من الرواية إلى النقد
مسافة القُرب والبُعد

يفترض تدخلي في محور العلاقة بين الروائي والناقد،١ بوصفي روائيًّا أو كاتب رواية — فالتسمية هنا نسبيةٌ ونقدية — أن أعرض رأيًا، وأسجِّل ملاحظاتٍ تصُبُّ كلُّها من التقاطُع بين حقلَين متمايزَين في تعبيرهما، ونظام قولهما، ومسطرات عرضهما وغيره مما يختصان به. إن هذه النقطة تُمثِّل أو ينبغي أن تُمثِّل حيزًا مستقلًّا في التفكير والأداء، كما تستوجب من المتلفِّظ أن يتخذَ له ما يُشبِه الحيادَ أو مسافة انتباهٍ دونَ موقعَين يُوجَد فيهما معًا، وعنهما سيتغيَّب مؤقتًا.

لنقل بوضوحٍ أكثر بأن كاتبَ الروايةِ محتاجٌ للتفكير في الجنس الأدبي الذي ينتج فيه، وكذلك، وبكيفيةٍ متوازية، في خطابٍ هو موضوعُه ومضمارُه، وإذا كان يخوضُ مع الأول معركةً صامتة، كجزء من حميميةِ الإبداعِ وتوتُّراته فإنه مع الثاني، الطرف النقدي، ينتقل إلى مستوًى يكون مطبوعًا بغير قليلٍ من الحدَّة التي تصل إلى حدود الجدَل والسِّجال والصِّراع حول موقع الأولوية.

إن ما يتناساه النقدُ كثيرًا بل ويغفُل عنه هو أن الكاتب شخصٌ مزدوجُ الطبع في ممارسته؛ أي يقوم بمهمةٍ مضاعفةٍ حين يجلسُ إلى أوراقه، ويتصدَّى لبناء وتعمير العالَم الخاص به. إن إحدى القواعدِ الأساسِ للفن القصصي والحكائي عامةً هي قاعدةُ الفرز والانتخاب، سواء فيما يتصل بالعناصر الشكلية البنائية والتصويرية، أو بالمكوِّنات البشرية والدلالية المؤهِّلة لما هو إنسانيٌّ واجتماعيٌّ وذاتي، أيضًا، في المحكي. وإذا كان الروائي الحقيقي يملكُ أكبرَ قَدْر من سَعة الخيال يُسعِفه في إغناء التجربة في أدوارها المختلفة فإنه، وبشكلٍ مُتساوِق، يعمل عملَه فيها بالتقديم والتأخير، بالانتصار لهذا الموقف على ذاك، بإعلاء شأنِ هذه الرؤيةِ دون تلك مما يتوافق مع اختيارٍ أو تصوُّرٍ حاضرٍ في ذهن الكاتب أو اقتناعاته الإنسانية أو الاجتماعية (= الأيديولوجية). وفي الفن لا شيء أقوى من الصياغة الفنية ومن حِيَل الحَكْي وطرائقه (= التقنيات) لإبراز هذه الأدوار كُلِّها على نحوٍ من الأنحاء؛ النحو الذي مثَّل ويُمثِّل بالضرورة انتخابًا لأسلوب وتقنية ولغة في التوصيل وغير ذلك من الأدوات.

باسم القاعدة المذكورة، إذن، وبالاعتماد على تطبيقاتها ونتائجها بحمل الكاتب (= الروائي) في داخله جزءًا من شخصية الناقد، ويبدو في وضع المستغني عن خِدمات هذا الأخير، لا بل إنه في غِنًى عنه إلى الحد الذي يصل إلى درجة المجافاة واللامبالاة المقصودَين، وخاصةً حين يُواجه بالتقصير والإجحاف وتسليط الأحكام عسفًا واعتباطًا. لكن هذه القاعدة لا تشفع كل شيء ولا تقي من الزلَل فيما يعتبره النقدُ من مواطنِ الزلل؛ ذلك أن العيَن النقديةَ ومقارباتِها المتباينة تختلف من جوانبَ شتَّى عن عين الكاتب ومنظوره مفردًا ومتعددًا، وهو ما يُعطي للخطابِ اللاحقِ بالإبداع أكثر من شرعية، ويَسْتدعي لمرافقتِه، لفهمِه، لمضاعفتِه وربما لتكميله.

