تذويت التاريخ في الرواية

١

لنُنبِّه من البداية أن هذه الدراسة لا تقصد بأي حالٍ الحديثَ عن التجربة الروائية، بالمعنى الشامل والمركَّب، وإلا فسيكون التنطُّع طابعَها الذي نبغي التبرُّؤ منه سلفًا، آملين التوصُّل إلى الطرح المنشود، أي المتوافِق مع ندوة اتخذَت الرواية والتاريخ، أو العلاقة بينهما موضوعًا لها. القصد إن اتضح لنا جيدًا، وفي حدود ما نأمُل أن يحضُر تدريجيًّا عن هذا الموضوع، هو أن نبني مفهومًا معينًا عن وللتاريخ من خلال تجربةٍ أو كتابةٍ محددة، هي هذه التي ننشِئها، ووضَعنا في مضمارها نصوصًا يعتبر النقد الأدبي وتاريخ الأدب، في المغرب وخارجه، أنها تنتسبُ إلى الرواية أصلًا وفصلًا، ولها فيها مجرًى ومذاقٌ خاصَّان.

من المهم الاحتياط والحديث عن شيءٍ ينبغي أن ينبني عما يُؤخَذ، عادة، في حكم المنجز، سواء على المستوى النصي التصنيفي، أو من ناحية المقاربة المنهجية التي لا يمكن أن تكون قارةً إلا إزاء نصوصٍ مصبوبةٍ في قوالبَ محنَّطة، ما نفترض استبعادَه في الحالَين. إن الحديث عن تجربة ليس هو سرد أقوالٍ مصنَّفة، ولا تجميع خصائصَ لروايات يعتبر أصحابها أنهم إما يكتبون التاريخ مباشرة، أو أن لهم منظورًا فيه لا يمكن أن تخطئه العين؛ عين القارئ عمومًا الذي يذهب إلى هذا النوع لذاته، والعين المجهرية الأقوى للقارئ المحترف — نعني الناقد أو الدارس الأدبي الذي سيشغل عندئذٍ إوالياتٍ للتلقي معيَّنة. إنه حديث ما هو قيد الإنجاز — وهذا حال الرواية العربية، أمسِ واليوم — وما لا يتحدد إدراكه إلا بخبرة الوعي به في تكوُّنه وعقب تلقِّيه، ثم إمكان نقضِ عمليةٍ ما ينفكُّ النصُّ والتاريخُ نفسُه يتجاوزانها بالتحويل، أو التجديد، أو الإلغاء.

سيكون الأمر في غاية البساطة، قُل التبسيط، لو توافقنا على كلام يندرج في السَّنَن المُحكَم للرواية التاريخية، ذات التقاليد العريقة، في الرواية الغربية، طبعًا، ومن صُلبها خرج بعضُ العربي. في هذه الحالة هناك أعمالٌ معلومة، ومصنَّفة بوصفها تاريخية، بالتيمة والأحداث والشخصيات، وهو تحصيلُ حاصل؛ أي إننا لن نتقدم خطوةً واحدة في أي بحث حول هذا الموضوع أو ما شابه. والقراءة النقدية، والكتابة بمفهوم التجربة، ليستا أبدًا تحصيل حاصل؛ لأنهما بطبيعتهما يتأسَّسان على قاعدة خلق أو تركيب نموذجهما ومواد بنائه. في حالتنا يتعلق الأمر فعلًا بتأسيس من قبيل إعادة البناء التي نزعُم أو نطمَح إلى إمكان تشييد التجربة الخصوصية، ضمن التجربة السردية العامة، التي لا بد أن نستحضر على الدوام شروط وجودها وعوامل وكيفيات تبلوُر مضامينها ورؤاها، أيًّا كانت تعبيراتُها وصياغاتُها الجمالية، زيادةً على أنواع المهارات السردية داخلها.

٢

سنطلب من القارئ ألا يأخذ الفقرات السابقة على محمل التحوُّط المنهجي، علمًا بأنه مطلوب فيما نحن بصدَده؛ فورقتُنا بالمنحى الذي ستأخذ وهي تتحرك في فلَك متنٍ إبداعيٍّ عربيٍّ شامل، بمواصفاته المعلومة، محكومةٌ حتمًا وطردًا ومنحازةٌ عمدًا للمتن السردي في إنجاز المغاربة؛ يحتاج القارئ أن يعرفه ولا يتهوَّر في الحكم عليه أو تذوُّقه بمعلومات تلك الكتب التي تدَّعي شموليةَ معرفةِ الأدب العربي، وهي لم تعرف إلا لونًا واحدًا منه. وهي بعد هذا، وهو الأهم في نظرنا والأرجح، أنها ورقةٌ تستفتي بالاستقراء والاستنتاج رواياتٍ أو محطاتٍ أو مشاهدَ روائيةً بعينها لنا ولزملائنا، وبالتالي فمقصدها أن تُري كيف نرى التاريخ ونعيه ونكتبه، أو تكتب «تجربته» من خلاله وبواسطته، ما يحتاج من غيرِ شكٍّ إلى بيانٍ هاكم بعضَ عناصره:

  • (أ)

    أجل، نقول، أولًا، بعض، وإلا فسننجر إلى الاستعراض التاريخي للخوض في تفاصيل التاريخ الأدبي، التي لا شك يحتاج إليها من لا يعرف الأدب العربي الحديث المغرب، والمغرب العربي عامة، ولكنها قد تشوِّش على المطلوب من نواحٍ شتَّى؛ إحداها كيف يُمكِن اختراقُ التاريخِ نفسِه والانزياحُ عنه من داخله وبأدواته. ولا يسعُنا، رغم ذلك، إلا أن نعتمد على الذاكرة الجمعية للقارئ الأدبي لملء أي ثغرة، أو سد أي نقصٍ محتمَلٍ لمعلوماتٍ سيظهر مكانُها شاغرًا أو بيضاء حسب الاصطلاح المتداوَل.

