الفصل الخامس

تحليل النصوص: بناء العلاقات الاجتماعية و«النفس»

يركِّز الفصلان الخامس والسادس على تحليل النصوص وما يرتبط به من الجوانب «الصغرى» للممارسة الخطابية، بحيث يطوِّران — على أسس انتقائية محضة — معالجة الفئات التحليلية التي سبق تقديمها في الفصل الثالث (باستثناء التناص الذي عولج في الفصل الرابع)، وهي المفردات، والنحو، والتماسك، والبناء النصي، والقوة، وترابُط المعنى. والاختلاف بين الفصلَين الخامس والسادس اختلاف في التأكيد؛ إذ يركِّز الفصل الخامس أساسًا على الخصائص التحليلية للنصوص، وهي التي ترتبط خصوصًا بوظيفة العلاقة ما بين الأشخاص من زاوية اللغة والمعاني، ويتناول الفصل السادس بصفة رئيسية جوانب تحليل النصوص، وهي الجوانب التي ترتبط خصوصًا بالوظيفة الفكرية والمعاني الفكرية.

قلت في الفصل الثالث: إن الوظيفة الخاصة بالعلاقة ما بين الأشخاص يمكن تقسيمها إلى وظيفتَين مكوِّنتَين لها أسميتُهما الوظيفة «العلائقية» والوظيفة الخاصة ﺑ «الهُويَّة». وتتعلَّق هاتان بالطرائق التي تُمارَس بها العلاقات الاجتماعية، وتتجلى بها الهُويات الاجتماعية في الخطاب، ولكنهما تتعلقان أيضًا بكيفية بناء العلاقات الاجتماعية والهُويات في الخطاب (وإعادة إنتاجها، والطعن فيها، وإعادة هيكلتها). وأريد أن أركِّز في هذا الفصل على بناء الهُويات الاجتماعية، أو على بناء «الذات» في الخطاب، وبصفة أخص على الطرائق التي يسهم بها الخطاب في عمليات التغيير الثقافي، وهي التي تتعرَّض فيها الهُويات الاجتماعية أو «الذوات» المرتبطة بمجالات ومؤسسات معيَّنة لإعادة التحديد وإعادة التكوين. وأريد تأكيد هذا هنا؛ لأنه جانب خطابي بالِغ الأهمية من جوانب التغيير الثقافي والاجتماعي، ولكن هذا الجانب لم يلقَ حتى عهد قريب الاهتمام الجدير به في تحليل الخطاب.

وسوف ينصَبُّ تركيزي على الخصائص التحليلية التالية للنصوص: التحكم في التفاعل (بما في ذلك تناوب أدوار الكلام، وبناء التبادل، والتحكم في الموضوع، والتحكم في البنود، والصياغة) والنوعية، والتأدُّب، والجو الخلقي. وفي إطار الفئات التحليلية الواردة في الفصل الثالث عاليه، يُعتبر التحكم في التفاعل بُعدًا من أبعاد بناء النص، وتعتبر النوعية بُعدًا من أبعاد النحو (وإن يكن مفهوم النحو هنا موجَّهًا بشدة نحو المعنى، مثل مفهوم هاليداي، ١٩٨٥م) ويعتبر التأدُّب جانبًا مما أسميتُه «القوة». وأما الجو الخلقي فيتجاوز هذه الفئات، كما سوف أشرح أدناه، ودافعه التركيز على الذات. وليس اختيار هذه الموضوعات المحدَّدة للفحص اختيارًا تعسُّفيًّا، إذ يمثل كلٌّ منها أساسًا حافلًا للنظر في جوانب التغيير ذات الدلالة الاجتماعية والثقافية في وظائف الخطاب العلائقية والخاصة بالهُوية.

وكما فعلت في الفصل الرابع أبدأ بمناقشة عيِّنات خاصة من الخطاب، وقد أخذت عيِّنتَين من نمط خطاب واحد، وهو نمط المقابلات الشخصية الطبية، لأنهما يظهران أسلوبَين متضادَّين لبناء العلاقات بين الطبيب والمريض وبناء الهُوية الاجتماعية للطبيب، «الذات الطبية» في المجتمع المعاصر. وأما العيِّنة الثالثة فمن محادثة غير رسمية، وقد أدرجتها لأؤكد تضادًّا آخَر بين العيِّنتَين الأوليين يرجع بنا إلى الفصل الأخير، أي الفوارق بين طرائق التناص.

العينة الأولى: مقابلة شخصية طبية «معيارية»

العينة الأولى مقتطفة من مقابلة شخصية بين طبيب ومريضة، وأستعيرها من دراسة للمقابلات الشخصية الطبية التي سجَّلَها ميشلار (١٩٨٤م) في الولايات المتحدة. فترات الصمت ترمز لها النقط. وكل نقطة تمثل عُشر ثانية، والنقطتان الرأسيتان (:) تدلان على مطِّ المقطع المنطوق، وضروب المقاطعة والتداخل تدل عليها الأقواس المربعة، وأما الأقواس المستديرة فتدل على كلام غير واضح. والأرقام الرومانية تقسم المقتطف إلى «دورات»، تتفق عمومًا مع «المبادلات» في النظام الذي وضعه سنكلير وكولتارد (ط: طبيب، م: مريضة).

سوف أبدأ بالتركيز على مجموعة منوعة سوف أطلق عليها «معالم التحكم في التفاعل»، وهي تتعلق عمومًا بضمان سلاسة التفاعل على مستوى التنظيم، بمعنى سلاسة تناوب أدوار الحديث، واختيار الموضوعات وتغييرها، وإجابة الأسئلة، وهلُمَّ جرًّا.

وأمامنا نقطة انطلاق واضحة، ألا وهي أن تنظيم التفاعل يستند إلى الأسئلة التي يوجِّهها الطبيب وتجيب عليها المريضة. وتسجيل المحادثة يتضمَّن التحليل الذي قام به ميشلار بتقسيم البيانات إلى تسع حلقات، تبدأ كلٌّ منها بسؤال من الطبيب. وتقسيم الحلقات V، وVII، وIX (وقد اختصرت هذه الأخيرة) إلى حلقات فرعية يبين أنها تتضمن أيضًا أسئلة «متابعة» من الطبيب تتطلب تفاصيل معيَّنة في إجابات المريضة. وفي بعض الحالات (في السطور ١٠، و١٣، و٢٧) يسبق سؤالَ الطبيب عنصرٌ يتضمن إقرارًا سافرًا أو قبولًا لإجابة المريضة السابقة. وسوف أسمِّي هذا «قبولًا». وحتى حين يغيب ذلك فإن قيام الطبيب بطرح سؤال آخَر، بدلًا من سؤال متابعة، يمكن تفسيره باعتباره قبولًا ضمنيًّا لإجابة المريضة السابقة. وهذا سبب اعتبار أسئلة الطبيب واقعة بين حلقات، إذ إنها تختتم إحدى الحلقات بالقبول الضمني لإجابة المريضة، وبالبدء في الحلقة التالية. ولنا أن نقول إذَن، وفق تحليل ميشلار: إن هذه الحلقات تتسم ببناء أساسي ثلاثي يتكون من سؤال من الطبيب، ورد من المريضة، وقبول مضمر أو سافر للرد من الطبيب.

وإذَن، فإن الطبيب يتحكم تحكُّمًا صارمًا في التنظيم الأساسي للتفاعل من خلال ابتداء كل حلقة واختتامها بقبول ردود المريضة أو إقرارها. ومن النتائج المترتبة على هذا أن الطبيب يتحكم في نظام تناوب الأدوار، أي توزيع أدوار الحديث بين المشاركين في التفاعل (فيما يتعلق بالتناوب انظر كتاب ساكس وشيجلوف وجيفرسون، ١٩٧٣م، وشينكاين، ١٩٧٨م). والمريضة لا تشارك في أدوار الحديث إلا عندما يقدِّمها الطبيب لها، أي عندما يوجِّه سؤالًا إليها، ولكن الطبيب لا ينتظر تقديم أدوار إليه بل يأخذها عندما تنتهي المريضة من ردها عليه، أو عندما يقرِّر أن المريضة أجابت الإجابة الكافية في نظره (انظر أدناه).

وتترتب نتيجة أخرى على هذا التنظيم الأساسي، وهي تتعلق ﺑ «التحكم في الموضوع». إذ إن الطبيب هو الذي يقدِّم، أساسًا، موضوعات جديدة من خلال أسئلته، مثلما يفعل عندما يتحول في السطور ١–١٣ من معنى «حموضة المعدة» إلى موضع «الحرقان» ثم إلى السؤال عما إذا كان الألم يتحوَّل إلى الظهر، وعن موعد الإحساس بالألم. ومع ذلك فالملاحظ أن المريضة تقدِّم موضوعًا جديدًا في السطرَين ٢١–٢٢، وهو شرب الكحول، وهو ما يتناوله الطبيب في السطر ٢٤، وسوف أعود إلى هذا الاستثناء أدناه.

ومن الجوانب الأخرى للتحكم في الموضوعات ممارسة الطبيب لخياراته الخاصة في الاستجابة لردود المريضة من الأسئلة السابقة، ففي السطور ٢١–٢٤ التي أشرت إليها لتوي، على سبيل المثال، تقر المريضة بأنها أخطأت باعتيادها شرب الخمر، ولكن الطبيب لا يتابع هذا الإقرار، إذ يبدو أنه غير مهتم إلا بتأثير الكحول في صحة المريضة. وعلى غرار ذلك نجد أن ردود المريضة في السطور ٢٩–٣٠ و٤٢ تشير إلى بعض المشكلات لدى المريضة التي يتجاهلها الطبيب مفضِّلًا النظر في التفاصيل الطبية الدقيقة. ويخالج المرء الإحساس بأن الطبيب يغيِّر الموضوع ويحصره وفقًا لنهج موضوع سلفًا، وبأنه لا يسمح للمريضة بتغييره.

وتمثِّل طبيعة الأسئلة التي يطرحها الطبيب جانبًا آخَر من جوانب تحكمه في الموضوع، إذ إنها ليست أسئلة مفتوحة تتيح للمريضة حرية الكلام (كأن يقول مثلًا «حدِّثيني عن حالك في الآونة الأخيرة») ولكنها أسئلة «مغلقة» إلى حدٍّ ما، بمعنى أنها تفرض حدودًا صارمة نسبيًّا على إجابات المريضة. وبعض هذه الأسئلة ينتمي إلى ما يرد عليه بالإيجاب أو بالنفي، بمعنى تأكيد مقولة معيَّنة أو إنكارها (مثل «هل تشعرين بالحرقان هنا؟») وبعضها الآخَر تبدأ بحروف معيَّنة مثل «ماذا»، و«متى»، و«كيف»، وهي الأسئلة التي تطلب تفاصيل محدَّدة عن وقت شرب الكحول وكميته ونوعه.

ومن المفيد أيضًا أن ننظر إلى العلاقة بين أسئلة الطبيب وإجابات المريضة. ففي السطر الرابع يبدأ الطبيب سؤاله قبل أن تنتهي المريضة من الكلام، فيقع التداخل. ويحدث ذلك أيضًا في السطرَين ٢٠ و٢٤، وإن كانت إجابة المريضة في هاتَين الحالتَين تتضمن وقفة ربما ظنها الطبيب دليلًا على انتهاء الإجابة. وفي حالات أخرى يتبع دور الطبيب مباشرة كلام المريضة دون توقف، إما بإبداء تقدير للحالة متبوع بسؤال (السطران ١٠ و١٣) أو بسؤال فقط (السطر ١٦). ويختلف النسق في السطر ٢٣ للأسباب التي أوردها أدناه. وهذا يؤكِّد أن الطبيب يعمل وفقًا لنهج موضوع سلفًا، أو أنه ينتقل من مرحلة إلى مرحلة أخرى حالَمَا يرى أنه حصل على معلومات يعتبرها كافية، حتى ولو أدى ذلك إلى مقاطعة كلام المريضة. وإذا نظرنا إلى هذا النهج بعينَي المريضة فربما وجدنا أنه يتكون من سلسلة من الأسئلة غير المتصلة التي يتعذَّر توقُّعها، وربما يكون هو السبب في أن إجابات المريضة عنها تسبقها لحظات تردُّد (السطور ١٥، ١٨، ٢٩، ٤٢)، على العكس من إجاباتها عن أسئلة الطبيب في القسم الأول من المقتطف.