ورغم هذا فإن الروائي لا يستريح حقًّا لهذا المنطق ما دام يمتلكُ مقدرةَ التدخُّل والتفكير الشخصي في الرواية، فيما بالميتا-خطاب الروائي، هذا الذي نجده مدوَّنًا بشكلٍ صريح إما في ثنايا العمل (L’oeuvre) ونستطيع أن ننسبَه إلى المؤلِّف مباشرة وبدون مواربة، وليس إلى السارد. أو نسمعَه منطوقًا على لسان إحدى الشخصيات، أو يُقرأ قبل هذا فيما يُسمَّى بخطاب العتبات المندرج في باب «الأدب الموازي».

يقينًا أن الناقد أو القارئ المُحترِف أو المتلقي المُؤَوِّل لا يعبأ كثيرًا بمثل هذه «التدخلات» التي لا نعتقد أنها تُفلِح في سترِ عورةِ نصٍّ متخرِّق أو به عيوب؛ إذ التأمُّل النقدي، التنظيري للنص السردي، يحتاج أن يتمَّ في متنه أو ضمن سياقه لا خارجه أو على هامشه. وبعبارةٍ أخرى فإن الرواية بما هي عليه لا بما تُفكِّر أن تُصبحَه. وبالمقابل فالروائي يعتبر نفسَه في حلٍّ من كل خطابٍ واقعٍ خارج إبداعه؛ فالنص أولًا وأخيرًا هو مذهبه ودينه، وسيظل النقد عندَه يلهَث إثره، ومهما فعل فلن يطوله أو سيُوجد من أصداء النص الخارجية وقشوره المبعثَرة أمام كل قارئ فيما لا تفلح أيُّ قراءةٍ في أخذ موقع الريادة التي للنص أولًا وأخيرًا.

وفي هي الحالة المغربية؛ أي في إطار الأدب والثقافة بالمغرب عامة، يزداد الأمر استعصاءً نظرًا لخضوع الإبداع والنقد معًا لمواصلة التكوين والتطور؛ فمن حيث ما انفكَّ الأدبُ من خلال أجناسه التعبيرية المختلفة يعيش مرحلةَ تعميقِ تأسيسِه الحديث وشحذِ أدواتِه نرى النقدَ أو كل خطابٍ مساوقٍ للكتابة الأدبية، متصل بها شرحًا ودرسًا وتأملًا ومنهجَ نظرٍ وتأويل وأدواتِ تقويمٍ وتقييم، كله ليس مستقرًّا كل الاستقرار، قد تحلَّل من قواعدِه القديمة، وإلزاماتِه المُسننة لعهودٍ ثقافيةٍ سابقة، وهو منخرطٌ في سلك قواعدَ ومناهجَ مستجدَّة، وطرائقَ في التحليل والتقعيد وتفكيك النصوص بل وتحويلها كما لو كانت محاليلَ كيميائية. كلُّها مستحدَثة وإن لم تبلُغ المبلغ المطلوب من النضج والتحكُّم الكامل في الإواليات الداخلية للنص كما تدَّعي، وظهرت — تلك الطرائق — في بعض الأحيان حَيْرى بين الهياكل القديمة أو المتقادمة وبين الخطاطات والتمارين الحديثة، لا هي حافظة على وثيق العُرى بالأولى ولا قَوِي عضدها في الثانية.

