الفصل السادس

عودة إلى الوراء

(١) فلسطين في عصور البرونز

(١) عصر البرونز المبكر

تشير الشواهد الأركيولوجية واللغوية اليوم إلى أن المنطقة السورية والواقعة بين الفرات شرقًا والبحر المتوسط غربًا، وبين جبال طوروس شمالًا وأطراف الصحراء العربية جنوبًا، كانت مسكونة بشعوب تتكلم اللغة السامية منذ أواخر الألف الرابع قبل الميلاد. إن أقدم المدن التي تعود مستوياتها الأركيولوجية الأولى إلى هذه الفترة، تحمل أسماء سامية موثقة في نصوص تعود إلى مطالع الألف الثاني قبل الميلاد، مثل أريحا وبيت شان وبيت يارح ومجدو وعكا وصيدون وسيميرا وأوغاريت وغيرها. وبما أن التاريخ قد علَّمنا أن أسماء المدن تنحو إلى الثبات والاستقرار عبر عشرات القرون، فإننا نعتقد شبه جازمين بأن مدن بلاد الشام التي حملت أسماء سامية في مطالع الألف الثاني قبل الميلاد، كانت تحمل الأسماء ذاتها في الألف الرابع قبل الميلاد، على أقل تقدير، وأن من أسَّسها وأطلق عليها أسماءها هم أقوام تتكلم لهجات سامية متقاربة. فسكان هذه المنطقة، والحالة هذه، هم أصيلون في مواطنهم الشامية ولم يَفِدوا إليها من خارجها، على ما تقول به نظرية الهجرات السامية من جزيرة العرب، كما أن لغتهم التي ندعوها اليوم بالسامية الغربية قد تطورت في المنطقة السورية ولم يَجرِ استيرادها من الخارج.

أطلق المؤرخون المحدثون اسم الكنعانيين على سكان بلاد الشام خلال الألف الثالث قبل الميلاد، واقتصرت التسمية لديهم على سكان المناطق الساحلية مما يلي أوغاريت جنوبًا، مع بعض الامتدادات الداخلية، كما هو الحال في فلسطين خلال الألف الثاني قبل الميلاد. أما في الألف الأول فقد اقتصرت التسمية على سكان الساحل اللبناني، من أرواد إلى رأس الناقوة، واستُخدمت تبادليًّا مع اسم الفينيقيين، وفي الحقيقة فإن الاسم كنعان غير موثق لدينا في نصوص الألف الثالث قبل الميلاد للدلالة على سكان بلاد الشام، ولكن اعتبارًا من أواسط الألف الثاني قبل الميلاد تبدأ النصوص المصرية بإطلاق الاسم على مناطق فلسطين والساحل السوري الجنوبي مستخدمة صيغة بي–كنعان. ولدينا نصوص قليلة سورية تشير إلى بعض مناطق الساحل السوري بالاسم كنعان، مثل نص إدريمي ملك ألالاخ في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وفي كتاب التوراة أطلق المحررون الاسم على سكان فلسطين تمييزًا لهم عن العبرانيين الذين حلُّوا بين ظهرانيهم. وفي العصر الهيلينستي ترد التسمية على النقود المصكوكة في بعض مدن الساحل الفينيقي، وفي إنجيل متى يُطلق المؤلف صفة كنعاني على سكان مناطق فينيقيا التقليدية في صيدا وصور (متى ١٥: ٢١–٢٢).

شهدت الفترة الانتقالية من الألف الرابع إلى الألف الثالث قبل الميلاد، في كل من سورية ومصر وبلاد الرافدين الجنوبي، نشوءَ ثقافة المدينة التي قامت على الخلفية العامة للعصر الحجري الحديث (النيوليتي) وظهرت أولى المدن الحقيقية في تاريخ الحضارة الإنسانية. كما تشكلت في هذه المناطق كيانات سياسية مركبة ومتطورة، تراوحت في التعقيد من دولة المدينة في كلٍّ من سورية ووادي الرافدين الجنوبي، إلى المملكة الكبرى التي تشتمل على بيئة طبيعية بأكملها كما هو الحال في مصر.

لقد ساعد المناخ الرطب والمطير، الذي ميَّز الألف الرابع قبل الميلاد، المنطقة السورية على تطوير اقتصاد زراعي متقدم يتجاوز الاقتصاد البدائي للعصر النيوليتي، وأدى فيض المحاصيل إلى نشوء حاجة إلى الإدارة المركزية التي تنظم وترشِّد عمليات تسويق المنتجات الوفيرة في السهول الداخلية الواسعة، مثل سهول حلب والجزيرة؛ الأمر الذي قاد إلى نشوء سلسلة من المدن الأولى في منطقة الجزيرة وحوض الخابور، بدأت التنقيبات الحديثة بالكشف عن طلائعها منذ وقت قريب. ففي عام ١٩٩٩م أعلنت البعثة الأوربية المشتركة العاملة في الموقع تل حموكار بمنطقة الحسكة، عن اكتشاف مدينة تعود إلى أواسط الألف الرابع قبل الميلاد، تبلغ مساحتها ٢٥ هكتارًا، ويحيط بها سور متراسي هائل، وقد أحدث هذا الاكتشاف ثورة في معلوماتنا الأركيولوجية، وأرجع تاريخ الثورة المدينية إلى الألف الرابع قبل الميلاد، بعد أن اعتقدنا لفترة من الزمن بأن المدن الأولى قد ظهرت لأول مرة في تاريخ الحضارة الإنسانية في وادي الرافدين الجنوبي (منطقة سومر) مع مطلع الألف الثالث قبل الميلاد. وبما أن هذه المدينة لا يمكن أن تكون قد نشأت منفردة، وإنما في سياق نهضة مدينية شاملة في المنطقة السورية، فإني أعتقد جازمًا بأن سلسلة من المدن المعاصرة لها سوف تخرج من تحت مئات التلال الأثرية التي ما زالت تنتظر معاول التنقيب في منطقة الجزيرة وحوض الفرات.

لم يعطنا موقع تل حموكار رُقمًا طينية، ولكن مثل هذه الرُّقم قد بدأت بالظهور منذ مطلع الألف الثالث في كلٍّ من وادي الرافدين ووادي النيل، وصار بإمكان علم التاريخ الاعتمادُ على هذه الوثائق الخطية في عملية استقصاء أحداث ماضي هذه المنطقة، ثم ما لبثت الوثائق الخطية حتى ظهرت في موقع مدينة إيبلا في الشمال السوري، عندما تم في أواسط سبعينيات القرن العشرين اكتشاف مكتبة في القصر الملكي تحتوي على ٧٠٠٠٠ رقيم فخاري، نُقشت عليها بالمسمارية، المعروفة في وادي الرافدين، موضوعاتٌ تجارية وسياسية ودينية وطقسية شتى.

أما في فلسطين التي كانت منطقة رائدة من مناطق ثقافة العصر الحجري الحديث، فقد تأخر ظهور المدن حتى الفترة الانتقالية بين الألف الثالث والألف الثاني قبل الميلاد، ولكن هذه المدن قد بقيت طيلة الألف الثاني أقرب إلى القرى المسوَّرة منها إلى المدن الحقيقية، ولم تبلغ في أي وقت من الأوقات مستوى المدن السورية؛ إضافةً إلى بقائها في وضع متلقي التأثيرات الحضارية لا في وضع المشعِّ لها. ولعل السبب راجع بالدرجة الأولى إلى تنوع البيئات الطبيعية هنا، وانعزال بعضها عن بعض، وهذا ما لا يشجع ظهور مراكز حضرية كبيرة تعمل على تنظيم الشئون الاقتصادية والاجتماعية لبيئة واحدة متجانسة تضم أعدادًا كبيرة من القرى والبلدات الصغيرة التي تشعر بالحاجة إلى التقارب والتعاون. ففي الوقت الذي شهد فيه الألف الثالث قيام ممالك كبرى في المناطق المجاورة، بقيت فلسطين مؤلفةً من قرًى صغيرة يتراوح عدد سكانها من بضع عشرات إلى بضع مئات، وربما تطور بعض هذه القرى لتصبح بلداتٍ مسوَّرةً تضم الواحدة منها ألفين أو أكثر. ورغم أن هذه المواقع الأولى قد طورت ما ندعوه الآن بالاقتصاد المتوسطي، الذي يقوم على زراعة الكرمة والزيتون والأشجار المثمرة، إلا أن وسائل تحصيل المعاش لديها كان متنوعًا بتنوع بيئاتها ومناطقها الجغرافية، وقربها من مصادر المياه، والمعدلات السنوية لهطول المطر فيها. بلغت كثافة السكان أعلى نسبة لها في وادي يزرعيل الخصيب، يليه مناطق السهل الساحلي (سهل شارون وسهل فلستيا)، فمنطقة الهضاب الحساسة للجفاف بسبب انخفاض معدلاتها المطرية، فصحراء النقب.

