون ناجحة، أكمل إنجازًا؛ لأنها تبذل جهدها في أن تلتقط الإنسان والأحداث الإنسانية في علاقتها مع كلية العالم، ولأنها هي وحدها التي تنجح فيما يخفق فيه الأدب الخالص والفلسفة الخالصة: تنجح في إحياء ذلك المصير الذي هو مصيرنا، والمدوَّن في الزمن والأبدية في آن واحد، بكل ما فيه من وحدة حية والتباس حي جوهري».٤
ونجيب محفوظ حين يصوغ قضية الانتماء بين الدين والعلم والاشتراكية على هذا النحو الشامل في علاقة الإنسان بالكون والمجتمع، إنما يتجاوز تحديداته السابقة لهذه العلاقة في المرحلة الأولى (القاهرة الجديدة، خان الخليلي، بداية ونهاية)، والمرحلة الثانية (الثلاثية)، إلى مرحلة ثالثة (أولاد حارتنا) ليست تسجيلًا لحركة الاستقطاب إلى اليمين أو إلى اليسار كما هو الحال في أدب المرحلة الأولى، وليست رموزًا إلى الجانب الخفي من صراع المنتمي المأزوم في المرحلة الثانية، وإنما هي صياغة شاملة للمنتمي النموذج حتى يقود الفكر اليساري من خلال أزمة الانتماء مع الحرية. لقد أحس الفنان فجأة أن أزمة المنتمي اليساري دخلت مرحلة جديدة كيفيًّا منذ انتهى من كتابة السكرية عام ١٩٥٢م؛ إذ دخلت بلادنا بوتقة تجربة اجتماعية غريبة المعالم من حيث المظهر، مما أدى باليسار إلى أن يتخذ منها مواقف خاطئة في الأغلب. وأعتقد أن وجدان نجيب محفوظ الشديد الحساسية كان أسبق من وعيه في بلورة «درجة الخطورة» القائمة على ضوء هذه المواقف. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى لم يعايش نجيب جزئيات الحياة اليومية للمنتمي اليساري حتى يصوغ أزمته في نفس الإطار التقليدي الذي عرفناه فيما سبق له من أعمال، فكان لجوءُه إلى رسم المنتمي المثال محاولة ذات وجهين؛ الأول: هو الهروب من الصياغة الواقعية التي لن يتيح له الصدق أن يقدم عليها، والوجه الآخر: هو التأكيد على أزمة الحرية عمليًّا، فالأعمال الرمزية من هذا القبيل هي تجسيد لمدى الانفصام بين الفنان والمجتمع والسلطة. ذلك أن نجيب محفوظ كان أول فنان عربي يقوم بتعرية فكرية كاملة للذات، على الملأ. لقد سبق له أن قام بهذه التعرية في الثلاثية بواسطة عملية الإسقاط التي قام بها على شخصية كمال عبد الجواد. ولكنه هنا يقوم بعملية التعرية في مرحلة عالية من النضج الفكري الذي يلزمه بتغيير جوهر الحضارة التي ينتمي إليها. أي أن هذا النضج أو هذه التعرية تدعوه إلى أن يشارك في نقل المجتمع من عصور التخلف الحضاري والتقاليد غير الديمقراطية في أسلوب الحكم إلى عصر العلم والحرية والاشتراكية. وهذا ما تسبب في أن تنزعج قطاعات من الجماهير قبل السلطة، وأن ينزعج الأزهر قبل السلطة. حتى إنه لم يحدث قط في تاريخنا الأدبي أن تقابل رواية بهذا الانزعاج الشديد الذي يؤدي إلى تأجيل نشرها حتى الآن.٥ ولعل مصدر الانزعاج الأول هو الشجاعة الأسطورية التي بدا فيها المؤلف وهو يعري نفسه على الملأ تعرية كاملة. والمصدر الآخر الذي لا يقل عنه أهمية هو تعريته للمجتمع والحضارة التي يعيشها تعرية كاملة. والمصدر الثالث هو أن نبضات قلب نجيب محفوظ في هذه الرواية كانت تدق تجاوبًا مع قلب المنتمي اليساري المصري في ذروة الأزمة. فقد كانت الديمقراطية من أخطر معالم هذه الأزمة، كما كانت المشكلة الاجتماعية من أخطر هذه المعالم أيضًا. وكانت الصورة النظرية أو المنهجية للموقف هي قضية القضايا في هذه المرحلة. لهذا جاءت أولاد حارتنا الصياغة الفنية الوحيدة الصحيحة لهذه المرحلة، غير أن هذا الشكل الاضطراري الذي اتخذته «أولاد حارتنا» قد استنفد أغراضه من التجربة الأولى. فاللجوء إلى العموميات أو الكليات يستوعب القضية في شمولها، أي في مختلف أبعادها وزواياها. كذلك لا يستطيع هذا الشكل أن يضيف جديدًا إذا تكرر؛ بل إنه معرض لأن يكرر نفسه. ولذلك أيضًا، كان على نجيب محفوظ أن يبحث عن شكل جديد إذا كانت قضية الانتماء وأزمة اليسار هي القضية التي يود أن يظل مخلصًا لها. وعندئذٍ تجيء «اللص والكلاب» تقدم لنا الإجابة.

•••

الرمز «في أولاد حارتنا» غياب ظاهري للواقع، أما الرمز في «اللص والكلاب» فهو مزيد من الواقع، هو تكثيف الواقع وتركيزه. الرمز في «اللص والكلاب» لا يكمن في جزئيات صغيرة تعادل جزئيات مشابهة لها في الواقع الخارجي، كما أن في «اللص والكلاب» ليس هو هذا الهيكل العظمي من الأحداث التي بدأت بخروج سعيد مهران من السجن وانتهت بمصرعه بين المقابر … إن رمزية «اللص والكلاب» تكمن في بنائها التعبيري ككل خلال معادلته لواقع موضوعي شامل، أي إن سعيد مهران ورءوف علوان ونور وغيرهم من شخصيات «اللص والكلاب» مجرد أدوات تعبيرية في يدَي الفنان يصوغ بها عالمًا كاملًا يرمز في شموله إلى عالم كامل آخر … فلا ينبغي أن نسقط إحدى أدوات التعبير هذه على إحدى جزئيات الواقع الخارجي ونقول إننا فسَّرنا ما تنطوي عليه من رمز؛ لأنها بمفردها لا ترمز إلى شيء وإنما بتشابكها مع بقية أدوات الصياغة، ترمز إلى كل شيء.

هكذا نلتقي بنجيب محفوظ يُحوِّل القضية الشخصية التي نتعرف عليها في حياة سعيد مهران إلى قضية عامة. فعلى الرغم من أن أحداث «اللص والكلاب» — في خطوطها العريضة — قد حدثت فعلًا في الواقع الخارجي، إلا أن الفنان يضيف إلى هذا الهيكل العظمي من الأحداث دلالاتها العامة التي تنبثق من أرض الواقع الحي التي أنبتتها. فلم يكن محمود أمين سليمان — المرادف الواقعي لسعيد مهران — مجرد لص قاتل يحاول الثأر لشرفه. إن محمود هو الابن الشرعي للَّحظة الحضارية التي ظهر فيها. وعندما يقوم الفنان بتحويله من محمود إلى سعيد مهران إنما يضيف إلى اللحظة الحضارية التي ولدته، وجهة نظره الخاصة في هذه القضية. فنحن لا نعلم أن محمود سليمان كان على درجة ما من الثقافة، أو أنه كان على صلة ما بأحد رجال الثقافة، ولكن نجيب محفوظ حين يستبدل باسمه سعيد مهران، إنما لِيستطيع القول بأن هذا الرجل ليس لصًّا أو قاتلًا أو غير ذلك من صفات الجريمة التي يمكن إضفاؤها على شخصية سعيد على ضوء الأحداث المرافقة له؛ بل إن سعيد مهران الذي عرف الثقافة عن طريق رءوف علوان، وعن طريق الثقافة والواقع عرف أن هناك فقراء وأغنياء، وأن العلاقة بين الطرفين هي علاقة استغلالية … سعيد مهران هذا لا يمكن أن نسلكه في عداد المجرمين لمجرد أنه سرق أو قتل؛ فهو في سرقاته ورصاصاته إنما يصوغ لنا أزمة أكثر شمولًا منه، تستمد قوتها من المناخ العام الذي عاش فيه ابتداء من رءوف علوان، المثقف الذي علمه مبادئ التمرد ثم خان هذه المبادئ، إلى نور، المومس التي أحبته فلم تخُنه لحظة واحدة، بينما كانت هي الإنسان الوحيد من بين الملايين الذي يعرف مكانه دون أن يدري البوليس.

تبدأ «اللص والكلاب» في لحظة نموذجية، هي لحظة خروج سعيد مهران من السجن. وهي لحظة منحوتة من الزمان الداخلي للشخصية؛ فنحن لن نرافق سعيد من بوابة السجن إلى بيت الشيخ علي الجنيدي إلا لنرافق مختلف الحلول التي لجأ إليها حتى يتجاوز أزمته. كذلك فنحن نرافق زمانه الداخلي حتى نضع أيدينا على معالم هذه الأزمة. الزمان الخارجي يقول إنها أولى ليالي الحرية، وزمانه الداخلي يقول «وحدي مع الحرية». والحرية إذن هي الدعامة التي يمكن أن نستند عليها ونحن نتوغل شيئًا فشيئًا إلى عالم سعيد مهران. إن هذه الدعامة تقودنا إلى الشخصية الثانية في هذه الرواية، شخصية رءوف علوان، فنحن — والفنان معنا — لن نتوقف كثيرًا عند الأحداث التي وقعت في عطفة الصيرفي، أحداث نبوية الزوجة التي باعت زوجها، وعليش الذي باع صديقه، والبنت الصغيرة التي أنكرت أباها. لن نتوقف عند هذه الأحداث فهي ليست إلا إشارات سريعة إلى تعقد العالم الخارجي الذي يستقبله سعيد مهران فور خروجه من السجن، فهو لم يعد زوجًا ولا أبًا ولا صديقًا، لقد خانه الجميع. ولكن خيانة هؤلاء تبدو لنا وكأنها شيء محتمل، يمكن فهمه وتبريره؛ بل إن هذه الشخصيات تبدو كأنها ظلال تائهة للواقع المرير الذي يتنسم سعيد مهران نسائمه، وهو وحده مع الحرية. ذلك أن هذا الواقع الخائن ليس إلا عبدًا لخيانات أكبر وأخطر، بل إن خيانة هذا الواقع ليست إلا صدًى للخيانة الحقيقية. أي إن حرية سعيد مهران، التي يستشعر وحدته معها، هي الإحساس العميق بعبودية الآخرين. لهذا فخياناتهم هي تجسيم لبشاعة الواقع الذي يعيشونه، وهم — لذلك — لا يتحملون النصيب الأوفر من المسئولية … وهم — لذلك — معذورون إلى حد كبير. ونحن لن نتوقف عندهم كثيرًا، وإنما سنتوجه مباشرة إلى الجانب الآخر في قضية الحرية التي يحس سعيد مهران بوحدته معها، سنتوجه إلى رءوف علوان. ولم يكن رءوف علوان فيما مضى إلا محررًا بمجلة النذير «مجلة مُنزَوية بشارع محمد علي، ولكنها كانت صوتًا مدويًا للحرية.» أما الآن فلم يبقَ من الشخص القديم إلا ظل صورته. وسعيد يرى حياته امتدادًا لأفكار هذا الرجل الضاحك في التليفون، «فإذا كان قد خانها فالويل له» … ويتضح لنا أن لفظة الخيانة هنا لها رنين مختلف تمامًا عند ما تجيء بشأن نبوية أو عليش «ذلك أن كل خيانة تهون إلا هذه، يا للفراغ الذي سيلتهم الدنيا.»

