الفصل الخامس

ثقافة فلسطين في القرن العاشر

تقول كاثلين كينيون في كتابها أركيولوجيا الأرض المقدسة: «القد عاشت المملكة الموحدة لإسرائيل حوالي قرن من الزمان، وكانت هذه هي الفترة الوحيدة التي كان لليهود فيها كيان سياسي قوي في آسيا الغربية، لقد وصفت أسفار التوراة، وبشكل احتفالي، مجد المملكة الموحدة، وبقيت ذكراها مؤثرة على الأفكار والتطلعات اليهودية عبر العصور، ومع ذلك فإن الشواهد الأركيولوجية عن هذه المملكة ضئيلة إلى حد كبير.»١

إن تعبير «يهود» الذي تستخدمه كينيون في وصف شعب العهد القديم، في تلك الفترة من مراحل الرواية التوراتية، هو تعبير خاطئ؛ فاليهود هم حصرًا بقيةُ سَبْي يهوذا الذين عادوا إلى أورشليم في أواخر القرن السادس ق.م.، وشكلوا القاعدة السكانية للمقاطعة الصغيرة التي أنشأها الفرس على مساحة ضئيلة من أراضي مملكة يهوذا البائدة، ودعَوها بمقاطعة «يهود» اشتقاقًا من الاسم القديم للمملكة. في هذه المقاطعة، تحديدًا، والتي تضم مدينة أورشليم ومساحةً صغيرة حولها، قام كهنوت أورشليم بتدوين أسفار التوراة خلال الفترة الواقعة بين القرن الخامس والقرن الثاني قبل الميلاد، وهنا نشأت وتطورت الديانة المدعوة بالديانة اليهودية. فتعبير يهود أو يهودي هو صفة إثنية مثلما هو صفة دينية أيضًا، ويدل على فردٍ أو جماعة من سكان مقاطعة يهود، أو من أهل الديانة اليهودية. ولقد كان محررو أسفار التوراة مدركين لهذه الحقيقة، ولم يستخدموا سوى صفة إسرائيلي وإسرائيليين، أو عبراني وعبرانيين، وفي سردهم للأخبار السابقة على السبي الآشوري لأهل مملكة إسرائيل السامرة، والسبي البابلي لمملكة يهوذا.

إن أي معتقَد ديني، بالغًا ما بلغت بدائيتُه، يترك آثارًا تدل عليه. ونحن الآن نستطيع تلمُّس الخطوط العامة لمعتقدات وطقوس إنسان العصور الحجرية؛ اعتمادًا على ما تركه من بقايا مدافن ومن تماثيل صغيرة وأمكنة عبادة بسيطة. أما معتقدات الثقافات العليا فتعلن عن نفسها فيما تركته لنا من أناشيد دينية وصلوات، إضافة إلى الآثار المادية المتجسدة في الفنون التشكيلية وفي المعابد والهياكل والمقامات الدينية. ولكننا حتى الآن لا نستطيع تلمُّس أي أثر للمعتقد التوراتي خلال الفترة المفترضة لتوطن العبرانيين في المناطق الهضبية الفلسطينية (١٢٠٠–١٠٠٠ق.م.)، وخلال الفترة المفترضة للمملكة الموحدة (القرن العاشر ق.م.). فالنصوص الكتابية مفقودة تمامًا، وكذلك الشواهد الأركيولوجية. فهل يُعقل أن شعبًا كثير العدد قد حل في الهضاب الفلسطينية مدة قرنين من الزمان، وبنى لنفسه مملكة كبرى بعد ذلك دامت حوالي قرن تقريبًا، وضمت إليها معظم المناطق الفلسطينية، لم يترك لنا أثرًا واحدًا يدل على ثقافته الدينية؟

