الفصل الأول

أبو سداح

القتل صفة حيوانية، نقلها الإنسان عن الحيوان، والحروب نوع من القتل الجماعي، وهو وقف على الإنسان، ولكن براءة الاختراع تبقى من حق الوحش. كل ما أضافه الإنسان أنه نظَّم عملية القتل، جعل منها قانونًا، ونظامًا، ووزع الرُّتَب والنياشين، وجعل من القاتل بطلًا، ومن المقتول شهيدًا، ولكن يبقى الوحش بعد ذلك أكثر إنسانية من الإنسان، إذا قُورِن فِعْل الوحش بفعل الإنسان الذي اخترع أحقر وأبشع أداة للتعذيب وهي السجن!

هل رأيتم قبل الآن، أسدًا يحبس أسدًا ويقيم هو خارج العرين، يأكل ويشرب ويتمطَّى ويتجوَّل في الغابة؟

هل رأيتم أسدًا يحبس فيلًا أو نمرًا أو حتى غزالًا؟

الأسد يُصفِّي حساباته بسرعة، يُمزِّق فريسته إربًا ويرميها بعد دقائق، ولكن الإنسان اخترع زنزانة، وحَوْل السور حراس، وهي عملية قَتل للمسجون على مراحل، إنها الموت نفسه ولكن بالتقسيط المريح!

ولكن أحقر ما في السجن هو السجن الانفرادي غير أن الذين جرَّبوا السجون مع الآخَرِين، يكتشفون بعد فترة أن للسجن الانفرادي ميزة. ولأنه ميزة، فهو وقف على المسجونين في قضايا رأي، أو قضايا قَتْل، أو قضايا أخرى، شرط أن يكونوا من الأثرياء المُمتلئِين!

ولقد سُجِنْت عدة مرات. ولكن لم تُتِح لي الظروف أن أرى السجن الحقيقي … إلا في المرة الأخيرة ففي المرات السابقة، كنتُ واحدًا من ألوف رجال الصحافة والإعلام، والمشتغلين بالرأي وأمور السياسة. ولم أتعرف رغم محاولاتي الكثيرة على مسجون واحد من هذا الصنف الذي اعتاد الإجرام، وأصبح التردد على السجون بعض مشاكله، وبعض هواياته!

ولكن في سجني الأخير، قُدِّر لي أن أتعرَّف على عالَم، كنت أذهب إلى قبري حزينًا لو متُّ دون أن أراه. عالَم النَّشَّالين والقَّوادين واللصوص حُثالة القاهرة يضمها سجن واحد!

ففي يوم ١٦ ديسمبر ۱۹۷۱م، حملتني سيارة مع بعض المحكوم عليهم إلى سجن القناطر، وهو سجن أكثر قسوة من سجن الباستيل؛ لأنه خَدَّاع، مظهره من الخارج يُوحِي بأنه مكان شاعري، يصلح لتجوُّل العشاق والمحبين، فأشجار السرو العالية تُخفِيه عن العيون، وأشجار الجميز العتيقة تحفُّ به من كل جانب، والرَّياح المنوفي يتهادى تحت أقدامه مُعشوشِبًا مُخضوضرًا مُنحدرًا نحو الشمال.

ولكن الذي يَلِج البوابة الخارجية، سيجد نفسه فجأة في مكان أشبه بمعسكرات الاعتقال. أسوار غليظة تعزل السجن عن العالم، وأبراج حراسة مزوَّدة بالكشافات، والحرَّاس مزودون بالمدافع الرشَّاشة. وفي فناء السجن يتجوَّل الحراس وقد نَزَع النظام الصارم المفروض على السجن قلوبهم من صدورهم وتسلَّحوا بالعِصيِّ الغليظة، والسياط. ومع الحراس تتجوَّل عشرات من الفئران الضخمة التي تفر القطط من أمامها وتفسح لها الطريق، وتضرب لها تعظيم سلام. وهي تَقرض كل شيء. خشَب المكاتب والمَقاعد وأبواب الزنازين، وتَتحوَّل في النهاية إلى طعام يشارك في حل أزمة اللحوم في داخل السجن فالمَسجونون القدماء يَنصِبون الفخاخ لصيدها وشَيِّها على النار وأكْلِها.

ويُقسِم الذين شاركوا في وجبة الفئران هذه أنها ألذ ألف مرة من اللحوم التي تقدمها إدارة السجن.