ورغم أن الكتابة قد ظهرت في كلٍّ من سومر ومصر منذ مطلع الألف الثالث قبل الميلاد، وفي سورية الشمالية (إيبلا) منذ أواسط الألف الثالث، إلا أن ظهورها في فلسطين قد تأخر، على ما يبدو، حتى أواسط الألف الثاني، ولم يُكتشف منها إلا وثائقُ قليلة ومبعثَرة إلى درجة يُرثى لها. من هنا، فإننا مضطرون في كتابة تاريخ فلسطين إلى الاعتماد على علم الآثار ونتائجه الصامتة، وعلى دراسة الوثائق المكتوبة للحضارات المجاورة. فقد بدأ اهتمام مصر جديًّا بمنطقة فلسطين منذ عصر الأسرة الحديثة، عندما بسط فراعنة الأسرة الثامنة عشرة سلطتهم على طرق التجارة في فلسطين وسورية الجنوبية، منذ عهد تحوتمس الثالث (١٤٩٠–١٤٣٦ق.م.)، وأخذوا بتوثيق حملاتهم العسكرية في نصوص مفصلة وطويلة. كما بدأ الآشوريون من جانبهم بالتوثيق الدقيق لحملاتهم على مناطق غربي الفرات منذ مطلع الألف الأول قبل الميلاد، وأعطتنا السجلات الآشورية معلومات تفصيلية عن فلسطين وأوضاعها السياسية.

انعكست حياة الاستقرار التي عاشها سكان فلسطين في بيئاتهم المنعزلة على التكوين السياسي للمنطقة. فقد كانت فلسطين خلال عصر البرونز المبكر (الألف الثالث قبل الميلاد) تتألف من قرًى صغيرة وبلدات مسوَّرة ذات تنظيم مدني بسيط، وكانت كل بلدة تبسط حمايتها على عدد صغير من القرى المحيطة بها. أما السلطة في هذه البلدات فكانت بيد حكام محليين هم بمثابة مشايخ يتوارثون الحكم بسبب ثرواتهم العائلية ومِلكياتهم للأراضي وقطعان الماشية، في ظل مثل هذا النظام السياسي البدائي، الذي يفتقر إلى مراكز حضرية كبرى ذات تنظيم مدني وسياسي متطور، وإلى بيروقراطية متعلمة ومتفرغة لشئون الحكم والإدارة، كان من الصعب على أية مدينة فلسطينية فرْض سلطتها على مدن أخرى، وخلْق أي شكل من أشكال الوحدة المحلية أو الإقليمية، وذلك رغم وجود مراتبية معترف بها ضمن شبكة المشيخات الحاكمة، لم تترجم أبدًا إلى واقع سياسي على الأرض.

على أن تنوع البيئات وعزلتها عن بعضها لم يكن يعني الاكتفاء الذاتي لكل بيئة، بل لقد عملت التجارة المحلية على ربط البيئات وتواصلها، ففي الوقت الذي يدعو التنوع البيئي إلى تنوع في الإنتاج الزراعي والحرفي، فإنه يدعو أيضًا إلى طلب التكامل الاقتصادي عبر التبادل التجاري. فلقد بادل مربو الماشية منتجاتهم مع مزارعي الحبوب، وبادل مزارعو الحبوب منتجاتهم مع أهل البستنة، وبادل حِرفيُّو المدن بضائعهم مع البقية. وهكذا راجت بضائع التبادل النقدي، وعلى رأسها الصوف ومنتجات الحليب والزيت والخمور.

ورغم أن التجارة الدولية لم تكن قد نشِطت على نطاق واسع خلال عصر البرونز المبكر، إلا أن طرق التجارة كانت قد شقت طريقها على المناطق الحدودية من فلسطين والممرات الطبيعية الدولية، متفادية مناطق الهضاب الوعرة، واتخذت لها مسالك ثابتة بقيت على حالها حتى نهاية العصور القديمة. وكانت الحركة تنشط على هذه المسالك أو تهدأ تبعًا للأحوال المناخية والاقتصادية والأمنية. ورغم وجود شبكة طرق تجارية محلية ربطت البيئات الطبيعية في فلسطين، إلا أن التجارة الدولية قد اقتصرت على ثلاثة طرق رئيسية (انظر الخريطة في الشكل رقم ٦-١)، وهذه الطرق هي:
fig14
شكل ٦-١: طرق التجارة الدولية طريق البحر وطريق الملوك.
  • (١)

    الطريق الساحلي: ويدعوه المصريون بطريق حوروس. وهو ينطلق من منطقة الدلتا الشرقية، فيقطع الزاوية الشمالية الغربية من سيناء إلى غزة على البحر المتوسط، ثم يصعد بمحاذاة الساحل ليمر بأشقلون (عسقلان) وأشدود. وعند يافا يتجه غربًا نحو أفيق، ثم يتابع مسيرته الساحلية شمالًا نحو مجدو عند مدخل وادي يزرعيل، ليتفرع بعد ذلك إلى ثلاثة فروع؛ ففرع يتابع مسيرته الساحلية شمالًا نحو مدن فينيقيا، ومنها إلى سيميرا فأوغاريت فالمناطق الساحلية لآسيا الصغرى، وفرع يعبر وادي يزرعيل بين هضاب السامرة ومرتفعات الجليل نحو الضفة الشرقية للأردن؛ حيث يتصل بطريق الملوك، وصولًا إلى دمشق، وفرع يصعد مرتفعات الجليل نحو حاصور، ومن هناك ينقسم إلى فرعين: واحد يتجه شرقًا ليصل دمشق، والثاني يتابع طريقه شمالًا عبر وادي البقاع باتجاه حلب وما وراءها.

  • (٢)

    طريق الملوك: ينطلق من وادي النيل قبل تفرع النهر متجهًا شرقًا عبر صحراء سيناء، فيمر من وادي فيران إلى منطقة دير القديسة كاترينا، ومنه إلى خليج العقبة. بعد العقبة يتجه شمالًا فيعبر إدوم ومؤاب وعمون، فالجولان وصولًا إلى دمشق التي كانت عقدة مواصلات المنطقة السورية، وبذلك يؤمِّن هذا الطريق لمصر صلتها مع مناجم النحاس في سيناء، ومع تجارة شبه الجزيرة التي تأتي في طريق يصعد من اليمن ويمر بمكة ويثرب قبل أن يلتقي بطريق الملوك.

  • (٣)

    الطريق الصحراوي: ينطلق من الدلتا الشرقية لينقطع شمال سيناء ليصل إلى واحة قادش برنيع، ومنها إلى أرد، ثم يأخذ مسيرته شمالًا في وادي الأردن نحو بيت شان؛ حيث يتصل بالشبكة الرئيسية.

إن المناخ الرطب والمطير الذي ساد منطقة شرقي المتوسط خلال الألف الرابع ومطلع الثالث؛ قد ساعد على تطوير اقتصاد تميَّز بوفرة المحاصيل الزراعية التي راحت تُدفع على طرق التجارة المحلية والدولية. وقد وصلت حركة التبادل التجاري أوْجَها في منتصف الألف الثالث، فارتبطت الشبكة التجارية المحلية الفلسطينية بالشبكة الدولية، وصارت زيوت وخمور فلسطين تصل بانتظام إلى مصر ووادي الرافدين. خلال هذه الفترة المزدهرة ظهرت معظم المدن الفلسطينية المعروفة لنا من الفترات اللاحقة، وانتقلت من مستوى القرية إلى مستوى البلدة المسورة، من هذه المدن التي نشأت في عصر البرونز المبكر والوسيط:

  • (١)

    على الساحل والسهل الساحلي: غزة، وأشقلون، وأشدود، وجت، وعقرون، ويافا، ودور، وعكا.

  • (٢)

    في سهل شفلح (التلال المنخفضة): جرار، ولخيش، وبيت شميش، وجازر، وأفيق، وعجلون.

  • (٣)

    الهضاب المركزية: شكيم، وشلوة، وترصة.

  • (٤)

    مرتفعات يهوذا: أورشليم، وبيت لحم، وجبعون، وحبرون، وبئر السبع.

  • (٥)

    مرتفعات الكرمل: حاصور.

  • (٦)

    غور الأردن: أريحا، وعين جدي، وعاي.

  • (٧)

    وادي يزرعيل: مجدو، ويزرعيل، وتعنك، وبيت شان.