  • (ب)

    يظهر السرد العربي الحديث، في بواكيره وغُدُوه، والتاريخ يسبقه، تارةً يؤسِّسه وتارةً يمهِّد له الطريق، وأخرى يتقمَّصه، وفي كل الأحوال حضورُه طاغٍ فلا يبدو ما هو سردٌ غير مطيةٍ له تُتخذ للتذكيرِ بوقائعه واستخلاصِ مغازيه ونحتِ عِبَره. إنه لمن المفارق حقًّا أن يلتفت النصُّ إلى الماضي، بل وأن يعكف عليه فيما هو يحمل زعمَ الحديث ويشهره؛ أوليس التحديثُ في أحد تعريفاته التقدُّم إلى الأمام والقطع مع كثيرٍ من المخلفات السابقة، وإلا فإن اجترارها سيُبقينا نُراوِح مكاننا. لكن المفهوم الرومانسي للماضي، المفهوم النوستالجي، بوصفه الملاذَ ومصدرَ القوة والاستيحاء يعطي لاستخدام المادة والتيمة التاريخيَّتَين دلالةً تحديثيةً قويةً خاصةً حين يكون الحاضر شاحبًا ومفتقرًا إلى عناصرِ قوة وُجدَت في وقتٍ آخر.

  • (جـ)

    لقد شكَّل هذا الفهمُ جوهرَ استخدامِ كاتب القصة للمادة المعنية — مشرقًا ومغربًا — في تفاعلٍ وانسجامٍ مع منزع التحديث الأدبي، المتمثل في اختبار السرد الحديث. هذه قراءتُنا للتجربة السردية التاريخية الكبرى لجورجي زيدان، وهي عندنا أم التجارب وأقواها في هذا الباب، تُغني عن سابقاتها، وتجعلُ الجدلَ حول مسألة الريادة ضربًا من اللغو «النقدي» لا يقدِّم ولا يؤخِّر. ويُمكِن أن نلمس الشيءَ ذاتَه، مع فارق الكم في الإنتاج ومراس القَص، فيما كتبه المغاربة من قصصٍ أو رواياتٍ قصيرة، وعمومًا في نصوصٍ ظهرَت تشكو من عوائق التميُّز بتجنيسٍ سليمٍ أو مناسبٍ في نوعها، وهي رفدَت جُلها عند محمد بن عبد العزيز بن عبد الله في «شقراء الريف»، و«غادة أصيلة»، وعند عبد المجيد بن جلون في «وادي الدماء» ذات الميسم التاريخي الوطني العام، وكذا عند آخرين ذوي توقيعاتٍ غُفل وترجماتٍ معرَبة أو مقتبَسة مصبوبة في القالب نفسه، ولغاية العِبرة والفطنة؛ نقول رفدَت من أحداثٍ خصبةٍ ورمزيةٍ في تاريخ المغرب.

  • (د)

    حقًّا، إن القاص في المغرب، وهو عند عتَبة فن القص، لم يكن يملك أو يجرؤ أن يتملَّك غير التاريخ مادةً وسندًا للسرد ولمادة السرد، وهو بذلك كان يقوم بعمليتَين يعتبرهما متكاملتَين في رهانٍ متبادَل أو مشترط؛ لا قصة بدون محكيٍّ تاريخي، ولا طريقةَ لاستنهاض الواقع-الموجود تحت طائلة الجمود والاحتلال إلا بتمريره عَبْر الوساطة التاريخية التي يمكن أن تتخذ عدة أشكالٍ ونماذج، منها، ولا شك، بطولاتٌ وأمجادٌ وحبكاتٌ فروسيةٌ غرامية، مألوفة في هذا الجنس التعبيري، وبينها على الخصوص محاولاتٌ بدائيةٌ محتشمةٌ لإنطاق صوتٍ ذاتيٍّ أكاد أقول إن صاحبه «يهرِّب» به عواطفه في المعبر الجماعي؛ في الكَم الحدَثي لوقائعَ غابرةٍ تنزوي وتتلعثَم في ظلالها بعضُ الأنوات المتحرِّقة بين عواطفَ شتَّى.

  • (هـ)

    بيد أن الأهم، في المرحلة البدئية التي كان بن عبد الله من روادها، تمثَّل في الانتصار لتصوُّرٍ خاصٍّ للتاريخ يتلخَّص عند هذا الكاتب في جعل الحتمية قانونًا مهيمنًا يتأكَّد به الانتصارُ النهائيُّ للإسلام على الكفار، الشيء الذي يعكس رؤيةً محددةً للعالم، باصطلاح غولدمان الشهير، هي رؤيةُ الفئة أو الطبقة التي تهتدي بالسلفية فتجعلها نبراسًا لهزم عراقيل حاضرها. من تمَّ فإن البطولة الفردية المزعومة، كما أسندها المؤلف للمرأة في قصتَين له هما: «الجاسوسة السمراء»، و«الجاسوسة المقنعة»، والتي تتقاطَع مع العقدة التاريخية أو توازيها، إنما تمثِّل أحد المسوِّغات لتمجيد المثل الأعلى في صورة التاريخ المُنتصِر ضد نقيضِه وخصمِه المهزوم.

