الروائي في الزمان
الروائي في حاضره١

يبغي البعضُ من الكاتب أن يمتلك قدْرًا موزونًا من الرصانة لكي يتمكَّن من تجميع شتات العالَم حوله، وطرحِ صيغٍ وقوالبَ وإيقاع، أيضًا، تحتوي الرؤيةَ المؤلِّفة لمشروعه الإبداعي والفكري والإنساني. ويتطلب بعضٌ آخرُ من الروائي، بالأخص، أن يتسم بالقَدْر نفسِه وأكثر من الموضوعية، تؤهِّله ما أمكَن للإحاطة بالعوالم والفضاءات التي تعيش فيها شخصياته، وتشتبكُ علائقُ حياتهم ووجودهم أو تتواجه مصائرُهم، وهذا رغم أن شخصية السارد من مهامها التوسُّط بين الكاتب والعالَم المحكي للَجْم كل إفراطٍ أو انحيازٍ سافر.

ويمتلك الكاتبُ بدوره شروطًا واستجاباتٍ خصوصية، وهو يتقدَّم بخطواتٍ أو طفراتٍ في المسار الذي يصنعُه لنفسه، وفي الثقافة الجماعية التي يعيشُ فيها وانبَثقَ منها بشكلٍ من الأشكال، ولكونه ينتمي إلى شجرةِ أنسابٍ معرفيةٍ وأدبيةٍ لبشريةٍ عريقةٍ في تقلُّبها بين حدَّي الشجَن والولَع.

إن هذا الكاتب — وإليه الروائي الذي ما يزال في حدود طرحنا مطلقًا وليس مقيدًا بأية اشتراطاتٍ أو حدودٍ من أيٍّ نوع — إنسانٌ صاحبُ اختيارات، ومالكٌ لقدرة الاختيار حين يشاء؛ فهو مالك، مثلًا للحرية سلوكًا وقيمة، وللعدالة وللديمقراطية، يعيشُهما ويستطيع أن يتصرَّف وَفْقهما. وبحُكم ما تسمح به المساواة والتوزيع المنصف — وحتى المجحف — للخيرات المادية والرمزية، بإمكانه أن ينخرطَ في السياق العام لمختلف العلائق المنسوجة في المجتمع، لا بل وأن يرتادَ سياقاتٍ جديدة، فلا يُبرَم أي ميثاقٍ ولا تنعقد التوافُقات، كما لا يتحدَّد محتوى الخطاب أو يكتمل إلا بحضور صوتِه القوي، الجهير والمتفرِّد، أصليًّا بذاته ومؤصلًا بمشروعه. مثل هذا الكاتب، مثل هذا الروائي، عاش ويعيش في زمن/زمان، ذي تنضيدٍ وتوصيفاتٍ معلومة. لقد توارث ثقافاتٍ وأنتج داخلها، وصوتُه محسوبٌ فيها، ورسالتُه مثل كلماتِه محفوظة، وقادرٌ على أن يُدافعَ عن خطابه ويصونَه من مختلف أنواع الإفساد والشطط.

مثل هذا الكاتب، مثل هذا الروائي، موجود في فضاءٍ مفتوحٍ ومتعدِّد من المخاطبين والمحاورين والمتلقين الموجبين، وهم قبل ذلك من المستهلكين الفعليين، وهذا الاستهلاك الرمزي (بل المادي) ما دام يتحول إلى علامةِ وجودٍ ورمزِ انتماءٍ ويغدو شرطًا للصعود الاجتماعي والمهني هذا الاستهلاك/المشاركة ليس مسوِّغًا للاستمرار في الكتابة فحسب، بل الضرورة المطلوبة لدى الكاتب لكي يقتنعَ بوَهْم كتابته، وليُواصِل حفرَه ومشروعَ الخَلق المتجدِّد الذي يرتاد؛ ومن ثَم يعرِف أو يحدُس ما في شغاف النهر وأحشاء الناس، ونحو أي ضفافٍ سيمتد. إن الأمر يتعدَّى مسألة وجودِ قارئٍ حيٍّ وفاعلٍ إلى وجودِ وضعٍ (Statut) مُهيكلٍ يحضُر فيه الإنسان، الفرد، القارئ الشريك كمؤسسةٍ لها سيميائيةٌ خاصة وقانونيةٌ معينة، يُعتبَر المجتمع الثقافي أحد مكوِّناتها الكبرى بمجملِ ما يختزنُه من مفاهيمَ وحوافز، ومشاريع، وصراعات، ورغاب، وإرهاصاتٍ للإبداع والتغيير.

