محمد شكري: الجسد-النص١

عندي احترازٌ أودُّ أن أفصِح عنه من مطلع هذه الورقة، وأصوغه في السؤال التالي: هل نكتب عن الكاتب وقد غيَّبه الموت كما نكتُب عنه وهو حي، كما كان الشأن دائمًا مع الفقيد محمد شكري وهو يقفزُ ويتلوَّى مثل أي بهلوانِ سيرك فوق الكراسي ونحن خلصاؤه نُصفِّق له، وننظر بإعجابٍ لمرونة الشخص الذي اكتهل ولَم …؟ لا أملك أيَّ جوابٍ عن سؤال يُفترَض أنني أعيه قبل أن أطرحَه، في حين أجد نفسي مضطرًّا للاعتراف باستمرار وجودي تحت صدمةِ فراقِ هذا الإنسانِ الغالي، الذي عرفتُه مدة ربعِ قرنٍ ونيِّف، وهو من شأنه أن يشوِّش على كل مقاربةٍ هادئةٍ لعالمه النصي، فيما عواطفي ما تزال مشبوبةً بروحه التي تُحلِّق الآن في الأعالي.

ولو شئتُ أن أناور هذا الاحتراز فألَولِب سؤالي، على طريقة صديقنا الأستاذ عبدالفتاح الحجمري، لقلتُ بأن علينا أن نفرز عناصر السؤال واحدًا واحدًا، ونطرح عليها من جانبنا أسئلةً إضافية، كأن نتفق أولًا بأن الأمر يتعلق بقضيةٍ موضوعيةٍ يُمكِن تجريدُها عن ذات صاحبها، بما أن المراد هو المقترب النصي، ولكن، هل هذا ممكنٌ حقًّا؟ وأي مشروعيةٍ لهذه الثنائية المفترَضة، أقصد تلك التي تجعلُنا نقرِّر بداهة، وغفلة أحيانًا، دون أن يدور رأسُنا ولو مرةً واحدة، بأن الكاتب يكتب عن وحول وفي الموضوع الفلاني؟ وهو يجري على ألسنة المتلقِّين بالتبعية، حين يسألون أو يخمنون عن أي شيءٍ تتحدَّث هذه الرواية أو تلك القصة، وهم يأملون في جوابٍ قريب، صنيع بعضِ الناسِ حين يطلبون من الخضار جوابًا «واش الفول طياب أو …؟» إما من شكٍّ أن هذا الصنف من الكتابة موجود، ولم يفعل بلزاك غير ذلك وهو يبني في عشرينيات القرنِ التاسعَ عشرَ وما بعدها روايةَ البورجوازية الأولى، التي ستُدشِّن الرواية الحديثة. لكن فلوبير سرعان ما تصدَّى له فحقن عروق هذا الجنس الأدبي بوباء Le bovarisme (نسبة إلى روايته Madame Bovary ١٨٥٧م)، الذي لم ينفع معه علاجٌ حتى الآن.

لنُواصِل مع صديقنا الحجمري وهو يتفضَّل ويقرأ عليكم هذه الورقة بذلاقة لسانه، ونسمعه يسأل بمكر: هل كتب محمد شكري «الخبز الحافي» عن ذات أو عن موضوع؟ هل كتبها بذات عن موضوع؟ ولماذا لا نقلب: أم موضوع عن وبذات؟

معلوم أن ثمَّة سلسلةَ أجوبةٍ قد تكون لا متناهية كما يحدُث في الرياضيات من أ إلى … ومعلوم، أيضًا، أننا نفترض، بل نشترك في الإجماع الذي اعتبر «الخبز الحافي» هي دليل السير الأدبي، النصي للكاتب، أشبه ببيضة الديك، والحال أن الراحل نشَر أعمالًا أخرى، لأمرٍ ما، لا تعلق بأذهان المُجمِعين.