  • (و)

    قريبًا من هذا الفهم، بل وفي فلَكِه تدور روايةُ أو قصةُ «وزير غرناطة لسان الدين بن الخطيب» المنشورة سنة ١٩٥٠م، وسيطول بنا الأمرُ لو أردنا أن نشرح لماذا يصعُب ضبطُ هذا العمل في خانة جنسٍ سرديٍّ محدَّد، حسبُنا القول إنه نصٌّ عُمدتُه التاريخ بالدرجة الأولى، وبطولتُه سيرةٌ تاريخية، ثقافية وسياسية، هي مرآةٌ لعصرٍ ومجالٌ لاستعراضِ قيمٍ ومُثُل، وفي الأخير استخلاصُ عِبَر من الماضي لخدمةِ الحاضرِ والنهوضِ به من وهدَته. فيما لا بأس من تخصيص سماتٍ مائزة في «وزیر …» نعتبرها كانت في قلب انشغال الأستاذ عبد الهادي بوطالب وهو ينسج بطبعه السمح ويراعه اللطيف هذه المأثرة الأدبية اليتيمة، تقريبًا، في سجل مؤلَّفاته الغزير. أولها كيفية تحقيق الانتقال من طراز الأساليب الحكائية والخبرية الكلاسيكية في الأدب العربي، ومثلها اللغوية والبلاغية، إلى الصيغة السردية والتعبيرية الحديثة، نظير ما تُبرِزه الروائياتُ الغربيةُ التي لا شك تعرَّف المؤلِّف على ألوانٍ ولغاتٍ منها. وهذا في الحقيقة حقلُ عملٍ واعد بإجاباتٍ مفيدةٍ تستطيع القصة التاريخية أن تقدِّمه لمن يرغب في مزيد فحص التشكُّل الحديث للأدب في المغرب، إلى جانب الأقطار العربية الأخرى وبتفاعُل بين عطاءاتها.

  • (ز)

    وبقَدْر ما يُبرِز أثَر بوطالب الطبيعة الانتقالية، بل الإشكالية في تكون السرد الحديث لأدبٍ ما، بوعيِ صاحبه أو بتلقائية، فإن المادةَ السرديةَ لديه والتي تُكتِّلها سيرة لسان الدين بن الخطيب تتحرَّك أولًا وأخيرًا في سياق التاريخ، يقودها ويُؤطِّرها، وفي النهاية يُفتي بالعِبْرة من وراء سردِ سيرتِها لقارئٍ مفترَضٍ في زمنٍ محدَّدٍ ومخصوصٍ بعلاماته التي يُحيل إليها مطلب الاعتبار؛ أي بسط رؤيةٍ للعالم عن ماضٍ تولَّى تنوب عن الحاضر المنطفئ، أو ما نُسمِّيه براديغم البديل المقلوب؛ أي الماضي الذي يُصبِح المستقبلَ المنشود. وعلى العموم فإن السياق المذكور، الذي تتبدَّل رموزُه وتتلوَّن صُوره بحسب الحبكات المعالجة، أو الشخصيات والأوضاع المرصودة كان وسيبقى إلى حدٍّ بعيدٍ أحدَ الثوابتِ المركزيةِ لتبلوُر تجربة الكتابة السردية في أدبنا الحديث إن لم يعد أقواها؛ تجلى ذلك في الماضي، نعني سنوات التعلُّم الموازية لنزوع الكفاح ضد الاحتلال الأجنبي والتماس أسباب النهضة بأيديولوجيةٍ وطنية، واتخذ طابعًا إشكاليًّا انطلاقًا من العقد الستيني المتوافق عندنا مع مطالعِ الاستقلالِ والبحث عن آفاقٍ وسعَ للتقدُّم والتحرُّر الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، أيضًا، بدا الكاتب المغربي الوليد وكأنه يُلاحِق ظلًّا لها تارة، أو «يؤرخ» لحدَثيَّتها تارةً أخرى، أما حين يستلهمها أو يُوحي بها فذلك دليلٌ على أنه شرع يطوِّع مادَّته ويغدو هو سيِّد السرد وليس التاريخ الذي يُمكِن ببساطة أن يأخذ اسم وشعار الأيديولوجية.