في الحالة المغربية لا يسهُل بتاتًا التطرُّق لموضوع العلاقة بين ما هو إبداعي وما هو نقدي؛ لأن الظاهرة الأدبية الحديثة ما تزال في طور التشكُّل، ليس فقط في وعي المُنتِجين المباشرين، الكُتاب، بل وكذلك في وعي النقاد والدارسين والمتلقِّين عمومًا، الشيء الذي يخلق أنواعًا متضاربة من الفهم وينتُج عنه بصفةٍ خاصةٍ مستوياتٌ من التفاوت الذي لا يساعد على ضبط المفاهيم وإحكام المقاييس، ونعتقد أن هذا التفاوُت يشمل الثقافة المغربية بأكملِها بحُكم استمرار عملية الانتقال والتحول الذي تعرفه أشكالها ومضامينها من الأنماط التقليدية إلى الظواهر والأنساق الحديثة والجديدة. إن النقد الذي يجافي الرواية مثلًا، أو يعجز عن النفاذ بعيدًا في أصول تجربتها وأبنيتها، إنما يعيشُ في الحقيقة مجافاتَه الخاصَّة لارتباكِه في البحث عن موضوعِه وتعثُّره بين هذا المنهج وذاك، وعدم مكوثه الطويل في النص الواحد لإنجاز القراءة الوافية. النقد يبحث عن نفسه، عن منهجه أو مناهجه، ويتشكَّل فيما يمارس، والنص مناط العمل أو ما يُفترَض كذلك يتهافت دونه، ويكاد يتحول في النهاية إلى تعلَّةٍ لينسى؛ إنها أكثر من هفوة، بل هي من نقائص الثقافة «التجريبية».

وعدا ذلك فإنه ليس بوسع الكاتب إلا أن يلاحظ كيف أن النقد أو ما يقوم مقامَه ظل لوقتٍ غيرِ قصير شاردًا عن موضوعه، ما جعله يُمضي وقتًا في سوء تفاهُم مع الأدب أو ما يقوم مقامَه. إنَّ استطلاعًا سريعًا لسجلِّ النقد الأدبي الحديث بالمغرب قمينٌ بأن يُبيِّن التصاقَه طويلًا بالشأن الأخلاقي أو الاجتماعي أو القيمي عامةً أكثر من عنايتِه بالمخصوصِ الأدبي، وهو نزوعٌ موصولٌ بحِقَبٍ تاريخيةٍ ذات سماتٍ باتت معلومةً بتسلط المنظورات الأيديولوجية والخارجية عامة؛ هذه التي عاقت التبلوُر الطبيعي والمتطلب للنقد والإبداع معًا، وأدَّت في أغلب الأحيان إلى إنجاب كائناتٍ شوهاءَ أو في أحسن الأحوال مُبتسَرة الولادة.

وعليه فإننا لكي نُبديَ ككُتاب رأيًا كاملًا ومتماسكًا من قضية النقد نحتاج إلى التعامل مع وضعٍ يمتلك حقًّا وجودًا تاريخيًّا ونظريًّا وتطبيقيًّا محسومًا، واستطاع بعد صيروراتٍ متتاليةٍ الاستقرارَ في قوالبَ مسبوكةٍ جيدًا، مفهومة ومقعَّدة، شأنه في ذلك شأن الإبداع الذي يكون قد عَرف وعُرف بالخصائص ذاتها، نُخِل فيها الأصيلُ من الزائف، وتميَّز في تیاراتٍ وطرائقَ فنيَّة وحُصرَت فيه مضامينُ ورؤًى شتَّى. وهو ما لا يتفق كل الاتفاق لأدبنا المغربي الحديث والمعاصر، الذي تتنازع فيه الأصوات وتتصايح في فضاءٍ لجب، ولكن الكتابات المؤصلة، المنتسبة انتسابًا صريحًا، لا غبار عليه، إلى الإبداع المجدِّد شعرًا ونثرًا هي من القلة أو التفاوُت بدرجةٍ تدعو مؤرخ الأدب إلى الإبطاء أكثر والانتباه دون الانسياق وراء وصف وحصر تعدُّديةٍ مفتعَلةٍ أو مضخَّمة من الحقَب والأنماط والاتجاهات التي لا تتحملها في النهاية فترةُ نصفِ قرن، هي عمر الظاهرة الأدبية الحديثة في المغرب.

