الفصل الثالث

أورشليم القرن العاشر

(١) البحث عن شبح داود

في سفر صموئيل الثاني المخصَّص لأخبار الملك داود، نتابع سلسلة من القصص التي تدور حول السلطة، وغراميات البلاط الملكي، والدسائس السياسية، والصراع على العرش، وما إلى ذلك من حكايا قصور الملوك والأمراء المعروفة في جميع آداب الشعوب.

فكما هو الحال في سلسلة ألف ليلة وليلة، فإننا نجد داود يتمشى على سطح بيته ليلًا عندما تقع عينه على امرأة تستحم في بيتها القريب، دون أن تدري بوجود أحد على السطح يتلصص عليها، فيقع في غرامها، ولا يجد وسيلةً للحصول عليها سوى قتل زوجها الجنديِّ المخلص في جيشه، وإحضارِها عَنوةً إلى قصره … أحد أولاد داود المدعو أمنون يغتصب أخته غير الشقيقة المدعوة تامار … شقيق تامار المدعو أبشالوم يتربص بأمنون لقتله، فيدعو إخوته أبناء داود إلى وليمة عامرة، وعندما تلعب الخمرة برأس أمنون ينقضُّ عليه عبيد أبشالوم ويقتلونه … أبشالوم يطمع بعرش أبيه داود، ويدعو القبائل الشمالية إلى مبايعته، ثم يدخل أورشليم ظافرًا، بينما يهرب داود وأتباعه منها ويعبُرون نهر الأردن … أبشالوم يطلب قتل أبيه ويَلحق به بجيش جرَّار، ولكنه ينهزم ويلقى حتفه على يد قائد الجيش المدعو يوآب … المتمردون يتراجعون ويبايعون المدعو شبع بن بكري ملكًا بدل أبشالوم القتيل … قائد الجيش يوآب يحارب المتمردين ثم يحاصرهم في مدينة آبل بيت معكة، ويعود معه برأس شبع بن بكري القتيل … داود يتدفأ من داء البرداء الذي أصابه في حضن مراهقة صغيرة يجري تعيينها كحاضنة للملك … ابنا داود المدعوان أدونيا وسليمان يتنازعان وراثة العرش؛ بينما أبوهما على فراش الموت … سليمان يُفلح في انتزاع وراثة العرش من أخيه الأكبر أدونيا، ويطارده فيقتله.

في خضم هذه القصص والمغامرات، هناك خبران مقتضبان عن أعمال داود العمرانية؛ وذلك في سفر صموئيل الثاني ٥: ٩ و١١؛ حيث نقرأ عن تحصينه وترميمه للأسوار وعن بناء بيت له. وهنالك أيضًا بضعة أخبار قصيرة وشديدة الغموض عن حروب داود السورية (كما يدعوها المؤرخون) التي قادت إلى تشكيل إمبراطورية واسعة، فبعد أن حارب داود الفلستيين وأمِن تكرار تعدياتهم على حدوده، عبَر نهر الأردن فأخضع المؤابيين؛ الأعداء التقليديين لبني إسرائيل. بعد ذلك يخبرنا المحرر التوراتي أن داود قد خرج لقتال هدد عزر بن رحوب ملك صوبة؛ من غير أن نعرف شيئًا عن هُويَّة هذا الملك وموقع مملكته، والأسباب التي دعت داود لقتاله. نقرأ في سفر صموئيل الثاني: «وضرب داود هدد عزر بن رحوب ملك صوبة، حين ذهب — أي: هدد عزر — ليردَّ سلطته عند نهر الفرات، فأخذ منه داود ألفًا وسبعمائة فارس وعشرين ألف راجل، وعَرْقَب داود جميع خيل المركبات، وأبقى منها مائة مركبة. فجاء آرام دمشق لنجدة هدد عزر ملك صوبة، فضرب داود من آرام اثنين وعشرين ألف رجل. وجعل داود محافظين في آرام دمشق، وصار الآراميون له عبيدًا يقدمون الهدايا» صموئيل الثاني ٨: ٣–٦.