نظن أن أكبر ورطةٍ عاشها الكاتبُ العربيُّ وما يزال، إذا كان واعيًا بشروط وضعه وهو ما يهمُّنا، هي وقوعه في قبضة الأيديولوجيا، التي هي التاريخ، كما قلنا، بتسميةٍ مغايرة؛ فقد وُلِد أدبيًّا وترعرع إبداعيًّا واشتد عودُه أو ضمُر وهو يتغذى من ضرعها، ولا يكاد يُبصِر أحيانًا إلا بمنظارها. وما هي؟ لا تبحثوا عن تعريفٍ «أيديولوجي» لها؛ أي مذهبيٍّ محدَّد، ماركسي واشتراكي أو ليبرالي أو غيره، مما قد يتوافق مع حزبٍ سياسيٍّ بعينه. الأفضلُ أخذُ هذه المقولة كجملةٍ من التصوُّرات العَفْوية أكثر منها منظَّمة أو ممذهَبة. مضمونُها كما عاشَته ونطقَت به قوى التقدُّم والتحرُّر العربي والوطني — طبعًا قبل انتقالها إلى الاحتراف والاحتراب … إلخ — هو الدعوةُ إلى التغيير وتعبئة العمال والفلاحين، ولو بالشعارات وحدها، والسعي لبذرِ وعيٍ لدى الفئاتِ المتنافرةِ لطبقةٍ وسطى قيدَ التشكُّل يؤهِّلها لخوض معركة التغيير المنشود. ولقد برز الكاتب، وهو على الأغلب سليلُ هذه الفئات، طرفًا معنيًّا سواء لتبليغ الرسالة أو للتعبير عن ظرفه — «هواجسه» — من خلالها إلى درجة أن تحقَّق التماهي في وعيه بين الوظيفتَين. لكن كان لذلك ثمن؛ فمن جهةٍ أُدرِج في «جيش» المعبِّئين بما فرض عليه اعتناقَ وعيٍ مسبق، ما هم إن توافق مع شرطه الطبقي (كذا) بات يعمل — يكتب — على هديه، وهذا بالمناسبة فهمٌ مبسط للالتزام، إن لم نقُل الإلزام؛ ومن جهةٍ ثانيةٍ أضحت كتابتُه — سُرودُه، إن شئنا — خاضعةً في بنيتها ورؤيتها لما قبلها، مما أثَّر حتمًا على بنائها وإجمالًا على مستواها الفني العام، الذي يؤهِّلُها سرديًّا أو يُزعزِع الثقة في قيمتها، وهو الأغلب على ما نرى، وهي فعلًا ورطةٌ وإن لم يكن الإحساسُ بها واضحًا، قل فادحًا، باعتبارها جزءًا من تاريخ الأدب، آنذاك، وليس تاريخ الأدب المُترَف الذي نُمارِس الآن، ويُحاوِل أن يقرأ النصوص على ضوء الاقتدار الإبداعي لا الظرفي الموقوت، القرين بمذهبيةٍ ملائمةٍ اسمُها الواقعية، هي لعَمْري أمُّ الورطات، ويقع التاريخ، طبعًا، في قلبها.

لقد اقتضَت هذه الواقعيةُ أن ينظر الكاتب إلى وجهه وناسه ومعضلاته في مرآة التاريخ دومًا، المباشر منه أو غير المباشر؛ نعني القريب في حدَثيَّته اليومية وهو يتأدلج آخذًا صيغةَ نماذجَ وأنماطٍ ستتحوَّل إلى مرجعيةٍ من نواحي التيمة والمضمون والخصائص. ثم البعيد أو الكامن في أمسِ بتفاوُتِ زمنيَّته، بما تُمليه أيضًا من مرجعية. وفي كل الأحوال فإن التاريخ؛ أي الواقعية كرؤيةٍ ذات نتوءاتٍ متعدِّدة نجدُها على الأغلب سابقةً تسعى للاستئثار ما أمكن بأوسعِ مكان، في أعلى النص، وبفجاجةٍ إن وقعَت في يد موهبةٍ محدودة، وفي صلبه وأوردته الدقيقة إن عالجَتْها يدُ كاتبٍ صَنَّاع يدرك أن كل شيءٍ في الفن بمقدارٍ وإلا أسف فضاع.

إن التاريخ بمعنًى آخر هو المثالُ اقترب أو ابتعد، وما كان في الماضي مجدًا للتغني أو قدوةً للاعتبار، ينقلب هو ذاتُه إلى حُلمٍ أو طموحٍ بالهالة نفسها والدلالة. هذا بعضُ ما يجعلنا نقول إن التاريخ يتقدَّمنا، بحكم أننا نعيش، أو نكتب، في المستقبل ما كان يُفترَض أن يتحقَّق في وقتٍ سابق، وهذه طبعًا مفارَقةٌ أخرى تتغذَّى بها كتابتُنا السردية، وتُعَد في جانبٍ من تأثيرها من سمات الرواية التاريخية، بطبيعة رؤيتها الرومانسية الحنينية — الاستذكارية. مما يؤكِّد نظرتَنا هذه أن الروايةَ التي تجعل من التاريخ أحداثًا وشخصياتٍ وأزماتٍ ورهاناتٍ هي في النهاية قليلةٌ أو محدودةُ العدَد في أدبنا العربي الحديث، مشرقًا ومغربًا، ومن المُلفِت للنظر أن ازدهارها سابقٌ على ازدهار فن القصِّ الحديث في أدبنا. ونحن، على الأقل، داخل دائرة الأدب المغربي، لا نستطيع أن نُعوِّل إلا على نصوصٍ معدودةٍ في هذا الصدد، ومرجعُ الندرة في تقديرنا أنَّ مَن لجأ إلى الحوادث الخالية لم ينشُد الرواية لذاتها؛ فربما بدَت له شكلًا متاحًا من بين أشكال، وإنما بعثُ روح الأمة وإعادةُ بناء شخصيتها كان أوَّل مقصد.