وما أحوجَنا أن نُضيف إلى سجل التحفُّظات كون الثقافة النقدية، عماد كل نقدٍ جدير باسمه، هي نفسها موضع سؤال.

إن النصوصَ الإبداعيةَ الكبيرةَ مثل الطبيعةِ العظيمةِ ببطاحها وتلالها وجبالها، ووديانها وفصولها، والخبرة بها لا تتأتى بالعبور فوقَها بل الاستقرار ودق العُمُد، ثم الحَفْر لاستخراج الماء وانتظارِ شروقِ شمسِ النص، هذا وسواه يحتاج إلى العارف، العظيم التعلُّم، الفطِن، القوي الخبرة، الدائمها، وذي الذوقِ الحسَن.

فهل هذا يعني في النهاية، وبطريقةٍ ما، أنني غيرُ راضٍ عما كُتب حول نصوصي من نقدٍ أو تعليقٍ أو ما في ضربهما؟ (لننتبه أننا لم نقُم هنا بأي تمييزٍ بين الاثنَين، والحال أنه بات من الضروري رفعُ اللبس في هذا الصدد بسبب تفشِّي ضربٍ من التعليقات، سواء نُشر في الصحف أو غيرها، والتقديمات والتطريزات تُريد أن تشغلَ عَنوةً موقعًا ليس لها).

الحقُّ أن السؤال لم يشغلني كثيرًا لارتباطه عندي بقضيتَين سابقتَين؛ أولاهما: هل نستطيع أن نتحدث عن وضعٍ متميزٍ للنقد في أدبنا، وهو ما تمَّت الإشارة إليه؟ وهل ما كُتب ويُكتب أضحى قابلًا لتأمُّلٍ كُلي، ويستدعي من الكاتب أن يتحرَّر من كتابته ليدخل في حسابه بكيفيةٍ جذريةٍ ما يُقدَّم من شروح ويُتلى من اجتهادات؟