معركة «الخيانة» إذن، هي معركة سعيد مهران مع القيم. وقيمة القيم التي تدور حولها المعركة هي الحرية. يجب أن نتذكر هذه النقطة مرارًا، فسوف نلتقي بألفاظ كهذه: العزلة، النفي، الوحدة، الاغتراب، مما قد يؤدي بالبعض إلى حسبانها من صفات الإنسان اللامنتمي، ولكنا إذا انطلقنا في بحثنا عن حقيقة سعيد مهران من أن قضية الحرية والخيانة، هي قضية «القيم» في حياته لأيقنَّا أن العزلة والنفي والاغتراب قد أصبحت من صفات المنتمي المأزوم في غياب الحرية؛ ذلك أن عالم اللامنتمي هو عالم بلا قيم. إن «اللص والكلاب» هي الرواية التالية لأولاد حارتنا مباشرة، فبعد أن قدم لنا الفنان «المنتمي المثال» ليقود المنتمي اليساري إلى الطريق الصحيح، رأى أن أزمة الحرية ما تزال تتطلب اللقاء المباشر الذي يجسد أزمة المنتمي في مرحلة جديدة. كانت مرحلة كمال عبد الجواد هي التناقض الحاد بين الفكر والسلوك الذي يولد السلبية، أما مرحلة سعيد مهران فتقول شيئًا جديدًا.

خرج سعيد من السجن ليرى صورة جديدة من رءوف علوان. لقد أصبح من سكان القصور التي كان يحاربها فيما مضى، ولهذا ينصح سعيد بالبحث عن عمل، ولم يعُد يقول له: في إحدى يديك امسك كتابًا وفي الأخرى امسك مسدسًا. وأعتقد أن نجيب محفوظ يستخدم هنا منهجًا تعبيريًّا سبق أن تعرفنا عليه في الثلاثية، وهو أن يعبر عن الجوانب الخفية في نفس البطل بتجسيدها في شخصيات منفصلة عن كيان هذا البطل. فعندما يقول سعيد: «تخلقني ثم تغير بكل بساطة فكرك بعد أن تجسَّدَ في شخصي، كي أجد نفسي ضائعًا بلا أصل وبلا قيمة وبلا أمل.» نحس أن تكوين سعيد الجديد، يُضمِر في أصوله ملامح رءوف علوان القديم، ثم نصل إلى أن الانقسام التراجيدي الذي تعاني منه شخصية سعيد هو التمزق بين القديم والجديد. إن رءوف صاحب «العقل» و«التاريخ» هو «الفيلسوف» كما يدعوه سعيد، وهذا هو الجانب الذي يحتفظ به بين أضلعه قبل دخوله السجن، أما الآن «أتدفع بي إلى السجن وتثب أنت إلى قصر الأنوار والمرايا؟ أنسيت أقوالك المأثورة عن القصور والأكواخ؟ أما أنا فلا أنسى» … أي إن دخوله السجن من حيث الجوهر لا علاقة له بخيانة نبوية وعليش، وإنما هو يرتبط بمجموعة القيم التي استودعها رءوف في كيان سعيد وروحه. مجموعة القيم التي كانت تعطيه السلاح للجهاد لا للاغتيال «وراء هذه الهضبة التي تقوم عليها القهوة كان فتية يتدربون على القتال بثياب رثة وضمائر نقية. وساكن القصر رقم ١٩ كان على رأسهم. يتمرن ويلقي بالحِكَم: المسدس أهم من الرغيف يا سعيد مهران. المسدس أهم من حلقة الذكر التي تجري إليها وراء أبيك. وذات مساء سألك: سعيد، ماذا يحتاج الفتى في هذا الوطن؟ ثم أجاب غير منتظر جوابك: إلى المسدس والكتاب، المسدس يتكفل بالماضي والكتاب للمستقبل، تدرب واقرأ!» ليس رءوف علوان إذن مجرد صديق انتهازي خان ماضيه المكافح بالحاضر البراق، هذا هو الوجه المباشر لشخصية رءوف، ولكنه على الوجه الآخر هو أحد الجوانب الخفية من شخصية سعيد؛ إذ امتزجت قيم رءوف بنفسه امتزاج المعاناة، حتى أصبحا شخصية واحدة. هي شخصية منقسمة حقًّا، تعاني مرارة الصراع الهائل الذي أحدثته التجربة الجديدة، تجربة اللص والكلاب. فعندما امتدت يد سعيد إلى السرقة للمرة الأولى، قال له رءوف: برافو! كي يتخفف المغتصبون من بعض ذنوبهم، إنه عمل مشروع يا سعيد، لا تشك في ذلك. وعندما ينفذ سعيد «مبادئ» رءوف، فهو ليس فوضويًّا من أولئك الذين عرفتهم بعض الحركات السياسية في أوروبا؛ بل هو تجسيم لأزمة المنتمي العربي في مصر حين تعزله اللاديمقراطية عن جماهير الشعب، وحين تعزله اللاحرية عن التنظيم السياسي المتكامل … فهو يتحول حينئذٍ إلى أحد مستويات التمرد السطحي الساذج، الذي يعتمد أساسًا على البطولة الفردية. وقديمًا قال رءوف علوان: «إن نوايانا طيبة، ولكن ينقصنا النظام.» وتقوده البطولة الفردية إلى الاغتيال العفوي فلا يصيب أعداءه؛ بل يقتل أناسًا لا ذنب لهم ولا جريرة، ومن أعماق قلبه الممزق يصرخ في صمت: «من أنت يا شعبان؟ أنا لا أعرفك وأنت لا تعرفي. هل لك أطفال؟ هل تصورت يومًا أن يقتلك إنسان لا تعرفه ولا يعرفك؟ هل تصورت أن تُقتل بلا سبب؟ أن تقتل لأن نبوية سليمان تزوجت من عليش سدرة؟ وأن تُقتل خطأ ولا يُقتل عليش أو نبوية أو رءوف صوابًا؟ وأنا القاتل لا أفهم شيئًا ولا الشيخ علي الجنيدي نفسه يستطيع أن يفهم. أردت أن أحل جانبًا من اللغز. فكشفت عن لغز أغمض.» ثم يتمتم في حسرة وحزن وأسًى عميق: يا ضيعة الرصاص في الصدور البريئة! هذا الموقف يشدنا مرة أخرى إلى المقارنة بين أزمة المنتمي وأزمة اللامنتمي، ذلك أن معركة سعيد مع القيم هي معركة المنتمي مع قيمٍ فاسدة يريد أن يستبدل بها قيمًا صالحة، غير أنه في ظل الأزمة التي يعانيها يصارع هذه القيم بمنطق المتمرد البعيد عن الثورية. وهذا هو الفرق بين سعيد مهران وميرسول في «الغريب» عند ألبير كامي. ميرسول يصيب من غريم صديقه مقتلًا بلا هدف، تمامًا وكأنه يلعب الشطرنج. بل إن قصته مع صديقه لم تقُم على أساس مجموعة من القيم المشتركة بينهما، وإنما يَقبل ميرسول هذه الصداقة لمجرد أنه ليس هناك ما يحتم رفضها. ولقد كانت هذه الصداقة التي تمت بطريق المصادفة هي الأساس الموضوعي لمجموعة من الأحداث التي أدت بميرسول أن يقتل الشاب العربي. فلم تكن حادثة القتل (ولا أقول جريمة) من الخطوط الرئيسية أو الفرعية في خريطة ميرسول، فهو يعيش حياته بلا خريطة على الإطلاق، حتى إذا ماتت أمه أو تعرف على ماري أو توجه إلى المحكمة أو ذهب إلى السجن أو تشاجر مع القسيس في الزنزانة … لا يستشعر في أيٍّ من هذه الأحداث قيمةً ما تدفعه إلى التمسك بها أو رفضها. إنه لا يرى أية «حقيقة» في أي شيء، فكل شيء لديه سواء. وهذه هي نظرة كامي في كتابه عن الإنسان المتمرد، فهو يقول إن الشعور بالعبث حينما نزعم أنه يمكن أن نستخلص منه قاعدة للسلوك، يجعل القتل عملًا ليس له ما يؤيده أو ما ينافيه، وبالتالي عملًا ممكنًا، فإذا كنا لا نؤمن بشيء، وإذا لم يكن هناك معنى لأي شيء، وإذا كنا لا نستطيع تأكيد أية قيمة، أصبح كل شيء ممكنًا ولا أهمية لأي شيء. لا يعود هناك ما يؤيَّد وما ينافى، ولا يكون القاتل على خطأ أو على صواب «في وسعنا حينئذٍ أن تؤجج المحارق، كما في وسعنا أن ننذر أنفسنا للعناية بالمجذومين. وتكون الرذيلة والفضيلة مجرد صدفة، أو مجرد نزوة.» ثم يصنف كامي التمرد بأنه ينشأ عن مشهد انعدام المنطق أمام وضع جائر مستغلق، وأن المتمرد يصرخ، يطالب بإلحاح، يريد أن تتوقف المهزلة، وأن يستقر أخيرًا ما كان يسطر حتى الآن على صفحة البحر! ويتساءل كامي: ما الإنسان المتمرد؟ ويجيب: إنه إنسان يقول لا، ولئن رفض فإنه لا يتخلى، فهو أيضًا إنسان يقول نعم منذ أول بادرة تصدر عنه. فحركة التمرد تستند إذن إلى رفض قاطع لتَعَدٍّ لا يطاق، وإلى يقين مبهم بوجود حق صالح، وبصورة أصح، إلى اعتقاد المتمرد «أن له الحق في أن …» فلا بد للتمرد من أن يكون مقترنًا بشعور المرء بأنه على حق بصورة ما، وفي مجال ما. وبهذا المعنى يقول المتمرد نعم ولا في نفس الوقت، ويؤكد كامي أن ثمة وعيًا — مهما تكن درجة إبهامه — ينشأ مع حركة التمرد: الإدراك فجأة بأن في الإنسان شيئًا يمكن للفرد أن يتوحد معه ذاتيًّا ثم يندفع إلى المقاومة تحت شعار «كل شيء أو لا شيء» أي أن أولى بوادر الوعي تولد مع التمرد. فالمتمرد يريد أن يكون كل شيء، يريد أن يتوحد توحدًا ذاتيًّا كليًّا مع هذا الخير الذي شعر به فجأة. وهو يرضى بالحرمان والسقوط الأخير — الموت — إذا كان لا بد من حرمانه من هذا التكريس الخاص الذي يدعوه بحريته «إنه يؤثر أن يموت عزيزًا رافع الرأس على أن يعيش عيشة الهوان» … إن بروز «كل شيء أو لا شيء» يبين أن التمرد خلاف للرأي السائد، وعلى الرغم من أنه ينشأ في صميم فردية الإنسان، يثير التساؤل حول مفهوم الفرد بالذات. والحقيقة — يقول كامي — أن الفرد إذا قبل الموت، ومات في حركة تمرُّده، فإنه يدلل بذلك على أنه يضحي بذاته في سبيل خير يعتبر أنه يجاوز مصيره الخاص. وإذا فضل الموت على إنكار هذا الحق الذي يذود عنه، فلأنه يضع الحق فوق ذاته «إنه يتصرف إذن باسم قيمة، لا تزال مبهمة، ولكنه يحس على الأقل بأنها قيمة مشتركة بينه وبين الناس جميعًا.» أي أنه في التمرد يجاوز الإنسان ذاته في الآخرين.٦

لقد آثرتُ أن أفصل رأي كامي في صورته الفنية «الغريب» وفي صورته الفكرية «الإنسان المتمرد» … ذلك أنني أريد أن أفرق بين تمرد سعيد مهران وتمرد ميرسول، على أساس أن التمرد الوجودي عند ألبير كامي هو التمرد الأصيل الذي أنبَتَتْه الحضارة الغربية في مرحلة التمزق النفسي المرير بين الانتماء واللاانتماء. أما تمرد سعيد مهران فلم يكن سوى الصورة المتأزمة للانتماء. أي إن سعيد متمرد من ناحية الشكل، ولكنه منتمٍ متأزم من حيث الجوهر. ومعنى ذلك أن ثمة خلافًا جوهريًّا بين سعيد وميرسول على الرغم من أنهما يرتديان ثياب التمرد.