وما لنا لا نذهب بهذه الحفور أبعدَ لنتساءل بأن أنسب إقامة للرواية هي فسحة التاريخ، والمقصود به عندئذٍ لا ما يأخذ منحًى تأريخيًّا أو مثله وإنما المسافة الزمنية القائمة في الخلف؛ حيث تراكمَت حيَوات الأقوام، واستقرَّت طبائعهم، وتحدَّد العمران وخلَدَت الدنيا إلى زمانها كما يخلُد المرء إلى النوم ثم يستيقظ وهو يعيش دورةَ حياةٍ زاخرة بكل شيء، بما يعلم وما هو في ظن الغيب، المعقول والمأمول والمحتمَل والمُدهِش والمُفجِع والعجيب وما ليس في الحسبان؛ كل ذلك هو التاريخ، وهو الرواية بلا منازع. لهذا تأخَّر الظهورُ الناضجُ لهذا الجنس في أدبنا العربي عامة، ولم ينتظم بصورةٍ حقيقيةٍ ومتَّسِقة إلا بعد النصف الثاني من القرن المنصرم. ودعك من نصٍّ هنا وآخرَ كُتِب هنا وثالثٍ ينازعهما قصبَ السَّبق على ولادةٍ لم تأتِ في الأول إلا قيصرية لأنها افتقرَت إلى لقاحها ورحمها الضروريَّين؛ نعني بنية ومُناخ المدنية الحديثة أو ما يُوجَد من أسبابٍ ماديةٍ في تنشئتها، التي تُعد مهمازَ تبلوُر البنية الواقعية التخييلية للسرد الحديث.

بالمعنى المذكور فجميعُ الروايات تاريخية أو تمتَح مادَّتها من واقعٍ تاريخيٍّ معين، كما تحتاج إلى الزمن الفسيح والفضاء الرَّحْب. وحتى ولو كان سيكولوجيًّا أو مبنيًّا على نسَق تيار الوعي فإنه مشدودٌ إلى الخلف حيث يستثمر ما حدَث أكثر مما سيحدُث، بذلك الإيقاع الذي يعود بكل شيءٍ إلى نهايته، فيما يرى السرد معه وكأنه يستثمر أرضًا بكرًا لتأهلَ بالمخلوقات الخصوصية؛ مخلوقات الرواية، بكل تأكيد. خلافًا للقصة القصيرة التي وإن كانت أصعبَ الأنواع الأدبية إلا أنها تبدو وتبقى متاحةً بمشاهدها العابرة، ولقطاتها ومواقفها المُنفلِتة، واختزالاتها ونفَسِها المركَّز، غالبًا ما تُورِّط ضعافَ المواهب في مآزقها فتخدعُهم بانفساحها لهم سطورًا أو فِقراتٍ معدودةً يحسبونها أقل عنتًا من الرواية، خاصةً والحياةُ اليوميةُ باتت تغتني بمعطياتها وليس بالزمن الروائي الذي يحتاج، كما قلنا، إلى طولِ وقت، ومعتركِ حياة، ومخاضِ تجاربَ ومصائر، فضلًا عن مهارات الأداء الفني. إن غيابَ هذا الزمن ومحدوديةَ فضاءاته، وبُطءَ تبلوُر عوالمه، وقلةَ خبرةِ شخوصِه بعالم — بمجتمع — هو في طور إعادة البناء؛ هذا وغيره جعل الشوط بيننا، نحن الكُتَّاب المغاربة، وبين الكتابة الروائية أطولَ مما يُفترَض، وبالمقابل تبدَّى عطاؤنا في القصة القصيرة أغزرَ وأجدَى نفعًا في استغلال وخدمة تيمة الواقعية باعتباره مدلولًا للتاريخ، في وجهٍ معين، وليست كذلك حقيقةً وتلفظًا. لقد كان في حاجة لأن يحدُث أولًا، وأن يُصنَّف، وأن ينسى — لمَ لا؟ — وأن يتم الوعي به في سياق تذكُّره، ومن ضربه كتابته، أو عندئذٍ تبدأ الكتابة وليس قبلُ بتاتًا بالمعنى الصحيح لجنسها؛ لذا بإمكان الدارس أن يعتبر كثيرًا من النصوص السردية (= الروائية) تجريبية؛ أي لا تاريخية؛ أي كُتبَت في شروطٍ وبحوافزَ لا روائية، وهذه في الحقيقة أطروحةٌ يطول شرحُها، وإن اقتضَت أن تصلُح لما سيلي من موضوعنا.