(١-١) الفترة الانتقالية وظهور الأموريين

منذ أواسط الألف الثالث قبل الميلاد، أخذ المناخ في منطقة شرقي المتوسط يميل تدريجيًّا نحو الجفاف، وبدأت الأوضاع المزدهرة للبيئات السورية بالتدهور، وخصوصًا في فلسطين التي تقل معدلات أمطارها، من حيث الأصل، عن بقية معدلات البيئات السورية. وقد بلغ الجفاف أوْجَه خلال القرنين الأخيرين من الألف الثالث، وأدى إلى انهيار الحياة الاقتصادية، وزعزعة البنى الاجتماعية والسياسية، وذلك من وادي النيل إلى وادي الرافدين. ففي مصر انخفض منسوب مياه نهر النيل بشكل حاد؛ مما أدى إلى تدمير الحياة الزراعية، وفوضى اجتماعية، وثورات، وانقسامات سياسية، قادت في النهاية إلى سقوط الأسرة السادسة وانهيار المملكة القديمة، وحلول الفترة التي يدْعوها المؤرخون بالفترة المعترضة الأولى في التاريخ المصري. وقد تزامن انهيار المملكة القديمة في مصر مع انهيار المملكة الأكادية في بلاد الرافدين، فسقطت بابل بيد البرابرة الغوتيين المنحدرين من الجبال الشرقية. وفي بلاد الشام انهارت الحاضرة السورية الكبرى إيبلا، ثم تبعتها بقية حواضر الألف الثالث التي وقعت تحت سلطة القبائل السامية الأمورية التي أسست لأسر حاكمة قوية في ماري وحلب وقطنة، وغيرها.

أما في فلسطين، فإن الشواهد الأثرية من الفترة الانتقالية تشير إلى حصول نقص متسارع في عدد السكان بلغ حده الأدنى حوالي عام ٢٠٠٠ق.م. فقد تم هجر المناطق الحساسة للجفاف أولًا، مثل الهضاب المركزية والجليل ومرتفعات يهوذا، ثم طالت الكارثة المناطق الخصبة المطيرة مثل وادي يزرعيل والسهول الساحلية، وتحول القسم الأعظم من سكان المناطق الزراعية إلى حياة الرعي المتنقل. كما تَرافَق هذا الفراغ السكاني مع دمار للمدن الرئيسية وانقطاع في السكن دام أكثر من قرن. وفي نفس الوقت كانت وثائق وادي الرافدين تعطينا معلومات عن تواجد مكثف للقبائل الرعوية الجائعة على ضفاف الفرات، أشير إليها باسم الأموريين، أي أهل الغرب.

وقد قامت السيدة كاثلين كينيون بدراسة آثار الدمار في عدد كبير من المدن الفلسطينية خلال هذه الفترة الانتقالية، ولاحظت وجود آثار مادية على أطراف المدن المدمرة، لجماعات رعوية لا تنتمي إلى ثقافة عصر البرونز المبكر على ما تدل عليه مخلفاتهم المادية، مثل الأدوات الفخارية والأسلحة وبقايا المدافن وغيرها. فجميع هذه المخلفات تشير إلى نمط حياة رعوي وتنظيم سياسي بسيط يقوم على الزعامات القبلية. وقد عاش هؤلاء في مخيمات على محيط المدن المهجورة والمهدمة، مدة طويلة قبل أن يبدءوا ببناء بيوت بسيطة تختلف جذريًّا عن عمارة عصر البرونز المبكر، كما بقيت مواقعهم المبنية تلك بدون أسوار أو تحصينات، خلال كامل الفترة الانتقالية، وصولًا إلى مطالع عصر البرونز الوسيط، ثم ما لبث هؤلاء حتى ذابوا في ثقافة عصر البرونز الوسيط دون أن يتركوا أثرًا يُذكر. وقد استنتجت كينيون (اعتمادًا على نظرية الهجرة الأمورية من شبه الجزيرة العربية، التي تعزو نهاية ثقافة عصر البرونز إلى غزوات الأموريين) بأن هذه الجماعات هي شرائح أمورية دمرت المدن الفلسطينية ثم عاشت على أطرافها زمنًا طويلًا وَفق نمط حياتها القديم، قبل أن تتحول إلى الزراعة وبناء البيوت وإعادة إحياء المدن.

على أن النظرية التي تحمِّل الأموريين مسئولية تدمير ثقافة عصر البرونز المبكر في بلاد الشام، لم تعُدْ تلقى تأييد معظم المؤرخين اليوم، وخصوصًا بعد تزايد معلوماتنا حول التبدلات المناخية العالمية، والتي بدأت تتخذ طابَعًا أكثر دقة بخصوص مناخ العصور القديمة وتبدلاته، وذلك منذ ستينيات القرن العشرين. ففي عام ١٩٥٢م عُقد في مقر الأكاديمية الأميركية مؤتمر ضمَّ نخبة من علماء المناخ في الولايات المتحدة، وطُبعت نتائجه في مجلد يحمل عنوان: التبدل المناخي وفي عام ١٩٦١م دعت منظمة اليونسكو والمنظمة العالمية للأرصاد الجوية إلى ندوة دولية في مدينة روما، لبحث التبدلات المناخية، وطُبعت نتائجها في مجلد تحت عنوان: تبدلات المناخ. وفي عام ١٩٦٦م عُقد في الكلية الإمبراطورية بلندن مؤتمر حول الموضوع نفسه، وطُبعت وقائعه في مجلد تحت عنوان: التبدل المناخي من الألف الثامن قبل الميلاد إلى العام الميلادي الأول. وقد تميَّز هذا المجلد باحتوائه على عدد من الأبحاث المهمة حول صلة التبدل المناخي بتاريخ وحضارة الشرق الأوسط. إضافةً إلى هذه الندوات والمؤتمرات المهمة وما تلاها، فقد قام عدد من علماء المناخ بنشر مساهمات فردية متميزة ألقت الضوء على كثير من ألغاز التاريخ والأركيولوجيا في الحضارات القديمة، منهم H. C. Willet وR. H. Carpenter وR. L. Raikes.١
إن ما يمكن لنا استنتاجه من مقارنة التبدلات المناخية في العصور القديمة بالأحداث والمفاصل المهمة في تاريخ الشرق القديم؛ هو أن حضارة عصر البرونز المبكر قد انتهت بتأثير كارثة مناخية شاملة، وأن تحركات الأموريين لم تكن إلا نتيجة من نواتج تلك الكارثة. وقد بدأ بعض المؤرخين الجدد يعتقد بأن المدعوين بالأموريين ليسوا جماعات غريبة وفدت إلى بلاد الشام من الجزيرة العربية، بل هم أهل المناطق المنكوبة الذين أجبرهم الجفاف على هجرة أراضيهم الزراعية، وحوَّلهم إلى حياة الرعي المتنقل، وخصوصًا في فلسطين وسورية الجنوبية التي تلقت أقوى ضربات الكارثة المناخية، ومن هؤلاء فريق من الشرائح المعدمة تمامًا راحت ترتحل إما باتجاه الدلتا المصرية أو باتجاه نهر الفرات، يقول توماس ل. تومبسون في كتابه The Bible In History:
«حتى أواسط السبعينيات من القرن العشرين، كان البحث الأركيولوجي والتاريخي يعالج أحداث الفترة الانتقالية من خلال نظرية الهجرات البدوية من شبه الجزيرة العربية، كما ربط العديد من الباحثين هذه النظرية بالنصوص المسمارية التي تتحدث عن جماعات الأمورو، وبالنصوص الهيروغليفية التي تتحدث عن جماعات العامو، وبذلك تم اختراع تاريخ لهجرة الأموريين، فتحْتَ الاسم عامو جُعلوا أحد العناصر الرئيسية وراء الأحداث التي قادت إلى نهاية المملكة القديمة في مصر، وتحت اسم الأموريين جُعلوا مسئولين عن تدمير ثقافة عصر البرونز المبكر في كلٍّ من بلاد الرافدين وبلاد الشام، قبل سيطرتهم المنظمة على الهلال الخصيب وتشكيل ممالكهم الأمورية … إن القبول اليوم، وعلى نطاق واسع بين الباحثين، بنظرية اللغة الأفرو-آسيوية باعتبارها أمَّ اللغات السامية، قد قاد إلى التخلي عن النظرية الرومانسية القديمة بخصوص اللغة السامية الأم، التي نشأت في شبه الجزيرة العربية، كما قاد أيضًا إلى التخلي عن نظرية الهجرات السامية من شبه الجزيرة العربية. إن الأفكار البالية عن الغزو والاجتياح قد جعلت من السهل على المؤرخين استخدام جحافل البدو من أجل مسح الحضارات القديمة واستهلال حضارات جديدة، وبذلك انتقلوا بنا من حضارة البرونز المبكر إلى حضارة البرونز الوسيط، ومن عالم الكنعانيين الفلسطينيين في عصر البرونز الوسيط إلى عالم الإسرائيليين في عصر الحديد. ولكن، ألَا تبدو لنا هذه الانتقالات مفهومةً أكثرَ إذا تخلينا عن تفسيرها باجتياحات القبائل السامية الداخلية؟ وألَا تبدو لنا الاستمرارية الثقافية، بما تحتوي من تنويعات، أكثرَ وضوحًا باعتبارها من نواتج التغيرات الداخلية والتحولات الاقتصادية؟»٢ وبعد شرح الأحوال العامة في سورية الجنوبية خلال الفترة الانتقالية، والتبدلات التي أحدثتها الأحوال المناخية التي سادت أواخر الألف الثالث، ينتهي تومبسون إلى القول:

«في محاولة للتلاؤم مع حالة الجفاف المتزايدة، وما أدت إليه من مجاعات عبر السنوات العجاف المتوالية إلى ما لا نهاية، تحولت شرائح واسعة من سكان فلسطين مجبرة، إلى حياة الرعي التي كانت أقل عُرضةً للآثار المباشِرة للجفاف من حياة الزراعة المستقرة. وأخذ هؤلاء ينتشرون في جماعات صغيرة عبر سهول أوسع فأوسع، حتى غدت الحياة الرعوية وزراعة الرقع الصغيرة المتناثرة من الأرض، طريقةً دائمة في تحصيل المعاش خلال الهزيع الأخير من الألف الثالث. كما أُجبرت شرائح واسعة من العائلات المقتلعة من مواطنها على مغادرة فلسطين، والنزوح على شكل جماعات متجهة أبعد فأبعد، وصولًا إلى جبل بشري على الطرق الأقصى من البادية السورية (وهو المكان الذي نعرف من وثائق تلك الفترة عن التواجد المكثف للجماعات الأمورية فيه). كما توجهت جماعات مهاجِرة أخرى جنوبًا حتى دخلت الصحراء العربية واستقرت في واحاتها. وهؤلاء هم الذين ورد ذكرهم بعد ألف عام في السجلات الآشورية باعتبارهم قبائل عربية.

