الفصل الثاني

اليانكي

اليانكي هذا اسمه، وهو ليس اسمه الذي وُلِد به، ولكنه اكتسبه من مِهنته. فهو في الأصل بحَّار من بورسعيد كان يعمل على باخرة بضاعة أمريكية ترفع علم بنما تَتسكَّع بين موانئ الشرق الأقصى، وتَقترب مرة كل عام من شواطئ الشرق الأوسط، في خلال رحلتها السنوية إلى أوروبا.

وعندما كانت الباخرة ترسو في ميناء بورسعيد، كان يُغادرها ويبقى في المدينة ينتظر عَودتَها ليعود إلى الشرق الأقصى من جديد! ولأن الباخرة كانت أمريكية؛ ولأن حسين إسماعيل — وهذا اسمه في شهادة الميلاد — كان قد تعلَّم من طول ما عمل في البحار لغة الإنجليز، وبفضل العمل مع البحارة الأمريكان، كان ينطق لغة شيكسبير بلكنة أمريكية، فيبدو وكأنه راعي بقر مُفلِس في فيلم من أفلام هوليوود؛ لذلك أطلق عليه الناس في بورسعيد لقب اليانكي، وصار اللقب اسمه بعد ذلك، ونسي الناس اسمه القديم، حتى هو نفسه لم يَعُد يذكره، وربما كان هو نفسه أسعد الجميع بالاسم الجديد.

وذات يوم جاءت باحرة اليانكي إلى بور سعيد. وارتدى في ذلك الصباح أجمل حُلَّة بحرية لديه، وخرج ولا ماك أرثر خلال حرب كوريا، يده في البنطلون، والسيجارة الأمريكاني تتدلَّى من جانب فمه، ونظارة الشمس البيرسول تغطى عينيه، وتتدلَّى من كتفه حقيبة كبيرة من قماش فاخر، ومعه زميل ياباني يعمل بحَّارًا على نفس الباحرة، آثر أن يقضي إجازته هو الآخَر في بورسعيد ضيفًا على اليانكي!

وكان نهار أغبر! استوقفهما البوليس عند البوابة، وفتَّشهما وعَثر معهما على كميات ضخمة من الحشيش، وبعد أيام قلائل كانَا يقفان معًا أمام القاضي ليصدر عليهما حكمًا بالسجن المؤبَّد، وصرخ اليانكي من هول الكارثة، أما الياباني فقد بدأ هادئًا، ربما لأنه لم يفهم منطوق الحكم، وربما لأنه ياباني من سلالة قوم يَحتضنون الموت وعلى أفواههم ابتسامة فرح. وفي قلوبهم ابتهاج عظيم!

المهم، أن اليانكي عاد ومعه الياباني إلى السجن. ولكن اليانكي لم يكفَّ لحظة عن الصراخ والبكاء واللَّطم كالمرأة الثكلى على الخدَّيْن! ولأول مرة سأل الياباني زميله اليانكي عن الحكم، فأخبره أن الحكم بالمؤبد، معناه السجن مدى الحياة، فإذا كان السجين حسن السير والسلوك، مَنحوه الحرية بعد عشرين عامًا، وإلا تركوه خلف الأسوار ليموت ميتة الكلب الأجرب. وسأل الياباني زميله اليانكي في هدوء: وماذا تنوي أن تفعل؟ وردَّ اليانكي في هياج شديد: سأشنق نفسي وأموت.

وتمتم الياباني: غاية العقل، فليس من الحكمة أن يقضي الإنسان حياته كلها في زنزانة يأنف أن يسكنها خنزير! ولم يُضيِّع الياباني وقتًا، تناول بنطلونًا من بنطلونات اليانكي، وقص منه حبلًا علَّقه في سقف الزنزانة وجاء بمقعد جعله تحت الحبل، وراح يُدرِّب اليانكي على الطريقة المثلى لكي يَشنُق الإنسان نفسه بأسرع الطرق وأحسنها. ثم احتضن الياباني اليانكي بقوة وودَّعه بحرارة، وتواعدَا على اللقاء بعد ساعات في ملكوت السماء. ومضَت لحظات الوداع بطيئة. الياباني هادئ كما هو، ولا يبدو عليه أثر الانفعال، فلا هو حزين، ولا هو آسف! واليانكي دائم العويل والصياح، حتى احمَرَّت عيناه من كثرة البكاء، واحتقن وجهه من شدة الانفعال.