وبالرغم من أنني لم أذُق طعم الفئران، إلا أنني أستطيع — وأنا مرتاح الضمير — أن أقسم معهم. فهذا الشيء الذي تَجلبه الإدارة تحت اسم لحم … لا يمكن أن يكون لحمًا، إلا إذا كان وارد المقابر. وإلا فدلوني على لحم يُباع في أي مكان على أرض مصر ثَمنُه ثلاثون قرشًا مصريًّا للكيلو الواحد، في الوقت الذي يُباع فيه خارج السور بجنيه ونصف. أما الطبيخ فهو مزيج من أعشاب وتراب وطين وأشياء أخرى لا داعي لذِكْرها. أما الحراس فَهُم بقايا العهد الإنجليزي الملكي عندما كانت السجون تَتبَع الخاصة الملكية، وكانت الأشغال الشاقَّة هي العمل في مزارع المَلِك. وحتى الإصلاحيات التي قامت بها الثورة لم تلقَ ترحيبًا من جانب هؤلاء الحراس. ولقد قاوَموا في البداية ثم استسلموا مَقهورِين. ولقد نفخ أحدُهم في وجهي ذات صباح وهو يَبثُّني شكواه من الحال السيئ التي آلت إليه السجون بعد الثورة: هيه دي سجون! دي جَناين، زمان كان الخير كثير، وكانت السجون سجون، وحياة سيدي المدبولي. العسكري مننا كان يقتل المسجون ويدفنه ولا من درى ولا من شاف!

ولكن بعد فترة اكتشفتُ أن هؤلاء الحراس ليسوا بهذه الدرجة من الأهمية التي يدعونها أحيانًا، وأنهم أكثر غُلبًا من المساجين أنفسهم، وأكثر منهم تعاسة. وأن الحل والربط في يد عُتاة المجرمين داخل السجن. هم الذين يسيطرون على السجن ويديرون الأمور فيه على هواهم. وفي استطاعة أي مسجون عادي ومُستعِد لدفع الأتعاب أن يُمزِّق أوراقه داخل السجن وفي استطاعته — أيضًا — أن يَخرج إفراجًا قبل الموعد. بل وفي استطاعة أي مسجون ثري لا يرغب في تَحدِّي القانون، وفي الوقت ذاته يريد أن يعيش حياته … أن يصنع ما يحلو له داخل السجن وخارجه، فهو ينام مرة كل أسبوع مثلًا في بيته. وهو يعيش داخل السجن بشكل أفصل من العيشة التي يحياها مدير السجن في الخارج. وبعض تجار المخدِّرات الذين يَقضُون مدة العقوبة يستخدمون داخل السجن أكثر من خادم. وبعضهم يقضي المدة كلها داخل مستشفى السجن، حيث يقضي الليل كله في لعب الورق وتدخين الحشيش، ويقضي نهاره نائمًا يحلم أحلامًا ممتاز لذيذة، أما طعام هؤلاء فهو وارد الخارج دائمًا، وسجائره من صنف أمريكي وثيابه من أفخر الأقمشة وإن كان لها شكل ملابس السجن.

واكتشفت — أيضًا — أنه لولا إكراميات هؤلاء المساجين الأثرياء لمات بعض الحراس جوعًا. وتستطيع أن تحل مشاكلك كلها إذا لجأتَ إلى العصابة، وتضيع تمامًا إذا لجأتَ إلى الإدارة، وكل شيء له عند العصابة ثَمن؛ العيشة الطيبة لها ثَمَن، الخروج من السجن له ثَمَن، السهر خارج الزنزانة له ثَمَن، وحتى قَتل أحد أعدائك داخل السجن له ثَمَن، ولكن حَذارِ أن تتعامل مع العصابة، ثم تتوقَّف، وحَذارِ أن تَعِد ثم تُخلِف، وحَذارِ أن تُحدِّد لهم ثَمنًا ثم تدفع أقل، فهؤلاء المجرمون، قُطَّاع طُرق، قتلة بني آدم، مَصَّاصُو دماء البشر، إلى آخر هذه الأوصاف والألقاب والنعوت، لا يستخدمون في المُعاملة إيصالات أو شيكات ولكن تكفيهم كلمة شَرَف!

أغرب شيء أن الواحد فيهم إذا وعد وعدًا فهو على استعداد لأن يَفقِد روحه في سبيل تنفيذه. وهم جميعًا، والقتلة منهم خصوصًا، يتصرَّفون كأنبل فُرسان العصور الوسطى!

ولقد وعدني أحدُهم مرة بشراء لحوم من الخارج، ونجح في جَلبِها داخل السجن ولكنه أثناء قطعه للفناء في طريقه إلى العنبر، فوجِئ بموكب تفتيش على رأسه وكيل مصلحة السجون، ومدير السجن، وكل هيئة الضباط، ولما كان الشيء الذي يحمله بدوي — هذا اسمه — يبدو مريبًا، فقد فَتَّشوه وصادَروا اللحم ثم أرسلوه إلى التأديب ليقضي فيه أسبوعًا. ولكن بدوي سعى بعد ذلك حتى حصل على كمية اللحم المطلوب ومن نَفْس الصنف، ورفض أن يتقاضى مليمًا؛ لأنه كان قد تقاضى ثَمَن اللحم المُصادر، قِيَم ربما اختفَت في الحياة خارج الأسوار، ولكنهم داخل الأسوار ما زالوا يحافظون عليها!