(٢) عصر البرونز الوسيط (١٩٥٠–١٥٥٠ق.م.)

في مطالع الألفية الثانية قبل الميلاد، تراجعت موجة الجفاف وعاد المناخ الرطب والمطير إلى شرقي المتوسط، وهذا ما شجع السكان الذين اقتُلعوا من أراضيهم الزراعية على العودة إلى حياة الزراعة والاستقرار، فظهرت القرى في كل مكان من السهول الخصيبة، وحتى في المناطق شبه الجافة التي أخذت تتلقى معدلاتٍ عالية من الأمطار جعلت الزراعة فيها مُجدية. كما انتعشت الحياة في المراكز الحضرية الكبيرة على يد العناصر الأمورية، وأُعيدَ بناء المدن المهدَّمة أو المهجورة. وسواء كان هؤلاء الأموريون من أصل محلي أم من أصل خارجي، فإنهم قد استقروا في الأرض وبسطوا سلطانهم السياسي على معظم المدن السورية، كما أفلحت العناصر الأمورية، التي اجتازت الفرات خلال الفترة الانتقالية، في تأسيس مملكة قوية لها في بابل، وقام ملوك الأسرة البابلية-الأمورية الأولى في عهد حمورابي بتوحيد كاملِ مناطقِ وادي الرافدين تحت سلطة مركزية قوية. وفي مصر ارتفع منسوب فيضان النيل، وعادت الحياة الزراعية سيرتَها الأولى تحت إدارة فراعنة الأسرة الثانية عشرة، وابتدأت الفترة التي يدعوها المؤرخون بعصر المملكة المتوسطة (١٩٩٠–١٧٣٠ق.م.).

لم يكن الأموريون هم الجماعة الوحيدة التي استقبلتها بلاد الشام خلال الفترة الانتقالية من البرونز المبكر إلى البرونز الوسيط. فخلال الفترة نفسها بدأت جماعات الحوريين بالتسرب تدريجيًّا من مناطق الشمال والشمال الشرقي، والاستقرار في أراضي الجزيرة العليا. وقد زرع هؤلاء الأرض وسكنوا القرى وأسسوا عددًا من المدن التي أخذ علم الآثار بالكشف عنها حديثًا، وأهمها مدينة أوركيش. ثم وقع هؤلاء الحوريون تحت سيطرة موجة بشرية آرية انتشرت في أراضيهم نفسها، وشكَّلت عدة ممالك أهمها مملكة ميتاني التي ارتقت إلى مَصافِّ القوى العظمى في عصر البرونز الوسيط، إلى جانب كلٍّ من مملكة بابل، ومملكة حاتي في الأناضول.

كما شهد عصر البرونز الوسيط تحركات لجماعات معروفة باسم الخابيرو. وعلى عكس الحوريين والآريين، فإن هؤلاء الخابيرو لم يكونوا جماعة عرقية متميزة، بل كانوا أخلاطًا من أجناس شتى لم تجد لها مكانًا في الهيكل الاجتماعي والسياسي لدويلات وممالك عصر البرونز الوسيط، تجمعت تحت زعامات مؤقتة ومتبدلة، وراحت تعيش في حالة اضطراب وحركة دائمة. بعض هؤلاء قد وفَدَ إلى المنطقة من خارجها، وبعضهم قد جاء من البوادي الداخلية، وبعضهم مِن شذاذ الآفاق والمغامرين الذين يبحثون عن حظوظ جديدة وفرص للثراء. في أوقات انعدام الأمن، كان الخابيرو يلجئون إلى السلب والنهب وقطع طرق القوافل التجارية، وفي أوقات استتباب الأمن كانوا يؤجرون خدماتهم في حقول الزراعة أو نقل البضائع، وفي أوقات الحرب كانوا يشكلون جماعات محاربة مرتزقة تؤجر خدماتها لمن يدفع أكثر.

وكما هو الحال في بقية بلاد الشام، فقد شهدت بدايات الألف الثاني في فلسطين ظهور القرى الزراعية الجديدة في المناطق الخصيبة أولًا، مثل وادي يزرعيل والسهول الساحلية، ثم في المناطق الهضبية، فالبوادي الجنوبية، ومع ازدياد غلة الزارعة ارتفع عدد السكان إلى معدلات غير مألوفة سابقًا، ونشطت طرق التجارة المحلية والدولية التي هُجرت خلال الفترة الانتقالية، وانتعشت المدن القليلة التي عبرت المحنة بصعوبة، كما أُعيدَ بناء المدن المهدَّمة والمهجورة، وظهرت مدن جديدة غير معروفة مثل أورشليم. ورغم أن المؤرخين التقليديين يتحدثون عن هذه المدن باعتبارها دويلاتِ مدنٍ بالمفهوم الرافديني والسوري، إلا أن الوقائع الأركيولوجية تشير إلى أنها لم تكن سوى بلدات صغيرة مسوَّرة، وذلك باستثناء حاصور في الجليل الأعلى التي كانت على الدوام أكثر انتماءً إلى العالم السوري المديني منها إلى فلسطين الريفية.

وصلت المدن الفلسطينية أوْجَ ازدهارها حوالي عام ١٨٠٠ق.م.، وجرى تحصين معظمها بالأسوار المتراسية Rampart Fortification. والسور المتراسي هو تقنية معمارية رخيصة الكلفة ولا تتطلب خبرة هندسية عالية، ويتألف من جدار حر يُحاط من داخله وخارجه بردم ترابي هائل يعطيه شكل المنحدر الجبلي خصوصًا على محيطه الخارجي، ويزوده بمناعة ضد تقديم أدوات الحصار. ورغم الضخامة والمنعة التي يوحي بها السور المتراسي، إلا أن وظيفته الدفاعية كانت سيكولوجية بالدرجة الأولى، لما يوحيه من استعصاء على الاقتحام، وكان صالحًا فقط لصد هجمات جيوش صغيرة غير محترفة، ولكنه غير مُجدٍ أمام الجيوش الإمبراطورية الحسنةِ التدريب، والقادرة على شق طريقها عبْرَه بعد فترة حصار قصيرة. وهذا يعني أن أساليب الدفاع في فلسطين عصرَ البرونز الوسيط؛ لم تكن معَدَّة للحماية من جيوش خارجية ضخمة بمقدار ما هي معَدَّة للدفاع أمام تعديات البلدات المنافسة الصغيرة الأخرى، وأن النظام السياسي هنا قد بقي على حاله منذ عصر البرونز المبكر، في ظل استمرارية استقلال المدن وانعدام السلطة المركزية القادرة على توحيدها.
خلال عصر البرونز الوسيط، وأكثر من أي وقت مضى، تظهر، في جميع المواقع الفلسطينية المكتشفة، تلك الصلةُ الثقافية العضوية التي تجمع فلسطين إلى مناطق الغرب السورية. فالآثار المادية مثل الفخاريات والأدوات والأسلحة وعادات الدفن والطُّرُز المعمارية؛ تشير إلى وحدة الثقافة الفلسطينية مع ثقافة الغرب السوري، من أوغاريت شمالًا إلى المنطقة الصحراوية جنوبًا، حيث سادت حضارة واحدة بقيت مستمرةً هنا دون فجوة أو انقطاعٍ هبوطًا إلى عصر الحديد الأول (١٢٠٠–١٠٠٠ق.م.)، رغم التقلبات السياسية في المنطقة، والغزوات، والحروب التي أدت إلى دمار متكرر لمدن كان يُعاد بناؤها وَفق الاستمرارية الثقافية نفسها. وسوف اكتفي هنا بالإشارة إلى وحدة الأساليب المعمارية في فلسطين وسورية الغربية، من خلال مقارنة مخطط القصر الملكي في حاصور بمخطط القصر الملكي في ألالاخ الواقعة في حوض العاصي الشمالي، ويمكن للقارئ ملاحظةُ التطابق التام بين مخططي هذين القصرين في الشكل رقم ٦-٢.

