الفصل الثاني

أورشليم اليبوسية

ينسحب مصطلح «أورشليم اليبوسية» على كل الفترة السابقة على احتلال المدينة من قبل الملك داود، في مطلع القرن العاشر، وجعلها عاصمة للمملكة الموحدة. وكما نرى من مخطط السيدة كينيون الموضح في الشكل رقم ٢-١، فإن المدينة اليبوسية تشغل ذِروة هضبة أوفيل الضيفة، مع امتدادات باتجاه المنحدر الشرقي نحو وادي قدرون؛ حيث يقع نبع جيحون الذي كان مصدر حياة المدينة عبر عصورها. ويُظهر المقياس الطولي المرسوم في زاوية الشكل ٦ أن طول المدينة لا يتجاوز اﻟ٣٥٠ مترًا، وعرضها لا يتجاوز اﻟ١٥٠ مترًا. ويبدو أن الحد الشرقي للسور الذي بُني على منحدرات الهضبة كان محكومًا بموقع النبع؛ فخط السور ينبغي أن يهبط المنحدر إلى الحد الذي يسمح بالدفاع عن النبع في أحوال الحصار، وألا يقترب من النبع كثيرًا؛ حتى لا يكشف المدافعين ويجعلهم ضمن مرمى سهام المهاجمين المتمركزين على منحدرات جبل الزيتون المقابل، أما احتواء النبع داخل السور فمسألة غير واردة؛ لأن خط السور في هذه الحالة سيكون في أسفل الوادي، وفي وضع يصعب الدفاع عنه تمامًا. لقد استجلب نبع جيحون المستوطنين الأوائل إلى هضبة أوفيل منذ أواسط الألف الثالث قبل الميلاد. فبسبب ندرة الأمطار شتاءً وانقطاعها تمامًا فيما بين أيار/مايو وتشرين الأول/نوفمبر، كانت مواقع المدن والبلدات الفلسطينية على الدوام محكومةً بتوزع الينابيع الدائمة، ويبدو أن اختيار المستوطنين الأوائل لهضبة أوفيل كان في محله؛ لأن نبع جيحون ما زال جاريًا إلى يومنا هذا، وبإمكان أي زائر أن يشرب منه؛ رغم أنه فقد الكثير من عذوبته الأولى.
fig6
شكل ٢-١: حدود سور أورشليم اليبوسية كما رسمته كينيون، وتدعو كينيون هذا المخطط بأورشليم عصر داود.
عثرت السيدة كينيون على آثار سكن عرضي في الموقع تعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد، ولكن أورشليم لم تظهر كمدينة مسوَّرة إلا في مطلع الألف الثاني قبل الميلاد. واستطاعت المنقِّبة إرجاع تاريخ بناء سورها إلى عصر البرونز الوسيط (١٩٥٠–١٥٥٠ق.م.) وإلى حوالي عام ١٨٠٠ق.م.؛ على وجه التقريب، وقد بقي هذا السور قائمًا — مع مراحل واضحة من الترميم والإصلاح — حتى القرن العاشر قبل الميلاد، وهذا يعني أن حدود السور التي رسمتها كينيون للمدينة اليبوسية القديمة، هي نفسُها حدود المدينة التي استولى عليها داود وجعلها عاصمةً لمملكته، دون أن يُجري أية توسعات فيها أو تغييرات أساسية في حدود سورها؛ فيما عدا بعض اللُّقى الأثرية المتفرقة على المنحدر الشرقي، والتي دلت على مدى فقر وتواضع المدينة، فإن ذروة التل التي كانت منطقة السكن الرئيسية لم تعطنا أية لُقًى أثرية؛ بسبب اقتلاع حجارتها واستخدامها في أبنية الفترات التالية. غير أن المستوى الأثري لعصر البرونز الأخير (١٥٥٠–١٢٠٠ق.م.) قد أمدَّنا بدلائل على انتشار السكن من ذروة الهضبة نحو المنحدر الشرقي؛ وذلك باستخدام تقنية معمارية خاصة مكَّنت اليبوسيين من الاستفادة من المنحدر الذي لم يكن صالحًا لبناء البيوت، فقد اكتشفت حملة كينيون هنا آثار مصاطب حجرية ضخمة تستند إلى بعضها على شكل مدرجات تصلح لإقامة بيوت أكثر سَعةً وراحة من بيوت منطقة الذروة الضيقة والمزدحمة. ورغم أن نواة هذه المصاطب تعود بتاريخها إلى القرنين الرابع عشر والثالث عشر،١ إلا أن آثار الإصلاحات المتوالية عليها تبدو واضحةً؛ وصولًا إلى عصر الحديد الأول (١٢٠٠–١٠٠٠ق.م.) وما بعده؛ ذلك أن مثل هذه البِنى الهندسية كانت بحاجة إلى صيانة دائمة وإلا تعرضت مع الزمن إلى الانهيار والتداعي.
من آثار المدينة اليبوسية اللافتة للنظر نفق محفور في الصخر على الجهة الشرقية داخل السور، ينحدر بزوايا غير منتظمة ثم يهبط شاقوليًّا حتى يصل قناةً تستمد ماءها تحت الأرض من نبع جيحون، ويمكن لمن يهبط النفق أن يقف عند أعلى القسم الشاقولي، ويدلي بحبل طويل جدًّا ينضح بواسطته الماء من القناة (انظر الشكل رقم ٢-٢). ويبدو أن اليبوسيين كانوا يستخدمون هذا النفق لسد حاجتهم من ماء جيحون في أوقات الحصار؛ وذلك رغم الصعوبة الناجمة عن وعورة النفق، وقلة ما يمكن نَضْحُه من الماء بواسطة الجرادل.
fig7
شكل ٢-٢: نفق وارن الذي يجر مياه نبع جيحون إلى داخل أورشليم.