والصورة الشاملة إذَن، فيما يتعلَّق بمعالم التحكُّم في التفاعل، تدل على أننا نشهد حلقات تتكون كلُّ حلقة منها من سؤال وإجابة وتقييم، وأن الطبيب يطبق من خلالها نهجًا موضوعًا سلفًا، وأنه يستطيع بفضله أن يتحكم في أدوار كلام المريضة ومضمون كل دور وطوله، إلى جانب تقديم الموضوعات وتغييرها. ولأقدِّم الآن بعض التعليقات الموجزة على ثلاثة جوانب أخرى لهذه العينة، قبل معالجتها معالجة وافية في أواخر هذا الفصل، وهذه هي النوعية، والتأدب، والجو الخلقي.

والمقصود بالنوعية مدى التزام منتج النص بمقولاته، أو إقامته — على العكس من ذلك — مسافة تفصل بينه وبينها، أي تحديد درجة «ارتباطه» بالمقولة، وفق المصطلح الذي وضعه هودج وكريس (١٩٨٨م)، ولكن الارتباط الذي يُبديه منتج النص كما يبين هودج وكريس، بإحدى الصور التي تمثِّل العالم لا تنفصل عن العلاقة (و«الارتباط») بين منتج النص وغيره من المشاركين في الخطاب. ففي السطرين ٢–٣ مثلًا تعرِّف المريضة «حموضة المعدة» بأنها «حرقان شيء مثل الحرقان يعني أو ما عداه» أي: إن المريضة تشرح ما بها أولًا بتعبير طبي شعبي، ثم تقيم مسافة بينها وبين الشرح باختزاله في تشبيه («مثل الحرقان») ثم تزيد من المسافة التي تفصلها عنه ﺑ «المراوغة» (براون ولفنسون، ١٩٧٨م) بتعبير «أو ما عداه». والنوعية هنا تفيد ضعف الارتباط، ولكن التمييز عسير في هذه الحالة بين صدق المقولة وبين العلاقات الاجتماعية الكامنة في دوافع المريضة لقول ما تقوله: تراها تختار ضعف «النوعية» لأنها غير واثقة من دقة شرحها، أم لأنها عازفة عن قول شيء يشبه المعرفة الطبية في تفاعل مع خبير طبي معترف به؟ أي إن صدق المقولات والعلاقات الاجتماعية، بمعنى المعرفة والسلطة، ترتبط بروابط معقدة ويتعذَّر فصلها في مثل هذه الحالات.

فلأتحول الآن إلى التأدب: إن المريضة تقدِّم في السطرين ٢١–٢٢ قضية شربها الخمر، وهي قضية يصعب الخوض فيها على ما يبدو ويمكن أن توقعها في حرج، باعتبارها إضافة ذيَّلَت بها إجابتها عن سؤال من أسئلة الطبيب. ويقول ميشلار (١٩٨٤م، ٨٦) إنها تتكلم في هذه اللحظة بأسلوب فيه «ميوعة» أو «دلال» أو «لمسة طفولية» وهو ما يمكن تفسيره بأنه محاولة للتخفيف من التهديد لاحترامها لذاتها وللحفاظ على «ماء وجهها» بعد اعترافها بمعاقرة الشراب (انظر براون ولفنسون، ١٩٧٨م، والقسم الخاص بالتأدب في مكان لاحق بهذا الفصل) وعلى العكس من ذلك، لا تتضمن أسئلة الطبيب عن شربها الخمر أي تخفيف، فهي أسئلة صريحة بل وحتى قاسية (السطر ٤١)، فهو يصف حالة المريضة بأنها حالة «إسراف في الشراب» في صياغة تفتقر إلى الدبلوماسية أو التخفيف (أعود لقضية الصياغة فيما بعد). أي إن أسئلة الطبيب تتسم بمستوى تأدب منخفض، وأنا أستخدم المصطلح بمعناه الواسع المستخدم في دراسات التداولية (انظر مثلًا ليتش، ١٩٨٣م؛ براون ولفنسون، ١٩٧٨م) بحيث يعني التوجُّه والحساسية ﻟ «الحياء» عند المشاركين واحترامهم لذواتهم، وخصوصيتهم واستقلالهم.

ولنا أن نربط بين التأدب وبين مفهوم الجو الخلقي الأعم والأشمل، وهو الذي يعني كيف يمكن للسلوك الكلي للمشارك — وهو الذي يُعتبر كلامه (المنطوق أو المكتوب) وأسلوبه ونغمته جزءًا منه — أن يعبر عن شخصيته ويشير إلى هُويته الاجتماعية وذاتيته (مينجينو، ١٩٨٧م، ٣١–٣٥). والأطباء يُظهرون في الممارسة الطبية المعيارية ما يمكننا أن نسميه الجو الخلقي العلمي (إذ يعتز الطب الحديث بأنه «العلم الطبي») وهو الذي يتحقق بأشكال مختلفة في الطرائق التي يلمسون بها المرضى وينظرون إليهم أثناء فحصهم، وفي الطرائق التي يستنبطون بها الموضوعات من أقوال المرضى، وغياب دقائق التلطف الخاصة بمعاني العلاقة بين الأشخاص مثل التأدُّب، وهي التي من شأنها الإيحاء بالتوجُّه إلى المريض باعتباره شخصًا، لا التوجُّه العلمي إلى المريض باعتباره «حالة» (انظر إيميرسون، ١٩٧٠م، حيث ترد فحوص أمراض النساء وفق التوجُّهات المذكورة وفيركلف ١٩٨٩م، أ، ٥٩–٦٢ حيث ترد مناقشة لها).

كان تحليل العينة الأولى حتى الآن منحازًا لجانب واحد في تركيزه على تحكم الطبيب في التفاعل. ويشير ميشلار إلى وجود طرائق لتحليل المقابلة الشخصية أكثر توجُّهًا إلى منظور المريض. والواقع أن هذه الطرائق أهم من زاوية التناص. سبق لي أن أشرت إلى أدلة التناقض بين المنظور الطبي ومنظور الخبرة العادية، والتي نجدها في الأسلوب الذي يستبعد به الطبيب أجزاء معيَّنة من أقوال المريض، إذا بدت له خارج الموضوع. فإذا كان كلام الطبيب يظهر فيه باتساق «صوت» الطب، فإن أقوال المريض تمزج صوت الطب بصوت «عالم الحياة»، أو الخبرة العادية (وهذان المصطلحان من عند ميشلار الذي يقتبسهما من هابرماس). وأما التحليل البديل الذي يقترحه ميشلار فيركِّز على الجدلية، والتضارب والصراع داخل التفاعل بين هذَين الصوتَين. ويوحي هذا بالتوسُّع فيما قلته إلى الآن عن التناص؛ بحيث يسمح بإقامة علاقة تناص مجسَّدة في حوار صريح بين مختلف الأصوات التي يأتي بها مختلف المشاركين إلى حلبة هذا التفاعل.

فإذا نظرنا إلى التفاعل من هذه الزاوية بدا لنا أكثر تشتُّتًا وأقل انتظامًا من اعتباره تجلِّيًا لسيطرة الطبيب، إذ تتكرَّر مقاطعة الصوتين، صوت الطب (ط) وصوت عالم الحياة (ع) مرارًا: أي إن «ع» يقاطع «ط» في السطر ٢١ (من «لم أقل الحقيقة») و«ط» يقاطع «ع» في السطر ٢٤ («هل يزيد الشراب من سوء الحالة؟») و«ع» يقاطع «ط» في السطر ٢٩ («ما يكفي حتى أنام») والعكس بالعكس في السطر ٣١ («كأس أو كأسان في اليوم؟») فإن «ع» يقاطع «ط» في السطر ٤٢ («منذ أن تزوجت») والعكس بالعكس في ٤٤ («ومنذ متى كان هذا؟») وتواصل المريضة نوبة حديثها التي بدأتها في السطر ٤٥ بتفسير مطوَّل عن سبب حاجتها إلى الكحول، ولماذا تلجأ إلى الكحول بدلًا من الأقراص وحسب، ويتبع ذلك من جديد سؤال من «ط» (وهل تتناولينها (أي الأقراص) بكثرة؟) وفي هذا الجزء من المقابلة الشخصية يصبح «ط» و«ع» متنازعَين، ويستخدم الطبيب تحكمه في الأسئلة لإعادة تأكيد صوت الطب. ومع ذلك فإن التدخلات المتكرِّرة من جانب «ع» تقلق فيما يبدو نهج العمل الذي وضعه الطبيب، وانظر دلائل التردُّد التي بدأت تظهر قبل طرح أسئلة الطبيب (السطور ٢٣–٢٤، ٢٧، ٣٧، ٤١، ٤٤). وإذا كان الطبيب نادرًا ما يرجع إلى عالم الحياة، فإن المريضة تستخدم صوت الطب باستفاضة، وهي تُبدي سعة صدر للطبيب بهذا المعنى أكبر مما يبديه هو لصوت عالم الحياة. والواضح أن الصوتين متضادان في المضمون؛ فصوت الطب يجسِّد العقلانية التكنولوجية التي تتعامل مع المرض من حيث كونه مجموعات لا سياق لها من الأعراض الجسدية، ولكن صوت عالم الحياة يجسِّد عقلانية «منطق الدنيا» التي تضع المرض في سياق جوانب أخرى لحياة المريضة. ويشير ميشلار (١٩٨٤م، ١٢٢) إلى أن التضاد يتفق، فيما يبدو، مع التمييز الذي يقيمه شوتز (١٩٦٢م) بين «الموقف العلمي» و«الموقف الطبيعي».

والتحليل من حيث تحكم الطبيب في التفاعل، والتحليل من حيث وجود جدلية بين صوتين، يعتبران معًا من أساليب التعمُّق في النظر في الممارسة الطبية المعيارية على مستوى تحليلي متناهي الصغر، وفي الطب باعتباره صورة للممارسة المهنية. غير أن مهنة الطب، مثل غيرها من المهن تشهد تحولات كبيرة في المجتمع المعاصر. وربما يكون أهم ما يمكن لتحليل الخطاب أن يسهم به في هذا الصدد هو أن يكون وسيلة لبحث ما تمثله هذه التحولات «على الأرض»، بالنظر في أساليب التفاعل الحقيقية بين الأطباء والمرضى.

العيِّنة الثانية: مقابلة شخصية في إطار الطب البديل

ترمي العيِّنة الثانية التي أقدِّمها إلى تناول بعض قضايا التحول في الممارسة الطبية. وهي أيضًا مقابلة شخصية طبية، وإن كانت من نوع يختلف اختلافًا جذريًّا. والنص يستخدم النقطة (أي الوقفة الكاملة) للدلالة على التوقُّف برهة قصيرة، ويستخدم الشرطة للإشارة إلى الوقفة الطويلة، والأقواس المُربَّعة لتداخُل الأقوال، والأقوال الدائرية للكلام غير الواضح.

وها هي ذي: و«م» ترمز للمريضة و«ط» للطبيب.

وينتمي الطبيب في هذه الحالة إلى مجموعة تمثِّل أقلية داخل مرفق الصحة القومي البريطاني، وهي مجموعة تقبل الطب البديل (مثل الطب الكلي) الذي يعني علاج «الشخص كله»، وهو ما يتفق مع استخدام تقنيات تقديم المشورة. والعيِّنة الحالية تفتقر إلى الأبنية السافرة لتحكم الطبيب وسيطرته، على نحو ما شهدنا في العينة الأولى، كما تفتقر إلى التفاوت الواضح بين الأصوات المختلفة وتضاربها.