سعيد مهران ينطلق في تمرده — على النقيض من ميرسول — من نقطة شديدة التحديد هي أن بناءً من القيم قد انهار أمام عينيه، وأن حياته جزء من هذا البناء، ولهذا كانت حياته «قيمة» في حد ذاتها … وهو حين يرى رءوف قد تحول من كونه إنسانًا حرًّا مناضلًا، إلى أحد جنود الطبقة التي كان يناضلها … حين يرى سعيد هذا التحول، فهو لا يراه كمشهد خارجي، وإنما يراه في مرآة ذاته، يراه كامنًا في أعماق نفسه، يراه معادلًا موضوعيًّا لخيانة نبوية وعليش. أي إن الفنان قد استخدم هذا العنصر الذاتي كنقطة انطلاق إلى نظيره الخارجي، فما يراه من خيانة زوجته وصديقه وإنكار ابنته له هو مجرد ركيزة ذاتية يعتمد عليها الفنان في تكثيف الخيانة التي يفاجأ بها سعيد في شخصية رءوف. نقطة الانطلاق هذه في غاية الأهمية، ذلك أن إلحاح سعيد على أن خيانة أهله له لا تساوي شيئًا بالنسبة لخيانة رءوف، يعني جيدًا أن خيانة رءوف من جهةٍ هي خيانة جزء عزيز من نفسه، ومن جهة أخرى هي خيانة للمجتمع لا للفرد … فهو من هذه الزاوية يتجاوز نفسه إلى الآخرين عبر خيانة شديدة الوطأة على نفسه؛ لأنها أحد جوانب هذه النفس، ومعنى هذا أن «اللص والكلاب» ليست قصة الرغبة الملحة في الانتقام كما يذهب بعض السُّذَّج، وإلا لكانت قصة بوليسية كما قالت السيدة نور سليمان،٧ أو قصة فاشلة كما قال الدكتور عبد القادر القط. إن هاملت عاش أخصب مراحل حياته وهو يفكر في الانتقام من خيانة أقرب الناس إليه، وإذا كان كلٌّ من سعيد مهران وهاملت شكسبير لم يُوفَّق في إصابة الهدف؛ بل أصابت رصاصات الأول وسيف الثاني شخصيات بريئة … فإن ذلك لا يعني مطلقًا أنه «القدر» فقد أصابا هدفهما بالفعل من خلال هذه الشخصيات البريئة!

والحق أن نجيب محفوظ يستخدم منهجًا تعبيريًّا معقدًا في «اللص والكلاب»، فهو يصوغ سعيد مهران في حالة تمرد؛ بينما التمرد ليس إلا مظهرًا سطحيًّا لحالة الانتماء المأزوم الذي يمثله تحول رءوف من ناحية، وفردية سعيد من ناحية أخرى. والتحول والفردية هما عنصران متكاملان في شخصية واحدة، يمثلان وحدة الذات والموضوع في إطار جدلي يحقق الصراع الدرامي داخل البطل التراجيدي تحقيقًا فنيًّا على الصعيد الجمالي، وتحقيقًا فكريًّا على المستوى النظري. سعيد مهران ليس بطلًا ملحميًّا، وإنما هو بطل تراجيدي يتضمن في تكوينه مقومات التناقض والتمزق، ويحمل في أعماقه كافة العناصر المؤدية إلى المأساة.

فقد بدأ سعيد حياته من أولى درجات السلم الاجتماعي ابنًا ذكيًّا لبواب بيت الطلبة بالجيزة. وعندما مات أبوه كان هو الوريث الشرعي للوظيفة الصغيرة. وفي بيت الطلبة، وفي هذه الوظيفة الصغيرة، حدث التحوُّل التاريخي في حياة سعيد؛ إذ أضاف إلى تكوين الشاب الذكي الفقير عقلية رءوف علوان الطالب الثائر المثقف. وكانت هذه الإضافة بمثابة التناقض الأول في حياة سعيد، وكان تناقضًا رئيسيًّا تولدت عنه بقية التناقضات. ونجيب محفوظ يقارب بين الشخصيتين ويباعد بينهما في شد وجذب، ومد وجزر، حتى يتم التفاعل بين أفكار ومبادئ وقيم رءوف وطاقة سعيد على العمل. ويدلنا الحوار الداخلي في آخر مراحل حياة سعيد بأن نوعًا من الكفاح السري كان الطلبة يمارسونه تحت قيادة رءوف، وكان سعيد أحدهم بالرغم من أنه لم يدخل الجامعة ظلمًا، على حد تعبيره، بينما دخلها الكثيرون من الأغبياء. والفنان يعتمد على الإشارات السريعة بصورة أساسية، فمن خلال خواطر سعيد وأحلامه ومحاوراته الداخلية، يمكننا أن نتصور أن العلاقة بين سعيد ورءوف قد تطورت من مستواها بين طالب وبواب إلى مستوى الند للند. فقد كان سعيد يكمل جانبًا ناقصًا في حياة رءوف، هو انتماؤه إلى درك الطبقات الشعبية التي يناضل من أجلها. وكان رءوف يكمل جانبًا ناقصًا في حياة سعيد هو التفكير الثوري والثقافة. ونجيب يستخدم ما يمكن تسميته بالرمز العفوي في الإشارة إلى التفاعل العميق الذي حدث بين رءوف وسعيد سواء من خلال فكرة السرقة من الأغنياء، أو من خلال الكتب التي كان يعيرها إياه أو التدريبات المسلحة في قلب الصحراء. يتضح هذا الرمز العفوي في تجاهل سعيد لأزمته الشخصية مع نبوية وعليش، واتجاهه رأسًا إلى الفيلا التي يسكنها رءوف. ففي فترة السجن الذي سيق إليه سعيد على أثر خيانة زوجته وصديقه، في هذه الفترة كان رءوف المثقف الثائر قد مارس خيانة أكثر بشاعة هي تحوُّله إلى جانب الطبقات التي حاربها من قبل. وهنا يضرب نجيب محفوظ ضربته الفنية حين يُغوي سعيد بسرقة رءوف إشارة ذكية إلى ما كان ينصح به رءوف سعيد من أنه على الأغنياء أن يتخففوا قليلًا مما يحملونه. وهو عندما يغير نصيحته الآن إلى سعيد بأن يبحث عن عمل يتخيل سعيد بأن فكرة السرقة ليست إلا مغامرة دسمة ستعطي ردًّا حاسمًا على «خداع العمر كله»؛ لذلك هو يرد على نصيحة رءوف بهذه الكلمات التي تنضح مرارة: «ما أجمل أن ينصحنا الأغنياء بالفقر.» لهذا ينبغي أن نتصور سعيد في وضعه الصحيح، فهو لم يذهب إلى رءوف لكي يأخذ منه بضعة جنيهات، ولا هو يريد أن يعمل عملًا حقيرًا كما دعاه. ولكنه يطلب من رءوف أن يعمل معه محررًا في الصحافة. ولما يراه على حقيقته الجديدة لا يتردد في محاولة سرقته. هذه الأحداث لا يمكن أن تكون صياغة تقريرية مباشرة لمن خرج من السجن يردد: وحدي مع الحرية. ثم يعاني ويلات الهزيمة؛ من ارتداد خالقه عن القيم التي كان يُبشر بها. كان رءوف إذن هو القيمة الجديدة التي اكتشفها سعيد في بواكير حياته. وكانت هذه القيمة تتمرغ في الطين وهو يولي ظهره أبواب السجن. لقد أحس أنه — من جديد — يدخل سجنًا من نوع آخر، ذلك أن القيمة الوحيدة التي كان يحقق من خلالها ذاته، القيمة الوحيدة التي كان يحقق من خلالها حريته، كانت تتحول إلى قضبان حديدية لسجن كبير يقوم رءوف بحراسة أحد جدرانه.

أجل، تحولت قيمة الحرية عند رءوف إلى عبودية مُذِلة تتستر خلف قصر برَّاق وعربة فاخرة ومكتب فخم بإحدى دور الصحف الكبرى. تحول رءوف إلى «قيد» للحرية بعد أن كان «قيمة» تحقق الحرية في نظر سعيد. ولا يدع الفنان رموزه معلَّقة في الفضاء، فسرعان ما يصبح سعيد مطاردًا من جانب السلطة، ويصبح رءوف أحد مطارديه! ويحدد نجيب محفوظ طبيعة القُوى التي شاركت في صياغة المأساة. يحددها في إطار الحلم الذي غزا رأس سعيد مهران وهو مُستلقٍ عند الشيخ جنيدي «رأى سناء تنهال بالسوط على رءوف علوان في بئر السلم، وسمع قرآنًا يُتلى فأيقن أن شخصًا قد مات. ورأى نفسه في سيارة مطاردة عاجزة عن الانطلاق السريع لخلل طارئ في محركها واضطر إلى إطلاق النار في الجهات الأربع، ولكن رءوف علوان برز فجأة من الراديو المركب في السيارة فقبض على معصمه، قبل أن يتمكن من قتله، وشد عليه بقوة حتى خطف منه المسدس، عند ذاك هتف سعيد مهران: اقتلني إذا شئت ولكن ابنتي بريئة، لم تكن هي التي جلدتك بالسوط في بئر السلم وإنما أمها، أمها نبوية وبإيعاز من عليش سدرة، ثم اندس في حلقة الذكر التي يتوسطها الشيخ علي الجنيدي كي يغيب عن أعين مطارديه فأنكره الشيخ وسأله: من أنت؟ وكيف وُجدت بيننا؟ فأجابه بأنه سعيد مهران ابن «عم مهران» مُريدِه القديم، وذكره بالنخلة والدوم والأيام الجميلة الماضية فطالبه الشيخ ببطاقته الشخصية، فعجب سعيد وقال إن المريد ليس في حاجة إلى بطاقة وإنه في المذهب يستوي المستقيم والخاطئ. فقال له الشيخ إنه يطالبه بالبطاقة ليتأكد من أنه من الخاطئين؛ لأنه لا يحب المستقيمين، فقدم له مسدسه وقال له ثمة قتيل وراء كل رصاصة ناقصة في ماسورته، ولكن الشيخ أصر على مطالبته بالبطاقة قائلًا: إن تعليمات الحكومة لا تتساهل في ذلك. فعجِب سعيد مرة أخرى وتساءل عن معنى تدخل الحكومة في المذهب. فقال الشيخ إن ذلك كله تم بناء على اقتراح الأستاذ الكبير رءوف علوان المرشح لوظيفة شيخ المشايخ. فعجب سعيد للمرة الثالثة وقال إن رءوف بكل بساطة خائن ولا يفكر إلا في الجريمة، فقال الشيخ إنه لذلك مرشح للوظيفة الخطيرة ووعد بتقديم تفسير جديد للقرآن الشريف يتضمن كافة الاحتمالات التي يستفيد منها أي شخص في الدنيا تبعًا لقدرته الشرائية، وإن حصيلة ذلك من الأموال ستستغل في إنشاء نوادٍ للسلاح ونوادٍ للصيد ونوادٍ للانتحار، فقال سعيد إنه مستعد أن يعمل أمينًا للصندوق في إدارة التفسير الجديد، وسيشهد رءوف علوان بأمانته كما ينبغي له مع تلميذ قديم من أنبه تلاميذه، وعند ذاك قرأ الشيخ سورة الفتح، وعُلقت المصابيح بجزع النخلة، وهتف المنشد يا آل مصر هنيئًا فالحسين لكم … وفتح عينه فرأى الدنيا حمراء ولا شيء فيها ولا معنًى لها.» هذا الحلم يوجه أبصارنا إلى «جوهر» الأحداث المحيطة بشخصية سعيد مهران، وكأن الفنان يستخدم اللامنطقي في تفسير المنطق، أو هو يصوغ من الفوضى نظامًا … فبينما يتداخل الزمان والمكان والمعنى واللامعنى والحقيقة واللاحقيقة أثناء الحلم، يستخلص نجيب محفوظ من هذا التداخل، كل ما يعنيه من الزمان والمكان والمعنى والحقيقة. فالحلم يقع على أرض محددة هي بيت الشيخ علي الجنيدي، هذا المتصوف الذي عرفه سعيد منذ كان طفلًا يجري في ذيل أبيه إلى حلقات الذكر. والتصوف هو أحد الحلول التي يعرضها الفنان على الشخصية الفنية فيما يشبه الحياد والموضوعية. والمنتمي المأزوم يلجأ إلى التصوف كنافذة يستنشق منها عبير الحرية. ولكن الفنان لا يعزل هذه النافذة عن طبيعة «الهواء» الذي يدخل منها، فالخائن رءوف علوان يُرشَّح لتولي وظيفة شيخ المشايخ، وهو يعطي للقرآن تفسيرًا يتناسب مع ظروف خيانته. هذه الرؤية الحدسية لعالم الشيخ الجنيدي تقول إن الدين والتصوف لا يعنيان لدى سعيد مهران أكثر مما قاله عن العربة التي سرقها من أحد عشاق نور في وسط الصحراء «قضت الحكمة بأن أتركها رغم حاجتي إليها، سيجدونها ويردونها إلى صاحبها كما ينبغي لحكومة تتحيز لبعض اللصوص دون البعض» … هذه الحكومة بعينها هي التي قال عنها الشيخ جنيدي إنها أمرت بتوظيف رءوف علوان شيخًا للمشايخ. فالدين والحكومة إذن راضيان عن انهيار القيمة التي يمثلها رءوف؛ بل ينظمان رضاءهما هذا في نوادي الانتحار التي يُزمَع إنشاؤها. وكل ذلك إشارات رامزة إلى أن الشيخ علي الجنيدي لم يعد الملجأ الأمين لحماية المنتمي إبان أزمته. وربما كان بما يمثله من القيم الدينية أو التصوف إحدى المعوقات التي أسهمت في تكوين الأزمة منذ كان سعيد مهران طفلًا يهرول إلى حلقات الذكر. فها هو ذا يعود مرة أخرى إلى هذه الحلقات دون أن يستشعر فيها أمانًا حقيقيًّا.