لقد اعتقد المنقب وارن الذي اكتشف هذا النفق خلال حملته التنقيبية الأولى بأنه مِن صنع الإنسان، وساد هذا الاعتقاد لدى بقية المنقبين من بعده؛ خصوصًا بعد اكتشاف أنفاق مشابهة في موقع مدينة مجدُّو ومواقع فلسطينية أخرى. ولكن الدراسات الجيولوجية الحديثة في موقع أورشليم قد أثبتت أن النفق هو مِن صنع الطبيعة، وأن يد الإنسان لم تتدخل إلا لإحداث بعض التحسينات التي تسهِّل سلوكه هبوطًا وصعودًا.

ومن أهم الأدلة التي وجدها الجيولوجيون على قدم النفق فِقدان عنصر الكربون المشعِّ من جدرانها الصخرية؛ الأمر الذي يدل على أنها قد تشكلت قبل حوالي ٤٠٠٠٠ سنة من تاريخ بناء المدينة.٢
إن خلاصة ما أفادنا به علم الآثار بخصوص أورشليم اليبوسية،٣ هو أنها لم تكن سوى بلدة صغيرة مسوَّرة، ولم يكن لها من القدم والعراقة في التاريخ ما لمواقع فلسطينية أخرى مثل أريحا، ولا ضخامة وأهمية مواقع مثل مجدُّو وحاصور، وقد بقيت أورشليم محصورةً ضمن مساحتها الضيقة على ذروة أوفيل، منذ نشأتها كمدينة مسوَّرة حوالي عام ١٨٠٠ق.م. وحتى نهايات القرن التاسع قبل الميلاد. هذه الصورة الأركيولوجية للمدينة تؤكدها الصورة التاريخية. فبينما يَرِد ذكر مدينة حاصور (في منطقة الجليل) في نصوص مدينة إيبلا السورية منذ أواسط الألف الثالث قبل الميلاد، وفي نصوص مدينة ماري على الفرات السوري الأوسط منذ مطلع الألف الثاني قبل الميلاد، ويتكرر ذكر المدن الفلسطينية المهمة مثل مجدُّو وبيت شان ولخيش في السجلات المصرية والرافدينية؛ فإن ذكر مدينة أورشليم لم يَرِد سوى مرتين فقط، وخلال فترة تَنوفُ عن ألف وخمسمائة سنة، تمتد من تأسيس المدينة في بدايات عصر البرونز الوسيط إلى نهايات القرن الثامن قبل الميلاد.