مثل هذا الكاتب، مثل هذا الروائي، نطَق وينطِق بضميرٍ واضحٍ وصريح، ضمير المتكلم، المُعلِن «أنا» فصيحة بلا توسُّطاتٍ ملتبسةٍ أو مشوِّشة، هنا تنتشر ذاتٌ حضاريةٌ وثقافيةٌ وتمدُّنيةٌ ووجدانيةٌ مؤسسية. هي صاحبة النبوءات، والتشريعات، والصياغات الخالقة، بل المؤلَّهة أحيانًا. لم تُصبِح الرواية ممكنة حقًّا إلا عندما حوَّلَت الذات من مجرد فسحةٍ مؤقتةٍ للتنفيس عن المكبوت وشرح الصدر، حوَّلَتها إلى كيان ذي عُمُد وهياكل ونظام وسُنن، إلى مركزٍ يُصدِر القول بوعي وإرادة واقتناع وإيمان وحميمية، وبتمرُّد ومجازَفة إن اقتضى الأمر. لا تراه كيانًا محصور المهمَّة في هذا المقام، فهو دائمًا يؤسِّس شروط القول، ويُقيم فضاءه، ويدفع بالأناسي فيه نحو هُويةٍ تتولَّد من مساراتٍ متباينةٍ هي خطوطُ طول وعرض الوجود؛ إن أي هُويةٍ تتولَّد من هذا المركز، وهي في علاقةِ تفاعُلٍ مُستمرٍّ مع محيطه على إيقاع الصراع وجدَل الأفعال وتعدُّد الأصوات، ما يعني نهايةَ مساحة التبسيط، والاتجاه الى الظواهر المركَّبة، وإلى الوضع والمصير الإشكالي فوق قاعدة زمن/أزمنة تتسارَع فيه الأحداث، وتتناسَل الأزمات، وتشتبكُ فيه التصوُّرات الفلسفية والسوسيولوجية، والنُّظمُ الاقتصاديةُ والسياسةُ والصيغُ الأيديولوجية. والروائي ضمن هذا كله يُلاحِق هذا السباقَ اللاهثَ للإنسان تارةً ويرتادُه أخرى، مستوعبًا ومركبًا لرؤى العالم وصائغًا لها في آنٍ باستشرافاته وحُدوسه وخصوبة خياله.

أي موقع للروائي العربي إزاء هذه المقوِّمات والاشتراطات والصيغ؟ وهل يمتلك زمنَه حقًّا، أو ماذا يمتلكُ منه لكي تتوفَّر له الرؤية الحقيقية أو الممكنة عنه؟

لا أريد أن أنوب عن أحد في الإجابة عن هذَين السؤالَين وما هو من ضربهما، ولكني أشُك في أن الروائيين والكُتاب العرب عمومًا قادرون فعلًا على تقديم التصوُّر المتماسك لزمنٍ مبعثَر، وتاريخٍ مفكَّك، وحياةٍ مليئةٍ بالثقوب، ومستقبلٍ مجهَضٍ دومًا. لستُ في حاجة إلى استعادةِ ما أمسى من قبيل المستنسَخات مما يصوِّر مجتمعاتنا العربية من مكوِّناتها وبنياتها وأزماتها من كل نوع، ويضيقُ أيُّ مقامٍ عن رسم الصور والأطر الفادحة لهذه المجتمعات حيث تَينَع التجاربُ الإبداعية وتتبلوَر رؤاها. أحسب أن العمل الأكاديمي الموسوعي والتشريحي للدكتور والروائي حليم بركات المعنون: «المجتمع العربي في القرن العشرين، بحث في تغيُّر الأحوال والعلاقات» (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ٢٠٠٠م)؛ أحسب أن هذا العمل يمثل أرضيةً علميةً متينةً تُساعِدنا على استنبات ودعم وجهاتِ نظرٍ عديدةٍ في هذا الصدد.