تجيب السيدة كينيون على هذا التساؤل بطريقة غير مباشرة، عندما تصف لنا معابد الخصب الكنعانية في مختلف المواقع التي يُفترض انضواؤها تحت سلطة المملكة الموحدة، وعن رموز آلهة الخصب التقليدية التي تم العثور عليها في كل مكان في المستويات الأركيولوجية العائدة إلى القرن العاشر قبل الميلاد، وهي تختم وصْفها لمعابد موقعي لخيش (في سهل شفلح) وبيت شان (في وادي يزرعيل) بقولها: «إن استمرار هذه المعابد مستخدَمةً في القرن العاشر وما بعده يشكِّل واحدًا من أهم المظاهر الشاذة في مملكة يُفترض أن دينها يتركز حول عبادة الإله يهوه وحده.»٢ وتقول بعد وصفها لمعابد كنعانية في مواقع أخرى بأن الديانة القومية للمملكة كانت تلقى منافسة من قِبَل عبادات الخصب القديمة والمتأصلة، والتي كان يشجعها، ولا شك، قَبول البلاط الملكي لعبادات الثقافة الكنعانية.٣
ويقول الأركيولوجي الهولندي H. Franken، في مسألة غياب الشواهد الآثارية على وجود الجماعات الإسرائيلية التي شكلت المملكة الموحدة، ما يلي: «إذا وضعنا النص التوراتي جانبًا، فإن علم الآثار لم يتوفر لديه سبب واحد يدفعه إلى القول بوصول شعب جديد إلى فلسطين، تحول إلى أمة مع نهاية القرن الحادي عشر قبل الميلاد … إنه لمن المتعذِّر على تقنيات علم الآثار أن تكتشف الشواهد على وصول جماعات إثنية جديدة إلى مكان جغرافيٍّ ما، إذا لم تترك هذه الجماعات مخلفات ماديةً تدل عليها، متميزة عن المخلفات المادية للجماعات الأصلية التي حلَّت بين ظهرانيها أو حلَّت محلها. وهذا ما لم نستطع التوصل إليه فيما يتعلق بالجماعات العبرانية … إن العنصر الثقافي الوحيد الذي يمكن أن نعزوه، بأية درجة من الثقة، للجماعات العبرانية، هو ديانتها المتميزة، ولكن هذا العنصر قد بقي حتى الآن غير واضح من الناحية الأركيولوجية، ولا يوجد ما يدل عليه.»٤
أما بخصوص هيكل سليمان، فقد قدمنا في الفصل السابق كل الدلائل التي تنفي أن يكون قد بُني في القرن العاشر قبل الميلاد، ورجحنا أن هيكلًا في أورشليم قد بُني في عصر مملكة يهوذا، ربما فيما بين القرن الثامن والقرن السابع قبل الميلاد، عندما تحولت أورشليم إلى عاصمة إقليمية قوية لأول مرة في تاريخها. وعلى أية حال فسواء بني هيكل أورشليم في القرن العاشر أم في القرن الثامن، فإن إعادة تصوره على الورق اعتمادًا على وصفه الوارد في سفر الملوك الأول وبعض مقاطع من سفر حزقيال، تضع أمامنا مخططًا لمعبد سوري تقليدي، من المعابد المكرسة لألوهة الخصب، والتي شاع بناؤها في بلاد الشام فيما بين أواسط الألف الثاني وأواسط الألف الأول قبل الميلاد. يُعرف هذا المخطط لدى بعض علماء الآثار بنمط المعبد السوري التناظري Syrian Symetrical Temple Type٥ (انظر المخطط في الشكل رقم ٥-١)، وهو يتألف من:
fig12
شكل ٥-١: مخطط معبد سليمان ونظائره في حاصور وتل الطعينات.
  • (١)

    باحة سماوية.

  • (٢)

    مدخل مفتوح على الباحة، عن يمينه ويساره عمودان يحملان سقف المدخل.

  • (٣)

    القاعة الرئيسية. وقد تسبقها قاعة خارجية تلي المدخل المفتوح مباشرة.

  • (٤)

    المحراب، أو قدس الأقداس، وهو عبارة عن قاعة داخلية ترتفع قليلًا عن الأرضية، ويفصلها عن القاعة الرئيسية حجاب. في جدارها الجبهي ينتصب تمثال الإله، أو الحجر المقدس الذي يرمز إليه.

وقد كشفت التنقيبات في بلاد الشام حتى الآن عن أكثر من عشرين معبدًا بُني وفق هذا المخطط، في مواقع مثل: تل الطعينات وألالاخ في حوض العاصي الشمالي، وعين دارا إلى الشمال الغربي من حلب، وكركميش على الفرات الأعلى، ومجدو وحاصور وشكيم وبيت شان بفلسطين.

يُبدي موقع تل الطعينات بشكل خاص شبهًا واضحًا بهيكل سليمان، كما هو واضح من المخططَين في الشكل رقم ٥-١. وكذلك معبد عين دارا،٦ الذي قاد مخططه الموضح في الشكل رقم ٥-٢، إلى حل بعض الألغاز في وصف هيكل سليمان، وخصوصًا الرواق الخارجي المحيط به، والذي يتألف قسمه الأعلى من طابق أو أكثر يحتوي على غرف علوية جانبية. فقد ورد في سفر الملوك الأول ٦ : ٥ المقطع التالي: «وبنى مع حائط البيت طباقًا حواليه، مع حيطان البيت، حول الهيكل والمحراب، وعمل غرفات في مستديرها.» لقد بقي مدلول هذا المقطع غامضًا حتى اكتشاف معبد عين دارا المكرس للإله بعل هدد. فالطباق المذكور هنا والغرف التي في مستديره؛ هو نفس الرواق الخارجي لمعبد عين دارا، والذي تدل سماكة جداره الخارجي على أنه كان يحمل طابقًا علويًّا أو أكثر يحتوي على غرف لا نستطيع سوى التكهن بوظيفتها. إضافة إلى هذه السمة المشتركة بين المعبدين، فإن الباحث John Manson، بعد دراسته التفصيلية لمعبد عين دارا، يقول بأن ٣٣ تفصيلًا من أصل ٦٥ تفصيلًا مذكورًا في وصف هيكل سليمان تتطابق مع مخطط وديكورات ومنحوتات معيد عين دارا.٧
fig13
شكل ٥-٢: معبد عين دارا في الشمال السوري.