نعثر على أول ذكر لأورشليم في نصوص اللَّعَنات المصرية؛ وهي عبارة عن كتابات تُنقَش على جِرار فخَّار ثم تُكسر في طقس سحري من شأنه جلبُ الأذى على الأعداء المذكورين في النقش. ففي أحد هذه النصوص ورد ذكر أورشليم وذِكْرُ حاكمها، ضمن لائحة مدن فلسطينية اعتُبرت من أعداء مصر في المنطقة، بينها شكيم وأشقلون وحاصور وبيت شميش. يعود النص إلى حوالي عام ١٧٥٠ق.م.؛ أي: إلى بدايات تحوُّل أورشليم إلى مدينة مسوَّرة. وبما أن فراعنة مصر لم يكونوا في ذلك الوقت المبكر من عصر البرونز الوسيط قد مدوا سلطانهم الفعلي نحو مناطق بلاد الشام الجنوبية، ولم يكن لهم وجود عسكري فيها؛ فإن عَداء مصر للمدن الواردة في نصوص اللعنات لا بد أنه ناجم عن قيام حكام هذه المدن باعتراض طرق القوافل التجارية المصرية، وفرْضِهم عليها الإتاواتِ الباهظةَ.

ولقد قاد اهتمام مصر بسلامة الخطوط التجارية عبر فلسطين وشرقي الأردن، أخيرًا، إلى وضع هذه المنطقة ومعظم مناطق سورية الجنوبية والوسطى — بما فيها جميع الثغور البحرية فيما بين رفح جنوبًا وجبيل شمالًا — تحت السلطة المباشرة للتاج المصري، ففي حوالي عام ١٤٦٨ق.م. شنَّ الفرعون تحوتمس الثالث حملته الشهيرة على سورية الجنوبية، والتقى عند موقع مجدو بوادي يزرعيل جيوش تحالف سوري قويٍّ وهزمه، وقد كانت هذه المعركة فاتحة لتأسيس الإمبراطورية المصرية، وللتواجد العسكري المصري في فلسطين الذي استمر قُرابةَ أربعة قرون تلت معركة مجدُّو. وكان المصريون يمارسون نفوذهم هناك عن طريق حاميات عسكرية يحتفظون بها في عدد من المدن الاستراتيجية؛ وخصوصًا مدن وادي يزرعيل؛ وذلك إضافةً إلى المعاهدات التي كانوا يوقِّعونها مع حكام المدن.

خلال حكم الفرعون أمنحوتب الرابع (١٣٦٩–١٣٥٣ق.م.)، الذي تَسمَّى بإخناتون، تراخت قبضة مصر عن مناطق نفوذها في سورية الجنوبية، وتُركت الممالك الصغيرة لصراعاتها الداخلية، ولهجمات جماعات العابيرو المرتزقة التي كانت تؤجر خِدماتها لمن يدفع من الأمراء المتنافسين. ومعلوماتنا عن هذه الفترة مستمدة من الأرشيف الملكي الذي تم العثور عليه في تل العمارنة موقع عاصمة إخناتون. يحتوي الأرشيف على مراسلات بين البلاط المصري وملوك دول آسيا الغربية الكبرى؛ مثل بابل وميتاني وآشور، إلا أن معظم مادته تخص المحمياتِ المصريةَ الصغرى في سورية الجنوبية. وهنا يظهر اسم أورشليم للمرة الثانية بعد أربعمائة سنة من ظهوره في المرة الأولى؛ وذلك من خلال عدد من الرسائل المتبادلة بين أميرها المدعو عبدي هيبة وإخناتون. نقرأ في إحدى رسائل عبدي هيبة ما يأتي:
«إلى مولاي الملك. هكذا يقول خادمك عبدي هيبة: عند قدمَي الملك أسجد سبع مرات وسبعًا أُخر. انظر يا مولاي إلى ما فعله ميلك-إيلو أمير جازر وشوارداتا٤ أمير حبرون في أراضي الملك مولاي. لقد دفعا بقوات مِن جازر ومن جت ومن كيلة، فاستولت على أراضي روبوتو، وبذلك حلَّ العابيرو في أراضي مولاي. وهناك بلدة في أراضي أورشليم من أملاك مولاي هي بيت لحمي جرى ضمُّها إلى كيلة، فليُصْغِ المليك إلى خادمه عبدي هيبة ويرسل قواتٍ تعيد الأراضي الملكية إلى الملك. وإذا لم تصل القوات، فإن أراضي مولاي سوف تغدو ملكًا للعابيرو.» وفي رسالة أخرى نقرأ دفاعًا لعبدي هيبة في مواجهة التهم التي يُلصِقُها به أعداؤه: «ما الذي اقترفتُه بحق مولاي الملك؟ إنهم يلومونني عند مولاي قائلين بأن عبدي هيبة قد تألَّب على سيده الملك، ولكني أقول بأن أبي لم يبوِّئْني هذا المنصب ولا أمي؛ بل أسلحة مولاي القوي هي التي فعلت، فلماذا أتمرد على مولاي الملك؟ … ليعلم مولاي بأننا نفتقد إلى قوات حماية ترعى أراضيه، فهلَّا وجَّه المليك عنايته نحو أراضيه التي تمردت هنا بتحريض من إيلي-ميلكو.»٥