أمضي بعد هذا إلى القول بأن الروائي العربي لم يملك يومًا «رفاهية» الاختيار في تكوين أو اعتناق الرؤى المتبنَّاة لزمنه، والعوالم التي تشتغل بها وتتضافر حولها. منذ انطلاق ما يُسمَّى بالبحث عن النهضة أو تجديد الانبعاث التاريخي والثقافي، ومرورًا بالمراحل الاستعمارية المتفاوتة زمنًا ومظاهر، وبمشاريع التحرر وخطط النمو، ومراحل بناء الدولة الوطنية وتشييدها بمختلف الأساليب، يتصدَّرها الاستبدادُ وقمعُ الحريات، وإجهاضُ الديمقراطية ونبذُ التعدُّدية الحق، وصولًا إلى مرحلة العُقم الراهنة، الموصولة بحصيلةِ التبعيةِ العمياءِ وتبديدِ الثروةِ العربيةِ والارتباطِ القَسْريِّ بعولمة لا شأن لنا بها ولا خيار فيها.

منذ اتخذ الكاتب العربي الكتابة السردية — كجنسٍ أدبي حديث وجده جاهزًا أمامه مثل أشياءَ أخرى — وهو متخصِّص في تقديم الشهادة تلو الشهادة، في سياق ربط مفهوم الأدب في كل الحِقَب الحديثة، بمضمونٍ ونزعةٍ يكادان أن يكونا أحاديَّين حتى وإن تمايزَت زوايا النظر والمعالجة الفنية؛ أعني أن الأدب يُعبِّر عن المجتمع فيما يعانيه الناس من قهرٍ وبؤسٍ وتبدُّلات أو تطلُّعات لا ترتفع في الغالب عن مستوى الحرمان، بما يَقرِنه بالشهادة حينًا والوثيقة حينًا آخر، ويجعل ذاك الأديب-الروائي صاحبَ لسانٍ معارٍ أكثر منه حرًّا، أصيلًا.

إن تاريخ الرواية العربية بكامله، بتعدد الأقطار التي كُتب فيها، وتفاوُت قيمتها، لا يخرج بها في الغالب عن التوصيفات المعقودة في سجلَّات الواقعية، بالطرائق التأريخية، والتوثيقية، وحيثُ يفتقر السرد إلى آليات تكوُّنه الذاتي، وتعيش الشخصية فعلًا في فضاء العالم الروائي الخصوصي. وإذا ما ظهرتُ هنا صاحبَ شِنشنةٍ معروفةٍ عنِّي، ذلك لا أعُد ما سلَف مثلَبة، بل هو خاصيةٌ تؤكد حتمية اختيار، لا أقول، مفروضٍ ولكن قائمٌ بذاته سلفًا بمثابة إطار، على الكاتب أن ينضويَ فيه ليكون كاتبًا مكافحًا، واقعيًّا؛ أي ملتزمًا أو لا يكون.

إلى حدود مطلع العقد الثمانيني وأزيَد، كان معيبًا قولُ «أنا» في السرد العربي للأدب بالمغرب، وأي تعبيرٍ بضمير المتكلم ما يلبث أن يرتد إلى صيغة الجمع. كما أن هذا الضمير ليس وعيًا شخصيًّا ولا إحساسًا أو إرادة بل معنًى وموقفٌ مسبقان. والتعابير السردية التي كسرَت هذا النَّسَق لم يعتبرها النقد الأدبي المحنَّط المذهبية أكثر من انفلاتات. وفي الوقت الذي بدأ فيه الصراع على أشُدهِّ بين الديمقراطيين وسدنة العهود المظلمة اتجه عددٌ من الكُتاب إلى اجتراح نصوصٍ سرديةٍ مغايرةٍ ستنتمي جوهريًّا إلى هذا الصراع ولكن بتدبير وسيطَين مركزيَّين؛ أنا الشخصية القصصية الروائية من منطقِ ذاتيةٍ تفكِّر في نفسها وما حولها من خلالها. ثم التخييل، لا بوصفه قناعًا أو توريةً لواقعٍ مضمَر وتصوراتٍ حتمية، بل كمرتبةٍ أخرى هي ما يعطي للسرد الفني هُويتَه ووجودَه المستمر في أفق المتخيَّل والمحتمَل. وعدا هذَين الوسيطَين فإن الروائي سيُحِس أنه لا يحقِّق لكتابته وجودَها الخصوصيَّ إلا وهو في امتحانٍ دائمٍ لها، سواء بالسيطرة على الطرائق الفنية لجنسٍ أدبي يذهب إليه أو يحاول التلاؤم معه، وعند البعض تكييفه وتلقيحه، أو بالاختراق والانزياح عنه عَبْر تجريبيةٍ وتجاربَ لجنسٍ أدبي وتجاربَ لا حصر لها.