لم يتم العثور في جميع المواقع الفلسطينية المهمة على وثائق كتابية ذات شأن، يمكن الاعتماد عليها في إلقاء الضوء على الوثائق الأركيولوجية. أما الوثائق الكتابية للحضارات المجاورة التي يمكن أن نستشف منها بعض المعلومات عن فلسطين؛ فقليلة ولا تعطي صورة متكاملة عن تاريخ عصر البرونز الوسيط فيها، فقد وصلتنا من ذروة عصر البرونز الوسيط، حوالي عام ١٨٠٠ق.م.، ثلاث مجموعات من النصوص المصرية معروفة باسم نصوص اللعنات (وقد أشرنا إليها وإلى وظيفتها سابقًا)، وفيها تظهر أسماء عدد من المدن الفلسطينية وأسماء حكامها. ومن اللافت للنظر في هذه النصوص أنها تذكر اسم حاكم للمدينة أو حاكمَين أو أكثر، وربما أشارت إلى شعب المدينة بشكل عام، كقولها: «قبيلة جبيل.» أو «قبيلة عرفاتا.» وهذا يدل على أن النظام الملكي الوراثي لم يكن قد ترسَّخ بعدُ، وأننا ما زلنا نواجه في فلسطين نظام زعامات قبلية وأسر حاكمة متنفذة غير مستقرة السلطة، وأحيانًا نظام تمثيل بدائي مما تشير إليه النصوص بقولها: قبيلة كذا أو قبيلة كذا، ويشذُّ عن هذه القاعدة مدينة حاصورة في الجليل، التي كانت في ذلك الوقت قد حققت درجة متقدمة من التنظيم السياسي والمدني المتطور. فقد ورد اسم حاصور في أكثر من عشرين رقيمًا اكتُشفت ضمن أرشيف مدينة ماري العريقة على الفرات الأوسط (قرب دير الزور الحالية). ونعرف من هذه الرُّقم عن القناصل والسفراء الأجانب الذين كانوا يفِدون إلى حاصور من الممالك الكبرى، وعن شحنات البضائع التي كانت ترسل إليها من ماري بأنواعها المفصلة وكمياتها الدقيقة، كما نعرف عن اسم أشهر ملوكها المدعو ابني هدو أي ابن هدد، وعن الدور الذي لعبه في السياسة السورية.

fig15
شكل ٦-٢: مخطط قصر حاصور في القرن ١٤ق.م. ومخطط قصر ألالاخ في القرن ١٥ق.م.
خلال الفترة التي يغطيها أرشيف ماري. ومن حاصور نفسها، بدأت بعض الرُّقم المسمارية بالظهور خلال التنقيبات الجارية الآن في الموقع؛ الأمر الذي يشعل الأمل لدى المنقِّبين بقرب اكتشافهم لأرشيف كامل، يساعد على ردم الفجوات في تاريخ فلسطين عصر البرونز الوسيط والأخير.٣

ولدينا من الشواهد ما يشير إلى أن مثل هذا التنظيم السياسي القائم على استقلال الزعامات المحلية ببلداتها الصغيرة، كان سائدًا أيضًا في منطقة الدلتا المصرية خلال الفترة الانتقالية ومطلع عصر البرونز الوسيط، ويبدو أن فراعنة المملكة المتوسطة (١٩٩٠–١٧٣٠ق.م.) لم يتمكنوا من إحكام سيطرتهم هنا، وأن الآسيويين الذين وطَّدوا أنفسهم في الدلتا خلال الفترة الانتقالية، وبنوا مدنهم الصغيرة على غرار المدن الفلسطينية، قد حافظوا على استقلال وحداتهم السياسية خلال كامل عصر المملكة المتوسطة. فقد كانت مدن الدلتا تُحكم مِن قِبل قضاة محليين، ومعظم أسماء هؤلاء الحكام — القضاة — من أرومة لغوية سامية، وتتشابه مع أسماء حكام المدن الفلسطينية ومدن الساحل الكنعاني. كما شاع في تحصين بلدات الدلتا خلال عصر البرونز الوسيط نمط السور المتراسي المعروف في فلسطين من العصر نفسه.

إن هذه الشواهد التي تجعل من الدلتا جزءًا من منطقة فلسطين وسورية الجنوبية، قد دفعت بعض الباحثين المحدثين٤ إلى القول بالأصل المحلي للهكسوس الذين قضوا على المملكة المتوسطة، فحوالي عام ١٧٣٠ق.م. تم توحيد مدن الدلتا تحت قيادة مركزية، وزحفت جيوش الآسيويين المتحدة نحو مصر العليا، فأخضعت معظم الأقاليم المصرية، وبذلك انتقلت السلطة من طيبة، العاصمة التقليدية لمصر، إلى مدينة أفاريس التي بناها هؤلاء الهكسوس (كما تدعوهم النصوص المصرية) في الدلتا. ورغم أن نفوذ ملوك الهكسوس قد أخذ بالانحسار تدريجيًّا عن مناطق مصر العليا، إلا أنهم بقوا مسيطرين على مناطقهم التقليدية في الدلتا حتى عام ١٥٧٠ق.م.، عندما قام القائد العسكري الطيبي أحموس بالقضاء على آخر أسرة هيكسوسية وتدمير أفاريس. وبذلك انتهت الفترة التي يدعوها المؤرخون بالفترة المعترضة الثانية في التاريخ المصري، وابتدأ عصر المملكة الحديثة.

(٣) عصر البرونز الأخير (١٥٥٠–١٢٠٠ق.م.)

ترافقت بدايات عصر البرونز الأخير مع صعود ثلاث قوًى إمبراطورية في المنطقة المشرقية هي: (١) الإمبراطورية الحثية في آسيا الصغرى (وتدعى حاتي). (٢) الإمبراطورية الميتانية التي ضمت إمارات تحكمها أسر حورية وأمورية في وادي الرافدين الشمالي ومنطقة الجزيرة. ورغم أن الشرائح الشعبية لمملكة ميتاني كانت حورية في غالبيتها، إلا أن الطبقة العسكرية الحاكمة كانت من العناصر الهندو-أوروبية التي اتخذت من موقع واشوكاني عاصمة لها. (٣) الإمبراطورية المصرية.

بعد القضاء على القوة الرئيسية للهيكسوس عام ١٥٧٠ق.م.، وتدمير عاصمتهم أفاريس في منطقة الدلتا، قام أول فراعنة الأسرة الثامنة عشرة، المدعو أحموس، بمطاردة الآسيويين المنسحبين إلى فلسطين وسورية الجنوبية، وهاجم المواطن الأصلية التي كانت تزود الدلتا بالسكان. وتدل المعلومات الأركيولوجية من المواقع الفلسطينية، في المستويات الأركيولوجية العائدة لتلك الفترة، على حدوث دمار واسع للعديد من المدن، وانقطاع سكني دام في بعضها قرابة قرن من الزمان، كما هو الحال في موقع بيت مرسيم وموقع أريحا. بعد ذلك جاء تحوتمس الأول واستعرض قوته عند المناطق القريبة من نفوذ الميتانيين ونفوذ الحثيين، وبذلك أعلنت مصر عن دخولها حلبة السياسة الدولية، وأعطت رسالة واضحة للقوتين الأخريين بأنها مستعدة للدفاع عن مصالحها في آسيا الغربية.

توقف اهتمام مصر بالسياسة الدولية إبان حكم الملكة حتشبسوت (١٤٩٠–١٤٦٩ق.م.) التي انشغلت بالمسائل الداخلية. وعندما خلَّفها زوجها وشريكها في الحكم تحوتمس الثالث (١٤٩٠–١٤٣٦ق.م.)، بدأ سلسلة حملات عسكرية متوالية، جنوبًا نحو أفريقيا، وشمالًا نحو آسيا الغربية، بلغت اثنتي عشرة حملة خلال فترة حكمه الطويل الذي دام قرابة خمسين عامًا. وكانت معركة مجدو فاتحة لتأسيس النفوذ الدائم للإمبراطورية المصرية في آسيا الغربية. فقد التقت كلمة الممالك السورية على مقاومة المد العسكري المصري، وكان قطبَا هذا التحالف مملكة قادش في سورية الوسطى (قرب حمص الحالية)، ومملكة ميتاني الشمالية، إضافة إلى الدويلات الفلسطينية التي سارت على ما يبدو تحت لواء مجدو، التي اجتمعت إليها الجيوش المتحالفة، في انتظار وصول تحوتمس الثالث، ولكن تحوتمس كسب المعركة؛ على ما يصفه لنا في نص طويل محفور على جدار معبد الكرنك.