ويضع نجيب محفوظ الصحافة كواحد من العناصر الخطيرة في بلورة المأساة. فقد طاشت رصاصات عديدة من مسدس سعيد وأصبح مطاردًا في كل مكان، وقالت له نور إن الجنود — كما تسمع — يملئون مخارج القاهرة «كأنك أول قاتل.» فصاحت أعماقه: الجرائد … الحرب الخفية. وجميع الجرائد سكتت أو كادت إلا جريدة الزهرة. إنها توشك أن تنادي ببطولته سعيًا وراء القضاء عليه. ويعمد الفنان إلى تأكيد هذه النقطة بإيضاح كامل، ذلك أن الصحافة في «اللص والكلاب» لم تكن مجموعة من الجرائد، وإنما كانت إحدى شخصيات «اللص والكلاب»، أو أنها — على التحديد — كانت واحدًا من الكلاب. فالصحافة التي أصبحت إحدى أدوات الانهيار في أيدي القائمين على تحطيم القيم هي بعينها التي أمست حارسًا لأحد جدران البناء المنهار. وهي لذلك شخصية مستقلة عن رءوف علوان، بالرغم من أن الصحيفة التي يعمل بها هي التي ظلت تنادي ببطولة اللص حتى يزداد عواء الكلاب. فرءوف علوان صحفي، ولكنه لا يمثل الصحافة في الرواية، وإنما هو ممثل قيمة الحرية التي تنادي بها الثقافة، سواء كانت هذه القيمة في ذروة تألقها أو في حضيض انحدارها. رءوف علوان كما يصفه سعيد تمامًا: «الطالب الثائر. الثورة في شكل طالب. وصوتك القوي يترامى إلى عند قدمَي أبي في حوش العمارة قوة توقظ النفس عن طريق الأذن. عن الأمراء والباشوات تتكلم. وبقوة السحر استحال السادة لصوصًا. وصورتك لا تُنسى وأنت تمشي وسط أقرانك في طريق المديرية بالجلاليب الفضفاضة وتمصُّون القصب. وصوتك يرتفع حتى يغطي الحقل وتسجد له النخلة. تلك هي الروعة التي لم أجد لها نظيرًا ولا عند الشيخ الجنيدي.» ولم ينسَ سعيد أيضًا أن رءوف هو الذي ضحك ضحكة عظيمة وهو يقول لوالده: انظر إلى عينيه، سيكون ممن يقوضون الأركان «وكان الزمان ممن يستمعون لك. الشعب … السرقة … النار المقدسة … الثروة … الجوع … العدالة المذهلة، ويوم اعتقلت ارتفعت في نظري إلى السماء، وارتفعت أكثر يوم حميتني عند أول سرقة ويوم رد حديثك عن السرقة إليَّ كرامتي. ويوم قلت لي في حزن: سرقات فردية لا قيمة لها، لا بد من تنظيم.» نجيب محفوظ يكشف أوراقه الفنية تمامًا بهذه الكلمات، فلم يكُن رءوف قيمة «مثالية» للحرية، وإنما هو مناضل يتحسَّس أرض الواقع الحي قبل أن يخطو بإحدى قدميه، ولذلك كان التنظيم السياسي والتدريب المسلح والكتاب الثوري بمثابة النجوم اللامعة في وجدان المنتمي إلى الشعب، وهو يزمع الإسهام في التغيير الجذري للمجتمع. لم يكن رءوف «قيمة» مطلقة، وإنما قيمة منحوتة بعمق من واقعنا العاري الممزق. لذلك كان سعيد مهران — من أحد جوانبه — هو رءوف علوان القديم الممثل لقضية الحرية والشعب. وسعيد مهران حين يخرج من سجن صغير ليحس بأنه يخطو بلا وعي داخل سجن كبير، يثور على القيد الأول من الأغلال، يثور على ممثل القيمة التي أهدرت، يثور على الجانب العظيم الذي انحدر. فيتمثل رءوف علوان والرصاصات الطائشة ويهمس في حقد: «ما أعبث الحياة إن قتلت غدًا جزاء قتل رجل لم أعرفه، فلكي يكون للحياة معنًى وللموت معنًى يجب أن أقتلك. لِتكُن آخر غضبة أطلقها على شر هذا العالم.» فإذا كان التصوف أو الدين لم يعُد هو الملجأ الأمين لحماية القيم، وإذا كانت فكرة الحرية أو الثورية قد اهتزت في وجدان المنتمي نتيجة لجذور بعيدة في الأعماق، أو لظلال قريبة ساقطة من غياب الحرية، وإذا كانت الصحافة هي الصدى الذليل للمأساة … فإن الأمل الباقي الوحيد هو هذه الملايين الفقيرة من أبناء الشعب. أولئك الذين تحدثوا عنه بإعجاب كما تقول نور «كأنك عنترة»، أو كما يقرر سعيد «أكثرية شعبنا لا تخاف اللصوص ولا تكرههم … ولكنهم بالفطرة يكرهون الكلاب.» هذا الشعب هو الأمل الوحيد الذي يدفع سعيد لأن يتصور أن اغتيال رءوف هو «الأمل الباقي في ألا تضيع حياتي عبثًا.» فقد أضحى رءوف قيمة للعبودية، ولذلك كان اغتياله — في نظر سعيد — يعني الحرية، يعني الانتصار للقيمة القديمة «إذ إن رءوف هو رمز الخيانة التي ينطوي تحتها عليش ونبوية وجميع الخونة في الأرض.» وهذا هو الفرق الحاسم بين أزمة المنتمي إلى أكثر القيم تقدمًا، وأزمة اللامنتمي الغربي في عالم بلا قيم. سعيد يعي جيدًا أن روح رءوف علوان تقمصته منذ أمد بعيد، روحه الثورية الرائعة، وأن رءوف الجديد هو الظل الباهت لأزمة الحرية في هذا المجتمع، ولكنه يصر إصرارًا مذهلًا على محاكاة دون كيشوت لمجرد أن يكون — في سيرته — شاهدًا أمينًا على المأساة: «الناس معي عدا اللصوص الحقيقيين، وذلك ما يُعزِّيني عن الضياع الأبدي. أنا روحك التي ضحيت بها، ولكن ينقصني التنظيم على حد تعبيرك، وأنا أفهم اليوم كثيرًا مما أغلق على فهمه من كلماتك القديمة، ومأساتي الحقيقية أنني رغم تأييد الملايين أجدني ملقًى في وحدة مظلمة بلا نصير، ضياع معقول ولن تزيل رصاصة منه عدم معقوليته، ولكنها ستكون احتجاجًا داميًا مناسبًا على أي حال، كي يطمئن الأحياء والأموات ولا يفقدوا آخر أمل.» وهكذا يضع نجيب محفوظ بشجاعة الفنان المؤمن بالقيمة التي رصد لها عمره، يضع النقط فوق الحروف، فنوقن أن غياب التنظيم الإيجابي المتكامل هو جوهر أزمة المنتمي الثوري، الذي يبدو لنا في أزمته كما لو كان متمردًا دون كيشوتيًّا. وهذا بالضبط ما كنت أعنيه حين قلت: إن رمزية «اللص والكلاب» هي مزيد من الواقع، هي تكثيف للواقع وتركيزه. فالفنان يتجاوز الواقع — إذ ليس هناك منتمٍ يجعل من الاغتيال الفردي رسالة في الحياة — ولكن الفنان وهو يتجاوز الواقع من ناحية الشكل فإنما لِيصور أبعد مدًى ممكن للكارثة المحدِقة بالمنتمي من جراء أزمة الحرية. وهو بذلك يكثف الواقع ويضخمه حتى لَتَكاد نهاية اللص والكلاب أن تصيح: إن الواقع أبشع مما تتصورون، إنه كفيل بخلق النماذج الثورية من حيث الجوهر، وإن ارتدت ثياب العدمية من الخارج. ويقوم حلم اليقظة بنفس الدور الذي سبق أن قام به الحلم أثناء النوم. في الجزء الأول من الحلم يقف سعيد في قفص الاتهام أمام المحكمة قائلًا: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص؛ إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه، وهو فرق عَرَضي لا أهمية له البتة. أما المضحك حقًّا فهو أن أستاذي الخطير ليس إلا وغدًا خائنًا، ويحقُّ لكم العجب، ولكن يحدث أن يكون السلك الموصل للكهرباء قذرًا ملطخا بإفرازات الذباب.» بهذه الكلمات يصوغ سعيد مهران مأساته الخاصة على نحوٍ شديد الموضوعية، فهو يرى ببصيرة نافذة أن لا فرق بين الوجود داخل القفص والوجود خارجه؛ ذلك أن قيمة الحرية عنده لا تحدها القضبان الحديدية الطارئة ما دام السجن الكبير يشمل الجميع … وإلا فكيف يمكن أن ندعو رءوف علوان حرًّا وهو الذي اغتال قيمة الحرية؟! إن هذا التناقض يُبرزه سعيد في إطار من الحلم حتى نستخلص نحن من الفوضى واللاتناسق ما يمكن تسميته بالمنطقي والمنسجم. فالقيمة التي اغتالها رءوف ما لبثت أن انتقلت إلى وعي سعيد وروحه، وأصبحت حياته مرادفًا للحرية. وفي الجزء الثاني من الحلم تنجلي هذه النقطة حين يقول سعيد: «كيف تطمئن على قضاتك وبينك وبينهم خصومة شخصية لا شأن لها بالصالح العام؟! إنهم أقرباء الوغد ويفصل بينك وبينهم قرن من الزمان. وأنت تطالب بشهادة الضحية. وتؤكد أن الخيانة باتت مؤامرة صامتة» … عندما نلتقط هذه الكلمات يجب أن نبادر بالربط بينها وبين مقدمة دفاع سعيد مهران، فقد طالب بأن يكون للثقافة اعتبار خاص … والفنان يُلح بصورة واضحة على ثقافة سعيد حتى لا نرتاب مطلقًا في نوعية النموذج البشري الذي يقدمه لنا، فهو ليس لصًّا أو قاتلًا — فهذه كلها ليست إلا أدوات تعبيرية — وإنما هو مثقف ينتمي إلى قضية غاية في الوضوح، إلا أن الأزمة التي يعيشها تمتد وتتسع حتى يسقط ظلها على كافة الفئات التي كان عليها أن تقف إلى جانب القضية. سعيد ليس قاتلًا، وها هو ذا يصيح من أعماق الحلم: «أنا لم أقتل خادم رءوف علوان، كيف أقتل رجلًا لا أعرفه ولا يعرفني؟ إن خادم رءوف علوان قُتل لأنه بكل بساطة خادم رءوف علوان، وأمس زارتني روحه فتواريت خجلًا، ولكنه قال لي: ملايين هم الذين يُقتلون خطأ وبلا سبب.» ومعنى ذلك أن نجيب محفوظ لا يستهدف مطلقًا من رصاصات سعيد الطائشة أن يؤكد العبث والقدرية وما إليها من مرادفات المجهول، ولا هو يريد أن يؤكد الإحساس باللامبالاة عند إنسان لا منتمٍ؛ بل هو يريد أن يؤكد بصورة قاطعة أن مجموع هذه الرصاصات هو مجموع المحاولات الحقيقية المتعمدة من جانب سعيد لكي «يصحح وضع» القيمة التي أهدرها رءوف؛ لكي يعيد إلى الحرية معناها السليب. إنه لا يتحرر بمعنًى ذاتي أثناء عملية القتل، وإنما هو يحس بحرية الآخرين تتحقق مع حريته في آن واحد. لذلك كانت «القيم الزائفة حقًّا هي التي تُقَدر حياتك بالملاليم وموتك بألف جنيه.» ثقافة سعيد إذن ليست ذلك النوع من القراءات الرخيصة، إنها المعاناة الكاملة لفكرة الحرية التي لم تفارقه لحظة منذ خروجه من السجن. فالمأساة في نظره أن الأزمة استطاعت أن تغتال رءوف علوان كما اغتالت صوت الشعب «وعطف الملايين عليك عطفٌ صامت عاجز كأماني الموتى.» ولهذا كانت حياة سعيد مهران ذات دلالة خطيرة، هي أنها ليست صراعًا من أجل البقاء الذاتي — فقد ذابت هذه الذاتية عندما تلاشت قضية نبوية وعليش — وإنما هي صراع من أجل بقاء أكبر «إن من يقتلني إنما يقتل الملايين. أنا الحلم والأمل وفدية الجبناء. وأنا المثل والعزاء والدمع الذي يفضح صاحبه، والقول بأنني مجنون ينبغي أن يشمل كافة العاطفيين، فادرسوا أسباب هذه الظاهرة الجنونية واحكموا بما شئتم.» إن أزمة الحرية التي يعانيها المنتمي ترمي ظلالها على القضية التي ينتمي إليها، فيصاب الشعب بسلبية مريرة تكتفي بأن تستودع آمالها وأحلامها في كلمات العطف التي تسكبها بلا تردد على بطولة المنتمي المأزوم. وهي بطولة تراجيدية بلا ريب؛ لأنها تتضمن انكسارًا وانقسامًا بين شخصية المناضل الثوري من أجل الحرية وشخصية الفرد المهزوم في غياب الحرية. هي بطولة تراجيدية أيضًا لأنها تجسم قضية الوعي الثوري من خلال أزمة هذا الوعي … فقد حدث الانفصام الكامل بين القضية والانتماء الإيجابي المتكامل في اللحظة التي أشار فيها سعيد إلى غياب التنظيم. وهي بطولة تراجيدية للمرة الثالثة؛ لأن صاحبها واجه بمفرده كافة القوى الصانعة للمأساة، من نبوية وعليش إلى الشيخ الجنيدي الذي يوجه إليه سعيد عند نهاية الرواية هذه الكلمات: «من المؤسف أنني لم أجد عندك طعامًا كافيًّا، كما هو مؤسف أنني نسيت البدلة، كذلك عقلي يتعذر عليه فهمُك، وسأدفن وجهي في الجدار، ولكنني واثق من أنني على حق.» دمغ تجيب محفوظ مختلف القيم التي يمثلها الشيخ الجنيدي بأنها حالَفَت قوى المأساة في صنعها. بل إن اختيار الفنان لقصة محمود أمين سليمان من أعماق الواقع المصري، هي إدانة مباشرة لمؤامرة الصمت التي أحيطت بها قضية الحرية حينذاك من جانب بعض الطبقات والطلائع المثقفة والمنابر الفكرية على السواء. فلا شك في أن نجيب محفوظ لا يتجاهل مطلقًا أن القارئ «للص والكلاب» لن ينسى المرادف الواقعي لها في قصة محمود أمين سليمان، ومن ثم يشارك هذا التذكر في عملية التفاعل بين النص الأدبي والقارئ؛ بحيث يتم هذا التفاعل وفي ذهن المؤلف، وفي عقليته الخالقة إحساس عميق بأن هذه الخلفية من وراء القارئ سوف تساعده على اكتشاف ما يستغلق عليه من رموز. فالفتاة «سناء» التي آثر سعيد أن يدعوها بالشوكة المنغرزة في قلبه، وكذلك نور المومس التي أحبته بكل كيانها، هاتان الشخصيتان هما الرباط الوثيق الذي يصل بين سعيد مهران والمجتمع الذي ينتمي إلى أكثر قضاياه حدةً وإلحاحًا، هما همزة الوصل بين فردية الذات وقضية الانتماء الأكبر إلى المجموع. لهذا أكد سعيد لنفسه قرب النهاية أنه سيحتوي نور بين ذراعيه بكل قوة «ويعترف لها من قلب ممزق بالحب الأبدي.» وانتهت الرواية دون أن يرى نور أو سناء «وقالت حياته كلمتها الأخيرة بأنها عبث.» وهكذا يتبلور العبث في «اللص والكلاب» على نحو مختلف عن العبث في الأدب الأوروبي الحديث. العبث هنا لا يكمن في سر الوجود الصامت، وإنما في كيان المجتمع والحضارة التي لا تمنح للمنتمين إليها فرصة التحقيق الذاتي الكامل للحرية. وهي مرحلة من أخطر المراحل التاريخية التي عرفتها مصر. وقد بلغ نجيب محفوظ درجة عالية من الشجاعة والنضج في تجاوز مرحلة «أولاد حارتنا» التي تعتمد على تقديم المنتمي المفترض إلى مرحلة تقديم المنتمي الواقعي المأزوم في «اللص والكلاب». وأعود إلى القول بأنه إذا كان الرمز في «أولاد حارتنا» هو غياب ظاهري للواقع، فإن الرمزية في «اللص والكلاب» هي المزيد من الواقع، هي تكثيف الواقع وتركيزه … ولذلك كانت «اللص والكلاب» هي قمة التعبير الثوري عن قضية القضايا في حياة المنتمي اليساري المصري. ولكن نجيب محفوظ الذي جعل من أزمة المنتمي محورًا فكريًّا لأدبه، كان ما يزال يرى أبعادًا جديدة لهذه الأزمة. ذلك أن كمال عبد الجواد وسعيد مهران يصوغان أزمتهما في إطارها العام الذي يجسد القضية في خطوطها العريضة دون تفصيل. ومن هنا أقبلت «السمان والخريف» خريطة تفصيلية لأزمة الانتماء. إن جوهر القضية لم يتغير حقًّا، ولا وجهة النظر إلى هذه القضية، ولكن التجسيم الفني لها كان يعتمد على ظلال الماضي وبوادر المستقبل. وإن اتخذ من الحاضر خامةً أساسية للعمل الفني.

