الفصل الخامس

المنتمي في أرض الهزيمة

كبندول الساعة يتحرك أدب نجيب محفوظ في مرحلته الجديدة، لا يتجاوز أبدًا تلك الحركة السريعة القصيرة التي تميل به هذه الناحية أو تلك في لمحة خاطفة، ولكنها لا تسأم هذا «الانتظام» الذي يبدو وكأنه حركة «محلك سر» فما إن نلقي نظرة على آلة الزمن العتيدة حتى نجد الثواني وقد هرولت إلى عقرب الدقائق وأن هذه قد تجمعت حول عقرب الساعات تزحزحه من مكانه بين الحين والآخر فتتوالى الأيام والسنين، وبندول الساعة لا يني عن حركته المنتظمة وكأنه يؤكد الديمومة من خلال الثبات أو ما يشبه الثبات … هكذا أرى أدب نجيب محفوظ في تلك المرحلة التي كانت «أولاد حارتنا» و«اللص والكلاب» و«السمان والخريف» من ثمارها المبكرة.

ولئن كانت «أولاد حارتنا» قد أهدتنا المنتمي المثال، أو المنتمي المفترض، فإن «اللص والكلاب» و«السمان والخريف» قد تخصصتا في المنتمي المحدَّد أو المنتمي الخاص. وإذا كان المنتمي العام والمجرد في «أولاد حارتنا» قد اكتسب سماته الأساسية من الفكر الإنساني في شموله وعالميته، فإن المنتمي المشخص في «اللص والكلاب» و«السمان والخريف» قد اكتسب سماته الأساسية من الفكر المحلي في جزئياته وخصوصيته … ولا ينفي هذا التصور بطبيعة الحال أن ثمة وجهًا خاصًّا بنا في «أولاد حارتنا» كما أن ثمة وجهًا إنسانيًّا عامًّا في الروايتين الأُخرَيين … ولكني قصدت إلى القول بأنه إذا كانت «أولاد حارتنا» تمثل الدليل النظري لنجيب محفوظ في طريق الانتماء الثوري، فإن «اللص والكلاب» و«السمان والخريف» تمثلان أزمة الانتماء المصري التي اكتشفها على ضوء ذلك الدليل. وبالرغم من أن نظرية نجيب محفوظ في الانتماء إلى الثورة هي في النهاية حصيلة تجاربه في الفكر والحياة كما تتضح في «أولاد حارتنا» إلا أن أزمة الانتماء الثوري في مصر إبان الستينيات هي الواقع التفصيلي المحدد الذي عالجه — بكل ما ينضح به من كثافة وثقل — في «اللص والكلاب» و«السمان والخريف» … ومعنى ذلك أنه إذا كان المنهج الواقعي هو الأرض المشتركة بين الروايات الثلاث، فإن الانتقال من العام إلى الخاص يغير من بناء هذا المنهج بالحذف والتعديل والإضافة، بما يجعل من الروايات التالية ﻟ «أولاد حارتنا» مرحلة جديدة في أدب نجيب محفوظ … بل إن تخصص «اللص والكلاب» و«السمان والخريف» في أزمة الانتماء المصري يجعل منهما مرحلة متكاملة كذلك. فالأعمال الأربعة الواقعة بعدها تُشكِّل فيما بينها مرحلة جديدة تمامًا … ولا أحد يدري ما يُضمِره الغيب في ضمير هذا الفنان ووجدانه.

ومع هذا أقول إن أدب نجيب محفوظ في مرحلته — أو مراحله — الجديدة، يتحرك يمنة ويسرة كبندول الساعة حركة واحدة منتظمة، ولكننا نكتشف أن هذه الحركة القصيرة السريعة أبعد ما تكون عن «محلك سر»؛ بل نكتشف أنها مصدر الثواني والدقائق والساعات والأيام والسنين، أي أنها مصدر الزمن في امتداده المتدفق بالحياة وإن تشابهت دقات البندول بين الحين والحين، فإنما لتعلن الشوط الذي قطعته «الديمومة» في مسارها «الثابت» … وبعبارة أخرى نقول إن ثمة أفكارًا رئيسية في المرحلة الجديدة من تطور أدب نجيب محفوظ لم يتغير جوهرها وإن تغيرت تفاصيلها تغيُّرًا يؤدي أحيانًا كثيرة إلى تأكيده. وكأني بالفنان يبدأ من البسيط إلى المركب إلى الأكثر تركيبًا حتى لتكاد تنمحي الوشائج بين البداية والنهاية، وإن لم تخل الخاتمة عند النظر الدقيق من بذرة المقدمة.

هكذا تستطيع أن نتلقَّف معظم الأفكار الواردة في «أولاد حارتنا» حول الوقف والبيت الكبير والجبلاوي والنُّظَّار والفتوَّات، وأخيرًا عرفة وحنش في بقية الأعمال التالية ابتداء من «اللص والكلاب» حتى «ميرامار». ولكننا حين نتلقف هذه الأفكار الرئيسية سوف نشهد ما طرأ عليها من تغير كبير يحُول كثيرًا دون التعرف على الأصل البعيد. سوف نشهد المنتمي وقد عرف أزمة عميقة هزت كيانه حتى الأعماق، وهي أزمة لم يعرفها بصورة واقعية ملموسة أحدُ المنتمين إلى الثورة في «أولاد حارتنا» … وسوف نشهد أن هذه الأزمة قد تطورت في «الطريق» و«الشحاذ» تطورًا خطيرًا وَشَى بالهزيمة التي طالعنا وجهًا لها في «ثرثرة فوق النيل» ووجها آخر في «ميرامار».

•••

ولأن «أولاد حارتنا» ذات بُعد واحد هو البعد الفكري المجرد فإنها تُعَد من الناحية الفنية رواية «بسيطة» تعتمد على الرمز الذهني المباشر بالرغم من معالجتها للقضيتين الكبيرتين في حياة البشرية؛ القضية الاجتماعية والقضية الميتافيزيقية … أما «اللص والكلاب» وما بعدها فإنها روايات «مركبة» ذات بعدين يتفاعلان على نحو غاية في التعقيد، فبالإضافة إلى البعد الفكري المجرد نجد الواقع الكثيف بكل أثقاله. والعلاقة بين الفكر المجرد والواقع المجسد أو بالأحرى بين النظرية والتطبيق، هي محور البناء الروائي في المرحلة — أو المراحل — الجديدة في أدب نجيب محفوظ … فلا ريب أن الطابع الفكري لهذا البناء قد امتد من «أولاد حارتنا» إلى الأعمال التالية، ولكن يصعب كثيرًا القول بأن هذا الطابع يشكل عنصرًا وحيدًا في الأبنية التعبيرية الجديدة التي أبدعها الفنان بوَحي من أفكاره المسبقة والواقع المتغير معًا وفي وقت واحد … ولقد صاغ نجيب محفوظ روايته الكبيرة «أولاد حارتنا» صياغة ملحمية حتى إنها لتخرج من نطاق التاريخ إلى نطاق الشعر١ ومهما كانت نكهة التاريخ تغمر بناءها بعبَق القِدم فإنها تتناول حاضر الإنسان الحديث من وجهة نظر المستقبل والانتماء إلى الغد … وهي تحمل معنى الانتصار سواء في مراحل تطورها الثلاث من جبل إلى رفاعة إلى قاسم، أو في خاتمتها المتفائلة بقرب انبثاق فجر الأعاجيب. وحيث تقل عوامل الصراع الداخلي لتفسح مكانًا لصراع آخر بين الفرد والمجتمع؛ تزداد صلابة النسيج الملحمي وقدرته على حمل الأعباء الفكرية والشعورية التي يختزنها الكاتب في عقول أبطاله ووجداناتهم. والشحنة العقلية والعاطفية في «أولاد حارتنا» التي ترسبت في أعماق المنتمين إلى الثورة الأبدية هي النضال المسلح بالعلم لإقامة العدل الاجتماعي والتساؤل المستمر حول سر الوجود. وإذا كان أدهم قد فقد هو وذريته فردوس الجبلاوي عندما حاول أن يطلع على الكتاب المحرَّم على الجميع الاقتراب منه أو معرفة سره، فإن عرفة قد جاوز أدهم في مسعاه؛ إذ اقتحم عرين الجبلاوي وقتل خادمه. ثم وصلت عرفة رسالة من الجبلاوي يباركه فيها قبل أن يلفظ أنفاسه بين يدي السيدة العجوز التي قامت بإبلاغ الرسالة. وأصبحت المشكلة الرئيسية أمام عرفة أن يعيد الحياة إلى الجبلاوي، فلم يعُد ثمة تناقض بين أن يوجد الجبلاوي وأن يوزع الوقف بالتساوي بين أهل الحارة … تلك هي الخاتمة الملحمية — المنتصرة — التي وضعها الفنان لروايته، فحل بذلك المشكلة الميتافيزيقية من خلال حله للمشكلة الاجتماعية.
وفي «اللص والكلاب» أجرى نجيب محفوظ أول اختبار لهذه النظرية في مجال الواقع الحي. وكانت «أولاد حارتنا» قد نُشِرت في إحدى الصحف اليومية عام ١٩٥٩م، أي قبل أن يحدث ذلك التغيير الاجتماعي بقوانين يوليو ١٩٦١م، وبعد هذا التاريخ بعام واحد نُشِرت و«اللص والكلاب». وهي تنتقل بنا من الجو الملحمي إلى قلب التراجيديا مباشرة. ذلك أن التغيير المنشود قد تم في مناخ أقل ما يوصف به أنه شديد الاضطراب، فلا تنظيم سياسي يقود تطلعات الجماهير إلى الاشتراكية، والقرارات الفردية تنزل من عَلٍ فلا يتحقق منها ما يتحقق إلا بالقهر ودون مراجعة، والمنتمون الثوريون يعجزون عن المشاركة في تصحيح ما يستوجب التصحيح … وفي ظل هذا الغياب الشامل للتنظيم والديمقراطية جنبًا إلى جنب القرارات العلوية التي لا يتَّسق مضمونها مع أدوات التنفيذ للدولة القديمة المهيمنة، يقع المنتمي في أزمة جديدة عنيفة بين الوجه الذي علمه الثورة وانضم إلى صفوف الطبقة الجديدة الوليدة وخانَ، وبين الوجه الرابض في أعماقه للكتاب والمسدس. ويسقط سعيد مهران بطلًا تراجيديًّا مُضرجًا في دمائه بين المقابر، لافتقاده همزة الوصل بينه وبين «التنظيم»، أي بينه وبين الجماهير التي يعبر عنها وبينه وبين الحرية التي يشارك في صياغتها. وعندما يمتص المناخ المدمر كل ما هو إيجابي وثوري في شخصية سعيد مهران لا يبقى أمامنا سوى المظهر الفردي والفوضوي والعبثي لحياته الدامية، على أن هذا المظهر لا ينبغي أن يخدعنا عن حقيقته الباطنة، فالحق أن نجيب محفوظ لا يعنيه أن يأتينا بالمنتمي الثوري المباشر في انتمائه وثوريته، وإنما هو يعادل الانتماء والثورية معادلة موضوعية تخفي الكثير من الزوائد والحواشي والتفاصيل الواقعية التي عرفناها في شخص أحمد شوكت مثلًا … إنه في المرحلة الجديدة يأتينا بشخصيةٍ ما تحمل في تضاعيفها أثقال المجتمع الجديد بكل ما يشتمل عليه من تناقضات، وتبِعات الرؤية الثورية لهذا المجتمع بكل ما تشتمل عليه من أبعاد. ولا يهمه في الكثير بعد ذلك أن يحمل سعيد مهران بطاقة العمل الثوري أو لا يحمل … فلقد يكون من المهم في بعض المراحل إبراز «نِجاتيف» الصورة بدلًا من الصورة نفسها. أقول ذلك ردًّا على تصور البعض منا أن نجيب محفوظ لم يتناول «الثوري الحقيقي» بعد، وأنه اقتصر على تناول الانتماء السلبي أو الضائع.٢ إن هذا التصور يغفل «اللعبة» الفنية التي يلعبها نجيب محفوظ في تجسيد أبطاله الجدد. فالصورة الأصلية لسعيد مهران وعيسى الدبَّاغ وعمر الحمزاوي وأنيس زكي هي صورة «الثوري الحقيقي»، ولكن في ظل مناخ سلبي تتحول صورتهم الأصلية إلى هذا «النِّجاتيف» الشائه الذي تعرفنا عليه في العمل الفني. أي إن التشويه والسلبية والانحراف إلى بقية السمات البشعة التي تجرف هذه الشخصيات إلى هاوية السقوط، ليست سمات ذاتية كامنة بقدر ما هي انعكاسات مكثفة لواقع مشوه. وقد حرص الفنان على أن يعلق فكرة الثورة كمرآة فوق رءوسهم جميعًا حتى يروا — ونرى معهم — ما آلت إليه الفكرة عند التحقيق من تدهور أليم … فليس الشاب الذي يمسك بيسراه وردةً حمراء في «السمان والخريف»، وليست إلهام في «الطريق»، وليس عثمان خليل في «الشحاذ» إلا فكرة الثورة في نقائها المجرد، ولا ينبغي على الإطلاق أن نعاملهم كشخصيات ثورية حية، وإنما كمرآة دائمة الحضور أمام الشخصيات الأخرى، أو هم الوجوه الراسبة في الأعماق والمتخفية عن العيون، ولكنها انتهت في ظل الأزمة الضارية التي يعانيها المجتمع إلى ضياع محقَّق.

إن «اللص والكلاب» تبدأ حقًّا من حيث انتهت «أولاد حارتنا» ولكن بغير أن ترى الحارة «مصرع الطُّغيان ومشرق النور والعجائب» تلك النبوءة التي اختتم بها الفنان روايته الكبيرة. ولذلك فإن «اللص والكلاب» في نفس الوقت تُكرر كثيرًا من المشاهد التي صادفناها في «أولاد حارتنا»، ولكنها تكررها بصورة مركبة استوعبت بُعدًا جديدًا من الواقع الحي. ويمكن اختصار هذه المشاهد إلى مشهدين رئيسيين: أولهما ضراوة الصراع الاجتماعي، والآخر هو إخفاق الحل الميتافيزيقي. لقد أضاف «الواقع الحي» إلى انتصارات العلم والفكر الاشتراكي أن «طبقة جديدة» قد وُلِدت في ظل الفراغ التنظيمي والسياسي والأيديولوجي، وأن هذه الطبقة التي يمثلها في الرواية «الصحفي» رءوف علوان قد خانت مبادئ الثورة وأمسَت العدوَّ الأول لسعيد مهران وما يمثله من قيم … وكذلك أضاف «الواقع الحي» أن الشيخ على الجنيدي لم يكن في جعبته من التصوف ما يشفي غليل سعيد مهران إلى الحرية والعدل:

سعيد : أنت شيخ سعيد … هرب الأوغاد، كيف بعد ذلك أستقر؟
الشيخ : كم عددهم؟
سعيد : ثلاثة.
الشيخ : طوبى للدنيا إذا اقتصر أوغادها على ثلاثة.
سعيد : هم كثيرون ولكن غُرَمائي منهم ثلاثة.
الشيخ : إذن لم يهرب أحد.
سعيد : لست مسئولًا عن الدنيا.
الشيخ : أنت مسئول عن الدنيا والآخرة.
سعيد : المجرمون ينجون ويسقط الأبرياء.
الشيخ : متى نظفر بسكون القلب تحت جريان الحكم؟
سعيد : عند ما يكون الحكم عادلًا.
الشيخ : هو عادل أبدًا.
سعيد : هل في وسعك، بكل ما أوتيت من فضل، أن تنقذني؟
الشيخ : أنت تنقذ نفسك إن شئت.
سعيد : هل نستطيع أن نُقِيم ظل شيء مُعوَج؟
الشيخ : أنا لا أهتم بالظلال.

من ثم يسقط سعيد مهران فريسة الضياع المطبق بجناحين ثقيلين، فلا المسدس بقادر على إصابة الهدف ولا بصيرة الشيخ الجنيدي بقادرة على الرؤية. ومن ثم يسقط بطل «اللص والكلاب» سقوطًا تراجيديًّا تنزف دماؤه سؤال كبير ظن نجيب محفوظ أنه أجاب عليه في «أولاد حارتنا»، ولكن الواقع الحي المتغير استأنف الحكم قائلًا إن المشكلة تتفاقم ولا تزال بلا حل. وإذا كانت «نور» تمثل الأمل اليتيم الذي تراءى لسعيد مهران قبيل انهياره بلحظات قليلة؛ إذ كانت — وهي المومس — قد اختارت هذا الرجل المطارد لأن يكون رجلها بالرغم من الأخطار المهولة التي تحدق بهما، فإن «سناء» تمثل خيبة الأمل التي مزقت سعيد مهران فور خروجه من السجن، فإنها — وهي ابنته — لم تتعرف عليه واختارت الأم الآثمة وعشيقها الملوَّث. وعندئذٍ لا بد وأن يسقط سعيد مهران علامة الاحتجاج الدامي على الواقع المشوه. ثم يلتقط نجيب محفوظ «سؤاله» الجديد، أو من جديد، فالحق أنه سؤال قديم وإن ازداد كثافة وتعقيدًا، ويرمي به في أتون تجربة جديدة هي تجربة المنتمي إلى الماضي. تجربة عيسى الدبَّاغ في «السمان والخريف»، وقد أحاطه الفنان بمجموعة من الشخصيات الرامزة إلى اختلاف وجهات النظر في الثورة والانتماء إليها أو ركوب الموجة أو الرفض. ومرة أخرى يكرر الفنان المشاهد الرئيسية في «أولاد حارتنا»، حيث نلتقي بالمتصوف والانتهازي والمنتمي والمنتمي المأزوم. ولعل أهم المشاهد التي تحفل بها «السمان والخريف» هو مشهد الختام؛ حيث نلتقي بالمنتمي المفترَض أو المنتمي المثال، ذلك الشاب الطويل الأسمر المبتسم أبدًا الممسك بيسراه وردةً حمراء وهو يشير إلى عيسى الدبَّاغ على الطريق الوحيد لتجاوز الأزمة بشرط ألا يُضَيِّع ثانية واحدة من عمره تحت ظل التمثال الضخم للماضي الجميل.

ولا ريب أن «السمان والخريف» كانت جوابًا يسير المنال على سؤال «اللص والكلاب»، لم تكن جوابًا في عمق السؤال المطروح … ذلك أنها تكاد أن تكون نقلًا حرفيًّا لإجابة «أولاد حارتنا» بغير زيادة أو نقصان … بل إنها تكرر قصة نور وسناء في «اللص والكلاب» في شخص ريري المومس وابنتها نعمات التي حملت بها من عيسى في إحدى لحظات السأم والوحشة المريرة. وقد لا يكون التكرار — عن هذه الرواية أو تلك — موازاة رياضية، ولكنها بالقطع ليست تعميقًا لأزمة المنتمي. وهي وإن بدت جوابًا على سؤال فإنها لم تتعدَّ كونها صدى الصوت ورد الفعل. وهكذا كانت حركة بندول الساعة من «اللص والكلاب» إلى «السمان والخريف» حركة منتظمة حقًّا، ولكن بدايتها العنيفة ونهايتها الرخوة جسدت خللًا واضحًا يحتاج إلى إعادة النظر.

ولا بد لنا هنا من القول بأن أدب نجيب محفوظ لم يشهد وحدة دينامية بين الشكل والمضمون كما شهدها في هذه المرحلة الجديدة، بحيث إننا نغفل الشيء الكثير ونحن نعرض لأزمة المنتمي وهزيمته إذا لم نعرض للصياغة التعبيرية التي جسمت هذه الأزمة وتلك الهزيمة … فالتعبير أمسى جزءًا لا ينفصل من المعبَّر عنه بحيث يستحيل القيام بعملية فصل متعسف بين الاثنين. بل في الحقيقة أن جانبًا هامًّا من جوانب الأزمة لا سبيل إلى تبيُّنه إلا بوضع اليد على أدوات التعبير التي استخدمها الفنان في «اللص والكلاب» بصورة رئيسية و«السمان والخريف» بصورة أقل شمولًا من الأولى. وهي الأدوات التي تواجهنا في مرحلة الهزيمة الكاملة من «الطريق» إلى «ميرامار». وليس هذا الحديث عن «اللص والكلاب» و«السمان والخريف» إلا مدخلًا تمهيديًّا لتناول مرحلتين جديدتين في أدب نجيب محفوظ، هما: مرحلة الأزمة المركبة الطاغية في «الطريق» و«الشحاذ»، ومرحلة الهزيمة الضارية في «ثرثرة فوق النيل» و«ميرامار»، فلست أكرر هنا حديثًا سبق عن «اللص والكلاب» و«السمان والخريف» في موضع آخر، وإنما أركز على أحد وجوهها التي تتصل أوثق اتصال بمجرى الروايات الأربع التالية. وهو الوجه الذي يتطلب بناؤه الجمالي وقفة أطول.

ونجانب الصواب إذا قلنا أن لا وشائج على الإطلاق بين مرحلتَي تطور نجيب محفوظ الكبيرتين، وأعني بهما المرحلة التي يمكن للثلاثية أن تكون عَلَمًا عليها، والمرحلة التي يمكن للص والكلاب أن تكون عَلَمًا عليها. نجانب الصواب حقًّا إذا قلنا أن لا وشائج على الإطلاق تربط بين المرحلتين الكبيرتين، فلا ريب أن الكثير من المرحلة الأولى قد تسلَّل إلى المرحلة الجديدة بحكم وحدة المجتمع ووحدة الفنان ووحدة التقاليد الأدبية … هذه الوحدات التي يتنفسها العمل الفني وينمو بها ويزدهر. فالمجتمع المصري الذي تركه نجيب محفوظ في نهاية الثلاثية عند ١٩٤٤م قد تغير قليلًا أو كثيرًا بعد ١٩٥٢م، إلا أن الملامح الحضارية العامة لهذا المجتمع لا تزال كما هي وإن تبدلت معدلات التطور الإنساني خارج بلادنا بما يستوجب من الفنان الحديث أن يردم هذه الهوَّة بين ركب الحضارة المتقدم ومستوى بلده المتخلف. وكذلك نرى الفنان الذي تركناه عند نهاية الثلاثية مهمومًا بقضية القضايا في حياة هذا المجتمع، معنيًّا أشد العناية بالاستماع إلى دقات قلب هذا المجتمع، هو نفسه الذي نراه في مسيرته الجديدة لا تخدعه المظاهر العابرة عن الداء الكامن؛ بل إن أعماله الأولى تبدو جذورًا لأعماله الجديدة مضافًا إليها استماعه الدءوب لنبض العصر. وأخيرًا فإن التقاليد الأدبية خلال الخمسة عشر عامًا الماضية، وفي مجال الخلق الروائي على وجه التحديد، لم ينل منها التغيير منالًا جذريًّا أو حاسمًا فلا يزال الجيل السائد في كتابة الرواية العربية هو الجيل الذي كتب الرواية الرومانسية أو الواقعية بشكلهما التقليدي، ولا يزال نجيب محفوظ في مقدمة هذا الجيل وطليعته أقرب إلى الجيل التالي له من الشباب في تجاربهم النابضة بحياتنا وعصرنا معًا.

أردت القول إن ثمة أرضًا مشتركة بين القديم والجديد في أدب نجيب محفوظ تكونت عناصرها من المجتمع والفنان والتقاليد الأدبية. ولذلك ليس من الغريب أن نعثر في أدغال المرحلة الجديدة على فروع وأغصان من شجرة قديمة. فالمنتمي وأزمته، ليس قضية جديدة على أدب نجيب محفوظ. هذا من ناحية الفكر. وكذلك اللغة الروائية بكل ما فيها من كثافة وشفافية وأدوات حديثة، كالمونولوج والأحلام، ليست ظاهرة جديدة في أدب نجيب محفوظ. وهذا من ناحية الفن. فما الجديد إذن؟

لنستمع إلى نجيب محفوظ يقول: «لم تعد البيئة هنا ولا الأشخاص ولا الأحداث مطلوبة لذاتها. الشخصية صارت أقرب إلى الرمز أو النموذج، والبيئة لم تعد تُعرض بتفاصيلها، بل صارت أشبه بالديكور الحديث، والأحداث يعتمد في اختيارها على بلَّورة الأفكار الرئيسية. والخطورة هنا أن تفرض الفكرة نفسها على الواقع فلا تتلاءم معه، أو تضطر لأن تخلق له واقعا خاصًّا، ولكن حين تنبع الفكرة ونتيجة من الواقع لمعايشةٍ خصبة له، لا يوجد التناقض بينها وبين الواقع حين تحاول التجسد في شكل من أشكاله. على أن هناك صعوبة يواجهها الكاتب؛ إذ ينبغي أن تأتي الأحداث والأشخاص والجو العام للعمل الفني بصورة طبيعية بعيدة عن افتعال الصنعة والتدبير المسبق. وهو ما يبعد هذا المنهج في التعبير عن الأدب الفكري، وفي محاولاتي الأخيرة تنبع أفكاري من الواقع؛ لأنه هو الذي يوحي بها، معه، وبالتالي فإنها تعود إليه دون أن يكون هناك فرض أو تناقض».٣
ولقد استطاع نجيب محفوظ في هذه الكلمات القليلة البسيطة أن يوضح إلى حد كبير «معنى» الإنجازات الجديدة في فنه الروائي … ولكن تجسيد هذا المعنى قد احتاج من الفنان أن يغير كثيرًا من أدواته التعبيرية … فبدلًا من توزيع «الأزمة» على عدد كبير من الشخصيات، ربما بأنصبة متفاوتة ولكنها متساوية القيمة، يركز الكاتب في أعماله الجديدة هذه الأزمة بعينها — وفي مرحلة تجعلها أكثر احتدامًا — على «شخصية واحدة» هي البطل الفرد، الذي ينطوي تكوينه التراجيدي على قضية فكرية هي انعكاس حادٌّ للقضايا الاجتماعية التي يكتوي بها بقية الأفراد. لقد كان المجتمع في نسيجه الواقعي المعتاد هو الديكور الرئيسي لأعمال نجيب محفوظ القديمة، ولا يزال لهذا الديكور ظلاله التي يُلقي بها على أعماله الجديدة ولكن «الفكر» بنسيجه الذهني المجرد هو العصب الحي لهذه الأعمال. ولذلك فالبطل ليس كائنًا اجتماعيًّا أو سياسيًّا فحسب، وإنما هو أيضًا «فكرة» استنبطها الفنان من أرض الواقع حقًّا، ولكنه استنبت أيضًا معها رموزًا غاية في الشفافية لها وجودها النوعي المستقل عن النسيج الاجتماعي. ولعل الفرق الجوهري بين كمال عبد الجواد وسعيد مهران — مثلًا — يكمن في هذه النقطة الخطيرة، وهي أن أزمة كمال عبد الجواد لا تتكامل إلا بأزمة فهمي ورياض قلدس وأحمد شوكت، فهذه الأزمات على طول الرواية بمناخها التاريخي وأرضها الاجتماعية تُثمر في النهاية هذا التعبير الأمثل الذي ندعوه كمال عبد الجواد. أما سعيد مهران، فأكاد أقول إنه لا «يمثل» أزمة، وإنما هو الأزمة، وقد تكاملت وتجسدت في شخصية واحدة لديها ما يشبه الاكتفاء الذاتي، إن جاز تشبيه قدرتها على احتواء مختلف أبعاد الأزمة بغير الحاجة إلى شخصيات أخرى؛ بل ودون الحاجة إلى الزمان والمكان التقليديين. فالحقيقة الخارجية للبطل الجديد عند نجيب محفوظ تتساوى مع حقيقة داخلية لا تحتاج بطبيعتها إلى القياس الموضوعي للزمن، وبالتالي فإن حركة هذه الحقيقة لا تحتاج بطبيعتها كذلك إلى المنطق الشكلي في تصور المكان. على أن نجيب محفوظ لم يسلك إلى هذا الدرب الجديد من دروب التعبير المزدوج عن الحقيقتين الداخلية والخارجية مسلكَ جيمس جويس أو فرجينيا وُولف، فيُغَلب الحقيقة الداخلية على الحقيقة الخارجية بحيث تتضاءل الأخيرة إلى جانب الأولى وتكاد تختفي، وإنما هو قد حقق التوازن بين الجانبين على النحو الذي نلاحظه في أعمال فوكنر.٤
إن البطل الجديد عند نجيب محفوظ ليس «نموذجًا بشريًّا»، ليس «نمطًا» كهذه الأنماط التي يمكن أن تعكس لوحةً اجتماعية محددة الأبعاد … وإنما هو «تجاوُز» للوحة الاجتماعية والسياسية إلى اللوحة الحضارية الأكثر شمولًا بوجهيها المحلي الخاص والإنساني العام. ويكاد هذا البطل الجديد أن يصل بنا إلى حافة الأسطورة؛ لأنه يعود بنا من بعض نواحيه إلى البطل الإغريقي القديم، ويتصل من ناحية أخرى بعض الاتصال بالبطل المعاصر في الأدب الأوروبي. ومن هذه الزاوية يمكن القول بأن المرحلة الجديدة في أدب نجيب محفوظ لا ترتبط، بأية وشيجة كانت، بما يسمى «الرواية الجديدة» في الغرب … فالبطولة في أدب نجيب محفوظ — بالرغم من كونها تراجيدية معقودة للإنسان، تمامًا كما هو الحال في التراجيديا اليونانية حيث الإنسان المطارد من القدر. وكما هو الحال في الرواية الوجودية ومسرح العبث حيث الإنسان المطارد من العدم. وفى هذين الحالين نرى الإنسان عند اليونان وأحفادهم من الأوروبيين المعاصرين على السواء، وقد تصور نفسه «مركز الكون» مهما اختلفت الزاوية التي يَنظر منها هؤلاء عن الزاوية التي ينظر منها أولئك عن الزاوية التي ينظر منها نجيب محفوظ. أما «الرواية الجديدة» فثورتها تقوم أساسًا ضد هذا التصور وتُلغيه جماليًّا بالتركيز على جمادات الكون وعناصره غير الإنسانية، تلك هي الغربة الحقيقية أو الانفصال الحقيقي بين الإنسان والطبيعة كما تدل عليه أعمال المدرسة «الشيئية» وفى مقدمتها أعمال ألان روب جرييه … وهي المدرسة التي يرى أصحابها أنه من الغرور والابتعاد عن الموضوعية أن نُؤَنسِن الطبيعة من حولنا ونراها من خلال ذواتنا، فذلك يؤدي إلى نوع من «الحلولية» لا علاقة له بالحقيقة ولا بالنظرة الموضوعية للأشياء. على النقيض من هذه الدعوى يزاوج نجيب محفوظ بين الإنسان والطبيعة في أعماله الجديدة مزاوجة لم تحظَ بها أعماله الواقعية، فنحن نلاحظ بسهولة ويسر أنه يستخدم الطبيعة في هذه المرحلة استخدامًا إنسانيًّا محضًا، وإن لم يحِد عن ديكور الفكر … فالماء والهواء والأضواء والظلال والأشجار والحيوانات، تشارك جميعها في صياغة الأزمة التي يعانيها بطلُه بالإيماءة والإيحاء والهمس، وبخاصة عندما يستدرج هذا البطل إلى حقيقته الداخلية، فإن عناصر الطبيعة هنا تقوم بدور همزة الوصل بين الداخل والخارج في شخصية البطل. بل إنه بمجرد أن يكون ثمة «بطل» عند نجيب محفوظ هو الإنسان على أية حال، سواء كان رمزًا حضاريًّا شاملًا أو غير ذلك، فإنه يختلف منذ البداية عن جوهر الرواية الجديدة «الأوروبية» … ومع هذا فإنه يمكن لنا، بل وينبغي، أن ندعو الرواية التي بدأ نجيب محفوظ في كتابها ابتداءً من «اللص والكلاب» بأنها «رواية جديدة» ذلك أن المصطلح هنا وليد تطورنا الأدبي نحن وليس استعارة من المعجم الأوروبي، فهي «رؤيا جديدة» قبل أن تكون رواية جديدة. وقد استلزمت هذه الرؤيا بناءً جديدًا تطلبت مواده وخاماته بحثًا شاقًّا مريرًا. فليست الرواية الوجودية بالرغم من اقتراب نكهتها من أدب نجيب محفوظ الجديد بالقالب النموذجي لبطولة عصرنا المحلي والعالمي على السواء، ولم يعُد «روكنتان» أو «ميرسول» بالبطل المثالي لهذه المرحلة «المعقدة» التي نعيشها في مصر، والعالم. وليس مسرح اللامعقول بالرغم من اقتراب رائحته من أدب نجيب محفوظ الجديد، بالقالب الملائم لهذه الشحنة المتفجرة من الأفكار والانفعالات التي تجيش بها صدورُنا وعقولنا في الوقت الراهن. ومع ذلك فلا سبيل إلى التعرف الحميم على المرحلة «الجديدة» من تطور نجيب محفوظ الأدبي إلا باستكناه الأواصر التي تربط بينه وبين هذين التقليدين الكبيرين في تاريخ الأدب الغربي: التقليد الأول الذي تمثله الرواية الوجودية حقًّا ولكن في اتصالها بجذور عميقة تمتد إلى كافكا ودوستويفسكي. والتقليد الآخر يمثله مسرح العبث، ولكن في اتصاله بجذور عميقة تمتد إلى الأسطورة البدائية والتراجيديا اليونانية. وإذا كان مناخ الحرب العالمية الثانية هو الذي أثمر البطل التراجيدي الحديث في الغرب، لا منتميًا وعبثيًّا ومتمردًا، فإن مناخ ما بعد الحرب قد انعكس على الشعوب الحديثةِ الاستقلال في ذلك التفاوت الحضاري المرعب بينها وبين عصر العلم، وانعدام التقاليد الديمقراطية في أسلوب الحكم. ومن ثم كان «المنتمي» هو البطل التراجيدي في بلادنا. ولَكم ودَّ نجيب محفوظ أن يسيطر الفكر الاشتراكي على أزمة المنتمي الثوري بانتقاله من فضاء التجريد النظري إلى أرض الواقع التطبيقي كما تشير بذلك اليوتوبيا الملحمية في «أولاد حارتنا» … لولا أن رافقت تجربتنا الاجتماعية انحرافات بالغة العنف ليس أقلها ظهور طبقة جديدة وارثة لامتيازات المجتمع القديم٥ ومعها برزت على السطح أزمة الحرية كما لم تبرز من قبل. وواجه المنتمي إلى الثورة في مصر تناقضات دامية أكثر حدةً من التناقضات التي كانت تنهش لحمه فيما مضى. كان التناقض بينه وبين المجتمع السابق على الثورة تناقضًا طبيعيًّا، فبالرغم مما يسببه من أزمات للمنتمي الثوري لم يكن ينهش منه سوى اللحم والدم والعظم. أما التناقضات التي تراكمت بينه وبين المجتمع الثوري فكانت تنهش منه إلى جانب ذلك كله، القلب والعقل والوجدان. ومن هنا لم يكن نموذج «كمال عبد الجواد» كافيًا لأن يُجَسد الأبعاد الجديدة لمأساة المنتمي إلى الثورة. لم يعُد الصراع الطبقي والنضال الديمقراطي وحدهما يُشكِّلان جوهر المحنة الوافدة مع تعاظُم التقدم العلمي خارج ديارنا بحيث يكاد التخلف أن يكون قدرنا٦ وكذلك تعاقبت أشكال التنظيم السياسي الواحد بحيث تكاد أزمة الحرية أن تكون هي الأخرى قدرنا. ومن هذه العناصر المعقدة وتفريعاتها الدقيقة وُلِد البطل التراجيدي الجديد في أدب نجيب محفوظ تجسيدًا موضوعيًّا أمينًا لهذه الأزمة المركبة. وهو لذلك بطل مركب يعادل أزمة نجيب محفوظ ومأساة جيلنا معادلة موضوعية خالصة من الناحية الجمالية. فهو البطل الذي يلغي المسافة بين الخالق والمخلوق فلا يصبح بوقًا لفكرة ولا تجسيمًا مباشرًا لانفعالٍ طارئ. وإنما يبطل معنى «الراوية» ما دامت الذات هي محور الرواية … وليس من الغريب ألا يهتم الفنان في هذه الحال ببقية الشخصيات إلا من زاوية قُدرتها على إضاءة موقف البطل وزاوية النظر التي يبصر منها كل شيء. فلم تعد الشخصيات الثانوية «شخصيات» بالمعنى الروائي التقليدي، وإنما هي الأضواء والظلال التي تحدد أكثر فأكثر مكان البطل من الأحداث. إنها ليست إلا الشرايين التي تُمِده بدماء الحياة الفنية، فهي تتمتع مثله بوجود نوعي مستقل، وإنما هي بمثابة الركائز الحية التي يستند عليها قيام البطل بدوره التراجيدي في الرواية. ويختلف هذا الدور اختلافًا عميقًا عن الدور الذي كان يقوم به البطل اليوناني القديم، فهو لا يحمل بذرة السقوط في تكوينه المفترض، هو لا يحمل اللعنة بين جوانحه من قبل أن يولد، هو لا يضمر السقوط منذ البداية … فليس من قدر مكتوب على بطلنا. وكذلك فهو يختلف اختلافًا عميقًا عن البطل العدمي الحديث، لأنه لم يشارك في إبداع الثورة العلمية المذهلة التي وضعت الإنسان من جديد أمام مصيره في مواجهة عاتية. فليس من مطاردة بين بطلنا والموت. وإنما يقوم صرح البطل التراجيدي في حياتنا وفي أدب نجيب محفوظ على أساس التفاعل المطَّرد بين الواقع والإنسان، على أساس ملاحقة الواقع للإنسان، ومحاولة الإنسان اللاهثة لاحتواء هذا الواقع وتجاوزه. أي إنه ليس هناك «مجهول» كتب على بطلنا هذا القدر المزدوج من التخلف الحضاري وغياب الحرية للدرجة التي تصل بهذا البطل إلى حافة اليأس. كما أنه ليست هناك «مطاردة» غير متكافئة بين بطلنا النسبي وموتنا المطلق للدرجة التي تصل بهذا البطل إلى حافة الهزيمة. وإنما يتجاذب المنتمي المصري — والعربي بشكل عام — الفعل ورد الفعل … فإذا كانت هناك «بذرة» ما في تكوين هذا المنتمي فهي ليست بذرة سلبية مطلقة تقضي عليه بالسقوط مهما ناضل ضد النهاية الفاجعة نضالًا نبيلًا وأليمًا. وإنما «تتكون» بذرة السقوط داخل المنتمي وخارجه معًا وفي وقت واحد، حتى ينتهي إلى الخاتمة التراجيدية بالانهيار التام. وأنت تشعر حتى النخاع بأن سقوط البطل عند نجيب محفوظ، هو سقوط عام وشامل لنا جميعًا … فكما أن هذا البطل يلغي المسافة بينه وبين المؤلف فلا يعود ثمة معنًى «للرواية» فإنه — وبنفس المقدار — يلغي المسافة بينه وبين المتلقي فلا يعود ثمة معنًى لقصة «مروية»؛ بل تصبح هناك «تراجيديا» كاملة الأبعاد اختارت القالب الروائي حقًّا، ولكنها لم تتخلَّ قط عن خواصها الدرامية.
والخاصية الأولى الناتجة من توحُّد الذات مع العالم هي ذلك الحديث الداخلي الذي لا ينقطع، ويُدعى بالمونولوج. على أننا ينبغي أن نفرق بين مستويات ثلاثة رئيسية لمجرى الشعور حيث يلتقط الكاتب جزئياته من هنا أو هناك. وتبدأ هذه المستويات من منطقة اللاشعور وتنتهي بمنطقة الإدراك المنطقي الواضح الذي يمكن إيصاله للآخرين. والمستويات القريبة من اللاشعور يستحيل فهمها ولا تعني الكاتب في الكثير، أما المستويات التي تتدرج في وضوح نسبي وتسبق مرحلة الكلام فهي التي تعني الكاتب كثيرًا … فالشعور فيها يتأثر بالأشياء والأحداث الخارجية … وتتحكم هذه المؤثرات في مجرى الشعور، ولكنه يمتصها ويحتويها فيُمسيان شيئًا واحدًا، وحينئذٍ تؤدي هذه المؤثرات دورها بتجديد المجرى وتنشيطه. والمبدأ الأساسي الذي ينظم مجرى الشعور هو توارد الخواطر الحر، أي قدرة الشيء على الإيحاء بشيء آخر إيحاءً كليًّا أو جزئيًّا، وكذلك التوارد الكيفي الممثل أو المناقض؛ حيث يدعو الشيء إلى التفكير في مثيله أو نقيضه على السواء. وتلك إذن هي طبيعة مجرى الشعور المتجددة والمتغيرة فلا يحكمه الترتيب المنطقي التقليدي ولا يحده الزمان والمكان، فهو ينتقل بحرية تامة من مكان إلى مكان وتختلط فيه مستويات متعددة من الماضي والحاضر والمستقبل المتوهَّم.٧ وهذا هو الفرق الجوهري بين أبطال نجيب محفوظ، وأبطال جويس وكافكا وبروست، بالرغم من إفادته التكنيكية من هؤلاء جميعًا. ذلك أن «الخارج» في أعمال نجيب محفوظ مؤثر عميق الدلالة على «تطور» مأساة أبطاله وفق التفاعل الدائم بينهم وبين واقعهم، وهو التفاعل الذي يتم في دائرة «المحتمل» و«الممكن» لا في دائرة الحتمية، سواء كانت الحتمية العبثية السوداء عند كُتاب الغرب البرجوازي، أم الحتمية البيضاء المتفائلة عند كتاب الشرق الاشتراكي، وربما كانت تلك الدائرة من الاحتمالات المتواصلة والممكنات الأبدية هي المصدر الحقيقي لحركة «بندول الساعة» في أدب نجيب محفوظ الجديد. وربما كانت أيضًا مصدر احتفاظه بالتوازن بين الحقيقتين الداخلية والخارجية. وربما كانت أخيرًا مصدر ذلك اللون الخاص من ألوان المونولوج، وأعني به «الحديث النفسي» الذي قد يتطور قليلًا إلى مرحلة المونولوج الداخلي غير المباشر، ولكنه بالقطع لا يصل إلى مرحلة المونولوج الداخلي المباشر. وتُعد أعمال جويس خير الأمثلة على هذا اللون الأخير من ألوان المونولوج الذي يعكس الأعماق المعتمة للَّاشعور بصورة لا يفترض معها وجود سامع … أما نجيب محفوظ فيستخدم «الحديث النفسي» الذي يفترض وجود سامع جنبًا إلى جنب مع «وصف مجرى الشعور» بواسطة السرد التقليدي. وذلك حتى لا يختلط الأمر اختلاطًا شديدًا لا يسمح بأي قدر من الفعالية في تطوير العمل الفني والمتلقي على السواء. وهكذا يضع الفنان في اعتباره — غير أسطورة الفن الخالص — المستوى الحضاري للبيئة المتلقِّية لهذا الفن بتطويع أدواته التعبيرية لما يمكن أن يؤثر في هذه البيئة وأن يغيرها، فلا بد من الاتصال بها والانفصال عنها بقصد تجاوزها معًا … أما الاكتفاء بالانفصال عنها تمامًا فإنه لا يثمر تأثيرًا ولا تغييرًا.