ولكن هذه المعركة لم تكن الأخيرة بين الطرفين؛ فعندما نشب النزاع بين داود ومملكة عمون في شرقي الأردن، استعان العمونيون ببعض الإمارات الآرامية الصغيرة جنوب سورية للوقوف بوجه داود، كما أرسل إليهم هدد عزر نجدةً من قواته ومن قواتٍ آرامية من وراء نهر الفرات، وبرئاسة قائده المدعو شربك. نقرأ في سفر صموئيل الثاني مرةً أخرى: «أرسل بنو عمون واستأجروا آرام بيت رحوب وآرام صوبة عشرين ألف راجل، ومن ملك معكة ألف رجل، ورجال طوب اثني عشر ألف رجل … فتقدم يوآب، قائد جيش داود، والشعب الذي معه لمحاربة آرام، فهربوا من أمامه. ولما رأى بنو عمون أنه قد هرب آرام، هربوا أيضًا ودخلوا المدينة، فرجع يوآب عن بني عمون وأتى إلى أورشليم. ولما رأى آرام أنهم قد انكسروا أمام إسرائيل اجتمعوا معًا. وأرسل هدد عزر فأبرز آرام الذي عبر النهر، فأتوا إلى موقع حيلام وأمامهم شوبك ورئيس جيش هدد عزر، ولما أخبر داود، جمع كل إسرائيل وعبر الأردن وجاء إلى حيلام، فاصطف آرام للقاء داود وحاربوه، وهرب آرام من أمام إسرائيل، وقتل داود من آرام سبعمائة مركبة وأربعين ألف فارس، وضرب شوبك رئيس جيش آرام فمات هناك، ولما رأى جميع الملوك عبيد هدد عزر أنهم انكسروا أمام إسرائيل، صالحوا إسرائيل واستُعبدوا لهم» صموئيل الثاني ١٠: ٦–١٩.

هذه كل أخبار حروب داود السورية في سفر صموئيل الثاني المخصص لأخبار الملك داود. واعتمادًا على هذه النُّتف الغامضة قام المؤرخون التوراتيون بإعادة بناء تاريخ المملكة الموحدة لكل إسرائيل، وتصويرِها كإمبراطورية شمِلت كامل فلسطين وسورية الجنوبية؛ وصولًا إلى نهر الفرات، وارتفعت إلى مَصافِّ القوى العظمى في المنطقة (انظر الخريطة في الشكل رقم ٣-١). لقد سكب هؤلاء حتى الآن أطنانًا من الحبر من أجل إعادة ترتيب أخبار حروب داود السورية، ووضْعها في إطار تاريخي مقبول، وتحميلِها أكثرَ مما تَحتمِل وتتضمن؛ سعيًا وراء توكيد عظمة داود واتساع ملكه. وبما أن الممالك والإمارات التي حاربها داود وتوسَّع على حسابها غير موثقة تاريخيًّا وآثاريًّا خارج النص التوراتي (عدا دمشق وعمون بالطبع)، فقد جهِد المؤرخون في تحديد مواقعها دون سند تاريخي أو أركيولوجي، وعزوا إليها الأهمية والقوة من أجل إسباغ الأهمية على حروب داود ونتائجها.
فيما يتعلق بمملكة صوبة — وهي الخصم الأكبر لداود في سورية — لا يعطينا نص سفر صموئيل الثاني أية إشارة جغرافية تساعد على تحديد مكانها، ولا يذكر اسم عاصمتها أو اسم أية مدينة معروفة من مدنها؛ من هنا فقد اكتفى بعض الباحثين بالقول بأنها كانت أهم وأقوى دولة في وسط وجنوب سورية، بينما اتفق بعضهم الآخر مع الباحث هاليفي الذي استنتج بشكل تعسفي أن كلمة صوبة هي تحريف لكلمة صهوبة؛ التي تعني بريق الذهب أو النحاس، وبما أن سلسلة لبنان الشرقية غنية بالنحاس؛ فقد رجَّح أن تكون صوبة هذه قد اشتملت على أراضي البقاع، وامتدت إلى الشمال من أراضي دمشق، من البقاع إلى الفرات عبر البادية السورية.١ هذا ولم تنج بعض الدراسات الحديثة من آثار هذا الدَّجَل التاريخي، فنقرأ في كتاب صادر عام ١٩٨٧م للمؤرخ الأمريكي واين بيتارد حول تاريخ دمشق القديمة ما يأتي: «في أيام داود كانت مملكة صوبة أقوى وأهمَّ دولة في وسط وجنوب سورية، وخصمًا عنيدًا للمملكة الإسرائيلية الحديثة العهد، أما عن موقع هذه الدولة وحدودها؛ فإن معظم الباحثين يضعها في البقاع الشمالي مع امتدادات نحو الشرق إلى سهول حمص، وتتجاوزها حتى البادية.»
fig8
شكل ٣-١: المناطق المفترضة لتوسعات داود في مطلع القرن العاشر قبل الميلاد.
وفيما يتعلق بالدويلات الآرامية التي حالفت مملكة صوبة — وهي بيت رحوب ومعكة وطوب — فإن نص صموئيل الثاني لم يزودنا أيضًا بإشارات تساعد على تعيين مواقعها ورسم حدودها، ولكن المؤرخين قد وصفوها بأنها دويلات هامة، ورسموا حدودها التقريبية اعتمادًا على استنتاجات واهية. فبيت رحوب تشغل منطقة البقاع الجنوبي، أما معكة فتشغل منطقةً في جنوب جبل الحرمون مع امتدادات تصل إلى بحيرة الحولة، وطوب تشغل منطقة حوران الجنوبية.٢