بعد رسائل تل العمارنة يختفي ذكر أورشليم من التاريخ حوالي ستة قرون، إلى أن تظهر كعاصمة لملكة يهوذا في أواخر القرن الثامن قبل الميلاد، ونقرأ عنها في نصوص الملك الآشوري تغلات فلاصر الثالث (٧٤٤–٧٢٧ق.م.)، وخلفه الملك سنحاريب (٧٠٤–٦٨١ق.م.). فمن نصوص تغلات فلاصر نعلم عن ملك ليهوذا اسمه آحاز، ومن نصوص سنحاريب نعلم عن ملك آخر اسمه حزقيا، فأين كانت أورشليم خلال هذه الفترة الطويلة من صمت الوثائق التاريخية؛ وخصوصًا وثائق آشور التي لم تترك مدينة مهمة في مناطق غربي الفرات إلا وذكرتها؟ سوف نجيب على هذا السؤال وبكل تفصيل عبر الفصول القادمة؛ معوِّضين نقص الوثائق التاريخية بتحليل واستقراء الوثائق الأركيولوجية. ولكن المؤرخين التقليديين من أصحاب الاتجاه التوراتي المحافظ؛ كانوا حتى وقت قريب يملئون الفراغ في تاريخ أورشليم اعتمادًا على الرواية التوراتية، ويقتبسون منها ما يرونه مناسبًا.