كيفما كانت الإجابة عن هذَين السؤالَين وغيرهما أفضِّل أن أسجِّل بوضوحٍ بأني لا أجد إلا قليلًا أحاوِره فيما كُتب عني ويُحاور نصي. وأرى أن ما كُتب أصلًا قليل، وأعزو هذا إلى سببَين؛ أولهما أن بداية نشري لنصوصي الجدية تمَّ في مطلَع العقد السبعيني؛ أي بتزامُنٍ مع الفترة نفسها التي بدأ النقد الأدبي عندنا يسعى فيها للانتظام والتقعيد والتمذهب. ومن الطبيعي، وقتئذٍ، أن يلتفت هذا النقدُ إلى الكتابات الأكثر رسوخًا أو على الأقل ذات السبق الزمني؛ ففي حقلها يرتاح ويُلفي ما يتوافق مع نظراته وخطراته، وأحيانًا أحكامه التي لا تقبل النقض. ثانيهما أن نصوصي الأولى واللاحقة، أيضًا، جاءت تدشينًا لمغايرةٍ إبداعيةٍ ستُمسي تدريجيًّا خاصيةً أساسًا في النص القصصي المكتوب عندنا وحولنا. ستُوصم في حينها بأنها تجريبية — بمعنى كسر القاعدة والخرق وحتى الوصمة — علمًا بأنه لم يكن عندنا آنذاك نقدٌ مؤهَّل من أي ناحية — اللهم الناحية الأيديولوجية-السياسية مع حفنة من التوابل الإنشائية الانطباعية — لقراءة الظواهر الجديدة واستبصار أسرارها الفنية. في مرحلةٍ لاحقةٍ وقد أصبحَت «الوصمة» المألوف أو المقبول الممكن، وكان النقد الأيديولوجي، بل و«الجدانوفي» قد أطلَق كل ذخيرته، فإن النقد قد انتقل إلى الجامعة أو بالأحرى فإن طلبة الدراسات العليا شرَعوا في استيحاء وتعلُّم وتطبيق بعض مصطلحات ومناهج وإجراءات المناهج النقدية الجديدة (صفة الجدَّة هنا فَضفَاضة وحاملة لأكثر من دلالة وقيمة، فوجب التنبيه)، والذي حدث مندئذٍ أن أغلب النصوص صارت مهجورةً عمليًّا لفائدة التهافُت على المنهج وبروتوكولات القراءة المتعدِّدة، وكذا لمختلف التوصيفات الشكلية. ويمكن معاينة الحصيلة في بضع ما طبع من رسائلَ جامعيةٍ أو ما يزال منها مرقونًا. ولنا أن نتساءل هنا عن مفهوم النقد الأدبي في هذه البطاقات التقنية والأطاريح، مثلما ينبغي أن نتساءل عن فحوى «هوية» تلك الدفاتر والكرَّاسات التي تُكتب وتصدر مواكبةً لما يُزف للتلاميذ من أعمالٍ أدبيةٍ في المدارس الثانوية — ولا يهمُّنا هنا مَن يزف ماذا — وكذا عن مقالات وشظايا وخواطرَ متفرقةٍ يتطاير نثارُها ملاحقَ صحفيةً ثقافيةً أو مزعومة، فضلًا عن تطبيقاتٍ تُحيِّد النص تمامًا، باسمِ الوصول الى أدبيةٍ معيَّنة، متوسلةً إلى ذلك بالعُدد الخاصة «الشعرية»، وهو ما لا ينبغي لأحدٍ أن يرى فيه أي في ذاته إلا أن يجهله أو يستخفَّ بمردوده، وهو خطأ، فيما يفتح هذا النهجُ البابَ أمام ضربٍ من رسم وهيكلة للأبنية الشكلية للنصوص لكل طارقٍ لا يُفضي عنده هذا العمل إلى شيء، وتستوي عنده أفخم قصةٍ قصيرةٍ لموبسان أو الشاروني أو زفزاف مع أيِّ نصٍّ قصصيٍّ أو غيرِه في صفحةٍ لأدب الناشئين، وهو خطأٌ كبير لا تجده عند من شرَّعوا لهذه التطبيقات الشعرية، وخصُّوا بها نصوصًا عظيمةً أولًا، وفي النهاية لتوطيد أفكارٍ وقيمٍ محدَّدةٍ عن الأدب، وإن لم تكن بالضرورة ذاتَ طبيعةٍ قِيَميةٍ أو حُكمية.

فكأننا هنا إزاء ما يشبه القطيعة بين كتابة القاص والروائي وبين عمل الناقد. وكلاهما يبدو وهو يخوضُ غمارَ تجربةٍ يزعم لها التفرُّد والتجديد والمغايرة حدَّ المخاطرة. وبالنسبة إليَّ تحديدًا، وباستثناءاتٍ معدودةٍ فإنني لم أجد إلا القليل، مما شجَّعني على المُضيِّ في مشروعي، ولو استكنتُ للكلام السائد في محيطي لما واصلتُ خطوةً واحدةً بعد روايتي الأولى «زمن بين الولادة والحُلم» (١٩٧٤م). معناه أني كنتُ منصتًا لمحيطٍ آخر، لمحيط الأدب والثقافة الحديثة المتجدِّدة التي لا تعترف بالحدود، وحيث إبداعات الإنسان تمثِّل الأفق الممتد بلا نهاية.