وفيما يتعلق بدمشق، فإنهم يستنتجون من قول نص صموئيل الثاني بأن آرام دمشق قد جاء لنجدة هدد عزر؛ بأن مدينة دمشق في ذلك الوقت كانت خاضعةً لهدد عزر ملك صوبة، وأن داود قد استبدل إدارة هدد عزر، وعيَّن عليها محافظين تابعين له مباشرةً. ولكن هذا الاستنتاج يتعارض مع الخبر الوارد في سفر الملوك الأول، والذي نفهم منه أن دمشق كانت مستقلةً عن كلٍّ مِن هدد عزر وداود، وأن أحد قادة هدد عزر قد انشق عنه بعد خسارته الحرب مع داود، وجاء إلى دمشق فملك فيها: «وأقام الربُّ لسليمان خصمًا آخر هو رزون بن اليداع، الذي هرب من عند سيده هدد عزر، فجمع إليه رجالًا؛ فصار رئيس غزاة عند حرب داود إياهم، فانطلقوا إلى دمشق وأقاموا بها وملكوا في دمشق. وكان خصمًا لإسرائيل كل أيام سليمان».

وفي الحقيقة، فإنه لم يتوفر لدينا حتى الآن وثائقُ أثرية في البقاع تشير إلى وجود مملكة صوبة، وكذلك الأمر بخصوص بيت رحوب وطوب ومعكة؛ كما أن الوثائق الكتابية الآرامية والآشورية تخلو من أي ذكر لهذه الدويلات؛ الأمر الذي يشير إلى أنها، في حال وجودها، لم تكن سوى مشيخاتٍ قَبَلية قريبة زمنيًّا من فترة تدوين التوراة، وأن المحور التوراتي ربما وصلته أخبار غامضة عن حروب أحد ملوك السامرة أو أورشليم المتأخرين مع هذه المشيخات، فاستعان بها وأدمجها في أخبار حروب داود. ثم ماذا عن «آرام الذي عبر النهر» الذين أتوا لمساعدة هدد عزر، وعن ملوكهم الذين وُصفوا بأنهم عبيد ملك صوبة؛ أي: أتباع له؟ هل هم من الممالك الآرامية التي كانت قائمةً على حوض الفرات ورافده نهر الخابور خلال القرن العاشر؛ كما يزعم المؤرخون التوراتيون؟ للإجابة عن هذا السؤال، علينا أن نتفحص الخارطة السياسية لمنطقة الفرات والجزيرة السورية خلال عصر الملك داود (انظر الخريطة في الشكل رقم ٣-٢).

في القرن العاشر قبل الميلاد كانت الممالك الآرامية في حوض الفرات وحوض الخابور قد ازدهرت وبلغت دور النضج السياسي والإداري، وشكَّلت — مع بقية الممالك الممتدة من الفرات شرقًا إلى البحر المتوسط غربًا — حزامًا آراميًّا ثقافيًّا يشتمل على كامل مناطق الشمال السوري. فقد أقامت قبيلة بيت لاقي عند ضفاف الخابور الأسفل منذ القرن الحادي عشر، وجعلت لنفسها عاصمةً في دور كتليمو، وكانت دولة قوية ومستقلة ذاتيًّا خلال القرن العاشر؛ رغم خضوعها للنفوذ الآشوري. وجاورتها على الخابور أيضًا مملكة بيت بحياني التي أسسها الشيخ بحياني، وبنى عاصمتها جوزانا في موقع تل حلف؛ الذي أمدَّنا بروائع النحت الآرامي، كما أعطانا عددًا لا بأس به من النقوش الكتابية التي عرَفنا منها عددًا من أسماء الملوك الذين حكموا في جوزانا. إلى الغرب من مملكة جوزانا قامت مملكة بيت عديني؛ التي شغلت المناطق الممتدة بين رافد البليخ ونهر الفرات، وكانت أقوى وأهم الممالك الآرامية الشمالية. اكتُشفت عاصمتها برسيب في موقع تل أحمر على الضفة الشرقية للفرات، وعُثر في الموقع على كتابات تذكر مَلِكَها المدعو آخوني، الموثق في السجلات الحربية الآشورية. وفي منطقة الفرات السوري الأعلى قامت مملكة كركميش التي تحمل عاصمتها الاسم نفسَه. وإلى الشمال الشرقي من كركميش قامت مملكة حداتو التي تحمل عاصمتها الاسم نفسه، والتي تم اكتشافها بموقع أرسلان طاش. وفي مناطق غربي الفرات قامت مملكة بيت جوش وعاصمتها أرفاد، وجاورتها غربًا مملكةُ شمأل التي امتدت حتى شواطئ المتوسط.