سيتوقف الناقد السائل ليستجمع أنفاسه في لحظة تأمُّل وتذكُّر، ويدعونا إلى الانتباه للآتي؛ الانتباه لما خطَّته الأيام؛ أي لجزء من سيرة الكاتب الراحل: رؤى شكري دائمًا، ويعرف ذلك أصدقاؤه الذي استمعوا عن كتَبٍ إلى طرافاتِ حكاياته وشقاواتِ صباه وإلى تخومِ كهولته، أنه التحق بالمدرسة متأخرًا، وهذا بمدينة العرائش في سن تزيد عن السابعةَ عشرة من عمره (بالمناسبة فإن صديقي الذي كان يُحب أن يُوقِّع لي كتبه بلقب «لمسيخط»، بدا فعلًا مسخوطًا مع هذه المدينة، لم يحملها كثرًا في قلبه، لذكرياتها ربما، أم لأن ندًّا كبيرًا له في الشقاوة وهو جان جوني قرَّر أن يجعلها مرفأه الدنيوي والأبدي). بناءً على هذه الرواية يبني الشحرور الأبيض جبل عصاميَّته التي أوصلَته — انتبهوا — إلى الشهرة التي تعرفون.

حَسَن، سيُقال هذا تحصيل حاصل، ولكني أجيب، لا تتعجَّلوا، هذا التذكير يُفضِي إلى ما بعده؛ فالحجمري سيستأنف حفرياتِ أسئلتِه ليُضيف سؤالَين أساسَين؛ أولهما واردٌ يخصُّ العمر المتأخر نسبيًّا الذي بدأ فيه شكري الكتابة، والثاني عن الصدفة القدرية أو الماكرة التي قدَحَت زنادَ موهبتِه ودفعَته ليغزلَ خيوط الحكاية على نول بول بوولز. بلى هذا السؤال الجوهري الحاسم قد نظرنا، والذي نعتبره مهماز مدماك هذه الورقة، وأريد هنا أن تُصيخوا السمع جيدًا، أقصد تحديدًا اللواتي والذين لم يعيشوا مع الشحرور حياةَ الليلِ النهارِ ودقُّوا بكعوب أحذيتهم صخورَ المغارات وأمواج البوغاز المترامية مع انبلاج الفجر المُشعشِع، أريدكم أن تسمعوا مجددًا، وأبعد من هذه القاعة حيث يُوجد آخرون يعتقدون أنهم يعرفون عن أي شخص وعن أي موضوع يتحدثون، حتى حين يتحدثون عني شخصيًّا بثقة وحسم، أنا بعد نصف قرنٍ أحاول أن أعرف نفسي – الحاصل أسأل: أي شكري نعني حين نتكلم، أجل، شكري الإنسان أم شكري النص، أم الإنسان الذي أسطر النص، أم ربما أيضًا الذي أسطر صاحبه؟ لقد نبَّهتُكم إلى أن أسئلة صديقنا الحجمري لولبية، مدارية، لا تنتهي، وذلك ببساطة لأنه لا يقبل بالسطح، بالجاهز، ويحب المزيد … من العلم طبعا «وقل ربي زدني علمًا».

لنُذكِّر مرةً أخرى ببعض العناصر السيرية (Biographique) الضرورية التي ستنهل منها السيرة الذاتية باعتبارها رصيدًا للمعيش الشخصي، في تقديرنا، أكثر منها تمثيلًا للنوع الكتابي (= الجنس الأدبي) الذي يقود إلى صعيدٍ آخرَ من التأويل. لقد عاش محمد شكري أكثر من نصف عمره وهو يصنع حياته، يرقى في سلالم الأيام والأعوام المكسورة والمنخورة يتعثر دائمًا، يسقط وينهض ويلقى الشقاء والعنف، والابتذال والمهانة والحرمان دائمًا. ولكي يقاوم هذه المكاره كلها لَزِمَه أن يتوحَّد مع نفسه، وهو في الحقيقة لم يملك غيرها، أو بالأحرى لم يملك غير جسده في مواجهة حياة كانت تطردُه منها باستمرار، ويُعانقها بعناد البقاء.