واكتشفتُ — أيضًا — أن السجن جزء من الحياة، وما يجري خارج الأسوار يجري مثله وبالضبط في السجن. وإذا كان خارج السجن أثرياء يَموتون من التُّخمة، وفقراء يموتون من الغَم، وإذا كان في الخارج أصحاب نفوذ وأصحاب عَيا، وإذا كان هناك أبناء أكرَمِين وأبناء كَلْب … وإذا كان هناك تَسيُّب وسرقة ونَهْب ونَصْب، وإذا كان هناك فساد وأشياء لا تُرضِي الرَّب ولا تُرضي العبد! ففي السجن — أيضًا — تدور هذه الأشياء بالتمام والكمال، وبتركيز أشد، مع فارق بسيط هو أن نُزلاء السِّجن أصدق وأشرف.

ففي الخارج يرفع النَّصاب عادة شِعار الشرف، ويرتدي الجَبان زِيَّ الشجاعة، ويتغنَّى البخيل بالكرم. ويتَّشِح السافل بمَكارم الأخلاق، ولكن في السجن، كل شيء ظاهِر ومكشوف وعلى عينك يا تاجر! وهم عندما ينادون الآخَرين، ينادونهم بأسمائهم وصفاتهم دون تزويق ولا رُتوش، فاروق النَّصَّاب، وإسماعيل القَوَّاد، وسيد الحرامي، وإبراهيم مُخدِّرات!

وها أنا ذَا الآن، وبعد أن تردَّدتُ على جميع السجون الحربية منها والمدنية، وبعد أن ذقتُ جميع أنواع الصَّفَعات والشلاليت، ومارستُ الأشغال الشاقَّة في صحراء الواحات؛ أستطيع أن أقول وأنا مرتاح الضمير: إن السجن ليس رادعًا وليس وسيلة للعقاب. لقد اخترع الإنسان السجن ليقضي على الجريمة، ولكن ها هو السجن قائم، والجريمة موجودة، يسيران معًا، جنبًا إلى جنب ولا يلتقيان، كأنهما شريط سكة حديد، يُكمِّلان بعضها ولا يتعارضان.

وأعتقد أن الإنسان لا بد أن يسعى لاختراع بديل آخر، إذا أراد أن يقضي على المجرمين والإجرام!

وشيء آخر. نزلاء السجون في بلد كمصر، هم هم لا يتغيرون، دليل أن المجتمع ثابِت لا يتحرك، والأوضاع السائدة فيه تجعل الناس أشبه شيء بقطع الشطرنج … أحصنة وبعضهم عساكر، ولا سبيل إلى تبادُل المراكز، أو تغيير الأدوار.

ثم شيء آخر … وأخير … لقد كان القصد من بناء السجن، كما هو مكتوب عليه بحروف بارزة أعلى البوابات، وعلى الأسوار «السجن تأديب، وتهذيب، وإصلاح» ولكن يبدو أن الأعمال ليست بالنِّيَّات في مصلحة السجون؛ لأن السجن تحوَّل بالفعل إلى تحطيم، وتعذيب، وإفساد.

على أية حال، الفارق بسيط، هو أن نزلاء السجن أصدق لقد تردَّدتُ على السجون ثلاث مرات. وعندما استقبلني عم عبد القادر شاويش سجن القناطر آخر مرة، صاح في وجهي بانفعال صادق … «إيه ده يا بيه، إنت جيت تاني، إنتو بقيتوا عاملين زي الحرامية، ساعات بيخرجوا، لكن دايمًا بيرجعوا تاني»!

ولستُ نادمًا الآن على شيء مما حدث. ولا أذكر من الأيام إلا الأشياء الجميلة، والذكريات الحلوة. أما الإساءة والإهانة فقد تركتُها مع ملابس السجن عند الباب. ولقد حضرت عدة شخصيات في نفسي — التقيتُ بها ذات يوم في سجن القناطر — قَتلة ولُصوص وقطاع طُرق ونشالون ومتشردون، حُسني أبو سداح، وفتحي الشرقاوي، وعاشور، وبدوي، ومصطفى الكرداسي، وسيد السوري، وعلى أبو الغيط، كل منهم يصلح فصلًا، وكل منهم له حكاية، وكل منهم، لو لدينا حركة فنية حقيقية لصار فيلمًا يكسب الأوسكار!

وسأحاول قدر الطاقة أن أكتب ما وَعَت الذاكرة عن كل منهم. وأن أقدم ما احتفظَت به النَّفْس من ملامح لنفسيات هؤلاء الرجال الذين حكمَت عليهم الظروف أن يقضوا العمر في زنازين ضيِّقة خَلْف أسوار عالية، ومع حراس أغلب الظن أنهم سيحشرون يوم القيامة في زمرة الحمير!

وتسألني، وماذا استفدت من السجن؟ وأقول: لا شيء، ليس تجربة مفيدة، لأن التجربة الحقيقية في الخارج، حيث الحياة عريضة والحركة سريعة، والاختبارات متعدِّدة، ولكن السجن، يوم واحد، ممل، ومُكرَّر وكئيب، غير أني أستطيع أن أقول أيضًا: إن تجربة السجن مفيدة، وضرورية، بشرط أن تحدث مرة واحدة، ولفترة قصيرة! بقي أن أقول: إنني دخلتُ السجن ثلاث مرات ولأسباب سياسية، وفي ظل نظام واحد، ولثلاثة أسباب تختلف، أو من أجل ثلاثة مواقف مُتعارِضة.