فأيٌّ من هذه الممالك الآرامية القوية والموثقة تاريخيًّا وأركيولوجيًّا قد هبَّ لنجدة هدد عزر ملك صوبة المجهول، وحارب إلى جانبه في موقع حيلام الذي لا نعرف عنه سوى الاسم؟ وأيٌّ من ملوك هذه الدول الفراتية التي كانت تقارع القوة الآشورية العظمى قد صالح داود واستعبد له؛ على حد تعبير النص التوراتي؟ كيف تحط جيوش داود على شواطئ الفرات ولا تصطدم بآشور التي اعتبرت الفرات حدًّا شرقيًّا لنفوذها الفعلي في بلاد الشام آنذاك؟

fig9
شكل ٣-٢: خريطة سورية السياسية في مطلع عصر الحديد الثاني.

لماذا لم يَرِد ذكر لداود في السجلات الآشورية التي أعطتنا صورةً شبه كاملة عن الخارطة السياسية لمناطق الفرات وشمال ووسط سورية؟ ولماذا خلت، بالمقابل، أخبارُ سفر صموئيل الثاني من أية إشارة إلى آشور؟ إن الجواب على هذه التساؤلات بسيط جدًّا؛ فمحرر سفر صموئيل الثاني لم يكن بين يديه معلومات البتةَ عن فترة القرن العاشر قبل الميلاد؛ كما أنه لم يقصد إلى جمع مثل هذه المعلومات؛ لأنه لم يكن بصدد كتابة نص تاريخي عن حروب داود، بل كان يعمل على تزيين سيرة ملك ملحمي بأخبار وأحداثٍ جمعها من الذاكرة الشعبية للمنطقة، وصاغها بتعابيرَ عامة لا تقصد إلى تقديم معلومات تاريخية محددة. إن المشكلة ليست في النص التوراتي؛ بل في عقول ومقاصد المؤرخين التوراتيين الذين ما زالوا إلى يوم الناس هذا يبحثون عن شبح تاريخي اسمه داود؛ متعامين عن كل الحقائق التاريخية والأركيولوجية.