•••

ليست الرمزية في «السمان والخريف» من اللون الأسطوري في شيء. ولا هي تركيز لواقعية الواقع، حتى ليبدو «غير واقعي» في مظهره. وإنما «السمان والخريف» تقرب من أن تكون معادلة حرفية للواقع المباشر، ويكاد حل المعادلة أن يكون بين يدي القارئ منذ السطور الأولى. فقد كان اختيار الفنان لحريق القاهرة كنقطة انطلاق فنية للأحداث هو المفتاح الرئيسي الذي يمنح هذه الأحداث دلالاتها العامة والخاصة. فنحن هنا على النقيض من «اللص والكلاب»، لا نبدأ من نقطة انطلاق ذاتية كخروج سعيد من السجن. لننتهي إلى رحاب قضية عامة تبلورت في مصرع سعيد من أجل القيمة العزيزة التي أهدرها رءوف … كلا، إن «السمان والخريف» تبدأ من نقطة انطلاق موضوعية تمامًا تَمَسُّ كيان هذا المجتمع، وتشير إلى جوهر المأساة التي تخوضها حضارتنا. فلم يكن حريق القاهرة في واقعنا المصري إلا تجسيدًا بشعًا للمدى الذي ساقنا إليه انهيار قيمة القيم في حياتنا: الحرية! فقد تجمعت المؤامرات الصامتة ضد هذا الشعب وأفرخت هذا الحريق الهائل تأكيدًا مُلِحًّا على أن ذروة التآمر على حريتنا بلغت الذروة، ولا بد من أن هناك لحظة تغير هائلة، سواء كانت إلى الوراء خطوات أو إلى الأمام خطوة. ومن إرهاصات لحظة التغير هذه، بل من خلالها، يلتقط نجيب محفوظ نماذجه البشرية: عيسى أحد أبناء الوفد، وحسن أحد أبناء ٢٣ يوليو، وسمير أحد أبناء التصوف، وعباس أحد أبناء الاستسلام. ويبرز عيسى بالذات من بين هذه النماذج جميعها بطلًا تراجيديًّا كامل السمات؛ فهو يحمل الماضي العزيز بين حناياه على الرغم من أن الحاضر يسحق بكل قوة كافة الأواصر التي تربط بين الاثنين. إنهم جميعًا ينتمون إلى شيء يستريحون إليه، ولكنه هو — بالتحديد — منتمٍ إلى ماضٍ يؤرقه ويعذب أيامه ولياليه. بل إن مجرد الانتماء إلى الماضي في قلب الحاضر يجعل من بطولة عيسى تراجيديا عميقة. ولقد أفاد الفنان إلى حد مذهل من أن القارئ عاصر الأحداث الخالقة للمأساة، تمامًا كما أفاد منها في «اللص والكلاب». فهو يستغل هذه المعاصرة كأحد العوامل في بناء العمل الفني، أو كمفتاح واقعي إلى العالم غير الواقعي حتى يظل الواقع همزة الوصل الفريدة بين القارئ والعمل الفني. ولما كانت أزمة الانتماء في «السمان والخريف» قريبة الشبه من الأزمة التي عالجتها سيمون دي بوفوار في روايتها الكبيرة «المثقفون» فإننا سنضطر إلى المقارنة مرارًا بين الروايتين في المواضع التي تضيء لنا «السمان والخريف».