وأبرز اختلاف بين العيِّنتَين، من حيث معالم التحكُّم في التفاعل، غيابُ حلقة السؤال والجواب والتقييم من العينة الثانية، إذ إنها مبنية حول الوصف المطوَّل على لسان المريضة، واقتصار دور الطبيب على ردود أفعال كثيرة تتخذ شكل الحد الأدنى من رموز الاستجابة («همم»، «لا»، «نعم»، «صحيح») وطرح سؤال يرتبط موضوعه بأقوال المريضة (السطران ٦–٧) وتقديم تقييم معيَّن، لا لإجابات المريضة على الأسئلة، كما هو الحال في العينة الأولى، بل لبعض الإجراءات التي يقترحها طرف ثالث (السطر ٢٩) واقتراح مقابلة شخصية أخرى معه.

وتناوب الأدوار في الحديث يقوم على التعاون، بدلًا من أن يتحكَّم فيه الطبيب وحده. وفي النص ما يدل على الطبيعة التفاوضية لتوزيع الأدوار، مثل سؤال الطبيب (السطران ٦–٧) وهو يطرحه بسرعة وهدوء كأنه حديث جانبي، مما يدل على حساسية الطبيب ﻟ «إقحام» نفسه أثناء «كلام» المريضة، وهي تعامله كما لو كان كذلك فتجيب إجابة موجزة عنه، ثم تستأنف روايتها. وفي النص دليل آخَر على ذلك، وهو الوقفة الطويلة من جانب الطبيب في السطر ٣٠ بعد أن قدَّم تقييمه، ويبدو أنها بمثابة إتاحة فرصة الكلام مرة أخرى للمريضة، حتى تواصل روايتها إذا شاءت، قبل أن ينتقل الطبيب إلى إنهاء المقابلة.

أما التحكُّم في تقديم الموضوعات وتغييرها، وهو الذي كان أساسًا في أيدي الطبيب في العينة الأولى، فإنه انتقل هنا إلى المريضة. وطريقة تطوير الموضوعات تنتمي إلى طرائق المحادثة وعالم الحياة، فالمريضة تتحدَّث في عدة موضوعات من دون التزام بموضوع واحد، بل تتنقَّل ما بين عدد من الموضوعات التي لا يرتبط بعضها بالبعض، مثل ظلم والدتها، ومعاقرتها الخمر، والبدائل الممكنة عن الإقامة مع والدتها، وهلُمَّ جرًّا. وبذلك فهي تقدِّم تفاصيل تربطها علاقات معيَّنة بالمعايير الخاصة بالمحادثة، ولكنها على الأرجح غير مترابطة طبيًّا، أي من منظور الطب التقليدي. ومن البداية للنهاية يبدي الطبيب ردود أفعال تدلُّ على تركيزه وانتباهه وتوحي ضمنًا بقبوله لهذا الأسلوب الخاص بالمحادثة في تطوير الموضوع.

ومع ذلك فلا يمكننا أن نستنتج ببساطة أن الطبيب قد تنازل للمريضة عن التحكُّم في التفاعل. فعلينا أن نلاحظ أولًا أن الطبيب هو الذي يبادر دائمًا بتسليم قَدْر من التحكم إلى المريض في المقابلات الشخصية الطبية المنتمية إلى هذا النوع، وهو ما يعني أن الأطباء لا يزالون يمارسون التحكم على مستوًى معيَّن، حتى بالشكل الذي يمثِّل مفارقة وهو التنازل عن التحكم، ولكن الواقع يقول: إن لدينا حتى في هذه الحال معالم تحكُّم سافرة؛ إذ إن طرح الطبيب السؤال المهم طبيًّا عن مواصلة المريضة شرب الخمر يتضمن تقييمًا، ويتحكَّم فعلًا في استهلال المقابلة وإنهائها (وإن لم يتضح ذلك من هذه العينة) ويتحكم فيما ينبغي اتخاذه من إجراءات في المستقبل.

ولكنه يفعل ذلك بتحفظ واقتضاب على عكس ما تتميز به الممارسة الطبية التقليدية والعلاقات التقليدية بين الطبيب والمريض، وهو ما يأتي بنا إلى «النوعية» و«التأدب» و«الجو الخلقي». فالتقييم الوارد في السطر ٢٩ يتضمن عبارة تميز النوعية «الذاتية» تمييزًا صريحًا («أظن ذلك») وهي توضِّح أن التقييم خاص برأي الطبيب فقط، وتخفف من درجة «سلطويتها» (انظر القسم الخاص بالنوعية أدناه): أي إن عبارة «ذلك من الحكمة» وحدها توحي باطلاع الطبيب على مصادر مضمرة وغامضة للأحكام المهنية. والسؤال الوحيد الذي يطرحه يتخذ شكل العبارة التي تُقال عرضًا كأنما يقولها الطبيب لنفسه، كما سبق أن ذكرت، وهو يتكون من صياغة مبدئية غامضة وغير مباشرة («هل رجعت الآن إلى ذلك، هل عدت إليه؟») وتتبعها صياغة صريحة («هل بدأتِ تشربين من جديد؟») ومعالم السؤال المذكورة تقلِّل من إمكان خدشه للحياء، وبهذا المعنى تزيد من تأدبه. واقتراح الطبيب بإجراء مقابلات شخصية أخرى يتسم بالتأدب أيضًا بهذا المعنى. فالاقتراح غير مباشر إلى حد بعيد، فالواضح أن الطبيب يطلب من المريضة تحديد مواعيد مقابلات أخرى، لكنه يستخدم في الواقع تعابير غير قاطعة («أود أن … إن كان ذلك ممكنًا»)، أي إنه يريد أن يراها مرة أخرى. كما أنه يصوغ الغرض من المقابلات الشخصية التالية صياغة توحي بأنها زيارات اجتماعية («أن أرى كيف تسير الأمور») كما يستخدم المراوغة في اقتراحه باستخدام «كما تعرفين» مرتين، وإبداء التردُّد «أظن. كما تعرفين. أسمع» وهكذا يوحي بالتعثر في التعبير.

ولنا أن نربط بين هذه التعليقات وبين فكرة الجو الخلقي. فإذا كان أسلوب الطبيب في الكلام في العينة الأولى يتفق مع الخلق العلمي، فإن ما يبديه الطبيب في هذه العينة من تحفُّظ وتردُّد وتعثُّر ظاهري في التعبير يتفق مع الجو الخلقي لعالم الحياة؛ أي إن الأطباء يبدون في هذا اللون من المقابلات الطبية في صورة الرافضين لمذهب النخبة، والجو الرسمي وابتعاد شخصية العالم بالطب (عن الناس)، والذين يؤثرون صورة الشخص «العادي» «اللطيف» الذي «يجيد الإصغاء» (وهي الصورة التي كثيرًا ما تكون مصطنعة). ويتفق هذا مع التحولات العامة في القيم الثقافية السائدة في مجتمعنا وهي التي تُخفض من قيمة مذهب النخبة المهنية، وتعلي من قيمة طرح الرسميات والتصنع، واكتساب المسلك الطبيعي.

وتختلف العيِّنة الثانية عن الأولى أيضًا من حيث ما بها من تناص، إذ إنها تخلو من كل ما يشبه الجدلية بين صوت الطب وصوت عالم الحياة الذي لاحظته في العينة الأولى، بل إن الطبيب نفسه يبدو في صورة مَن يستعين بصوت عالم الحياة، وذلك مثلًا عندما يشير إلى المقابلات المقترحة في المستقبل بقوله إنه يريد «أن يرى كيف تسير الأمور»، ويؤازر لجوء المريضة إلى هذا الصوت بإتاحة الفرصة لها حتى تقول ما تريد بأسلوبها الخاص، مشجِّعًا إياها بردود أفعال ضافية.

ومع ذلك فإن الطبيب يمارس التحكم ولو بأسلوب لا يتميز به في الواقع، وهي حقيقة نستطيع أن نتبينها في التداخل الخطابي (أي التناصُّ المكوِّن) إذا افترضنا وجود التلاقي بين نوع المقابلة الطبية المعيارية وبين أنواع أخرى، وهو الذي يؤدي إلى الحفاظ على بعض معالم التحكم في التفاعل الخاصة بالنوع الأول، وإن كانت تتحقق بشكل مخفَّف وغير مباشر نتيجة تأثير الأنواع الأخرى، أي إن الأفعال نفسها تنبع من نوع معيَّن وتنتمي صور تحقيقها عمليًّا إلى أنواع أخرى. ما هذه الأنواع الأخرى؟ أشرت من قبل إلى نوع المحادثة، ولكن المحادثة موجودة هنا باعتبارها من العناصر المكوِّنة لنوع آخَر، وهو جلسات المشورة. وهكذا فإن علاقة التداخل الخطابي الأولية في هذا النوع من المقابلة الشخصية الطبية تبدو علاقة تقع ما بين نوع المقابلة الطبية المعيارية وجلسات المشورة، أو ما يسميه تِنْ هَافْ (١٩٨٩م، وانظر أيضًا جيفرسون ولي، ١٩٨١م) «الحديثَ العلاجي» في تحليل له بأسلوبي نفسه، إذ إن جلسات إسداء المشورة تؤكد إتاحة فرصة الكلام للمرضى (أو العملاء) والتعاطف العميق مع أقوالهم (وهي التي كثيرًا ما يرجع المستشار صداها أو يعيد صوغها بصوت المريض) وعدم إصدار توجيهات لهم. وليس من قبيل المفاجأة أن يعجز البحث عن نماذج لجلسات المشورة عن الخروج من دائرة الخطاب المؤسسي إلى دائرة خطاب المحادثة حيث تتحقق هذه القيم على نطاق واسع (وهي البارزة هنا في تحفظ الطبيب وتخفيف اللهجة) ويكون ذلك على سبيل المثال في صورة الشخص الذي «يجيد الإصغاء» في عالم الحياة.

ولكن الأنواع المتباينة من المقابلات الطبية لا تتعايش وحسب، بل إنها تشتبك في علاقات تنازع وصراع، باعتبارها جانبًا من الصراع الأعم الأشمل حول الممارسة الطبية، أي إن المقابلات الطبية من نوع العينة الثانية ترتبط بشفافيةٍ بقيم معيَّنة، مثل معاملة المريض باعتباره شخصًا لا مجرد حالة، وتشجيع المريض على أن يتحمَّل قدرًا من المسئولية عن العلاج، وهلُمَّ جرًّا. والواقع أن القضية الحقيقية في الصراعات بين أنواع المقابلات الطبية قضية الحدود بين نظم الخطاب، مثل الحد الفاصل بين جلسة المشورة والمقابلة الطبية، وتبيان التداخل الخطابي بين بعض العناصر داخل نظم الخطاب.

ويبدو أن الاتجاه الأولي للتغيير داخل الطب المعاصر اتجاه نحو مقابلات قريبة الشبه بالعينة الثانية، ويتجلى في هذا بصفة خاصة ملامح التغيير في القيم الثقافية والعلاقات الاجتماعية التي أشرت إليها آنفًا، وهي تغييرات في بناء «الذات الطبية» بناء يبتعد بها عن السلطة والخبرة السافرتين، وتغييرات تبتعد بالسلطة عن منتجي البضائع والخدمات وتقترب بها من المستهلكين أو العملاء، وتغييرات تفيد الابتعاد عن الطابع الرسمي والاقتراب من الطابع غير الرسمي وهلُمَّ جرًّا، ولكن التغيير لا يجري في سلاسة، ويتمثل أحد الأسباب في وجود اتجاهات فعالة متنافرة ومتناقضة، ونجد ثانيًا أن بعض اتجاهات التغير الثقافي تستطيع التناغم مع بعض الاتجاهات على مستويات أخرى، أو تتنازع معها. فنجد على سبيل المثال أن تحويل الممارسة الطبية إلى ممارسة من النوع الموجود في العينة الثانية ذو تكلفة اقتصادية باهظة. فالطبيب يستطيع الانتهاء من «فحص» المرضى ﺑ «كفاءة» وسرعة أكبر من خلال نهج محدَّد سلفًا مثل الذي نجده في العيِّنة الأولى، بدلًا من تقنية إتاحة الوقت للمرضى ما داموا يشعرون بأنهم يحتاجون إليه في الحديث. ويتعرض الأطباء اليوم في بريطانيا وغيرها لضغوط هائلة لزيادة «كفاءتهم»، وتتضارب هذه الضغوط مع الاتجاهات السائدة على المستوى الثقافي (ارجع إلى الفصل السابع أدناه حيث المزيد من مناقشة الاتجاهات المعاصرة في التغير الخطابي).