في المرة الأولى، في نحر شباني سُجِنت لأنني ضد الحكومة، في المرة الثانية سُجنت لأنني — مثل طنجة — على الحياد. لا مع الحكومة ولا ضد الحكومة! في المرة الأخيرة سُجِنت لأنني مع الحكومة، كالموت يدرككم أينما تكونوا، كالخزف ويل له إن وقع على الصخر، وويل له إن وقع الصخر عليه.

وكان أول مَن عرفتُه هو حسني أبو سداح، وهو مجرم عريق مارَس كل أنواع الإجرام، بدأ نشالًا، ثم مشاغبًا، ثم رئيسًا لعصابة تخطف الأطفال، ثم تاجِر مخدرات، ثم أصبح السجن محله المختار والإجرام صفته ووظيفته. وهو طاف بكل السجون والليمانات. من ليمان طره الرهيب إلى ليمان أبو زعبل، حيث الخارج مولود والداخل مفقود. وعندما فَتح باب زنزانتي وألقى نظرة خاطفة على الوافد الجديد، كان قد انقضى عليه وراء أسوار السجن ثلاثون عامًا بالتمام والكمال.

كان حسني أبو سداح مُغضَّن الوجه، بارز الوجنات، عيناه باهتتان ساكنتان مُحدِّقَتان في لا شيء كأنهما عَيْنا سمكة ميتة! وعندما خطا خطواته الأولى داخل السجن، كانت الحرب العالمية الثانية على أشدها والمعارك الطاحنة تأكل زهرة شباب العالم، والنار مشتعلة في جوانب العالم الأربعة. ثم انتهَت الحرب العالمية، ونشبَت حرب فلسطين، ثم احترقت القاهرة. ثم قامت الثورة، وخرج الملك فاروق مطرودًا، وجاء محمد نجيب، ثم خرج محمد نجيب وجاء عبد الناصر، وحدث عدوان ١٩٥٦م، وقامت الوحدة، وفَشلت الوحدة، ودارت الحرب في اليمن ثم جاء عدوان ١٩٦٧م، ثم جاءت حرب الاستنزاف، ثم سكتَت المدافع فترة، ورحل جمال عبد الناصر، وجاء أنور السادات. كل هذا حدث، وحسني أبو سداح في السجن لا يدري شيئًا عمَّا يدور خارج الأسوار.

الحكومة عنده هي مأمور السجن، والشعب هم النزلاء، ولكن حكومة مصر التي خارج السور، فعلمها عند ربي، وسيأتي يوم تأتي فيه الحكومة هنا في السجن، هكذا حدث من قبل، وحدث أكثر من مرة، وهو لا يعرف السبب ولا يُدرِك الحكمة، ولكن هكذا حدث وهكذا يحدث.

– ومفيش حد يا أستاذ أحسن من حد، أحمد زي الحاج أحمد، وكل شوية بيجيبوا حكومة يسجنوها هنا.

– تصدق بالله، إن وزير الداخلية اللي فات كان مسجون مَعايَا هنا وكان بيحشش معايَا، راجل آخر مزاج. هكذا بدأ حسني أبو سداح حديثه معي، عندما عرف أنني مسجون سياسي وأن تهمتي هي محاولة قلب نظام الحكم.

– أهو انت من غير مؤاخذة غشيم، لو انا مطرحك كنت قلبته، وعلى كل، ما يهمكش، مفيش حاجة بتفضل على حالها، كل شيء ينقلب. حكمة يا أستاذ!

عصير الحكمة التي وصل إليها أبو سداح أنه لا شيء يبقى، ولا دوام لأي شيء، كل شيء يقوم ومعه عوامل فنائه. وكل شيء إلى زوال، ولو دامت لغيرك ما وصلت إليك.

– تصدق بالله، كان فيه واد ضابط في سجن طُره عامل قُمع قوي. وكان موقف السجن على رجله. اتنقل م السجن وفات شهرين وبصِّينا لقيناه داخِل علينا، مسجون زينا.

ويصمت أبو سداح صمتًا بليغًا، ويلعق شفتيه بلسانه ثم يجذب نفسًا عميقًا من السيجارة قبل أن يستطرد: تصدق بالله! نهار ما دخل السجن أخذ ضرب على قفاه ما يخدوش حرامي في مولد.

كان أبو سداح قد اكتسب حقوقًا داخل السجن. بسبب خِبْرَته وعشرته الطويلة.

كان قد أصبح وكيل سجَّان، يحمل عنه المفاتيح، ويجبي الإتاوات المفروضة على المساجين «عشان الأفندي السَّجَّان» وكان أول من يخرج من الزنزانة في الصباح، وآخر من يدخل في المساء. وكان صديقًا لكل الحراس، فهو أقدم من الجميع، وكان موضع احترام من الضباط؛ لأن البيه مدير السجون، تعلم ألاعيب السجن وعرف خباياه على يد أبو سداح.