«احرِق خرِّب … يحيا الوطن» هذا هو الشعار الذي رفعته المؤامرة التي خرجت عن صمتها لتعلن على الملأ أن حرية الإنسان في هذا البلد يجب أن تظل للأبد حلمًا لا يغيب عن ليالي السهاد، ولا يتحقق مطلقًا في عالم النور. ولهذا يضطر الحزب الذي لم يذكر الفنان اسمه على طول الرواية، الحزب الذي عاش حياته مكافحًا صلبًا عنيدًا من أجل الديمقراطية، اضطر إلى إعلان الأحكام العرفية! فإذا أبدى عيسى دهشته صفعته سخرية أحد باشوات الحزب بقوله إنها لم تعلَن من أجل الحزب ولا من أجل العهد، وإنما هي جزء لا ينفصل عن المؤامرة. والدهشة الساذجة هي إحدى السمات المهمة في وجه عيسى، فهو لا يفتأ يردد «من العجيب أننا لا نكاد نستقر في الحكم عامًا حتى يُقذف بنا خارجه أربعًا، ونحن الحكام الشرعيون ولا حكام شرعيين غيرنا في البلد» … أي أن انتماء عيسى إلى حزب الأغلبية يمنحه الإحساس العميق بأن «البقاء في السلطة» هو الهدف النهائي للكفاح، وأن هذا البقاء يبلغ من قوته أنه لا يقل عن «الشرعية»، وأنه لولا الخونة لأوقف الملك عند حدوده الدستورية ولتحقق الاستقلال. هذه هي صورة «الانتماء» السياسي عند عيسى. الصورة التي احترقت مع النيران عند اجتياحها القاهرة يوم ٢٦ يناير عام ١٩٥٢م فاجتاحه الحزن العميق «الدنيا تتغير وآلهته يتَفَتَّتون بين يديه.» هذه الصورة هي النقيض لما كان يراه شاب آخر هو «حسن» الذي يجسم في تكوينه الفني إرهاصات ٢٣ يوليو، ولهذا السبب يعارض عيسى — ابن عمه — قائلًا إن «الحل» هو أن يذهب الإنجليز والملك والأحزاب «وأن نبدأ من جديد.»

والحق أن قَرابة عيسى وحسن، ثم قصة الفتاة سلوى — ابنة أحد المقربين من السراي — التي أحبها حسن ولكن عيسى سبقه إلى خطبتها بما لديه من شبح رجل النفوذ … أقول: إن هذه الإشارات الذكية من الفنان، تدلنا على طبيعة الحركة الاجتماعية التي فجرت ثورة ١٩٥٢م على الرغم من أنها إشارات «ذاتية» تنبثق من واقع الأفراد حتى تتحول العلاقة بين ذواتهم والواقع العام إلى علاقة التفاعل الخصب الذي يولد المزيد من الدلالات على عمق المأساة من جهة، وأهمية الصراع بين الموقف الذاتي والموقف الموضوعي من جهة أخرى. لذلك تتم خطبة عيسى إلى سلوى في الوقت الذي تتم فيه جنازة قلب حسن. وبين عيسى وحسن — بالرغم من رابطة الدم — مسافة الانتماء إلى الماضي العزيز، والانتماء إلى الحاضر المرتقب. والأحداث التي تطور بها المجتمع فيما بعدُ تطورت بها أيضًا قيمُه وعلاقاته؛ بحيث يستوجب الأمر — من الفنان — إعادة النظر في قصة الخطبة هذه التي كانت معيارًا دقيقًا للتحول السياسي … فقد تفجرت ثورة ٢٣ يوليو، وعانى عيسى طوال الوقت «من عواطف متضاربة أطاحت به في دوامة ما لها من قرار، شعر بفرحة كبرى عزَّت على التصديق والتأمل، وشفت صدره من آلام المقت المكبوت، ولكن هذه الفرحة لم تنطلق إلى ما لا نهاية، وإنما ارتطمت بسحائب دكناء كدرت بعض الشيء صفاءها. أهو رد الفعل الطبيعي لكل شعور عنيف؟ أهو رثاء تجود به النفس المطمئنة أمام جثة غريمها الجبار؟ أم أن تحقق هدف من أهدافنا الكبرى يعني في الوقت ذاته زوالَ سبب من أسباب حماسنا للوجود؟ أم أنه عزَّ عليه أن يتحقق هذا النصر الكبير من غير أن يكون لحزبه الفضل الأول فيه؟» والحق أن هذا التساؤل الأخير هو الجدير بالالتفات الشديد إلى جوهر مأساة عيسى. فالثورة في صباح ٢٣ يوليو أعلنت أن ما سبق فجرها كله ليل وظلام، ومن ثم كان التنظيم السياسي الذي ارتبط به وانتمى إلى قِيَمه طيلة عمره جزءًا لا ينفصل عن الليل والظلام فهو إذن يعيش في نور عالمٍ لا ينتمي إليه. الانتماء إلى الماضي هو حجر الزاوية في مأساة «السمان والخريف». فالبناء الروائي ينطلق من هذه النقطة إلى ملامسة الانتماء إلى الحاضر، ثم يشير إلى الانتماء إلى المستقبل … ويبقى «الماضي» هو المحور الدرامي للمأساة. وليس الماضي هنا هو حزب الوفد فحسب؛ بل هو مجموعة القيم التي شيعتها الثورة إلى مثواها الأخير، القيم التي كونت جيلًا كاملًا على تراث ١٩١٩م وسعد زغلول ومعنى الديمقراطية. ولما كان هذا الجيل كامل التكوين من جميع جوانبه النفسية والفكرية، فقد كانت مفاجأة مذهلة أن يصاب هذا التكوين بما يشبه السكتة القلبية، إذ هو قد أحس وهو في قمة الإحساس بالمسئولية عن هذا الوطن، أن غيره جاء ليقول له في ثقة: شكرًا، لقد أعفيناك من المسئولية. وهذا ما حدث بالضبط. فقد كان اعتماد الثورة كاملًا على أبنائها الذين تربَّوا في أحضانها وشربوا قيمها … فلم تكن بحاجة إلى قيم «الماضي» مهما كانت درجة تقدُّمِيتها في إحدى المراحل. وهذا هو الفراغ الوحشي الذي التهم كيان عيسى بلا تردُّد، فهو يحس — فجأة — بأن الأرض تغور من تحت قدميه ولا يلبث أن يتهاوى في قاع اليأس الذي لا قرار له، إنه لم يكن يومًا واحدًا من الضائعين أو المضطهدين أو هواة الطريق القصير أو المسدود أو السراب … لقد كان منتميًا من نوع خاص يسلكه في عداد فهمي وحسين وغيرهما، ممن كان الانتماء في حياتهم مرحليًّا، وبمعنًى أدق، مقصورًا على الارتباط بأهداف موقوتة بمرحلة معينة. والمأساة أن المنتمي المرحلي لا يدرك هذا المعنى؛ بل إن انعدام إدراكه هو بداية مأساته. و«السمان والخريف» لذلك، هي المأساة التي تفجر في وعينا هذه الحقيقة: إن الانتماء المرحلي قصير العمر ويحمل في ثناياه بذور الكارثة. والفنان يصور الانتماء إلى الحاضر من خلال حسن دون أن يحيطه بهالة المأساة، ويرجع هذا لسببين واضحين؛ أولهما: أن الحاضر لم يتحول إلى ماضٍ بعد، والسبب الآخر: أنه يكتفي بمأساة عيسى مثلًا على نهاية هذا النوع من الانتماء. ثم يجسم «البديل» الحقيقي عن المأساة بالانتماء الدائم إلى المستقبل كما ترى في الشخصية التي يلتقي بها عيسى في نهاية الرواية. ولقد كان موقفًا رائعًا أن يقابل الفنان بين الماضي والمستقبل، مُتخذًا من الانتماء قضية مسلمًا بها؛ إذ هي القدر التاريخي لأجيالنا، ثم يفصل في القضية من وجهة نظر شديدة التحديد، وهي أن الانتماء الإيجابي المتكامل، هو الانتماء اليساري المنظم الذي لا تقتصر أهدافه على مرحلة بعينها؛ بل هو يبتغي الثورة الحضارية الشاملة، إنه الانتماء الثوري إلى النهاية.

ونجيب محفوظ يزاوج بين المأساة في بُعدها السياسي الموضوعي، وبين ظلالها الخاصة على وجدان المنتمي الممزق. فلا تلبث سوسن أن تهجُر عيسى إلى حسن، فانتماؤها هي الأخرى مرحليٌّ لا يعمق جذوره في شيء واضح محدد. وتساءل عيسى — يقول الفنان — لماذا قُدر عليه أن يحارب التاريخ في موكبه المتدفق منذ الأزل؟ وقال سمير — أحد أصدقائه — في حزن: كنا طليعة ثورة فأصبحنا حُطامَ ثورة! وتوطد نزوع عيسى — أخيرًا — نجو تدمير نفسه، فقد أصبح مستقبله، كما يقول، ماضيًا. بهذا كان سفره إلى الإسكندرية — للإقامة لا للتصييف — يشبه إلى حد كبير احتماء سعيد مهران بمنزل نور المطل على القرافة. عيسى في الإسكندرية وسعيد في مدينة الموتى، عرفا الطعم الحقيقي للغربة والعبث. وكما كان سعيد يردد أن هذا المكان يحتوي على السارق والشرطي في سلام لأول مرة وآخر مرة، راح عيسى يردد هؤلاء الأجانب الذين طالما أسأت بهم الظن «أنت اليوم تحبهم أكثر من مواطنيك وتلتمس عندهم العزاء؛ إذ إن جميعكم غرباء في بلد غريب.» ويُخيل إليَّ أن عزل كل من سعيد وعيسى في مكان ما هو إحدى الحيل الفنية التي يلجأ إليها نجيب محفوظ ليستخلص عذابات هذا الفرد من أعماقه التي تنتمي — في جوهرها — إلى قيم غير فردية، ومن غير المعقول أن تتم عملية الاستخلاص هذه في ضجيج العلاقة الاجتماعية مع الآخرين. وفي جملة واحدة يبرر الفنان انفراده بالبطل — المنتمي المهزوم — عندما يقول عيسى: «دفنتنا الأحداث ونحن أحياء، وما هذه الآلام في الحقيقة إلا أضغاث أحلام تحترق في رأس ميت عفن.» أو عندما يتساءل في مرارة: «لِمَ تأكل هذه الأرض الأم أبناءها عند المساء؟ وكيف يكون للحجر دور في المسرحية، وللحشرة دور، وللمحكوم عليه في الجبل دور، وأنا لا دور لي؟» وكما كان العبث عند سعيد مهران في أساسه هو العبث الاجتماعي المحض، أي أن تكون البداية إلى الإحساس بالعبث والغربة بداية اجتماعية مصدرها إهدار إحدى القيم، كذلك كان العبث والغربة في حياة عيسى «مع أي عمل سنتَّخذه سنظل بلا عمل؛ لأننا بلا دور، وهذا سر إحساسنا بالنفي، كالزائدة الدودية.» فهو إذن، مع الكأس والمرأة والعذاب واللامبالاة، لا يعاني من وحدة وجودية على الإطلاق، وإنما هو يقاسي ويلات الإعفاء المفاجئ من المسئولية والالتزام، ويلات الانتماء القصير الأجل، الانتماء المرحلي الذي انتهت مرحلته، فأصبح المنتمي في فراغ شامل وغربة مدمرة، غربة عن نور العالم الجديد وعزلة عن الانتماء إليه.