٣

قد لا يعني التوصيفُ الأخيرُ غيري وإن كان لا يُعفيه، وهذا على الرغم من أن البعض، وتحديدًا الأستاذ عبد الكريم غلاب، صاحب الرواية الرائدة في الأدب المغربي «دفنَّا الماضي»، والأستاذ عبد الله العروي، مؤلف الرواية التي ليست أقلَّ ريادةً «الغربة»، اتجها عمدًا إلى تحمُّل وزر التاريخ إما بطريقةٍ واقعيةٍ تسجيلية، أو برؤيةٍ اغترابيةٍ إشكالية، فإنهما لم يلبثا أن انخرطا في المد التجريبي اللاتاريخي لكتابة الرواية فيما هما يتوهَّمان أنهما يخوضان عُباب التاريخ في أعلى عُتُوه، ولم يكُ شيءٌ من ذلك أو قليل. وما لنا لا نقول إن «الغربة» هي التدشينُ الرسمي لما يمكن أن نُطلِق عليه التكييف الذاتي للتاريخ أو باصطلاحنا أيضًا «تذويت التاريخ»، ونعني به جَعْل ذاتية الشخصية الروائية، ومن ورائها الكاتب نفسه، مرکزَ استقطابٍ وتجاذُب بين محمولها الخاص والمحمول العام للحدَثية والزمنية التي تعيش فيها وتتفاعل معها، عن قُرب أو بُعد؛ فبطل العروي انشغل بتأسيس وتجميع ذاته ومحاولة فهمها، أيضًا، في مواجهة ومن خلال ما مضى قبلَه والآتي حولَه وأكبر منه، راسمًا بذلك صورة داخل وخارج يتنازعان البطولة، ونحسبُ أن التوتُّر بينهما هو مدارُ كل تاريخ الرواية ومصدرُ القوة والجاذبية فيها، ما يستدعي القول إنه لا تُوجَد الروايةُ من جهة والتاريخُ من الجهة الثانية أو المقابلة؛ فالإبداعُ السرديُّ الحديثُ إنما جاء تعبيرًا عن التمرُّد على كل القوى الخارجية والسابقة عليه، والحدَثيةُ التاريخيةُ بمدلولاتها تقع بلا ريبٍ في قلبها. لكن، لا بد لإقامة الموضوع من إنجاز الفصل بينهما لفحصِ قُدراتِ هذا الطرَف وذاك، وفَرْز أي من خطابَيْهما أحضَرُ وأقوى.

الواقع أن هذا المنزع، في السرديات الحديثة لأدب المغرب، على الأقل، تعودُ خيوطُه إلى نصٍّ مؤسسٍ فيها أو هكذا اعتُبر من طرَف دارسين عديدين هو سيرةُ «الزاوية» للفقيه الأديب التهامي الوزاني الذي نُشِر سنة ١٩٤٢م (تطوان، مطبعة الريف) يسردُ فيها مؤلِّفُها مقاطعَ غنيةً من حياته، بين يفاعته وانتقاله إلى التزام المسار الصوفي في مُناخٍ اجتماعيٍّ وثقافيٍّ خصوصيٍّ كان يسودُ عاصمةَ شمالِ المغربِ إبَّان الاحتلال الإسباني. كما أن المنزعَ ذاتَه بدا وهو يُرسَّخ على قاعدةِ نصٍّ يُعتبَر حقًّا وبلا منازعٍ لا صرحًا في بناء المتن السردي الحديث لأدبنا وحسب، بل أحد النصوص المُعتبَرة، الممثِّلة مبكرًا وبنضجٍ فنيٍّ محسومٍ لنوع السيرة الذاتية «في الطفولة» (١٩٥٧م) في الأدب العربي بمُجمَله، رسَم مؤلِّفها بشفافيةٍ وحنكةٍ خطَّ ومعالمَ طفولتِه التي أمضى قسمًا وافيًا منها في منشستر بإنجلترا، تتمظهر عَبْر مرآتها الصقيلة وجوهُ التبايُن والتعارُض بين ثقافتَين وأسلوبَين في الحياة، برصدِهما وحَكيِ الذات من خلالهما كانت كتابةٌ أخرى تتخلَّق بواسطة السرد الحديث وضِمنَها الانتقالُ إلى نمطٍ معيشٍ وتفكيرٍ جديدَين عن طريقِ تاريخٍ يخترقُ تاريخًا غيره مما ولَّد ثنائياتٍ من كل نوع. ورغم أن عبد الكريم غلاب هو مَن دشَّن الرواية المغربية بمفهومها الموضوعي الشامل، فإنه ألفَى نفسَه يجتازُ المسارَ السيرذاتي بكتابته «سبعة أبواب» (١٩٦٥م) يرومُ تصويرَ معاناته لاعتقالٍ على يد المستعمر والتنديد بالعنف الاستعماري مع تبجيل الروح الوطنية من وراء هذا التصوير. ويقينًا، بعد هذا، أن للتاريخ حضورَه الفعلي والارتدادي ضمن سُرودٍ أرادها أصحابُها إما سِيَرًا ذاتيةً خاصة، أو تنويعًا في بابها تستقطب الحياة الشخصية بمفرداتها والملامح المميِّزة لها تحديدًا. بَيْدَ أن هذه الإرادةَ ما كان لها إلا أن تنغمس، لا نقول فيما هو أصلبُ منها وإنما في مجرى الواقع الشمولي الذي يُكيِّف الإنسان والأشياء والأدب أيضًا.