ومر الليل كما مرَّ غيره على سجن بورسعيد. وعندما جاء حارس الصباح يفتح زنزانات المساجين. تَسمَّرت قدماه عند باب زنزانته في الدور الأرضي، وراح ينفخ في صفارته معلنًا حالة طوارئ من النوع الجسيم، وعندما جاء المأمور والضُّبَّاط وهيئة التحقيق، كانت الزنزانة رقم «٩» حيث يقيم البَحَّار الياباني تَغرق في صمت كئيب، والياباني يَلفُّ حول نفسه في الحبل المعلَّق في سقف الزنزانة، وقد أصبح جثة باردة، فارقَتْها الحياة من وقت طويل. وعلى أرضية الزنزانة الباردة. ورقة صغيرة تركها الياباني … لمن يهمه الأمر. يعلن فيها أنه انتحر؛ لأنه لا يستطيع أن يتحمل مثل هذه الحياة!

وأسرع المأمور ورجاله إلى الزنزانة رقم «١٠» حيث يقيم اليانكي، وفوجئ المأمور بأن حبل المشنقة يتأرجح خاليًا من جثة اليانكي وكان اليانكي نفسه يغطُّ في نوم عميق ويحلم أحلامًا لذيذة، وشخيره يقلق سكان كوكب المريخ!

وعندما استيقظ من نومه، واكتشف أن الياباني قد مات، أصابه الذهول فهو لم يكن يصدق أن إنسانًا ما يُقدِم على الموت حتى ولو اضطرته الحياة إلى قضاء العمر كله في حظيرة للخنازير! ولم تَمضِ أيام حتى تم ترحيل اليانكي إلى الليمان، ونسي تمامًا أمْر البحار اليابان، وانغمس في حياته الجديدة راضيًا بكل شيء. حتى خلال العمل الشاقِّ في ليمان طره، كان يُوزِّع النِّكات هنا وهناك، وأحيانًا كان يحكي للمساجين عن مغامراته العاطفية، في هونج كونج، وماكاو، وجُزر بحر الصين!

وعندما التقيتُ به في سجن القناطر كان قد مضى عليه نزيل السجن ستة عشر عامًا، وكان قد فقد إحدى عينيه نتيجة شِجار مع أحد الحراس. ولجأ إلى القضاء مُطالبًا بتعويض عن فقد عينه، وحدَّد ١٠٠ ألف جنيه قيمة التعويض، وكمكافأة عن فَقْد عينه … عهدوا إليه بعمل بسيط في السجن. رعاية كلبة المأمور والعناية بها والترويح عنها خلال ساعات العمل الرسمية في السجن، واعتباره العمل الوحيد الذي يقوم به اليانكي. وهو يكفي لتأديب اليانكي وتهذيبه، ولكي يعود إلى الطريق المستقيم!

ومن خلال كلبة المأمور أصبح لليانكي نفوذ في السجن، بل أصبح نفوذه يفوق نفوذ بعض الضباط والحراس، بل أصبح الحراس يَتردَّدون عليه؛ لأنه كثيرًا ما يختلي بالمأمور، يحدثه في شأن من شئون الكلبة، وكثيرًا ما كان يخرج من حديث الكلبة إلى حديث السجن، وما فيه من مآخذ ومخازٍ وجرائم ومُجون! وكان الحراس الذين يَرتكبون من الجرائم ما يستحق أضعاف العقاب الذي حلَّ بالمساجين، يُقسِمون للجميع، أن كل أخبار السجن تصل إلى المأمور عن طريق اليانكي، وأن اليانكي هو عين المأمور وأذنه على كل ما يقع ويدور داخل الزنازين. ولم يكن اليانكي يخفي حقيقة دوره، ولم يكن يَهتم بنقل ما يُشيعه الحراس والمساجين بل أحيانًا كثيرة كان يحاول في حديث عابر أن يؤكد الإشاعة ويثبتها عند الآخَرِين.