وتستتبع خاصية «الحديث النفسي» و«وصف مجرى الشعور» في المرحلة الجديدة من أدب نجيب محفوظ، مشكلة الزمن الروائي. فالحديث النفسي يلتقط الأفكار والمشاعر القريبة من السطح حقًّا، ولكن وصف مجرى الشعور يلتقط الأفكار والمشاعر الغائرة في الأعماق. ويصل الفنان بين المستويين بتوظيفه للضمائر الثلاثة توظيفًا قادرًا على تحقيق هذا التوازن بين الحقيقة الداخلية الراسبة في أدغال النفس البشرية، والحقيقة الخارجية القادمة مع المجتمع والتاريخ. فليس الزمن الموضوعي الذي عرفناه في الثلاثية بقادر على تشكيل «المحتمل» و«الممكن» في المرحلة الجديدة، إن الزمن الموضوعي هو العمود الفقري للحتمية. وليس الزمن الداخلي الذي عرفناه عند جويس ولا الزمن الوجودي الذي عرفناه عند سارتر وكامي، ولا الزمن النفسي الذي عرفناه عند داريل وفوكنر، هو الزمن القادر على تجسيد الأزمة الدامية التي يعانيها الثوري في مصر، وهو خامة نجيب محفوظ الفنية، وهي خامة تختلف أصلًا عن خامة هؤلاء الكتاب من ناحية، كما تختلف إلى حد كبير عن خامة الثلاثية وما قبلها من ناحية أخرى. لذلك كان المزيج المركب من الماضي والحاضر والمستقبل، ومن ضمير المتكلم والغائب والمخاطب، هو تلك الأداة التعبيرية التي حملت عبء الزمن الجديد في أدب نجيب محفوظ. ولم يعد ثمة تناقض بين ضمير المتكلم مثلًا — وهو الضمير العالم بكل شيء — وضمير الغائب الذي لا يعلم شيئًا، وضمير المخاطب الذي يعلم شيئًا فشيئًا.

ويعتمد «الحديث النفسي» و«وصف مجرى الشعور» على الحوار والسرد معًا، ولكن الحوار هو الأداة الرئيسية في التعبير، سواء كان حوارًا مع النفس أم مع الآخر. ذلك أنه الأداة القادرة أكثر من غيرها على التقاط الذبذبات المتوترة بين شدِّ وجذب وبين مد وجذر. وهو الأداة الفعَّالة في تجسيد متناقضات الفكر والشعور، متناقضات الحقيقة الداخلية والحقيقة الخارجية معًا. وقد بلغ الأمر بنجيب محفوظ أن يرفض تسمية أعماله «روايات» بل «قصصا حوارية»٨ وهي ليست تسمية صحيحة، ولكنها تؤكد صحة الظاهرة التي أدعوها بسيادة الحوار على السرد الأسباب نابعة من العمل الفني ومن وحي المادة الفكرية التي يتضمنها، وأقصد بها أزمة المنتمي وهزيمته. فإذا كانت التراجيديا هي القالب الأصيل لأزمة الانقسام الداخلي، فإن الرواية النثرية لو استخدمت لنفس الهدف، لا بد وأن يكون الحوار — أي التناول الدرامي للمأساة — هو التجسيم اللغوي الرئيسي. بل إن السرد، ذلك الجناح الآخر في التعيير عن المأساة، يختلف اختلافا استاطيقيًّا عن السرد المألوف في الرواية التقليدية. فالمنطق الشكلي يكاد ينعدم في ضبط السياق اللغوي، حوارًا أو سردًا … فالحلم هو الضابط الإيقاعي الوحيد لهذا السياق، سواء كان حلمَ نومٍ أو يقظة، فالمادة الحلمية تشكل النسيج الأساسي في الرواية الجديدة عند نجيب محفوظ. والحلم في النهاية هو الإطار الذي يبرر اختلاط الماضي بالحاضر بالمستقبل، كما يبرر تلاشي مقياس الرسم التقليدي … فالمكان يفقد ملامحه المألوفة للذاكرة الواعية، وتتغير أشكاله وأحجامه ومواقعه وفق التغييرات الحلمية الشاملة. ولا بد للغة هنا من أن تتَّسق اتساقًا كاملًا مع هذا الحلم الروائي، على النقيض من المرحلة التقليدية في أدب نجيب محفوظ؛ حيث كانت الرواية الواقعية تتطلب لفنِّها انسجامًا لفظيًّا متقنًا مع مقاييس الواقع الخارجي المألوفة للعين المجردة. هنا تتعدد مستويات اللغة تعدُّد مستويات الشخصية الروائية، فإذا كان صابر الرحيمي وعمر الحمزاوي وأنيس زكي وسرحان البحيري يمثلون، إلى جانب ذواتهم البشرية العادية، معانيَ أخرى أكثر شمولًا وتجريدًا. فإن اللغة التي ينطق بها هؤلاء لا بد وأن تكون هي الأخرى ذات وجهين في التعامل الفني مع المتلقي. لا بد وأن تحمل وجهها التقليدي المعتاد جنبًا إلى جنب مع وجهها الرمزي الجديد. وكذلك فإن اللغة الجديدة في أدب نجيب محفوظ لا تجسد ولا تخاطب مستوًى واحدًا من مستويات الوعي، فلأن هناك مونولوجًا أو حديثًا نفسيًّا ووصفًا لمجرى الشعور فإن هذه اللغة عليها أن تهبط إلى أغوار الشخصية لتنقل الشعور الغامض كما هو، وعليها أن تلهث في مطاردة الانفعال الطارئ الطافي على السطح كما هو، وعليها أخيرًا أن تتحكم في ميزان حرارتها بحيث ينقل إلينا درجات الفكر البارد كما هو. أي إن اللغة في هذه المرحلة الجديدة حقًّا، تقوم بدور مخالف لما ندعوه أحيانًا بوظيفة «التعبير»، وإنما هي تتحول إلى عنصر من عناصر العمل الفني وليس مجرد أداة للإفصاح. وعلى هذا النحو يصبح لموسيقى اللفظ دور جوهري في عملية البناء الروائي، وليس دورًا خارجيًّا من وشي الصنعة. وتصبح قضايا تقليدية مثل العامية والفصحى أو اللغة الثالثة المنتقاة من الألفاظ العامية ذات التركيب الفصيح فيمكن نطقها بالطريقتين … تصبح قضايا بائرة؛ لأن اللغة هنا ليست لذاتها، وليست رداءً خارجيًّا، إنما هي جزء جوهري من الكل الروائي يتكامل بنموه لحظة لحظة، يكتسب قيمته الفنية الحقيقية من الأقيسة الداخلية للرواية، وليس من المفاهيم الوراثية في النحو والصرف. هكذا تنحت الشخصية ألفاظها؛ بل وحروفها، فضلًا عن تراكيب هذه الحروف والألفاظ من صميم مواقفها المتداخلة المتشابكة المتغيرة دومًا. وهكذا أيضًا — وبنفس المقدار — تنحت اللغة شخصياتها ومواقفها فضلًا عن الأحداث المكوِّنة والمطورة لهذه الشخصيات القلقة المتوترة دومًا. أي إن الشخصية أصبحت على وجهٍ ما هي اللغة، كما أصبحت اللغة على نحوٍ آخر هي الشخصية، ولم يعُد ثمة مسافة تفصل بين الشخصية في حقيقتها، والأداة اللغوية المعبرة عنها، فقد أمسيا شيئًا واحدًا، ما يهدد اللغة يهدد الشخصية وما يهدد الشخصية يهدد اللغة في تفاعل إيجابي متبادَل يصوغ الشخصية واللغة معًا وفي وقت واحد.

والحق أن اللغة في هذه المرحلة الجديدة قد حملت أثقالًا وأعباء جديدة تمامًا على اللغة العربية والرواية العربية جميعًا. والحق أيضًا أن نجيب محفوظ قد عانى معاناة الأنبياء في خلق هذه اللغة الجديدة، فهي لم تكن قط بحثًا عن لفظ جديد أو تركيب جديد أو خيال غير مطروق، وإنما كانت رؤيا جديدة للغة كجزء لا ينفصل عن رؤيته الجديدة للعالم والإنسان. هذه الرؤيا التي قد يتحمس البعض لظلالها على الكلمات فيسمونها شِعرًا، وهم يقصدون ما آلت إليه من تركيز وتكثيف وشفافية … وقد يعترض عليها البعض الآخر لمجافاتها المعاجم المحفوظة والأذواق البصرية والسمعية التي نشأنا عليها وتربينا، وهم يقصدون هذا «اللامنطق» في رصف حروفها وألفاظها وتراكيبها. ولكن لا سبيل أمام المتحمسين إلا التخصيص بدلًا من التعميم، والغوص في الأعماق بدلًا من التقاط الظواهر السطحية، كما لا سبيل أمام المعارضين إلى إعادة النظر في وظيفة اللغة من البداية ووظيفة الفن كذلك والعلاقة بين الفن واللغة. إلا إذا نظرنا إلى هذه اللغة الجديدة بحق في اتصالها الوثيق بالرؤيا الجديدة التي يقدمها نجيب محفوظ في مرحلته الجديدة … فهذه الرؤية وحدها هي التي تحدد المنطق واللامنطق في السياق الروائي من لغة وشخصيات وأحداث ومواقف.

فما هذه الرؤيا الجديدة؟

سؤال يردُّنا من عالم التجريدات الذي حاولنا فيه أن نحصي معالم التجديد الفني فيما بعد الثلاثية وأولاد حارتنا، كمدخل إلى عناصر التجديد الأخرى التي طرأت على أدب نجيب محفوظ إبان مرحلة التحول الدامية التي يجتازها مجتمعنا. ومنذ البداية أقول إنه إذا كانت «اللص والكلاب» و«السمان والخريف» تمثلان «بداية» الأزمة أو مقدماتها فإن «الطريق» و«الشحاذ» معًا يمثلان عنفوانها، أي يجسدان الأزمة نفسها، أما «ثرثرة فوق النيل» و«ميرامار» فيمثلان النهاية الأسيفة التي انتهت إليها، وأعني بها الهزيمة. فلم يكن حديثنا إذن عن «اللص والكلاب» و«السمان والخريف» في مقدمة هذا الفصل تكرارًا لما جاء عنهما في فصلٍ سابق، بل تمهيدًا ضروريًّا لتناول هذه المرحلة الجديدة الخطيرة، مرحلة الانتقال التي تمثلها الروايات الأربع «الطريق، الشحاذ، ثرثرة، ميرامار». كذلك فإن حديثنا المجرد عن الإنجازات الجمالية لهذه الأعمال ليس إلا تعميمًا ضروريًّا في البداية كمدخل لتناولها في التطبيق بصورة أكثر تخصيصًا وتفصيلًا.

•••

إن دورة السؤال والجواب في روايتي «اللص والكلاب» و«السمان والخريف» تضع الفنان حقًّا في مأزق حرج، وذلك حين تضعنا معه من جديد أمام النقطة التي انتهت إليها اليوتوبيا الملحمية «أولاد حارتنا» … ولا بد إذن من البحث عن طريق جديد لعله يعطي جوابًا جديدًا. ومن هنا كانت «الطريق» و«الشحاذ» مرحلة البحث عن هذا الطريق الجديد والجواب الجديد. هما روايتان من أدب الرحلات، ولكنها رحلات خارج الزمان والمكان من أحد الوجوه، وإن تمت في إطارها التاريخي والجغرافي على وجه آخر من هذه الوجوه. وهي بالقطع ليست مجرد رحلات نفسية في أعماق الذات البشرية، كما أنها ليست مجرد رحلات فكرية في متاهات العقل الإنساني. إن أهم صفاتها، فيما أعتقد، أنها ليست رحلات «معلومة» المقدمات والنتائج من قبل أن يخطوَ الإنسان خطوته الأولى كما هو ا الحال في «أولاد حارتنا»، كما أنها ليست اختبارًا عمليًّا لتخطيطٍ نظري كما هو الحال في الروايتين التاليتين لها. إن «الطريق» و«الشحاذ» رحلتان — أو محاولتان — مترادفتان جوهرهما البحث. والبحث يحتمل الممكن ولا يعرف اليقين أو المستحيل. ولكنه يتضمن دائمًا عنصرَي المعرفة والجهل جنبًا إلى جنب، ومن لحظة إلى أخرى يعرف المرتحل ويجهل، ويعرف ويجهل إلى ما لا نهاية … ويظل الشوق العارم إلى المعرفة هو وقود الرحلة إلى المجهول، فإذا نفد الوقود وقعت الكارثة. ومأساة الرُّحَّل العظام أنهم يكابدون الشوق بلا توانٍ ولا غاية لهم سوى البحث في ذاته، فهم يدرون أن لا نهاية محققة للطريق الذي قطعوا فيه شوطًا أو أشواطًا. والبحث وحده هو الذي يمنح حياتهم معنًى بالرغم من إطلالتهم الدائمة على حافة اللامعنى. ذلك أن البحث في ذاته ليس إلا تلك الرغبة المتجددة في الحياة مهما كان الموت هو النهاية المؤكدة لها. والموت أثناء البحث، أي أثناء الحياة الحقيقية، يفضله المرتحلون العظام على الموت أثناء الموت، أي أثناء الحياة الميتة. لأن البحث اختيار والموت اضطرار، والتعاسة لا حد لها إذا استبدلنا الاختيار الوحيد باضطرار جديد … فكأنما ارتضينا الجبر مرتين. نحن الذين نَفضُل بقية الكائنات بهذه اللؤلؤة الثمينة المسماة بالحرية.

والبحث عن الحرية والكرامة والسلام هي رسالة صابر بطل «الطريق». والبحث عن التوافق بين ذرَّات الكون والانسجام هي رسالة عمر الحمزاوي بطل «الشحاذ». ومن قبل أن نجوس معهما الرحلة الطويلة الدامية، علينا أن نتذكر ذلك التمهيد الخطير الذي قدم به الفنان لهذه الرحلة بقصة «زعبلاوي» المنشورة في مجموعته «دنيا الله». بضمير المتكلم يحدثنا بطل الأقصوصة أنه قد أصيب بالداء «الذي لا دواء له عند أحد»، فلم يرَ بُدًّا من البحث عن الشيخ زعبلاوي؛ فقد سمع عنه الكثير منذ عهد الطفولة. ويبدأ المريض رحلته ابتداء من قاضٍ شرعي إلى بائع كتب قديمة إلى شيخ حارة إلى أحد الخطاطين إلى أحد الموسيقيين. وعند أولئك جميعًا تألَّق الأمل لحظة وضاع. ولكنه استطاع أن يجمع بعض الصفات التي يمكنه بها التعرف على زعبلاوي فهو، «على أي حال حي لم يمت، ولكن لا مسكن له»، و«قد يندس بين الشحاذين فلا يُميَّز بينهم»، و«الرجل اللغز! يقبل عليك حتى يظنوه قريبك ويختفي فكأنه ما كان»، و«في وجهه جمال لا يمكن أن يُنسى»، «هذا الرجل العجيب يُتعب كل من يريده، كان أمره سهلًا في الزمان القديم عندما كان يقيم في مكان معروف، اليوم الدنيا تغيرت، وبعد أن كان يتمتع بمكانة لا يحظى بها الحكام بات البوليس يطارده بتُهمة الدجل، فلم يعد الوصول إليه بالشيء اليسير، ولكن اصبر وثق بأنك ستصل». وبفضله صنع الخطاط أجمل لوحاته والموسيقيُّ أجمل ألحانه، «هو الطرب نفسه، وصوته عند الكلام جميل جدًّا، ما إن تسمعه حتى ترغب في الغناء، وتَهِيج أريحية الخلق في نفسك». وبالرغم من اجتماع هذه القرائن الكثيرة على «وجود» زعبلاوي، والأدلة العديدة على مظهر هذا الوجود، إلا أن مريضنا لم يهتدِ إليه. حتى قيل له إن سكيرًا من الريف ينزل القاهرة كل فترة ويقضي وقته بإحدى الحانات يعرف زعبلاوي معرفةً وثيقة، فاذهب إليه عسى أن تنال المراد. وتوجه المريض إلى الحانة المبتغاة فالتقى بالرجل ولكنه لم يصادف زعبلاوي؛ بل تأكد لديه حينذاك أنه لن يراه أبدًا ما دام على هذه الدرجة من الإلغاز والإعجاز. وعندما تبادل الكئوس مع رجل الحانة انتشى بالخمر إلى حد السكر وتراءت له فيما يشبه الحلم هضبة من الياسمين في حديقة لا حدود لها، وثمة رشاش نافورة يصب ماء صافيًّا فوق رأسه، وأغاريد الطير من كل نوع تحيط السمع بأهازيج الجنة، «وثمة توافق عجيب بيني وبين نفسي، وبيننا وبين الدنيا، فكل شيء حيث ينبغي أن يكون بلا تنافُر أو إساءة أو شذوذ … ونشوة طرب يضج بها الكون.» وحين استيقظ من الحلم أو ما يشبه الحلم أنبأه صاحبه أنه نام نومًا عميقًا بالرغم من أن رجلًا طيبًا حاول إيقاظه وتنبيهه بقليل من الماء رشه فوق رأسه، فلما تساءل عن كنه الرجل الطيب فاجأه رفيق الحانة بأنه لم يكن سوى الشيخ زعبلاوي. وقبل أن يفتح فمه بالدهشة عرف أنه قد يأتي غدًا، وقد لا يأتي طول العمر، وأنه لا تُغريه المُغْرَيات، ولكنه يهب الشفاء لمن يحبه بلا مقابل. «وعند كل منعطف ناديت يا زعبلاوي، لعل وعسى، ولكن لم يفِدني النداء»، «وحسبي أني تأكدت من وجود زعبلاوي، بل ومن عطفه عليَّ؛ مما يُبشر باستعداده لمداواتي إذا تم اللقاء»، «نعم، عليَّ أن أجد زعبلاوي». وتلك آخر كلمة في هذه القصة القصيرة العظيمة، أو ذلك التمهيد الخطير — كدقات المسرح الثلاث — قبل بداية الرحلة الموحشة الدامية التي بدأها هذا المريض باسم «صابر» في الطريق و«عمر الحمزاوي» في الشحاذ.

وليس من العسير أن نلمح أوجه الشبه العديدة بين قصة زعبلاوي والروايتين التاليتين لها، وذلك في حدود كونها قصة قصيرة، أما الطريق والشحاذ فقصتان طويلتان. وليس من العسير القول بأنها كانت بداية «البحث» في طريق نجيب محفوظ الجديد، بعد أن تأكد له، بشكل قاطع، أن المسألة أكثر تعقيدًا مما كان يظن، أكثر تعقيدًا من أن تحلها كراسةُ عرفة أو الوردة الحمراء في اليد اليسرى للشاب الطويل الأسمر المبتسم أبدًا. لا شك أن أزمة سعيد مهران وعيسى الدباغ أزمة صحيحة في جوهرها، ولكنها من ناحية أخرى هي صورة جانبية للأزمة وليست تماثلًا متعدد الأبعاد. والواقع من ناحيته يضيف كل لحظةٍ سماتٍ جديدة وملامح تُعقِّد الأمر أكثر كثيرًا مما كان عليه في لحظة سابقة. والسمات الجديدة لا تنفي الجوهر القديم، ولكنها تبدل فيه وتغيره بما يستلزم بحثًا جديدًا. وربما كان جيل كمال عبد الجواد الذي ودعناه في نهاية الثلاثية، قد أعقبه جيل وأجيال في ساحة الوجود المصري، ولكن أزمته في حقيقتها ظلت كما هي، وأضيفت إليها عناصر جديدة أسهمت في تغييرها وتشكيلها على نحو جديد، أما الجذور فباقية. ولم تكن «أولاد حارتنا» جزءًا رابعًا من الثلاثية كما تَحَذلق البعض في تصوير مسيرة نجيب محفوظ، ولكنها كانت نورًا كاشفًا لأغوار الهوة الزمنية التي تفصل بين خاتمة السكرية وبداية «اللص والكلاب». وقد كشفت الأضواء الباهرة عن أن الهوة الزمنية لا تعادلها حرفيًّا هوة موضوعية، فمأساة كمال عبد الجواد قد ازدانت بالكثير من مشكلات العصر الجديد وقضاياه، ولكنها لم تسقط كالشهب في قاع البحر. والفنان كان يحمل «كمال عبد الجواد» بين جنبيه طوال مرحلته الفنية الجديدة، فالدين والعلم والاشتراكية بمثابة العمود الفقري لتلك الرحلة إلى ما قبل «الطريق». وعلى النقيض من فلاديمير واستراجون في انتظارهما لجودو بمسرحية «بيكيت» يشد المريض رحاله بحثًا عن زعبلاوي وكذلك صابر عن سيد سيد الرحيمي، وعمر الحمزاوي عن شيء لا يُسميه. ولكن فلاديمير يقول لاستراجون «ربما نمنا الليلة في مكانه، في الدفء، في الجفاف، على شبح، على القش. ألا يساوي هذا عناء الانتظار؟ إنه يساويه.» هذه الفقرة التي جاءت في النص الفرنسي لمسرحية بيكيت وحُذِفت من الترجمة الإنجليزية لأمر لا نعلمه.٩ تلتقي في الكثير مع فكرة نجيب محفوظ المحورية في «زعبلاوي» و«الطريق» و«الشحاذ» وهي الفكرة القائلة — فيما أتصور — إن بحثنا ذاته هو الطريق، والرحلة ذاتها هي الهدف، وإن المأساة الحقيقية كامنة في التصورات التقليدية لمعنى الطريق، بينما «البحث» في ذاته يعني الكشف، والكشف هو الخلق والإبداع. هذه التصورات التي تقود المريض من القاضي الشرعي إلى شيخ الحارة، كما تقود صابر من دفتر التليفونات إلى الإعلان في الصحف، كما تقود عمر الحمزاوي من الطبيب إلى وردة ومارجريت … هذه التصورات التقليدية جميعها لمعنى الطريق لا تدل عليه؛ لأنها كائنة قبله وسابقة عليه، وإنما البحث نفسه الذي يحتمل الجديد مع كل نفَس يردده الإنسان هو الطريق. وهو الغاية. ولا شك في أن ضراوة الصراع بين ما هو كائن وما هو محتمل أن يكون، بين المعرفة بالماضي والجهل بالمستقبل هي محور البناء الروائي في أدب نجيب محفوظ الجديد. وإذا كانت قصة «زعبلاوي» تكاد توجز شكلًا ومضمونًا بعض القسمات الرئيسية في روايتي «الطريق» و«الشحاذ» فإن هذا لا يعني أن الطريق كان معلومًا لدى الفنان من قبل أن يبدأ المسير فيه، وإنما تبدو لي هذه القصة القصيرة العظيمة مجرد تمهيد خطير، كذلك التمهيد الكبير الذي قامت به «أولاد حارتنا» لروايتَي «اللص والكلاب» و«السمان والخريف» مجرد تمهيد نظري لرحلة الواقع بكل كثافته ونسيجه الحي … وهي لا تعدو كونها تمهيدًا؛ يقول على لسان المريض الأبدي بعد أن تأكد من وجود زعبلاوي: «نعم، عليَّ أن أجد زعبلاوي.» وهي مهمة تختلف في الكثير عن رسالة عرفة من أجل إعادة الحياة إلى الجبلاوي، أو هي على وجه الدقة أكثر تعقيدًا … ذلك أن الواقع أجاب على عرفة إجابةً قاسية وعنيفة؛ إذ ليست الأمور على هذا القدر من البساطة والتسطُّح، ليست مسألة شبق ميتافيزيقي أو عدالة اجتماعية مهدرة فحسب؛ بل هي مسألة حياة إنسانية مكتملة الجوانب عبَّر عنها صابر تعبيرًا موجزًا في شعاره الثلاثي «الحرية والكرامة والسلام». ولكن الطريق الذي سار فيه صابر لم يكن بهذا القدر من الإيجاز، لقد كان غابة كثيفة من الأشواك أو بحرًا متلاطم الأمواج مليئًا بالصخور.