لنُسجِّل، من نحوٍ آخر، بأن الرواية جنسٌ أدبي تحتاجُ كتابتُه إلى زمنٍ حدَث وتَوالَى وانتهَى أو اكتمل؛ أي إنها على الأغلب لا تتعامل مع الظرفي أو العابر شأن القَصِّ القصير. وهي بذلك تحتاج إلى الرؤية الواضحة، الفارزة، لما حولها، تلك التي لا تتأتَّى إلا وقد استقرَّ المجتمع وتنافذَت فيه التأثيراتُ وتراكمَت أنماطٌ للتفكير والسلوك تُمثِّلها فئاتٌ ونماذجُ لها يختزلها الفضاء الروائي بمحافله وبُؤر التوتُّر المختلفة فيه. هذا الزمن لم يكن قد حضَر بعدُ بالنسبة للأدباء المغاربة، من جيل الاستقلال على الخصوص. ولم يكن بمقدورهم أن ينصرفوا إلى الماضي، ماضي الاستعمار والحركة الوطنية، ليتخذوا منه مادةً سرديةً تستجيب لميلهم إلى الحكي والالتزام الاجتماعي للأدب؛ إذ فضلًا عن أنه قريب لا يزيد عن ثلاثة أو أربعة عقود، فهو لم يبدُ واضحَ القسمات، مُتواشِجَ الصِّلات، ولا الفرقاء فيه يُمثِّلون أطرافًا ذاتَ مواقعَ محسومةٍ بما يمكِّن من إعادة بناء هذا العالم روائيًّا، اللَّهُمَّ أن يُرسَم على هيئة ثنائياتٍ متقابلةٍ ترمُز إلى الخير والشر والمجد والانهيار، وبالطبع إلى الوطنية والاستعمار؛ ثنائيات طيبة من غير شك، لكن ساذجة في طريقة طرحها — تُنعَت بالمثالية — وكان سلفٌ صالحٌ من الأدباء قد تداولوها في طَور التمرُّن على السرد الحديث، ومن نافل القول أنهم لم يُفلِحوا كثيرًا وبقي مطلوبًا كتابة الرواية، لكن بتاريخٍ آخر، وحذقٍ أقدَر، وذاك ما كان قد عوَّل عليه الخلَف من أبناء جيل الاستقلال الذين عاد إليهم تجذيرُ تقاليدِ القصِّ الأدبيةِ الحديثة، بالذات والتاريخ، وبراديغمات أخرى تبلورَت في حلقات التكوين والتجربة.

لم يكن لهؤلاء — وكاتبُ هذه السطور واحدٌ منهم — أن ينتظروا تناميَ الزمنِ التاريخي الجديد للاستقلال، ولا ما سينجُم تباعًا من ظواهر ويتنضَّد كتشكيلاتٍ اجتماعيةٍ بثقافاتها الخاصة، حتى يتأتَّى لهم صُنعُ زمنٍ إبداعيٍّ مخصوصٍ بهم؛ ذلك أن القولَ السرديَّ الذي سيُنتِجه هذا الجيل الوليد — وفي مضمار ما نحن بصدَده بالذات — وانطلاقًا من نهاية العقد الستيني، بأبعَدِ تقدير، لن يلبثَ أن يقترحَ أطروحتَه التي يمكن صياغتُها، من وجهة نظرنا، بأسلوبٍ أدبي، لا نقدي بالضرورة، بالعبارات التالية: الذات — ضمير المتكلم في الرواية، أشار إلى المؤلف مباشرة أو أضمره — تتماهَى أو تتفاعَل مع زمنها، في صيغته الجنينية والتكوينية؛ أي تاريخها الذي تتملَّكه حين تلتزمُ بواقعه وتصنعُ خطابها الروائي عنه. من تَم فهي وزمنُها صنوان إلى حدٍّ بعيد. هكذا ستقول الروايةُ العربيةُ الحديثة، في المغرب وخارجه، الذات وفي حسبانها أنها إبدالٌ كاملٌ للواقع، بل هو كذلك إن شئنا النظر إليه من منظور الكاتب، الذي لم يكن عبدًا للأيديولوجيا كما يتصوَّر ذلك بعض المتأخرين الضعيفي الصلة بتاريخ الأدب. وهو قولٌ سيتسعُ في حجم نصوصٍ كثيرةٍ تُعلِن تجنيسًا روائيًّا لكن النقد الأدبي أصَرَّ ويُصِر على تصنيفها سِيرًا ذاتيةً أو نِسبتِها إليها من باب إلحاق الفرع بالأصل. ورغم أن موضوعنا شائكٌ في ذاته فلا بأس من أن نشير عرَضًا إلى أن النقد الأدبي يُضيع هنا، في عماه النظري، لحظةً مهمةً من كيفية تخلُّق جنسٍ أدبي وتوجُّهه لاكتساب الهيئة الروائية يحتاجُ من أجل فَهمِها إلى قراءتها على ضوء المُناخ العام، بيئة أدبية وغيرها، التي راحت تتناسل فيها، من نحو، وإلى تناول مفهوم الذات، من نحوٍ آخر، بأوسعَ من الصيغ الجاهزة للنقد الجديد — القديم الآن — ونقلها من نطاق الميثاق الأوتوبيوغرافي، المعلوم، المبرَم بين الكاتب والمتلفِّظ وبين المتلقي في حدوده وخطوطه المصنفة إلى ما يشمل ذاتًا تنزع نحو احتواءِ المجموع، وخطابها ليس نرجسيًّا قط — كما يفترض وجهٌ من الميثاق — بل جماعي، ويندرج في زمنيةٍ محدَّدةٍ يرى كاتبُها أنها تاريخية — سمَّيناها سابقًا تجريبية — حتى ولو كانت من الناحية الموضوعية البحت لا تاريخية. هكذا؛ فأنا ليست آخر وحسب، كما يحب المنظِّرون الأوتوبيوغرافيون أن يقولوا، بل هي فوق ذلك ذاتٌ مُستغرِقةٌ في آخرَ كليٍّ تتبادل معه الأدوار والوظائف وإواليات إنتاج الخطاب، وعندئذٍ لا يبقى ضمير المتكلم، أو ما يقوم مقامه، العلامة النحوية والسيميائية الوحيدة، ولا الإحالة المرجعية المركزية جدًّا لصنعِ الخطاب السير-ذاتي ورسمِ سنَنه؛ إذ إن ما يُعتبَر أطرافًا أو حواشيَ وامتداداتٍ ليُعَد مكوِّنًا رئيسًا في الشبكة الإرسالية والمحصلة الدلالية، وبدونها سيكون النص بدون طبقات؛ أي أملَس وضحلًا ومنفكَّ العُرى بمحيطه؛ أي خارج تاريخه، وهذا لا يحقِّق المطلوب.