العيِّنة الثالثة: السرد في المحادثة

توضِّح العينة الثالثة بُعدًا آخَر من أبعاد التناص، إنها مقتطف من محادثة يروي فيها زوجان إلى زوجَين آخَرين قصة ما حدث لهما مع مفتشي الجمارك عند عودتهما من عطلة في الخارج. ونسخ المحادثة منظم بحيث يقع على أربعة أسطر، إذ يختص كلُّ مشارك بسطر واحد. وبعد السطور الأربعة الأولى، لن تضم السطور إلا كلام مَن يتحدث من هؤلاء. والكلام المتداخل يظهر في سطرَين متتاليين أو أكثر، وفترات الصمت يرمز لها بنقطة (تفيد التوقف الكامل). وعلامة يساوي (=) تعني أن الكلام التالي يتبع الكلام الأول مباشرة. والبنط الأسود يفيد ارتفاع الصوت. وحرف الزاي «ز» يرمز للزوج، وحرف «ق» يرمز لقرينته. لاحظ أن بعض السطور في الجزء الأول لا كلام أمامها، والرمز «ز١» يعني الزوج الأول، و«ز٢» الزوج الثاني، و«ق١» القرينة الأولى، و«ق٢» القرينة الثانية.

في الفقرة قبل الأخيرة يطلب الزوج الأول من قرينته ألَّا تقاطعه، ويتوقف اعتبارنا أن ما تفعله القرينة الأولى أثناء السرد بمثابة مقاطعة على تصوراتنا للطبيعة الدقيقة للنشاط هنا. وتوجد عدة أنواع فرعية للسرد أو قص القصص، ومن الجوانب المهمة التي تتفاوت فيها ما إذا كان الراوي فردًا واحدًا أم عدة رواة. والقصص التي يقصها شخصان أو أكثر باعتبار أنها قصصهما أو قصصهم مألوفة في رواية القصص أثناء المحادثة. وربما يكون الزوج الأول في هذه الحالة قد افترض أنه يقدِّم قصة من جانب راوية واحد، في حين أن قرينته تفترض (مع الزوج الثاني) أنهما يقدمان القصة معًا، وإن كان لنا أن نرى أن دورها دور «مساعد» فقط. ويبدو أن القرينة١ والزوج٢ يتصوران أنهما يعملان في إطار نموذج لقصة «تفاعلية»، بمعنى المصطلح الإضافي للقصة التي تُروى من خلال الحوار بين الرواة والجمهور. ويمكن اعتبار هذه الحالة حيث يعمل المشاركون المختلفون في إطار نماذج نوعية مختلفة أسلوبًا آخَر من أساليب التناص، إذ يشبه إلى حدٍّ ما الحالة في العيِّنة الأولى، حيث يتوجَّه المشاركون المختلفون إلى أصوات مختلفة (ولك أن ترجع إلى التمييز بين طرائق التناص في بداية الفصل الرابع أعلاه).

ويختلف النوعان الفرعيان للسرد اللذان أقول بوجودهما، بطبيعة الحال، في نظم تناوب الحديث والتحكم في الموضوعات. فالسرد من جانب راوية واحد ينسب حقوق الحديث أثناء قص القصة إلى الراوية الأوحد، وهو ما يعني ضمنًا أن المشاركين الآخَرين لا حق لهم في أدوار حديث كاملة، وإن كان يتوقع منهم أن يستجيبوا بالحد الأدنى من ردود الأفعال، ومن ثَمَّ فليس لهم الحق في التحكم في الموضوعات. وأما القصة التي يشترك فيها أكثر من راوية فتقتضي اشتراك أكثر من متحدث، والمشاركة في حقوق تناوب الحديث وتقديم الموضوعات وتغييرها. ومحاولة الزوج الأول أن «يحمي» حقه في الكلام تبدو لنا ذات فظاظة بسبب عدم حساسيته لكون قرينته والزوج الثاني يعتبران أن القصة تُروى بالمشاركة بين الزوجين.

إلى أيِّ مدى يمكننا اعتبار مسألة الانتماء إلى أحد الجنسين ذات صلة بهذه الحالة؟ إن الزوج الثاني يشترك مع القرينة ١ في تصوُّر أن السرد مشترك، وهذا في ذاته دليل ينفي اقتصار الرواة على الرجال دون النساء، حتى ولو كان ذلك صحيحًا لأسباب أخرى. ومع ذلك فإن هذه العينة تقترب من تمثيل ما تدلُّني عليه خبرتي الخاصة من انتشار نسق معيَّن لرواية القصص من جانب الزوجَين، إذ يحكي الزوج القصة (ويسرق الأضواء) في حين تلعب الزوجة دورًا ثانويًّا، بتقديم تعليقات تؤيد رواية الزوج وتضيف إليها تفاصيل محدودة، من دون أن تحاول المشاركة في التحكم في الموضوعات، وفي إطار هذا النسق نرى أن القرينة١ قد تخطت الحدود بتقديم موضوعات وبالحوار مع الزوج الثاني. لاحظ تشابه هذا التحليل الثاني ذي التوجُّه إلى الزوج مع تحليل العينة الأولى من حيث سيطرة الطبيب.

أنتقل الآن من نماذج الخطاب إلى مناقشة منهجية لأنماط التحليل الناجمة عنها.

(١) معالم التحكُّم التفاعلي

تكفل معالم التحكُّم التفاعُلي سلاسة تنظيم التفاعل، أي توزيع أدوار الحديث، واختيار الموضوعات وتغييرها، وابتداء التفاعل وإنهائه وهلُمَّ جرًّا. ودائمًا ما يتعاون المشاركون في ممارسة التحكم في التفاعل إلى حدٍّ ما، وإن كانوا يختلفون في درجة التحكم الذي يمارسونه. وتعتبر أعراف التحكم في التفاعل الخاصة بنوع معيَّن تجسيدًا لمقولات محدَّدة عن العلاقات الاجتماعية وعلاقات السلطة بين المشاركين. ومن ثَمَّ فإن البحث في التحكم في التفاعل وسيلة لإيضاح التمثيل العملي للعلاقات الاجتماعية ومعالجتها في الممارسة الاجتماعية.

(٢) تناوب أدوار الحديث

تختلف أنواع النصوص في نظم تناوب أدوار الحديث الخاصة بها. وقد أدى تحليل المحادثة بأسلوب التحليل «الإثنومنهجي» (انظر ساكس، شيجلوف وجيفرسون، ١٩٧٤م، وشنكاين، ١٩٧٨م؛ ومناقشتي لتحليل المحادثة في الفصل الأول عاليه) إلى وضع شروح بالغة النفوذ لتناوب أدوار الحديث في المحادثة باعتباره إنجازًا تعاونيًّا تنظيميًّا من جانب المشاركين، بناء على مجموعة بسيطة من القواعد المرتبة: (١) المتحدث الحالي قد يختار المتحدث التالي، إما بمخاطبته أو بتسميته … إلخ؛ (٢) إذا لم يحدث هذا فقد يختار أي مشارك نفسه باعتباره المتحدث التالي؛ (٣) إذا لم يحدث هذا فللمتحدث الحالي أن يواصل حديثه. وهذه الخيارات المرتبة متاحة لجميع المشاركين على قدم المساواة. وهي تنطبق في اللحظات التي يمكن اعتبار المتحدث الحالي قد انتهى فيها من دوره، كأن يصل، على سبيل المثال، إلى نهاية وحدة نحوية (جملة، عبارة، أو حتى كلمة) بتنغيم في الصوت يدل على الاختتام.

ولكن نظم التناوب، كما بينت العينة الأولى، ليست مبنية في جميع الحالات على المساواة في الحقوق والالتزامات بين جميع المشاركين، فنظام تناوب أدوار الحديث في العينة الأولى تتميز به النظم التي يجدها المرء في ضروب منوَّعة من المؤسسات التي يتفاعل فيها المهنيون أو «العاملون داخلها» أو «حراسها» مع «الجمهور» أو «العملاء» أو «العاملين خارجها» أو طلاب العلم. وفي هذه الحالات يشيع بين المشاركين توزيع الحقوق والواجبات بين ذوي السلطة وبين غير ذوي السلطة: (١) قد يختار ذوو السلطة بعض غير ذوي السلطة، لا العكس؛ (٢) قد يختار ذوو السلطة أنفسهم، ولكن غير ذوي السلطة لا يملكون ذلك، أو (٣) قد تمتد نوبة حديث ذوي السلطة فتشمل أي عدد من المسائل التي يمكن استكمالها.

وقد انبرى تحليل المحادثة لشرح السيولة المرموقة في المحادثة العادية، حيث يستطيع الناس عمومًا أن يتحدثوا من دون تداخل كبير بين أحاديثهم ومن دون ترك ثغرات كبرى في تدفق الكلام. ومن المعالم الأخرى لعدم التناظر في نظم تناوب الحديث أن حالات التداخل ونشوء الثغرات قد تتوافر باعتبارها من الأدوات المتاحة لذوي السلطة، فمن حق هؤلاء أن يقاطعوا غير ذوي السلطة عندما «يخرج» هؤلاء عن الموضوع، وفقًا لمعايير الصلة بين ما يقال وبين الموضوع، وهي المعايير التي يتحكَّم فيها ذوو السلطة، كما أن من حقِّ هؤلاء أن يقاطعوا غير ذوي السلطة عندما «يخرج» هؤلاء عن الموضوع، وفقًا لمعايير الصلة بين ما يقال وبين الموضوع، وهي المعايير التي يتحكم فيها ذوو السلطة، كما أن من حق هؤلاء لا من حق غير ذوي السلطة أن يحتفظوا بحق الكلام دون أن يتكلموا، وذلك، على سبيل المثال، أن يلتزموا الصمت باعتباره وسيلة لتأكيد تحكمهم أو أسلوبًا لانتقاد الآخَرين ضمنًا.

(٣) بناء التبادل

يتجلَّى في كلِّ حلقة تتضمَّن السؤال والرد والتقييم، وهي الحلقات التي حدَّدناها في العينة الأولى نمط معيَّن من أنماط التبادل، بمعنى وجود نسق متكرِّر لأدوار حديث المشاركين. وكنت قد أشرتُ في الفصل الأول عاليه إلى العمل الرائد الذي قام به سنكلير وكولتارد (١٩٧٥م) في المبادلات في خطاب قاعة الدرس، إذ حدَّدا بناءً يقوم على «الابتداء والاستجابة ورد الفعل»، وهو شبيه ببناء التبادل في العينة الأولى. ولنا أن ندرج هنا أيضًا بناءً أقلَّ تعقيدًا وتحديدًا يطلق عليه محلِّلو المحادثة «ثنائية الجوار» (شيجلوف وساكس ١٩٧٣م). وتعتبر ثنائية الجوار نمطًا بنائيًّا عامًّا، لا ضربًا خاصًّا من ضروب التبادل، إذ تعني وجود فئتَين مرتبتَين من فئات أفعال الكلام، بحيث يؤدِّي وجود الأولى إلى التنبؤ بوجود الثانية، وإن كان الجمع بين الاثنتَين يقوم على المغايرة، مثل السؤال والجواب، والتحية ورد التحية، والشكوى والاعتذار، والدعوة والقبول، والدعوة والرفض وهلُمَّ جرًّا. ولا تقوم الثنائية، كما أوضح المثالان الأخيران، على علاقة تبادل فردية في كل حالة؛ أي بين الطرفَين الأول والثاني في كل «ثنائية جوار»، فالدعوة قد يعقبها قبول أو رفض، وإن كانت تنشأ حالات يكون فيها الرفض خيارًا «غير مرغوب فيه» (شيجلوف، جيفرسون وساكس، ١٩٧٧م، بوميرانتز، ١٩٧٨م، ليفنسون، ١٩٨٣م، ٣٣٢–٣٤٥). وتوجد ثنائية الجوار بصفة أساسية في الكثير من أنماط التبادل، ويجد المرء في بعض أنواع النصوص حالات تتابع من الأسئلة والأجوبة تكوِّن أبنية رفيعة المستوى، ولنا أن نطلق عليها اسم «التعاملات» أو «الأحداث» (وفقًا للمصطلح الذي وضعه سنكلير وكولتارد، ١٩٧٥م). وهذا هو ما يحدث في قاعة الدرس؛ حيث تتكون أجزاء من الدرس من حالات تتابع للأسئلة والأجوبة حول موضوعات معيَّنة، وعادةً ما يتولى المعلم فيها فتح «المعاملة» وإقفالها؛ كما ينطبق ذلك أيضًا، ولو بأسلوب مختلف على الاستجواب القانوني، حيث يستعين المحامي أو وكيل النيابة بأمثال هذه التتابعات في نقض شهادة أحد الشهود (أتكنسون ودرو ١٩٧٩م).