ولعل أهم حوار دار بين صابر وأمه قبل وفاتها هو ذلك السؤال الذي ابتدرها به حين باحت له بسِرِّ أبيه: «وهل أضيع عمري في البحث عن شيء قبل التأكد من وجوده؟» فقد أجابته جوابًا عميق الدلالة: «ولكنك لن تتأكد من وجوده إلا بالبحث، وهو خير على أي حال من بقائك بلا مال ولا عمل ولا أمل» … هي إذن نفس البداية المهمة في قصة «زعبلاوي»، فالفنان لم يبدأ من حيث انتهت، وإنما هو يكرر بدايتها في مستوًى جديد هو المستوى الواقعي الصِّرف. والحق أن قدرة نجيب محفوظ الباهرة أنه استطاع في مرحلته — أو مراحله — الجديدة أن يجعل من «المباشرة» فنًّا، فما يظنه بعض النقاد رموزًا أسطورية أو حتى تاريخية هو الواقع بنفسه وقد تجرد من كل ما هو عرَضي وطارئ وعابر ليبقي على كل ما هو جوهري وأصيل. وتلبُّس الواقع بالرمز ومشابهة الرمز للواقع هي التي ورطت كثيرًا من النقاد المخلصين في أحبولة المعادلات غير العادلة بين الرواية ودلالاتها. فالحق أن رحلة صابر رحلة حقيقية لذلك الباحث عن الحرية والكرامة والسلام بافتقاده لهذه النجوم الثلاثة منذ توسَّدت أمه التراب ولم يبقَ في جيبه مال كثير يقيه شر العوز، ولم يعُد لديه من الأحباب والأصدقاء ما يتقي به شر الغدر. وهكذا أصبح الأمر لذلك المرتبط بأُم غابت في ظلمة القبر، وبأبٍ غائب في الدنيا الواسعة، أن يصبح قدره في هذا الوجود هو البحث عن الأب الذي لم يرَه وإن جاء صورة منه كما تدل على ذلك صورة الزفاف التي تجمعه بأمه، وشهادة الزواج التي احتفظت بها طول العمر، منذ ارتبطت به وهو بعدُ طالب صاحب عز وجاه إلى أن هجرته إلى واحد من طينتها فعادت إلى الحمأة الدانية القطوف من حيث أتت. هكذا قالت له «ستجد في كنفه الاحترام والكرامة، وسيحررك من ذل الحاجة إلى أي مخلوق بما سيُهيئ لك من عمل غير البلطجة والجريمة، فتظفر آخر الأمر بالسلام.» وكأنها أرادت لابنها — قبل أن تلفظ آخر أنفاسها — مستقبلًا آخر غير الماضي الملوَّث بالدعارة الذي أودى بها إلى السجن فالقبر. وهكذا أيضًا ألفى نفسه وحيدًا في هذه الرحلة العسيرة الفهم، فأين هي الحقيقة وأين هو الحلم؟ تساءل صابر وقد عزم على أن يخطو الخطوة الأولى: «أمك التي ما تزال نبرتها تتردد في أذنك قد ماتت، وأبوك الميت يبعث في الحياة.» وأنت المفلس المطارد بماض ملوَّث بالدعارة والجريمة تتطلع بمعجزة إلى الكرامة والحرية والسلام. لقد أصبح مريض الشيخ زعبلاوي محدَّد المرض معروف الدواء، ولكن معرفته بالدواء تزيد المرض التهابًا كلما اتسعت المسافة بينه وبين زعبلاوي، بين صابر وسيد سيد الرحيمي. فمن شيخ الحارة إلى قائمة المسجونين إلى قارئ الكف، والنقود تقارب النفاد وهو بعدُ في الإسكندرية. وعتب على أمه في قبرها لحظات تذكر فيها أنها هي السبب، خدعته طيلة العمر بقولها: مات أبوك وهو في ريعان الشباب. فهل خدعته قبل أن تموت بقولها: إنه حي؟ وما العمل «وأنت اليوم وحيد بلا أهل ولا أصدقاء كأنك جنس غريب» … الوحدة الشقية والانتماء المحزن، كلاهما وجه للتعاسة التي لا تنتهي. ويحزم أمره على السفر إلى القاهرة، وفي فندق متواضع يلتقي بكريمة الزوجة النضرة لعم خليل أبو النجا صاحب الفندق الذي لن يتغير بعد الموت. وبمجرد أن يراها تراوده أخيِلَة جنسية تتخللها أحلام بالعثور على أبيه، بل هو يربط مباشرة بين فتاة الأنفوشي وعطفة القرشي وبين كريمة؛ فإذا كانت هي المغامرة القديمة فالمحتمل أنه سيعثر على الأب الغائب «وفي لمحة واحدة تجلت لمخيلته صورة أبيه والوجه الدافئ المفعم بالإثارة.» وقيمة ذلك — تتضاعف بالشهوة المغرية في فترات الراحة من البحث — للوحيد الذي لا أهل ولا صاحب له. وعند ما تجيء المعجزة ستقول له: «أنا صابر، صابر سيد سيد الرحيمي.» ولا يحتاج القارئ لأدب نجيب محفوظ الجديد إلى ذكاء حاد ليكتشف دلالة الأسماء التي يخلعها على شخصياته. فالصبر من نصيب المريض بالبحث عن أبيه، والسيادة والرحمة من نصيب هذا الأب الغريب. والفنان يؤكد على معانيه بالإلحاح والتكرار القريبين من الإفصاح والمباشرة. حتى وهو يقدم لنا شخصية «كريمة» التي تقوم بدور بالغ التعقيد في الرواية قارَب في وصفها بينها وبين الأم، وكأنه يوغل في مطاردة التصور التقليدي لموت الأم الذي لاحقه عند القبر وهم — أولئك المتربصون به — يُوَسِّدونها الفجوة المظلمة. فالحق أن أم صابر في رواية الطريق لم تمت بموت بسيمة عمران، وإنما حياتها قد امتدت في شخصية كريمة. والرواية مليئة بالشواهد التي تجعل منهما وجهين لعملة واحدة. ويستخدم نجيب محفوظ نفس اللعبة الفنية مع «إلهام» الشخصية الثانية في حياة صابر بعد سفره إلى القاهرة. لقد تعرف عليها وهو يعلن عن أبيه في جريدة «أبو الهول» فزاد انتعاشًا بإشعاعاتها التي ترفعه إلى مستوًى غير مألوف في علاقاته مع الناس، وسحرها لا يستقر بموضع بالذات، شائع كضوء القمر «وبه جانب مجهول تتعلق به الآمال كمستقر أبيه.» ولا تلبث شخصية إلهام أن تنتصب أمامنا كامتداد «حاضر» للأب الغائب، صفاتها أقرب ما تكون إلى صفاته وهي في الحلم ابنته، وهي أخيرًا تسلك مع صابر ذلك الطريق الذي يجهد نفسه في العثور عليه نحو الحرية والكرامة والسلام. ولو صح هذا التصور الذي أراه لهاتين الشخصيتين الهامتين في الرواية: كريمة وإلهام، فإن الفنان يكون قد أنجز بعض ما تبقى في قصة زعبلاوي حين حضر الشيخ وكان المريض نائمًا … فإلهام، في تصوري، كانت هي «سيد سيد الرحيمي» في لحظة حضور وتجسد خفيت عن عين صابر الغائبة عن الوعي بين أحضان كريمة، أو بين أحضان أمه … فالحق أنه لم ينفصل عن أمه بموتها؛ بل امتد اتصاله بها عن طريق ارتباطه بكريمة. على هذا النحو يبدو لي البناء الروائي في الطريق، أن هناك طريقًا ممتدًّا من بسيمة عمران إلى كريمة، وطريقًا آخر يمتد من إلهام إلى سيد سيد الرحيمي … وأن مأساة صابر الحقيقية هي أن أباه كان أقرب إليه من حبل الوريد ولكنه لم يستطع أن يراه؛ لأنه كان محاصرًا بين دياجير الظلام؛ سواء في أحضان أمه أو في أحضان كريمة. إن بصيرته لم تستطع أن تخترق الحُجب الكثيفة من «المتعة والجريمة» التي هيأتها له المرأتان، ليرى الحرية والكرامة والسلام ماثلةً له شاخصة إليه في عيني إلهام وعبيرها الفواح بالراحة وهدوء النفس. أي إن مأساة صابر تبدأ منذ تجمدت قدماه في تلك الدائرة الجهنمية، فأصبح لا يرى شيئًا آخر إلا من موقع هاتين القدمين الجامدتين، وهكذا أمست كافة التصورات التقليدية عن معنى الطريق في حياته عجزًا فادحًا عن الخطو خطوة واحدة إلى الأمام. لقد ظن أنه يتقدم وهو يتلقى هذه المكالمة التليفونية أو تلك من أشخاص كثيرين يُدعَون سيد سيد الرحيمي. ولكنه في الواقع كان يمسك سماعة التليفون بيد وكريمة باليد الأخرى، فاستحال عليه الاتصال الحقيقي بأبيه الذي سخر منه في الحلم ومزق كل ما يربطه به، وسخر منه في التليفون قائلًا له: «يا حمار.» وسخر منه وهو يمرق بعربته الفارهة. وسخر منه أولًا وأخيرًا لما كان في الإسكندرية ستة أيام، كان صابر غارقًا إلى أذنيه في البحث عنه. ولكن ماذا يجدي البحث والعين لا ترى؟ وماذا يجدي البحث عن صورة ثابتة في المخيلة باتت لقِدَمها أبعد ما تكون عن الصورة الأصلية، وأحوج ما تكون إلى إعادة الخلق والاكتشاف؟ وأزمة صابر بين التصور التقليدي للطريق وبين الطريق الحقيقي الذي يمكن أن يراه كل إنسان لو خلع عن بصره غشاوة الجمود؛ هي محور الصراع الدرامي في الرواية. والرؤية الجامدة على الماضي هي التي ربطت أحيانًا بين كريمة وأبيه، فطالما قال لنفسه: «إذا كانت هي فتاة الإسكندرية فقد يعني هذا أنني سأُوفَّق في البحث.» أي أن الظن قد خالجه بأنه ربما كانت كريمة هي الطريق إلى الحرية والكرامة والسلام، فيما لو كانت شبحًا لتلك الظلمة الشهية في عطفة القرشي. وعلى طول الرواية لا يتبين صابر — ولا نتبين معه — ما إذا كانت كريمة هي فتاة الإسكندرية أم لا، ولكنا نراها وقد تحولت إلى جدار عالٍ يحول بينه وبين البحث عن أبيه، هذا الأب «الذي لا يحتاج إليه حبًّا في الحرية والكرامة والسلام فحسب؛ وإنما خوفًا من التردي في الجريمة.» لقد ترك الإسكندرية بكل ماضيه الملوث بالدعارة والجريمة، تركها مُمنيًا النفس ألا تكون القِوادة أو البلطجة من نصيبه. وطوال عملية البحث كان يتعذب عذابًا مُضنيًا، ولكنه لم يوشك على الهلاك إلا حين أضمر الكف عن البحث والتفرغ لكريمة «وإذا قرر يومًا الكف عن البحث فسوف يندفع في طريق آخر كثَور أعمى.» وبين البحث والكف عنه عانى صابر أهوالًا دونها الجحيم، ففي النصف الثاني من الليل ينسى كل شيء، ولكن ما أن ينبلج الصبح حتى تنزع نفسه شوقًا وحنانًا إلى إلهام. وفي محضرها ترتفع به مشاعره إلى آفاق عليا من الصفاء «ولكن رغبته في كريمة لا تموت، تغفو إلى حين، ولكن لا تموت. جاذبية إلهام لا تخمد، ولكن سيطرة الأخرى لا مهرب منها كالقضاء. ولشدة وطأة هذه السيطرة يمقتها أحيانًا بقدر ما يعشقها، وكم نادى باطنه إلهام لكي تنقذه، ولكنه نداء اليأس. وشد ما يهرب من هذا السؤال المزعج: من تختار إذا خُيرت؟ ولكنه يدأب على جسمه كدُمَّل كامن. وأحيانًا يمقت الليل وهو ينتظر كالأسير. وإلهام سماء صافية يجري تحتها الأمان، وكريمة سماء ملبدة بالغيوم تنذر بالرعد والبرق والمطر، ولكنها أيضًا سماء الإسكندرية المحبوبة.» بل لأنها سماء الإسكندرية المحبوبة، فهو يكتوي بنيران جحيمها الذي لا نهاية له. فالحق أن كريمة هي الواقع الجاثم، هي الظلام والدمار والسجن وبسيمة عمران والموت. أما إلهام فهي كاسمِها ورسمها؛ ذلك الحلم العظيم الذي يلازم التوقيت الزمني للواقع البغيض، ولكنه يحتاج إلى بصيرة قادرة على اختراق الحُجُب الكثيفة، هي الطريق المؤدي إلى الحرية والكرامة والسلام، وهي أقرب إليه من حبل الوريد، ولكن دونها أهوال الماضي المطل بوجهه البشع على الحاضر، ودونها الرؤية الجامدة على هذا الماضي المظلم. ولقد أثبتت إلهام أنها بعيدة عن المنال بالرغم من كل شيء، عصية عن الإلمام بها في جرعة واحدة كما هو الحال في كريمة التي يهصرها بين ذراعيه ويمتص شهوتها دفعة واحدة. إلهام كالضوء يصعب الإمساك بأشعته، وكريمة كشريحة اللحم المشتهاة مهما كبرت تُغري الفم بالقضم والمعدة بالهضم. وفي لحظات نادرة يُخيل إلى صابر أنه لم يجئ إلى القاهرة للبحث عن سيد سيد الرحيمي، وإنما لكي يجد إلهام «أحيانًا نجري وراء غاية معينة ثم نعثر في الطريق على شيء ما نلبث أن نؤمن بأنه الغاية الحقيقية.» تلك ومضة برقت في الذهن للحظة واحدة كاد فيها أن يضع يده على الوجه الحقيقي لإلهام، فهي بالفعل ليست إلا الوجه الغائب لأبيه المجهول. ولكنه سرعان ما يتراجع بمجرد أن يتذكر كريمة، إنه يتعذب بها وبدونها، يتعذب معها لأن جانبًا فيه يتُوق إلى إلهام، ويتعذب مع إلهام لأن جانبًا فيه يتوق إلى كريمة «والتوحيد بينهما أمنية لا يجرؤ على تمنيها». ولم تكن المشكلة قط هي القدرة على الجمع بينهما كالجمع بين الواقع والحلم، وإنما كانت على وجه التحديد هي استبدال إحداهما بالأخرى. وهو في إحدى اللحظات النادرة التي كاد أن يضع فيها يده على وجه إلهام الحقيقي قال لها: «أعترف لك بأنني لا أجد لحياتي معنى إلا عند اللقاء.» ولكنه عجز تمامًا عن الارتفاع إلى «مسئولية حبها» بالرغم من كل ما قدمته إليه من إمكانيات العمل والزواج؛ لأنها إمكانيات تقبع في دائرة الحلم، عسيرة التحقيق وسط الظلام المُدْلَهِم الذي يعيش فيه بين أحضان كريمة وخطَطِها: قَتْل الرجل العجوز والزواج منها. وهكذا تصبح كريمة هي «الأمل الوحيد» الباقي له، ولو كان منصفًا لقال إنها الواقع الوحيد الذي يملكه. أما إلهام فإنها «خرافة كالرحيمي». وفي اللحظة التي يرفض صابر فيها أن يمسك بسماعة التليفون لما تأكد أن صوت إلهام لا يزال قادرًا على النداء، في هذه اللحظة التي رفض فيها الطريق الحقيقي الوحيد إلى سيد سيد الرحيمي، فإنه قد أعلن في نفس الوقت قبوله للطريق الذي أتى منه وانتهى إليه، الحلقة المفرغة والدائرة الجهنمية التي بدأَتْها بسيمة عمران واختتمتها كريمة … ومن ثم كان لا بد من أن يقتل عم خليل أبو النجا «وأمك هي القاتل الحقيقي.» وكم حاول التخلص من الجريمة بالاعتراف بها لإلهام. ولكن السلسلة الدامية كانت قد التفت حول عنقه بإحكام بالغ. تظن إلهام أن «العمل» هو الذي يحل مشكلته، ولا ترى أن ما تظنه «مشكلة عابرة» قد أصبح جريمة مستعصية الحل. ولا بديل للجريمة — بعيدًا عن إلهام — ألا أن يصبح كهذا الشحاذ الذي يسمع مديحه النبوي طول الوقت «كان في شبابه فتوة داعرًا … ثم فقد كل شيء من قوة ومال وبصر فتسوَّل.» هذا الشحاذ الذي يقوم في الرواية بدور المرآة المتنقلة غير القابلة للكسر. وعندما يصبح اليأس هو مآلنا الوحيد نفتح العيون على آخرها، فعلى حافة الهوة تتهرَّأ أقدامنا ونستيقظ لحظة قبل الانهيار العظيم. حينئذ يتبدَّى لنا كل شيء على حقيقته ولكن كالرؤيا بعد فوات الأوان. هكذا يصرخ صابر بعد أن عرَف حقيقة إلهام «إذن رد الحياة إلى عم خليل واستيقظ من الكابوس»، «ها هو الحب والحرية والكرامة والسلام فأين أنت! ولماذا لم تقع المعجزة قبل الجريمة». وهل في الأمر معجزة يا صابر، أم أن العين الضريرة — بكل بساطة — لا ترى شيئًا وإن كان قرب بنانها؟ لا يتساءل الفنان هكذا، ولكنه يورد آهات صابر: إلهام، لستِ إلا عذابًا، لستِ إلا سوطًا «للتغيير والتعذيب». ولكن هذه الآهات لا تبدل من واقع الأمر شيئًا، حتى بعد اكتشافه لحقيقة إلهام، فهي حين تتصل به تطلب إليه اللقاء من أجل الأب «الذي جئت للبحث عنه.» لا يعيرها التفاتًا، فإذا ألحت واقترحت بأن تجيء هي إليه قال بضيق لا يخلو من حدة: «كلا.» وتنجلي الرؤيا كلها في عيني صابر وهو وحيد في الزنزانة، تمامًا كموقف ميرسول في نهاية «الغريب»، هذا مع القسيس وذاك مع محاميه. ويوجز صابر طريقه إيجازًا عميق الدلالة فيقول للمحامي الذي أرسلت به إليه إلهام فذرف عليها «الدمعة الثانية» في عمره كله: «الحكاية كلها كالحلم، جئت من الإسكندرية للبحث عن أبي فوقعت أحداث غريبة نسيت فيها مهمتي الأصلية، حتى وجدت نفسي أخيرًا في السجن.» وهل خرجت من السجن أبدًا أيها البطل التراجيدي العظيم؟ يستكمل صابر خيبته الدامية قائلًا: «والآن أكاد أن أنسى كل شيء إلا المهمة الأصلية التي جئت من أجلها.» بعد فوات الأوان، للأسف! والمحامي كالملايين الزاهدة في التفلسف، ولكنها تتفلسف رغم أنفها، فيومئ أنه لا جدوى من التفكير في هذا الآن، ولكنه يعِد بالإشارة إليها في المرافعة «باعتبارها أول جناية كتبت عليك قبل أن تولد»، و«لن تجني من الاهتمام بأبيك الآن إلا التعب الضائع؛ فإن مجيئَه أو عدمه سواء في موقفك الأخير.» وكالغريب في قصة كامي يهتف المحكوم عليه بالإعدام بأن اليأس لن يصيبه «إلا إذا وقع اليأس.» وكما أن المشهد الأخير في قصة «الغريب»، يكشف أعماق البطل كشفًا نهائيًّا، ويبلور رؤيا الفنان بلورة نهائية، فكذلك المشهد الأخير في قصة «الطريق» بالرغم من اختلاف جريمة القتل في قصة الكاتب الفرنسي عنها في قصة كاتبنا المصري اختلافًا في المقدمات لا يُفضي إلى اختلاف مشابه في النتائج. يقول ميرسول في خاتمة «الغريب»: «لم أكن أجهل أن الموت في سن الثلاثين أو في سن السبعين لا يهم كثيرًا، إنه في كلتا الحالتين سيعيش بطبيعة الحال رجالٌ آخرون ونساء أخريات، وسيستمر الحال على هذا المنوال آلاف السنين، ولم يكن هناك شيء أكثر من ذلك وضوحًا بأي حال، والشيء المؤكد هو أنني أنا الذي سأموت، سواء الآن أو بعد عشرين سنة.» وينفعل أخيرًا في وجه الكاهن قائلًا: «لم يعُد أمامي سوى وقت قليل لا أريد أن أضيعه مع الله.» وعن صابر تحدث ضمير الغائب «أين الله حقًّا؟ هو عرف اسم الله، ولكنه لم يشغل باله قط. ولم تشده إلى الدين علاقة تذكر. ولا شهد النبي دانيال ممارسة عادة دينية واحدة، فهو يعيش في عصر ما قبل الدين.» ويختتم بطل الطريق مأساته بالتمني ألا يكون هذا الأب حيًّا، كما يقول على برهان، فقد ضاعت الحرية والكرامة والسلام «ولم يبقَ إلا حبل المشنقة.» ولكنه في أعماقه تأكد له وجوده، ذلك الذي لا عمل له إلا الحب — تمامًا كزعبلاوي — وقد أهدى صاحبه كتابًا عن الشباب الدائم، فيا له من كتاب يحتاج إليه ابنه المحكوم عليه بالإعدام. وإن كان «الاتصال به إن لم يكن مستحيلًا فهو يستلزم وقتًا لن يتسع لك.» وتستسلم الكلمات على شفتَي صابر بلامبالاة وللمرة الأخيرة «فليكن ما يكون».

وتنهى رواية «الطريق» لتبدأ من جديد في داخلنا، فالحق أن مثل هذه الأعمال لا يكتب نهاياتها الكُتَّاب، لأنها بمجرد أن تتسرب إلى أعماقنا الخفية تشق لنفسها أخاديد غائرة في الوجدان يصعب على أي كاتب مهما أوتي من المقدرة أن يتنبأ إلى أين تنتهي.

ولعل الشكل في رواية «الطريق» هو المدخل الوحيد إلى سرها الملغِز، وليس في ميسورنا أن نصنع العكس فنبحث عن مضمونها أولًا حتى نفسر شكلها. والذين أقدموا على البحث عن السر قبل أي شيء آخر بذلوا جهودًا مضنية تقترب ثمارها في القليل أو الكثير من جوهر العمل الفني، ولكنها في معظم الأحوال لم تُصِب موضع القلب من هذا العمل الخطير. ولقد تورط كثير من النقاد في أحبولة صابر نفسها، في الرؤية التقليدية لمعنى الطريق، وراحوا يلتمسون للرواية هذا التأويل أو ذاك بعيدًا عن أقرب الطرق إليها، وإليهم. بعضهم رأى فيها رحلة ميتافيزيقية خالصة، كهذا الرأي القائل بأن الطريق «هو بحث الإنسان الدائب عن الله أو عن أبيه الذي في السموات كما تسميه بعض الأديان، وهذا القدَر الذي يسوقه سوقًا إلى المشنقة هو قدَر موته المعلق في رقبته منذ أن خرج إلى الوجود.»١٠ والرأي القائل بأن الطريق هو ملحمة الروح المصرية التي تتجسد في إيزيس باسم بسيمة عمران وفي أوزوريس باسم الرحيمي وفي حوريس باسم صابر.١١ والحق أن رواية الطريق ابتداءً من اسمها، وانتهاء بالوجه الغائب الحاضر لسيد سيد الرحيمي، مرورًا بالأحداث التي رافقت صابر في خُطى بحثه العقيم تكاد توحي بأنها رحلة ميتافيزيقية. ولكن هذا الإيحاء فيما أتصور يعطي أثمن عطاياه فيما لو ألحقنا هذه السمات الميتافيزيقية بالشكل دون المضمون. والبعض الآخر يرى أنها رحلة واقعية خالصة، كهذا الرأي القائل بأن السيد الرحيمي هو جمال الدين الأفغاني، وأن عم خليل أبو النجا هو الرأسمالية، وأن محمد الساوي هو البيروقراطية، وأن علي سريقوس هو الشعب، وأن الزوج الأول لكريمة هو الاستعمار.١٢ والرأي القائل بأن الأب المفقود هو الشباب الثوري في الجامعات إبان السنوات الأولى من الثلاثينيات.١٣ أو أن أزمة صابر هي أزمة الصراع بين الروح والجسد، وأن الأب الضائع في جو الرواية يشير إلى فقدان العقيدة، «فالبطل رمز للإنسان الذي يبحث عن عقيدة شاملة تملأ حياته وتعيد إليه إيمانه وتناسقه النفسي».١٤ وكاد هذا الرأي أن يمس وترًا حقيقيًّا في الأزمة كلها لولا أنه استطرد — أو استدرك — بأن «الأب الذي يبحث عنه البطل هو الله.» ولعل الخطأ القاتل في هذه «التأويلات» جميعها أنها تأويلات وفروض تعتمد الرؤية التقليدية في البحث، ربما كانت الرواية تقدم نفسها بصورة أيسر من ذلك بكثير، وأردت القول «أقرب» من ذلك بكثير. فلقد خاض هؤلاء النقاد المخلصون بحارًا صعبة لاكتشاف لؤلؤة لم تنزلق من أيديهم لحظةً واحدة لو أنهم فكوا قبضتهم عنها. ومن حيث أرادت هذه التأويلات أن تعثر على الصعب والبعيد المنال، جاءت نتائج الإرهاق المُضني الذي كابدوه في مشقة حقيقية ومعاناة صادقة أبعد قليلًا أو كثيرًا عن الأبعاد المركبة للرواية، فهي لا تخرج عندهم جميعًا — واقعيين وميتافيزيقيين — عن أحد احتمالين: الدلالة السياسية، أو الدلالة الروحية. ولو أن الكاتب قصد فعلًا إلى هذه أو تلك من الدلالات السياسية أو الروحية وحدها لما احتاج إلى هذا البناء المركب غاية التركيب؛ بل لأصبح هذا البناء عبئًا ثقيلًا يُحسب عليه لا له. وهذا لا ينفي مطلقًا أن ثمة أفكارًا سياسية تناثرت هنا وهناك، وأن ثمة أفكارًا ميتافيزيقية كذلك، ولكني أعتقد أن الرواية أعقد من أن تنفرد بها هذه الثيمة أو تلك، كما أنها أعقدُ من أن تضم الثيمتين جمعًا آليًّا يقترب من الرداء النظري في «أولاد حارتنا» أو «زعبلاوي» … فالجبلاوي هناك قد اكتفى بمباركة عرفة وأصبح عرفة مطالبًا بإعادة الحياة إليه، وزعبلاوي اكتفى برش المياه المباركة على مريضه وتركه يغط في نوم عميق. ولا يمكن لصابر وطريقه أن يكونا تكرارًا لهذا أو ذاك … فسيد سيد الرحيمي هو الحي الغائب لا يحتاج إلى بعث عرفة، وإنما صابر يحتاج إليه على نحو مختلف عن حاجة مريض زعبلاوي الذي نال على يديه قطرات من المياه الصافية.

ولست أزعم هنا أني أقدم تفسيرًا جديدًا أو مغايرًا لما سبق؛ لأن المنهج «التفسيري» في النقد ينهار من أساسه أمام هذه الأبنية الجديدة في أدب نجيب محفوظ، وهي أبنية مركبة في أمَسِّ الحاجة إلى التحليل والمقارنة أكثر من حاجتها إلى التعليل والتأويل. لذلك قلت إن الشكل في «الطريق» هو المدخل السليم إلى مضمونها، واضعًا في الاعتبار أن العلاقة الجدلية بين الشكل والمضمون لا تتيح الأولوية لأيهما على الآخر. وإنما يقترب نجيب محفوظ من فرانز كافكا في استلهامه قالبًا تعبيريًّا موازيًا — لا مفارقًا — لمحتواه الفكري. ومن ثم يصبح «تحليل» هذا القالب التعبيري إلى عناصره الأولية بمثابة التعرف المباشر على الخامات الفكرية المالئة له. فحين يبدأ مؤلف «المسخ» قصته بهذه الصورة التي وجد جريجور سامسا نفسه عليها ذات صباح «وقد تحول إلى حشرة ضخمة» فإنه في واقع الأمر لا يرمز بهذه الصورة إلى شيء خارجها، وإنما هو يقصدها قصدًا مباشرًا بدلًا من اللجوء إلى الاستعارة والتشبيه والمجاز. لقد كان من قبيل «التعقيد المبتذل» أن يشبِّه الفنان شخصية ما من شخصياته بأنها «حشرة»، فما كان من كافكا إلا أن ألغى حواجز النفاق الاجتماعي ومزَّق الاتفاق غير المكتوب بين الكاتب وقارئه، وجعل من إنسانه حشرة بالفعل ما دام يراه هكذا بدلًا من الاعتذار عن هذه الحقيقة الصارخة بإقامة جدار من التشبيهات المجازية المستعارة. وفور أن يصبح جريجوري سامسا «حشرة ضخمة» في ذلك اليوم الغريب تبدأ الأحداث مسيرتها «المنطقية» بدءًا من هذه النقطة «غير المنطقية» في ظن الكثرة الغالبة. ومن هنا يكشف الفنان زيف الحياة التي نحياها ولامعقوليتها في آن واحد. ولا يصل نجيب محفوظ بعمله الفني إلى هذا الحد من البساطة الملغِزة في أدب كافكا، وإنما هو يحاكيه في «تركيب» بنائه الروائي من أكثر المواد بساطة ومباشرة … بحيث تكتسب هذه المواد في تركيبها النهائي منطقها الخاص الذي قد يختلف مع المنطق العام الشائع، بأنه أكثر صراحة، بل وصراخًا. وبتعبير أدق، يتحول المنطق إلى أداة من أدوات الكشف والنفاذ إلى الحقائق، بدلًا من إكسابها قدرًا يتفق عليه الجميع اتفاقًا غير مكتوب من الاتساق الكاذب والتكامل المفتعل، وكما أن كافة التأويلات الدينية والنفسية لأعمال كافكا لم تُثمر فهمًا عميقًا له، فإن كافة المحاولات الميتافيزيقية والسياسية في فهم «الطريق» وغيرها من أدب المرحلة الجديدة لنجيب محفوظ لم تثمر ثمارها المرجُوَّة. ذلك أن هذه الأعمال — لكافكا ونجيب محفوظ — على الرغم من الاختلاف العميق والجوهري بين الكاتِبَين تتناول إحدى اللحظات «الحضارية» في التاريخ، وليست الميتافيزيقا أو السياسة إلا غطاءً خارجيًّا لا بد من كشفه حتى يمكن اكتشاف ما هو أعمق، أو ما استتر تحت الغطاء الذهبي.

على ذلك يمكن القول بأن الأعوام الثلاثين التي تسبق رحلة صابر، وتُشكِّل ماضيه الملوث بالدعارة والجريمة، ليست هي الخطيئة الأولى أو الخطيئة الأصلية كما يذهب النقاد الميتافيزيقيون، كما أنها ليست الفترة الزمنية السابقة على تاريخ كتابة الفنان للرواية حتى يشطح النقاد الواقعيون في خيالاتهم إلى الثلاثينيات من هذا القرن في تاريخ مصر الحديث … وإنما يمكن لهذه السنوات الثلاثين أن تكون مجرد رقم يزدوج معناه، فهو المبرر الفني لأن يكون صابر شابًّا في عصرنا، ولكن مقارنته بسن الرحيمي تعادل ألف سنة عاشتها حضارتنا المتخلفة. واللعبة الفنية التي أجادها الكاتب في تجسيد الجبلاوي الذي مضت عليه القرون وهو بعدُ حي يرزق، يكررها في مستوًى جديد يجعل من الرحيم جوَّابًا في الأرض طولًا وعرضًا شرقًا وغربًا … فإذا كان الجبلاوي تبسيطا ميتافيزيقيًّا خالصًا لفكرة المطلق الذي لا يموت، فإن الرحيمي تركيب حضاري معقَّد لما بلغته الإنسانية من تقدم يتناقض مع تخلف أبنائها في مكان من الأرض هو مكاننا، وفي زمان ما من التاريخ هو زماننا. وهكذا يصبح للطريق وجهان مترابطان؛ فصابر هو «الإنسان المعاصر» حقًّا، ولكن في «مصر المعاصرة» أيضًا وعلى وجه التحديد. وهو ابن «الرحيمي» حقًّا، ولكنَّ للرحيمي أبناء آخرين في مختلف بقاع الدنيا. وإذا كان الرحيمي هو الوعد المتجدد بالحرية والكرامة والسلام، لا بالمعنى المتصوِّف للتحرر أو السلام، فالكرامة بينهما همزة وصل شديدة الوضوح في إيماءتها للمعنى الحقيقي، فإن صابر — وإن كان ابنه — إلا أنه الشاهد التراجيدي على ضيعة الوعد العظيم في أرضنا وزماننا. وليست الرحلة التي قطعها صابر وانتهت بالجريمة إلا برهانًا دمويًّا على «وجود» الحرية والكرامة والسلام و«غيابها» في آن واحد؛ وجودها في ذروة ما وصلت إليه الحضارة من تألق، وغيابها بما آلت إليه حضارتنا من تخلف وانحطاط. فلا ريب أن أزمة صابر على وجه اليقين كامنة في الفجوة التي لا سبيل إلى ردمها — كما أوضحت أحداث الرواية — بين الانتماء إلى الماضي الملوَّث بالدعارة والجريمة، والانتماء إلى المستقبل المزدان بالحرية والكرامة والسلام، أو في عبارة مختصرة بين الحلم والواقع. فالحق — مرة ثانية — أن الفنان في تجسيده للطريق المفضي إلى الجريمة قد جسَّد في نفس الوقت الطريق المفضي إلى الحرية. ولكن أزمة المنتمي التي اقتصرت فيما مضى على خداع رءوف علوان لسعيد مهران، واقتصرت على خداع الماضي لعيسى الدبَّاغ حتى إنه لم يتراخَ في الجري مسرعًا خلف الشاب الطويل الأسمر الممسك بيسراه وردةً حمراء … هذه الأزمة لم تكن إلا في نقطة البداية، لأن المنتمي، وقد ترك تمثال سعد زغلول واتجه في طريق المبتسم أبدًا، لم يكن يدري أنه لا يزال عند نقطة البداية. حتى مريض زعبلاوي، فقد تأكد من وجوده وحزم أمره على البحث عنه. ومن هنا بدأت الرحلة المريرة التي خاض صابر أهوالها بكل ما يحمل اسمه من القدرة على تحمل الألم المر. خاض رحلته وهو يحمل بين جنبيه «كمال عبد الجواد» و«عرفة» و«سعيد مهران» و«عيسى الدبَّاغ»، يحملهم مجتمعين لا فرادى فنلمح بين ضلوعه نبضة هذا وخفقة ذاك، في قلبه شريان يصب ووريد يمتص، والدماء تمتزج ببعضها امتزاجًا يصعب معه للعين المجردة أن تفصل بين كرة الدم البيضاء عن الكرة الحمراء … ولكن صابر يحتويهم جميعًا ويتجاوزهم إلى الوراء خطوة أبعد ما تكون عن خيانة رءوف علوان، وأبعد ما تكون عن الحزب المنهار على رأس عيسى وتمثاله العتيد، خطوة إلى جذورنا العميقة الغائرة في الروح والوجدان والكيان المصري بأكمله. تتمثل حقًّا في أنظمة اجتماعية تارة وفي دروشات دينية تارة أخرى، ولكنها هي نفسها أعمق غورًا من كل هلوسة ونظام، إنها حضارتنا التي تمزقت أوصالُها وانحطت، فتخلفنا عن ركب الإنسانية المتقدم بمئات السنين. هذا هو الكشف الأول لنجيب محفوظ في رحلته الجديدة. وهو الكشف الذي أُسميه «بالبحث عن الجذور» في القسم الأول من الرواية. وهو البحث الذي بدأَتْه بسيمة عمران في اللحظات السابقة على موتها. وأتمَّته كريمة إبان الفترة الأخيرة السابقة على موتها هي الأخرى، فالموت هو الخلاصة المؤكدة للماضي والحاضر معًا؛ لأنهما وجهان لزمن واحد لم يُصِبه التغيير الحقيقي. ومن هنا قلت إن كريمة هي بسيمة عمران، وإن صابر لم ينفصل عن أمه لحظة واحدة طيلة الرواية، وإن موت الأخيرة هو تأكيد لموت الأولى. وإن تمت النهاية على يدي الابن الضائع. فلا شك أن صابر — وليس الأب الغائب — هو الشخصية الضائعة في «الطريق». وضياعها لا يقترب في كثير أو قليل من ضياع «محجوب عبد الدايم» في القاهرة الجديدة. ذلك الضياع الاجتماعي المحتمل. وإنما هو ضياع يقترب قليلًا من كمال عبد الجواد ويقترب أكثر من سعيد مهران، حتى إذا وصل صابر كان نموذجًا لضياع المنتمي إلى الماضي حقًّا، ولكنه منتمٍ إلى المستقبل فعلًا مع فرق واحد خطير؛ هو أن الانتماء إلى الماضي أكثر واقعية وتجذُّرًا من الانتماء إلى المستقبل. للدرجة التي نفرق بها بين الواقع والحلم. وهذا هو الكشف الثاني لنجيب محفوظ في رحلته الجديدة: «البحث عن مخرج»، ولا أقول البحث عن نظرية كتلك المحاولة التي أَقدم عليها يوسف إدريس في «الفرافير». فالحق أن رحلة صابر كانت في جوهرها بحثًا جَسورًا متواصلًا عن مخرج لهذا المنتمي الذي يكاد يضيع في ظل حضارة متخلِّفة خاوية من الحرية والكرامة والسلام. ويصل نجيب محفوظ إلى ما يشبه النتيجة التي وصل إليها يوسف إدريس، فإذا كان الفرفور قد ظل فرفورًا بحكم قوانين الطبيعة، فإن صابر قد نفد صبره وارتكب الجريمة بحكم قوانين الحضارة. وإذا كان الناقد فيليب راف يصف قصة «المسخ» بأنها تجسيد لإحساس امرئ جثم الوجود على أنفاسه وليس أمامه إلا الانتماء إلى هذا الوجود١٥ فإنه من الممكن تطبيق نفس القول على قصة «الطريق» إذا وضعنا كلمة «الواقع» بدلًا من الوجود حتى لا يتسرب الوصف من بين أصابعنا إلى متاهات غيبية. على أن فرقًا جوهريًّا يظل قائمًا بين «الحكم الحضاري» على صابر بالموت، والقدر الطبيعي عند يوسف إدريس، أو القدر الميتافيزيقي عند كافكا. فالحكم الحضاري ليس مطلقًا من المطلقات خارج الزمان والمكان، وإنما هو قضية نسبية يتحمل جانبًا هامًّا في مسئوليتها صابر نفسه؛ لأنه شارك برؤيته التقليدية في اختفاء الطريق الصحيح من حياته، وماذا تستطيع العين المجردة أن ترى إذا كانت البصيرة الداخلية قد أصابها العماء؟ إنها حينئذٍ تتحول إلى عين زجاجية تَحُول دون تشويه الوجه الظاهري، ولكن يستحيل عليها أن تمنع آلاف التمزقات التي تصيب صاحبها إذا مضى في طريقه وحيدًا، كصابر. أما الجانب الآخر من المسئولية فإنه يقع على عاتق الأعوام الثلاثين التي تُمثلها أم صابر وكريمة وما يرتبط بهما من الظلام والدمار والدعارة والجريمة، فهم ليسوا أعوامًا ثلاثين إن قسنا الزمن بعُمْر صابر وعُمْر الرحيمي، وإنما هو «مجرد رقم» يعني هذا الركام الزمني الهائل الذي يفصل بين واقعنا الدامي بجذوره التي نخر فيها السوس وأمست يبابًا، وبين مستقبلنا الضبابي الغائم الذي ننفصل عنه بحبل المشنقة إذا سار الزمن بهذا المعدل الرهيب الذي يوسع الهوة بين صابر وأبيه حتى لا يبقى ثمة وقت يسمح له بقراءة كتابه عن الحياة مائة عام.

وصابر هنا في تمزُّقه الأليم بين الحاضر والماضي والمستقبل، هو بطل تراجيدي متكامل السمات التراجيدية، هو امتداد حي لكمال عبد الجواد في مرحلة أكثر تعقيدًا. وإذا اعتبرنا كمال تجسيدًا لأزمة جيل لا لأزمة فرد، فمن حقنا أن نعتبر أزمة صابر تجسيدًا لأزمة أمة بأسرها وحضارة بكاملها، لا أزمة فرد. وحقًّا نجيب محفوظ يدين الطرق الفردية إلى الخلاص كما هو الحال مع سعيد مهران، ولكن صابر في «الطريق» لا يمثل طريقًا فرديًّا وإن تجسدت في شخصه الفرد كافةُ العناصر الحضارية الشائخة — رغم شبابه — والمؤدية إلى الانهيار … والحضارة — من أحد وجوهها — ليست إلا التقاليد المادية والمعنوية الممتدة من الماضي لإنارة الحاضر أو إظلامه. ويبدو أن ألف عام من الانحطاط والتخلف قد مزقت الأوصال بين ذُرَى نهضتنا الحضارية القديمة وبين ما وصل إليه الركب الحضاري المعاصر من تقدم. كما يبدو أن الصحوة المفاجئة التي صحوناها منذ أواخر القرن الماضي لم تستطع — في ظل الحضارة القاهرة لإنساننا — أن تكون صحوة عميقة وشاملة. فليس ماضينا مجرد تمثال لسعد زغلول يتعين على عيسى الدبَّاغ أن يترك مكانه تحته ليتابع الخُطى الحثيثة للشاب العجيب، وإنما هو ماضٍ يطاردك أينما كنت تحت التمثال أو بعيدًا منه، لأن ارتباطك به أعمق من ارتباط عيسى بحزب الأغلبية، وإنما هو في مستوى ارتباط صابر بأمه وكريمة في وقت واحد. وإذا كانت بسيمة عمران قد قتلت عم خليل أبو النجا — في رأي صابر — فإن صابر قتل أمه ولم يقتل كريمة في رأينا. وهكذا يختلف الأمر اختلافًا عميقًا بين موقف نجيب محفوظ من «الأب» وبين موقف كافكا الذي كان يراه بديلًا للسلطة أيًّا كان نوعها. وإن كان «البحث» هو العنوان المشترك بين الكاتِبين، سواء كان بحث «ك» أو جريجوري أو المسَّاح في قصص كافكا، أو كان بحث صابر والحمزاوي ومريض زعبلاوي وعرفة في قصص محفوظ. كما أن الأمر في جريمة صابر يختلف عنه اختلافًا كبيرًا في جرائم «الغريب» لكامي أو «قاتل بلا أجر» ليونسكو أو «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ نفسه. ويكاد الأمر في تصوُّري أن يصبح أكثر جلاء ووضوحًا لو أننا عقدنا المقارنة بين صابر من ناحية وبعض شخصيات دوستويفسكي من ناحية أخرى. وفي زعمي أنه إذا كان نجيب محفوظ قد تأثر في ماضيه الفني بتولستوي وديكنز وبلزاك وزولا، فإن حاضره يتأثر بدوستويفسكي وكافكا وكامي وبيكيت. وقد ألمحنا في سياق هذا البحث عن بعض الجوانب في هذه التأثُّرات، وآن الأوان لنتعرض لبعضها الآخر. كانت روسيا القيصرية تعاني آلام «المخاض» الحضاري الوافد عليها من غرب أوروبا بعد ظلام كثيف كاد أن يدمر البقية الباقية من كيانها المادي والمعنوي. وكانت «حُبلى» بالثورة كما يقولون. ولكن دوستويفسكي بالرغم من الآراء السياسية التي ينثرها هنا وهناك قد ركز الجهد، معظم الجهد، على مستقبل «روسياه» الحضاري، أو مستقبلها «الإنساني» كما كان يحب هو أن يسمي هدفه من الكتابة الفنية.