يتجلى عمى الألوان التاريخي هذا، بشكل خاص، في أبحاثِ ودراسات تلاميذ و. ف. أولبرايت، عالم الآثار واللغات السامية، واليهودي الذي خصص عبقريته الفذة وحياته العلمية لخدمة التوراة. فداود لم ينشئ مملكةً عاديةً مثل بقية الممالك المحيطة به، بل كان صانع إمبراطورية حقيقية، حلَّت محل القوى التقليدية العظمى في المنطقة. يقول جون برايت، في كتابه عن تاريخ إسرائيل الصادر عام ١٩٧٢م، بأن داود قد أفلح في بناء إمبراطورية امتدت من وادي العريش في الجنوب إلى جبال لبنان ومملكة قادش في وسط سورية، وأنه قد ورث الأملاك الآسيوية لمصر الفرعونية في فترة ضعفها، وجعل من إسرائيل قوة تقف في مَصافِّ القوى العظمى لذلك العصر.٣
ويقول الباحث م. نوث، في كتابه عن تاريخ إسرائيل الصادر عام ١٩٦٠م، ما يلي: «مع صعود داود غدت المنطقة بكاملها بنيةً سياسيةً مُركَّبةً، وفاقت مجرد كونها دولةً إسرائيلية داخل حدودها المرسومة. لقد تحولت دولة داود إلى إمبراطورية فلسطينية-سورية، يوحِّدها شخص الملك، وتنضوي تحتها شعوب شتى. كما عمل داود على خلق أول تنظيم سياسي كبير وموحد ومستقل عرَفتْه هذه المنطقة، اشتمل، بشكل مباشر أو غير مباشر، على معظم فلسطين وسورية. وإنها لظاهرة فائقة الأهمية من وجهة نظر التاريخ العالمي؛ وهي من إنجاز شخص ذكي وفالح بشكل غير اعتيادي. في ذلك الوقت كانت الظروف السياسية العامة في المنطقة المشرقية في صالح داود؛ لأن كلًّا من مصر ووادي الرافدين كان في حالة ضعف لا تمكِّنه من ادعاء السيادة على مناطق غربي الفرات وتحريك قواته باتجاهها.»٤
ويقول س. هيرمان، في كتابه عن تاريخ إسرائيل الصادر عام ١٩٧٥م، بأن داود قد نجح فيما أخفق به سَلَفُه شاؤل، فاتخذ الخطوة الحاسمة التي نقلت إسرائيل من كيان قَبَلي لا يفرض سلطته على مساحة واضحة ومحددة من الأرض، إلى مملكة جغرافية كانت بمثابة نقطة علام بارزة في تاريخ المنطقة. ولقد ضمت هذه المملكة تحت لوائها عددًا من الشعوب والمناطق الجغرافية الأخرى، وتحولت في وقت وجيز إلى إمبراطورية تتركز حول شخصية الملك القوية. ورغم أنها كانت بمثابة خلق فريد من نوعه، إلا أنها كانت في الوقت نفسه خاضعةً للتيارات الداخلية والخارجية المتعارضة، وللأخطار المهددة الخارجية.٥ والباحث هيرمان إذ يؤكد على تفرُّد إمبراطورية داود في السياق التاريخي للمنطقة؛ فإنه لا يفعل من أجل إثبات هذا التفرد سوى إعادة صياغة الأخبار التوراتية؛ التي يعتقد بأن موظفي البلاط الملكي كانوا أول من بدأ بتسجيلها.
ويقدم فون راد، في كتابه الصادر عام ١٩٦٥م، هذه الخطبة العصماء بخصوص سجلات البلاط الداودي: «لقد أنتج العصر الذهبي للمملكة الموحدة كتاباتٍ تاريخيةً أصيلةً؛ بينما لم تستطع الحضارات الأخرى للشرق القديم تحقيق ذلك. وكذلك الحضارة الإغريقية التي لم تنتج كتاباتٍ تاريخيةً إلا في ذِروة تاريخها؛ أي: في القرن الخامس قبل الميلاد، ثم ذُوِيَ نتاجُها بسرعة. أما هنا، وعلى العكس، فإننا أمام أمة قد تحضَّرت لتوِّها. ورغم أن عوامل هذا التحضر قد استُمدت من الذخيرة السكانية الأصلية؛ بما فيها أسلوب الكتابة السهلُ التعلمِ؛ فإن ذلك لم يؤدِّ إلا إلى جعْل نتاجها أكثر الكل إبهارًا وإدهاشًا ... وبفضل إنجازاتها في مجال الكتابة التاريخية التي تحققت بشكل مستقل، واتخذت شكلًا ناضجًا منذ البداية، يجب أن تُعدَّ حضارة إسرائيل في مستوى ما تم إنجازه في اليونان بشكل أوسع بعد بضعة قرون.»٦

يتناسى فون راد — في ثنائه على السجلات التاريخية الداودية، في خُطبته التي اقتبسناها كاملةً منذ قليل وبنصها الحرفي — أن أقدم نص لها متوفرٍ بين أيدينا يعود إلى القرن الأول الميلادي؛ وهو في ذلك إنما يتخلى عن صفة المؤرخ، ويضع نفسه في زمرة الخطباء والمبشرين الدينيين الذين يتحدثون عن عصمة النص المقدس، وحماية العناية الإلهية له من يد العابثين؛ عبر سلسلة طويلة من التداول الشفهي أو التداول بالنسخ اليدوي. إن ألف سنة تفصل بين العصر المفترض لداود وأول نص عبري مدوَّن للتوراة؛ لا تعني شيئًا بالنسبة لهذا الخطيب المفوَّه، الذي لا يصلح إلا لإلقاء خُطَبه في حديقة هايد بارك بلندن، حيث يُسمح لمن يشاء يقول ما يشاء.