وترتبط طبيعة نظام التبادل لا بتبادل الأدوار في الحديث فقط، بل أيضًا بأنواع الأقوال التي يقولها الناس. فعلى سبيل المثال نجد أن المعلم عندما يبدأ التبادل قد يقدِّم معلومات إلى الطلاب أو يطرح عليهم أسئلة أو يحدِّد نهجًا محدَّدًا للدرس، أو يتحكم في سلوك الطلاب. وأما الطلاب فيخضعون لقيود أكبر فيما يستطيعون أن يقولوه أو يفعلوه، فهم يقومون أساسًا بإجابة الأسئلة، وأداء مهام معيَّنة تُطلب منهم، شريطة أن يلتزموا في هذا بحدود ما يدخل في الموضوع، ويعتبر عدد كبير من الأسئلة التي تطرح في قاعة الدرس أسئلة «مقفلة»، بمعنى أنها تتطلب الإجابة بنعم أو بلا، أو بأقل قدر من التفصيل.

(٤) التحكم في الموضوعات

يشير هارفي ساكس (١٩٦٨م) إلى أن الحديث عن موضوع ما لا يعني وجود أبنية من الحديث حول «موضوع» معيَّن. وعندما يقدِّم المرء موضوعًا، فله أن يثق في أن الآخَرين — إلا في ظل ظروف خاصة إلى حدٍّ ما — سوف يحاولون أن يتحدثوا في الموضوع الذي تحدث عنه، ولكنك لا تستطيع الثقة في أن الموضوع الذي قصدت إليه هو الموضوع الذي سوف يتحدثون عنه؛ إذ توجد دائمًا ضروب كثيرة منوعة من الموضوعات التي يمكن تفسيرها بأنها ذات صلة بأي موضوع يقدِّمه المرء وتعتبر تطويرًا له. ويشير ساكس إلى أن المرء لا يستطيع التنبؤ أثناء المحادثة بالموضوع الذي سوف يختاره مَن يحادثه. والواقع أن موضوعات المحادثة، والطرائق التي يتبعها الناس في الربط بين الموضوعات عند الحديث عن قضية ما، يمكن أن تبصِّرنا بمشاغل الحياة العادية والمنطق السليم الذي يُبنى عليه عالم الحياة. ومن المهم أيضًا تأمُّل الآليات المستعملة في بناء موضوعات المحادثة (باتون وكيسي ١٩٨٤م)، أي إن أحد المشاركين عادةً ما يقدِّم موضوعًا ما، فيقبله (أو يرفضه) مشاركٌ آخَر، ثم يطوِّره المشارك الأول، وهاكم هذا المثال (باتون وكيسي، ١٩٨٤م، ١٦٧):

أ : هل علمت؟
ب : لم يصل إلا ليلة أمس.
أ : آ… كنت تعلم.

أي إن (ب) يقدِّم الموضوع، و(أ) يقبله، ثم يواصل (ب) تطويره (فيما بعد). وقد بيَّنَت البحوث في التفاعل المنزلي بين الشركاء الذكور والإناث، على سبيل المثال، عدم التناظر في تناول المواضيع، فالمرأة تقدِّم موضوعات أكثر من الرجل، ولكن موضوعات الرجل أكثر قبولًا عند المرأة من العكس (فيشمان، ١٩٨٣م).

ولكن البحث الإثنومنهجي في الموضوعات يستند إلى المحادثة، وإلى افتراض المساواة في الحقوق والواجبات بين المشاركين. ووصف ساكس للحديث في موضوعات معيَّنة، واستحالة التنبؤ بكيفية تطوير المشاركين الآخَرين للموضوع الذي طرحه المرء، لا صلة له بحديث المرضي في مقابلة شخصية طبية عادية، أو حديث التلاميذ في قاعة الدرس. ففي أمثال هذه التفاعلات، كما سبق لي أن قلت في تحليلي للعينة الأولى، يتولى المشارك المهيمِن وحده تقديم الموضوعات وتغييرها، وكثيرًا ما يكون ذلك وفقًا لنهج أو برنامج محدَّد سلفًا، وهو ما قد يُنص عليه نصًّا سافرًا في الخطاب أو لا يُنص عليه.

(٥) تحديد النهج ومراقبته

يُعتبر تحديد النهج ومراقبته عنصرًا مهمًّا من عناصر التحكُّم في التفاعل، وعادةً ما يحدِّد ذو السلطة النهج صراحة في بداية التفاعل. والمعلِّمون يفعلون هذا في بداية كلِّ درس، أو في بداية التفاعلات داخل الدروس، وكثيرًا ما تبدأ المقابلة الشخصية التأديبية بأن يشرح القائم عليها سبب عَقْد هذه المقابلة للشخص الذي سوف يتعرَّض ﻟ «التأديب» (انظر توماس ١٩٨٨م، حيث يوجد مثال على ذلك). وتحديد النهج يمثل جانبًا من جوانب تحكم صاحب السلطة عمومًا في ابتداء التفاعل وإنهائه، وفي بنائه في صورة تعاملات أو أحداث.

ويخضع النهج الصريح والنهج المُضمَر أيضًا للرقابة، بمعنى أن ذا السلطة يعمل على التزام المشاركين الآخَرين بالنهج المخصَّص لكلٍّ منهم، بوسائل منوَّعة في خلال التفاعل. وسوف تجد في العينة الأولى صورة واحدة من صور الرقابة؛ فالطبيب يقاطع المريض أثناء حديثه عندما يتضح للطبيب، فيما يظهر، أن المريض قد قدَّم المعلومات اللازمة في تلك المرحلة من مراحل النهج المحدَّد، ونجد صورة أخرى في المقتطف التالي من أحد الدروس في قاعة الدرس (منقول من بارنز، ١٩٧٦م)، حيث تحثُّ المعلِّمة تلاميذها على الحديث عن مشكلات الزحام الشديد في المدن:

التلميذ : دخان عوادم السيارات تؤدي إلى التلوث.
المعلمة : التلوث. كلمة جيدة. قل يا موريس شيئًا آخَر عن المواصلات.
التلميذ : الأرصفة تصبح (كلام غير واضح).
المعلمة : لا، كنت أقصد الحديث عن شكل آخَر من أشكال المواصلات. هل يمكن لأحدكم؟ فيليب.
التلميذ : امم (كلام غير واضح).
المعلمة : أتكلم عن المواصلات. أتكلم عن المواصلات. ديفيد.
التلميذ : القطارات (كلام غير واضح).
المعلمة : القطارات نعم.

ترفض المعلمة كلام التلميذ الثاني على الرغم من صلته الواضحة بالموضوع العام، وذلك استنادًا فيما يظهر إلى أنه لا يتفق مع نظام تطوير الموضوع المحدَّد في النهج الذي تشير عليه المعلمة دون إفصاح، أي إنها تطلب اسم شكل آخَر من أشكال المواصلات. ويتحقَّق الرفض بأن تحدِّد المعلمة «موقعها» داخل النهج، ولكن لاحظ أنها تقاطع التلميذ، فيما يظهر، قبل أن ينتهي من كلامه. وهكذا فإن النهج، كما يتضح من نوبتَي الحديث الأوليين، لا يقصد إلى تلقي معلومات محدَّدة من التلاميذ وحسب، بل تلقي كلمات أساسية أيضًا مثل «التلوث».

ومن الجوانب البارزة في التفاعل بين المعلمين والتلاميذ أن المعلمين يقومون في العادة بتقييم أقوال التلاميذ. فالمعلمة، في هذه الحالة، على سبيل المثال، تُقيِّم استخدام موريس كلمة «تلوث» في أول نوبة حديثٍ لها تقييمًا إيجابيًّا. ويتضمن بناء التبادل الثلاثي، أي الذي يتكون من «الابتداء والاستجابة ورد الفعل»، الذي يصف به سنكلير وكولتارد (١٩٧٥م) خطاب قاعة الدرس، عنصر التقييم المذكور باعتباره جزءًا من رد الفعل. ويُعتبر مثل هذا التقييم المنهجي لأقوال الآخَرين أسلوبًا فعَّالًا للرقابة على النهج الموضوع، كما إن استخدامه في قاعة الدرس لا يؤكِّد سلطة المعلم على التلاميذ وحسب، بل يبين أيضًا مدى ما يذهب إليه نهج الممارسة المعتاد في قاعة الدرس من وضع التلاميذ في حالة اختبار أو امتحان، وفي هذا الشكل من أشكال خطاب قاعة الدرس يتعرَّض كل شيء يقولونه تقريبًا للحصول على «درجة» شفوية.

وتوجد طرائق منوعة أخرى لقيام أحد المشاركين في تفاعلٍ ما بفرض الرقابة على أقوال الآخَرين، ومن بينها ما يصفه توماس (١٩٨٨م) بأنه إرغام المتحدِّث على التعبير الصريح. ومَن لا يتمتع بالسلطة قد يلجأ إلى قول ما يحتمل أكثر من وجه من وجوه المعنى، أو إلى الصمت، باعتبار ذلك من آليات الدفاع الكلاسيكية في اللقاءات غير المتكافئة، ويمكن الرد عليه بأن يقدِّم صاحب السلطة صياغات ترمي إلى إجبار مَن لا يتمتع بالسلطة على التصريح بالمعنى المقصود، أو إصرار ذي السلطة على أن يعترف من لا يملك السلطة بأنه فهم ما قيل (كأن يقول له: «ألا تفهم هذا؟»)

(٦) الصياغة

تُعتبر الصياغة جانبًا من جوانب التحكُّم في التفاعل، وهو الجانب الذي اهتم به محلِّلو المحادثة أكبر اهتمام (انظر هريتدج وواطسون ١٩٧٩م). ويصف ساكس الصياغة على النحو التالي: «قد ينظر أحد المشاركين إلى بعض أجزاء المحادثة باعتبارها فرصة لوصف تلك المناقشة، أو شرحها، أو تحديد طبيعتها، أو تفسيرها أو ترجمتها أو تلخيصها، أو تقديم فحواها، أو للإشارة إلى مراعاتها للقواعد أو القول بكسرها للقواعد» (١٩٧٢م، ٣٣٨). وباستثناء العبارتَين الأخيرتَين المرتبطتَين بصياغة آليات رقابة مثل تلك التي وُصفت في القسم السابق، تشبه الصياغة وفقًا لما يقوله ساكس، شكلًا خاصًّا من أشكال تمثيل الخطاب، حيث يعتبر الخطاب جزءًا من التفاعل الجاري لا سابقًا عليه. وعلى أية حال فليست الحدود بين التفاعلات الجارية والتفاعلات السابقة واضحة بالصورة التي نتخيلها، فهل تعتبر أن المحادثة التي كنا نشترك فيها قبل مقاطعة مكالمة تليفونية عارضة، أو قبل تناول الغداء، أو في الأسبوع الماضي، تمثل جزءًا من مناقشتنا الجارية الآن أم مناقشة مختلفة؟ لا توجد إجابة بسيطة على هذا السؤال.