لم يشارك الحثيون في معركة قادش؛ لأن خصمهم المباشر في ذلك الوقت لم يكن مصر، بل مملكة ميتاني، التي كانوا ينتهزون كل فرصة ممكنة للتوسع على حسابها في المناطق السورية الشمالية، وعندما أفلحت حاتي في سحق ميتاني حوالي عام ١٣٥٠ق.م.، انفتحت أمامها بوابة سورية، وأخذت تبسط حمايتها على الممالك السورية، وصولًا إلى حدود مناطق النفوذ المصري، ولدينا وثيقة حثية مهمة تم العثور عليها ضمن الأرشيف الملكي في حاتوسس عاصمة مملكة حاتي في الأناضول، تحتوي على نص معاهدة بين الملك الحثي شوبي لوليماس وعازيراس (أو عازيرو؛ على ما تدعوه نصوص تل العمارنة) عاهل مملكة أمورو، وكانت أمورو في ذلك الوقت واحدة من أهم الممالك السورية، وتسيطر على السهول الساحلية السورية عند منطقة طرطوس، حيث كانت تقوم عاصمتها سيميرا، مع امتدادات نحو الداخل تصل إلى حدود مملكة قادش قرب حمص، وهذه المعاهدة نموذج عن المعاهدات التي كان الملوك الحثيون يفرضونها على الدويلات السورية. نقرأ في مقدمة المعاهدة على لسان الملك الحثي ما يلي:
«أنا الملك الشمس، جعلتك يا عازيراس تابعي. فإن صنت أرض ملك حاتي، سيدك، فإن سيدك ملك حاتي سيقدم لك بالمقابل حمايته. عليك أن تحمي روح مليكك وشخصه وجسمه وأرضه كما تحمي روحك وشخصك وجسمك وأرضك، وملك حاتي سيفعل الشيء نفسه، وكذلك أولاده وأحفاده، يتوجب عليك أن تدفع ٣٠٠ شيكل من الذهب الخالص، جزية لملك حاتي في كل سنة، يجري احتسابها بموازين بلاد حاتي، وعليك أن تأتي إلى الملك الشمس في عاصمته مرةً كلَّ سنة … لقد ترك عازيراس ملك أمورو بوابة مصر وغدَا تابعًا للشمس ملك حاتي، وها هو الملك الشمس العظيم راضيًا بسجود عازيراس عند قدميه، أنا الشمس، الملك الكبير، قبِلت تبعية عازيراس وجعلته في زمرة إخوتي.»٥

وفي الحقيقة، فإن عازيراس هذا قد ورِث تبعية حاتي عن أبيه من قبله المدعو عبدي عشيرته، ولعب الاثنان دورًا مهمًّا في أحداث أواسط القرن الرابع عشر، التي أدت إلى فقدان مصر لسيطرتها على مناطق فلسطين وسورية الجنوبية، إبان فترة حكم الفرعون إخناتون، الذي انشغل بمشاكله الداخلية وإصلاحه الديني عن هموم الإمبراطورية، وترك الدويلات الفلسطينية والكنعانية الساحلية للحروب والمنازعات، وتدخل الحثيين عن طريق عملائهم في المنطقة، حتى آلت الأمور إلى فوضى تامة، فانقطع حبل الأمن، وتعطلت طرق التجارة، وراحت عصابات العابيرو المأجورة تَعيث فسادًا في كل مكان. على أن تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية في فلسطين خلال هذه الفترة، يجد أسبابه البعيدة في عوامل كانت تفعل ببطء منذ مطلع عصر البرونز الأخير.

لقد لاحظ علماء الآثار منذ وقت مبكر، حدوث تدهور تدريجي في الحضارة الكنعانية على الساحل السوري وفي فلسطين وسورية الجنوبية، ابتداءً من ذروة حضارة عصر البرونز في القرن السادس عشر. وقد استمر هذا التدهور بخطًا متسارعة حتى وصلت حضارة عصر البرونز إلى نقطة الحضيض في القرن الثالث عشر. فقد أخذ عدد السكان بالتناقص، وتراجعت الثقافة في كل مجال تقريبًا، على ما تبديه المخلفات المادية من فخاريات وفنون تشكيلية وعمارة وتحصينات وما إليها. ولكن أسباب هذا التدهور بقيت خافية على المؤرخين حتى وقت قريب، ولم نستطع فهمها إلا من خلال المعلومات التي قدمها علم تحول المناخ العالمي، الذي نشأ في الستينيات من القرن العشرين، ونضج في الثمانينيات. وهذه المعلومات تشير إلى حدوث موجة جفاف بطيئة وطويلة مشابهة للموجة التي قضت على ثقافة عصر البرونز المبكر، وابتدأت آثارها غير الملحوظة منذ مطلع عصر البرونز الأخير، ثم أخذت تتزايد تدريجيًّا عبر ثلاثة قرون متوالية. وكانت منطقة فلسطين وسورية الجنوبية أول من تلقَّى هذه الموجة؛ بسبب حساسية معظم مناطقها للجفاف، وقلة معدلاتها المطرية مقارنةً ببقية مناطق بلاد الشام، فانهارت الزراعة أولًا في المناطق الهضبية الأكثر حساسيةً للجفاف، وأخذ المزارعون ينزحون عن أراضيهم منذ مطلع القرن الرابع عشر، ولم يصمد طويلًا أمام نُذُر الكارثة إلا قرى الأودية الخصيبة. وفي بحثهم عن استراتيجيات جديدة في تحصيل المعاش، لجأ فريق من النازحين إلى المدن الرئيسية التي كان الوجود المصري فيها يؤمِّن الاستقرار والأمن، ويؤجل آثار الكارثة عليها، وتحول فريق ثانٍ إلى حياة الرعي المتنقل، بينما وقعت أفقر الشرائح في حياة التشرد، حيث تجمَّع بعضهم في جماعات تعيش في الكهوف على طول طرق التجارة والمواصلات الرئيسية، مشكلين عصابات سلب ونهب، أو فصائل مرتزقة تؤجر خدماتها الحربية لحكام المدن التي ثارت بينها المنازعات والحروب، في ظل ضعف السلطة المصرية ولا مبالاةِ البلاط الفرعوني. وهكذا ظهرت مجددًا جماعات الخابيرو التي واجهناها خلال الفترة الانتقالية بين البرونز المبكر والوسيط، ولكن تحت اسم العابيرو الذي يتكرر في رسائل تل العمارنة.

يعطي الأرشيف الملكي الذي عُثر عليه في موقع عاصمة إخناتون بتل العمارنة، صورةً واضحة عن أحوال سورية الجنوبية وفلسطين والساحل الكنعاني اللبناني خلال أواسط القرن الرابع عشر. فقد شغلت الرسائل المتبادلة بين البلاط المصري وحكام المدن في هذه المناطق حيزًا كبيرًا من الأرشيف، فهنالك مراسلات مع حكام صور وجُبيل وعكا ومجدو وشكيم وجازر وأورشليم وبيت شان وغزة. وسأقدم فيما يأتي نماذج معبرة عن هذه المراسلات.٦
يقول الأمير شوارداتا حاكم مدينة حبرون في مرتفعات يهوذا في رسالته، ما يلي: «إلى مولاي الملك الشمس. هكذا يقول شوارداتا خادمك والتراب الذي تحت قدميك: عند قدمَي الملك أسجُد سبع مرات، وسبعًا أُخر، منبطحًا بلا حراك. ليعلم مولاي أن زعيم العابيرو قد هاجم الأراضي التي أعطاها لي إله مولاي الملك، ولكني تغلبت عليه. وليعلم مولاي أن كل إخوتي (من أمراء المدن) قد تخلَّوا عني، ولم يقف معي في مواجهة العابيرو إلا عبدو٧ هيبة (أمير أورشليم). لقد هبَّ لمساعدتي أولًا زوراتا أمير عكا، وإنداروتا أمير أكشف، بخمسين عربة، بعد أن تعرضتُ لنهب العابيرو، ولكنهم انقلبوا بعد ذلك ضدي. أتمنى على مولاي الملك أن يوعز للقائد ينهامو بالوقوف في صفي لنشنَّ معًا حملة تسترجع أراضي الملك إلى حدودها السابقة.»٨

ويكتب أمير مدينة جبيل المدعو رب عدي، من منفاه في مدينة بيريتو (بيروت) التي لجأ إليها بعد انقلاب داخلي، يشكو تعديات عازيرو (عازيراس النص الحثي) وإخوته الذين يدعوهم بأبناء عبدي عشيرته «من رب عدي إلى مولاه الملك الشمس. عند قدمَي الملك أسجُد سبع مرات، وسبعًا أُخر. لقد كتبت مرارًا في طلب المساعدة ولم أحصل عليها، فالملك لا يُصغي لكلمات خادمه، ورسولي قد عاد من عند المقام السامي خالي الوفاض وبلا قوات دعم، وعندما رأى أهل بيتي وإخوتي أن الفضة التي طلبتها لم تصل إليَّ، هزئوا بي واحتقروني، لقد كان أخي يؤلِّب المدينة ضدي لتصبح تحت سيطرة أبناء عبدي عشيرته، وعندما تأكد أن رسولي قد عاد بدون فضة وقوات دعم، ازدراني وطردوني من مدينتي، فلجأت إلى هامونيري (أمير بيروت)، أتمنى على الملك ألا يقف مكتوف الأيدي أمام أفعال ذلك الكلب … إن المتمردين لَقلة، ومعظم أهل المدينة يقف إلى جانبي، وعندما يسمعون بوصول القوات ستعود جبيل إلى مولاي … إن في مدينتنا ثروات كبيرة للملك مولاي، جاءت من أسلافنا، فإذا لم يتدخل الملك من أجل المدينة، فإنه سيفقد كل مدن كنعان.»