ويتساءل الناقد فيليب راف ما إذا كان هذا اللون من القصص التي يكتبها دوستويفسكي يمكن أن تندرج فيما يُسمى بالقصة البوليسية النفسية، ويجيب بأنها كذلك، فهي قبل كل شيء «بيان سيكوجي عن جريمة ما، والجريمة هذه جريمة قتل»١٦ ويمكن لنا نحن قراء نجيب محفوظ — مع قدر من التجاوز — أن نطلق نفس التعريف على طريقه الفني الجديد. ويضيف الناقد الأمريكي أن قراء «الجريمة والعقاب» الذين لا يتعمدون التنبُّه لمرور الزمن في الأحداث ليدهشوا حين يعلمون أن زمان الرواية برُمته ليس سوى أسبوعين، والحق أنه ليس هناك «مرور زمن» في الرواية؛ لأنه لا يستقل في مُخيِّلتنا عن أزمة التجربة المطروحة للبحث «وهناك بدلًا من الزمن الديمومة الملموسة الفياضة، التي تتقلص وتمتد مع إيقاع الحركة الدراماتيكية.»١٧ ونحن نستطيع بدورنا أن نطلق هذا الوصف — دون أي قدر من التجاوز — على الزمن في رواية «الطريق». إن جزءًا هامًّا — وبالغ الأهمية في الحقيقة — من التأثير الروائي يتحقق، كما يقول فيليب راف، بإبعاد كل شيء لا يمت بصلة مباشرة لوضع البطل الآني، عن وعيه وشعوره، فهو منذ البداية حتى النهاية في حالة من التأزُّم لا محيد له ولا صارف عنها، سواء في عالم الذاكرة أو في عالم الوهم «هذا وإن أهمية ما يفكر فيه وما يشعر به وما يتذكره مرتبطة أشد الارتباط بحاضره الراهن فحسب.»١٨ ولعل قيمة أحلام صابر لا تختلف في جوهرها عن أحلام راسكولنيكوف في استشرافها المستقبل، فقد كانت الفكرة المضمَرة في أحلام كليهما أن «القتل» لا يتم لإنسان آخر غير «البطل» … وراسكولنيكوف قبل أي شيء — كما يقول الناقد الأمريكي — رجلُ تأمُّل، وجريمته توصف في الرواية مرارًا بأنها جريمة «نظرية»، «نظرية» ليس لأنها من وحي نظرية ما وحسب، ولكن أيضًا لأن النظرية، أي التجديد، من جوهرها الأساسي. ويحق لنا أخيرًا أن نستعيد قول فيليب راف عن الجريمة والعقاب بأنها ليست قصة بوليسية البتة؛ ذلك لأننا منذ البداية لا نعرف هوية القاتل فحسب وإنما نتوغل إلى بعض أسواره العميقة. وإذا كان نجيب محفوظ يتفق مع دوستويفسكي في أن الروايتين برُمتهما «قصة تحرٍّ وبحث» فإنه في الجريمة والعقاب ليس بحثًا عن القاتل وإنما هو بحث عن الدافع الذي حفزه إلى القتل، بينما في الطريق يكاد أن يكون هذا الحافز نفسه واضحًا كذلك بالرغم من اشتراكه مع راسكولنيكوف في «أن معرفته وجهله يكادان يكونان أسوأ ما في محنته».١٩ ويسهل من وجهة النظر الدينية — يستطرد فيليب راف — أن ندرك راسكولنيكوف على أنه إليعازر آخر تسعى سونيا إلى أن تُقِيمه من الموت — تمامًا كما هو الوضع بين إلهام وصابر في الطريق؛ حيث تصر على القيام بالمعجزة وهو بين جدران زنزانة الإعدام — ومع ذلك لو قام من القبر فليس هذا إلا بعد أن يكون قد عانى تجربة اللوعة والهلع الناجمَين عن مُلامسة الينابيع الخفية «للحرية والقوة» بتعبير دوستويفسكي، أو «الحرية والكرامة والسلام» بتعبير نجيب محفوظ. وبينما يتحشرج صوت اليأس على شفتي صابر قائلًا في لامبالاة حقيقية: «فليكن ما يكون.» يقبل راسكولنيكوف التحدي ويجيب: «اكسر ما يجب كسره، مرة واحدة وإلى الأبد، وليُلقَ العبء على عاتق رجل واحد … الحرية والقوة! فوق كل المخلوقات المرتعشة وتلال النمل … هذا هو الهدف.» والمصير المشترك بين بطل الطريق وبطل الجريمة والعقاب هو «العقم والرعب» وفي هذا النمط من الشخصيات «تصبح الشهوانية نوعًا من الهرب من الشعور المغثى بالحرية»٢٠ ويرتكبون جريمة القتل فيمن لا تربطهم به علاقة شخصية. وهنا يتنبه فيليب راف إلى الدلالة العميقة للجريمة والعقاب، يساعده الفنان الذي يختار اسم بطله من كلمة «راسكول» التي تعني المخالفة والتمرد، فيصبح راسكولنيكوف نموذجًا للثوري الذي انحرف بفاعلية تراث لا قِبل له به إلى «شيء خاص به» بينما الواقع أنه لم يقتل في المرابية العجوز إلا مبدأ «السلطة التي يسندها القانون الأخلاقي» ومع هذا فهو يمضي إلى اقتراف عمل غير سياسي يصمه بأنه ليس أكثر من «مجرم عادي، بدافع أناني ذاتي»٢١ … وبالتالي علينا نحن أيضًا التنبيه إلى دلالة اسم صابر واسم أبيه واسم إلهام واسم صديق أبيه عَلِي برهان، فهذه كلها علامات يقودنا بواسطتها الفنان إلى أدغال العمل الفني لنعرف أن صابر ليس إلا منتميًا مناضلًا من أجل الثورة، ولكنه بفاعلية تراث من الظلمة لا يتبين طريقه إليها فيضل ويتخذ ضلاله هذه الصورةَ البشعة التي ندعوها جريمة القتل. فكما أن الناقد الأمريكي يجد في «جريمة» راسكولنيكوف احتجاجًا ضد تعاسة بطرسبرج والنظام الذي يسوغها، وكما أن ألبرتو مورافيا لم يَفُته «المعنى السياسي» المستتر في ثناياها، فإننا نجد، بنفس المقدار وأكثر، أن «جريمة» صابر في جوهرها هي احتجاج صارخ على تلك الأيدي الخفية الممتدة من الماضي، الغائرة في الحاضر تظلل المستقبل بلون الدم. فالطريق — كالجريمة والعقاب — تعتمد على خدعة استبدال جريمة ذات معنًى محدد بجريمة ذات معانٍ غير محدودة «ومهما يكن أمر الموضوع الظاهر لهذه الرواية فإن موضوعها الخفي ليس الجريمة أو حاجة المجرم الباطنة إلى العقاب، ولكنه الحق في التمرد العنيف.»٢٢ إن الثوري المستتر في راسكولنيكوف وصابر يُعاني فنيًّا ويلات هذا الوضع المرتبك، بين أسلوبه العادي في الحياة الذي يسوقه سوقًا إلى الجريمة وبين أن يكون «عبقريًّا يطلب القوة باعتبارها حقًّا له وضمانًا لحريته.» في حالة راسكولنيكوف، أو يكون منتميًا مأزومًا يطلب «الحرية والكرامة والسلام» في حالة صابر.
وتتضح لنا العلاقة بين نجيب محفوظ ودستويفسكي لو ألقينا نظرة أخرى على «الإخوة كرامازوف». فبالرغم من أن إيفان «ليس ميئوسًا من خلاصه لأنه لا يقطع أبدًا جذوره الممتدة في الأرض الروسية.» كما يقول أليزيو فيفاس، بينما صابر على النقيض من ذلك؛ قد يئس من الخلاص لارتباطه بالجذور الممتدة عبر ثلاثين عامًا — هي في الواقع إيجاز روائي لعصور كاملة — من الدعارة والجريمة … إلا أن إيفان من ناحية وديمتري من ناحية أخرى وسمير دياكوف من ناحية ثالثة يشكلون وجهًا قريب الشبه للغاية من الوجه الحقيقي لصابر. ولولا انشغال دوستويفسكي بالطبيعة البشرية وإرجاع الظلم في جوهره إلى أعمق طبقات النفس الإنسانية لالتقت «الطريق» مع «الإخوة كرامازوف» في أكثر من نقطة رئيسية. فلا ريب أن هذه الرواية العظيمة هي بالدقة رواية «بحث» وإن تعددت فيه الطرق والتَوَت وتخفَّت؛ بحيث أصبح أكثر تركيبًا من «بحث» صابر في طريق نجيب محفوظ. ويقول إيفان في قصيدته إن ما يعذب الإنسان «ليس سوى القلق الهائل الذي يحدوه للبحث عن شخص يسلمه عاجلًا هبةَ الحرية التي ولد معها هذا المخلوق السيئ المصير.» ويصف ريتشارد ب. سيوال عالم الإخوة الثلاثة في قصة دوستويفسكي بأنه «سفر طويل»؛ لأن مشكلتهم كما يتصورونها ليست هي مجابهة ظلمة خارجية بقدر ما هي «بحث» طويل مؤلم وسط الضباب «وهي ليست كفاحًا لمأزق بقدر ما هي كفاح ضد حالة.»٢٣ إن نوع تجربتهم يختلف عن ذاك النوع البطولي الموجود عند أوريست أو أنتيجون أو حتى أوديب، الذين يقومون إلى حد ما بالسفر «لمعرفة ذواتهم»، ولكنهم في لحظة من لحظات الاستنارة يدركون من ذواتهم ومن عالمهم ما يكفيهم لأن يقوموا في لحظة معينة من الزمن بالتزامات بطولية «عندما يختارون واحدًا من بديلَين مهما يكن اختيارهم سيئًا أو خيرًا.»٢٤ وكثير من قصص دوستويفسكي — يقول الناقد — هي «تجارب في الحرية» ولهذا كان معظم أبطاله «مغالين، متجاوزي الحدود، عنيفين، بل ومجرمين … أعني أنهم رجال قادرون على أن يقوموا بمثل هذه التجارب.»٢٥ على ذلك نستطيع أن نفهم قول ديمتري لا ليوشا: «إنني مستمر في هذا الطريق، ولا أدري أإلى الخزي أنا سائر أم إلى النور والهناء؟ … إنني لست رجلًا مثقفًا يا أخي، ولكني فكرت كثيرًا في الأمر … إنه ليخيفني كثرة ما هناك من أسرار غامضة! وإن أَحَاجيَ لا حصر لها تُثقل كاهل الرجال على الأرض.» وعلى أمثال هؤلاء الأبطال التراجيديين أن يجدوا الجواب على أسئلتهم بأنفسهم، وبطريقتهم الخاصة مهما كان الثمن. وهذا هو الواجب المأساوي المفروض عليهم كما يقول ريتشارد، وهو مزيج من الخير والشر، من الحرية والحتمية. فالطريق الرئيسي — عند إيبوليت — لا يفضل «الممرات الجانبية» و«الأزقة الخلفية الضيقة المظلمة» أو كما يقول لا ليوشا «اسلك أنت طريقك، وسأسلك أنا طريقي، فهناك عار فظيع في انتظاري … مع أنني مطلق الحرية في أن أوقفه. لاحظ أن باستطاعتي أن أوقفه أو أنفذه. لكن دعني أقُل لك إنني سأنفذه … الزقاق الخلفي والمرأة الشيطانة» … وما أشبه قول ديمتري وقول إيبوليت مجتمعَين بطريق صابر الذي اختاره حقًّا، ولكن اختياره كان مشدودًا بجاذبية لا تقل عن القدر تحكمًا وقسوة. فبين البحث عن الجذور والبحث عن مخرج سقط صابر، لأنه حين أراد أن يقتل الماضي — بعد فوات الأوان — كان قد قتل نفسه، وحين أراد أن يتشبث بالمستقبل — بعد فوات الأوان أيضًا — كان الحكم بالإعدام مشمولًا بالنفاذ. وهكذا ينطبق عليه وصف بروكس للبطل التراجيدي الحديث بأن معاناته لا تكون أبدًا مفروضة فرضًا؛ بل هو يتسبب فيها باختياره، أو على الأقل يرضى بها أخيرًا ويتقبلها على أنها من طبائع الأشياء، بما في ذلك طبيعته البالغة العمق. وإذا كان نجيب محفوظ قد تعلَّم عن دستويفسكي أن يرى من خلال وجهة نظره المأساوية أن العالم كما هو سيبقى معضلة إلا أنه يصوره كما ينبغي أن يكون، فإنه قد تعلم من الخبرة المباشرة بالحياة من حوله أن «المستقبل» يكاد أن يكون لفظًا بلا معنًى، وأن «الانقراض» معنًى قبل أن يكون لفظًا. وقد طاردته هذه الفكرة الظلماء مطاردة عنيفة فلم يرَ بُدًّا من أن تكون محور روايته التالية «الشحاذ».

•••

إذا كان صابر نموذجًا مزدوجَ الدلالة للإنسان المعاصر في مصر من ناحية، وأزمة المنتمي التي بلغت طريقًا مسدودًا في بلادنا من ناحية أخرى، فإن الفنان قد آثر أن تزدوج بقية الوجوه الأخرى في الرواية حتى أصبح «الطريق» الواحد طريقين: أحدهما يرتدي ثياب الواقع والآخر رداء الحلم، بل وازدوج الواقع والحلم؛ بحيث إن نسيجهما الكثيف والشفيف قد تداخلا على نحو غاية في التعقيد. وهكذا اختلف البناء الفني في «الطريق» اختلافا كبيرًا عنه في «اللص والكلاب» أو «السمان والخريف»، بالرغم من تقمصه لكثير من السمات البارزة في الروايتين. فسعيد مهران وعيسى الدبَّاغ يومئان برمزهما السياسي في مباشَرة ووضوح، وإن تلبَّس الرمز بعد ذلك بأثقال من الجوانب الشخصية، التي تندغم بالقضية العامة اندغامًا عميقًا. أما صابر الرحيمي فلا يبدو جوهره السياسي بالعين المجردة، وإنما لا بد من بصيرة ثاقبة تنزع عنه الأغطية الثقيلة من الجوانب «الشخصية». ولكن صابر يلتقي بعد ذلك بزميليه في الروايتين السابقتين من زاوية «التوحد» التي حمل فيها كافة العناصر الصانعة للمأساة من داخله ومن خارجه على السواء. وقد ترتب على تجسيد الفنان لبطله «الواحد» أن اشتركت لغة الطريق مع لغة الروايتين السابقتين: إذا تحدث البطل حديثًا نفسيًّا متواصلًا، أو تحاور مع الاخرين حوارًا داخليًّا، أو اشتبك مع أحلامه في شجار ظاهره الانسجام وباطنه التمزق.

وفي «الشحاذ» يعود نجيب محفوظ خطوة إلى ما قبل «الطريق» فيبرز الجوهر السياسي لبطله بروزًا شديدًا، يعود الشاب الطويل الأسمر الممسك بيسراه وردةً حمراء فيتخذ لنفسه اسمًا محددًا هو «عثمان خليل»، ويعود رءوف علوان الصحفي الثوري السابق، الذي خان وقد أصبح اسمه مصطفى المنياوي بائع اللب والفشار وكافة أدوات التسلية في الصحافة والإذاعة والتليفزيون. بل إن «كمال عبد الجواد» يعود من جديد وقد تطورت أزمته التي توقفت عند خاتمة الثلاثية بين أحمد وعبد المنعم شوكت باختياره الثورة الأبدية «مَخرجًا» من الحيرة المدمرة والشك القاتل، والتي ظهرت من جديد في «الطريق» بين كريمة وإلهام، بين بسيمة عمران والرحيمي. وكان نجيب محفوظ قد استخلص نتيجة خطرة في نهاية «الطريق» وكان لا بد له من اختبارها من جديد، كبندول الساعة يتحرك، ولكن هذه الحركة القصيرة السريعة المنتظمة لا تقف أبدًا «محلك سر» وإنما الثواني تجمع الدقائق والساعات والأيام والسنين، وإذ بالزمن «يتحرك» بمعدل أسرع من الحلم. فماذا تقول حركة «الزمان» في «الشحاذ»؟ إذا كان الفنان يعود حقًّا خطوة إلى ما قبل «الطريق» من حيث هو ينزع القشرة الخارجية السميكة التي تغطي حقيقة بطله بأستار كثيفة فيظهر الجوهر السياسي من تحت الغطاء الحضاري، فإنه في نفس الوقت يقدم هذا الجوهر في لحظة أكثر تركيبًا من أزمة سعيد مهران وعيسى الدبَّاغ بالرغم من اشتراكه معهما في هذا «الوضوح» النسبي. أي أنه يتقدم خطوة إلى الأمام في موازاة خطوته إلى الوراء. وتلك هي المعادلة الفنية التي تحكم مسار «الشحاذ» من البداية إلى النهاية. فهي بالرغم من تجاوزها للعنصر السياسي واحتوائها لمعظم العناصر التي اشتملت عليها «الطريق» إلا أنها تحاول فنيًّا أن تسلك طريقا تعبيريًّا مشابهًا «اللص والكلاب». وكما أن النتيجة التي انتهت إليها «الطريق» أكثر تركيبًا من خاتمة «زعبلاوي» فإن الاختبار الواقعي العنيف الذي تعرضت له في «الشحاذ» جاء أكثر تفصيلًا.

وإذا كان المرض في قصة زعبلاوي قد تخفَّى في قصة الطريق، فإنه يعود إلى الظهور في قصة الشحاذ منذ أن تدلت على جدار غرفة الاستقبال بعيادة الطبيب صورة الطفل «ينظر إلى الأفق، وها هو الأفق ينطبق على الأرض، دائمًا ينطبق على الأرض من أي موقف ترصده فيا له من سجن لا نهائي.» وذلك منذ أحس عمر الحمزاوي بخمود غريب، ماتت لديه الرغبة في العمل، وضاق بالدنيا، ولم يعد يفكر أو يشعر أو يتحرك «كل شيء يتمزق ويموت» فيا لها من طمأنينة راسخة حقًّا هذه التي تنسكب من عيون الأبقار وهي ترعى في اللوحة الكبيرة المعلقة في عيادة الصديق القديم. وهل تصدق نبوءته حين يقول لعمر إن ما به ليس إلا مرضًا برجوازيًّا يصيب معظم زواره من الناجحين الأثرياء، نسوا المشي أو كادوا، يأكلون فاخر الطعام ويشربون أجود الخمور ويرهقون أنفسهم بالعمل لحد الإرهاق وأدمغتهم محشوة دائمًا بالقضايا والأملاك، ثم يأخذ القلق بخناقهم حول مستقبل العمل ومصير الأموال. ويضحك عمر بفتور وهو يتخيل صورة الجواد الخشبي المتطلع إلى الأفق عارضًا جانب وجهه الأيسر وفي عينيه شبه بسمة غامضة. فالصورة صادقة في جملتها، ولكنه لم يعُد يهتم بشيء، على النقيض من زميل الصِّبا الذي «يفهم حياته» كلما استطاع أن يلبي حاجة إنسان ملهوف فلا يصبح ثمة معنًى لهذا السؤال الغامض عن معنى الحياة. ولم يتبقَّ من ذكريات الأمس البعيد، السياسة والإضراب والمدينة الفاضلة إلا «سوء السمعة» فيما يقول عمر، والحلم الكبير الذي تحقق بدولة الاشتراكية فيما يقول طبيبه. وبينهما يبرز عثمان خليل كالشبح من بين أسوار السجن العالية، كشبح الأب في مسرحية هاملت، يضع علامة استفهام كبرى حول كل ما قيل عن السمعة السيئة أو الدولة الاشتراكية، ويُذكِّر بغيابه في أحضان الليل الطويل ما يتناساه الصديقان عن قصد أو غير قصد، أحدهما في غمرة تمثيله لدور الطبيب والآخر في غمرة تمثيله لدور المريض، تجاهلا «المرض» الحقيقي الذي يمثله هذا الوجه الاشتراكي الغائب عن بناء الدولة الاشتراكية. ولا يزال الطفل في مُخيِّلة عمر ممتطيًا جواده الخشبي يتطلع في ابتسامة غامضة إلى الأفق «وما زال الأفق منطبقًا على الأرض، فماذا يرى الشعاع الذي يجري ملايين السنين الضوئية؟ وثمة أسئلة بلا جواب، فأين طبيبها؟» هكذا يبعث نجيب محفوظ أبطاله القُدامى، ابتداءً من كمال عبد الجواد وانتهاءً بعمر الحمزاوي مرورًا بصابر الرحيمي وسعيد مهران وعيسى الدبَّاغ، يبعثهم من جديد إلى ساحة الوجود الفني وقد أغنى الوجود الواقعي بركام هائل من التناقضات والأزمات. إن الطبيب الكبير والمحامي الكبير والصحفي الكبير، ثلاثتهم كانوا ذات يوم رمزًا «كبيرًا»، للنضال الثوري من أجل تغيير مصر، فآل بهم المطاف إلى هذه الخاتمة التي تختلف في الجوهر عن خاتمة زميلهم القديم الذي لا يزال خلف الأسوار طيلة سنوات «البناء». على أنه بين الفرسان الثلاثة خارج الأسوار ينفرد عمر الحمزاوي بهذا الأرق من المتواصل والوعي الحاد بالهزيمة. فبينما يندمج الطبيب في رسالته «الإنسانية» — هي في الواقع ضماد جزئي لجرح المجتمع يتيح الرضا على النفس في المستوى الفردي — ويندمج الصحفي في تسلية قرائه والتفريج عن كظومهم، يتوحَّد عمر بهذا اللهيب المستعِر في الأعماق حتى ليصيبه «المرض». وهكذا يمر شبح عثمان خليل أمام عيونهم جميعًا فتصدر عنهما كلمات؛ كمصمصة الشفاه على ميِّت وُورِي التراب. أما عمر فتطارده الذكرى، وحقًّا، لقد أدركت حساسية الضمير الضجر، ولكنه مجرد أن يتذكر عثمان على هذا النحو الغريب يوم «لم يعترف، رغم الأهوال لم يعترف.» ويتدرج به الحديث المر إلى النفس بأن ذاب عثمان في الظلمات كأن لم يكن «وأنت تمرض من الترف. وتنهض الزوجة رمزًا للمطبخ والبنك. فسل نفسك ألا يضجر النيل تحتنا.» وأجابه النيل من ثغرات أعالي الشجر ساكنًا هامدًا شاحبًا معدوم المرح والمعنى. ولا يؤَنْسِن الفنان الطبيعة من حول البطل، بالمعنى الحلولي في الفلسفة، وإنما هو يخلق ديكورًا يتحاور فيه الفكر والشعر. ونفهم على التو لماذا تقتحم مُخيِّلة عمر هذه اللمحة للطفل الباسم في لوحة العيادة، متوهمًا أنه يمتطي جوادًا حقيقيًّا. ويتثاءب عمر تثاؤبًا يبطش بداخله الممزق ويفضح كيانه الآيل للسقوط قائلًا: «اللعنة، إني أشم في الجو شيئًا خطيرًا، ويرعبني إحساس حركي داخلي بأن بناءً قائمًا سيتهدم» هذا «البناء» هو همزة الوصل بين الوجه الغائب وراء الأسوار، والقلب المحطم خارجها. وبالرغم من أن عثمان خليل ليس إلا رمزًا تجريديًّا للثوري المفترَض أو المنتمي المثال، إلا أنه يختلف عن الشاب الطويل الأسمر الممسك بيسراه وردةً حمراء في أن رمزيته «تفصيلية» وليست مجرد «خط عام» يمشي على نهجه عيسى الدبَّاغ بعد تركه لظل تمثال سعد زغلول. والتفصيل الرمزي في شخصية عثمان خليل أن روح الثورة الأبدية ليست طليقة في حياة عمر الحمزاوي، وإنما هي تعاني ويلات السجن وعذابات القيود. والتفصيل الرمزي في شخصية عثمان خليل كذلك أنه يشكل «الوجه الآخر» لشخصية عمر الحمزاوي، وجه «الماضي» ولأنه ماضٍ، فإنه يبدو كشبح «وقريبًا سيخرج الماضي من السجن فيتضاعف عذاب الوجود» … تمامًا كما كان يستخدم نجيب محفوظ وجه أحمد شوكت، الثائر الأبدي، كوجه آخر لكمال عبد الجواد، الحائر الأبدي. ولأن المسألة الزمنية قد طالت بين كمال القديم في الثلاثية وكمال الجديد في «الشحاذ»، فإن الفروق الفنية تكبر هي الأخرى بين تكوين الشخصيتين. ذلك أن «السكرية» تنتهي بأحمد شوكت في سجن الطور، وكمال عبد الجواد يردد كلماته عن الثورة الأبدية — وإن كانت مشكلة الإيمان لم تحل بعد — أما «الشحاذ» فتبدأ وأحمد شوكت لا يزال في السجن، وإن تَسمَّى باسم جديد هو عثمان خليل، وإن اختلفت وطأة السجن في ظل الحكم الملكي والنظام السابق على الثورة، عنه في ظل الحكم «الثوري» المناهض قطعًا للاستعمار والمعادي يقينًا للطبقات الرجعية القديمة. في ظل هذا الحكم يتضاعف عذاب الثوريين المنتمين إليه، والمعزولين عنه في وقت واحد. وفي ظل النظام الجديد الذي أرهص به ومهد له نضال عثمان خليل وعمر الحمزاوي ومصطفى المنياوي فيما مضى، تتضاعف المرارة في القلوب، سواء كانت مرارة حبيسة خلف الأسوار، أو منطلقة في الكاديلاك السوداء خلف مارجريت، ووردة عند أحد أطراف الصحراء بالهرم. المرارة واحدة، والعذاب مشترك، وإن دأب الفنان على تفصيل الأزمة تفصيلًا دقيقًا، فيصبح عثمان خليل، كمرآة صابر في الطريق، حلمًا داميًا يسهد ليالي عمر وقد تسربت بين نجومها أطياف الوجود وأسراره، وأمست الظلمة الظلماء هي كابوسه الذي لا يفارقه أينما ذهب؛ إلى أبعد لحظات الشبق التي تتراءى له كلحظة الخلق، أو أبعد لحظات الوحدة التي تتراءى له كلحظة الميلاد الأول لآدم. وتتكاثف اللحظتان في وجدان عمر، ويصوغ بينهما جسرًا من الوهم الخالص، أو الماضي المندثر حين هتف عثمان يومًا في حال من التجلي: «عثرت على الحل السحري لجميع المشاكل.» فاندفع الجميع برعشة حماسية إلى أعماق المدينة الفاضلة، كذلك صنع الجسر من الواقع الصلب، أو الحاضر الفاجع «عندما اعترضتنا دورةٌ فلكية معاكسة انتقلنا من خلال الحزن والفشل إلى المقاعد الوثيرة، وارتقى العملاق بسرعة فائقة من الفُورد إلى الباكار حتى استقر أخيرًا في الكاديلاك، ثم أوشك أن يغرق في مستنقع من «المواد الدهنية» مسجلًا بذلك مولد أبشع التناقضات في مسيرة النظام الثوري، مولد الطبقة الجديدة التي تكونت من بعض أبناء النظام والمستفيدين منه، وانضم إلى صفوفها بعض المنتمين ثوريًّا إلى أرحب آفاقها.٢٦ والإشارة الذكية إلى زينب، زوجة عمر التي كانت يومًا فتاة متمردة خرجت من مدرسة الراهبات ومن بين الحصن الحصين للأسرة المحافظة، ثم أصبحت جزعة من أخبار التأميم، تبلغ الإشارة أقصى درجات ذكائها حين يقاطعها عمر: «بالله خبريني كيف سمنتِ إذن لهذا الحد؟» فتجيبه: «كنت في شبابك مثلهم لا تتكلم إلا عن الاشتراكية وهي ما زالت في دمك.» تلك إذن هي المأساة على وجهها السافر، وليس مستنقع المواد الدهنية أو هذا الجسد الشحمي الذي آلت إليه زينب إلا تعميقًا فنيًّا للحظة الحاضرة اللَّزِجة التي يحياها عمر في موكب الطبقة الجديدة بقلب خافق للماضي، الذي كان. والقلب يخفق لا بتأثير المبادئ التي أوشكت يومًا أن تقذف بالجميع إلى السجن «فأيام الجهاد نفسها لم تعُد إلا ذكريات محنطة» … وإنما يخفق القلب بآلام موجعة غير مرئية منذ أن اكتسحت وجوده الاجتماعي كافة الملذات، حتى لم يبقَ لوعيه النافذ الحاد، إلا أن ينصت باهتمام شديد إلى قول أحد زبائنه في ختام مناقشة قضيته «المهم أن نكسب القضية، ألسنا نعيش حياتنا ونحن نعلم أن الله سيأخذها» … لقد أدرك عمر فجأة — كما يقتحم الإحساس باللاجدوى وعبث الوجود أي إنسان عند أحد منعطفات الطريق كما يقول كامي — أنه كسب العالم كله وخسر نفسه. وطارده الإدراك المفاجئ حتى أصبح عليلًا بغير علة واضحة، أمام الآخرين على الأقل. وإذا كان نجيب محفوظ يستخدم حيلة فنية سبق لألبير كامي أن استخدمها للتدليل على كارثة الوجود الإنساني بعد الحرب العالمية الثانية، فإن الكاتب المصري يوظف المفاجأة بعبث الحياة توظيفًا جديدًا يتلاءم مع ظروف الإنسان المصري في ظل مجتمع متخلف تجثم فوقه وتضغط على أنفاسه قُوًى كثيرة من داخله ومن خارجه، لتحول بينه وبين التقدم. ويظل المنتمي إلى الثورة الأبدية الشاملة مشطور القلب إلى نصفين، أحدهما في السجن يعاني مرارة الأمل، والآخر خارجه يجاري نشوة اليأس. والبحث عن سر الوجود هو الترجمة الأمينة لمرحلة الوصول إلى الدرجة «القصوى» من العذاب، وليست بأية حال لغة ميتافيزيقية كما شاء البعض أن يصورها،٢٧ كما أن طريق صابر لم يكن رحلة ميتافيزيقية على الإطلاق؛ فالميتافيزيقا في هذه الأعمال، أقرب ما تكون إلى وصف البناء الفني الذي آثره الكاتب. ولا ينفي هذا التصور أن اليأس من النضال بما يصاحبه من هزيمة مرة قد يؤدي في جانب من جوانبه إلى هذا التعلُّق العنيف بالقوى الخفية. ولكنها حينئذٍ تكون «تعبيرًا» عن حالة مرضية أكثر منها «تجسيدًا» لأزمة حقيقية. فلم تدلنا الشُّعيرات الدقيقة في حياة عُمر على أن أزمته في جوهرها هي البحث عن المطلق، فلقد ظلت هذه الشُّعيرات طيلة الرواية تمدنا بأسباب حضارية واجتماعية وسياسية فسرت لنا بها هذه «الحالة» التي انتهى إليها، ولم يبدأ بها أبدًا. لذلك يمثل الموت «أملًا حقيقيًّا في حياة الإنسان» في رأي عمر، بينما يمثل أعدى أعداء الإنسان عند أبطال الأدب الوجودي، وأدب العبث. وفي صوت مباشر ولغة تقريرية واضحة يهمس عمر لصديقه بائع الفشار والتسلية في الصحافة والإذاعة والتليفزيون: «أتريد أن تعرف سري حقًّا يا مصطفى، اسمع، عندما أمضَّنى الفشل جريت نحو القوة التي آمنَّا بها من قبل بأنها شر يجب أن يزول، ولكنك تعرف سري يا مصطفى.» هكذا يكشف الفنان أوراقه تمامًا، ونهائيًّا، ويصل بنا إلى الحد الأقصى من الصراحة والعراء الكامل. فالطبقة الجديدة التي ينتمي إليها عمر في حاضره تنازع الطبقة القديمة التي انتمى إليها في الماضي بفكره. وبين الفكر والواقع تدور رحى الصراع الأليم بين عمر وعثمان فور خروجه من السجن، أي عندما أراد الكاتب — جماليًّا — أن يلتقي النصفان النازفان من القلب الدامي.

وقد بدأ الصراع بين النصفين الداميين منذ تساءل عمر على منضدة الشراب ومارجريت تخطر في ثوب سهرة مختلط الألوان لدرجة الغموض «ما عسى أن يفعل المسجونون لو تفشَّى بينهم مرضك الغريب؟!» وكان مرض البحث عن «نشوة الخلق المفقودة» هو التعبير الفني الذي اختاره الفنان كمعادلٍ موضوعي لأزمة عمر … وما دامت هذه هي نقطة الانطلاق في المعادلة، فإن الأحداث التالية تتداعى منها تداعيًا منطقيًّا محسوبًا. فمارجريت في حياته «كل شيء ولا شيء.» وقد اكتوى بين أحضانها، سواء وهي شبح في جوف الليل البهيم، أو وهي جسد نيراني مُتَّقِد بالرغبة «توَّاقًا لنشوة الخلق الأولى اللائذة بسر أسرار الحياة.» من هنا ظل يركض لاهثًا وراء نداء غامض مخلفًا وراءه «حفنة من تراب»، مسرات الأمس وحتى المدينة الفاضلة «حفنة من تراب»، ومن التراب يا عمر وإلى التراب تعود. وعند ما تحكي له وردة في عشهما — أو قفصهما — الذهبي أنها أحست يومًا بشيء ما غير محدَّد يحتاج إلى ما يحدده، لديها مضمون يبحث عن شكل، بين ضلوعها تُعربِد الموهبة، فكيف تتحول إلى فن؟ وجربت أن تكون ممثلة فتمردت على الأسرة وخرجت من البيت، ولكن الملهى الليلي كان المآل الوحيد عندما تقُص عليه وردة وكأنها تستكمل الوجه الآخر لمارجريت، يدوي «الفشل» في أعماقه دويًّا هائلًا «الفشل! اللعنة التي تدفن ولا تموت، ما أفظع ألا يستمع لغنائك أحد، ويموت حبك لسر الوجود ويمسي الوجود بلا سر. وتبعث الحسرات يومًا لتخرب كل شيء.» هكذا يتذكر أيام الشعر التي انقضت وأيام الحب التي ولَّت وأيام الثورة التي انتهت، ولم يعد ثمة «يقين» يمكن التشبث به. والبحث عنه في متاهات الجنس ضربٌ من الخبل، كالبحث عنه في متاهات التصوف ضرب من الخيال. وبين الجنس المجنون والتصوُّف الموهوم، يبرز «عثمان» كالشبح الشكسبيري في مسرحية هاملت. «وقال مصطفى بلهجة أكثر جدية: أقترح على رئيس التحرير أن ألقي محاضرات عن التوعية الاشتراكية على موظفي وعمال الدار.

– بأي صفة؟

– بصفتي اشتراكيًّا عتيقًا!

– وقبلت طبعًا.

– طبعًا، ولكني أتساءل: ما دامت الدولة تحتضن المبادئ التقدمية وتطبقها أليس من الحكمة أن نهتم بأعمالنا الخاصة؟

– كأن تبيع اللب والفشار وتتساءل عن معنى الوجود!

– أو أعشق لأبلُغ نشوة اليقين!

– أو تسقط مريضًا بلا علة.»

هذا الحوار بين مصطفى الذي بعث الفنان في شخصه رءوف علوان من جديد، وبين عمر الحمزاوي الذي بَعَث الفنان في شخصه كمال عبد الجواد وصابر الرحيمي وكافة المرضى بالمطلق والنظرة «الشمولية» للحياة … هذا الحوار يبرز أكثر فأكثر صورة الشبح الماثل لعينَي عمر، شبح «عثمان» الذي لم تتحول الأسوار العالية لسجنه الطويل إلى جسر بينه وبين الخيانة. وبين تنهدات وردة ورعشات مارجريت لم يهتز القلب ولا نال النشوة المستعصية. حتى عندما أحس حتى النخاع أن القتل هو الوجه الخلفي للخلق لم يغامر بشق صدر العشيقة المشتهاة، فهو لن يعثر في داخله عما يبحث عنه، عن تكملة الدورة الملغِزة التي لا تتكلم.» ونجيب محفوظ يستعير تعبيره الفني عن «الأزمة» في هذه النقطة من نقاط «البحث عن مخرج» من مصدرين: أولهما ألبير كامي في «السقطة»، والآخر هو توفيق الحكيم في «شهر زاد» حيث يمنح شهريار هذا التفسير العميق الذي يعطيه نجيب محفوظ لعمر الحمزاوي. ولكن الفرق بين نجيب محفوظ وألبير كامي هو أن «السقطة» الميتافيزيقية هي عماد الرحلة الوجودية، كما أن الفرق بين الحكيم ومحفوظ هو أن شهريار الحكيم ليس إلا تفسيرًا جديدًا لشهر زاد ألف ليلة وليلة، يتصل حقًّا بروح العصر، ولكنه في ارتباطه بمشكلة «العقل والقلب» في أدب الحكيم لا يتصل بأية وشيجة من هنا أو من هناك بقضية الانتماء في أدب نجيب محفوظ عمومًا، وأزمة «الشحاذ» خصوصًا.