إن الإبداع المتأصل هو مصدر تعلُّم الكاتب واستفادته مع النقد وقبله وقبل النظرية؛ فهذه قد تغذِّي ثقافته، وتنبِّهه إلى بعض العثَرات هنا وهناك ولكنها يقينًا لن تقدح زنادَ موهبته أو تُنير أمامَه السُّبلَ والمجاهلَ التي لا يقتحمُها إلا ببصيرته، تُحفِّزه إرادةُ إعادةِ التأسيسِ للأبنية والرؤى، ثم وهو في الحياة يتقدَّم في دروبها السالكة والمطروقة، واضعًا نُصبَ عينَيه مشروعَ إنباتِ حياةٍ وفضاءٍ ومشاعرَ ومصائرَ هو خالقُها أو منشئها، عدا أن الروائي لا يخلُق من عدم؛ فهو يستلهم من الموجود، ويُولِّد من المبذول، ويستوحي من الطبيعة والكائن، ولكنه في هذا وذاك يسعى إلى زرع روحٍ جديدة أو روحٍ أخرى فيما يتأتَّى له أو يصيرُ بين يدَيه. تراه يفعل ذلك محترزًا من نواميسَ معيَّنة أحيانًا مزيج بين الذاتي الخالص والاجتماعي والثقافي العام، وما هو خاصٌّ بالسَّنَن الأدبي، وتراه أحيانًا أخرى يرتادُ الأفقَ المجهولَ كمن هو مطالَب بتعمير خلاءٍ فوق تربةٍ تعرَّضَت لانقلاباتٍ جيولوجيةٍ عديدة، فيأتي مكتوبُه سبَّاقًا على زمانه وذوق عصره وثقافة ومقاييس النقاد، غير مفهومٍ في بداية ظهوره أو مرفوضًا، منبوذًا بالمرة، غريبًا شأن التيارات الحديثة دائمًا ثم ما يلبث أن يعرف القَبول والاستحسان، وهذا مظهرٌ لاستقراره النسبي ثم تحوُّله إلى ظاهرةٍ طبيعيةٍ كيَّفَها الذوق الثقافي الأدبي وتكيَّف معها، ودجَّنها بمنحِه الاعترافَ لها ليتم التحوُّل عنها حتمًا بما يضمن حركيةَ الإبداع وصيرورتَه وإلا وقعنا تحت سلطة المألوف، وأصبح على الروائيين أن يضعوا أعمالًا وفق قواعد النقاد، وهو صنيعُ البعض، لكنه ذلك الصنيع الآيل إلى التلَف فالزوال.

وأنا ممن يفضِّلون ويومئون بالكاتب، الروائي المثقَّف، ولا أقصد هنا مَن يستعرض ثقافته أو يُبطِّن رواياتِه بالأفكار والمفاهيم والمجادلات من كل نوع، لكن ذلك الروائي الذي تبرُز من كتاباته رؤيتُه المدرَّبة للوجود، ونفوذُه إلى بواطنِ النفوس والزمن، ووعيُه بالتحوُّل في المكان والزمان وإحساسُه بالمأساوية نَسْغًا ولحمةً للإنسان. ثم الروائي الذي تمتد معرفتُه إلى مختلف الثقافات والآداب تزوِّده بزادٍ عظيمٍ من تجارب الإنسانية من نحو، وتُمِده بالخبرة الفنية كما حذقَها کُتابٌ آخرون وهم يصوغون هذه التجارب، من نحوٍ آخر. بمثل هذه المعرفة نستطيع تجنُّب رُكامِ الكتابات، والمكرَّرات، والمُستنسَخات التي لا تقدِّم ولا تؤخِّر في وصف الحياة والأحياء ومعضلات الوجود، وهي ذاتُها تُلجِم الكاتبَ الواحدَ كي لا يستنسخ نفسه — عمله — مائة مرة فيما عملٌ واحدٌ يكون قد عكس الصورة وأفاض؛ ولذلك نصِفُه هو أو صاحبَه بالفذاذة.