أما عن قول فون راد، أعلاه، بأن الحضارة المشرقية قد أخفقت في إنتاج كتابات تاريخية؛ فإني أحيله إلى أي سجل من سجلات الحضارة المصرية أو الحضارة الرافدينية؛ لكي يرى الفرق بين قول المحرر التوراتي: «فضرب داود هدد عزر بن رحوب حين ذهب ليرد سلطته عند نهر الفرات … إلخ.» والخبرِ الموثَّق المحقق المعاصر للحدث الذي يروي عنه. نقرأ في حوليات الملك آشور ناصر الثاني التفاصيل التالية عن حملته على بلاد الشام: غادرت بلاد بيت عديني، وعبرت الفرات في ذروة فيضانه إلى كركميش على قوارب مصنوعة من الجلود؛ حيث تلقيت جزية ملك الحثيِّين … إلخ. ملوك البلاد المجاورة جميعًا أتوا إليَّ فأمسكوا قدمي، فأخذت منهم رهائن مشوا معي إلى جبل لبنان مشكِّلين طليعة جيشي. غادرتُ كركميش متحركًا على الطريق الذي يعبر بين جبال منزيغاني وهامورجا؛ تاركًا مملكة أهانو على يساري. تقدمت نحو مدينة حزازو التابعة للوبارنو ملك حطينة؛ حيث تلقيت الذهب وعباءات الكَتَّان، ثم تابعت فاجتزْتُ نهر عبري حيث قضيت الليل. غادرت شاطئ نهر عبري نحو مدينة كونوللو المقر الملكي للوبارنا ملك حطينة الذي سجد عند قدمي لإنقاذ حياته، فأخذت منه جزية مقدارها ... إلخ. غادرت كونوللو واجتزت نهر العاصي حيث قضيت الليل، ثم تحركت أخذًا الطريق بين جبل يراكي وجبل يعتوري، ثم تجاوزت جبل … لقضاء الليل عند نهر سنجارا … إلخ.٧ على أن الكلمة الأخيرة بشأن داود وإمبراطوريته هي لعلم الآثار. لقد قالت لنا كاثلين كينيون، بعد قيامها بتأريخ دقيق لسور أورشليم اليبوسية: إن داود قد اتخذ من مدينة اليبوسيين عاصمة له في مطلع القرن العاشر. ولكن ما من بيِّنات أركيولوجية على قيامه بتوسيع المدينة والإضافة إليها أو ترميم أسوارها (راجع ما أوردناه سابقًا بهذا الخصوص). فإذا علمنا أن مساحة أورشليم اليبوسية-الداودية هذه لا تزيد عن ٤٫٥ هكتارات،٨ لتأكَّد لدينا أنا أمام قرية مسوَّرة لا أمام عاصمة لإمبراطورية ضخمة. كما أن مثل هذه المساحة الصغيرة، على ما يقوله لنا الباحثون الديمغرافيون، لا يمكن أن تكون قد استوعبت عددًا من السكان يزيد عن الألفين في أفضل الأحوال. وهذا الرقم معقول جدًّا؛ إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الدراسات الديمغرافية لفلسطين في العصور القديمة؛ تقدر عدد سكان فلسطين الكبرى خلال القرن العاشر بمائة ألف نسمة.٩ وهذا يعني أن القاعدة السكانية المطلوبة لقيام مملكة موحدةٍ؛ مفقودةٌ بالمعنى الدقيق للكلمة؛ ناهيك عن إمبراطورية كبرى، كما أن القرى لم تكن في يوم من الأيام عواصم لممالك وإمبراطوريات.
ولكي نعطي فكرة عن مدى ضآلة عاصمة داود هذه؛ بالنسبة لبقية المواقع الفلسطينية والسورية، نقول بأن مساحة موقع أريحا في مطلع العصر الحجري الحديث، حوالي عام ٨٠٠٠ق.م.، قد بلغت ٤ هكتارات، وأن مساحة موقع تل المريبط في مطلع العصر الحجري الحديث، حوالي عام ٧٥٠٠ق.م.، قد بلغت ثلاثة هكتارات، وأن مساحة أشباه المدن في حوض الفرات والخابور، خلال النصف الثاني من الألف الرابع قبل الميلاد، قد تراوحت بين ١٨ هكتارًا في موقع حبوبة الصغرى، و٤٣ هكتارًا في موقع تل براك، أما المراكز الحضرية الكبرى في أواسط الألف الثالث قبل الميلاد — مثل ماري على الفرات الأوسط وإيبلا في الشمال قرب حلب — فقد تراوحت مساحتها بين ٦٠ و٧٠ هكتارًا. وفي أواسط الألف الثاني قبل الميلاد، بلغت مساحة مدينة قطنة في أواسط سورية قرب حمص ١٠٠ هكتار، وبلغت مساحة حاصور الفلسطينية في جبال الجليل ٧٥ هكتارًا. ومن المفارقات الطريفة التي يمكن إيرادُها هنا؛ أن مساحة القصر الملكي في مدينة ماري — والذي يحتوي على ثلاثمائة غرفة — قد بلغت مساحته ٢٫٥ هكتار؛ أي: ما يعادل نصف مساحة عاصمة داود الإمبراطورية.١٠

لقد وقفت السيدة كينيون على ذروة هضبة أوفيل الضيقة، تنظر ذات اليمين وذات الشمال؛ وهي تفكر في طريقة للتوفيق بين الأخبار التوراتية بخصوص نشاطات داود الدفاعية والإنشائية في عاصمته، وبين واقع المدينة التي كشف عن حدودها وحجمها وأبعادها. فمحرر سفر صموئيل الثاني يخبرنا أن داود قد حصَّن المدينة، وبنى لنفسه فيها قصرًا كبيرًا أشاده له بنَّاءون فينيقيون من صور، وأنه قد تزوج عددًا من النساء واتخذ لنفسه عددًا آخر من السراريِّ وَلَدْن له بنين وبنات (صموئيل الثاني ٥: ٦ و١١–١٣). ولكن الدراسة الأثرية الميدانية لم تُثبت للمنقبة كينيون حصول أي تغيير على السور اليبوسي، أو وجود أثر لترميم أو إصلاح أو إضافة عليه خلال القرن العاشر. أما القصر الكبير الذي استجلب داود لبنائه خشبًا وبنَّائين من فينيقيا، فإن ذروة الهضبة التي يُفترض أنها كانت مزدحمة ببيوت العامة؛ لا تترك متسعًا لتشييد مثله.