وكثيرًا ما تكون الصياغة شكلًا من أشكال الرقابة، على نحو ما توحي به عبارتا ساكس الأخيرتان. فمن الطرائق الفعَّالة لإرغام مَن يشاركك الحوار على التخلي عن مراوغته لك أن تقدِّم إليه صياغتك لما قاله. وفيما يلي مثال مقتطف من مقابلة شخصية تأديبية بين شرطي وأحد كبار ضباط الشرطة (توماس، ١٩٨٨م):

الضابط : تقول إنك تحقق في عملك اﻟﻤ… المعايير السليمة. صحيح؟
الشرطي : الواقع أني لم أتلقَ تعليقات غير ذلك.
الضابط : هل تقول إن أحدًا لم ينبهك من قبل إلى وجوه تقصيرك؟

إن الضابط يقدِّم في النوبتَين صياغة لأقوال الشرطي، والنوبتان تُعتبران (كما يتضح في الحالة الثانية من المقتطف عاليه) إعادة صياغة جوهرية لما قاله الشرطي في الواقع، وتهدفان بوضوح إلى جعل الشرطي يزيد من صراحة ما «يقوله».

وحتى حين تكون الصياغة غير متعلقة بالرقابة بصفة خاصة، فإنها تقوم في حالات كثيرة بوظيفة تحكُّم كبرى في التفاعل، ويتبدَّى ذلك في محاولات بعض المشاركين قبول غيرهم لمفهومهم عما قيل، أو لما حدث أثناء التفاعل، وهو ما من شأنه تقييد خيارات الآخَرين لصالح من يقدمون تلك الصياغات، ولا يقتصر قيام الصياغة بهذه الوظيفة على المقابلات الشخصية الخاصة وجلسات الاستجواب، بل يشمل المقابلات الإذاعية أيضًا.

(٧) الأبنية النوعية

إنْ صادفنا مقولة معيَّنة عن العالم مثل مقولة «الأرض مسطحة»، فلنا إما أن نقبلها بعبارة قاطعة («إن الأرض مسطحة») أو ننفيها («ليست الأرض مسطحة») ولكن لدينا طرائق أقل دلالة على القطع في الأمر، وأقل حسمًا بدرجات متفاوتة للتعبير عن الالتزام بصدق هذه المقولة أو كذبها، كأن تقول «ربما تكون الأرض مسطحة»، أو «من المحتمل» أو «من الممكن» أو «من الجائز» على سبيل المثال. هذا هو مجال «النوعية»، وهو البُعد النحوي للعبارة الذي يقابل وظيفة الصلة «ما بين الأشخاص» التي تقوم بها اللغة، أي إن على منتج النص أن يحدِّد عند نطقه بأية مقولةٍ درجة «ارتباطه» بالمقولة، والارتباط هو المصطلح الذي وضعه هودج وكريس (١٩٨٨م، ١٢٣)، وهكذا فإن لكل مقولة منطوقة خصيصة «نوعية» أو قُل: إنَّ قائلها يمنحها «نوعية» محدَّدة.

وتقول تقاليدنا: إن النوعية في النحو ترتبط باستعمال «الأفعال النوعية المساعدة» (في اللغة الإنجليزية وأقرب ما يقابلها بالعربية هو الفعل «الناقص» يكون) («يجب»، «يجوز»، «يستطيع»، «ينبغي» وهلُمَّ جرًّا)، وهي وسائل مهمة لتحقيق النوعية، ولكن المدخل المنهجي للنحو الذي يستند إليه هودج وكريس (١٩٨٨م) يؤكد أن استخدام الأفعال النوعية المساعدة يمثل مَعْلمًا واحدًا وحسب من المعالم الكثيرة للنوعية (انظر هاليداي، ١٩٨٥م، ٨٥–٨٩). فالزمن مَعْلم آخَر، فالمثال الوارد في الفقرة الأخيرة يوضِّح دلالة الزمن الحاضر «البسيط» (الذي يعبر عنه بالإنجليزية الفعل «يكون» الذي لا يظهر في البناء العربي من المبتدأ والخبر)، إذ يدل على النوعية القاطعة ولدينا أيضًا مجموعة من الأبنية النوعية التي يعبِّر عنها الحال (في الإنجليزية وأشباه الجمل بالعربية مثل «من المحتمل» و«من الممكن» و«من الواضح» و«من المقطوع به») أو الصفة المعادلة لها (بالإنجليزية وقد تقابلها أفعال مضارعة بالعربية مثل «يحتمل» و«يرجح» و«يمكن» «أن تكون الأرض مسطحة») وإلى جانب هذه البدائل، توجد طرائق منوعة لا تتميز بالتركيز للتعبير عن درجات ارتباط متفاوتة مثل أساليب المراوغة بعبارات مثل «نوع من»، و«إلى حدٍّ ما»، و«أو شيء من هذا القبيل»، ومثل أنساق التنغيم في النطق، ونبرات التردد، وهلُمَّ جرًّا. وقد مرَّ بنا نموذج للمراوغة في العينة الأولى عندما شرحت المريضة «حموضة المعدة» بأنها «حرقان شيء مثل الحرقان أو شيء من هذا القبيل».

وقد تكون الصيغة النوعية «ذاتية»، بمعنى التصريح بالطابع الذاتي لدرجة الارتباط المختارة مع إحدى المقولات: «أظن/أتصور/أشك أن الأرض مسطحة» (ونحن نتذكَّر أيضًا قول الطبيب «أظن أنه من الحكمة» في العينة الثانية). وقد تكون الصيغة النوعية «موضوعية»، بمعنى أن يكون هذا الطابع الذاتي مُضمَرًا وحسب، «قد تكون الأرض/من المحتمل أن تكون مسطحة». ومن الواضح في حالة النوعية الذاتية أن الصيغة تعبِّر عن درجة ارتباط المتكلم بالمقولة، وأما في حالة النوعية الموضوعية فربما لا يتضح صاحب المنظور الذي تعبِّر عنه هذه الصيغة، أي إذا كان المتكلم يعبِّر عن منظوره باعتباره المنظور العام، أو إن كان ينقل منظور فرد آخَر أو مجموعة أخرى، واستخدام صيغة النوعية الموضوعية كثيرًا ما يوحي بشكل من أشكال السلطة.

من الشائع تحقيق الصيغة النوعية بعدد من المعالم في عبارة منطوقة أو جملة واحدة. انظر مثلًا إلى القول التالي: «أظن أنها كانت مخمورة بعض الشيء، ألم تكن كذلك؟» تجد أن مستوى الارتباط المنخفض يتمثَّل في مَعْلم النوعية الذاتية («أظن») وفي المراوغة («بعض الشيء») وبإضافة السؤال الختامي إلى القول «ألم تكن كذلك؟»

ولكن قضية النوعية لا تقتصر على التزام المتكلم أو الكاتب بالمقولات، إذ إن منتجي النص يفصحون عن التزامهم بالمقولات في أثناء تفاعلهم مع غيرهم، وكثيرًا ما يصعب الفصل بين ما يعبِّرون عنه من ارتباط بالمقولات وبين إحساسهم بالارتباط بمن يتفاعلون معهم أو التضامن معهم، فإن العبارتين «أليست جميلة؟!» أو «إنها جميلة، أليست كذلك؟!» أسلوبان للتعبير عن مستوى الارتباط المرتفع بمقولة «إنها جميلة»، ولكنهما تعبِّران أيضًا عن التضامن مع مَن يتكلم المرء معه. والأسئلة المنتمية إلى هذا النوع (السؤال المنفي، والمقولة المثبتة المذيَّلة بسؤال منفي، وكل منهما يتوقَّع إجابة مثبتة) تفترض سلفًا أن المتكلِّم ومَن يحادثه يشتركان في الارتباط الشديد بالمقولة (وإذا افترضنا أن إجابات الأخير معروفة مقدَّمًا) فإن أمثال هذه الأسئلة تُطرح لتبيان هذا الارتباط والتضامن لا من أجل الحصول على معلومات. وهكذا فإن التعبير عن مستوى الارتباط العالي قد لا تكون له علاقة بالتزام المرء بإحدى المقولات، بل قد يقصد به التعبير عن التضامن (هودج وكريس، ١٩٨٨م، ١٢٣). وعلى العكس من ذلك، نرى أن المثال المقتطف من العينة الأولى الذي أشرتُ إليه لتوِّي («حرقان شيء مثل الحرقان أو شيء من هذا القبيل») يبين أن انخفاض مستوى الارتباط بالمقولة قد يعبِّر عن نقص السلطة، لا عن نقص الاقتناع أو المعرفة، وأن ما يُزعم بأنه معرفة (ومن ثَمَّ أنه تعبير عن ارتفاع مستوى الارتباط بالمقولة) يعتمد على علاقات السلطة. والنوعية تمثِّل إذَن نقطة الالتقاء في الخطاب بين الدلالة على الواقع وبين التطبيق للعلاقات الاجتماعية، أو إذا عبَّرنا عن ذلك بمصطلحات علم اللغة المنهجي قلنا: إنها نقطة التقاء بين الوظائف الفكرية للغة ووظائف اللغة فيما بين الأشخاص.

وتعتبر النوعية من الأبعاد الرئيسية للخطاب، وهي تتمتع بموقع مركزي وانتشار كبير فيه بصورة تفوق ما تنسبه التقاليد لها. ومما يدل على أهميتها الاجتماعية مدى ما تتعرض له النوعية في المقولات من منازعات ومدى ما تتيحه من صراعات وتحولات. فالتحولات في النوعية، على سبيل المثال، واسعة الانتشار في أنباء أجهزة الإعلام. ويقدِّم هودج وكريس (١٩٨٨م، ١٤٨–١٤٩) مثالًا من تصريح أدلى به مايكل فوت عندما كان رئيسًا لحزب العمال البريطاني، وهو تصريح يتميَّز بصيغة نوعية بارزة تفيد انخفاض مستوى الارتباط (إذ يقول «أظن، بصفة عامة، أن أحد العوامل التي أثَّرَت في الانتخابات كان يتعلَّق ببعض المسائل التي حدثت في المجلس المحلي لمدينة لندن الكبرى») وقد تحول هذا التصريح إلى عنوان صحفي يتسم بالحسم والقطع وهو «فوت يهاجم «كين» الأحمر لدوره في الهزيمة الساحقة في الانتخابات» (وأما «كين الأحمر» فالمقصود به كين ليفنجستون، رئيس إدارة حزب العمال في المجلس المحلي لمدينة لندن في أوائل الثمانينيات، وكان شخصية خلافية) (والأحمر تعني الشيوعي).

وإذا تجاوزنا الأمثلة المعيَّنة، وجدنا خصائص عامة ترتبط بالنوعية في ممارسات أجهزة الإعلام، إذ تزعم هذه الأجهزة عمومًا أنها تتعامل مع الوقائع والحقائق وكل ما يتصل بالمعرفة، وهي تحول بانتظام أمورًا لا تزيد عن كونها، في حالات كثيرة، مجرد تفسيرات لأحداث معقدة تثير البلبلة، إلى «وقائع» أو «حقائق». ويعني هذا، من زاوية الصيغ النوعية، إيثار الصيغ القاطعة، والمقولات المثبتة والمنفية، على نحو ما يوضِّحه المثال الأخير، ومن ثَمَّ فهي لا تتضمن إلا القليل نسبيًّا من عناصر الصيغ النوعية المألوفة (مثل الأفعال المساعدة النوعية، والأحوال والصفات وأدوات المراوغة وهلُمَّ جرًّا). ويعتبر هذا أيضًا إيثارًا للصيغ النوعية الموضوعية، وهي التي تسمح بتعميم المنظورات الجزئية.