كان على النقد الذي غالى في استكثار غلبة النص السيَر الذاتي على سواه في المتن السردي لأدبنا، وذاك الذي استفدَح هذه الغلبةَ المزعومةَ وكأنها وباء — ولا بأس من التنبيه، هنا، إلى أنه تقويمٌ قَدْحيٌّ يعتبر السيرة الذاتية من الأنواع الدنيا في شجرة أنساب السرد الباسقة — وما زالَ بالإمكان تدارُك خطأ التأويل بقولنا إن المساحةَ التي امتدَّت فيها الذاتُ واستنبتَت فيها قولها لا تنزل في خطٍّ عموديٍّ بقَدْرِ ما تَنفسِح في مدًى أفقي وقد اشتملَت محيطَها واستغرقَت ظلالَه وعناصرَه. وهي، أيضًا، لا تعدم التخييل الذي نراه أحد شروط انتماء نصِّها إلى الأدب، أدَب البوحِ الجميل بحق؛ فكلُّ ما يُحكى سليلُ خيالٍ أو يمُت إليه بصلة، خاصةً إذا كان مسوِّغًا ومطيةً للانسلال من بين الخيوط المحكَمة لرقابة المجتمع وسلطة الواقع ذات الهيمنة الكليانية. الحقيقة أن السيرة الذاتية في أدبنا، الحديث طبعًا، الخالصة، شبهُ منعدمة أو نادرةٌ إلى أقصى حد، فإن وُجدَت ارتبطَت هي واسمُ صاحبِها بالفضيحة والإثارة، بما يصرف النظر عن أدبيَّتها ويشغَل الناس بها كفضيحة، وترى النقدَ الأدبيَّ إذ ذاك يُساوِم مستبدلًا مصطلحاتِه الخاصةَ بأخرى من حقل السوسيولوجيا كملفوظاتِ الهامش، أو الخلقية كالشذوذ وغيرهما، ولنا في السيرة الذاتية الفذة «الخبز الحافي»، للكاتب الراحل محمد شكري، خيرُ مثالٍ على طرحنا هذا.

كيفما كان الحال، وسواء تعلق الأمر بهذا الجنس السردي المتفرع، أو بالرواية في معناها الأوسع، قُل الأشمل، فإن الكتابةَ السرديةَ في الأدب الحديث بالمغرب، الذي نضعُه في صدارة كلامنا، كانت قد نزعَت مبكرًا إلى ما نسميه: تذويت التاريخ. ربما لم يفعل كُتابُها ذلك بقصديةٍ في البداية، لكنهم اعتنقوا تدريجيًّا هذا المذهب؛ فإما عوَّضوا نقصان التاريخ وضآلتَه وهو بعدُ في سيرورة بتاريخِهم الشخصي، أو نفَخوا من أرواحهم في التاريخ الموضوعي فطبَعوه بمزاجِهم ومشاعرِهم وأحلامِهم التي انعكسَت على سلوك أبطالهم بين طموحٍ وانكسار، وأوهامٍ وضَياع. في الحالتَين كلتَيهما حدَث التفاعُل الذي جسَّد أحدَ مظاهرِ الانتقال إلى التعبير السردي المُحكَم بمقتضياته، وقد اغتنَى التفاعُل صعدًا كلما اختمرَت تجاربُ الكُتاب وإزاءها وفي قلبها التجربةُ الاجتماعيةُ بتجلياتها المختلفة.

والآن، وإذا تركنا ما يتعيَّن به التاريخ تيمةً كبرى أو أحداثًا ووقائعَ بعِبَرها الكامنة فيها، وعندنا منه بعضُ نصوصٍ معاصرة، فإنا واجدون أن الإبداعَ السرديَّ في أدبنا بعد أن امتلك تراثًا نسبيًّا، وبعد أن بات بوسع الكاتب حين يلتفتُ أن يجد وراءه عقودًا زمنيةً متلاحقة، ومتشابكة بالحوادث من كل نوع، وواقعًا تداولَت فيه الأيام الناس، وتجاربَ خاضَها أكثرُ من جيل، ومصائرَ فيها الأبطالُ والأنذالُ وأقوامٌ غُفل، وغيرُ ذلك كثير؛ وقتئذٍ وقد حان هذا الوقتُ ليُصبِح للتاريخ حضورُه المركزيُّ في الرواية العربية عامةً كصيرورةٍ ديناميكيةٍ ورؤيةٍ إنسانيةٍ عميقةٍ للوجود، الذاتُ أبدًا فاعلٌ رئيسٌ فيها وصانعٌ للمعنى في بحثٍ لا ينتهي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