هنا، وبدلًا من أن تصرف كينيون النظر نهائيًّا عن كون أورشليم القرن العاشر هذه عاصمةً لإمبراطورية موحدة كبيرة (كما هو متوقَّع من قِبل عالم متحرر من سلطة الرواية التوراتية)؛ فقد راحت تسوق التعليلات الواهية، وتقول بأن داود كان مشغولًا عن تحصين مدينته بالحروب الخارجية في المناطق البعيدة. أما عن قصره الكبير، فتقول: إنه كان موجودًا في مكان ما على ذروة الهضبة، ولكنه لم يكن بالضخامة التي يوحي بها النص التوراتي؛ لأن بناء مثل هذا القصر الكبير كان يتطلب إزاحة عدد كبير من البيوت السكنية، لذا فقد قنع داود بقصر متواضع. وهذا ما دفع فيما بعد ابنه سليمان إلى ترك قصر أبيه وبناء قصر ملكي حقيقي خارج سور المدينة اليبوسة. ثم تختم كينيون تعليلاتِها الواهيةَ بقولها: إن الوضع البائس للعاصمة من الناحية العمرانية يعزي إلى طموح داود لبناء مملكة واسعة، وانشغاله بالسياسة عن الإعمار.١١
ورغم أن الشواهد الآثارية تدل على أن الوضع البائس لم يكن مقتصرًا على العاصمة وحدها، بل سائدًا في كل مواقع يهوذا وإسرائيل اللتين كانتا نواة المملكة الموحَّدة خلال القرن العاشر، فإن ذلك لم يُثن السيدة كينيون عن متابعة تبريراتها، وبكل عناد، بعيدًا عن المنهجية العلمية، عندما تقول في مكان آخر: «لم تكشف التنقيبات عن مخلفات مادية مهمة خارج أورشليم تعود إلى عصر داود، والسبب في ذلك راجع إلى أن داود لم يشتهر بتشييد الأبنية؛ بسبب انشغاله بتوسيع مناطق نفوذه، فبعد أن جمع القبائل الإسرائيلية في مملكة موحدة، وأوجد قاعدةً قوية له، قام بضم مساحات واسعة من المناطق المجاورة، فكانت إسرائيل في عهده تعادل بقية ممالك آسيا الغربية في قوتها ومساحتها».١٢

على أن كل هذا الحذر الذي ميز تفسيرات كينيون لم يجعلها في منجاة من غضب السلطات الصهيونية في فلسطين؛ فبعد أن استولى الكيان الصهيوني على القدس والضفة الغربية بكاملها، مُنعت السيدة كينيون من العودة إلى الأرض المحتلة بسبب نتائجها التي أعلنتها بخصوص هيكل سليمان، ونصيحتِها للبعثات القادمة بعدم إضاعة المال والوقت والجهد من أجل التنقيب عن الهيكل؛ لأنهم لن يجدوا تحت أرضيات الحرم الشريف سوى قمة الهضبة الصخرية، والردميات الترابية التي أُهيلت من أجل مَلء المصطبة الضخمة التي بناها هيرود الكبير. ومنذ عام ١٩٦٧م قامت عدة بعثات أثرية إسرائيلية وغربية بالتنقيب على هضبة أوفيل ومحيطها، ولكنها لم تضف شيئًا إلى ما خرجت به كاثلين كينيون.