وبالرغم من أن الفنان يعرض لشخصية أخرى كانت تسخر فيما مضى من عيسى، وأضحت الآن في صفوف القيادة، وهي شخصية حسن ابن عمه … إلا أنه — أي الفنان — لا يقدمها بديلًا عن مأساة عيسى. إن حسن في العهد الجديد يعيش دوره كاملًا، ولكن في ظل الانتماء المرحلي بعينه. ولهذا أعتقد أن رابطة الدم التي تربطهما هي إشارة رامزة إلى القرابة الواقعية بين موقفيهما. فإذا كانت حياة عيسى السياسية قد انتهت إلى مصير تراجيدي حاد، أما حياة حسن فقد بدأت على نحو مختلف، إلا أنهما معًا لا يختلفان من حيث الارتباط بمعنًى واحد للانتماء. وسواء كانت سلوى من نصيب حسن اليوم ومن نصيب عيسى بالأمس فإنها لا تصور تحوُّلًا جذريًّا في الحياة المحيطة بعيسى. فقد كان هذا التحول الجذري من الملامح الأساسية في شخصية «ريري»، وهي تشبه نور إلى حد كبير مع اختلافٍ في التفاصيل من جهة، واختلاف في موقف كلٍّ من سعيد وعيسى من جهة أخرى. لقد كان كلٌّ منهما بطلًا تراجيديًّا، ولكن سعيد يمثل بطولة المنتمي المأزوم؛ بينما يمثل عيسى بطولة المنتمي المهزوم. والفرق بين البطولتين يُبيِّن إلى أي حد كان الفنان مُوفَّقًا في أن يتخذ سعيدٌ من نور موقفًا مختلفًا تمام الاختلاف عن موقف عيسى من ريري. ذلك أن موقف سعيد من نور هو البديل الموضوعي عن موقفه من المجتمع، أما موقف عيسى من ريري، فهو موقفه من الذات، موقفه من نفسه «إن ثمة أوجه شبه تجمع بينه وبين هذه البنت؛ فكلاهما ملوَّث وطريد»، وهكذا في عبارة تقريرية مباشرة يؤكد نجيب أن ريري كانت المرآة التي يرى فيها عيسى نفسه عريانًا «وازداد إيمانًا بأوجه الشبه التي تجمعه بهذه البنت» … فالعلاقة بينهما لن تكون بحال علاقة الرثاء والعطف؛ لأن الشفقة من أحد الجانبين تعني اختلاف مستويَيْهما، أما إذا كانت ريري هي عيسى بعينه (وهو منهج نجيب محفوظ في التعرف العميق على انقسام الشخصية، كما فعل بسعيد ورءوف في «اللص والكلاب»، أو كما فعل بكمال عبد الجواد في الثلاثية؛ إذ كانت ريري هي عيسى) فالعلاقة بينهما إذن هي علاقة الند للند، هي علاقة صراعية مستمرة، وهو صراع في أعقد المستويات وأعمقها لأنه صراع الذات. ويمهد الفنان لهذا الصراع تمهيدًا عفويًّا يشعرك بالحركة الطبيعية لتطور الأحداث، فقد تزوج عيسى في ملل من بلادة الحياة من حوله. تزوج من مطلقة لا تجيد شيئًا سوى الثراء. كذلك ماتت أمه «ولم يستطع أن يقاوم الإغراء الأبدي، فألقى بنظرة طويلة إلى جوف القبر»، «هذا هو المصير الأخير لكل مسكين وجبار، أجل ولكل جبار!» ويحس بالجو كله ملفعًا بالهجران، وتلح عليه رويدًا رويدًا صورة الهجران، ويتحول العالم في عينيه إلى رؤًى من الأشباح. وعلى هذا النحو تعانق نهاية «اللص والكلاب» نهاية «السمان والخريف». فكلمات مثل النفي، الهجران، الغربة، العبث، الوحدة … تتردد في كلا النهايتين؛ إذ لم يعد في الوجود الاجتماعي ما يدفع بالسأم إلى ما وراء القبور، فإذا كانت الحياة الاجتماعية للفرد مجرد عبث، فلا شك في أن هذا ما يدفعه إلى تجريد الموقف كله والنظر إليه كإنسان يحاكم وجوده، ومن الطبيعي أن يصدر الحكم بالعدم. أي إن الموقف العبثي هنا لكل من سعيد وعيسى هو رد الفعل الطبيعي للموقف الاجتماعي المتأزم أو المهزوم، فما دام الوجود الاجتماعي فارغًا من الحرية والكرامة، فما من سبب يدعونا لاعتبار هذا الوجود موجودًا؛ بل ينبغي أن نقلبه رأسًا على عقب — ولو في عقولنا ووجداننا — فيصبح الوجود عدمًا! وريري هي مرآة الوجود العدمي الذي يراه عيسى كامنًا في أعماقه. إن هزيمته رابضة في تكوينه الذاتي. فكثيرًا ما عرض عليه حسن أن يعمل بإحدى الشركات، وكثيرًا ما أحس بالغبطة لأن الثورة تنجز وتحقق الوعود التي لاكها حزبُه طيلة رُبع قرنٍ أو يزيد. ولكنه بين قلبه وعقله كان منقسم الشخصية؛ إن «العمل» الذي يبحث عنه عيسى ليس هو التوظف لدى إحدى الشركات ولو مديرًا لها! «لو حظِيت بعشرات الأعمال فسوف أظل بلا عمل». «العمل السياسي» والانتماء هو لُباب المشكلة، أما حديث حسن عن العمل بالشركات «فإنه يزيد انقسام الشخصية حِدَّة، فهو يدري أن الذي أضاع حزبه الجبار لم يكن سوى التساهل في أواخر عمره الحافل بالعناء والإصرار، وأن شخصيته وحب زوجه له ومجاراة حماته لرغائبه، كل أولئك لم يدفع عنه ذلك الإحساس المؤلم. وقال عيسى لنفسه إن التعاسة تبدو قاسمًا مشتركًا أعظم بين الناس جميعًا، وتساءل عن السر الخفي المسئول عن هذا العبث.» وفاجأه الراديو يومًا بقرار تأميم شركة قناة السويس، ارتفعت حرارة اهتمامه الخامد لدرجة الغليان. لهث في لهفة كأيام زمان. وما لبث أن أغرقه مد الحماس الذي اجتاح الجميع. وافتقد، بألم شديد، الأصدقاء الغائبين لحاجته إلى تبادل الرأي معهم. واعترف بذهولٍ أنه عمل كبير حقًّا لدرجة أنه لا يصدق. بذلك أقر عقله. أما قلبه فغاص في صدره كالمريض وأكله الحسد. إنه ينذعر كلما قامت قمة في الحاضر تُضاهى القمم التاريخية التي يعيش على ذكراها. وشعر بألم التمزق في منطقة الجذب والشد الفاصلة بين شطرَي شخصيته المنقسمة»، «وهجم اليهود على سيناء، بذلك لطمته الصحف ذات صباح. وزلزله الخبر. وجالَس الراديو يتابع الأنباء بانتباه منصهر. انفعل بالنبأ لحد الهذيان. ودار رأسه بأفكار حتى أصابه الدوار. أجل تأرجح مصير الثورة في الميزان، ولكن انفجر شعوره الوطني فطغى على كل شيء. غضب الغضبة الجديرة بالوطني القديم الذي كاد يدركه الموت. الوطني القديم الذي تعذب بالرغم من تلوثه من أجل مصر. تشبثت قدماه بحافة الهاوية التي تهدد وطنه بالضياع. وأبعد عن فكره الثورة ومصيرها ليحتفظ بمشاعره في أوج انفعالها، ومحا بقوة إرادته المشاعر المتناقضة التي تدب تحت تيار وعيه المتدفق» … في هذا الوقت بالذات كان عيسى يعرف ريري، بمعنًى أدق كان يواجه ذاته: ريري المومس الفقيرة البطلة، هجرت أهلها وعشيرتها وبلدها لأنها جرُؤت على خطيئة الحب والجنس كما قيل لها، وها هي ذي تواجه عالمًا وحشيًّا لا يعترف لها بآدميتها. ولا يمنحها الفرصة لأن تعيش حرة كريمة. إن حريتها — كما قال عيسى تمامًا — هي أن تتحرر من الحاجة إليه وإلى أمثاله. ريري هذه التحمت حياتها بحياة عيسى منذ اللحظة التي نامت معه على فراش واحد، وتحت سقف واحد، منذ اللحظة التي اعتبرت فيها بيته هو بيتها، منذ اللحظة التي استقبلت فيها أحشاءها «شيئًا ما» من جسد عيسى ونفسه ووجدانه وعقله، أو منذ اللحظة التي توحدت فيها مع الشخصية المنقسمة على ذاتها أبدًا … ولكن أي جانب من جوانب الذات المنقسمة كانت تمثل ريري؟ فعندما نقول إن ريري كانت مرآة عيسى لا نتوهم أنها تمثله تمثيلًا كاملًا؛ بل هي تعادل جزءًا عزيزًا من نفسه. فما هو هذا الجزء أو الجانب؟ لقد التقى بها وهو في حالة نفسية مدمَّرة، فهو يقول تارة: إن الموت أهون من الرجوع إلى الوراء. وأخرى يقول: لئن نبقى بلا دور في بلد له دور خير من أن يكون لنا دور في بلد لا دور له. ومرة يصيح: أي مصيدة وقعنا فيها! إنه التخبط والتمزق والعذاب، إما أن نخون الوطن أو نخون أنفسنا، ولكن الهزيمة في هذه المعركة تعني بالنسبة لي شيئًا أفظع من الموت. وألهمه الظلام بالاندفاع نحو أمل النصر أشياء كثيرة ذابت في الظلمة فنسي الماضي والمستقبل وتركز في نشدان النصر «… فتحرك في أعماقه نبعٌ للحماس أوشك أن يدفعه إلى التضحية. وعند تسكعه نهارًا قرأ في مئات الوجوه مشاعر كالتي تشده إلى الحياة رغم الغبار والفناء وشائعات الأنانية … أمسى كالغريق لا يفكر إلا في النجاة، وخُيل إليه أن الحاجز القائم بينه وبين الثورة يذوب بسرعة لم تخطر له ببال من قبل» هكذا كانت حالته النفسية، حالة الانتماء المهزوم، فسرعان ما تهاوى في فتور عميق كُتَل من رماد «انقلب فكره إلى ذاته، وغاص مرة أخرى في الظلمات.» ونسي كل شيء، حتى التاريخ ونحسه وعايش اللذة في جنونها. وفي خط موازٍ لهذا التطور النفسي، كانت تمضي قصته مع ريري، فقد رفض هذه الصورة من نفسه، رفضها بكل عنفٍ. واستنكر أن يكون أبًا للجنين الذي يتكون في أحشائها لأنه سيكون ابن الليالي السود. إنه يفاجأ بعدئذٍ بريري تتبدل وتتطور إلى صورة لم تخطر له على بال، فهو يراها جالسة على مكتب بأحد المحال تتصرف كأنها صاحبته «وما أشبه ريري في مجلسها بالمحل بالنادي السعدي حين يمر أمامه أحيانًا، أو ببيت الأمة، جميعها حيوات قُضي عليها بالموت المبكر ولا يجني منها إلا الحسرات» … ولكن ريري لم تعد ريري، لم تعد تلك الفتاة التي تبيع جسدها لكل عابر سبيل، بل هي — ويا للعجب — الإنسانة الوحيدة التي أعطته صفة «أب» إذ رأى معها فتاة صغيرة تشبهه إلى درجة المطابقة. إنها ابنته لا ريب في ذلك. يجيء الخصب والأمل من سهاد الليالي السود؟! والخراب والعقم كامن في تلك المرأة التي تزوج منها الثراء؟! ليست ريري إذن مجرد مومس عابرة في حياته، كما أن المرأة المطلقة التي تزوج منها المال والعقم والتعاسة ليست مجرد امرأة ثرية! إن رمزية «السمان والخريف» تبتعد عن أن تكون غيابًا ظاهريًّا للواقع كما هو الحال في «أولاد حارتنا»، كما أنها ليست مزيدًا من الواقع كما هو الأمر في «اللص والكلاب» … إن رمزية «السمان والخريف» نابعة من توازي الصور والخطوط والأحداث والشخصيات والمواقف والتقابل بينها جميعًا. فالخصب والعقم الذي تبرزه الأحداث وتؤكد عليه شخصيتا المرأة الثرية وفتاة الليل، يرمى به المؤلف إلى الخصب والعقم الذي يعيش في شخصية البطل التراجيدي — المنتمي المهزوم — حتى الأعماق. فالهزيمة هي التمسك العنيف بالماضي، سواء كان الماضي هو الحزب السياسي أو الزوجة المطلقة الثرية … والنصر هو الانتماء الإيجابي المتكامل إلى الثورة الأبدية، الثورة الحضارية الشاملة … وعندما يتأكد لدى عيسى أن ابنة ريري هي ابنته، عندما يعي هذه الحقيقة يعدل «بصفة حاسمة عن التفكير في الهرب. لقد اعتاد أن يهرب مرات في اليوم الواحد ولكنه لن يهرب أمام هذه الحقيقة الجديدة التي اجتاحت مستنقع حياته الراكد فتفجر عن ينابيعَ حارَّة. لعلها دعوة أخيرة يائسة إلى حياة ذات معنًى. معنًى في حياة أعياه أن يجدلها معنًى. لن يهرب. وليس في مقدوره أن يهرب، وسيواجه الحقيقة بوجه متحَدٍّ، وبأي ثمن، أجل بأي ثمن»، «عبث أن يواصل حياة كاذبة يجتر فيها أوهامًا ماضية ولا مستقبل لها. إن قلبه لا يخفق بحب شيء وها هي ذي فرصة سانحة كي يخفق حتى الموت»، «يجب أن تُقتلع هذه الحياة الكاذبة من جذورها». إن التقابل بين الخصب والعقم هو تقابل بين الانتماء إلى المستقبل، والانتماء إلى الماضي. ونجيب محفوظ، يرفض بذلك أن يكون الانتماء إلى الحاضر حلًّا، فقد دمغ كل انتماء مرحلي، لأنه — في جوهره — انتماء إلى قيم طبقة ثورية في مرحلة ما، أما الانتماء الإيجابي المتكامل، فهو الانتماء إلى قيم طبقةٍ ثورية إلى النهاية، بمعنًى أدق الانتماء إلى الثورة الأبدية التي أشار إليها أحمد شوكت في «السُّكرية» ورددها من بعده كمال عبد الجواد وهو في مفرق الطرق، أو في نقطة التحوُّل. مرة أخرى يعود الفنان إلى هذا المشهد التاريخي الرائع، وها هو ذا أحمد شوكت — ابن السكرية — يتحول إلى شخصية رمزية في «السمان والخريف». ذلك أن عيسى قبيل منتصف الليل رأى شخصًا قادمًا نحو المطعم جذب انتباهه فيما يشبه الصدمة الكهربائية «فارع الطول مفتول العضل داكن السمرة، يرتدي بنطلونًا رماديًّا وقميصًا أبيض، يكشف عن ساعديه، وبين إصبعَي يسراه وردة حمراء.» من هو هذا الشاب؟ إن عيسى يذكر، بلا ريب، أيام الحرب الكالحة، ليلة قبض على هذا الشاب فشهد هو التحقيق معه — بصفته الرسمية والحزبية — حتى مطلع الفجر «وكان الشاب جريئًا وعنيفًا، ولم ينتهِ التحقيق معه إلى إدانة، ولكنه أُرسل إلى المعتقل ولبث فيه حتى إقالة الوزارة.» وها هو ذا الشاب يذكره بمرارة «حتى أنتم كنتم تعتقلون الأحرار ويا للأسف» … أليست هذه الشخصية — من جديد — هي صورة أحمد شوكت، سواء بالرمز أم بالإبانة؟ الرمز الماثل في الوردة الحمراء باليد اليسرى يقول إن هذا هو المنتمي إلى اليسار انتماءً إيجابيًّا متكاملًا، هو المنتمي إلى الثورة الأبدية، الثورة الحضارية الشاملة. وفي عبارات تقريرية مباشرة تقول الشخصية: كل شيء يُهمني وأفكر في كل شيء — على النقيض من عيسى — أُعابث المتاعبَ التي ألِفتُها وأنظر إلى الأمام بوجه مبتسم «بوجه مبتسم رغم كل شيء، حتى ظُن بي البله.» الشخصية إذن تقول بوضوح إنها ترمز إلى الانتماء للمستقبل، مهما كان الحاضر والماضي قاسيًا. هذا هو «الموقف» الذي يضع فيه نجيب محفوظ معنى المأساة كلها. فالشاب الذي يقوم بدور أحمد شوكت، وعيسى الذي يمثل الامتداد المهزوم لكمال عبد الجواد، تقول هذه الصورة للموقف: إن الانتماء الثوري إلى المستقبل هو الانتماء الكفيل بالحيلولة دون الهزائم الشخصية والموضوعية على السواء. وعلى الرغم من أن الفنان يدمغ الماضي بالفساد، ويحيط الحاضر بأكاليل الزهور، إلا أن المقياس عنده هو المستقبل أي أنه لا يقف جامدًا مبهورًا عند عتبات الحاضر، وإنما يتجاوزها في ثورية وعمق وإيمان إلى المستقبل. فالماضي لم يعد سوى الأرائك الخالية تحت تمثال سعد زغلول، أما المستقبل فيُذكرنا بكلمات كمال عبد الجواد في نهاية «الثلاثية» بأنه سوف يصل إلى الحل ولو بقي من عمره ثلاثة أيام. عيسى في «السمان والخريف» يتجاوزه «وقال لنفسه أستطيع أن ألحق به على شرط ألا أضيع ثانية واحدة في التردد. وانتفض قائمًا في نشوة حماس مفاجئة، ومضى في طريق الشاب بخُطًى واسعة، تاركًا وراء ظهره مجلسه الغارق في الوحدة والظلام»، هذا هو اتجاه السهم الذي يشير به نجيب محفوظ إلى المنتمي الثوري. فقد رفض عيسى أن يكون مثل حسن الذي يمثل الانتماء إلى الحاضر، كما رفض طريق سمير إلى التصوف وطريق إبراهيم إلى الانتهازية وطريق عباس إلى الاستسلام. واختار بوَعي نافذ طريق هذا الشاب الذي لم يُسمِّه الفنان باسم معين لأنه الرمز العميق إلى الثورة الحضارية الشاملة، أو لكي يقول إن النتيجة هي الثورة الأبدية التي تتجاوز الهزائم الشخصية والجزئية في سبيل النصر الشامل للثورة المعاصرة، ويخطط في نفس الوقت لما هو أبعد منها. أقبل هذا الرمز إلى الثورة الأبدية مع «نعمات» ابنته التي كانت قد ولدت دون أن يدري، ولدت من فتاة مجهولة طردها من حياته ذات يوم. وتقودنا هذه النهاية إلى المقارنة التي سبق أن أشرت إليها بين «السمان والخريف» والمثقفون لسيمون دي بوفوار. ففي الرواية الفرنسية — غداة التحرير — يعيش هنري حياته ممزقًا بين واجباته نحو نفسه التواقة إلى التحرر الكامل من قيود الارتباط المنظم بحزب، وبين واجباته نحو حركة اليسار المستقل التي يقودها برونييه. إنه يمتلك الصحيفة التي يمكن أن تمنح الحزب الاشتراكي الثوري أرضًا جديدة يعمل عليها، ولكنه لا يستطيع أن يترك صحيفته ترتبط بالحزب فيفقد حريته. وفي الجانب الآخر دوبروي الحائر المعذب بين رغبته في التأليف الأدبي، ورغبته في العمل السياسي معًا. ولكن دوبروي بالذات يعي جيدًا ويؤمن بأن العمل السياسي هو كل شيء في مرحلة ما بعد الحرب. فقد خرجت فرنسا — وأوروبا كلها — ممزقة تمامًا. وكان أمام المثقفين واجب خطير إزاء وطنهم والإنسانية جمعاء. وقد اختار فريق منهم الحل اليميني للأزمة بالانتماء إلى أمريكا والدفاع عن النظام الرأسمالي مثل «سكر ياسين»، واختار فريق آخر الحزب الشيوعي مثل «لاشوم»، واختار فريق ثالث الطريق الفوضوي والاغتيالات الفردية مثل «فانسان»، واختار فريق رابع طريق اللامبالاة أو الحياد السلبي مثل «لامبير». ثم تبلورت الأزمة الرئيسية في الرواية بين هنري — المنتمي إلى الماضي — وبين دوبروي — المنتمي إلى المستقبل. ورأت المؤلِّفة أن حيرة هنري وقلقه يخلوان من الزيف والافتعال، فأرسلت به إلى البرتغال لكي يرى «البؤس البشري» على حقيقته. وعاد هنري من الرحلة وإحساس غامر بالارتياح يشمله، فقد آمن أن الانتماء إلى المستقبل هو الحل الوحيد للأزمة، وسوف يسهم الإنسان في بناء العالم الجديد — أو أوربا الاشتراكية — ويقول بعدئذٍ إن جزءًا من سعادة البشرية القادمة كانت من صنعه الشخصي. وحينئذٍ يلقي بكل أحلام الماضي إلى البحر، وينظر إلى المستقبل في ثقة وفي أمل.