تقول الرواية التوراتية في خطوطها العامة بأن القبائل العبرانية المستعبدة في مصر؛ قد خرجت منها بقيادة موسى حوالي عام ١٢٥٠ق.م. (وَفق حسابات المؤرخين التقليديين). وبعد تَجوال في صحراء سيناء وإقامة طويلة في مناطقها الشمالية، تحرك موسى نحو مناطق شرقي الأردن واستولى عليها، وبعد وفاته تابع خليفتُه يشوع بن نون المسيرة نحو الأرض الموعودة، فعبر بقواته نهر الأردن، واستولى في حروب صاعقة على معظم أراضي فلسطين، ووزعها على القبائل الاثنتي عشرة؛ مما يقُصُّه علينا سفر يشوع الذي يفترض المؤرخون أن أحداثه قد جرت في زمن ما بين أواخر القرن الثالث عشر ومطلع القرن الثاني عشر. ولكن القبائل العبرانية لم تستطع المحافظة على مناطقها التي يقي معظمها بيد الكنعانيين من سكان فلسطين الأصليين، ولم تشكِّل فيما بينها كيانًا سياسيًّا موحدًا؛ بل عاشت كجماعات منعزلة عن بعضها تحت حكم قضاة يديرون شئونها، ومن المفترض أن عصر القضاة قد دام من عام ١٢٠٠ق.م. إلى حوالي عام ١٠٠٠ق.م. بعد قرنين من الاستقرار في أرض كنعان تنادت القبائل الإسرائيلية إلى الاتحاد تحت لواء ملك واحد، بعد أن عانت من اضطهاد وتحكُّم جيرانها من الفلستيين، وتم عقد اللواء للملك شاؤل (والفلستيون هم من بقايا شعوب البحر التي غزت مناطق الغرب السوري في الفترة الانتقالية من القرن الثالث عشر إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد، واستقرت في السهل الساحلي الجنوبي من فلسطين). حكم شاؤل قرابة عشرين سنة (١٠٣٠–١٠٠٩ق.م.)، وقد خاض خلال هذه الفترة حرب تحرير طويلة ضد الفلستيين، إلى أن قُتل مع أولاده الثلاثة في معركة جلبوع، فتم انتخاب داود ملكًا. كان أول عمل لداود هو استيلاءه على مدينة أورشليم وجعْلها عاصمة للمملكة الموحدة لجميع قبائل إسرائيل. بعد ذلك راح داود يوسِّع مملكته داخل فلسطين حتى ضم إليه جميع المناطق الفلسطينية عدا منطقة فلستيا، ثم عبر النهر واستولى على كامل مناطق شرقي الأردن وسورية الجنوبية. حكم داود حوالي أربعين سنة (١٠٠٩–٩٦٩ق.م.)، ثم وليه ابنه سليمان الذي كان أعظم ملوك المشرق؛ على حد تعبير محرر سفر الملوك الأول، وكان كل ملوك الأرض يلتمسون وجهه ويقدمون له الهدايا؛ علامة الخضوع والطاعة. حكم سليمان ٣٨ سنة (٩٦٩–٩٣١ق.م.)، وبعد وفاته انقسمت مملكته إلى دولتين؛ هما إسرائيل في الشمال وعاصمتها السامرة، ويهوذا في الجنوب وعاصمتها أورشليم. وقد حكمت سلالة داود في أورشليم حتى نهاية مملكة يهوذا ودمار أورشليم على يد نبوخذ نصر البابلي حوالي عام ٥٨٧ق.م.

لم يتخلص البحث الأثري والتاريخي الغربي من سيطرة هذه السردية التاريخية التوراتية، فعصر البرونز في فلسطين هو العصر الكنعاني، أما عصر الحديد فهو العصر الإسرائيلي. وأحداث سفر القضاة تغطي كاملَ فترةِ عصر الحديد الأول، بينما تغطي أحداث مملكتي السامرة ويهوذا كامل فترة عصر الحديد الثاني. وفيما يتعلق بأورشليم؛ فإن الفترة السابقة على احتلال الملك داود للمدينة هي الفترة اليبوسية، أما فترة القرن العاشر وما تلاها فهي الفترة الإسرائيلية؛ وذلك رغم الاستمرارية الحضارية الواضحة في الطبقات الأركيولوجية، وعدم وجود بينات مادية تدل على حصول تغيُّر ثقافي أو سكاني. تقول كاثلين كينيون في كتابها حفريات أورشليم ما يأتي:
«إن ذيوع شهرة داود كمحارب قوي كان وراء انتخابه ملكًا على القبائل الشمالية والجنوبية، فلقد تأكَّد للفريقين أنه لن يكون بمقدورهم مواجهة القدرة العسكرية للفلستيين إلا بخضوعهم لسلطة مركزية تسيِّر شئونهم. كانت مدينة حبرون الواقعة ضمن أراضي قبائل الجنوب أول عاصمة لداود، ثم تبين له أن الوحدة الحقيقية بين الشمال والجنوب لن تتحقق فعلًا إلا بالتخلص من الوجود اليبوسي في أورشليم الواقعة في الوسط؛ فاستولى عليها حوالي عام ١٠٠٥ق.م. وجعلها عاصمة له. لقد سهَّل الاستيلاء على أورشليم لداود توحيد شِقَّي مملكته، وزوَّده بموقع مثالي لعاصمته الثانية؛ لأن هذا الموقع لم يكن تابعًا للشماليين ولا للجنوبيين، فغدت أورشليم بمثابة مدينة خاصة له، وتركَّز همُّه على جعلها مقرًّا إداريًّا للمملكة ومركزًا لعبادة يهوه؛ وهي العبادة التي كانت بمثابة القوة الموحدة للقبائل الإسرائيلية. ورغم أنه قد خطط لبناء هيكل للرب يُئوي فيه تابوت العهد، إلا أنه قد ترك مهمة التنفيذ لخَلَفِه سليمان؛ وذلك بسبب انشغاله بالحروب التوسعية التي شنَّها في كل الاتجاهات، وقادت إلى جعل مملكته تمتد من دمشق شمالًا إلى خليج العقبة جنوبًا.»٦
وهكذا تنتقل بنا هذه العالمة الجليلة — المشهودُ لها بطول الباع في مجال تقنيات التنقيب الحديثة — من أورشليم اليبوسية إلى أورشليم الإسرائيلية، دون أية مستندات مادية، بعد أن أقرت صراحةً بأن سور أورشليم بقي على حاله خلال عصر داود، وأن البينات المادية على تحصينات داود المذكورة في سفر صموئيل الثاني معدومة. وها هي تختم عرضها لنتائج البحث عن مدينة داود بالقول: «إن أورشليم داود هي مفتاحنا للولوج إلى التاريخ الإسرائيلي، ولكن تنقيباتنا لم تكشف إلا القليل مما يمكن أن نعزوه لتلك الفترة، ولقد جهدنا من أجل توضيح هذا القليل، وإني لعلى ثقة بأن البيِّنات الأركيولوجية على أي شيء آخر قد فُقدت تمامًا..٧
ويقول جون برايت الباحث الأمريكي في تاريخ إسرائيل، والأكثر تعصبًا وحميَّةً لصدق الرواية التوراتية: «إن الأزمة التي قادت إلى إنهاء النظام القَبَلي الإسرائيلي؛ قد حدثت في أواخر القرن الحادي عشر، عندما تتابعت سلسلة من الأحداث كان من شأنها تغيير إسرائيل بشكل كامل، وتحويلها خلال أقل من قرن إلى واحدة من القوى العظمى في عالمها المعاصر. هذه الفترة القصيرة يجب أن تشغل اهتمامنا مطولًا؛ لأنها واحدة من أهم الفترات في تاريخ إسرائيل.»٨