ثم أعود لأقول أو لأقر بأن النقدَ ونظرياتِه ومناهجَه ومعه تاريخ الأدب كان رفدًا لي، لقنتُه وألقنُه وأهتدي به، لكن ما هذا بالذي علَّمني أو يُعلِّم الكُتاب عمومًا فن الرواية. المُعلِّم الأجدر هو الرفقة الحميمية والمواضبة لنصوصها، والتفطُّن لأنهُج بنائها وصُور معمارها، وطُرق حبكها، وأساليبها وحواراتها واسترجاعاتها واستشرافاتها وشعرها وغنائيتها، وعمومًا شعريتها المخصصة لها كجنسٍ أدبيٍّ رفيع. وسأتساءل، أيهما أجدى للكاتب فيما لو أراد أن يُتقِن عملية أو فن الوصف، أن يقرأ مثلًا، وبكثيرٍ من الإمعان والتدقيق الدراسة الممتازة لفليب هامون، المُعنوَنة «مدخل لتحليل الوصفي» ليتعرَّف في مدخلها على «فكرة الوصف» (هاشيت، ١٨٩١م). أم يقرأ فِقرةً من رواية لروائي من مقام عبد الرحمن منيف، إليكم، على سبيل المثال، هذه الفِقرة من روايته «أرض السواد»، ج١: «ومع وجه أمه تعودُ التفاصيل: الريح كيف تعصف؛ الثلج كيف يهجُم؛ وحين تصبح أغصانُ الأشجار كالأعلام الممزَّقة؛ كانت الأشجار، بعد أن تسقُط أوراقُها وتتعرَّى، تبدو كالجيش المُتقهقِر: ألوانٌ كثيرةٌ متداخلة، قاماتٌ متفاوتةُ الطول ولا تعرف أي انتظام، ثم ذلك البُخار الذي يشعُّ من الأرض أو يتولَّد من الكائنات، خاصةً الأبقار، وكأن الطبيعة رئةٌ كبيرةٌ لا تتوقف عن الزفير، لتملأ الجو ببُخارٍ يتصاعَد ويتلوَّى ثم يختلط بالدخان الذي يرتفع من المدافئ، ومن فرن البيت، في الجانب الغربي من البستان، مع الحرائق الصغيرة التي يُشعِلها الأبُ ليُدفئ الحظيرة، تصبح للطبيعة رائحةٌ خاصة، حرِّيفة، بالتأكيد ليست زكية، لكنها قوية، نفَّاذة، كما تثير في الخيال صورًا وأشياءَ لا يعرف كيف تتكوَّن» (ص٣٠٠). لذلك أجدُني أمكُث طويلًا مع الفِقرة الواحدة — والسابقة دقيقة، بسيطة وجميلة — أقرأ وأعيد كما لو أني أفُكُّ الطلاسم بينا أنا في استمتاعٍ وتعلُّم للخبرة حيث تُوجد. إن النصوصَ الرائدةَ والناضجةَ هي ما أستحضِره عند الكتابة وليس نظريات النقد وكتابات النقاد. أستحضرها لا من أجل استنساخِها أو الانبهارِ بها ولكن من أجل القدوة، ولم لا، لكي أبزَّها (!).

إنني لم ولا أبخس النقد حقَّه أو أهوِّن بأي حالٍ من شأنه في هذا المقام وأي مقامٍ آخر، وليس أدَل على ذلك عندي من ابتلائي به، باعتباري واحدًا ممن يعيشون ازدواجيةَ الكاتب الناقد؛ فالنقد بوصفِه الثقافة واليقظة، وحس الانتقاء، والوسيلة لتنكُّب الزلل، والأداة لتحقُّق الجودة، هو عُدة الكاتب. أما حين يصبح هذا الأخير نفسه مسكونًا بأنا ناقده، فالنقد عندئذٍ يغدو وسواسًا. لا عجَب إذا كان أغلب كُتاب الرواية في المغرب، والمطوِّرون لهذا الجنس الأدبي، المجدِّدون فيه هم كذلك إما نقادٌ ودارسون أو لهم باعٌ في الفنون الأدبية؛ ولذلك فهم حين يقيِّمون أعمالهم يستحضرون دومًا الحسَّ النقدي، فتراهم يقوِّمون ضمنًا قبل وقوعهم عرضةً للتقويم. وهي بلا شك حالةٌ تبدِّد ذلك الالتباس أو الإشكال حول تنازُع درجة الأهمية بين النص والنقد في الأسبقية، بين الكُتاب والنقَّاد أنفسهم؛ فحين يُوجَد الاثنان في واحدٍ يتفاعلان متلاقحَين، أو حين يُوجَد الناقد أو الدارس الذي لا يَلْوي عُنق النص حتى يستجيب عَنوةً ﻟ «دفتر تحمُّلات» قراءته ومنهجه، فإننا واصلون إلى محصلةٍ أنضجَ وأرقى للعمل الأدبي، وتتحوَّل القراءة المحلِّلة المُؤَوِّلة إلى عُدةٍ لا غنى عنها لكشف دُرَر النصوص الروائية، وتِبيانِ رحابةِ عوالمها.