وكان يُتاجِر في اللحوم والبقول داخل السجن ودائمًا كان يوزِّع الحشيش على أصحاب المزاج. وكان يربح كثيرًا دون أن يتعرَّض مرة واحدة للعقاب. ففي كل مرة تضبطه إدارة السجن، كان يخرج براءة. لأن المادة التي وُجِدَت في حوزته، كانت خالية تمامًا من مادة الحشيش، وكانت أعماله الواسعة المتعدِّدة تستغرق وقته كله، ولكنه أحيانًا كان يختلس لحظات قليلة يستريح فيها، وعندئذٍ كان يلجأ لأحد المساجين الذين يُجيدون القراءة والكتابة ليكتب له عريضة لرئيس الجمهورية، ولم يكن يقبل أقل من رئيس الجمهورية ليرفع إليه شكواه. وكانت شكواه تنحصر في أنه رجل عجوز وأنه قضى في السجن دهرًا طويلًا، وأن كل ما يرغب فيه هو قرار جمهوري بالإفراج عنه حتى يتسنَّى له أن يموت في بيته وبين أهله.

وأحيانًا كنتُ أسأله بعد أن أكتب ما يمليه عليَّ: وبيتك فين يا عم حسني؟

وكان يصمت فترة، ثم يقول: والله مانا واخد بالى يافندي، أهو كان في حتة كده في مصر، وبعدين سمعت أنهم هدوه، أصل الجماعة بتوع الثورة هدُّوا مصر كلها، بيقولوا إنهم عملوا كورنيش، صحيح الكلام ده يافندي؟

والحقيقة أن حسني أبو سداح لم يكن له أي بيت، ولم يكن له أي أهل. وعندما دخل السجن كان له أخ غير شقيق ظل يزوره بانتظام لمدة سنتين، ثم تباعدت الزيارات بعد ذلك، ثم انقطعت تمامًا واكتفى بالمراسلة، ثم انقطعَت المراسلات بينهما وانقطعت اخباره تماما. وبعد أعوام طويلة سمع أبو سداح بالصدفة خبرًا عن أخيه، كان في محكمة القديمة، عندما شاهد رجلًا في المحكمة كان يسكن إلى جوارهم وعندما سأله عن شقيقه وأين ذهبت به الأيام؟ قال الرجل كلامًا مبهمًا مضغوطًا، فقد كان الرجل عجوزًا، وكان ضعيف البصر، ثقيل السمع وربما لم يسمع بالضبط سؤال أبو سداح، وربما لم يُحدِّد بالضبط من يكون السائل، ولكن أبو سداح فهم هكذا بالفهلوة وبالحداقة.

– مات في بورسعيد سنة ٥٦، إيه اللي ودَّاه هناك ما عرفتش؟ أحيانًا أخرى كان أبو سداح يذكر طفولته، في تلك اللحظات كانت تتغير ملامح وجهه فتأخذ شكلًا أحسن ويصبح أكثر وسامة، وأكثر نضارة. كان يذكر أمه بالخير.

– ست طيبة الله يرحمها.

دوَّختها معايا، لكن كنا عيال بقى هانعمل إيه.

ويضحك أبو سداح، ويفتح فمًا واسعًا مهجورًا تبدو فيه بعض الضروس المتأكلة التي دبَّ فيها السوس، ثم يضرب جبهته براحة يده ضربة خفيفة: مرة راحَت طلَّعِتْني من قسم البوليس كانوا مسكوني تَحرِّي … ولطمتْ على وشها لما ورم، وقالت لي: حتموت قتيل يا حسني، ومش هاعرف طريق جرتك فين، كانت مَرَة طيبة وعلى نِيَّاتها.

وعندما كانت تتأزم به الأمور وتأخذ المشاكل بخناقه، ويضيق صدره بسبب الغل والغيظ، كان يغلق على نفسه باب الزنزانة ويبكي كالطفل الصغير. ذات صباح ضَبطتُه متلبسًا وهو يبكي وحيدًا في زنزانته الخالية من الأثاث، ولما سألتُه عن سبب بكائه، مسح دموعه بيده، ورسم ابتسامة زائفة على شفتيه، وقال: أبدًا … ولا حاجة، أنا أصْلِي افتكرت أمي، ماتت وانا في السجن، ولا شفتهاش.

ولكن حسني أبو سداح، يصبح أسعد ما يكون الأربعاء، والسبب أن يوم الأربعاء هو يوم وصول الإيراد. والإيراد هم السجناء الجدد الذين صدَرتْ ضدهم أحكام بالسجن، وغالبًا يكون هؤلاء السجناء من شبان تتراوح أعمارهم بين السادسة عشرة والعشرين.