ونحن بدورنا سوف نتوقف مطولًا عند هذه الفترة في الفصلين القادمين، ونعمل على تمحيص الرواية التوراتية ومقارنتها مع الوثائق التاريخية وآخر المستجدات الأركيولوجية؛ من أجل استهلال بحثنا عن مملكة اليهود في فلسطين.

١  جرى مؤخرًا إعادة نظر جذرية في تأريخ كينيون لهذه المصاطب؛ في سياق إعادة نظر شاملة في تاريخ أورشليم خلال عصر البرونز الوسيط؛ مما سوف نبحثه في حينه.
٢  انظر بشكل خاص دراسة الجيولوجي Dan Gill المنشورة في مجلة علم الآثار التوراتي، عدد July-August 1994.
٣  استخدم هنا مصطلح يبوسي ويبوسيين بسبب شيوعه بين علماء الآثار والمؤرخين؛ رغم أنه مصطلح توراتي، فقد وردت تسمية يبوس تبادليًّا مع أورشليم في موضعين من التوراة؛ هما القضاة ١٩: ١٠–١١. وأخبار الأيام الأول ١١: ٤–٥؛ كما تكرر ذكر اليبوسيين باعتبارهم الشعب الساكن في أورشليم، ولا يوجد لدينا مصادر خارجية تؤكد هذه التسمية.
٤  نلاحظ من أسماء حكام الدويلات السورية في الألف الثاني قبل الميلاد، وجود حكام ساميين وآخرين هندو-أوروبيين. فالاسم عبدي هيبة سامي، وكذلك ميلك-إيلو، بينما يُظهر الاسم شوارداتا أصلًا هندو-أوروبيًّا واضحًا.
٥  James Pritchard, edt., Ancient Near Eastern Texts, pp. 487–489.
٦  Kathleeen Kenyon, Digging Up Jerusalem, p. 43.
٧  Ibid., p. 110.
٨  John Bright, A History of Israel, London 1972, p. 179, cited in: K. Whitelame, The Invention of Ancient Israel. p. 125.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