وكما أن عمر الحمزاوي بدأ رحلة البحث عن نشوة اليقين في مباهج الجنس ولذائذه التي ارتوى منها بكافة الأساليب والمتع ثم آلت دورتها إلى انتهاء، وكما أن الصحراء في أحد أطراف الهرم كانت ملجأه اليتيم … فإنه قد استأنف هذه الرحلة العنيفة الهوجاء في مباهج التصوف عندما انطلق ذات فجر، وحده، إلى الطريق الصحراوي. ثم أوقف السيارة في جانب من الطريق المقفر وغادرها إلى ظلمة شاملة «ظلمة غريبة كثيفة بلا ضوء إنساني واحد.» واختفت من حوله الأرض والفراغ وظل «مفقودًا» تمامًا في السواد. ورفع عينيه إلى آلاف النجوم والهواء الجاف يهب منعشًا موحدًا بين أجزاء الكون «وبعدد رمال الصحراء التي أخفاها الظلام انكتمت همسات أجيال وأجيال من الآلام والآمال والأسئلة الضائعة» وابتهل إلى الصمت أن ينطق، وتضرَّع إلى حبة الرمل أن تطلق قواها الكامنة وأن تحرره من قضبان عجزه المرهق. وفجأة وهو يطيل النظر في الأفق «رق الظلام وانبثت فيه شفافية، وتكوَّن خطٌّ في بطء شديد ومضى ينضح بلون وضيء عجيب.» ورقص القلب الجريح واجتاحت حناياه الفرحة «وشملته سعادة غامرة جنونية، واندفنت الشكوك والمخاوف والمتاعب، وأظله يقين عجيب ذو ثقل يقطر منه السلام والطمأنينة … وملأته ثقة لا عهد له بها وعدته بتحقيق أي شيء يريد.» إذن فهي لحظة «الوجد» الصوفي العميق، لحظة «التوحد» الكينونة العظمى التي تتجاوز شمولها كل الكائنات، عندئذٍ يصبح هو «الله» الذي يستطيع أن يحصل على كل ما يريد، ولكنه في نفس اللحظة لا يريد شيئًا «ارتفع فوق أي رغبة وترامت الدنيا تحت قدميه حفنةً من تراب. لا شيء. لا أسأل صحة ولا سلامًا ولا أمانًا ولا جاهًا ولا عمرًا. ولتأتِ النهاية في هذه اللحظة فهي أمنية الأماني.» وكما أن وردة ومارجريت وغيرهما من عشرات الأفخاذ والنهود التي دفن في تشنجاتها الألم الممرض قد تطلبت منه أن يهجر «البيت» بكل ما مثله من قيم، وأن يهجر «المجتمع الرسمي» بكل ما يرمز إليه من مُثُل، فإنه لا يتوانى، وقد فشل طريق الجنس في هديه إلى مبتغاه، في أن يهجر البيت والأصدقاء والعالم كله إلى هذا الركن القَصِي من الصحراء، هذا الركن الذي تراءى له طريقًا جديدًا إلى النشوة المستعصية لعله يقوده إلى النجاة. وكأنبياء العهد القديم حين كان يظهر لهم ملاك الرب في مكان يجعلون منه أرضًا مقدسة يقيمون عليها المذبح، كذلك فعل الحمزاوي، حين عاد إلى هذه البقعة النائية من الصحراء، بغير سيارة ولا جاه، وأقام عليها كوخه الأسطوري … لقد أحس يقينًا — بلا جدل ولا منطق، هكذا قال — أن أنفاس المجهول وهمسات السر تدعوه، أفلا يستحق أن ينبذ كل شيء — هكذا استطرد — من أجل هذا النداء الخفي المقدس؟

وبين الجنس الخالص والتصوف الخالص، كانت هناك أنياب الواقع المُدَبَّبة تنهش لحم عمر وروحه. كانت هناك زينب، التلميذة المثالية للراهبات التي أصبحت رمزًا ثقيل الوطأة للبنك والمطبخ. وكانت هناك بثينة الابنة التي أخذت عن أمها لون العينين دون أن تأخذ أكداسها الدهنية، وأخذت من أبيها سر الوجود فصاغته شِعرًا دون أن تأخذ مرضه؛ فقد انتشلتها دراسة العلوم من «السقطة» التي آل إليها. وكان هناك ابنه سمير الذي وُلد من ليالي الضجر القاتل لكل خصب، كنعمات ابنة عيسى الدبَّاغ التي وُلدت هي الأخرى ثمرة من ثمار السأم والضياع. وكان هناك مصطفى المنياوي، الاشتراكي القديم الذي استراح نهائيًّا في أحضان اللب والفشار بعد أن رفعت عنه الدولة عبء الكفاح من أجل العدل. بين الجنس الخالص والتصوف الخالص، كان عمر الحمزاوي يتلظَّى في هذا الواقع المر، وهو الواقع الأكثر تفصيلًا من واقع صابر الرحيمي. ولكن الرؤية التقليدية لمعنى الطريق التي حاصرت صابر بين ضلفتي باب جهنم — إذ كان الطريق أمامه ولم يرَه — هي نفسها الرؤية التقليدية التي حاصرت عمر الحمزاوي في شخص عثمان خليل، وإن جاءت أكثر تفصيلًا هي الأخرى فتقليدِيَّتها وجمودها نابعان من عزلتها الطويلة عن الشعب، والثورة. وبانعزال عثمان عن «البناء» القائم على قدم وساق خارج الأسوار، كان «البناء» يتهدم داخل عمر الحمزاوي على قدم وساق. تلك هي الأنياب المدببة التي راحت تنهش في لحم عمر وروحه بالرغم من أفخاذ وردة ومارجريت، وبالرغم من التوحد مع الكينونة العظمى في طرف الصحراء … فقد قال عن زينب فور ولادتها لسمير «ها هي تخلق على حين يعجز هو عن الخلق.» ولم يملأ الوليد الثغرة التي تفصل بينه وبين زينب … وقال مصطفى إن الفن تخلى عن عرشه للعلم، وإن العلم لم يترك للفن نقطة واحدة يتحرك فوقها. وجاءت بثينة لتزاوج بين الشعر والعلم باحثة عن سر الوجود، ولكن بجناحين أكثر شبابًا وأملًا. غير أن عثمان خليل كان أعمق الجراح في صدر عمر من هذه الأنياب مجتمعة، لأنه الناب الداخلي أوغر الصدر وئيدًا ودون أن يلاحظ ذلك أحد، حتى إذا تهاوى العملاق مِن نابه هو لا مِن أنياب غيره انتابت «المفاجأة» الآخرين ولم تصبه بخدش. هكذا يسقط البطل التراجيدي سقوطًا عظيمًا. فلئن كانت الدولة اشتراكية مخلصة، «وفي هذا الكفاية» من وجهة نظر عمر، فإن الحقيقة الموضوعية لا تتغير بتغير ذوات الأفراد من وجهة نظر عثمان. و«ربما» يكون الوطن قد تطور إلى الأمام، أما عمر ومصطفى فقد تطورا إلى «الخلف». والإنسان إما أن يكون «الإنسانية» جمعاء وإما أن يكون لا شيء. وسوف يجيب عمر بعد قليل بأنه آن الأوان ليفعل ما لم يفعله في حياته «وهو ألا أفعل شيئًا»؛ لذلك فهو يفكر في تفجير الذرة، فإن تعذر ذلك ففي القتل، فإن تعذر ذلك ففي «الانتحار». والحق أنه منذ بدأت تخنقه الإجابات العاقلة وهو يحلم بأن يطير الكازينو الكبير فوق السُّحب، وأن تُراقص الزواحف العصافير. و«العقل الخالص» الذي يمثله عثمان هو أبغض البُغَضاء إلى «قلب» عمر. وإذا أومأ مصطفى — كما لو أنه يتعذر عن صديقه أما هو فلا حاجة به إلى الاعتذار — بأن عمر «يبحث عن نفسه» أجاب عثمان بسؤال المسيح: «أليس هو الذي أضاعها؟» فعثمان — ذلك العقل المطلق من قيود كل ما هو نسبي — لا يجد معنًى للبحث عن معنى «ذواتنا» إذا وعينا مسئوليتنا حيال الملايين. ويدق عمر مسمارة الأخير في نعشٍ يتوق إلى توسيد البطل التراجيدي قائلًا: «ترى هل تموت الأسئلة إذا قامت دولة الملايين؟» فيُحكِم عثمان دق المسمار في التابوت الأبدي مجيبًا: «ولكنها لم تقُم بعد.» والعلماء يبحثون عن سر الحياة والموت بالعلم لا بالمرض، فإذا لم تكن من العلماء، فلا أقل من «ألا تثير في وجوه العاملين غبار النواح والولولة»، والقلب مضخة تعمل بواسطة الشرايين والأوردة، ومن الخرافة أن نتصوره وسيلة إلى الحقيقة و«عمري الذي ضاع وراء الأسوار لم يضِع هدرًا، ولكن عمرك أنت سيضيع هدرًا.» هكذا يختار عمر نابه الداخلي، كاختيار كمال عبد الجواد لأحمد شوكت، وكاختيار صابر لإلهام، يمزق الأحشاء غير المرئية على أضواء الرؤيا العجيبة «للثورة الأبدية». وإذا كان كمال عبد الجواد يعترف بأن مشكلة الإيمان لم تُحل بعدُ فإن أزمة صابر أنه «آمن ولم يرَ» ولكنه لم ينَل التطويب الذي يجدر به؛ لأن إيمانه لم يتزحزح عن موقعه التقليدي. وكذلك آلت الأزمة نفسها ضارية كحمم الجحيم على عمر الحمزاوي؛ لأن إيمانه هو الآخر — المسمى عثمان خليل — لم يتزحزح عن موقعه التقليدي، لطول العزلة وارتفاع الأسوار. ولم يبقَ أمام عمر الحمزاوي الذي باغتته الأزمة في تعبير بدائي أن يطير الكازينو فوق السحب، وأن تراقص الزواحف الطيور إلا أن يرقص مع لهيب الأزمة فوق الهرم، أو يلقي بنفسه من أعلى جسر إلى قاع النيل أو يقتحم الهلتون عاريًا، «ويقينًا إن روما لم يحرقها نيرون، ولكن ضرمتها الأشواق اليائسة، كذلك تزلزل الأرض وتتفجر البراكين.»

وفي كوخه الأسطوري عند طرف الصحراء، حيث تكمن «حقيقة كل شيء في اللاشيء.» وحيث تاقت نفسه إلى لحظة الانتصار المأمولة «لحظة التحرر الكامل» لا تفارقه أنياب الواقع المدببة لحظة واحدة، فإذا بابنه سمير — وهو بعدُ قطعه لحم حمراء — يحمل رأس عثمان خليل ويطارد أباه مطاردة عنيفة حتى ينطرح على الأرض إعياء فيسمع الصفصافة تترنم ببيت من الشعر. واقتربت منه بقرة قائلة إنها سوف تتوقف عن درِّ اللبن لتتعلم الكيمياء. وزحفت حية رقطاء ثم بصقت أنيابها وراحت ترقص في مرح. وانتصب الثعلب حارسًا للدجاج، واجتمعت جوقة من الخنافس وغنت أغنية ملائكية … أما العقرب فتصدت له في لباس مُمرِّضة. وما أشبه ذلك الحلم العجيب بتلك اللحظة الفاتنة التي وقفها يومًا في بحر الظلمة العجيب حين أشرق عليه خط من ضياء بثه — فيما خيل إليه — أنفاس المجهول وهمسات السر … ما أشبه اللحظتين حقًّا وما أذكى الفنان حين يحقق الحلم القديم للزواحف أن ترقص الطيور، فالمعجزة تمت، ولكن بغير أن تكون الكينونة العُظمى في جوف الصحراء هي السبب ودون أن تكون الأشواق اليائسة هي الهدف. وإنما حدثت المعجزة تمامًا كما سبق لها أن حدثت لمريض زعبلاوي، أثناء نومه امتلأت خياشيمه برائحة الياسمين وتساقط على رأسه رذاذ ماء منعش. وإذا بزعبلاوي الذي يبحث عنه المريض المسكين قد كان «حاضرًا» أثناء «غيبته» العميقة بتأثير الخمر (لاحظ الدلالة المزدوجة للخمر، الجسدية والروحية، وهما الطريقان اللذان خاضهما عمر) وكأن الفنان يريد أن يؤكد على أن «غيبوبة» البطل لا تنفي «حضور» ما ظل يبحث عنه طيلة الرواية، أو البطولة. هكذا الأمر في مأساة عمر، إنه ظل غائبًا عن معنى الطريق — كصابر — يجوس في مختلف الطرق بعين تقليدية لا تلمح الطريق الوحيد الصحيح الأقرب إليها من كافة التعاريج والمنعطفات والدهاليز المظلمة … سواء كانت ظلمة الجنس في أعماق الصحراء والعش الذهبي، أم ظلمة الوجد في طرف الصحراء والكوخ الأسطوري. إن عمر يكتشف — فجأة — كما غابت الرؤية عن عينيه فجأة كذلك، أن وحدة الوجود وإرادة الحياة هي «المعنى» الذي يبحث عنه، ومعه البشرية بأسرها في موكب تاريخها الحافل. حينئذٍ يصبح «كل شيء له معنًى» و«لا شيء في الوجود عبث». كما همس عمر، والمطاردون لأزمته إلى ذروتها يتعقبون عثمان خليل المختبئ في هذا الركن القَصِي ويصيبونه — هو لا عثمان — بعيار ناري، ولكن «ليس لشيء نهاية.» كما يغمغم متذكرًا بيتًا من الشعر يتردد في وعيه بوضوح عجيب: «إن تكن تريدني حقًّا فلم هجرتي؟» وهو ليس سؤالًا بقدر ما هو جواب على السؤال الذي طرحه نجيب محفوظ — أو أعاد طرحه — في روايته السابقة «الطريق». فقد طرحه من قبل في «اللص والكلاب» وأجاب عليه الشاب الطويل الأسمر الممسك بيسراه وردةً حمراء، وطرحه من جديد في «الطريق»، وها هو يجيب عليه في «الشحاذ» بالطفل الموعود في أحشاء بثينة من عثمان خليل، ثمرة اللقاء بين الشعر والعلم والثورة. فذلك هو الأمل العجيب الذي يبرق بين الحين والآخر في عالم نجيب محفوظ، يبرق بريقًا عقليًّا خالصًا، وليس امتدادًا عفويًّا لأحداث الرواية. وذلك أيضًا هو تفسير ظهور البريق العقلي كالمعجزة، بلا مقدمات حقيقية في صلب القضية المطروحة للبحث. وهذا هو الفرق الهائل بين بناء «الشحاذ» وبناء «الطريق»؛ بل هو نفس الفرق الهائل بين بناء «السمان والخريف» وبناء «اللص والكلاب». ففي «الشحاذ» و«السمان والخريف» هو بناء عقلي خالص، ومحسوب كالمعادلات الرياضية، بالرغم من توظيفه لكافة الأدوات التكنيكية التي تَشي بالعفوية والبراءة، كالحلم والأحاديث النفسية وانسياب الزمن وتداخله وتدفقه باختلاف الضمائر الثلاثة. ونحن نستطيع أن نوجز «الشحاذ» فنجد أمامنا «زعبلاوي»، ولكنا لا نستطيع بحال أن نوجز «الطريق» أو «اللص والكلاب» لأنهما سؤال روائي، والسؤال يحتمل الظلمة أكثر من النور، والكواليس أكثر من خشبة المسرح. أما الجواب فهو يحمل في تضاعيفه «الضوء» الذي يُبدِّد كل ظلمة والأمل الذي يبدد كل شك. ونحن «نفهم» من بيت الشعر الأخير في خاتمة الشحاذ ما ظل غامضًا علينا طول الطريق. ولكنه الفهم المصنوع من مادة تختلف طبيعتها عن المادة التي صيغت منها أزمة صابر ومأساة عثمان. وكأن الفنان «يقحم» الحل على مشكلةٍ لا حل لها بدلًا من «الانتحار» … فماذا نصنع بعين مجردة لا ترى؟ أليست عينًا من زجاج … تضِلُّ أقرب الطرق إلى قدمي صاحبها لتوغل به في متاهات لا تخطر على بال؟ وكيف الحصول على البصيرة الداخلية التي ترتفع إلى مستوى النبوءة ما دامت أقدامنا لا تتزحزح عن مكانها كالتمثال؟ لم يصنع الفنان أكثر من وردة حمراء تلهب خطوات عيسى الدبَّاغ في السير إلى الأمام، ولم يصنع أكثر من بيت شعر قديم يحث عمر الحمزاوي على المزيد من السير إلى الأمام. بقي سؤال خطير أمام نجيب محفوظ: هل يتجاوز بطله التراجيدي موقع قدميه فيرى «الأمام» بكلتا عينيه، أم أن هذه الخطوة تظل «وعدًا» قابلًا للحلم به في نهاية بعض الروايات دون البعض الآخر، وبغير أن يحقق الواقع الأليم هذا الوعد فلا يسقط الفنان في وهاد الكذب؟ أي إنه إذا كانت مأساة صابر وعمر كامنة في ذلك العناء الداخلي أو الرؤية التقليدية لمعنى الطريق، فهل يعني ذلك ضِمنًا أن الطريق موجود رغم ذلك، أم أن المأساة الأشمل هي أنه ليس ثمة طريق على الإطلاق؟ بعبارة أخرى: أليس لنا أن نشك من جديد في وجود زعبلاوي ما دامت «الغيبوبة» التي أصابت مريضه بإغماء طويل قد رافقت صابر وعمر في رحلتهما الدامية للبحث عن مخرج. ألا تشكك هذه الغيبة الدائمة للطريق الصحيح في معنى حضوره؟

إن هذه التساؤلات تتزاحم على مخيلتنا برصدنا لكافة التطورات التي تراكمت على جانبي الطريق الذي مضى فيه «إيمان» كمال عبد الجواد: منذ تلك الإجابة الرمزية لأولاد حارتنا التي جددت السؤال تجديدًا مروعًا في «اللص والكلاب» إلى أن جاوبَنا الفنان جوابًا توقف ثانية عند أعتاب «أولاد حارتنا»، فعاود سؤاله من جديد في «طريق» صابر إلى العذاب الوحشي، وحاول الإجابة من جديد في «الشحاذ» … وفي كل مرة «سأل» فيها نجيب محفوظ، كان يصل إلى أبعد الأعماق غورًا، وفي كل مرة «أجاب» فيها كان يطفو على سطوح الأشياء، على القشرة الخارجية، ليلقي علينا بهذا الذي نسميه فنيًّا بالمعجزة، وندعوه أحيانًا بالأمل … هذا على الرغم من أن الشوط الذي كان يقطعه من سؤال إلى آخر كان الطريق يزداد ظلمة ووحشة بحيث تصبح الإجابة تلو الأخرى نوعًا من المقامرة. لذلك كان الفنان أمينًا كل مرة يدرك فيها أنه خسر الرهان في هذا الجواب أو ذاك، فيعيد السؤال من جديد. على أنه بالرغم من أن إجابته في «الشحاذ» أكثر عمقًا وتفصيلًا من إجابته في «السمان والخريف» … كان عليه أن يدرك بصورة أعمق أن «المعجزات» التي تتضمنها إجاباته السابقة، قد أثبتت «خطأ ما» في صميمها يتجاوز بمأساويته الدامية كل أخطاء الموقع التقليدي للقدمين الثابتتين والعين الزجاجية. وهذا ما يشكل في روايتيه القادمتين «ثرثرة فوق النيل» و«ميرامار» مرحلة جديدة تختلف كثيرًا عن مرحلة السؤال والجواب في «الطريق» و«الشحاذ»، والمرحلة الأقدم منها في «اللص والكلاب» و«السمان والخريف».

وقبل أن ننتقل إلى المرحلة الجديدة الثرية بأخطر مواقف نجيب محفوظ، يجدر بنا أن نعيد النظر فيما تأثر به من صياغات الآخرين أثناء صياغته لمحنة الشحاذ. وبخاصة عندما نجد قاضي التحقيق في «الجريمة والعقاب» لدوستويفسكي يوجه الحديث إلى راسكولنيكوف قائلًا: «إني أجدك واحدًا من أولئك الذين يقفون باسِمِين لمعذبهم وهو يستخرج أحشاءهم ويمزقها، لو أنهم استطاعوا فقط أن يجدوا الإيمان.» وكأنه يوجه الحديث إلى عمر الحمزاوي. وكما يقول إليزيو فيفاس عن روايات دوستويفسكي من أن ما تحويه ليس أكثر من «تنظيم درامي للحياة يحتوي على أشخاص أكثرهم شديدو الاهتمام بالأفكار.»٢٨ يمكن لنا أن نطلق هذا التعبير على روايات نجيب محفوظ الأخيرة … و«الشحاذ» من بينها على وجه الخصوص. وهذا ما يفسر لنا ما نلاحظه عليها من شحوب لو أنه قيس بالمعايير التقليدية لبناء الشخصيات الفنية، فعالم كافكا — كما يقول نفس الناقد — لا يحتوي على بشر حقيقيين «بل هو تقطير ميتافيزيقي يمثل نواحي معينة من الحياة الروحية.»٢٩ على ذلك يصبح هم نجيب محفوظ، كهم دوستويفسكي تمامًا، هو النظر إلى تلك «الأخاديد السرية» في الروح. والحمزاوي فيه الكثير من إيفان «يسيطر عليه شك كبير لم يجد له حلًّا … وهو واحد من أولئك الذين لا يرغبون في الملايين، بل يرغبون في إيجاد جواب على أسئلتهم.» وقد يجد الجواب في الملايين كما يظن عثمان خليل، ولكن الملايين حينئذٍ لا تعني بالنسبة له إلا جوابًا على سؤال. وقد توجه إيفان وعمر الحمزاوي بسؤال مشترك: «ترى، كيف يمكن أن تكون الحياة جميلة جدًّا وفي نفس الوقت فظيعة جدًّا؟» كما يقول دوستويفسكي مستطردًا: «لقد أحب الحياة بقوة، أحب الأوراق الصغيرة الملبدة عندما تأخذ في التفتح في الربيع والسماء الزرقاء … وهو قادر أن يقبل فكرة الله على أنها فرضية، ولكن الشيء الذي لا يستطيع أن يقبله هو الظلم الموجود في العالم.» وإن تراوحت أشكال الظلم بين إيفان وديمتري من ناحية وعمر وعثمان خليل من ناحية أخرى. على أنه بينما تكمن مأساة إيفان في أنه كتب عليه أن يعيش في عالم «كل شيء فيه جائز» فإن عمر الحمزاوي — على النقيض منه — كتب عليه أن يعيش في عالم ولا شيء فيه مشروع البتة.»

ومن بين أسماء الثالوث الغربي الحديث «روكانتان» في «الغثيان» لسارتر، و«ميرسول» في «الغريب» لكامي، و«دينو» في «السأم» لألبرتو مورافيا، يبرز بطل السأم من بين أفراد أسرة الاغتراب والعبث أقرب ما يكون إلى بطل الشحاذ في تكوينه الفكري وبنائه الفني، وإن اختلفت المقدمات والنتائج في رواية الكاتب الإيطالي عنها في رواية الكاتب المصري. فدينو ابن المرأة الغنية يحس فجأة باشمئزاز غريب من أمه ومن أموالها كتعبير عن اشمئزازه الأكبر من العالم وقواعد العيش فيه، ولكنه لا يجد المأوى في الرسم وإن جاءت الصورة التي تركها بيضاء من غير سوء إلا من توقيعه أسفلها أكبر الدلالات على نيل السأم منه بعد أن مزق الصورة الأولى وهي في تمامها. وهو أيضًا لا يجد المأوى في أحضان سيسيل التي تبدو كالكون الصامت لا تحير جوابًا على أسئلته الضائعة في لياليه الشاذة معها. ولا يجد أخيرًا سوى الرسام العجوز باليستيارى يعانق فيه مرآة مستقبله الأليم؛ إذ ينتحر الرجل ذات يوم لغير ما غاية. وكذلك يفعل دينو، ولكن دون أن يصيبه الموت، بل يتم إنقاذه — ذلك الهارب من الحكم المشمول بالنفاذ — ليلقى مصيره بعيدًا عن الحرية. فليس الإنقاذ هنا كجرح عمر الذي أفاق عليه في العربة مرددًا في ذاكرته ذلك البيت العجيب من الشعر، وإنما هو استئناف الحكم من جانب الوجود الصامت ليظل الكون — في نظر مورافيا — أخلد صمتًا من كافة المحاولات لاستنطاقه. ولقد أفاد نجيب محفوظ بغير شك من رواية «السأم» هذا الحوار العقلي البارد العاري من كل زُخرف عاطفي حتى يتيح للبطل الحد الأقصى من العُري أمام الذات. كما أفاد منه فكرة الجنس كطرف في الحوار الوجودي لا كإشباعٍ عابر وأفاد منه كذلك فكرة المرآة المتنقلة مع البطل بعدد خطواته سواء تمثلت شحاذًا لصابر في «الطريق» أو انتصبت شبحًا دائمًا على الصدر باسم الثورة المأزومة في «الشحاذ». ولكن هذه الفوائد جميعها تدخل في نطاق الأدوات التكنيكية. لا تحول ظلالها الفكرية من الاختلاف الجوهري العميق بين إنسان الغرب الحديث كما عالجه سارتر وكامي ومورافيا، والمنتمي العربي المأزوم أزمة مصيرية بالغة الضراوة والعنف في أعمال نجيب محفوظ.

ولعلى أميل إلى ما يميل إليه بعض النقاد٣٠ من أن صياغة الخاتمة في «الشحاذ» كما جاءت في «الأهرام» أدق وقعًا منها في الكتاب المنشور. يهمس عمر الحمزاوي في الخاتمة الأولى قائلًا: «وأغمضت عيني حتى لا أرى شيئًا … ولم يسكن الألم. وتساءلت متى ينهزم الشيطان. متى أرى وجهك؟ ألم أهجر الدنيا من أجلك؟ وشعرت بالوثبة التي تبشر بالنصر، وشاع في صدري شعور غامر بالسعادة، وعاودني الإحساس الباهر الذي سبق الرؤيا عند الفجر، وقال صوت في باطني كأنه يهبني الجواب عما أسأل عنه: إن تكن تريدني حقًّا فلم هجرتني؟» أما النهاية الفاترة للرواية في الكتاب المطبوع فعلى النحو التالي «ووجد نفسه يحاول تذكُّر بيت من الشعر. متى قرأه وأي شاعر غناه؟ وتردد الشعر في وعيه بوضوح عجيب: إن تكن تريدني حقًّا فلم هجرتي؟!» وهكذا، فما ظنَّه أنيابًا مدببة طيلة الرحلة الدامية؛ من زينب والمستنقع الدهني، إلى مصطفى واللب والفشار، إلى بثينة ومزجها الشعر بالعلم، وأخيرًا بالثورة في زواجها من عثمان خليل، إلى سمير كتلة اللحم الطرية الحمراء والجنين الرابض في بطن بثينة؛ هذه الدنيا كلها من البشر والآلام والتناقضات اللانهائية، التي زعم لنفسها يومًا بأنه هجرها إلى أحضان وردة ومارجريت وبقية القائمة، وتوهَّم أيامًا أنه هجرها إلى أحضان السر في طرف الصحراء … هذه الجزيرة المهجورة هي مطلقه الوحيد الممكن — في رأي نجيب محفوظ — مهما تعرض إيمانه لأنواء البحر المضطرب من حوله، فليس الاضطراب سلبًا خالصًا كما يومئ انتماؤه المستحدث إلى البنك والمطبخ والكاديلاك، فالسلب الخالص سكون أبدي، أما الاضطراب فيعني النقيض في نفس الوقت، النقيض الكامن في أحشاء بثينة أو وليده من زينب. وكما أن النار تخلف رمادًا كما يقول المثل الشعبي، فإن الرماد مآله إلى البعث والتجدد كما تقول الأسطورة. على أن هذا الأمل الوهاج في خاتمة «الشحاذ» ليس إلا بريقًا عقليًّا لا ينسينا الشطر الآخر من الخاتمة: فكتلة اللحم الحمراء المسماة سمير تحمل رأس عثمان خليل، وعثمان خليل لا يزال مطاردًا منذ دخل الطور باسم أحمد شوكت إلى أن أخفقت محاولة اختفائه بالكوخ الأسطوري عند عمر الحمزاوي، وثمرة الزواج بين العلم والفن والثورة — بين عثمان وبثينة — لا تزال ثمارها في عالم الغيب والمجهول. فما المصير؟ ما مصير كمال عبد الجواد بعد أكثر من عشرين عامًا على نهاية الثلاثية، قضاها أحمد شوكت خلف الأسوار تحت أسماء مستعارة؟ إلام تطورت أزمة المنتمي إلى الثورة في مصر المعاصرة؟

لم يتجدد السؤال ولا الجواب في «ثرثرة» أو «ميرامار»، وإنما اكتفى الفنان بتحديد معالم «مرحلة الانتقال» التي نعيشها على كافة المستويات، بدءًا من الحالة النفسية وانتهاء بالفكر والحضارة مرورًا بالمناخ السياسي والاجتماعي. ولكي يؤكد نجيب محفوظ على أن مهمته لم تعد السؤال والجواب، وإنما أمست — مع تكاثف الظلمة — مجرد تحديد لمعالم الانتقال، اختار لروايته الأولى «عوامه» في النيل، ولروايته الثانية «بنسيون» على البحر. وكلاهما يرمزان إلى الإقامة المحدودة غير المستقرة. ولن نفاجأ بعدئذٍ بأن الفنان يستحضر في مخيلته الروائية بعض الوجوه التي صادفتنا في مرحلته — أو مراحله — الجديدة. فهو هنا لا يقدم أنماطًا جديدة من التعبير عن أزمة المنتمي. هذه الأزمة التي بلغت أعلى مراحل عنفها في «الطريق» و«الشحاذ»، وإنما هو يطمح إلى تحديد معالم مرحلة الانتقال التي أحاطت الأزمة بجدران عالية لا تنفذ منها كوة ضوء. فإذا تعرفنا على هذا المنتمي أو ذاك، هنا أو هناك، فإنه ليس مقصودًا — هذه المرة — لذاته … وإنما هو يقوم بدور المؤشر إلى نهاية الطريق المسدود التي أدت إليه تراجيديا مرحلة الانتقال الدامية.

وهذا المؤشر في «ثرثرة فوق النيل» تقوم بدوره شخصيتان: أنيس زكي، وسمارة بهجت، فهما الشخصيتان الوحيدتان اللتان يمكن أن تصب فيهما العوامة — رمز الانتقال وسط المخاطر — كافة عذاباتها التي لخصتها الجوزة الدائمة الحضور ومن حولها دائم الغياب. ويركز الفنان تركيزًا واضحًا على شخصية أنيس، استمرارًا لمنهجه الجديد في التعبير عن البطولة التراجيدية. ولكنه المنهج الذي يضيف إليه روافد لم يعرفها من قبل في رواياته الأربع التالية لأولاد حارتنا.

والرافد الأول هو السياق التاريخي الذي يمنح شخصية أنيس بُعدًا جديدًا لم يعرفه صابر الرحيمي أو عمر الحمزاوي، فهذا السياق الذي يضم في مجراه المتدفق، البُعد الميتافيزيقي والبعد الواقعي، يشي بذلك الإطار الذي حدده نجيب محفوظ لمعنى «الزمن» في مرحلة الانتقال التي اختار العوامة رمزًا مباشرًا لها. هذا الإطار المحدد في «ثرثرة» هو الإطار الحضاري الذي يجمع في مادته وتكوينه شعث العناصر التي شكلت أزمة سعيد مهران وعيسى الدبَّاغ في بدايتها، وأزمة صابر وعمر في ضراوتها … وهي بعينيها التي شكلت جوهر المأساة في «ثرثرة» و«ميرامار»، في ذروة الهزيمة.

والفنان يبني رموزه طابقًا فطابقًا حتى لَيكاد الدور العلوي — إذا نظرت إليه من السطح — أن يُنسيك الدور الأرضي، ولذلك كان «السياق التاريخي» هو سور مصر العظيم في «ثرثرة فوق النيل» يحمي أعلى الشواهق من أعمق القيعان، كما يحمي أغور الأعماق من ناطحات السحاب. أي إن الواقع السفلي في حياة أنيس الذي تبتدرنا به الصفحات الأولى من الرواية على لسان صديقه القائل: «فلتقم أنت في العوامة، لن تتكلف مليمًا واحدًا من إيجارها، وعليك أن تُعِد لنا كل شيء.» من حشيش وخمر، وكذلك الغمامة العلوية في حياة أنيس، تلك التي تبتدرنا بها الصفحات الأولى حين يقدم «كشف الوارد» إلى رئيسه ورقة بيضاء بغير سوء وداخله يردد: «لا حركة البتة في الحقيقة. حركة دائرية حول محور جامد. حركة دائرية تتسلى بالعبث. حركة دائرية ثمرتها الحتمية الدوار. في غيبوبة الدوار تختفي جميع الأشياء الثمينة.» ولكن الواقع السفلي والغمامة العلوية في حياة أنيس زكي يضمهما في تدفق ناري لا يرحم ذلك السياق التاريخي الغريب، الذي يبدأ في غزو مخيلته التي رأت في الحية الرقطاء أنها أدت خدمة لا تتكرر لملكة مصر القديمة، وأن المماليك ظلوا يضحكون رغم صراخ الثكالى «كلما عثروا على آدمي في مرجوش أو الجمالية أقاموا منه هدفًا لتدريبهم. وتضيع الضحايا وسط هتاف الفرح المجنون.»

وأول استعارة يقوم بها الفنان من أعماله السابقة ليصوغ ديكور العوامة العجيبة، هو «عم عبده» البواب العملاق كشيء ضخم عريق في القدم و«رمز حقيقي للمقاومة حيال الموت» والراجح أنه كان يسعى فوق الأرض قبل أن تغرس أول شجرة في شارع النيل — هكذا ردد أنيس — والراجح أيضًا أنه العوامة؛ لأنه الحبال والفناطيس «وإذا سهوت عما يجب لحظةً غرقَتْ وجرفها التيار» وهكذا ردد عم عبده. وسواء كان بوابًا لعوامة الثرثرة أو ربًّا لآل عبد الجواد في الثلاثية أو ساكن البيت الكبير المدعو بالجبلاوي في أولاد حارتنا، فإن ملامحه الفيزيقية تشف عن ذلك البعد الأسطوري في الرواية، تؤكده ولا تنفيه. والسياق التاريخي كما يشاء الفنان أن يُسميَ ما أدعوه بالإطار الحضاري، يحاصر هذه الاستعارة الأولى في ديكور الثرثرة بسؤال مباغت يلح على أنيس ما إذا كان يوجد للمعز لدين الله الفاطمي ورثة يمكن أن يطالبوا ذات يوم بملكية القاهرة، والإجابة المدوخة لرأسي يدور بلا محرك «إن الإفراط وحده كان السبب في أن أكثر الخلفاء لم يُعمَّروا طويلًا». وهو لا يتناول من رفوف مكتبته عبثًا كتاب ك. ك عن الرهبنة في العصر القبطي، ما دامت عيناه تنظران إلى الداخل لا إلى الخارج كبقية عباد الله. فالإنسان — أمامه — يرتد إلى العصر الطُّحلُبي، ولكن ما هي الأسباب التي حولت بعض المصريين إلى رهبان. وليلى زيدان — صديقة الأعوام العشرة الماضية — لا تذكره إلا بنفسها في عصر خوفو حيث كانت ترعى الغنم في شبه جزيرة سيناء، ولكنها لم تترك أثرًا إذ لدغها ثعبان أعمى فقضى عليها … أيُّ شبهٍ بينها وبين الحية الرقطاء التي أدت خدمة لا تنكر بلدغة كليوباترا؟ وليلى — مع ذلك — لا تقاس في لهوها بامرأة مثل فكتوريا ملكة العصر المحافظ المشحون بالتقاليد. وليس عجيبًا هذا التوازي المحكَم بين السياق التاريخي وما يومئ به أنيس من رموز وإشارات، كما أنه لم يكن عجيبًا في تصوره أن يعبد المصريون فرعون «ولكن العجيب أن فرعون آمَن حقًّا بأنه إله.» وهو يغبط نفسه على أن الذي جعل من تاريخ الإنسانية مقبرة فاخرة تزدان بها أرفف المكتبات — ومن بينها مكتبته — لا يضن عليها بلحظات مضمخة بالمسرة. فيا له من مدير أحمق — وأعمى! — هذا الذي لا يرى ما كتبه أنيس في بيان «الوارد» بالرغم من أن الصفحة ظلت بيضاء بغير سوء، تمامًا كصلعة المدير التي تجلت كظهر قارب مقلوب في قبضة الظلام «ووضح تمامًا بأنه من سلالة الهكسوس فوجب أن يرتد إلى الصحراء.» والمدير العام أول الضيوف الجدد في الرواية الجديدة — والطبقة الجديدة على السواء — وليس من قبيل الصدفة ولكن من قبيل الإحكام الروائي أن يطارد الضيف الجديد ذلك السياق التاريخي القائل بأن «الثورات يدبرها الدُّهاة وينفذها الشجعان ثم يكسبها الجبناء.» ولا نجاة من الظلمات إلا في ظلمة أعمق، رابضة في جوف الحوت الذي أنقذ يونس من الهلاك. والحياة تمضي قبل أن نستوعب ما يمر بنا، حتى إذا كان ضربًا من الخيالات المعربدة في رأس أنيس، فما الخيال وما الواقع؟ ومن يكون رجب إله الجنس ومتعهد العوامة بالنساء؟ وإذا كانت ليلى زيدان التي جاء بها لأول مرة هي نفسها فتاة سيناء التي قضى عليها الثعبان الأعمى فهو — رجب — لن يكون شيئًا آخر غير جده القديم الذي كان يسعى في الغابات قبل أن يُقام بناء واحد على ظهر الأرض «كان يدفن في أحضان النساء مخاوفه من الحيوان والظلام والمجهول والموت. كان له رادار في عينيه ورادار في أذنيه وقنبلة مجسمة في قبضة يده. وحقق انتصارات عجيبة قبل أن يتهاوى هالكًا» لنحرص غاية الحرص على هذه «النبوءات» في يدنا كمرآة سحرية للماضي الحاضر أو الحاضر الماضي، فهما معًا «زمن» واحد متعدد الأبعاد حقًّا، ولكن جوهره الحضاري المتدفق عبر التاريخ لا يتأثر بالتفاصيل. من هذه التفاصيل تلك الاستعارة الثانية من الشحاذ؛ حيث يقبض الفنان على عمر الحمزاوي ويوجزه في «مصطفى راشد» أحد أبناء العوامة، المحامي المعروف والفيلسوف. متزوج ولكنه لا يزال يعتقد أنه لم يعثر على أنموذجه المفضل من النساء «وهو يتطلع بصدق إلى المطلق وسوف ينجح في إدراكه ذات ليلة.» ولا خوف ينتاب المؤمن — وبخاصة إذا كان أنيس — ما دام الحوت في الماء، ولكن «سناء» القاصر وأحدث مُنجَزات رجب، يدها صغيرة كيَد نابليون. والانشغال عن الخوف بالخوف في حياة أنيس، سواء حين يهدده المدير بالفصل على طول إدمانه للأفيون، أو وهو يتأهب لقضاء العمر في غابة موحشة، هو ظِل باهت للخوف الذي يجتاح أهل العوامة مهما قال «علي السيد» — نيابة عن الجميع — «لأننا نخاف البوليس والجيش والإنجليز والأمريكان والظاهر والباطن فقد انتهى بنا الأمر إلى ألا نخاف شيئًا.» ويستكمل رجب ملامح الصورة وهو يطرد شبح الخوف عن مهاجمة سناء، كالذباب «فالدولة منهمكة في البناء ولديها ما يشغلها عن ازعاجنا» … وهكذا يصبح هذا البناء شفيعًا مرتين: الأولى عند مصطفى المنياوي بائع اللب والفشار؛ إذ كان اشتراكيًّا قديمًا، والآن لم يعد للنضال معنًى ما دامت «الدولة» تقوم به، والثانية عند بائع آخر يمثل الأدوار المسلية التي يكتبها البائع الأول، هو رجب النجم السينمائي الذي يبرر غواية البنت القاصر بأن «الدولة» منهمكة في البناء. وكأن الدولة في الحالتين كائن ميتافيزيقي معلق في فضاء خرافي، لا يتأثر بناؤه باللب والفشار من ناحية، والمخدر والغواية من الناحية الأخرى. بل وكأن تجارة الدعارة الفكرية الفنية، تختلف في شيء عن المتعة والجريمة التي هيأتها بسيمة عمران لابنها صابر … بل إنها لَتجارة واحدة يظلم أصحابها أنفسهم والدولة معهم والمستهلكين جميعًا إذا لم يحصل أحد الأطراف على نصيبه من الأرباح والخسائر «فيا أيَّ شيء افعَل شيئًا؛ فقد طحننا اللاشيء.» كما صرخت أعماق أنيس، ولا ريب «أن أشنع تهمة في عصرنا هي الرجعية» مهما تلوثت الكلمات بتهكم رجب. ولم يبدع الإنسان — تستأنف أعماق أنيس — ما هو أصدق من المهزلة.