وفي صباح يوم الأربعاء كان حسني أبو سداح يرتدي أفخر ملابسه، ويخرج لمُعاينة طابور السجناء الجدد، وبعد فحص طويل وإلقاء نظرة مُجرِّب عجوز، كان يقع اختياره على صيده الجديد، وغالبًا يكون شابًّا قويًّا مفتول العضل. ودائمًا يحضر أبو سداح أمام مكتب المأمور، ثم، فجأة … يخلع ملابسه حتى يصبح كما ولدته أمه. ويلقي بنفسه على الولد الذي وقع اختياره عليه، ويصرخ أبو سداح ولا صرخة عنتر في حرب القبائل. ويتوقع السجناء يومًا أسود، فإما أن يحصل أبو سداح على ما يريد، أو تصير مذبحة في السجن، ويصبح يوم المأمور والضباط والسجناء أسود من العنبر، وأثقل من ليل العاشق المكسور!

وكان أبو سداح دائمًا يظفر بصيده، ثم يقضي يومًا أو يومين في هدوء واستمتاع، ولكن سرعان ما تنشب الخناقات بينه وبين الشاب القوي، خصوصًا عندما يكتشف الشاب أنه كان ضحية مقلب كبير بقبوله عرض أبو سداح. وأن هناك عروضًا أكثر إغراء. وعندما يرحل الشاب من زنزانة أبو سداح، وهو دائمًا ينجح في الرحيل، بمساعدة الأقوياء الذين يرغبون فيه، كان أبو سداح يقضي الليل بطوله متشعلقًا كالقرد في حديد النافذة، يصيح بكلام يقذفه كالحمم، يسب الحكومة والسجن والزمن الغادر، ثم لا يلبث أن ينسى، ويهدأ ويعود إلى عمله الذي اعتاده منذ ربع قرن داخل عنابر الليمانات والسجون.

وعندما يكون السجن هدفًا لزيارة ضيوف أجانب، كان أبو سداح يبدو أسعد الجميع؛ لأنه كان السجين الوحيد الذي يُسمَح له بالبقاء خارج الزنازين. وفي العادة يصحب الضيوف ضابط كبير من مَصلحة السجون. ودائمًا يكون هذا الضابط على علاقة صداقة بأبو سداح، فإذا جاء الضيوف خَف إليهم أبو سداح يحييهم في ذِلَّة تدرَّب عليها وأتقنها.

وكان الضابط الكبير المسئول يُتابع معه الحديث في ود، يسأله عن أحواله، وأحوال السجن، وما آل إليه حال المساجين، وكان أبو سداح يرد بكلام كله نفاق للإدارة، وكيف أن الأمور عال، والأحوال حسنة وكل شيء على ما يُرام. ثم يتطوع — أيضًا — برواية قصة أمام الضيوف، وكيف كان وحشًا آدميًّا … هاتكًا للأعراض! قابضًا للأرواح! خاطفًا للأطفال! وكيف أن السجن علَّمه وهذَّبه وأدَّبه فأحسن تهذيبه!

ثم يختتم روايته بطلب للضابط الكبير أن يأمر بتحويل الدُّوسيه الخاص به إلى رئيس الجمهورية ليأمر بالإفراج عنه فورًا؛ حيث إنه قضى نصف عمره بين القضبان والأسوار، والزنازين!

وكانت هذه هي مهمة أبو سداح، وهذه هي صفته الوحيدة بالنسبة لمصلحة السجون. عَيِّنة حيَّة تثبت حُسن سير المصلحة، وشهادة «حق» يشهد بها شاهد من أهل الخطيئة والإجرام.

وهي شهادة كاذبة من الأساس، ومن شاهِد زور، ولكن لكل شيء ثمن! وكان الثمن الذي يحصل عليه أبو سداح عقب كل زيارة، هو عدة صناديق من أحقر السجاير، ثم التغاضي بعد ذلك عن كل ما يرتكبه داخل السجن من مخالَفات.

وكان هو عقب كل زيارة، يحكي للناس في السجن تفاصيل المقابلة، وكيف صاح في وجه الضيوف يطالب بحق المساجين، وكيف لعن أبو الضابط ورئيس المصلحة، ورئيس الحكومة. وكيف أن الضيوف صفَّقوا له إعجابًا واحترامًا. ثم كيف وصل الخبر إلى رئاسة الحكومة، وكيف طلبوا «دوسيه» أبو سداح في الحال! وكيف خاف المأمور من الفضيحة، وخاف من بطش أبو سداح، فأرسل له صناديق السجاير لعله يعطف ويرضى.

وفي كل مرة يحكي فيها أبو سداح المقابلة، كان يضيف أشياء ويضع بعض الرتوش واللمسات. وأحيانًا كان يُمعِن في المبالغة، وينسى تمامًا، فيحكى كيف تطوَّرت المناقشة، وكيف وضع أصبعه في عين الضابط، ثم كيف تدخل أحد الضيوف فرماه أبو سداح على الأرض! وكيف خاف المأمور عاقبة الأمر! فجرى هاربًا من الفِناء إلى مكتبه، وكيف اتصل بمدير مصلحة السجون طالبًا النجدة، وكيف ردَّ مدير المصلحة عندما علم بالأمر: ما حدش له دعوة بأبو سداح، دا الراجل بتاعنا. ثم يصمت أبو سداح قليلًا، ثم يعلق بهدوء: أمَّال ايه، ما هو كلامه مضبوط، دَنَا دخلَت المصلحة قبل منه، هو بقى لواء، وانا لسة مسجون، مش دا طبيخ؟

وكان أبو سداح يختفي أحيانًا فلا يدري أحد أين ذهب، وغالبًا يكون قد اختار لنفسه مهنة جديدة داخل السجن، تتيح له السَّهر في الفِناء أو في ورشة النجارة، فيقضي نهاره نائمًا. وليلة ساهرًا، وكان يبدو في أسعد لحظاته عندما يعثر على عمل من هذا النوع.