فلنعرض لمثال محدَّد. كان مؤتمر القمة الذي عقده حلف شمال الأطلسي (الناتو) يوم ٣٠ مايو ١٩٨٩م قد ناقش قضيةً خِلافية، وهي الموقف التي ينبغي للحلف أن يتخذه إزاء مفاوضات تقليل عدد مواقع الصواريخ النووية قصيرة المدى في أوروبا. وقد قيل: إن المؤتمر نجح في حل الخلافات مثلما قيل إنه أخفاها، كما فسَّره البعض بأنه كان يمثل انتصارًا لبريطانيا أي للموقف المتشدِّد الذي اتخذته حكومة السيدة ثاتشر. وفيما يلي بعض العناوين الصحفية: اختتام مؤتمر قمة الناتو بحل وسط عسير (صحيفة الجارديان)؛ الانتصار النووي لثاتشر في معركة بروكسيل (صحيفة الديلي ميل)؛ بوش يرحِّب بوحدة حلف الناتو بعد تسوية الخلاف على الصواريخ (صحيفة الديلي تليجراف). إن كل عنوان يقدِّم «قراءة» مختلفة لمؤتمر القمة، ولكنَّ كلًّا منها يستعمل صيغة نوعية قاطعة. لاحظ أن صحيفة الديلي ميل «تفترض مسبقًا» في الواقع أن ثاتشر قد حققت انتصارًا نوويًّا في معركة بروكسيل، بدلًا من القول بهذا، ولنا أن نعتبر أن الافتراض المسبق يتقدَّم بالنوعية القاطعة خطوة ما دام يُسلِّم بأن الأقوال حقائق واقعة. وقد يعترض معترض على هذه الأمثلة قائلًا: إن النوعية القاطعة قد اقتضَتها طبيعة الاختصار والتلخيص في العناوين، وليست من نتائج خطاب أجهزة الإعلام في ذاته، ولكن أليست العناوين مجرَّد جانب أو مثال شديد الوضوح للاتجاه العام للخطاب الإعلامي؟ فالصحف أحيانًا ما تقدِّم صورًا متضاربة للحقيقة (وإن كانت كثيرًا ما تُوفِّق بينها) وتقوم كل صورة من هذه الصور على الزعم المضمر الفاسد الذي يقول إنه يمكن تمثيل الأحداث بشفافية وأسلوب قطعي، وإن المنظور يمكن تعميمه. هذه هي الخرافة التي يقوم عليها عمل أجهزة الإعلام: أي تقديم صور وفئات للواقع، وتحديد مواقع الذات الاجتماعية وتشكيلها، والإسهام في الغالب الأعم في السيطرة الاجتماعية وإعادة الإنتاج الاجتماعي.
وإنْ دلَّ مثال الخطاب الإعلامي المذكور على شيء فإنما يدل على أن النوعية ليست مجرَّد مجموعة من الخيارات المتاحة للمتكلم أو للكاتب بهدف تسجيل درجات الارتباط، إذ إن هذا الاقتصار على هذا المنظور القائم على الاختيار وحده يعني تجاهل المغايرة بين ممارسات الصيغ النوعية التي نجدها بين أنماط الخطاب المختلفة، وتجاهل مدى ما يتعرض له من يستخدمون أنماطًا خطابية معيَّنة من فرض ممارسات صيغ نوعية محدَّدة عليهم. والكتابة الأكاديمية مثال آخَر: إذ إننا نجد في الكتابة الأكاديمية تقليدًا مألوفًا ولا يزال ذا نفوذ كبير (على الرغم من انتقاده على نطاق واسع) يقضي بتجنُّب الصيغ النوعية القاطعة، باعتبار ذلك من المبادئ الأساسية. وقد يُقال: إن ذلك له أسباب بلاغية، إذ إن من ورائه دافعًا يتمثَّل في رغبة الباحث في توخِّي الحذر، وهو صفة حميدة، واجتناب الذاتية، وتأكيد الجو المرتبط بالبحث الأكاديمي، لا الرغبة في التعبير عن انخفاض مستوى ارتباطه بمقولاته. (للاطلاع على بلاغة الكتابة الأكاديمية، والكتابة العلمية خصوصًا انظر كتاب الاقتصاد والمجتمع ١٩٨٩م.)

(٨) التأدُّب

كان التأدُّب في اللغة من المشاغل الرئيسية لمبحث التداولية الأنجلو أمريكية في السبعينيات والثمانينيات (براون ولفنسون، ١٩٧٨م؛ ليتش، ١٩٨٣م، ليتش وتوماس، ١٩٨٩م). وأكثر الدراسات نفوذًا دراسة براون ولفنسون، فهما يفترضان وجود مجموعة عالمية لما يحتاجه الإنسان من (عوامل تشكيل) «ماء الوجه»، فالناس تريد «ماء الوجه الإيجابي» بمعنى أنهم يريدون أن يحبهم الآخَرون ويفهموهم، ويعجبوا بهم … إلخ، في مقابل «ماء الوجه السلبي»، أي إنهم لا يريدون أن يعتدي الآخَرون عليهم أو أن يُعيقوهم. وفي صالح الجميع، بصفة عامة، أن يتوافر الحفاظ على ماء الوجه. والباحثان ينظران إلى التأدب من حيث كونه مجموعات من الاستراتيجيات التي يتوسَّل بها المشاركون في الخطاب ابتغاء تخفيف أفعال الكلام التي يمكن أن تشكِّل تهديدًا لماء وجههم أو لماء وجه مَن يحادثونهم، وهذا التحليل يمثِّل سِمة أساسية من سمات التداولية التي ترى أن اللغة تشكِّلها مقاصد الأفراد ونواياهم.

ولكن هذا التحليل يفتقر إلى إدراك المغايرة في ممارسات التأدُّب ما بين الأنماط المختلفة للخطاب داخل ثقافة من الثقافات، وإدراك الروابط بين ممارسات التأدب المتغيرة، والعلاقات الاجتماعية المتغيرة، أو إدراك ما يتعرض إليه منتجو النصوص من قيود ممارسات التأدب. ويقدِّم بورديو (١٩٧٧م، ٩٥، ٢١٨) نظرة إلى التأدب تختلف كثيرًا عن نظرة براون ولفنسون، إذ يقول: «إن تنازلات التأدب تنازلات سياسية في جميع الأحوال»، ويشرح ذلك قائلًا: «إن امتلاك ناصية ما يُسمى بقواعد التأدب عمليًّا، وخصوصًا فن تطويع كل صيغة من الصياغات المتاحة … حتى تتفق مع الفئات المختلفة لمَن يمكن للمرء أن يخاطبهم، تفترض سلفًا امتلاك ناصية شيء آخَر امتلاكًا مُضمَرًا، ومن ثَمَّ الإقرار بوجوده، ونعني به مجموعة من «المعارضات» التي تشكِّل البديهيات المُضمَرة في نظام سياسي محدَّد بصورة قاطعة». ويعني هذا، بتعبير آخَر، أن الأعراف المحدَّدة تجسِّد علاقات اجتماعية وعلاقات سلطة محدَّدة، وأن استخدام هذه الأعراف يعترف بها بصورة مُضمَرة (انظر كريس وهودج، ١٩٧٩م) ولا بد أن تسهم، بقدر الاعتماد عليها، في إعادة إنتاج هذه العلاقات. ومما يترتب على هذا أن البحث في أعراف التأدب في نوعٍ ما من أنواع النصوص أو نمط من أنماط الخطاب يعتبر من وسائل تفهُّم العلاقات الاجتماعية القائمة داخل الممارسات والمجالات المؤسسية المرتبطة بها. وليس معنى هذا أنني أستعيض عن تحليل براون ولفنسون القائم على الطوعية (١٩٧٨م) لاستراتيجيات التأدب بتحليل بنيوي لأعراف التأدب، إذ إن مدخلي مدخل جدلي، يعترف بالقيود التي تفرضها الأعراف، ولكنه يعترف أيضًا بإمكان إعادة صوغها إبداعيًّا في ظروف معينة ومن ثم تحويلها.

وعلى أية حال فإن عمل براون ولفنسون يتضمن وصفًا ممتازًا لمظاهر التأدب التي يمكن إدراجها في إطار نظري مختلف. والشكل ٥-١ يلخِّص الملامح الأساسية للإطار الذي وضعناه، وهو الذي يميزان فيه بين خمس استراتيجيات عامة للقيام ﺑ «أفعال تهدِّد ماء الوجه» (براون ولفنسون، ١٩٨٧م، ٦٠، الأفعال التي تهدِّد ماء الوجه):
fig13
شكل ٥-١: استراتيجيات اتخاذ أفعال تهدِّد ماء الوجه.

فلنضرب مثلًا من طلب المساعدة في تغيير إطار عجلة سيارة مثقوب، إذ يمكن أن يمثِّل الطلب إساءة إلى ماء وجه المخاطب، سلبيًّا، بمعنى أنه يمثِّل ضغطًا عليه للتصرف بطريقة معينة، وإساءة لماء وجه المتكلِّم أيضًا. وقد يكون الطلب «مجرَّدًا» (الاستراتيجية ١) أي من دون محاولة «التخفيف» من وقعه أي من دون اتخاذ «إجراءات تصحيحية» («ساعدني في تركيب هذا الإطار») وقد يُصاغ الطلب ﺑ «تأدُّب إيجابي» (الاستراتيجية ٢)، وهو في هذه الحالة «مُخفَّف» أو «مصحَّح»، وقد يكون ذلك بإبداء الود أو التعاطف أو التضامن مع المُخاطب («هلا تساعدني في تركيب هذا الإطار يا صاحبي؟») وقد يُصاغ ذلك ﺑ «التأدب السلبي» (الاستراتيجية ٣) وهو في هذه الحالة مخفف من خلال إبداء الاحترام لخصوصية المُخاطَب، أو رغبته في عدم إزعاجه أو تكليفه بشيء … إلخ («آسف لإزعاجك ولكن ترى تستطيع مساعدتي في تركيب هذا الإطار؟») وقد يكون الطلب «غير مسجل» (الاستراتيجية ٤) ومعنى هذا أن يكون مُضمَرًا ويقتضي استنباطه، بحيث يقبل القول تفسيرات بديلة «ترى كيف أستطيع الآن تركيب هذا الإطار؟» أو أن يتضمَّن تلميحًا «هل لاحظت أن إحدى عجلات سيارتي مثقوبة؟» لاحظ أن مثال التأدب السلبي يستخدم صيغة فعلية مركَّبة («هل تستطيع مساعدتي؟») بدلًا من فِعل الأمر «ساعِدني.» وهذه طريقة غير مباشرة لطلب شيء، فالسؤال في ظاهره يتعلَّق بقدرة المخاطب الافتراضية على المساعدة، وكما تشترك هذه الطريقة في خصيصة الصوغ غير المباشر مع استراتيجية الطلب «غير المسجل». ويُعتبر قول الأشياء بطريقة غير مباشرة — استعمال أفعال الكلام غير المباشرة — جزءًا مهمًّا من سمة التأدب، ولكن إذا كانت الطبيعة غير المباشرة للأمثلة «غير المسجلة» قد تتطلب في الظاهر جهدًا من المُخاطَب في تفسير المعنى، فإن صيغة «هل تستطيع المساعدة؟» — وهي صيغة غير مباشرة — قد أصبحت تقليدية ولا تمثِّل مشكلة في التفسير.

ومن أبعاد التغيير الذي ذكرت آنِفًا أنه بدأ يظهر في طبيعة المقابلات الشخصية الطبية، بُعدٌ يتعلَّق فيما يبدو بالتغير في أعراف التأدب، وقد رأينا بعض ما يشير إليه في العينتين الأولى والثانية. فالصيغة النوعية الدالة على انخفاض مستوى الارتباط والتي تتوسل بالمراوغة، في شرح المريضة لعبارة «حموضة المعدة» بأنها (حرقان شيء يشبه الحرقان أو شيء من هذا القبيل) يمكن تفسيره، كما قلت من قبل، بأنه عدم رغبة المريضة في أن تبدو واثقة كلَّ الثقة، في وجه سلطة الطبيب وخبرته. وهذه الصيغة النوعية تُعتبر أيضًا من قبيل التأدب السلبي، ما دامت تتجنَّب التعدي على مجال سلطة الطبيب. ولنا أن ننظر إلى انتقال المريضة عدة مرات إلى صوت عالم الحياة في السطور ٢١–٢٢ و٢٩–٣٠ و٤٢ باعتبارها من ضروب التأدب. ويمكن اعتبارها تلميحات غير مسجَّلة للطبيب بشأن مجموعة من المشاكل الإضافية التي تكمن خلف المشكلة التي يركِّز عليها. ولما كانت غير مسجلة فإنها تحفظ ماء الوجه الإيجابي للمريضة، التي تبدو لنا عزوفًا عن الحديث عن مشكلاتٍ كثيرًا ما لا نأبه بها باعتبارها مشكلات «شخصية». وربما تعتبر أيضًا موجهة إلى ماء الوجه السلبي للطبيب، ففي المقابلات الطبية التقليدية كثيرًا ما يُنظَر إلى المشكلات «غير الطبية» باعتبارها مسائل خارجة عن نطاق عمل الطبيب، ومن ثَمَّ فإن الخوض فيها قد يُفسَّر بأنه تكليف الطبيب بما يتجاوز واجباته المعتادة.