لا شك أن قارئ العبارات الأخيرة لن يتردَّد في التساؤل عما إذا كنا نبحث أو نسعى لإجراء صلحٍ بين طرفَين يعيشان خصومةً مزمنةً كأنْ لا سبيلَ لوجودِ أرضيةِ توفيقٍ مشتركة. ورغم أن هذه الخصومة بتعدُّد أسبابها ومنازعها قائمةٌ فإننا لا نعنيها في مذهبنا؛ ذلك أن ما نقول به شيءٌ آخرُ أو نريدُ له نزوعًا مختلفًا سواء من حيث التعريف أو الأسباب، ولعل هذا ما غفَلنا عنه من البداية بحسن نية أو عن قصدٍ لستُ أدري، نعني الإشارة ولو بإيجازٍ لما يُعنى بالرواية أو الإبداع الروائي عمومًا، وأي الهموم تشغله، وما يُراد كذلك بالنقد الأدبي، وهما تعبيران يُفترَض أنهما يُعرَّفان بالبداهة، ويجُرَّان من وراء ذلك تبعاتٍ ونتائجَ عدة.

ها نحن نبدو وكأننا نعودُ إلى نقطة البداية، من حيث انطلقَت هذه المداخلة التي يقول عنوانُها خطابًا صريحًا لا يحتمل إلا تأويلًا واحدًا. أما أدبنا المغربي الحديث، والرواية اليوم هي عمادُ صَرحِه، فإنه ما زال يؤسِّس أطرافَ معانيه ومبانيه، ويواصل منذ الأربعينياتِ اقتراحَ مفاهيمَ وصيغٍ له هي ما تُشخِّصها نصوصٌ بعينها. ومن المهم والضروري أن ينكَبَّ القُراء المحترفون والنقاد في مقدمتهم على قراءتها باعتبارها مطروحةً على صعيد تكويِن سؤالِ وهُويةِ أدبٍ معيَّن، وبوسعهم أن يفعلوا ذلك محفوزين مرةً أخرى بتلك الأدوات التعبيئية التي سجَّلها تاريخ الأدب والواقعة خارج دائرة الأدب، ثم لهم وبعد أن تفرغَ تلك الذخيرة، التي لا شك أنها استجمعَت رؤيةً تاريخيةً لمراحلَ ثقافيةٍ وإبداعيةٍ كاملة؛ لهم إذن، أو سيكون عليهم أن يعرفوا سؤال البداهة: ما هو النقد؟ ماذا نريد من النقد الأدبي؟ وماذا يعني اليوم طرحَنا لهذا السؤال الذي أصبح عائمًا في صيغة التلقي؟ وأسئلة أخرى ما أكثرها! … أما أنا — وآسف إذا كرَّرتُ أنا كثيرًا — فأترككم لأستمتع بشمسِ النص التي أراها أشرقَت وتُواصِل الشروق.

١  ترجع أصول هذه المادة إلى مداخلةٍ سبق أن قدَّمناها في ندوة حول موضوع: «الرواية المغربية بين الإنتاج النصي والتلقي النقدي» نظَّمَها المركز الجامعي للأبحاث السردية. كلية الآداب، جامعة ابن زهر، أکادیر (ربیع ١٩٩٨م).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