ولم يكن ذلك السياق التاريخي المضطرم بالأحداث العظام إلا «يومًا واحدًا»، في حياة أنيس، ولكن ما أبعده عن ذلك اليوم في حياة آل عبد الجواد التي خصص لها الكاتب ثمانين صفحة أو يزيد من صفحات الثلاثية. وما أقربه في نفس الوقت من يوم التوراة — مضروبًا في سبعة — الذي خلق فيه الرب العالم كله! فالكلمة هنا — في ثرثرة — أثقل وزنًا من صفحة كاملة في الثلاثية العظيمة، وموكب التاريخ يمضي أمامنا في كلمات نحتها أنيس زكي من أشواقه العليا وارتباطاته التُّرابية على السواء. واكتفى الفنان في هذا اليوم من أيام أنيس، أن يقدم بقية الشخصيات في الرواية بصورة تقريرية مباشرة، وأن يصور المناخ النفسي العام لهذه الأسرة الغريبة التي تجتمع من كل حدب وصوب حول الجوزة كل مساء «تثرثر» حقًّا، ولكن ثرثرتها ليست كالنقش على سطح المياه، وإنما كالمسامير الملتهبة في قلب هذه الشخصية الغريبة «أنيس زكي». وأنيس يختلف في بنائه الفني عن صابر في الطريق وعن عمر في الشحاذ؛ لأن منحاه الفكري مختلف أعمق الاختلاف. إنه بغير شك يمضي خطوات في طريق صابر. كما أنه يتسول نشوة اليقين المستعصية على الشحاذ عمر … ولكنه لا يمضي في طريق صابر إلى نهايته ولا يظل شحاذًا إلى الخاتمة. لذلك فبالرغم من أنه «البطل الفرد» الذي يجمع في طواياه أزمة مجتمع ومسئولية حضارة، إلا أن بقية الشخصيات من حوله ليست مجرد شرايين تدفع الدم في عروقه، وإنما هي «شخصيات» حقيقية وليست أشباحًا. وذلك هو الرافد الجديد الآخر في «ثرثرة» بعد الرافد التاريخي، وكان الرافد الثالث هو المكان في معاصرته للزمان، هو العوامة التي تحمل أكداسًا من الكتب وأرفُف التاريخ، ولكنها تحمل في نفس الوقت «أحشاء» الحاضر وأغواره العميقة.

ولعلنا نعثر في «اختيارات» نجيب محفوظ الفنية من «مقبرة التاريخ» الواسعة الفاغرة فاهًا على آخره تبتلع الحاضر عبر غيبوبة أنيس الدائمة، ما يشير إلى طبيعة هذه الشخصية وما تمثله. ولعلنا أيضًا نعثر في اختيارات الكاتب لبقية الشخصيات ما يبلور معنى العوامة في حياتنا، والثرثرة التي لا تفارق جنباتها لحظة واحدة. وبالرغم من أن الغرق ليس من نصيبها كبعض العوامات المجاورة التي لاقت هذا المصير فإن الدمار يلاحقها في ظلمة الصحراء في ذلك اليوم اليتيم الذي خرج فيه الصحاب — أو تجرَّءوا بمعنًى أدق على الخروج — فاقترفت سيارتهم وهرولتهم جريمة القتل التي تهربوا من مواجهتها الواحد بعد الآخر … إلا أنيس زكي وسمارة بهجت. وتكاد معظم الإشارات التاريخية أن تكون منتقاة من لحظات «الهزيمة» في حياة الشعب المصري، الهزيمة الحضارية الساحقة لكل حرية وكرامة وسلام، الهزيمة الحُبلى بكل عبودية وانحطاط وامتهان. منذ لدغت الحية ثدي كليوباترا إلى أن غاص المماليك في دماء المصريين إلى هارون الرشيد الجالس على أريكة تحت شجرة مشمش والجواري يلعبن بين يديه، وأنت — يا أنيس — تصب له الخمر من إبريق ذهبي «ورَقَّ أمير المؤمنين حتى صار أصفى من الهواء وقال لك: هاتِ ما عندك، ولم يكن عندك شيء فقلت قد هلكت. ولكن الجارية ضربت أوتار العود وغنت … فطرب الرشيد حتى ضرب بيديه ورجليه، فقلت ها هي فرصة لتهرب وانسحبت بخفة، ولكن الحارس العملاق لمحك فاتجه نحوك فجرى وراءك شاهرًا سيفه، فصرخت مستغيثًا بآل رسول الله فأقسم ليرمين بك في سجن بينهم …» والسجن الحقيقي هو هذه العوامة التي يجتمع أهلها بين جدرانها على سطح المياه بدافع «الموت» كما همس أنيس وسمارة تخطو أولى خطواتها فوق الصقالة من الشاطئ الآخر، وخُيِّل إليه أنه رآها، ولكن في أي عصر من العصور الغابرة؟ وهل كانت ملكة أو من الرعية؟ على أية حال فأنف علِي السيد وجاذبية رجب القاضي وعملقة عم عبده تشكل فيما بينها صورة الصديق القديم الذي اكتشف النار منذ آلاف السنين ولم يكن هناك وقتها ملوك ولا رعايا. وكما أن معظم الإشارات التاريخية تكاد أن تكون منتقاة من لحظات الهزيمة في حياتنا، فإن معظم الشخصيات المحيطة بأنيس وسمارة تكاد أن تكون هي «الهزيمة» نفسها أو السلبية كما قال مصطفى راشد، أو الفراغ المطلق كما قال رجب. إن المحامي الكبير والصحفي اللامع والنجم السينمائي والمطلقة والقاصر والمزواجة، كلها وجوه سبق لنا التعرف عليها كأشباح مجردة في عالم نجيب محفوظ الجديد، ولكنها هنا في «الثرثرة» ليست أشباحًا على الإطلاق، وليست مرايا تحاصر البطل بكافة أوضاع وجهه التراجيدي … وإنما هي شخصيات حقيقية تقوم بأدوارها مستقلة عن كيان البطل وإن تكاملت معه. وعندما يبوح خالد عزوز بهذا السر المعلن «كل قلم يكتب عن الاشتراكية على حين تحلم أكثرية الكاتبين بالاقتناء والإثراء وليالي الأنس في المعمورة.» فإنه لا يصوغ موقفًا من مأساة المجتمع، وإنما هو يحرك المؤشر في اتجاه المأساة فحسب. وليس هذا بالدور الصغير. والمؤشر يتخذ اتجاهًا واحدًا مهما اختلفت الأيدي التي تحركه. حتى عم عبده البواب العملاق «هو إمام المصلَّى المجاور وهو قواد» تمامًا كالقلم الداعي للاشتراكية بشرط أن يقضي صاحبه ليالي الأنس في المعمورة. لا يزال المؤشر في اتجاه المأساة. مأساة الكيان المنقسم والوجه المزدوج. جانبه مزيف الضوء. والجانب الآخر صادق الظلمة. وليس صحيحًا أن أهل العوامة «مخدَّرون» لا يعنيهم «الواقع» المحيط بهم في شيء … وإذا كان مصطفى راشد يقول مازحًا إنهم يعملون للرزق في نصف اليوم الأول ثم يجتمعون بعد ذلك في زورق ليسبح بهم في الملكوت، فإنه هو نفسه الذي يقول إنه «لا ينتمي لشيء إلا هذه العوامة.» فماذا تكون هذه العوامة إذا كان الانتماء إليها يترجَم بلسان علي السيد أن السفينة تسير «دون حاجة إلى رأينا أو معاونتنا.» ولا فرق حينئذٍ — عند أنيس زكي على الأقل — بين كليوباترا والمرأة التي تبيع المعسل بدرب الجماميز. أو أن تكون سمارة من مواليد برج العقرب أو أن يكون على موعد مع فكرة «مجردة» ذات طابع «جنسي». هذه المجموعة الهائلة من المتناقضات هي العمود الفقري للعوامة وخارجها، للواقع السفلي والغمامة العلوية في حياة أنيس. للسياق التاريخي المتدفق. ولكن اللقاء بين أنيس وسمارة على ظهر العوامة. وإن كان عنصرًا متناقضًا مع بقية العناصر واللقاءات إلا أنه يهمس بالنبوءة التي لا تتحقق بمعزل عن السياق أو عبر مسافة بين البداية والنهاية. وإنما تتجلى النبوءة في «ثرثرة» خلال الأحداث وديناميتها … حتى إن أنيس لا يعكس عين محبة للزائرة «وثمة أسد واحد يلتهم اللحم ويرمي للآخرين بالعظام. وعظام الزائرة الجديدة مترعة بنخاع مزعج.» ومن الممكن أن يكون رجب هو الأسد الأناني. ومن الممكن أن يكون أسد العوامة مجرد ظل لأسد البحر المضطرب من حولها. وأن يصبح «لكل شيء نهاية» — تختلف عن صرخة الشيخ درويش في زقاق المدق — فإنها تكون اللعنة التي لا تبقى في المجمرة — آخر الليلة — إلا الرماد. وبانقضاء الليلة الثانية يتضوَّع من النيل شَذًا مائيٌّ ذو نكهة أُنثوية، فهل تكون سمارة بهجت — رمز التغيير الوحيد الذي حدث في العوامة هذه الليلة، بسلطة الالتزام المطلق وسط الضائعين — هل تكون قد عبرت في خيال أنيس تاركة رائحتها عربون ارتباط في المصير؟ وإذا لم يكن في النجوم من يُعنى برصد كوكبنا ودراسة أحوالنا الغريبة فنحن ضائعون. هكذا يتشنج العويل المكتوم في قلب أنيس وروحه، وكأنه يقرر إذا لم تكن سمارة طوق النجاة فالهلاك هو الخاتمة الجديرة بالجميع. فلعل مسرحيتها تمنح «المعنى» لمن لا معنًى لحياتهم أو في حياتهم، وهي إذن في دراستها لشخصيات المسرحية إنما تؤكد انتسابها لمن يُعنى برصد كوكبنا من كوكب آخر حتى لا تضيع أو لا تزداد ضياعًا؛ فالطائرات الأمريكية ضربت فيتنام الشمالية، وأسراب الكاديلاك تفرش الطريق الطويل نحو الاشتراكية. وقال أنيس لنفسه «كل ذلك» يستقر في جوف الجوزة ثم يتبخر دخانًا، ولكن هذا الدخان يركز دور المؤشر إلى «الهاوية» التي يرقد على حافتها العالم. وقديمًا كان الحمار ينطق بالنبوءة إذا لم يجد الله رجلًا صالحًا، فلا بأس من أن يصف خالد عزوز ليلى زيدان بقوله: «مشكلتها الحقيقية هي مشكلة الوطن كله، وهي أنها فتاة عصرية، أما الزواج فبرجوازي.» وإذا كانت الأسس القديمة التي استقر عليها «المعنى» قديمًا تهاوت، فإن سمارة تقدم أساسًا جديدًا هو «إرادة الحياة» فلو فقدت أنات عمر الخيام حرارتها فقل على الراحة السلام. وكالتعليق الساخر الذي يربط بين ليلى زيدان ومشكلة الوطن، كذلك يسخر مصطفى راشد من أحمد نصر، الزوج المثالي الذي «يقف من نساء العوامة موقف المصريين من الأحداث.» وعندما يخلد أنيس إلى نفسه بعد انقضاء الليلة كل ليلة، لا يجد سوى عم عبده. هذا الذي لا يضعف ولا يشيخ ولا يعرف له أحد عمرًا ولا يظن أنه سيموت، فيتمثل له العملاق في لحظات حضوره — كما تمثل أحمد عبد الجواد لابنه كمال، وكما تمثل الجبلاوي لعرفة — كالوجود الوحيد في خلاء صوتي. حينئذٍ يعي أنيس ما إذا كان همه الأول هو التذكر أو النسيان، وكل ما يدريه أنه سائل نفسه: لماذا وقف التتار عند الحدود؟ وينصف السؤال نبيًّا للهزيمة كنجيب محفوظ، لم يعربد بفكره ولم يتاجر في سوق النخاسة، فقال في «الشحاذ» ضمن حوار بين الطبيب وعمر إن المرض الداهم كالعدو الرابض على الحدود … وها هو ذا يعود في ثرثرة ليؤكد نفس المعنى من قبل أن تعلن الهزيمة عن نفسها بصورة دموية مباشرة. وتذكر أنيس لقاءه المتخيَّل مع نيرون، وأكد إنه كان مجرد إنسان عادي فعشق الفن، ولما وجد نفسه إمبراطورًا قتل أمه، فلما صار إلهًا أحرق روما. وسمارة كالجمرة المشتعلة أبدًا لا تريد أن تنطفئ، تحرق العقول والأفئدة بإيمانها الذي لا يكل بأنه على الإنسان أن يثور «ولو كان سنةً مُرة». وليست المشكلة انفصامًا بين الفكر والسلوك؛ لأن ما يستقر في الرأس لا بد وأن يؤثر بطريقة أو بأخرى في السلوك والمشاعر. لذلك تبهت صورة الوحش القاتل ويبقى الإنسان المنتصر، وشاهده «الدلتا» التي اخضرَّت وأثمرت رغم الشوك والزواحف والوحوش والذباب، فلم يكن ثمة وقت إلا للعمل، ولا هدنة لدفن الموتى. وحقًّا كلويس السادس عشر لا يدري عما يدور في الخارج، لا هو ولا غيره، سواء كان الحادث «انتحار» المرأة في العمارة المقابلة أو «غرق» العوامة المجاورة … ولكن الغيبوبة لا تدوم طويلًا ما دامت سمارة قد أقبلت. هل حدث ذلك، قبل الأوان أو بعده؟ تجيب الرواية في بنائها الديناميكي المتماسك إجابة شحيحة، لا تبوح بسرها دفعة واحدة، ولا تمهد له بقطرة تنبُّؤ. ولكنا نلتقط السر في جريانه المندفع، في سياقه التاريخي الذي أدعوه بالإطار الحضاري. بل ويدعوه الكاتب بالتسمية نفسها حين يصرخ أنيس «يا أوغاد … أنتم المسئولون عن تدهور الحضارة الرومانية.» ثم يحدده تحديدًا صارمًا بقوم ينتظرون إمامهم منذ «ألف سنة» وكأنه المخلِّص أو المسيح المنتظر. وهي السنوات التي قضتها حضارتنا في تخلف وانحطاط اكتفى الفنان فيما مضى بالإشارة إليها بالسنوات الثلاثين من عمر صابر الرحيمي التي قضاها في جو مفعم بالدعارة والجريمة، في القرب من، والبعد عن، أمه بسيمة عمران. والهزيمة العسكرية ليست إلا مظهرًا دمويًّا للهزيمة الحضارية، سواء حدثت في يونيو ١٩٦٧م أو حدثت في عينَي أنيس زكي حين تجلت له المأساة على حقيقتها في «ميدان المعركة»؛ حيث يجلس قمبيز على المنصة ومن خلفه جيشه المنتصر وإلى يمينه قُواده المظفرون، وإلى يساره فرعون يجلس جلسة المنكسر، والأسرى من جنود مصر يمرون أمام الغازي. ويضيق صدر أنيس وهو يرى موكب التاريخ موكبًا من العار والهزيمة، ويضيق بأية حكمة — أية نظرية؟ — إلا حكمة واحدة تنعى جميع الحِكَم، فلن تستطيع إحدى النظريات أن تُلغي هذا الركام الهائل من العار. وقبيل القيلولة سُمع نابليون وهو يتهم الإنجليز بقتله بالسم البطيء، «ولكن ليس الإنجليز وحدهم الذين يقتلون بالسم البطيء.» وإنما التخلف الحضاري الطويل وانعدام التقاليد الديمقراطية في أسلوب الحكم يؤديان هذا الدور «القاتل ببطء» في حياة الشعوب. وتلوح الدنيا — أم مصر؟ — غريبة عند تداول الأفكار، والمخدر ليس وسيلة للهروب من همومٍ شخصية كما يجمع أهل العوامة في مواجهة سمارة؛ لأن الأعباء التي يقومون بها في وعيهم أثقل وزنًا من الأعباء التي يرومون حملها في خدرهم. وهم حقًّا مجموعة من الضائعين، كما تود سمارة أن تصوغ من نفسها مرآة للانتماء يرون فيها حقيقتهم الضائعة في سُحُب الدخان، ولكن كيف — من ناحية — «يحققون الاشتراكية على أسس شعبية وديمقراطية لا زيف فيها ولا قهر.» والأخطار — من ناحية أخرى — «التي قد تحيق بهم كمصادرة الأرزاق والاعتقال والقتل»؟ هل يتمكن الانتماء المثالي — سمارة بهجت — من حل مشكلة الضياع المثالي؟ فلو أن المطلق في حياة مصطفى راشد — أو عمر الحمزاوي من قبل — هو مجرد وسيلة للهرب من المسئولية، ألا تكون المسئولية بالنسبة للكثيرين هروبًا من المطلق؟ أم أن المسئولية والمطلق يلتقيان في «أن الداء الحقيقي هو الخوف من الحياة لا الموت»؟ ويضرب نجيب محفوظ ضربته الفنية البالغة العنف والضراوة — كنبي للهزيمة — لعلنا نفيق من غيبوبة الزمان في عوامةٍ لا زمان لها … وذلك حين يتراءى «تُحُتمس الثالث» لمخيِّلة أنيس زكي ويدور بينهما هذا الحوار: «ماذا تفعل؟

– أتقاسم العرش مع أختي حتشبسوت.

– يسأل الكثيرون عن سر خمولك في ظلها.

– إنها الملكة.

– ولكنك الملك أيضًا!

– إنها قوية وتحب أن تستأثر بكل شيء.

– ولكنك أكثر قُوَّاد مصر وأعظم حكامها!

– لم أخُض حربًا ولم أمارس الحكم بعد.

– إني أحدثك عما ستصير إليه، ألا تفهم؟

– وكيف عرفت ذلك؟

– من التاريخ، كل الناس يعرفونه … إنه التاريخ، صدقني.

– لكنك تتكلم عن مستقبل مجهول!

– إنه التاريخ، صدقني.»

ومن له أذنان للسمع فليسمع، هكذا أتصور الفنان يقول لنا وهو يكتب هذا الحوار العظيم، ومن له عينان فليرَ. وفي هذا المقطع يختار نجيب محفوظ فترة من أزهى عصور الحضارة المصرية القديمة، ويكاد أن يكون المقطع الوحيد وسط الظلمة الداكنة من الإشارات التاريخية العديدة إلى الهزيمة في حياة مصر. ولكن هذه النقطة البيضاء السابحة في بحر مظلم بلا قرار، إنما تجيء في إطارٍ من التساؤلات التي تضع الانتصارات بين قوسين، أو على الأقل موضع التساؤل. بل إن هذه التساؤلات في جوهرها قد تبادلت الحوار من وجهة نظر الهزيمة. والفنان لا يتوسل بالمخدِّر الذي يتعاطاه أنيس طيلة يومه ليستتر تحت لسانه المسطول فينطق علنًا بما يهمس به سرًّا، وإلا لكان أنيس زكي مجرد بوق رخيص يختفي وراءه الصوت الحقيقي. وإنما يضيف نجيب محفوظ إلى هذه الشخصية الفريدة بُعدًا تاريخيًّا يوجز معالم الحضارة التي عشنا في ظلالها في سياق متدفق لا تنفصل خلاله الغمامة العلوية عن الواقع السفلي في حياة أنيس. لا ينفصل الخاص عن العام، ولا الجزء عن الكل، ولا الفرد عن المجتمع، ولا المجتمع عن العصر الذي نعيش فيه. من هذه الزاوية تقترب هذه الشخصية الرئيسية من صابر الرحيمي. ولكنها تتجاوزها طولًا وعرضًا وعُمقًا. فهي شخصية تاريخية تضم في إهابها الماضي والحاضر والمستقبل، وهي شخصية حضارية تضم بين جوانحها طيَّات لا نهاية لها من أغوار الواقع الذي نعانيه. فلم يكن عبثًا أن يكون أنيس زكي هو الناطق الرسمي الوحيد باسم التاريخ في هذه العوامة العجيبة، ولم يكن عبثًا كذلك أن يصوغه الكاتب من بقايا التلميذ الجوَّال بين الكليات النظرية فلا يستقر لشهادته المتوسطة إلا على مكتب الصادر والوارد بوزارة الصحة. هذه الهوة الواسعة بين مركزه المتواضع في المجتمع، وبين ارتفاعه الحقيقي على كافة القامات الفكرية التي يصادفها في العمل والطريق لم يكن ردمها ممكنًا إلا بالمخدِّر، صباحًا في فنجان القهوة، ومساء في جمرات الجوزة. فمن الحشيش والأفيون أقام أنيس زكي جسرًا بين الحلم والواقع، بين الخيال والحقيقة، بين الذات والعالم. ولم يصنع الفنان شيئًا سوى أن جعله جسرًا تاريخيًّا، يختزل الزمان والمكان في إطارهما الموضوعي الصارم، إلى شفرة حلمية أسرع من الضوء. ولا تقوم بقية الشخصيات — باستثناء سمارة بهجت — بدور «المرآة» في حياة أنيس، كما أنها لا تقوم بدور الديكور الذي يزين له أَبْهاء الحاضر حتى لا يضيع في مقبرة التاريخ. وإنما هذه الشخصيات كما رسمتها سمارة — شخصيات حقيقية لها دورها الذاتي المستقل مهما شاركت — من موقعها الخاص — في صنع المأساة الشاملة. ويبدو أن الكاتب قد أراد أن يقدم لنا شخصياته مرتين: الأولى من وجهة نظرهم، والأخرى من وجهة نظر المرآة الموضوعية المحايدة. فسمارة تصف أحمد نصر — في مسرحيتها التي سرق أنيس مسودتها — بأنه يشعر في زاوية من نفسه بأنه «مسئول» أو يجب أن يكون مسئولًا عما يجري من حوله. ومصطفى راشد يجد في المطلق مبررًا للإدمان، ولكنه يَهَبه — فوق ذلك — إحساسًا «بالعلو» فوق تفاهته الحقيقية. وعلِي السيد يطارده الإحساس بالتفاهة والخيانة والعبث، ولكنه من خلال الدخان تتخايل أمام عينيه «إنسانية جديدة». وعلى هذا النحو تصبح هذه الشخصيات الثانوية حقًّا، ولكنها حقيقية جدًّا، ذات بُعدين: الأول يفصح عنه هذا الأسلوب الهروبي البشع، والآخر هو اليقين بأن هناك مسئولية ما تطاردهم من شأنها أن تعلُو بهم على حقيقتها الراهنة، ومن شأنها أيضًا أن تخلق للعالم إنسانية جديدة. حتى عندما نطق الصمت من بين شفتَي أنيس واتهمهم بالهروب أردف أنه هروب من «الخواء» الذي يظلل حياتهم بهذا الضباب المهلِك. وهم يشاركونه التعبير عن هذا الخواء المدمَّر بموجة عاتية من التعليقات «المازحة» فنيًّا، والبعيدة كل البعد عن معنى الهذر. اختلطت الأصوات اختلاطًا شديدًا حتى لَيبدو أن المتكلم واحد، وأنه الجميع في نفس الوقت:

«– لا هروب ولا خلافه، ولكننا نفهم حقيقتنا كما ينبغي لنا.

– عوامتنا هي الملاذ الأخير للحكمة البشرية.

– هل الاستغراق في الأحلام هروب؟

– أحلام اليوم هي حقائق الغد.

– هل التطلع إلى المطلق هروب؟

– أف … وهل علينا مِن عمل سواه؟

– وهل الجنس هروب؟

– اخص! إنه الخلق نفسه.

– وهل الجوزة هروب؟

– هروب من البوليس إذا شئت!

– أهي هروب من الحياة؟

– إنها الحياة نفسها.»

وهكذا يصل الكريشندو إلى الذروة، فتصبح العوامة بكل ما ترمز إليه هي الحياة نفسها. وتتبادل العوامة والحياة هذا المعنى في قمة ما يصل إليه خيال أنيس من نشاط «عقلي»، فالجنون مرض في أي مكان، ولكنه «فلسفة» في «عوامتنا»، بل «والشيء شيء حيثما كان ولكنه لا شيء في عوامتنا.» إن هذه السلسلة من المقارنات بين العوامة وخارجها ليست إلا مجموعة من التساؤلات الحائرة في قلب أنيس حول ما آلت إليه حياتنا في تطورها بالنسبة إلى الحضارة خارج حدودنا. فعندما يصبح للجنون فلسفة، وعندما يصبح الشيء لا شيء، فإن هذا ينطبق أول ما ينطبق على سكان العوامة، ذلك الكهف الغائر في أعماقنا. وإذا كان أنيس قد أدار حواره الذكي مع تُحُتمس، مع لحظة زاهية من لحظات حضارتنا، فإنه يستكمل الحوار على لسان الحكيم «إيبور» الذي عاصر اضمحلال «كل شيء» فأنشد أمام فرعون:

إن ندماءك قد كذبوا عليك؛
هذه سنوات حرب وبلاء.
ما هذا الذي حدث في مصر؟
إن النيل لا يزال يأتي بفيضانه.
إن من كان لا يمتلك أضحى الآن من الأثرياء،
يا ليتني رفعت صوتي في ذلك الوقت.
لديك الحكمة والبصيرة والعدالة،
ولكنك تترك الفساد ينهش البلاد.
انظر كيفت تُمتهن أوامرك!
وهل لك أن تأمر حتى يأتيك من يحدثك بالحقيقة؟ …

ولا سبيل أمامنا إلا أن نصدق «التاريخ» كما قال أنيس لتُحُتمس، وأن نصدق «الفن» كما يقول لنا نجيب محفوظ. ومرة ثالثة ورابعة وإلى ما لا نهاية من المرات، لقد كان هذا الرجل أول أنبياء الهزيمة من أدبائنا الذين رأوا الهَول قبل وقوعه.