والطبيب في العينة الأولى لا يلتزم بالتأدب سلبيًّا أو إيجابيًّا. ومن الممكن أن يكون طرح الأسئلة عملًا يهدِّد ماء وجه المُخاطَب، وبعض أسئلة الطبيب يمكن أن تهدِّد ماء الوجه الإيجابي للمريضة، فربما كانت تسبب في الحرج أو تتضمن إهانة من نوع ما (وأوضحها سؤاله: «كم مضى عليك وأنتِ تسرفين في الشراب هكذا؟») ولكن الطبيب لا يخفِّف من حدة هذه الأسئلة، وأسئلته مجردة بانتظام ومسجَّلة.

وأما في العينة الثانية فنحن نجد عكس أعراف التأدب المذكورة؛ إذ إن الطبيب هو الذي يُبدي تأدُّبًا إيجابيًّا وسلبيًّا للمريض، فهو يُبدي التأدب الإيجابي في نفسه بأن يدخل في صوت عالم الحياة من زاوية الإنتاج (اقتراح إجراء مشاورات في المستقبل من أجل معرفة «كيف تسير الأمور») ومن زاوية التلقي (في رد فعله على كلام المريضة القائم على عالم الحياة). وهو يبدي التأدب السلبي في أشكال أسئلته المقتضبة والمخفَّفة، وفي تقييمه للحالة واقتراح زيارات أخرى. والمريضة لا تُبدي تأدُّبًا سلبيًّا، بل إنها تقاطع — بصورة مباشرة — اتجاه الطبيب إلى اختتام الزيارة باستئناف روايتها (والعينة لا تتضمن هذه المقاطعة). ومع ذلك فهي تُبدي تأدُّبًا إيجابيًّا بالحديث إلى الطبيب بصوت عالم الحياة، وهو ما يوحي ضمنًا بوجود أرضية مشتركة بينها وبين الطبيب.

والملخص إذَن أن العينة الأولى تُبدي تأدُّبًا سلبيًّا للمريضة، ولا تُبدي تأدُّبًا سلبيًّا أو إيجابيًّا للطبيب، ولكن العينة الثانية تُبدي التأدب الإيجابي والسلبي للطبيب، والتأدب الإيجابي للمريضة. وتتفق هذه الفوارق مع العلاقات الاجتماعية المتضادة للممارسة الطبية المعتمدة والممارسة الطبية «البديلة». ففي الممارسة الطبية المعتمدة نجد مغايرةً واضحة في المعرفة والسلطة بين الطبيب والمريضة، وهو ما يوحي باحترام المريضة للطبيب وتأدبها السلبي. كما أن المريضة لا تعامل باعتبارها شخصًا بل باعتبارها صاحبة مشكلة؛ وهو ما يبرِّر غياب التأدب السلبي من جانب الطبيب، وهو الذي كثيرًا ما يتعرض للانتقاد على وجه الدقة باعتباره دليلًا على عدم حساسية الطبيب للمريضة باعتبارها شخصًا. وأما في الممارسة الطبية البديلة، فإن الطبيب يتظاهر بالتناظر، وغياب الطابع الرسمي، والتقارب الاجتماعي، وهو ما يحول دون إظهار التأدب السلبي من جانب المريضة، ويشجِّع التأدب الإيجابي المتبادل. ومعنى معاملة المريضة باعتبارها شخصًا أن التأدب السلبي سوف يخفِّف من وقع الأفعال التي قد تشكِّل تهديدًا لماء الوجه، وهي التي لا تنفصل عن معاملة الطبيب لأي مريض.

(٩) الجو الخلقي

أشرت أثناء مناقشتي للعيِّنتَين الطبِّيتَين إلى الفوارق في الجو الخلقي، أي في أنواع الهُوية الاجتماعية التي تبدو ضمنًا عند الأطباء من خلال سلوكهم اللغوي وغير اللغوي. ومسألة الجو الخلقي مسألة تناصية، بمعنى أننا نحاول تحديد النماذج المستقاة من الأنواع النصية الأخرى وأنماط الخطاب الأخرى، والتي يُستعان بها في تشكيل الذاتية (الهُوية الاجتماعية، أو «النفس») للذين يشاركون في التفاعلات. فأما في حالة العيِّنة الأولى فقد كانت النماذج مستقاة من الخطاب العلمي، وأما في حالة العيِّنة الثانية فهي مستقاة من ضروب الخطاب في عالم الحياة.

ومع ذلك فمن الممكن أن ننظر إلى الجو الخلقي باعتباره يمثِّل جانبًا من عملية «نَمْذَجة» واسعة، حيث يتشكَّل مكان التفاعل وزمانه، وتتشكَّل مجموعة المشاركين فيه أيضًا والجو الخلقي المشارك فيها، من خلال إسقاط بعض الروابط في اتجاهات تناصية معيَّنة دون غيرها. ويضرب منجينو (١٩٨٧م، ٣١–٣٥) مثالًا من خطاب الثورة الفرنسية (الخطب السياسية على سبيل المثال)؛ إذ كان ذلك الخطاب يقوم على نموذج الخطاب الجمهوري في روما القديمة، من حيث المكان والوقت و«المشهد» (بمعنى الظروف الشاملة للخطاب) إلى جانب المشاركين والجو الخلقي للمشاركين.

وتعتبر العيِّنة الثانية حالة تمثِّل درجة أقل من الامتداد التاريخي. فالطب «البديل» من هذا النوع يشكِّل خطاب الممارسة الطبية القائمة على نموذج من عالم الحياة وهو «الحديث عن المتاعب» (جيفرسون و«لي»، ١٩٨١م؛ تن هاف، ١٩٨٩م) بين شخص لديه مشكلة ومستمع متعاطف. ومن المنطقي أن نفترض أن هذا النموذج قد وجد طريقه إلى الخطاب الطبي من خلال خطاب جلسات المشورة. وهو الذي يقوم على هذا النموذج. ويرتبط المشاركون بعلاقة تضامن وخبرة مشتركة، إن لم تكن صداقة، ويوحي بناء المشهد بأنه يقوم على أساس تخليص المرء من متاعبه. وإذا كان المكان طبيًّا بوضوح، ما دام غرفة الكشف في عيادة الطبيب، فإنه من الشائع للأطباء من ممارسي الطب البديل (وكذلك للمعلمين والمهنيين الآخَرين الذين يتخذون مواقع مماثلة) أن يولوا اهتمامًا خاصًّا بمسائل أثاث الغرفة أو ديكورها، في محاولة لتغيير الطابع المؤسسي لها وجعل زوَّارهم يشعرون بالراحة أو ﺑ «الألفة». والجو الخلقي الذي يوحي به حديث الطبيب، أو بأسلوب سلوك الطبيب في أمثال هذه المقابلات الشخصية بصفة أعم، جو الصديق المتعاطف الحريص على مصلحة الزائر، ما دام «يجيد الإصغاء» إليه.

ويتجلى الجو الخلقي إذَن من خلال التعبير بالجسد كله لا بالصوت وحسب، ويقول بورديو (١٩٨٤م، الفصل الثالث): إن لنا أن ننظر إلى اللغة باعتبارها «بُعدًا من الأبعاد الجسدية التي تعبِّر عن العلاقة الكاملة للمرء بالعالم الاجتماعي». فنجد على سبيل المثال أن «أسلوب التعبير لدى الطبقات الشعبية» لا ينفصل «عن العلاقة الكلية بجسد المرء، وهي التي يسيطر عليها رفضه لمظاهر التصنُّع والتأنُّق الشديد، وإعلاؤه للذكورة والفحولة». ومعنى هذا أن الجو الخلقي لا يتجلى فقط في الطريقة التي يتكلم بها الأطباء، بل في الآثار المتراكمة لأوضاعهم الجسدية كلها، أي كيف يجلسون، وتعبيرات وجوههم، وحركاتهم، وطرائق رد الفعل الجسدي لما يقال، وما يُسمَّى سلوك الاقتراب (أي إن كانوا يقتربون من مرضاهم أو حتى يلمسونهم، أو يحافظون على الابتعاد عنهم).

الخاتمة

يمثِّل مفهوم الجو الخلقي المرحلة التي نستطيع فيها تجميع المعالم المختلفة، لا للخطاب وحده بل للسلوك بصفة أعم، وهي التي تسهم في بناء صورة معيَّنة للنفس. وداخل هذا الإطار الشامل ينهض كلُّ جانب من جوانب تحليل النص التي ركزت عليها في هذا الفصل بدورٍ معيَّن، والجوانب المقصودة هي التحكم في التفاعل، والصيغة النوعية، والتأدب. والواقع أنَّ معظم — إن لم نقل جميع — أبعاد الخطاب والنص التي تقبل الفصل بينها عند التحليل تُسهم إسهامًا مُعيَّنًا، مباشرًا أو غير مباشر، في بناء النفس.

ومع ذلك فإن هذه القضية تلقى التجاهل، كما ذكرتُ في بداية هذا الفصل، في دراسات اللغة وتحليل الخطاب، إذ إن معظم الاهتمام بالنفس عادة في الخطاب يتركَّز حول مفهوم «التعبير»، فمن الشائع تمييز الوظيفة «التعبيرية» أو «العاطفية» للغة، وهي التي تتعلَّق بطرائق الصياغة التي تبين مشاعر الناس إزاء أشياء معيَّنة، أو مواقفهم تجاهها، ويوجد مفهوم واسع الانتشار عما يُسمَّى «المعنى العاطفي»، وهو الذي يُطلق على الجوانب «التعبيرية» لمعنى الألفاظ. وعلى سبيل المثال نجد أن وصف ياكوبسون لوظائف اللغة يميز وظيفة «عاطفية» أو «تعبيرية» قائلًا: إنها «ترمي إلى التعبير المباشر عن موقف المتحدِّث تجاه ما يتحدَّث عنه» (١٩٦١م، ٣٥٤). وأما ما يتجاهله هذا فهو المنظور النقدي البالغ الأهمية للبناء، أي دور الخطاب في تكوين النفوس أو بنائها. وعندما يؤكد المرء البناء تبدأ وظيفة اللغة في بناء الهُوية تكتسب أهمية عظمى، لأن طرائق المجتمعات في تصنيف الهُويات وبنائها لأفرادها تمثِّل جانبًا أساسيًّا من جوانب عملها، وكيف تُفرض علاقات السلطة وتُمارس، وكيف يُعاد إنتاج المجتمعات وكيف تتغير. وأما التركيز على التعبير فقد أدى إلى التهميش الكامل لوظيفة بناء الهُوية فجعلها جانبًا ثانويًّا من جوانب وظيفة الصلة «بين الأشخاص». ولهذا قمت بتمييز وظيفة الهُوية في التعديل الذي أدخلته على شرح هاليداي (١٩٧٨م) لوظائف اللغة، ومع ذلك فلا بد من الدفاع دفاعًا تقنيًّا مُفصَّلًا عن ضرورة القول بوجود وظيفة مستقلة خاصة بالهُوية، وأما في نظر هاليداي، فإن تحديد وظيفة مستقلة يقتضي أن يثبت المرء وجود مجال يتمتع باستقلال نسبي للتنظيم النحوي يتفق مع هذه الوظيفة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