لم يكن شكري أبدًا مشروعَ كاتب، ولا خطا في الحياة كإنسانٍ سويٍّ مثل سائر الناس، تمامًا مثل جوني الذي كان متطابقًا مع ذاته كلصٍّ وكمثليٍّ قبل أن يصبح ما نعرف. وحين وطَّن نفسَه على التهام عشرات الكتب، وهو يجلس في مقهى «سنترال» بالسوق الداخل في طنجة، لم يفعل من أجل ترسيمٍ اجتماعيٍّ ولا لنيل شهادةٍ تُتيح له الانخراطَ في السلك الوظيفي. وهو إنما أصبح معلمًا ليقتات، وضاربًا على الآلة الكاتبة في المدرسة، وهو لا يفهم لماذا، والليل وحده يُنسيه بلواه، والليل وحده يحقِّق له الانسجامُ الطبيعي محاولة واهمة لتمتلك، إعادة تملُّك طنجة، التي كان قد تقاسَمَها الحلفاء، وعاث فيها المهرِّبون من كل نوعٍ بعد ذلك فسادًا. وباختصار، فإن شكري بعد أن نبذ العائلة — أيُّ عائلةٍ هذه التي يقتُل فيها الأب أبناءه خنقًا؟! — صار حُرًّا، وانطلق يؤسِّس هذه الحرية تدريجيًّا في طنجة.

حين جلس أمام بول بوولز في سلسلةِ حلقاتٍ يحكي له حياته، كما لو على أريكة محلِّلٍ نفسي، فقد كان يمارس هذه الحرية بدون أن يُفكِّر في الكتابة مطلقًا. كان يظن أنه يُبرِم صفقة، والمشتري أيضًا أبرم صفقةَ شراءِ حكاياتٍ عجائبيةٍ نوعًا ما، بحُكْم القَسْوة الرهيبة التي عاشها أصحابها منظورًا إلى وضعهم في مجتمعاتٍ منسجمة، كما فعل قبلَه مع آخرين؛ الشرادي، لمرابط … إلخ. ليس في هذا أي تنقيصٍ من الشحرور، الذي أجزِم أنه كُتب «من أجل الخبز وحده» بعد انتهاء بوولز من تسجيل (على الآلة) الحكايات مِن فَم (مِن فِي) صاحبها بأكثر من لغة.

مع «الخبز» أو من أجل الخبز وحده واصَل شكري مشروعَ بناءِ وإكمالِ جسَده، في هذا النص، ونصوصٍ أخرى، لم يفكِّر في الأدب، في تقنية الحكي وإن فكَّر جيدًا في تقنية البؤس؛ ولذا جاءت نصوصُه فاضحةً لأنها بالطبيعة نصوصٌ جسدية (كما خلَقها مولاها)، وهكذا بدلًا من أن نَلغُوَ بنفس المصطلحات أليس الأجدر بنا أن نتساءل وننتبه بأن شكري بنى نوعًا «أدبيا» آخر في أدبنا ندعوه الآن اعتباطًا جسد النص، من جسده، فيما نبني نحن من خارج وباللغة، اللغات المستعارة. في أيامه الأخيرة بالمستشفى العسكري بالرباط سمعتُه يقول بروح النكتة: تصوَّر الآن، وقد صرتُ مشهورًا، وعندي المال، وأصبح بإمكاني أن أرسُوَ إلى بَرِّ الأمان، ها هي ثلاثة سرطاناتٍ تهجُم على جسَدي!

١  رحل شكري عن عالمنا في نونبر ٢٠٠٣م، وقد كُتب هذا النص وقُرئ بالنيابة عني من طرَف الناقد الحصيف عبد الفتاح لحجمري في مناسبة تأبينٍ للراحل شكري، نظَّمَتها الجمعية المغربية للأدب المغربي والمقارن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