وبقدر ما تقترب شخصية أنيس من شخصية صابر الرحيمي وتتجاوزه في نفس الوقت، تقترب شخصية سمارة من شخصية إلهام وتتجاوزها في نفس الوقت أيضًا. هما من جيل واحد، يمكن أن ندعوه جيل الثورة، وهما معًا يدعوان بالقول والفعل إلى قيم جديدة مغايرة للقيم السائدة. وهما من الناحية الفنية البحتة مجرد «مرآة» معلقة في عنق البطل اسمها الالتزام والمسئولية والثورة الأبدية. والشخصية كمرآة تصبح أقرب ما تكون إلى التجريد الذهني للفكرة منها إلى التجريد الفني للثورة. فسمارة صحفية تقدمية، تفِد على هذه العوامة عن طريق زميلها أحمد نصر، كما وفدت إلهام على حياة صابر عن طريق زميلها إحسان طنطاوي، فالخط الروائي يبدأ من صابر في الطريق، ومن أنيس في ثرثرة، ثم يتقاطع معه خط آخر — كإلهام وسمارة — فيلتقيان في نقطة التقاء حميمًا وحاسمًا، ويسرعان في الافتراق بنفس الدرجة من القوة والحسم. فمهما كانت المادة الجاذبة في شخصية رجب ساحرة، إلا أن شخصية أنيس هي «الهدف» الفني من زيارة سمارة للعوامة، فهذه الزيارة هي نقطة النوشادر العنيفة التي أيقظت أنيس من سُباته العميق وكشفت سره الأعمق، فإذا به ذلك «الثوري المستتر» و«المنتمي المأزوم» الذي طالما التقينا به في أعمال الفنان السابقة … ولكنه هنا ليس في بداية الأزمة ولا في مرحلة احتدامها، وإنما في نقطة الختام الجنائزي العنيف. وإذا كانت سمارة تؤمن بأنه يوجد «بطل كامن في كل فرد» من أفراد العوامة، فإن أنيس زكي يبرز كبطل الأبطال، أو البطل التراجيدي الذي ارتدى من التاريخ قناعًا بعد قناع وتلون من أصباغ الحياة لونًا فلونًا حتى كدنا لا نعرفه … ثم جاءت سمارة لتقول شيئًا جديدًا. وسمارة تقول جديدها بوسيلتين متوازيتين، أولاهما: المسرحية الداخلية في الرواية التي تزمع أن تصور فيها أولئك الذين يعيشون «بلا عقيدة» ومن حولهم مجانين يهددونهم «بالنسف في أية لحظة»، والوسيلة الثانية: هي ذلك الحادث الفظيع الذي وقع في الليلة الوحيدة التي قرروا فيها الخروج من العوامة ليلة واحدة، في عربة واحدة. وإذا كانت الوسيلة الأولى قد تحددت بمسودة المسرحية التي انكشف أمرها من ناحية، وبالحوار الطويل حول المسئولية في حياة كلٍّ منهم من الناحية الأخرى … فإن الوسيلة الثانية قد أعوزها مزيد من التحديد لشخصياتٍ ثلاث هم: أنيس وعم عبده ورجب. أما أنيس فهو «نصف مجنون ونصف ميت.» كما وصفته سمارة قبل الحادث في مشروع مسرحيتها، وأما عم عبده فلعله جاء هربًا من جريمة أو حملته موجة الثورة ١٩١٩م كما قال عنه أنيس قبل الحادث أيضًا. وأما رجب فقد أعلن عن عزمه على رفع أجره في الفيلم إلى خمسة آلاف جنيه، فهنأه خالد عزوز وقال له إنه بذلك «يثبت ولاءه للاشتراكية العربية.» وتختال فكرة الرحلة المفاجئة في ذهن الجميع حين تعود سمارة من رحلة قامت بها ووصفتها وصفًا مغريًا هو أنها تستطيع أن تخلق البشر «خلقًا جديدًا» فإذا تساءل أحدهم عن إمكانية ذلك أجاب آخر جوابًا ملتويًا. ولكنه بالغ الأهمية، فيقول: «واضح أنك في الإيمان القديم مثلنا، ومثلنا أيضًا في الطبقة التي تنحدر نحو الهاوية، فكيف عثرت بعد ذلك على المعنى؟» والمثل «الرائع» لهذه الطبقة هو النجم السينمائي اللامع والمؤمن بالاشتراكية بمعناها الذي يسمح برفع أجره إلى خمسة آلاف جنيه؛ لأنها «اشتراكية عربية» انبثقت من «عندنا» نحن ولم يُعرف بمثلها العالم. ولقد أجاب نجيب محفوظ على مشكلة «المعنى» في السؤال السابق، في قصة قصيرة عنوانها «صوت مزعج»٣١ تبدأ بإحدى الشخصيات التي نراها في «ثرثرة» وقد تَسَمَّى صاحبها «أدهم» وهو يعمل بإحدى المجلات الأسبوعية يكتب لها بابًا أسبوعيًّا عنوانه «أمس واليوم» وقد جلس اليوم في كازينو الشجرة يستوحي الهدوءَ موضوعًا جديدًا. واكتفى الفنان بوصفه أنه زوج سعيد له طفلة وسيارة وجارسُنيرة، وها هو ذا بصره يمتد إلى أبواب القصر المغلقة أمامه فيحلم بقصرٍ شبيه يقيه شر الحاجة إلى موضوع جديد كل أسبوع حتى يحصل على رزقه آخر الشهر. وبينما هو على هذا النحو تفاجئه الآنسة نادرة، فتاة السبعة عشر ربيعًا وإن بدت أكبر من سنها حين تتكلم في شئون الفن والحياة، متحررة لدرجة تثير إعجاب أدهم وأمثاله ممن يشدهم التحرر بمعناه الجنسي في هذا الجيل المطحون قلقًا من الجنسين. ويبذل أدهم قصارى جهده في غواية نادرة التي تشبه سمارة بهجت إلى حد كبير؛ فهي «فيلسوفة صغيرة» كما يصفها أدهم، وهي تطلب إليه أن يعرفها بنجم سينمائي، ممثل الشاشة الأول في تقدير الكثيرين وله سياسة معروفة لا يحيد عنها هي أنه لا يجيد التفاهم مع أمثالها إلا في مسكنه الخاص بالهرم. هذا النجم الذي يقترب في الكثير من رجب في الثرثرة. ويوجز أدهم أحلام العوامة في الثرثرة بما يحلم به من يختٍ يطوف به البحار بشرط أن تبقى الزوجة في القاهرة ويتطلع إلى المجهول كمصطفى راشد، ويطوي التاريخ في لحظة واحدة كأنيس زكي و«انفجارات غريبة مثيرة للدهشة متخطية لأي مسئولية، لا تفهم ولا تسأل ويتعذر الحكم عليها، ويتطوع المفسرون لتفسيرها من الحانات والغرز.» وهكذا لا يعود ثمة شك في أن تكون «صوت مزعج» تلخيصًا عميق الدلالة لثرثرة فوق النيل، كما كانت «زعبلاوي» بالنسبة للطريق والشحاذ. فنادرة — كسمارة بهجت — تفكر في كتابة مسرحية. وبغتةً انفجر صوت حاد، كهذا الذي حدث لأهل العوامة أثناء ركوبهم السيارة، انخلع قلباهما، أدهم ونادرة، كما انخلعت تمامًا قلوب أهل العوامة والسيارة المندفعة تطوى في طريقها هذا «الجسم» الذي قذفت به بعيدًا … ذلك أنهما شاهدا رجلًا يحاذي سور الكازينو ويشد مركبًا مطوي الشراع بحبل ملفوف حول منكبيه، وهو يلقي بنفسه إلى الأمام شادًّا على عضلاته بكل قوة وإصرار والمركب تزحف أبطأ من سلحفاة فوق ماء راكد وفي هواء ميت. وظل الرجل في عمله الشاق المضني حتى حاذى مجلسهما. ويا لذروة التناقض المرير بين الجالسين في الكازينو يثرثران عن اللامعقول وأمل الرجل اغتصاب الفتاة والحصول على قصر ويخت يكفيانه شر المطاردة — الناعمة — للرزق، وهذا الشاب الغليظ القسمات العاري الرأس الحافي القدمين الذي يرتدي جلبابًا لا لون له يكشف عن أعلى الصدر وينحسر عن ساقين بارزتَي العروق من الحزق وقد جحظت عيناه وتصلب شدقاه. هو في العشرين من عمره، أي أنه في «ربيع» العمر بتعبير تقليدي، ولكنه في رائحته الملبدة بالعرق والتراب لا يبرز معنى الربيع بقدر ما يبرز معنى «النضال الأليم» الذي أرغم الجالسَين في الكازينو يراقبانه خطوة خطوة … «حتى أرهقتهما المشاركة … وتبادلا نظرة، ثم ابتسما في رثاء وأشعلا سيجارتين.» وربما كانت نظرة أدهم قد حملت معنى اللامبالاة، ولكن نظرة نادرة — فيما يبدو — قد حملت النقيض … حملت هذا «المعنى» الذي تساءل بشأنه أهل العوامة، من أين جاءت به، أو كيف عثرت عليه. فهذا المعنى للنضال الإنساني الأليم قد تاه عن أهل العوامة في زحمة «الذهول» الذي يلف حياتهم اليومية، صباحًا في مطاردة الرزق، ومساءً في مطاردة المطلق، وصباحًا ومساءً في مطاردة الخوف. وإذا كانوا قد أجابوا يومًا أنهم لطولما خافوا كل شيء أصبحوا لا يخافون أي شيء، وأن الدولة مشغولة عن إزعاجهم بالبناء، والمخبرون — لذلك! — «يراقبون المُفِيقين لا المساطيل» فإن القوة التي تسخِّر أنيس زكي في خياله للَّاشيء «أقوى» من القوى التي تسخره لأشياء. هكذا «كان» قبل أن يقع الحادث الفظيع في جوف الصحراء، كالمشهد الذي اقتحم جلسة نادرة وأدهم في الكازينو. وكأنه نقطة نوشادر حادة أيقظت الجميع من الغيبوبة، ولكن موقفهم من الحادث، من المسئولية عنه بعبارة أدق، قد اختلف من واحد إلى آخر. قال أحدهم إن العربة — وقد دهمت شيئًا ما في سرعتها الجنونية — من الممكن أن تكون قتلت حيوانًا. وتساءل آخر عما إذا كان التحقيق — فيما لو كان القتيل إنسانًا — يؤدي إلى التعرف عليهم. وقال «رجب» بالذات إن إرادتهم «بريئة»، وإذ نطقت سمارة: «ولكن الهرب جريمة.» قال في حدة: «لم يكن منها بد وقد أيدها الجميع.» ويظل أنيس سرحانًا، فالحاكم بأمر الله كان يقتل بلا حساب ومعظم الجرائم تقيد ضد مجهول … ولكنه في اليوم التالي «استقبل الطريق مفيقًا لأول مرة، بباطن بعيد كل البعد عن السلطنة والخيال والضحك.» لم يقرأ جريدة منذ دهر طويل، ولا يعرف من الأحداث إلا ما تلوكه ألسنة المساطيل في هذيانها الأبدي، أما آلام الإفاقة وحوادث السيارات وأحاديث الليل المغلقة فلم يُعرف بعد على من تقع مسئولية حلها. وليس من العجيب أن يفيق أنيس في نفس اليوم الذي يُفصل فيه من العمل، ولكن العجيب أن تبلغ إفاقته الذُّرى وكأن فصله من المسئولية الصغيرة في العمل الرتيب يمضي في موازاة ارتباطه بالمسئولية الكبرى عن «الحادث» الفظيع. الحادث الذي وقع في اليوم اليتيم الذي قرروا فيه «الخروج» من العوامة، فهذا الخروج من الذات إلى رحاب العالم الكبير يعني الخروج إلى محيط المسئوليات الكبيرة واليقظة الكاملة … وهذا الخروج يحتمل أخطاء الطريق في كل خطوة، فليس هناك صواب خيالي مطلق ولا خطيئة أبدية. ولقد وقع «الحادث» من الناحية الفنية كخطوة إلى «المسئولية» ومعناها وموقف كل طرف منها. وقد تبلورت على التو ثلاثة مواقف من الحادث فور وقوعه: أنيس يراه من وجهة نظر العدمية موتًا لا يختلف عن الآلاف التي تموت كل يوم بلا سبب، وسمارة ترى في الأمر جريمة ارتكبت في حق إنسان — وقد نشرت الصحف النبأ اليقين — ولا بد من أن ينال المجرم عقابه، ومسئوليتها أن تبلغ عن الجريمة. والباقون — بدرجات متقاربة — يرون الحادث من وجهة نظرية فردية بالغة التطرف، فالنجاة بالنفس عندهم أهم من البحث عن مستقبل رجل ميت. وكان من الطبيعي أن يدور الصراع عميقًا، عنيفًا بين الأطراف الثلاثة: بين أنيس وسمارة ورجب ممثلًا للمجموعة التي ترغب في الهرب بجلدها. وسمارة تعلم قبل أن يذكروها بذلك أن ثمة وشائج تربطها بالعوامة، وبرجب على وجه الخصوص، ولذلك فالصراع في أعماقها هو صراع مزدوج ثقيل الوطأة؛ بين ارتباطها الواقعي الملموس بهذه المجموعة من الأصدقاء الذين رحبوا بها ولم يرغموها على المجيء. والتزامها المجرد إزاء ذلك الإنسان الذي لا يربطها به شيء سوى الإنسانية. فإذا قيل لها إننا جميعًا صائرون إلى الموت استأنفت بأن هناك موتًا أفظع «يدركك وأنت حي.» كهذا الموت الذي تعانيه في ترددها المرير بين الانحياز للأصدقاء والصمت على جريمتهم أو الانحياز للإنسان المجهول والتبليغ عنها. ولكن ظل أنيس يسقط بينها وبين نفسها، لقد فَقَدَ كل شيء بفقده الوظيفة هذا الصباح، غير أنه إذا كان قد فقد العالم كله فقد ربح نفسه هذا الصباح أيضًا الذي استقبله مبكرًا على غير العادة مُفيقًا إلى الدرجة القصوى للإنسان الطبيعي. لذلك يتوتر «الحادث» وفي أعماق سمارة توتُّرًا عنيفًا حين يرميها بالقول: «سمارة فتاة ذات مبادئ، ولكنها أيضًا امرأة ذات قلب.» فينظر إليه الآخرون باستياء واضح، فيمضي قائلًا: «نحن مدينون بالحب» على صمتها، مشيرًا إلى العلاقة النامية بينها وبين رجب، فهذا الحب — يقول أنيس — «أنقذنا من حكم المبادئ.» فأجهشت سمارة ببكاء عنيف كإعصار اجتاح حياتها، وهوى رجب بكل قوته على وجه أنيس. وبلغت المأساة — وحلُّها — الذروة في البناء الروائي. فقد حسمت هذه الضربة المفاجئة العنيفة موقف أنيس من ناحية، وسمارة من ناحية أخرى. كانت إعلانًا واضحًا عن موقف رجب ومن يمثلهم، كما كانت إيذانًا «بتحديد» موقف أنيس «وحسم» موقف سمارة. فقد فاجأهم جميعًا أن تنتهي الأمور إلى هذا الحد المؤسف، لم يكن أحد يتصور أن تمتد يد أحدهم على الآخر، وبخاصة أن يكون أنيس، ولكن مفاجأتهم الكبرى كانت كامنة في اللهجة الهادئة الغريبة التي اجتاحت أنيس وهو يرفض ترضِيَتهم أو مصالحة رجب أو استدعاء طبيب يمنع النزيف السائل على الخد … فقد سكت أنيس لحظات قال بعدها: «كل شيء يهون إلا …» وازدرد ريقه ثم استطرد: «إلا جريمة القتل.» لم يبدُ للوهلة الأولى أن أحدًا منهم فهم شيئًا، وظنوه يهذي بعارض الكلام، ولكنه كان يعني كل حرف جاء في عبارته التي قالها على دفعتين فكررها ثانية مرة واحدة لا تحتمل اللبس أو الغموض: «إن العدالة يجب أن تتحقق … أعني قتل الرجل المجهول.» هكذا راح يجيب بين لحظة وأخرى على كل سؤال تصور صاحبه أن أنيس فقد قواه العقلية نتيجة الفصل من الوظيفة أو ضربة رجب … فأين هذا الذي يقول: «يجب أن تأخذ العدالة مجراها … يجب الإبلاغ عن الجريمة فورًا.» من ذلك الذي كان ينظر إلى ما حدث نظرته العدمية التي تقبل كل شيء على علاته ما دام الموت هو قدر الأحياء جميعًا سواء تم في جوف الصحراء تحت عجلات سيارة أو تم على فراش من الحرير والذهب الخالص؟ ثمة انقلاب حقيقي يقع في حياة أنيس إبان هذه اللحظات البطيئة كأن ثوانيها دهور. وأخبرهم أنه سيذهب بنفسه إلى نقطة البوليس لينال كلٌّ جزاءه. حينئذٍ انقلب رجب وحشًا مجنونًا صارخًا بأنه إذا لم يكن من تهمة القتل بُدٌّ فلتكن جريمة قتل حقيقية. وانقض على أنيس يهم بافتراسه، ولكن أنيس يقول بإصرار: «لن أتراجع أبدًا.» والتفتت الأنظار إلى سمارة لتتدخل؛ إذ كانت البادئة فيما آلت إليه الأمور من تدهور. غير أنه كفاها عناء المزيد من الانقسام على النفس وأقسم ألا يتراجع. ولمعت سكين المطبخ بين يدي رجب تزيد اللهب لهيبًا، ولكن الغشاوة كانت قد زالت نهائيًّا عن عيني أنيس، أزالتها سمارة بالتدريج دون أن تدري، وأزالها الحادث بكل ما يرمز إليه من فظاعة المسئولية وواقعيتها نيامًا كنا أو مُفِيقين، وأزالها الروتين القاضي عليه بالموت جوعًا. وحين تزول الغشاوة عن عينَي نائم، يملأ عينيه بالمشهد الماثل ويعوض عن غيبوبته الطويلة تعويضًا مضاعفًا، فالضراوة والعنف اللذان يسمان سلوك أنيس فور يقظته المفاجئة — فنيًّا — هما حصيلة الخدر الطويل الذي عاش حياته تحت وطأته، وعندما أتيح له أن يرى النور لم يعنِه شيء إلا أن يقبض بيدٍ من حديد على كل دقيقة في العمر، فلكل شيء معنًى، ولا شيء هناك عبث كما قال عمر الحمزاوي في نهاية الشحاذ. وإذا سألنا أنيس — على لسان سمارة — ماذا دفعه مرة واحدة إلى هذا الموقف، أجاب إجابة شافية تجمع شتات «الثرثرة» المبعثرة هنا وهناك في قول موجز: «أردت أن أجرب قول ما يجب قوله.» كانت سمارة هي الشخصية الوحيدة التي بقيت في العوامة بعد أن ذهب الآخرون في ركاب رجب. كانت تريد أن تمتحن موقفها هي بسؤاله، فلما أجاب انحصر الصراع بينهما، هادئًا في الظاهر، عنيفًا في الباطن تغلي تناقضاته التي صاغها الفنان في هاتين الشخصيتين: أنيس بما يمثله من «سياق تاريخي»، وسمارة بما تمثله من «فكرة الثورة» والجيل الذي تنتمي إليه. ويلعب الفنان في خاتمة الرواية لعبة فنية بارعة بمزيد من محاصرة التاريخ والثورة في صراعهما الذي لا ينتهي من أجل التقدم وحضارة الإنسان. إن الكاتب يومئ لنا بحب خافٍ عن العيون يُكِنُّه أنيس لسمارة، فلا مفر من أن يحتدم التناقض بينه وبين رجب. ولكن لا الغضب ولا الغيرة وحدهما السبب فيما وقع؛ لأنه «خطر لي بعد ذلك أن أقول ما يجب قوله، أن أقف موقفًا جادًّا لأمتحن أثره، فوقع زلزال لا ندري شيئًا عن عواقبه» … وقد تلقف الفنان مشروع المسرحية القديم الذي كانت سمارة قد أعدته بعد وقت قصير من تعرفها على أهل العوامة، فاستعاده في ذهن أنيس ليعابثها قائلًا ألا تتوهم بأن إحدى شخصياتها — يعني نفسه — قد تطورت إلى النقيض بتأثير كلامها معه أو بدافع مع حدة التجربة «فأوقعك في نهاية مفتعلة»؟ وهو دفاع فني غير مباشر من الكاتب عن هذه النهاية التي يختم بها الرواية فعلًا، وهي ليست افتعالًا كما رأينا، وإنما هي حيلة فنية كشف فيها الغطاء عن زجاجة انفجرت على التو نتيجة تفاعلات معقدة ظلت بداخلها أمدًا طويلًا، ويعترف أنيس بحبه لسمارة، ولكن هذه النهاية — للمسرحية — لا تقل سخفًا عن النهاية الأولى … فيضرب الفنان هذين العصفورين (التطور إلى النقيض وتبادل الحب) بحجر واحد، أن يقول أنيس ما كان واجبًا على سمارة أن تقوله فينتصر أنيس وتنهزم سمارة، ينتصر السياق التاريخي وتنهزم الثورة. أو هذا الجيل الذي تنتمي إليه سمارة، فقد ضمر رمزها وأضحت تمثيلًا قريب المنال للثورة في لحظات ترددها ونكوصها، سواء في اقترابها من رجب أو في ذبذبة موقفها تجاه المسئولية عن الحادث. ولقد اعترف كلاهما بهذه الهزيمة؛ أنيس واجهها بصراحة ضارية «حتى أنت سمارة انهزمت.» وهي أيضًا صارحته بنفس المستوى من الصراحة الضارية «كان الموقف فوق طاقتي فانهزمت.» فالوشائج العاطفية التي ربطتها حينًا برجب بكل ما تمثله من ركوب الطبقة الجديدة للتيار الثوري و«العبث» الذي يعترضها أحيانًا في أُوَيقات الراحة … كل ذلك وغيرها من ارتباطها «الفكري» بالثورة لا يبعد لدى أنيس أن تجد سمارة التطور الضروري في «المسرحية» في تطور البطلة إلى الوراء. ومن جانبها تزيد هذه الخاتمة الحزينة شرحًا بلعبة الساقية في لونا بارك التي تدور برُكَّابها من أسفل إلى أعلى ومن أعلى إلى أسفل وهي ترى أننا «من الركاب الهابطين». ولكن أملها يتعلق «بالعقل والإرادة» فيسألها أنيس بكلمة واحدة: «… والهزيمة؟» فتجيب: «من الركاب الهابطين من جاوز نفسه، وحتى من أهلكها.» وهي تستعير بذلك صورة الفداء من التفكير المسيحي الذي يرى «الصليب» جسرًا إلى الحياة الأبدية. أي أنها وإن جسدت لحظة الهزيمة في مسار الثورة فإنها ليست إلا «لحظة» ممكنة التجاوز في السياق التاريخي العظيم الذي أوجزه أنيس في بضع كلمات وضع بها نجيب محفوظ اللمسة الأخيرة في أكمل رواياته وأعمقها وأكثرها ثورية على الإطلاق. قال أنيس في أروع قصائده التي تخلت عن الغيبوبة تخليًّا نهائيًّا:
  • أصل المتاعب مهارة قرد!

  • تعلَّم كيف يسير على قدمين فحرَّر يديه.

  • وهبط من جنة القرود فوق الأشجار إلى أرض الغابة.

  • وقالوا له عُد إلى الأشجار وإلا أطبقت عليك الوحوش.

  • فقبض على غصن شجرة بيدٍ وعلى حجرٍ بيدٍ وتقدم في حذرٍ وهو يمُد بصره إلى طريق لا نهاية له.

وهي كلمات لا تنفي الهزيمة ولا ترسم الطريق إلى النصر. ولكنها تتجاوز السؤال والجواب في رحلة صابر الرحيمي وعمر الحمزاوي، تتجاوز بشكل خاص المشهد الحضاري الذي حلم به عمر كتفسير للمطلق، تتجاوزه إلى السياق اللانهائي للتاريخ المتدفق الذي عرف فيه القرد أن وحوشًا سوف تطبق عليه، ولكنه حمل سلاحه في يده ومضى إلى الأمام. وليس رجب وطبقته الجديدة التي أطبقت على الثورة المصرية بمخالب من حرير إلا إحدى لحظات الهزيمة في حياة إلهام وجيلها وحضارتها، هي لحظة «الانتقال» من عصر إلى آخر من عصور هذه الحضارة، لم تسمح له الوحوش إلا بأن يكون عصر الهزيمة. و«ثرثرة فوق النيل» لذلك هي أعظم إشارات النبوءة في أدبنا الحديث، إلى ما كان، وما سيكون.

•••

إذا كانت الثرثرة قد تراوحت بين الرمز والمباشرة؛ بحيث إن بعض النقاد قد توصلوا إلى حقيقتها الباطنة في وقت مبكر٣٢ بينما ظنها البعض الآخر مجرد ثرثرة لا قيمة لها٣٣ فإن «ميرامار» جاءت كما لو أن الفنان قد آثر أن يرفع الغطاء عن المِرجل الذي يغلي ويكشف الستار السحري عن مشاهد المسرحية الواقعية ويفُض الغلاف عن صفحات الكتاب. هكذا جاءت «ميرامار» أقل شمولًا وأكثر مباشرة، تلتقي مع الثرثرة في الكثير وتختلف عنها في الكثير. تلتقي معها أساسًا في اتخاذ مرحلة الانتقال الدامية محورًا فنيًّا، وبالتالي يصبح «البنسيون» شبيهًا لما ترمز إليه العوامة. وتلتقي معها في السياق التاريخي المتدفق والثورة المهزومة، ولكنها تختلف مع الثرثرة في الأبنية الفنية للشخصيات والأحداث والمواقف. فالتاريخ هنا لا تتولى أمره ذاكرة لا شعورية مجردة تتسع لما في الزمان والمكان وما هو خارج الزمان والمكان. وإنما تتولى أمر التاريخ شخصية أصيلة واقعية لعامر وجدي الصحفي الوفدي القديم. وكذلك الثورة لا تتجسد في رمز مجرد كإلهام أو أقل تجريدًا كسمارة، وإنما يلجأ الفنان إلى الثورة مباشرة بغير لف أو دوران في شخص أحد ممثليها، عضو الاتحاد الاشتراكي. وتختلف ميرامار عن الثرثرة أخيرًا في أنه إذا كان الفنان قد أحاط الشخصية الرئيسية في الثرثرة بمجموعة من الشخصيات الثانوية مبتعدًا بذلك عن «وحدة البطل» في الروايات السابقة، فإنه في ميرامار يخطو خطوة أبعد حين يرفع معظم الشخصيات إلى المرتبة الرئيسية، فلا يعود هناك «بطل فرد» يجسم الأزمة كما الحال في الطريق والشحاذ؛ حيث تتحول بقية الشخصيات إلى شُعَيرات دموية تمده بالحياة ومرايا تعكس مختلف الأوضاع لوجهه الثوري المأزوم. ولا تعود هناك شخصية رئيسية تمتص الأزمة بكاملها حقًّا، ولكن من حولها شخصيات أخرى مستقلة عنها متكاملة معها، تسهم بدورها في تحديد معالم الأزمة. ويصبح عامر وجدي وحسني علام ومنصور باهي وسرحان البحيري في ميرامار «شخصيات رئيسية» كاملة السمات والخصائص. أما «زهرة» و«ماريانا» فهما الشخصيتان الثانويتان الوحيدتان، وهما إلى جانب دورهما الذاتي المستقل، يقومان بدور رمزي بالغ الأهمية. ومعنى ذلك أن «ميرامار» لا تمثل عودة إلى الوراء من الناحية الفنية، فاسمها لا يقترب في كثير أو قليل من الأسماء «المكانية» في أدب نجيب محفوظ كزُقاق المدق وخان الخليلي، وواقعيتها لا تقترب من أعمال تلك المرحلة القديمة، على غير ما يبدو لبعض النقاد٣٤ فالشخصيات هنا نمطية حقًّا، ولكنها مجردة أيضًا فهي ليست مستهدفة لذاتها، ولكنها موظفة توظيفًا فكريًّا محددًا … لكل شخصية «وجهة نظر» تعبر — في رأي الكاتب — تعبيرًا شاملًا عن موقف شريحة اجتماعية إزاء الثورة. فالرواية من هذه الزاوية لا تخرج عن الإطار الفكري لروايات المرحلة الجديدة، بل إن وجوهًا أساسية تعرَّفنا عليها فيما سبق من أعمال هذه المرحلة تطالعنا من جديد في ميرامار. هي رواية «نظرية» إن جاز التعبير عن ذلك العالم الذي شاهدناه مثلًا في «أولاد حارتنا» تحت الأقنعة. أما في ميرامار فقد خلعها تمامًا وأضحى كل شيء سافرًا. ولكن «التصميم» الروائي هو في جوهره بناء نظري هنا وهناك، لا يقصد إلى تشريح الشخصية الإنسانية أو تحليل الموقف الإنساني أو اكتشاف ما وراء الحدث، وإنما يقصد أولًا وأخيرًا إلى تقديم نظرية فكرية في خريطة الثورة المصرية. وكما أن الطريق ليست رواية «بوليسية نفسية» فإن ميرامار ليست رواية «بوليسية اجتماعية أو تاريخية»، فالحدث الذي تلهث وراءه الأنفاس — جريمة صابر أو انتحار سرحان — لا يستمد أهميته من المادة الجاذبة لمتابعة القراءة والتي نسميها خدعة التشويق، وإنما هو يجسد ذروة التوتر الذي تعانيه وجهات النظر المعروضة للبحث من خلال الشخصيات «النمطية» الرامزة إلينا.
هذه الشخصيات يضمها زمان واحد، وأزمنة متعددة في وقت معًا … فإذا كان الزمان الداخلي للشخصية هو عنصر الحركة السائدة على تكوين صابر وعمر وأنيس، فإن الزمان الداخلي والخارجي معًا يسيطران في تلقائية وعمد، في المونولوج والديالوج، على بناء الشخصيات الأربعة الرئيسية في ميرامار. ولذلك فالمكان في ميرامار — وهو البنسيون — نوع من الزمان، وكلاهما تعبير مباشر عن مرحلة الانتقال في تاريخنا الحديث. والشخصيات الأربعة تعبيرات متباينة عن تطور الانتماء المصري من مرحلة الأزمة إلى مرحلة الهزيمة. فهناك انفصال حقًّا بين هذه الشخصيات وبالتالي بين أيديولوجياتها، ولكن اتصالها عن طريق البنسيون ومن فيه — ماريانا أو زهرة — يجعل منها شخصيات تتكامل مع بعضها البعض تكاملًا يمنح الصورة النهائية اتساعًا وشمولًا وعمقًا. ومن هنا كان تقسيم الرواية إلى أربعة أجزاء تبدأ بعامر وجدي وتنتهي به تقسيمًا يتلاءم تلاؤمًا فنيًّا صحيحًا مع الفكرة-المحور في الرواية. وهي أن المجتمع المصري في مرحلة انتقاله العنيف من النظام الرجعي القديم إلى النظام الثوري الجديد قدر له أن يحمل على أرض واحدة القديم والجديد جنبًا إلى جنب. ولكن هذا المجتمع — بحصيلة تاريخية عاتية — لم يستطع الوصول إلى الصيغة القادرة على تطويره في حدود الأرض المشتركة بين قديمه وجديده. ولذلك باءت «التجربة» بالهزيمة المريرة التي أوجزها انتحار سرحان البحيري إيجازًا داميًا. لقد أشار نجيب محفوظ إلى الرؤية التقليدية لمعنى الطريق الثوري التي قضت على صابر وعمر، كما أشار إلى جذور الهزيمة الحضارية في سنوات الدعارة والجريمة «الطريق»، والسياق التاريخي المتدفق بالذل والعار «ثرثرة» … ولكنه في «ميرامار»، يختطُّ لنفسه طريقًا بلغت فيه المباشرة درجتها القصوى؛ إذ يقوم بحركة تعرية كاملة كتلك التي قام بها في «أولاد حارتنا»، ولكنها هنا تأنف من كل إيماءة حَيِيَّة أو رمز حائر … وقد تعرض البناء الفني للرواية، تبعًا لذلك، لأنواء التقريرية ومتاعب السفور. وتمكن في أحيان قليلة من الاحتفاظ بتوازنه كما نلاحظ على بناء شخصية «عامر وجدي» أو «منصور باهي» ولم يستطع الاحتفاظ بهذا التوازن في بقية الشخصيات. والتوازن في بناء الشخصية يمسُّ التوازن العام في البناء الروائي، لأن القصة تخلو من حدث متطور أو مواقف متأزمة. وهي لذلك تختلف في الكثير عن الرباعيات المعروفة في الأدب المصري، كرباعية «الرجل الذي فقد ظله» «لفتحي غانم»، أو «الظلال في الجانب الآخر» «محمود دياب» أو «لعنة الجسد» لصوفي عبد الله، كما تختلف في الكثير عن رباعية الإسكندرية المشهورة للروائي الإنجليزي لورنس داريل. وإنما أستطيع القول بأن نجيب محفوظ قد تأثر إلى حد ما — وفي حدود الأعباء الفكرية الملقاة على روايته — بقصة الكاتب الأمريكي وليم فوكنر «الصخب والعنف»، فهذه القصة كما يصفها سارتر بحق «لا تتكشف ولكننا نكتشفها وراء كل كلمة كوجود حاد وقِح تتغير درجة كثافته وفقًا لكل حاله.» ومن الناحية الفنية فإن المونولوج عند فوكنر يذكر الإنسان برحلة طائرة مليئة بالمطبات الهوائية، في كل مطب نجد البطل لاشعوريًّا «يسقط في الماضي» ويقوم ليسقط مرة أخرى. هكذا يكون من الخطأ الاعتقاد بأن الحاضر عندما يصبح ماضيًا يصير أقرب ذكرى إلينا، وإذا كان الخلاص عند بروست يكمُن في الارتداء الكامل للماضي، فإن الماضي عند فوكنر لا يضيع أبدًا. إن يأسه لذلك نتيجة أنه يرى المستقبل مغلقًا، فكل ما نراه ونخبره يدفعنا لأن نقول: «هذا لا يمكن أن يدوم.»٣٥

هذا المعنى المزدوج للزمن يتطلب من نجيب محفوظ أن يختار أطول شخصياته عمرًا — عامر وجدي — كمرآة سحرية ترسَّبت تحت سطحها الأملس صور الماضي البعيد. تنقَّل في شبابه بين الأحزاب الوطنية المختلفة ثم استقر كاتبًا صحفيًّا بارزًا من كتاب الوفد. كره الإخوان المسلمين ولم يفهم الشيوعيين. لم يكن حزبيًّا بالمعنى الحرفي للكلمة فلما جاءت الثورة رحَّب بها من قلبه؛ لأنها حلت له قضية شخصية، فالوفد لم يستطع أن يحل له مشكلة الولاء لمصر وللزعماء الذين تخلفوا عنها في وقت واحد. ولكن الثورة بدورها لها جيلها، وهو يشعر بأبوته الروحية لهذا الجيل، ويشعر لنفس السبب بالغبن والجحود فلا كلمة وداع يعتكف على أثرها في أحضان الشيخوخة؛ لأنه يبدو ألا كرامة لإنسان «إن لم يكن لاعب كرة.» وأُبوَّة عامر وجدي لهذه الثورة هي المعادل الموضوعي لحرمانه من الأطفال، فضلًا عن الزواج، كاستقلاله التنظيمي عن الأحزاب. فهو يفرق بين عزوبيته الواقعية والفكرية، وبين عقم ماريانا صاحبة البنسيون التي تزوجت مرتين ولم تنجب، مشيرًا بذلك إلى ما تمثله من قِيَم وهي وبنسيونها. فقد تزوجت في المرة الأولى من ضابط إنجليزي قُتل بيد طالب مصري في مظاهرات ثورة ١٩١٩م، ولم تهرب أثناء الحرب إلى بلدها، بل فتحت البنسيون على مصراعيه أمام ضباط الإمبراطورية. هي إذن البقية الباقية من ذكريات الاستغلال الاستعماري لهذا البلد الكريم، الذي ما يزال تخلفه يمنح البعض مكانًا على أرضه. وتكتمل لعامر وجدي بعض صفات كمال عبد الجواد عندما يردد أننا إذا تحسسنا موضعنا في العالم لن يصيبنا إلا الدوار، فمن ذا الذي يستطيع أن يقول بملء الفم إنه عرف الإيمان. وفي مواجهة عامر وجدي يضع الفنان شخصية ثانوية من بقايا المجتمع القديم، طلبة مرزوق من كبار الأعيان ووكيل الوزارة السابق، الذي يرى في سعد زغلول سببًا بعيدًا عن العيون فيما وصلت إليه الأمور من إثارة الإحَن بين الناس والتطاول على الملك وتملُّق الجماهير «رمى في الأرض ببذرة خبيثة، ما زالت تنمو وتتضخم كسرطان لا علاج له حتى قُضي علينا.» وأكبر خطأ ارتكبته أمريكا في حق البشرية — يقول طلبة — أنها ترددت في الاستيلاء على العالم وكانت وحدها تملك القنبلة الذرية. هذا هو الرجل الذي جمع في قلبه بين الرسول والمندوب السامي، لذلك يري أن الثورة لم تصنع شيئًا إلا أنها سلبت البعض أموالهم وسلبت الجميع حريتهم. وهنا يبرز دور عامر وجدي — شاهد الزمن في الرواية كعم عبده بواب العوامة — فيقول ساخرًا: «إنك تتكلم عن حرية بالية، وحتى هذه لم تحظَ باحترامكم أيام سطوتكم.» ويبرز هذا الدور أكثر فأكثر حين يخلع أبوَّته على «زهرة» هذه القروية الناضجة الأنوثة التي تمرَّدت على القرية وجاءت إلى المدينة بحثًا عن حياة أفضل، فاختارت العمل في هذا البنسيون وكانت تأتي إليه من قبل مع أبيها وهو يُحضِر للست ماريانا ما تحتاج إليه من زُبد وجُبن. وتبدو، «زهرة» على طول الرواية وقد بعثت فيها شخصية «سنية» في «عودة الروح». هذه الفتاة التي تودد إليها الجميع بدرجات متفاوتة لأهداف متباينة، وكاد توفيق الحكيم في بعض سطوره أن يصرح بأنها تمثل لديه «إيزيس» أو «مصر» أو ما شابه ذلك. و«زهرة» أيضًا يتودد إليها الجميع لأسباب شديدة الاختلاف، ولكنها ليست رمزًا شاملًا لمصر، وإنما هي أقرب ما تكون إلى إلهام في الطريق وسمارة في الثرثرة، تجسد الوجه الثوري الأصيل لمصر. لذلك يتبناها عامر وجدي تَبنِّيًا روحيًّا حقيقيًّا، وفي المقابل يراها طلبة مرزوق مجرد فرد من أفراد القطيع في عزبته وأملاكه القديمة. أما حسني علام، هذا الذي ينتمي بسنه إلى جيل الثورة، وبجذوره إلى الطبقة المنهارة، فإنه يتمناها إحدى خليلاته. أراد أهلها أن يزوجوها من رجل عجوز فهربت بجلدها من القرية، وهذا أول وجوه الشبه بينها وبين عامر وجدي الذي رمَوه «بتهمة باطلة فقال أقوام إني أستحق القتل.» وإذا كان سعد زغلول عند طلبة مرزوق أساس البلاء، فهو عند عامر وجدي قد استمع حقًّا إلى نصائح الشيوخ ولكنه، غالبًا ما اتبع آراء الشباب. ولذلك يرى شبابه مجسدًا في زهرة دون غيرها. وحسني علام يتمناها لمجرد أنها أجمل من قريبته «الحمقاء التي قررت أن تختار عريسها على ضوء الميثاق.» وبالرغم من أن حسني لم يفقد كل شيء؛ إذ تبقت له مائة فدان وقد جاء إلى الإسكندرية بحثًا عن مشروع تجاري ناجح، إلا أنه يحس في أعماقه بأنه فقد كل شيء، ولم يبقَ له سوى السرعة الجنونية التي يقود بها السيارة، والنساء اللاتي يتعرف عليهن في الصباح بإحدى دور السينما وينام معهن فترة القيلولة. وهو يعيش حياته فريسةَ الضياع المرهق والحيرة المدمرة، فهو يكره طبقته من الأعماق، ويكره الثورة من القلب ولا يرى في كل من يمتدحها إلا منتفعًا أو مرشدًا أو خائفًا. وإذا كان طلبة مرزوق قد عبر عن فشله النهائي بخيبة الليلة التي أمضاها مع ماريانا فجاء منظرهما مبكيًا ومضحكًا معًا، فإن حسني علام يعبر عن ضياعه الأبدي بانطلاقاته الجنسية التي تقوده ذات ليلة إلى قوادة عجوز فلا يجد عندها بضاعة تذكر، ولا يجد مناصًا من مضاجعتها رغم دهشتها وقولها «لست مستعدة» إنه يجيبها جوابًا ذا مغزًى: «لا أهمية لذلك، ولا أهمية لشيء.» وفي بحثه عن المشروع التجاري الناجح يلتقي بأهل البنسيون لعل فيهم من يصلح شريكًا له. وبالرغم من أنه يرى في سرحان البحيري «منتفعًا بالثورة» إلا أنه يكتفي بما قاله طلبة مرزوق نقلًا عن صديق يعمل معه في الشركة من أنهم يصفونه هناك بأنه شاب ثوري «وفي هذا الكفاية» … واستطرد طلبة بأننا نعيش في غابة يتعارك وحوشها على «أسلابنا» وما تحت بدلة سرحان إلا مجنون بالترف. ولكن «لا ولاء» عند حسني لشيء منذ أن قذفت به طبقته إلى الماء والقارب يميل به إلى الغرق «سعادة عظمى ألا يكون لك ولاء لشيء. لا ولاء لطبقة أو وطن أو واجب. لا أعرف عن ديني إلا أن الله غفور رحيم.» لذلك يتحول ولاؤه الوحيد إلى قوادات الشاطبي وسبورتنج وسيدي جابر، ويهطل عليه مهرجان الشهوة مع الرعد والمطر والبرق، وفي جوف السيارة يهمس للمرأة العارية تمامًا مثله: «ألا تودين أن تخرجي اللسان للدنيا ومن عليها وأنت في حماية هذه الغضبة الكونية» … وإذا دب في نفسه الملل سارع إلى القوادة المالطية في كليوباترا لتدعو له أكبر عدد من بناتها ويمضي سهرة عجيبة معربدة مُوشَّاة بأبهج الحماقات التي لم يعرف التاريخ لها مثيلًا منذ عهد المغفور له هارون الرشيد. وعندما يمتنع عليه المرام من زهرة بعد أن تكشف له أنها ليست تاكسيًّا، وإنما عربة ملاكي لسرحان البحيري، يكتفي من الرحلة بالإياب وبرفقته العشيقة السابقة لسرحان، يقيم معها ويشتري الملهى الذي تعمل فيه. ولم تكن معركته مع سرحان وزهرة إلا تجسيدًا للمسافة الهائلة بينه وبين الثورة مهما نافق المتحدثين باسمها. كان طلبة مرزوق هو الشخص الوحيد الذي يضمر له حبًّا واحترامًا، وكان سرحان عدوه من اليوم الأول، وهو لا يحب قلاوون الصحافة كما يحلو له أن يصف عامر وجدي. وقد دخل في نقاش سافر مع سرحان الذي هاجمه يومًا سائلًا:

«خبرني لِمَ تملك وحدك مائة فدان على حين أن كل ما تملكه أسرتي عشرة فقط؟

فسألته وأنا أكظم غيظي: ولم تملك عشرة على حين لا يملك ملايين من الفلاحين قيراطًا واحدًا؟!»

لكن الكاتب في هذا الحوار كان يضرب عصفورين بحجر واحد، فالحق أنه إذا كانت ثمة مسافة هائلة بين حسني والثورة فإن هذا لا يعني تلقائيًّا أن ثمة مسافة مماثلة بينه وبين سرحان الذي استبدل الهجوم ذات يوم بهذا الجسر الجديد بينه وبين حسني:

«– اصرف النظر عن مشروع المقهى وما شاكل ذلك، إنك ابن ناس، وعليك أن تختار مشروعًا مناسبًا …

– مثل ماذا؟

– أنا أقول لك، مشروع تربية دواجن وعجول مثلًا، إنه يدرُّ ذهبًا.