لعلي من بين قلَّة يعُدُّون أن هذه التجربة — طبعًا حين تتواصل وتكتمل وتصبح كلاسيكية، أي جزءًا من تاريخ الأدب — أنها من حيث نُضج أدواتها، وقوَّة تكوينها، وجدارة عوالمها ودلالاتها، إنما تنتقل بوسائطها المنتقاة، وهي لا يُمكِن لها الإشهار باعتناق التقدُّم والدفاع عن الإنسان والحياة دون أن يكون التعبير اللغوي والجمالي والنوعي في أقوى تجلياته صورةً لها. إن تقدُّمية الأدب أو رجعيَّته أو التزامه التلقائي للإنسانية ليست في مضمونه، أو قل ليست في هذا المضمون وحده – وهو ما أعطانا جحفلًا من الكتَبة والنسَّاخين والرواة السذَّج، حتى ولو تكاثَر حملُهم وأثقالُهم — وإنما هي أكثر في تجاوُزه للنسخية وارتياده وتشكيله لما هو ذو طبيعةٍ خلَّاقة.

ليست للروائي رؤيةٌ أخرى في حياته غير ما يعجنُه من الحياة، ويقبسُه من نار الخيال. غير ما يستنبط من الإنسان التليد، الغريب، الغامض والتاريخي والغُفل أيضًا، من أصواتٍ وأسرارٍ رُكِّبَت لها أجنحةٌ تُحلِّق في سماء الأوهام والحلم.

لهذا نحتاج أن نقول في هذا السياق بأن كلمةَ رؤية أو مفهومها هي نقيضٌ لما يمكن أن ينخرط فيه الروائي باعتباره صيرورةً متواصلة، في حين نجدها قابلةً لأن تُطرح أو تنتصب كمقولةٍ ثابتة ومعتقدٍ وكأيديولوجية؛ ولذا فبذاخةُ الرواية ورفعتُها إنما تتأتى من الرؤيا لا من الرؤية، وخاصةً حين تُقارِب هذه الأخيرة في خطٍّ طولي، محكم الإغلاق في النظر والبناء، لا يُتيح قراءة النص خارج أطر أمسِه وجماليَّتِه المكتملة فيه.

لايقين الرواية هو يقينُها الممكن، مثلما هو لايقينُنا نحن الذين لم نقبض في النهاية إلا على الوَهْم بعد أن خَسِرنا جُل رهاناتنا، وهُزِمنا جيلًا جيلًا وأجيالًا في معاركنا — ومنها ما خاضه غيرُنا باسمنا عَنوةً — ولا نمتلك راهنًا أيَّة أيديولوجيةٍ أو عقيدةٍ يمكن أن تكون ملاذًا لنا، وإن توفَّرنا على واحدةٍ فإننا نُخبًا وجماهيرَ معرَّضون للفَناء بطرقٍ مختلفةٍ قبل الشروع في تنفيذها على صعيد الواقع. إن ما نعيشُه يعزُّ حقًّا عن الوصف، ويدعو إلى الاستغراب من كيف نكتب، ولماذا ولمن؟ ولذلك أجدُني بالضبط في الموقع نفسه الذي تحدَّث منه Giardinelli, Mempo، أحد الروائيين الأرجنتينيين الملاعين، حين قال: «ينبغي أن نكون في غاية الجنون، أو عديمي الإحساس لكي نحلُم بإمكانِ الاستمرارِ في طلب اللجوء إلى عالم الأدب.»