يلخص عالم الآثار الإسرائيلي ب. مازار نتائج التنقيب في موقع أورشليم حتى أواخر الثمانينيات بقوله: «رغم أن حكم دواد قد استمر في أورشليم قرابة ٤٠ سنة؛ إلا أننا لم نعثر إلا على القليل جدًّا من اللُّقى الأثرية التي تعود إلى العصر الداودي؛ سواء في موقع أورشليم أم خارجها؛ فما من بنية معمارية ضخمة أو منشأة هامة يمكن لنا بيقين وصْفُها بالداودية».١٣ ثم يصف لنا مازار البقايا المادية في أرض إسرائيل بأنها فقيرة ومتواضعة إلى أبعد الحدود إذا ما قورنت بما أنتجته الحضارات الآرامية والفينيقية والمصرية والحثية والبابلية، ثم يتساءل بعد ذلك عما إذا كانت إسرائيل قد أبدعت فعلًا في مجال الحضارة المادية مثلما أبدعت في المجال الروحي والديني.
إن الجواب على تساؤلات مازار يقدِّمه اليوم الباحثون الراديكاليون؛ الذين يضعون أخبار سفر صموئيل الثاني تحت مجهر البحث العلمي الموضوعي المتحرر من سلطة النص التوراتي؛ يقول المؤرخ المعروف توماس ل. تومبسون في كتابه الجديد الصادر عام ١٩٩٩م تحت عنوان: The Bible in History:
«لقد تم تقديم القرن العاشر إلينا تقليديًّا باعتباره العصر الذهبي لإسرائيل القديمة وعاصمتها أورشليم؛ كما جرى التحدث عن مملكة موحَّدة تحت قيادة شاؤل فداود فسليمان، بسطت سلطتها على مساحة جغرافية واسعة امتدت من النيل إلى الفرات. ولكن مثل هذه التصورات لا مكان لها من الواقع، عندما نأتي لدراسة ووصف حقيقة ما جرى في الماضي؛ لأنها غير موجودة خارج السياق القصصي التوراتي. وما نعرفه عن القصص التوراتي لا يشجعنا البتة على التعامل معها باعتبارها تاريخًا. إننا لا نملك بينةً على قيام مملكة موحدة، ولا على عاصمة في أورشليم، ولا على وجود تنظيم سياسي قوي تحكَّم في مناطق فلسطين الغربية؛ ناهيك عن إمبراطورية كتلك التي تصفها لنا الملاحم التوراتية. كما أننا لا نملك بينةً على وجود الملوك الثلاثة؛ شاؤل وداود وسليمان، ولا على هيكل ديني كبير في أورشليم خلال تلك الفترة، ومن ناحية أخرى، فإن ما نعرفه عن يهوذا وإسرائيل خلال القرن العاشر قبل الميلاد؛ لا يترك مجالًا لتلك التصورات، ولا يسوِّغ لنا أن نفسر نقص البيِّنات والشواهد باعتباره فجوةً يمكن ردمها في معلوماتنا عن الماضي، أو باعتباره نتاجًا للصدفة في تحرياتنا الأثرية. إننا لا نستطيع التحدث عن دولة بدون سكان ولا عن عاصمة بدون مدينة.»١٤

فإذا كان داود ليس إلا شبحًا تاريخيًّا لم يعد يؤرق سوى بعض الحلقات الأكاديمية المحافظة، فإن أورشليم داود هي شبح أركيولوجي، لا يجرؤ اليوم أيُّ آثاريٍّ مرموق التحدث عنها كعاصمة لمملكة مترامية الأطراف؛ دون أن يغامر بسمعته العلمية.

١  د. علي أبو عساف: الآراميون، دار أماني، طرطوس، سورية ١٩٨٢م، ص٧٣.
٢  Ibid., p. 89.
٣  John Bright, A History of Israel, pp. 200, 207, 210, Cited in: Whitelam, Inventing Ancient Israekl, p. 126.
٤  M. Noth, A History of Israel, London 1960, Cited in: K. Whitelam, op. cit., p. 138.
٥  S. Herrmann, A History of Israel, London 1975, Cited in: K. Whitelam, op. cit., pp. 143–145.
٦  G. Von Rad, The Problem of Hexateuch, Edinburgh 1965, Cited in: K. Whitelam op. cit., p. 144.
٧  Leo Oppenheim, Assyrian and Babylonian Historical Texts, In: J. Pritchard’s Ancient Near Eastern Texts, p. 275.
٨  K. Kenyon, Archaeology in the Holy Land, p. 237.
٩  Th. L. Thompson, Early History of the Israelite People, end note p. 58.
١٠  من أجل أرقام المساحة المدونة هنا، انظر المراجع التالية:
  • (أ)
    مساحة حبوبة الصغرى وتل براك وإيبلا وماري وقصر ماري وقطنة: H. Weiss, 1985، الصفحات ٨٥–٨٩ و١٣٢ و١٩٣ و١٩٥.
  • (ب)
    مساحة أريحا ١٩٨٥م K. Kenyon، ص٢٨.
  • (جـ)
    مساحة حاصور K. Kenyon، ص٥٥.
١١  K. Kenyon, Digging Up Jerusalem, pp. 99–104.
١٢  K. Kenyon, The Bible and Recent Archaeology, p. 52.
١٣  B. Mazar, The Bull Site, 1984, cited in: K. Whitelam, Inventing Ancient Israel, pp. 164-165.
١٤  Thomas, L. Thompson, The Bible in History, p. 164.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