ويقول ملك صور المحاصَر في رسالته: «إنني أحمي صور المدينة العظيمة لحساب مولاي الملك، إلى أن تصلني قواته فتهبني حطبًا للدفء وماءً للشرب. وإني أحيطكم علمًا بأن زيميريدا ملك صيدون، قد كتب مرارًا إلى المجرم عازيرو ابن عبدي عشيرته بخصوص كلِّ ما سمعه من لدُنْكم في مصر، وها أنا قد كتبت إليكم بكل ما يتوجب عليكم معرفتُه.»

ولدينا ست رسائل من حاكم أورشليم المدعو عبدي هيبة (أو عبدو هيبة كما يقرؤه أولبرايت هنا)، يقول في إحداها: «إلى الملك مولاي. هكذا يقول عبدو هيبة، خادمك: عند قدمَي الملك، مولاي، أسجُد سبع مرات، وسبعًا أخر، انظر إلى ما فعله ملكيلو وشوارداتا بأراضي مولاي الملك. لقد دفعا بقوات من جازر، ومن جت، ومن كيلة، واستولوا على أراضي روبوتو، وصارت أملاك مولاي بيد العابيرو، كما أن بلدة بيت لحمي.٩ الواقعة في أراضي أورشليم قد أعطيت إلى كيلة. فليُصغِ مليكي إلى خادمه عبدو هيبة، ويرسل قوات تعيد الأراضي المسلوبة إلى مولاي الملك. وإذا لم تنجدني قواتكم، فإن أملاك مولاي هنا ستصير كلها تحت سيطرة العابيرو.»
في رسائل تل العمارنة، يرِدُ ذكر أورشليم للمرة الثانية في السجلات التاريخية، وذلك بعد قرابة أربعة قرون من ذكرها لأول مرة في نصوص اللعنات المصرية، التي يرجع تاريخها إلى حوالي عام ١٨٠٠ق.م. ولكن المشكلة أن هذه الرسائل لا تحتوي على معلومات تدلنا على القوة النسبية لأورشليم وحجمها ومدى اتساع نفوذها، في الوقت الذي تشحُّ فيه المعلومات الأركيولوجية من موقع أورشليم في المستويات العائدة للقرن الرابع عشر قبل الميلاد. وهذا ما دفع بعض الآثاريين إلى الشك بأن المدينة كانت مسكونة خلال عصر العمارنة. وتناقش عالمة تأريخ اللُّقى الأثرية السيدة مارغريت شتاينر (التي عهد إليها المعهد البريطاني للآثار في القدس، مع زميلها ه. فرانكن، بإعادة النظر في تأريخ اللقى الأثرية من موقع أورشليم وجواره) بأن غياب اللقى الأثرية العائدة إلى القرن الرابع عشر، وخصوصًا الكسرات الفخارية، من محيط أورشليم ومنحدرات هضبة أوفيل، لا يمكن تفسيره إلا بأن المدينة كانت مهجورة تقريبًا. أما بخصوص عبدي هيبة ورسائله، فتقول بأن الرسائل لم تُشِر إلى أورشليم باعتبارها مدينة، بل استخدمت على الدوام تعبير أراضي أورشليم. وهي ترجح أن يكون عبدي هيبة مجرد راعٍ للمصالح المصرية في منطقة أورشليم، وأنه قد أقام في قصر محصن عند وادي قدرون.١٠
بعد سقوط إخناتون، عملت مصر جادةً على استعادة نفوذها المفقود في فلسطين وسورية الجنوبية، خصوصًا إبان حكم سيتي الأول (١٣٠٢–١٢٩٠ق.م.) ثاني فراعنة الأسرة التاسعة عشرة. فقد شن هذا الملك عدة حملات استردت إلى السلطة المصرية كامل مناطق نفوذها التقليدية، وصولًا إلى مدينة قادش في الوسط السوري، حيث تم العثور على بقايا نصب تذكاري له. كما تابع سيتي الأول تقدُّمه شمالًا حتى اصطدم بقوات الحثيين في أكثر من معركة. وقد ترك لنا هذا الفرعون نصبًا تذكاريًّا آخر، عُثر عليه في موقع بيت شان بوادي يزرعيل، نُقش عليه بالهيروغليفية أخبار انتصاره على تحالف سوري جنوبي تجمعت جيوشه عند بيت شان.١١ ثم تابع ابنه رمسيس الثاني (١٢٩٠–١٢٢٤ق.م.) حماية المنطقة من الحثيين، واصطدم معهم في عدة معارك كان أهمها معركة قادش المشهورة، والتي زج كلٌّ من الطرفين إليها بكل قوة ممكنة سعيًا وراء الحسم الأخير، ولكن المعركة لم تنجَلِ لصالح أحد، وتبعتها مناوشات حدودية استمرت ستة عشر عامًا، انتهت بتوقيع معاهدة بين مصر وحاتي تعتبر من أشهر معاهدات العالم القديم، وفيها تم اعتراف مصر بسيادة الحثيين على مناطق الشمال السوري، واعترف الحثيون بسيادة مصر على مناطق الجنوب السوري. وقد تم العثور على نصٍّ حثيٍّ للمعاهدة في موقع حاتوسس بالأناضول، وعلى نص لها باللغة المصرية منقوشًا على جدار معبد آمون بالعاصمة طيبة.

على أن الأوضاع الاقتصادية المتردية في المنطقة كانت تدفع كلتا القوتين العظميين إلى الانسحاب من بلاد الشام وترك المنطقة لمصيرها، خصوصًا وأن الكارثة المناخية الجديدة قد طرقت أبواب مملكة حاتي وعصفت باقتصادها وحياتها السياسية والاجتماعية، وما لبثت حتى ظهرت في الأفق طلائعُ جموع جائعة يدفعها القحط والجفاف الذي ضرب مناطق اليونان وبحر إيجة، تبحث في المشرق عن لقمة يفتقد إليها أهله.

(٣-١) الجفاف الميسيني والانهيار العام لثقافة عصر البرونز

بلغت موجة الجفاف التي كانت تتصاعد خلال عصر البرونز الأخير أوْجَها في القرن الثالث عشر، وتحولت إلى كارثة مناخية امتدت من اليونان وجزر بحر إيجة غربًا إلى بلاد الشام شرقًا، فيما يُعرف بفترة الجفاف الميسيني، نسبة إلى منطقة ميسينا في جنوب اليونان، التي كانت بؤرة الكارثة وأكثر المناطق تضررًا بسببها. فمع مطلع القرن الثالث عشر امتدت آثار الجفاف إلى كل مكان من المناطق الشرقية لحوض المتوسط (عدا مصر التي نجت منها بسبب انتظام فيضان النيل)، فارتفعت الحرارة بمعدلات عالية مترافقة مع هبوط حاد في معدلات الأمطار. وقد ضربت الكارثة المناخية أولًا مناطق آسيا الصغرى، وبدأت عوامل التحلل في الإمبراطورية الحثية تبدو واضحة منذ عام ١٢٥٠ق.م.، فانتشرت المجاعة، وتراخت قبضة السلطة المركزية، وسادت الفوضى في كل مكان، وراح الملك الحثي يستجدي القمح من مدينة أوغاريت التي لبَّت طلبه بعد توسط البلاط المصري، رغم أن مناطق بلاد الشام لم تكن أحسن حالًا بكثير. كما بدأت آسيا الصغرى تستقبل أعدادًا من المهاجرين الذين دفعهم الجفاف الميسيني شرقًا، وما لبث هؤلاء حتى أخذوا يتجمعون في وحدات أكبر فأكبر تحت قيادات عسكرية، ويتحركون مع أطفالهم ونسائهم ومتاعهم الخفيف عبر مناطق مملكة حاتي المنكوبة والممزقة، بعد انهيار السلطة تمامًا في العاصمة حاتوسس، وسقوط آخر أسرة مالكة حثية في الأناضول، ثم انحدرت هذه الجماعات نحو بلاد الشام وأطلقت رصاصة الرحمة على مدنها التي كانت تحتضر، ثم شقت طريقها جنوبًا حيث تجمعت في فلسطين استعدادًا للانقضاض على مصر، أسمن الطرائد في ذلك العصر.