ثم بعد تفكير قليل: ممكن أن تؤجر قطعة أرض في منطقة سموحة، وممكن أن أساعدك بما لي من خبرة وأصدقاء، وربما شاركتك إذا أسعفتا الظروف.» (ذلك هو أول الخيط بين سرحان — الذي تدرج للثورة من عضوية هيئة التحرير إلى الاتحاد القومي إلى عضوية لجنة العشرين بالاتحاد الاشتراكي وعضوية مجلس الإدارة — وبين الطبقة الجديدة التي يكتمل قوامها من بقايا الطبقات المنهارة وبعض الفئات من جيل الثورة). لذلك كان من الطبيعي أن يترك سرحان فكرة الارتباط بزهرة مفضِّلًا الارتباط بمُدَرستها «علية» التي تسكن مع أسرتها في الدور «العلوي» من نفس العمارة، وتملك أسرتها بعض العمارات في الإسكندرية. كانت زهرة — تأكيدًا لما تُمثله من قيم ثورية — قد قررت أن «تتعلم» فطلبت من علية أن تعطيها درسًا بالأجر، بين دهشة الجميع وعطف عامر وجدي. وعندما يتحول سرحان من زهرة إلى علية يهتف حسني ساخرًا شامتًا: «لتحيَ الثورة ولتحيَ قوانين يوليو.» وهو بذلك يفض أغشية الرمز حول شخصيتَي زهرة وسرحان.

ونبلغ بذلك حدود المنتصف من البناء الروائي في ميرامار، الحدود التي قدم لنا فيها الفنان جيلًا كتب عليه الانفصام — الاضطراري أو الاختياري — عن مسار الثورة؛ فعامر وجدي وطلبة مرزوق، وحسني علام، يلتقي ثلاثتهم في الفعل الماضي سواء كان فعلًا ثوريًّا كما هو الحال مع الأول، أو فعلًا رجعيًّا كما هو شأن الثاني والثالث. ولكنهم جميعًا لا «ينتمون» إلى الحاضر بعد أن فصلت الشيخوخة بين عامر وجدي والأحداث المحيطة به، وبعد أن توجه انتماء طلبة مرزوق إلى المنفى في بلاد تضخ البترول سبقته إليها كريمته، وبعد أن عثر حسني علام في صفية وملهى الجنفواز على قارب النجاة وهو الذي قذفته طبقته إلى الماء والقارب يميل إلى الغرق. بقيت شخصيتان على جانب كبير من الأهمية هما منصور باهي وسرحان البحيري. وقد تعرفنا على جانب من قصتيهما في مجموعة العلاقات التي تربطهم بالبنسيون وساكنيه وصاحبته. أما بقية الجوانب في حياة منصور فيجرنا إليها السياق برحيله من القاهرة إلى الإسكندرية ليعمل مذيعًا بها. وكان رحيله تدبيرًا محكمًا من أخيه ضابط الأمن الكبير الذي أرغمه على ترك التنظيم السياسي السري. وهكذا بدأت مأساة منصور منذ خرَّت إرادته أمام الأمر الواقع مرموزًا إليه في شخصية أخيه، بالبطش والإرهاب. ولكن هذه الإرادة الكسيرة لها مع صاحبها تاريخ قديم لا ينفصل عن التاريخ الحديث. فقد هزمت الإرادة منصور باهي حين ربط مصيره بحب دُرية زميلته في الجامعة، ثم تبدَّد هذا المصير هباء عندما تزوجت من أستاذهما فوزي الذي هداه إلى طريق الثورة الشاملة وتنظيمها السري. واقترنت هزيمة القلب بهزيمة العقل، فأصبح «العفن يجري مع الهواء ولعله يصدر أصلًا من ذاتي أنا.» ومن الطبيعي أن يلتقي منصور مع سرحان في أكثر من نقطة، وهكذا فهُما معًا يمثلان جبهة «الثورة» ضد طلبة مرزوق وحسني علام. ولكن هذا التحالف لا ينفي صراعًا جوهريًّا بين الاثنين، هو الصراع بين «محدث الاشتراكية» سرحان البحيري، الذي عرف الاشتراكية بمعناها «المحلي» وهي ترتقي أعلى مراتب السلطة وبين المناضل منصور الذي عرفها كأحد الطرق المؤدية إلى السجن عبر الدهاليز السرية والمخابئ التي يتحتم على المناضلين الحقيقيين أن يعيشوا فيها أيامًا وسنين. ولذلك كان منصور هو «الشاب» الوحيد الذي لم يتهجم على زهرة حبًّا حقيقيًّا أو اغتصابًا، وعندما فشل في استعادة نفسه مع درية وعرض على زهرة الزواج رفضته. لأن زهرة بباطنها الثوري البريء ترفض الارتباط بخائن أو متردد أو جبان. وتجربتها مع سرحان من أبرز التجارب الدالة على هذا المعنى، فحين تكشفت أعماقه عن «حسنين» بداية ونهاية — الذي عثر في الالتحاق بالجيش على السلم الطبقي الناجع — بعثوره على «الاشتراكية» ويا للمفارقة سلمًا طبقيًّا ناجعًا هي الأخرى، حين تكشفت فيه على أنياب الطبقة الجديدة الوارثة لأمجاد الطبقات القديمة تحت لافتات براقة ومغرية، لفظته في الحال. وكذلك الأمر مع منصور باهي فقد علم أن زملاءه القدامى «قُبض عليهم أمس» فما كان منه إلا أن صوب سهام اليأس إلى قلب درية زوجة صديقه وأستاذه في الجامعة. وأقبل انهيارها انهيارًا جديدًا له؛ إذ ارتفع فوزي إلى مستوى الأنبياء ووفر عليهما عناء المداورة ومنح زوجته من خلف الأسوار حريتها. وكانت هذه الحرية هي السجن الجديد لمنصور، هي نقطة النوشادر العنيفة التي أفاق عليها فرفض الاستمرار، رفض الهبوط إلى أعماق الجحيم «أن تؤمن وأن تعمل فهذا هو المثل الأعلى، ألَّا تؤمن فذاك طريق آخر اسمه الضياع، أن تؤمن وتعجز عن العمل فهذا هو الجحيم.» وبحاسة داخلية لا ترى اكتشفت زهرة عمق الهوة التي تردى فيها منصور، فرفضته بحزم. قال لها من قبيل جس النبض:

«– هناك شخص ينغص عليَّ صفوي …

– من هو؟

– شخص خان دينه!

فحركت يدها مستنكرة: وخان صديقه وأستاذه!

واصلت حركتها الاستنكارية، فسألتها: هل يغفر له الذنب أنه يحب؟

فقالت مستفظعة: حب الخائن نجس مثله.»

والفنان يعطينا صورة مزدوجة لأزمة المنتمي إلى الثورة الأبدية وهزيمته معًا: صورة فوزي الذي يقترب في الكثير من صورة أحمد شوكت وعثمان خليل والشاب الطويل الأسمر الممسك بيسراه وردة حمراء، ثم صورة منصور باهي، المنتمي الذي تخونه تحت إرادته وطأة الإرهاب فيخون رسالته في ظل أبشع الظروف. ولا تختلف صورة فوزي عن صورة بقية زملائه في أعمال الكاتب السابقة، أقرب ما تكون إلى الصورة العامة المجردة والرؤية التقليدية العاجزة عن فهم جدلية الواقع وحيويته بالرغم من الفلسفة الجدلية التي يعتنقها صاحبها. أما صورة منصور باهي فقد نالت من نجيب محفوظ قدرًا كبيرًا من العناية والفهم، وأكاد أقول التعاطف. وكانت المرة الأولى التي يُنزل فيها المنتمي الثوري من ملكوت السموات إلى أرض البشر. ومن خلال ضعف منصور وهزيمته أوضح الفنان جوانب السلب في «الطريق» الثوري، و«البناء» الاشتراكي. فبعد أن كان يكتفي في الماضي بإدانة الرؤية التقليدية لمعنى الطريق، فإنه هنا يدين هذا «المعنى» للطريق الذي اختَطَّتْه الثورة لنفسها. وهو المعنى الذي آلت نهايته إلى السقوط والاندحار بالخاتمة الرمزية التي ينتحر فيها سرحان البحيري بموسى حلاقة قديم. ولكن صورة منصور وصورة فوزي متكاملان؛ لأن الكاتب يظل على إدانته للرؤية التقليدية الجامدة، ثم يضيف إدانته العميقة الدلالة لموضوع الرؤية. وكأنه يقول إن الفعل الثوري المتجسد في «البناء» لم يسمح بأفعال ثورية موازية له أو متلاقية معه، وإنما سمح فقط بردود الأفعال العنيفة، التي تؤدي بفريق من أصحابها إلى السجن، وبالبعض الآخر إلى الارتداد. والارتداد في حياة منصور قد بدأ بالتخلي عن تنظيمه الثوري، ولكنه في استقامته المنطقية قد انتهى بالتخلي عن كل شيء نظيف. وهو لا يعزم على قتل سرحان البحيري إلا عزمًا حلميًّا جبانًا. فهو ينسى المقص الذي قرر أن يقتله به ويكتفي بأن يضربه وهو ميت. لقد أراد أن يقتل نفسه في سرحان، أي أن ينتحر، ولكن الفنان يصل بإرادته المسلوبة إلى أقصى نهاياتها الفاجعة فيحرمه من القدرة على الانتحار أو قتل سرحان. لقد فرغ منصور من الداخل تفريغًا كاملًا، فلم يعُد يرى في زهرة إلا مرآة للشرف المسلوب والنفي بلا كبرياء. وقد تصور للحظات أن خَلاصَه مرهون بلحظة شجاعة يقتل فيها سرحان وكل ما يمثله من فواجع، ولكن الفنان — إمعانًا في تجسيم الهزيمة — لم يهَبْه لحظة الارتياح هذه فلم يقتنع القضاء بأنه القاتل بعد أن ثبت انتحار سرحان ثبوتًا لا شك فيه.

أما سرحان فيبدو في اللوحة البانورامية التي رسمها نجيب محفوظ لمصر الثورة، أنه الطرف النقيض لحسني علام الذي يبدأ حديثه عن نفسه بشعار اللامبالاة «فريكيكو لا تلُمني» … فسرحان يبدأ بشعار التسلق الطبقي الذي عرفناه في حسنين «بداية ونهاية» وعرفناه بسرعة خاطفة في حسن «بالسمان والخريف» وهو الشاب الذي ورث عيسى الدبَّاغ في كل شيء؛ في السياسة والحب، والتحق بركب الثورة. وعرفناه في رءوف علوان باللص والكلاب، الصحفي الذي باع المبادئ بالفيلا والعربة. وعرفناه في بقية السلالة من أبناء الطبقة الجديدة «بالشحاذ» و«الثرثرة». هو إذن أحد أبناء هذه الطبقة، شعاره «هاي لايف»، ومن ناحية أخرى هو نموذج «الطريق الجديد» للثورة الذي اختطَّتْه لنفسها بعيدًا عن الرؤية التقليدية. ومن هذه الزاوية فهو يستكمل أزمة الانتماء الثوري التي ألم الفنان — حتى الآن — بجناحيها، التقليدي والمستحدث، السري والمعلَن، المطارد في السراديب والمتربع على عرش السلطة. فماذا يقول لنا سرحان البحيري؟

يقول إنه لا معنى للحياة بغير فيلا وسيارة، ويقيم أمدًا طويلًا مع صفية الراقصة بالجنفواز تنفق عليه عن سعة ولا يستطيع رد جميلها لارتباطاته العائلية والتزاماته التي لا تنتهي بالنسبة لرجل نشأ في أحضان الفقر. وكانت مقاومته الحقيقية قد انهارت من قبل أن يخطط — هو المشرف على الحسابات — على عمليات التهريب الضخمة بالاتفاق مع المهندس المختص وسائق اللوري. وهذا هو الوجه الآخر لسرحان الذي يُمضي نهاره في الخطابة والهتاف للاشتراكية. ولقد كان يلقي محاضرة عن السوق السوداء بصورة آلية لأن ذهنه كان شاردًا في ترتيب «العملية» التي سيجني من ورائها ثمن الفيلا والسيارة وكافة وسائل «الهاي لايف». ونحن نعلم من السياق أنه كان وفديًّا فيما مضى، إنه كان من أعداء الدولة، ولكنه اليوم هو «الدولة» على حد تعبيره. ويضع الفنان شخصية رأفت أمين صديق الصِّبا أمامه وأمامنا ليذكِّره — كضمير الغائب — بأنه لم يكن وفديًّا مخلصًا، فكيف أصبح ثوريًّا اشتراكيًّا؟ فإذا أجاب أن للثورة أعمالًا لا يسع الأعمى إلا الإقرار بها، باركه رأفت داخلًا في الجد: «خبرني الآن أين نقضي ليلتنا؟» ويشير تطوره بطبيعة الحال إلى أن ثمة طبقة «علينا أن نرثها بطريقة ما» وهي ليست إرثًا نظريًّا مجردًا، ولا إرثًا أيديولوجيًّا على نحو من الأنحاء، وإنما هي إرث في كافة مظاهر الامتياز الطبقي التقليدي. ولذلك فإن إحساسًا قويًّا استقر في داخله «وهو ذعري الغريب من فكرة مصادرة الثروات.» وهو يكره «فكرة» الطبقة التي ينتمي إليها حسني علام، ولكنه مفتون بأي شخص منها إذا ساقته الظروف الممتازة إلى صحبته. وعندما يتعرف على زهرة ويناوش حبها فؤاده فإن حزنًا عميقًا بداخله يدفعه إلى القول متحسرًا «لو كانت من أسرة!» ولكنه يفصح في نفس الوقت عما ترمز إليه زهرة بقوله إنها «ممثله الثورة الأولى.» وهكذا طريقه غير طريقها … فطريقُه هو الثروة المنتظرة من مغامرة، حينئذٍ لا يتوانى في طرد صفية من حياته وفي لفظ زهرة أيضًا باحثًا بعينَي لص عن عَلِيَّة المدرسة التي تسكن بالدور العلوي. وهو يرتاب لذلك في أن يكون منصور باهي قد صدق الدعاوى التي يقول بها: «يا صاحبي إني بطبعي عدو أعداء الثورة، ألا تفهم؟ وإني من الموعودين ببركاتها ألا تفهم؟» ولكن لا منصور ولا غيره كان يتصور أن داعية الاشتراكية هو في نفس الوقت داعية الهاي لايف، فليثب وثبة موفقة تجعل من زيارته للدنيا رحلة لها معناها وقيمتها. ولم يكن سرحان — والحق يقال — مهتمًّا اهتمامًا حقيقيًّا بالسياسة رغم نشاطه الموفور فيها. ولكنه كان مهتمًّا اهتمامًا جنونيًّا بأن تتم «العملية» وتنجح الصفقة ويصبح في غمضة عين — وبحسبه بسيطة — من أثرياء البنوك. لا زهرة العاطفة الوحيدة الصادقة التي خفق بها قلبه، ولا الاشتراكية التي قفز بها إلي مجلس الإدارة صباحًا وملهى الجنفواز ليلًا بمستطيعَين أن يحُولا دون «اختياره» لهذا الطريق إلى الثروة. وهو الطريق المسدود في «بداية ونهاية» أمام حسنين نموذج البرجوازي الصغير المتسلق قبل الثورة. وهو أيضًا الطريق المسدود في «ميرامار» بعد الثورة. الطريق المؤدي بالمنتمي إليها هذا النوع من الانتماء إلى الهزيمة الكاملة. وليست العين الأخلاقية اليقظة هي التي سدت الطريق في وجه سرحان، وإنما الثغرات التي لا نهاية لها قد أوصدت الباب نهائيًّا، ووقعت «العملية» برمتها في شباك الأمن، وقبض على سائق السيارة المحملة بالبضاعة — تمامًا كاقتياد نفيسة إلى القسم من بيت الدعارة في بداية ونهاية — ولم يعُد أمام سرحان البحيري إلا أن يؤكد من جديد مأساة حسنين، ذاك ألقى بنفسه في النيل وهو يحمل على كتفيه نجوم الانضواء للنظام. وهذا مزق شريانه وهو يحمل على كتفيه كافة علامات الانضواء من عضوية هيئة التحرير إلى عضوية لجنة العشرين بالاتحاد الاشتراكي. وبانتحار سرحان البحيري تئول الأزمة الضارية إلى هزيمة مضاعفة؛ فالانتماء التقليدي لم يعُد له مكان إلا خلف الأسوار، أو في وهاد الخيبة والضياع والارتداد. والانتماء إلى الطريق الجديد كان في جوهره انتماء إلى طبقة جديدة تنبأ لها نجيب محفوظ — بانتحار سرحان — بهزيمة بعيدة عن النبل والشرف. وهي الهزيمة المنكرة التي آلت إليها الأمور في عوامة الثرثرة فوق النيل.

وكما اختتم الفنان ثرثرته السابقة بالانتماء التجريدي الأرحب إلى تقدم «الإنسانية» كلها بعد الإخفاق المرير للانتماء المحدد إلى الثورة المصرية … فإنه كذلك يختتم ميرامار على لسان عامر وجدي — لسان التاريخ الذي نطق به أنيس في خاتمة الثرثرة — وهو الرجل الذي اكتشف في النهاية أنه وحيد مع زهرة، كوحدة أنيس مع سمارة. ومثل سمارة في لحظات انسحاقها تحت حوافر قُوى القهر كانت زهرة «تعلوها مظاهر الحزن والانكسار حتى خُيل إليَّ أنها ضَؤلَت واحْدَودَبَت.» هكذا قال عامر. وببصيرة الأنبياء يحطم نجيب محفوظ كافة الوشائج بين زهرة وماريانا، فتطردها القوادة الأجنبية العجوز ويتم الانفصال العظيم بينهما، فإذا سألها عامر وجدي بروح الأب المهزوم في هزيمتها:

«ماذا أعددت للمستقبل؟

قالت وهي ترنو إلى الأرض ما تزال: كالماضي تمامًا حتى أحقق ما أريد …»

ويومئ الفنان بأن حرث الأرض على هذا النحو الفاجع في الثرثرة وميرامار قد أوضح لديه، بما لا يقبل الشك، أن المعضلة الأساسية هي وجود المنتمي الحقيقي إلى الثورة الحقيقية، المنتمي المنزه عن أدران الرؤية التقليدية ومهاوي الارتداد والتسلق. ويخاطب زهرة — من بين شفتي عامر — «وستظل غايتك المنشودة هي العثور على الحلال … وستجدين حتمًا ابن الحلال الجدير بك … إنه موجود الآن في مكان ما، ولعله يتحين اللحظة السعيدة المناسبة.» ويباشر لها القول في كلمات صريحة أكثر وضوحًا وجلاء: «إن وقتك لم يضِع سُدًى، فإن من يعرف من لا يصلحون له فقد عرف بطريقة سحرية الصالح المنشود.»

ويختم عامر وجدي تراجيديا الهزيمة بآيات من سورة الرحمن — هو المتهم في إيمانه — فلعلها، ككلمات أنيس الأخيرة، تضيء طريق الأمل وسط الظلمة الشاملة. ولكنه الأمل الإنساني العام والمجرد الذي يتجاوز ما هو خاص ومحدد، فالهزيمة المحددة التي تعنينا ليست شيئًا — في رأي الكاتب — إذا قيست بآمال لا نهائية للسماء والأرض. بل هو يُنهي الرواية قبيل رأس السنة الجديدة بساعات مؤملًا أن يحمل العام الجديد في طياته وجهًا جديدًا.

ولكن الوجه الجديد الذي طالعنا به نجيب محفوظ بعد ميرامار، لم يكن إلا تلخيصًا عميقًا لرحلة الهزيمة التي بدأها عام ١٩٥٩م بمدينته الفاضلة «أولاد حارتنا» وانتهت عام ١٩٦٧م بمدينته الجهنمية «تحت المظلة» … ففي هذه القصة القصيرة العظيمة أودع نجيب محفوظ كلمته الأخيرة في كل شيء؛ في التاريخ والحضارة والثورة وكما أن أقصوصة «زعبلاوي» كانت نقطة البداية في أزمة الإنسان الغائب عن الوعي الصحيح، المريض مرضًا ليس له من علاج تقليدي عند الأطباء أو المشايخ، وإنما عند ذلك الحاضر الغائب المسمَّى «زعبلاوي»، فإن قصة «صوت مزعج» كانت نقطة الوسط التي أومأت بالفرق الهائل بين النضال الأليم الذي يعانيه الإنسان العادي في بلادنا مقابل العناء العقيم الذي تعانيه الصفوة تحت رايات مزيفة، وجاءت قصة «تحت المظلة» نقطة الختام الدامية للمهزلة المؤسية أو المأساة الهازلة التي انتهت إليها الرحلة. وفي هذه القصة حاول الكاتب أن يجسم الفوضى المخيفة والمناخ الدموي الذي يعيشه عالمنا المعاصر في كافة مستوياته، التي تبدأ من الشرطي الذي لا يبالي إلا بأن يجعل من هذه الفوضى نظامًا ومن دماء الرءوس المقطوعة قانونًا، إلى الشرطي الذي يشعر بأن المظليين تجاوزوا حدودهم فسموا الأشياء بأسمائها وقالوا إن هذه فوضى وذاك جنون وتلك مذابح، فلم يكن منه إلا أن يؤدي واجبه — مضطرًّا! — فينظم الفوضى ويعقل الجنون ويقنن المذبحة، ويصوب رصاص بندقيته إلى الصدور لتنزف والرقاب لتتساقط، أي ليزيد الفوضى فوضى والجنون جنونًا والمذبحة دمًا … ولكن إذا أقبل أحد من جديد ليقف تحت المظلة، عليه أن ينتظر الأوتوبيس أو يتقي البلل، وعليه أن يتحاشى ما استطاع تلك الجرثومة الخفية التي تغرق عينيه في التأمل أو تفتحهما على الدهشة. ومن المفيد القول بأن نجيب محفوظ لم يكتب في «تحت المظلة» عملًا من أعمال اللامعقول، فتجريد الوجود عند كتاب اللامعقول هو إخلاء المسكن من زخارف الأثاث وتفاصيل البشر والنظر إليه بموضوعية المعمل، وهي الموضوعية القائلة بأنْ لا قيمة للمسكن في ذاته ولا في ساكنيه، لا قيمة على الإطلاق. أما كاتبنا فبالرغم من كل ما يبدو على قصته من لامعقولية مفرطة فإنها ليست اللامعقولية التي ترادف العبث، وإنما هي تشيع تلك الرائحة النفاذة لما أُسميه بالفوضى المخيفة والمناخ الدموي، ذلك الشيء النقيض للمدينة الفاضلة. فبينما كان أنبياء المدينة الفاضلة من أكثر الناس «تنظيمًا» لها وتجسيدًا «لمثُلها العليا»، فإن نجيب محفوظ يقدم لنا «المدينة الجهنمية» التي صار إليها عالمنا بدءًا من أكثر مستوياته تقدمًا وانتهاء بأكثرها تخلفًا دون ما استثناء. إن مدينة نجيب محفوظ الجديدة هي نقيض حارته القديمة، فقد كانت هذه مدينة فاضلة حقًّا بالرغم من كل الصراعات والتمزقات التي عانت منها، كان «العلم» هو الأمل الخافق بين أضلع الفنان وصدره. غير أنه بعد عشر سنوات يأتي ليقول إن الحارة أصبحت مدينة حقًّا، ولكنها مدينة جهنمية فوضاها نظام وجنونها عقل ومذابحها سلام. ومدينة نجيب محفوظ الجديدة، كحارته القديمة لها وجهان: الوجه الإنساني العام الذي يقصد به العالم كله، والوجه المحلي الخاص الذي يعنينا نحن على وجه التحديد، فهي رؤيا للعالم وإن شكلت بلادنا جزءًا لا ينفصل عن الأحداث. وإذا لم تكن قصة نجيب محفوظ عملًا من أعمال اللامعقول فإن هذا لا ينفي أنها تصرخ بأن عالمنا لامعقول، ولكن «العالم» في رؤيا نجيب محفوظ لا يعني الكون، ومأساة الإنسان في رؤيا نجيب محفوظ لا تعني إخفاقه الأزلي في كشف سر الأسرار. وإنما عالم نجيب محفوظ هو عالمنا الواقعي المحدود «بأنظمة» ينقصها النظام و«بقوانين» ينقصها القانون. وإذا كان الفنان يقوم بتجريد فانتازي للموقف بإقصاء الشخصية والحدث إقصاء تامًّا، فلأنه يقتصر على ما يشبه اللوحة التجريدية الموحية، ولا أقول الرامزة، الموحية بتكويناتها وألوانها وخطوطها، وغير الرامزة بجزئيات معينة إلى ما يعادلها من تفاصيل الواقع الخارجي. إنها تومئ بسر ولا تعطي علامة. ولأن السر سرنا فالعلانية شرط من شروط المدينة الجهنمية التي يقف بها الشرطي دائمًا، ولكن بلا حراك، حتى إذا تأملت أو دهشت كان مصيرك — أنت الواقف تحت المظلة خوفًا من البلل أو انتظارًا لأوتوبيس — أن تتدحرج رأسك فتُوسَّد الطوار تحت المطر وينطرح جسدك جثة هامدة تحت المظلة.٣٦

•••

هذا هو عالم نجيب محفوظ الجديد، وكلمته الأخيرة أيضًا. عالم بدايته التخلف الحضاري المرعب وانعدام التقاليد الديمقراطية، ومآله السقوط والهزيمة والاندحار والانقراض ماديًّا ومعنويًّا. عالم، خامته الرئيسية هي السجون وبيوت الدعارة، وشكله النهائي القتل والانتحار. لا العلم ولا التصوف بقادرَين على إنقاذ السفينة الغارقة؛ لأن ثقوبها أوسع من مادة اللحام، وهشاشة بنائها أضعف من مقاومة الماء.

ونجيب محفوظ في عالمه الجديد هو روائي مرحلة الانتقال بحق، وهي مرحلة محلية وعالمية في آنٍ، وهو انتقال فكري وحضاري معًا. لذلك كانت شخوصه وأحداثه ومواقفه مزدوجة الوجوه والرموز والأغطية. لا يكتمل لك معرفة الوجه إلا بجانبَيه، ولا تكتشف الرمز إلا إذا فضضت العلامتَين، ولا تكشف الغطاء إلا إذا خلعت الرداءَين. وقد احتاج مثل هذا العالم المزدوج إلى أدوات تعبيرية جديدة تلائم الوضع الفكري والنفسي الجديد، فكان لا بد من استحداث ذلك «التزامن» بين الضمائر الثلاثة بالأحاديث الداخلية والخارجية المتواترة في تشابك وتعقيد. وكان لا بد من استحداث هذه اللغة الجديدة على أدب نجيب محفوظ، اللغة القادرة على استيعاب الإيماءة وتمثُّل الرمز والتجوال في داخل الإنسان والارتحال خارجه.

ولا ريب أننا نلاحظ ذلك التبادل الغريب بين القوة والضعف في أعمال المرحلة الجديدة، فالسؤال في «اللص والكلاب» كان أعمق من الجواب في «السمان والخريف»، وعلامة الاستفهام في «الطريق» كانت أكثر غَوْرًا من الرد عليها في «الشحاذ»، ومعالم مرحلة الانتقال في «ثرثرة فوق النيل» كانت أكثر رسوخًا منها في «ميرامار» … لا لشيء إلا لأن السؤال وعلامة الاستفهام كانا يجسدان الواقع المر بكل كثافته وعنفه وصدقه؛ بينما كان الجواب مجرد «صدًى» للصوت، و«صورة» من الأصل، و«حلمًا» بواقع خيالي. ولكن القوة والضعف، جنبًا إلى جنب، كانا يجسدان في آنٍ دقات قلب الفنان، دقة اليأس اليائس ودقة الأمل الغامض. غير أن الدقتَين معًا يصوغان أروع لحن جنائزي في أدبنا الحديث.

وقد نالت أعمال نجيب محفوظ في مرحلته الجديدة شرف التنبؤ بما كان، ولكنها كثقافة أي مجتمع يحتضر أو حضارةٍ تموت، لا يعود له بعد الهزيمة إلا حظوة شاهد العيان. فإذا كانت المرحلة التاريخية نفسها مرحلة انتقال، فإن الروائي الذي توحَّد معها سلبًا وإيجابًا هو روائي مرحلة الانتقال أيضًا. ولقد انتهت هذه المرحلة بالهزيمة بكل ما تنطوي عليه من جوانب مادية ومعنوية، فثقافتها أيضًا بكل ما تشتمل عليه من إشراقات قد سقطت في أوحال الهزيمة وعارها.

ولن يستطيع هذا الجيل — وفي المقدمة منه أدب نجيب محفوظ — أن يتجاوز مقتضيات التاريخ، لن يستطيع أن يرى رؤيا جديدة، مهما كتب وغزُر إنتاجه عامًا بعد عام. ذلك أن موقف الكاتب الآن من مجتمع ما قبل الخامس من يونيو، كموقفه بعد الثورة من مجتمع ما قبلها؛ هل يسمح لنفسه أن يكون ناقدًا «للماضي» وحسب، مهما امتدت رواسب الماضي إلى قلب الحاضر؟ إنه حينئذٍ لن يصنع أكثر من ترديد كلام سبق أن قاله بصورة أفضل، أو أن يقول كلامًا يرادف الصمت …

… وإما أن يختار الصمت طوق نجاة من حكم التاريخ. وإذا كانت السنوات السبع العجاف في حياة نجيب محفوظ من ١٩٥٢ إلى ١٩٥٩م قد «أثمرت» جدليًّا السنوات السبع العظام من ١٩٦٠ إلى ١٩٦٧م … فهذه السنوات بعينها هي التي تؤدي — بنفس المنطق الجدلي — إلى خواء المرحلة القادمة بالنسبة للجيل الحالي، وفي المقدمة منه نجيب محفوظ.

وإذا كان الخامس من يونيو ١٩٦٧م في المستوى السياسي، وأدب نجيب محفوظ قبل هذا التاريخ في المستوى الفني، قد أعلن أن العنقاء احترقت بعُشها فإنه لن يتيسر للثورة المصرية وثقافتها بعث جديد إلا على أكتاف جيلٍ جديد ورؤيا جديدة تتجاوز الهزيمة وثقافتها المدحورة. فنحن لسنا بحاجة إلى «معجزة جيل» أدى رسالته على خير وجه، وإنما نحن بحاجة إلى «جيل المعجزة» القادرة على أن تقيم إليعازر من بين الأموات، أو أن تبعث من الرماد المحترق عنقاء جديدة، تجوب الأرض والسماء، لتجمع أطيب النباتات، وتبني عشها من جديد. ولعل هذا هو التحدي أمام الجيل القادم: هل يستطيع أن يصنع المعجزة من رمادٍ تخلَّف عن احتراق العنقاء القديمة؟

١  راجع: «نجيب محفوظ بين أولاد حارتنا والشحاذ» لمحمود أمين العالم، بمجلة «الهلال»، يوليو، ١٩٦٥م.
٢  راجع: «قراءة جديدة لنجيب محفوظ»، لأحمد عباس صالح، بمجلة الكاتب، الأعداد من نوفمبر ١٩٦٥م إلى أبريل ١٩٦٦م.
٣  راجع: «اتجاهي الجديد ومستقبل الرواية» لنجيب محفوظ، بمجلة الكاتب، عدد فبراير ١٩٦٤م.
٤  راجع: «الجديد في قصة اللص والكلاب» للدكتورة لطيفة الزيات، بمجلة «الفكر العربي» اللبنانية، العدد الأول، مارس ١٩٦٢م.
٥  راجع: «حول قضية الطبقة الجديدة في مصر»، لعادل غنيم، بمجلة الطبيعة، عدد فبراير ١٩٦٨م.
٦  راجع: «التحدي الأمريكي»، الترجمة العربية، دار الآداب، بيروت.
٧  راجع هذه النقطة بالتفصيل في المقال السابق ذكره للدكتورة لطيفة الزيات.
٨  راجع: «المصور»، عدد ٨ نوفمبر ١٩٦٧م.
٩  نبهني إلى ذلك الدكتور لويس عوض في حديثه عن بيكيت بكتابه «الاشتراكية والأدب».
١٠  راجع: «الثورة والأدب»، للدكتور لويس عوض، الطبعة الأولى، ١٩٦٧م، دار الكاتب العربي، ص١٣١.
١١  راجع: مقال توفيق حنا عن الرواية، بمجلة «القصة»، عدد ١٢، سنة ١٩٦٤م.
١٢  راجع: مقال فؤاد دواره، «المجلة»، عدد يوليو ١٩٦٤م.
١٣  راجع: مقال صبري حافظ، بالآداب، يونيو ١٩٦٤م.
١٤  راجع: كتاب «أدباء معاصرون»، لرجاء النقاش، الطبعة الأولى، مكتبة الأنجلو، ١٩٦٨م، ص١٩٨.
١٥  راجع: مقالة «مقدمة إلى كافكا»، ترجمة: ماهر البطوطي، مجلة القصة، العدد ١٢، ١٩٦٤م.
١٦  راجع هذه الاستشهادات جميعها في كتاب «دوستويفسكي»: تحرير رينيه ويلك، ترجمة: نجيب المانع، المكتبة العصرية، بيروت، الطبعة الأولى، ١٩٦٧م.
١٧  راجع هذه الاستشهادات جميعها في كتاب «دوستويفسكي»: تحرير رينيه ويلك، ترجمة: نجيب المانع، المكتبة العصرية، بيروت، الطبعة الأولى، ١٩٦٧م.
١٨  راجع هذه الاستشهادات جميعها في كتاب «دوستويفسكي»: تحرير رينيه ويلك، ترجمة: نجيب المانع، المكتبة العصرية، بيروت، الطبعة الأولى، ١٩٦٧م.
١٩  راجع هذه الاستشهادات جميعها في كتاب «دوستويفسكي»: تحرير رينيه ويلك، ترجمة: نجيب المانع، المكتبة العصرية، بيروت، الطبعة الأولى، ١٩٦٧م.
٢٠  راجع هذه الاستشهادات جميعها في كتاب «دوستويفسكي»: تحرير رينيه ويلك، ترجمة: نجيب المانع، المكتبة العصرية، بيروت، الطبعة الأولى، ١٩٦٧م.
٢١  راجع هذه الاستشهادات جميعها في كتاب «دوستويفسكي»: تحرير رينيه ويلك، ترجمة: نجيب المانع، المكتبة العصرية، بيروت، الطبعة الأولى، ١٩٦٧م.
٢٢  نفس المصدر السابق.
٢٣  كافة هذه الاستشهادات مأخوذة عن كتاب «روائع التراجيديا في أدب العرب»، تحرير: كلينيث بروكس، ترجمة: د. محمود السمرة، نشر دار الكاتب العربي بيروت، الطبعة الأولى، ١٩٦٤م.
٢٤  كافة هذه الاستشهادات مأخوذة عن كتاب «روائع التراجيديا في أدب العرب»، تحرير: كلينيث بروكس، ترجمة: د. محمود السمرة، نشر دار الكاتب العربي بيروت، الطبعة الأولى، ١٩٦٤م.
٢٥  كافة هذه الاستشهادات مأخوذة عن كتاب «روائع التراجيديا في أدب العرب»، تحرير: كلينيث بروكس، ترجمة: د. محمود السمرة، نشر دار الكاتب العربي بيروت، الطبعة الأولى، ١٩٦٤م.
٢٦  أكرر ضرورة الرجوع إلى مقال عادل غنيم «حول قضية الطبقة الجديدة في مصر»، بالعدد الثاني من الطليعة، ١٩٦٨م.
٢٧  راجع: «رؤيا القديس حمزاوي» لإبراهيم فتحي، المجلة، عدد ١٠٤، أغسطس ١٩٦٥م؛ ومقال: «استجداء الحقيقة»، لصبري حافظ، «المجلة»، عدد ١١٢، أبريل ١٩٦٦م.
٢٨  راجع: كتاب «دستويفسكي»، تحرير: رينيه ويلك، الترجمة العربية المذكورة سابقًا، ص١٢٦.
٢٩  راجع: كتاب «دستويفسكي»، تحرير: رينيه ويلك، الترجمة العربية المذكورة سابقًا، ص١٢٦.
٣٠  كما جاء في مقال محمد عبد الله الشفقي — مثلًا عن «الشحاذ»، بجريدة المساء — عدد ٢٩ / ٨ / ١٩٦٥م.
٣١  راجع: مجموعة «خمارة القط الأسود»، الطبعة الأولى، مكتبة مصر، ١٩٦٨م.
٣٢  راجع: للطفي الخولي، في الأهرام، ١١ / ٣ / ١٩٦٦م؛ وأمير إسكندر، في الجمهورية، ١٦ / ٦ / ١٩٦٦م.
٣٣  راجع: لجلال العشري، في «الفكر المعاصر»، العدد ١٥، مايو ١٩٦٦م.
٣٤  راجع: لصبري حافظ مقاله «ميرامار: تراجيديا السقوط والضياع»، بالمجلة، يونيو ١٩٦٧م.
٣٥  يمكن متابعة هذه الفكرة عن الزمن في رواية فوكنر بمقالة سارتر المترجمة للعربية، بمجلة الكاتب، فبراير ١٩٦٤م.
٣٦  راجع لغالى شكري: «بعيدًا عن أزمة القصة القصيرة»، الدراسة النقدية الملحقة بمجموعة «قصص قصيرة»، كتابات معاصرة، الطبعة الأولى، ١٩٦٨م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