– أُمَّال يا أستاذ، أحلى شغل في السجن، شغل الليل، ما تشعرش انك مسجون. تعرف، في السجن من حقك تشوف النهار، طابور شمس مش كده؟ لكن الليل ممنوع عليك. عرفت إيه بقى معنى السجن؟ ماتشوفشي الليل!

وذات مرة، غاب أبو سداح ثم ظهر فجأة، وكان الغضب ينهش قلبه، ويداه ترتجفان، عندما اقتحم زنزانتي على غير موعد، وقال وهو يكاد يجن: كشف الإفراج بتاع ٢٣ يوليو وصل السجن واسمي مش فيهم. وأصل الحكاية أن الحكومة تفرج في عيد الثورة عن المساجين الذين قضوا نصف المدة، بشرط أن يكونوا حَسَنِي السير والسلوك.

وفي كل عيد كان أبو سداح ينتظر كشف الإفراج، وفي كل مرة كان يجده خاليًا من اسمه، ورغم تأكُّد أبو سداح أن شروط الإفراج لا تنطبق عليه. إلا أنه كان ينتظر الكشف، ثم يصر على أن يراه بنفسه ليتأكد من عدم ورود اسمه. وبالرغم من أن المسألة بسيطة ورغم أن الإفراج يتم بشرط، وأن هذا الشرط لا ينطبق على حالة أبو سداح من قريب أو بعيد.

خصوصًا شرط نصف المدة، لأن أبو سداح محكوم عليه بأكثر من مائة عام. وإن كان أحد لا يستطيع أن يعرف كم عدد السنين المحكوم بها عليه، ولأن الحكم بالسجن المؤبَّد صدر ضده أكثر من ثلاث مرات، عدا أحكام أخرى تتراوح بين عشر سنوات وخمس سنوات!

شرب أبو سداح كوب الشاي الذي قدَّمتُه له، وكان قد انتهى من رواية كشف الإفراج واسمه الذي لم يُزيِّن الكشف، ثم قال لي بلهجة طبيعية للغاية: وشوف وِشَّك بخير بقى.

وعندما سألته عمَّا إذا كان ينوي الانتقال إلى سجن آخر قال بنفس اللهجة الهادئة: أبدًا، أنا هاريح نفسي خالص، هانتحر. ورُحت أشرح له كيف أن الانتحار هروب من مواجهة الواقع، وجُبن في تحمُّل المصير، وكيف أن موته يترك أثرًا حتى في ضمير الذين قتلوه؛ لأن أمثاله ليسوا أكثر من مجرد أسماء في ورق، إثباتها مثل محوها. عندئذٍ هبَّ صائحًا محتجًّا: كلام إيه دا يا أستاذ، دنا عيلتي بره تأكل اللحمة نيَّة. وتصوَّرتُ بالفعل أنه يقول الحقيقة، فربَّما كان وراءه أفراد من أسرته، مجرمون عُتاة يستطيعون الأخذ بالثأر ولكن فوجئتُ به يقول: أنا عيلتي كلها ناس بهوات وأكابر. أحمد أبو سداح كان وزير. والشيخ علي أبو سداح كان شيخ الأزهر، وإبراهيم أبو سداح كان ثورجي كبير قوي، هوه اللي عمل الثورة بتاع عبد الناصر. ولم يهدأ انفعاله، إلا عندما تظاهرتُ له بأنني أعرفهم، وأنني التقيتُ ببعضهم في الخارج. عندئذٍ طابتْ نفسه واستراح. وقال وهو يشعل لنفسه سيجارة: أُمَّال يا أستاذ، واللي خلَق الخلق لازم أخلِّي المأمور ده يندم، ويقول يا ريت اللي جرَا ما كان، إن ما خدوه في حديد، ما بقاش أبو سداح. وعندما استأذن في الانصراف ودَّعتُه والحزن يطل من عيني وصوتي يخنقه الانفعال.

وعلى باب الزنزانة، توقَّف أبو سداح لحظة وقال: بقولك ايه … إديني علبتين سجاير عشان عاوز أقعد لوحدي في الزنزانة أفكر قبل ما أموت!

وانتشرت قصة انتحار أبو سداح في السجن انتشار النار في الهشيم، حتى الحارس المكلَّف بإغلاق الزنازين. صاح بعد أن أحكم اغلاق زنزانة أبو سداح: ابقَى سلِّم لي على ابويا أمَّا تروح الجنة يا أبو سداح. ورد أبو سداح من داخل الزنزانة: وانت فاهم إن أبوك حيورد على جنة، دا انتو صنف ما ينفعش فيكم إلا الحرق.