لماذا نكتُب في بلدان وبين شعوب لا تكاد تقرأ، ليس بسبب ارتفاع نسبة الأمية، ولكن لأنها لا تقرأ وكفى، ولا وجود في هذه البلدان لسياساتٍ حقيقيةٍ خاصةٍ برعاية الثقافة والمثقفين والمبدعين، ولرعاية ودعم الكتاب، وحيث لا دُور نشرٍ حقيقية، ولا نقادَ أو متتبِّعين جديِّين ومنتظمين للأدب، كما في الماضي، ولا ندوات وملتقيات علمية متخصِّصة ومنظَّمة، ولا سُلَّم للقيم الثقافية والمراتب الإبداعية.

وإذن، ماذا يبقى؟ كثيرٌ من الطلاء والتهريج. لماذا إذن نكتُب أو نواصل الكتابة بالأحرى؟

كنتُ أقول أخيرًا إنني أكتُب لمغالَبة اليأس. وبما أن اليأس استقَر، وأريدُ أن أستعيدَ الأمل، أو أناوِر نفسي أقول: أكتب لأني لا أستطيع أن أفعل شيئًا آخر.

هذه هي «المهنة» الوحيدة المُمكِنة بالنسبة إليَّ التي أعلم أنني لم أمهر فيها لأنني لم أصبح مهرجًا بعدُ، ولكنها ضروريةٌ لي، ولا أستطيع أبدًا أن أعدلها بشيءٍ آخر، وهي عندي والحياة قلبٌ لظهر، أو لأنها ما تزال تسمح لي بتقديمِ شهادةٍ عن أموات وأحياء — لا تهمُّهم الشهادة — ولن أزايدَ في الأخير إذا أضفتُ بأنها فعلُ مقاومةٍ في وجه كل ما يُبدِّدنا ويُساوِم في حُلم المستقبل برخص. هذا الفعل هو أخلاق الكتابة.

أخلاق؟!

أكاد أضحك، أصرُخ، أم أنتحِب.

لا هذا ولا ذاك. أظن أن هذا الكلام جاء متأخرًا جدًّا، وفاترًا جدًّا، رغم أنه نابعٌ من قلبٍ مشبوب. أظن أني عفتُ القلمَ والورقة، وجلستُ إلى مائدة الغذاء، مثل أي حيوانٍ ينبغي أن يأكل؛ فدفعتُ يدي إلى الصَّحن وغمستُ فيه أصابعي على الطريقة العربية، ومباشرةً خرج من الشاشة موكبُ الشهداء، أو من «الإرهابيين» نحن الإرهابيون، أليس كذلك؟! … تتوقَّف اللقمة في فمي، أحِسُّ باللقمة واقفة، هل هناك سلكٌ أو خيطٌ أو ربما حشرةٌ في الطعام، أمتنع عن دفع أصبعي إلى بلعومي لكيلا أقيء أو أقيئني، أحِسُّني من بلعومي مُعلَّقًا يتدلى حزام جلدي، أسحبه فتخرج قدمان، رجلان، ساقان، خصرٌ بأكمله، صَدر، عُنق، وأخيرًا ها هو ذا بين يدي وجهٌ بلا ملامحَ لشخص كان اسمُه عرب … كان اسمُه ذاتَ زمانٍ خرب وحاضرٍ فات ومستقبلٍ لم يأتِ … كان أحمد المديني، فادعُوا له بالرحمة والمغفرة.

١  قُدِّمَت هذه الورقة في الندوة التي عقدَها مركز الدراسات العربية المعاصرة، جامعة جورج تاون، واشنطن. بشهر مايو ٢٠٠٢م، حول موضوع «الرواية العربية: رؤى الواقع الاجتماعي». شارك فيها باحثون وجامعيون، وروائيون بارزون من جامعاتٍ وبلدانٍ غربية وعربية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