دعا المؤرخون هذه الجماعات التي ظهرت في أواخر القرن الثالث عشر بشعوب البحر؛ نسبةً إلى مواطنها الرئيسية في كريت وجزر بحر إيجة، وعزَوا إليها تدمير ثقافة عصر البرونز الأخير في مناطق حاتي وبلاد الشام، مثلما عزَوْا سابقًا تدمير ثقافة عصر البرونز المبكر إلى القبائل الأمورية في أواخر الألف الثاني قبل الميلاد، ولكن النظرية المرجحة اليوم؛ هي أن هذه الجماعات كانت تتحرك عبر أرض محروقة خلت من سكانها تقريبًا، وأن المدن التي مرت بها كانت شبه مهجورة في معظمها، ولكن هذا لا يمنع أنهم كانوا مسئولين عن تدمير بعضها وإحراقه.

في الوقت الذي كان فيه فريق من شعوب البحر يشق طريقه برًّا باتجاه مصر، كان فريق آخر قد ركب البحر، وحطَّت مراكبه القادمة من بحر إيجة على سواحل أفريقيا الشمالية القريبة من الحدود المصرية، ثم تحرك هؤلاء مع فريق من الليبيين باتجاه منطقة الدلتا؛ في محاولة للاستقرار إيجاد سبل للعيش فيها، ولكن الفرعون مرنفتاح تصدى لهم وهزمهم في معركة فاصلة حوالي عام ١٢٢٠ق.م. ثم قام خليفته رمسيس الثالث بالتصدي للجماعات الأخرى التي كانت تحاول الانطلاق من فلسطين للاستقرار في الدلتا الشرقية، فهزمها وقضى عليها كمجموعة عسكرية موحدة، إلا أن فريقًا منهم ويُدعى البيليست أو الفلست قد توطَّن في السهل الساحلي الجنوبي من فلسطين بموافقة السلطات المصرية، وهي المنطقة التي صارت تُدعى فلستيا في نصوص الشرق القديم، ويُدعى أهلها فلسطينيون في الرواية التوراتية. ورغم أن هذه المنطقة قد حافظت على اسمها عندما صارت ولاية فارسية ثم هيلينستية فرومانية، إلا أن الاسم فلستيا (أو فلسطين) صار يستخدم تدريجيًّا للدلالة على كامل المنطقة الواقعة إلى الجنوب من لبنان، بين ساحل المتوسط ونهر الأردن.

لم يحافظ الفلستيون على تكوينهم الإثني والثقافي مدة طويلة، وما لبثوا طويلًا حتى ذابوا في محيطهم الكنعاني، على ما تدل عليه مخلفاته المادية. فمع مطلع القرن الثاني عشر تظهر في منطقة فلستيا، وبعض الاستطالات الجغرافية لها داخل فلسطين الكبرى، خزفيات تنتمي إلى الأنماط الفنية لبحر إيجة مصنوعة محليًّا، ثم تبدأ هذه الخزفيات بالاختفاء خلال قرن من الزمان لتحل محلها خزفيات كنعانية. وخلال الفترة نفسها تظهر على الأختام كتابات كريتية تأخذ بالاختفاء تدريجيًّا لتحل محلها كتابات كنعانية. وعلى مستوى الثقافة غير المادية، يبدو أن القادمين الجدد قد طابقوا آلهتهم القديمة مع آلهة كنعان وأعطَوها أسماء محلية مثل داجان وعشتروت. ثم قادتهم هذه المطابقة بعد ذلك إلى نسيان ديانتهم التقليدية وتبنِّي ديانة الأقوام الكنعانية التي حلوا بين ظهرانيها. وعندما بدأت المدن الفِلستية الخمس تظهر في النصوص الآشورية (وهي غزة وجت وأشدود وأشقلون وعقرون) اعتبارًا من القرن الثامن قبل الميلاد، لم تكن عندها إلا مدنًا كنعانية قلبًا وقالبًا.

تلقت فلسطين النصيب الأوفر من فواجع الجفاف الميسيني. فبعد أن هُجرت معظم مناطقها الزراعية خلال القرنين الرابع عشر والثالث عشر، جاءت ذروة موجة الجفاف، خلال الفترة الانتقالية إلى عصر الحديد، لتطال المدن التي قاومت الموت، وراحت تعيش في حالة فقر مدقع ونقص في السكان، فهُجر بعضها وتهدَّم البعض الآخر، واستمرت قلة منها مستفيدة من وجود الحاميات المصرية فيها. ولقد حاولت السلطات المصرية من ناحيتها مواجهة الأوضاع المتردية للمجتمعات الفلسطينية بوسائل شتى. فلقد كانت مسئولية حفظ الأمن والنظام تقع على عاتق القوات المصرية وحدها تقريبًا، وهي مسئولية لم تكن قادرة على القيام بها على الوجه الأمثل. كما حاول المصريون إعادة توطين المزارعين النازحين في مناطق جديدة، وأرسلوا إليها شحنات قمح تعينهم على استصلاح الأراضي وزراعتها، كما عملوا لفترة طويلة على حماية طرق التجارة وإبقائها مفتوحة، من خلال التواجد المكثف للحاميات المصرية على طول هذه الطرق. ولكن مصر اضطرت أخيرًا إلى سحب معظم حامياتها وترك الطبيعة لتسترد عافيتها بأساليبها الخاصة.

هذه الفترة الانتقالية من عصر البرونز الأخير إلى عصر الحديد، بين أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الثاني عشر، هي الفترة التي يفترض المؤرخون أنها شهدت ظهور القبائل العبرانية في فلسطين واستقرارهم فيها. فالخروج من مصر، كما هو متفَق عليه، قد جرى في زمنٍ ما بين عام ١٢٦٠ق.م. و١٢٤٠ق.م.، خلال حكم الفرعون رمسيس الثاني، وفي زمنٍ ما بين عام ١٢٢٠ق.م. و١٢٠٠ق.م. اجتاز يشوع بن نون نهر الأردن، واستولى على الأرض الموعودة في فترة قصيرة. وتبع ذلك فترة طويلة غطت كامل عصر الحديد الأول، كان العبرانيون خلالها يوطدون أنفسهم في المناطق الهضبية الفلسطينية، قبل أن يتداعوا لتشكيل مملكة لهم في أواخر القرن الحادي عشر، أي بعد مرور حوالي قرنين على دخولهم كنعان.

١  حول هذه المعلومات بخصوص تبدلات المناخ في العصور القديمة انظر: ألفريد هالور: الأموريون، ترجمة شوقي شعث.
٢  Thomas L. Thompson, The Bible in History, p. 130.
٣  انظر النتائج الأخيرة للتنقيب في موقع حاصور في مقالة رئيس البعثة آمون بن ثور:
Amon Ben Tor, Excavating Hazor, In: Biblical Archaeology Review, May-June, 1999.
٤  Th. L. Thompson, The Bible in History, pp. 138–154.
٥  A. Goetze, Egyptian and Hittite Treaties, In: Ancient Near Eastern Texts, p. 529.
٦  المنتخبات التي أقدمها هنا من رسائل تل العمارنة نقلتها إلى العربية عن أولبرايت:
W. F. Allbright, Accadian Letters, In: J. Pritchard, Ancient Near Eastern Texts, p. 483 ff.
٧  وتقرأ أيضًا عبدي هيبة.
٨  نلاحظ من هذا النص، وغيرها من رسائل تل العمارنة، أن حكام المدن السورية في ذلك الوقت كانوا من أصول عرقية سامية وهندو أوروبية. فالاسم عبدي هيبة سامي، أما شوارداتا وزوراتا وأنداروتا فهندو-أوروبية. ولعل أمثال هؤلاء الحكام قد جاءوا مع الموجة الآرية التي أنشأت مملكة ميتاني.
٩  لقد ساورني الشك بقراءة أولبرايت لكلمة بيت لحم التي أوردها هنا بصيغة بيت لحمي Bet Lahmi، منذ أن استشهدت بهذه الرسالة في كتابي الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم، الصادر عام ١٩٨٩م، ثم ساورني الشك مجددًا عندما هممت بالاستشهاد بها ثانيةً هنا، وتبين لي، بعد التفتيش في سجلات مصر ووادي الرافدين وغيرها من نصوص الشرق القديم، أن الاسم بيت لحم أو بيت لحمي لم يرِدْ خارج ترجمة أولبراي لرسالة عبدي هيبة والمعروفة بالرمز. EA, no 290. إن المعلومات التي تجمعت لديَّ الآن تثبت أن بيت لحم الواقعة قرب القدس لم تكن موجودة في عصور ما قبل الميلاد. وأولبرايت نفسه قد كتب الشطر الثاني من الكلمة بالحرف المائل (Lahmi)، وقال في الهامش ما يلي: ترِد هنا إشارة شبه مؤكدة إلى مدينة بيت لحم التي يرِدُ ذكرها لأول مرة في النصوص التاريخية (!).
وإني إذ أعتذر لقارئي عن أخذي بقراءة أولبرايت دون تمحيص، فإني أرجو منه إغفال ما أوردته في كتابي الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم بخصوص بيت لحم، وذلك في فصل سجلات مصر الفرعونية.
١٠  انظر تحليل شتاينر الوافي في بحثها المنشور في مجلة علم الآثار التوراتي، عدد July-August, 1998.
١١  انظر ترجمتي للنص في مؤلفي: الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم، فصل سجلات مصر الفرعونية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