وفي المساء، كان المساجين يتشعلقون بحديد الباب، وينادون على أبو سداح بأعلى صوت: يا أبو سداح، إنت لسة عايش! اخص عليك راجل مَرَة.

ولم يرد أبو سداح ذلك المساء على أحد. لدرجة أنني اعتقدتُ أنه نفَّذ وعْدَه، وأنه بالفعل فعلها ومات!

ولكن عندما جاء حارس الصباح، كان أبو سداح هو أول سجين يهرع إلى دورة المياه. وعندما سأله بعض السجناء العابثين عن السر في تأجيل المشروع، أجابهم في وقار: وانتو فاهمين إن انا أَموِّت نفْسِي بلاش، أنا لازم موتي يقلب الدنيا دي كلها.

واكتشفتُ أن أبو سداح على مدى السنين التي قضاها في السجن، كان يعلن عن تنفيذ مشروعه بالانتحار، مرة كل عدة أشهر، وكانت هذه وسيلة لجمع أكبر كمية من السجاير من السجناء الجدد. وعندما كان ينشغل أبو سداح بأمور أخرى، وينسى مشروع الانتحار، كان السجناء يذكرونه بأن الموعد قد فات، وأحيانًا كان يرد عليهم مازحًا: وانتو يعني شايفين المساجين ما شاء الله قوي، دول كلهم شحاتين!

ولقد أُتيح لي أن أرى أبو سداح لآخر مَرَّة في حياتي قبل أن أغادر السجن بشهر واحد. فقد وصل إلى السجن ذات صباح ضابط كبير، ومعه قوة من العساكر وكشف بأسماء السجناء المطلوب ترحيلهم إلى سجون أخرى بعيدة، وكان اسم أبو سداح ضمن الكشف الذي يضم أسماء المطلوب ترحيلهم إلى بعيد. ولم يصدق أبو سداح في البداية ظنًّا أن في الأمر خطأ ما.

وعندما تأكد من أن الأمر حقيقة، هاج كالمجنون، وخلَع ملابسه وألقى بنفسه في المرحاض، وهدَّد كل من يقترب منه بالقتل، وعبثًا حاول المأمور أن يقنعه، وعبثًا فعل الضابط الكبير الآخر. حتى أصدقاؤه من الحراس فشلوا في إقناعه بتنفيذ الأمر. وعندما حاولتُ أنا الآخر صرخ في وجهي: أروح فين يا فندي بقى كمان … رضينا بالهم والهم ما يرضاش … أروح فين انا؟! دول باعتينا سجن مقطوع، واللي فيه كلهم فلاحين.

وعندما قلت له: ما هو اللي هنا سجن، واللي هناك سجن برضه.

أجاب صارخًا: يا فندي إنت تعرف إيه في السجون؟ أنا بقالي أربعين سنة في السجن واعرف الفرق إيه! دا احنا قاعدين في قصر هنا. عاوز حاجة تبعت تجيبها. الوارد هنا أكثر م الرايح. دا هناك كل فين وفين لما تلاقى مسجون جديد. طب انا قتيل النهارده، ومش منقول من هنا.

ظن أبو سداح أنه لصِلَته الشديدة بالإدارة ولإخلاصه العميق لمصلحة السجون. فإن الأمر سيمر في هدوء، وقد يصدر قرار في آخر لحظة يعفيه من مشقة الانتقال إلى سجن بعيد.

ولكن لأن شغل الحكومة يجب أن يُنجَز، ولأن أوامر الحكومة ينبغي أن تُنفَّذ. فقد صدرت الأوامر إلى الحراس بالقبض على أبو سداح ومَهما كان الثمن.

وهكذا صرخ العساكر الُمعلَّقِين على الجدران: حرس سلاح … ودقَّ جرس السجن دقَّات رتيبة سريعة متلاحِقة، ودَوَّت الصفافير تدعو فرقة المُطارَدة لدخول السجن. ولم أسمع من خلف جدران الزنزانة المغلقة إلا أصوات الشريط الذي يَجري تمثيله في الفناء. صرخات أبو سداح، وفي البداية كانت عالية ومُجلجِلة. ثم نفس الصرخات وقد تلاشت وخفَقَت، ثم هدأتْ تمامًا، وصوت الكرابيج تُمزِّق الجو، ومع الجو تُمزِّق جِلد أبو سداح، ثم شيء ما، ربما جسم إنسان يُجَر على أرضية الفناء. ثم أقدام تركض، وأيدٍ تَرتفع بالتَّحيَّة، وأصوات مُبهمَة تُلقي أوامر، وأقدام تخبط الأرض في انتظار أوامر … ثم سرعان ما هدأ كل شيء، وأطبق الظلام والصَّمت على الفِناء وعلى السجن، وعلى السجناء … أخيرًا مضى أبو سداح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