إن المعلومات الأركيولوجية من القرن العاشر واضحة الرسالة. وهي تقول لنا بأن ثقافة فلسطين خلال القرن العاشر وما بعده، لم تكن إلا امتدادًا طبيعيًّا للثقافة السورية، وأن ديانة فلسطين، بما فيها المناطق الهضبية، لم تكن إلا ديانة سورية تقليدية لا أثر فيها للمعتقد التوراتي الذي صاغه كهَنة يهوذا بعد السَّبْي، وخلال الفترة المعروفة بفترة الهيكل الثاني، أما الثقافة المدعوة بالإسرائيلية، والتي يُفترض أن القبائل العبرانية قد جاءت بها من الخارج، فلا يوجد في أرض فلسطين ما يدل عليها على كل صعيد. وفي الحقيقة فإننا لا نستطيع إطلاق الاسم إسرائيل، ولا صفة الإسرائيلي، إلا على الدويلة الصغيرة التي قامت في منطقة الهضاب المركزية منذ مطلع القرن التاسع قبل الميلاد، عقب بناء مدينة السامرة على يد الملك عُمري، مؤسس مملكة السامرة، أو مملكة إسرائيل.

يقول أبرز علماء الآثار في الكيان الصهيوني اليوم، وهو إ. فنكلشتاين، في بحث قدَّمه أمام ندوة عقدتها جامعة بن غوريون عام ١٩٩٨م حول أصول إسرائيل، بأن كتاب التوراة قد فقدَ اليوم أهميته بوصفه مصدرًا تاريخيًّا، وخصوصًا فيما يتعلق بأصول إسرائيل ومسألة المملكة الموحدة، فهذا الكتاب هو وثيقة متأخرة جدًّا كُتبت فصولها الأولى في القرن السابع وَفق أبكر التقديرات، ومن خلال منظور لاهوتي وأيديولوجي وسياسي. من هنا، فإن البحث عن الأساس التاريخي الكامن وراء الرواية التوراتية هو مهمة صعبة للغاية، هذا إذا كانت عملية ممكنة من حيث الأساس. إن البحث عن أصول إسرائيل في المناطق الهضبية الفلسطينية يجب أن يعتمد على المعلومات الأركيولوجية وحدها، وهذه المعلومات تجعل من الصعب علينا التحدث عن «إسرائيل» إلا عندما نأتي إلى ما بعد الفترة المفترضة للمملكة الموحدة، عندما ظهرت مملكتا إسرائيل ويهوذا إلى الوجود، فمملكة داود وسليمان ربما لم يكن لها وجود، وإذا وُجدت فقد كانت أبعد ما تكون عن هيكلية المملكة الحقيقية.٨

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: إذا لم تكن المناطق الهضبية في فلسطين قد شهدت خلال القرن العاشر قيام مملكة موحدة، كانت من القوة بحيث استطاعت أن تضم إليها معظم مناطق فلسطين الكبرى، فما الذي كان يجري على مسرح التاريخ خلال حقبة القرن العاشر؟ وكيف نشأت مملكتا إسرائيل ويهوذا المعروفتان لنا تاريخيًّا؟

لكي نجيب على هذا السؤال سوف نعود القهقرى في الزمن إلى بدايات التاريخ الفلسطيني في عصر البرونز المبكر (الألف الثالث قبل الميلاد)، ثم نهبط تدريجيًّا إلى عصر البرونز الوسيط (١٩٥٠–١٥٥٠ق.م.) فعصر البرونز الأخير (١٥٥٠–١٢٠٠ق.م.) فعصر الحديد الأول (١٢٠٠–١٠٠٠ق.م.)، وهو الفترة التي يُفترض أن القبائل العبرانية قد توطنت خلالها في المناطق الهضبية الفلسطينية قبل تشكيل المملكة الموحدة في القرن العاشر.

ونحن ما زلنا نبحث عن مملكة اليهود في فلسطين.

١  Kathleen Kenyon, Archaeology in the Holy Land, p. 233.
٢  K. Kenyon, Royal Cities of the Old Testament, p. 70.
٣  K. Kenyon, Archaeology in the Holy Land, p. 254.
٤  انظر مساهمة فرانكن في موسوعة كامبريدج للتاريخ القديم:
The Cambridge Ancient History, part 2. Vol. 2, pp. 331–337.
٥  انظر مقالة الأركيولوجي فولكمان فريتز:
Volkman Frits, What Archaeology Tells Us About Solomon’s Temple, In: Biblical Archaeology Review, July-August, 1987.
٦  يقع معبد عين دارا على مسافة ٥٠ كم إلى الشمال الغربي من مدينة حلب، ويمكن للسائح الوصول إليه بسهولة بعد زيارته لقلعة سمعان المعروفة.
٧  John Manson, Ain Dara Temple, In: Biblical Archaeology Review, May-June, 2000.
٨  انظر وقائع الندوة كما عرضها هيرشل شانكس:
Hershel Shanks, No History in the Bible? In: Biblical Archaeology Review, May-June, 2000.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