يشترك نجيب محفوظ مع سيمون دي بوفوار في اختيار مشكلة الانتماء كمحور للرواية، كما يشترك معها في كثير من أوجه المنهج التعبيري كاستعراض نماذج عديدة من المثقفين ومواقفهم إزاء لحظة التغير المعاصرة لهم. ويشتركان أيضًا في منطق الاختيار الفني للزمان والمكان والأحداث والشخصيات والمواقف، ذلك أن فرنسا المهزومة تحت وطأة الهتلرية وهي تستقبل فجر التحرير تقابل مصر الأمس التي احترقت قبيل فجر ٢٣ يوليو سنة ١٩٥٢م. ويبقى بعد ذلك كله، الخلاف الجوهري الرئيسي، بين الفنان المصري الذي يعيش مرحلة متخلفة غير ديمقراطية، والفنانة الفرنسية التي تعيش في حضارة ديمقراطية متقدمة. هذا الفرق هو مصدر اختيار سيمون دي بوفوار لفكرة أوروبا الاشتراكية واليسار غير الشيوعي والحزب الاشتراكي الثوري الحر، كشعارات للحل الذي تراه لأزمة المثقفين بين الارتماء بين أحضان أمريكا، أو الانحياز إلى المعسكر الشرقي. إن هذه النظرة بعينها تعني أن الكاتبة شديدة الحيرة والقلق من الحل اليساري الإيجابي المتكامل، لأن تجربتها الحضارية أكسبتها مجموعة من الخصائص التي يصعب أن تتخلى عنها، كفكرة الديمقراطية البرجوازية. أما نجيب محفوظ، فمن أعماق التخلف الحضاري الرهيب والتقاليد الراسخة لغياب الديمقراطية، يرى أن الحل اليساري المتكامل أو الثورة الأبدية كما دعاها هي نقطة الانطلاق اللانهائي إلى الثورة الحضارية الشاملة. وهذا هو الفرق بين أزمة المنتمي العربي في مصر، وأزمة المنتمي في أوروبا.

وهكذا يكون نجيب محفوظ قد أعطانا خريطة تفصيلية لمراحل «الانتماء» في حياتنا السياسية والاجتماعية … فمنذ بدأت إشاراته السريعة إلى خَطَّي الانتماء اليمين وإلى اليسار، كخطين ثانويين في خريطة الحياة المصرية عند بداية الربع الثاني من القرن العشرين، إلى أن عبر عن أزمة الانتماء اليساري في الثلاثية واللص والكلاب، مرورًا بأولاد حارتنا، التي قدم فيها المنتمي النموذجي القائد لليسار الاشتراكي العلمي … حتى وصل بنا في السمان والخريف إلى ذروة الدعوة الصريحة إلى الثورة الأبدية.

١  مجلة «أدب» اللبنانية، العدد الثاني، ١٩٦٢م.
٢  الكاتب، يناير، ١٩٦٣م.
٣  حوار، العدد الثالث، ١٩٦٣م.
٤  الوجودية وحكمة الشعوب، ترجمة جورج طرابيشي، دار الآداب، بيروت.
٥  نُشِرت بعد صدور الطبعة الأولى من هذا الكتاب في بيروت عن دار الآداب اللبنانية، ولم يُسمح بتوزيعها داخل معظم بلدان العالم العربي.
٦  الإنسان المتمرد، ترجمة: نهاد رضا، منشورات عويدات، بيروت، ١٩٦٣م.
٧  مجلة «أدب» اللبنانية، العدد الثالث، ١٩٦٣م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