واكتشفتُ بعد فترة، أن الكلبة والإشاعة، هما مصدر رزقه، فباسم الكلبة كان يحصل على أجود اللحوم من المطبخ. وباسمها كان يستولي على أجود أرغفة الخبز من الفرن. وبسبب الإشاعة، كان يحصل على ما يريد من كميات الكيروسين والبقول، والشاي، وكان يحصل من وراء تجارته المحدودة على ما يجعله يعيش بكرامة في غابة سجنه الطويل.

وأحيانًا كثيرة كان يدعوني اليانكي للاشتراك في مباراة تنس الطاولة، مع آخَر من أثرياء المساجين، وكنا نلعب على رهان، ويتساوى الخاسر والرابح في النهاية؛ لأن اليانكي كاد يتصرف في قيمة الرهان قبل أن تبدأ المباراة. ولم تكن تزيد قيمة الرهان عن خمسين سيجارة، ولكنها كانت كافية لتجعل اليانكي أسعد من تاجر ربح في البورصة عدة ألوف في ساعات!

ولكنه ذات يوم أخطأ في تحديد نوعية مسجون جديد وافد على السجن. وهو شابٌّ وسيم يبدو عليه أنه من سلالة مماليك حكموا مصر في العصور الوسيطة. أحمر الشعر، أزرق العينين. أصفر الشارب، جسمه الممشوق وعضلاته المنتفخة تشير إلى مدى الرفاهية التي تَمتَّع بها في طفولته، وتُحدِّد نوع الطبقة التي تربَّى في أحضانها منذ مولده وحتى لحظة دخوله إلى الليمان، وتوسَّم اليانكي فيه زبونًا من شأنه أن يزيد من دخل اليانكي إذا انضم إلى مباريات تنس الطاولة، وقَبِل الشاب عرض اليانكي شاكرًا، وانضم إلى الفريق على الفور! واكتشف الجميع من أول ضربة للشباب أنه بطل محترف، ثم اكتشَفْنا في نهاية المباراة التي ربحها بسهولة، أنه بطل مصر في اللعبة. وبطل العرب، وأنه ثالث دورة طوكيو، والأول والثاني من بلاد اليابان. ولقد كانت فرحة الشاب لا توصف عندما عرض عليه اليانكي أن ينضم إلى فريق تنس الطاولة ليلعب على رهان. فهو أولًا يضمن الجميع في جيبه. وهو ثانيًا في حاجة إلى علب الدخان. ولذلك، وبعد أن انتهت المباراة اتَّجه إلى اليانكي عقب المباراة وطلب منه عُلب الدخان. وابتسم اليانكي كعادته مع كل زبون جديد لم يفهم بعدُ سِرَّ اللعبة، ولكن الولد الوسيم كان جادًّا أكثر من اللازم، وكان مُصرًّا بشدة على أن يحصل على علب الدخان التي ربحها في المباراة. وأشتد النقاش بينها، وارتفع صوت اليانكي يسب دين السجن والسجناء الأنذال.

وامتدت قبضة الولد إلى وجه اليانكي، ليطرحه أرضًا فاقد الوعي، ولتنطلق الصفافير تعلن حالة الطوارئ، وكانت ضربة قاتلة لم تحطم أسنان اليانكي فقط، ولكنها حطَّمَت مكانته التي اكتسبها في السجن، وقضتْ عليه تمامًا وجعلت منه ملطشة للحراس والسجناء، وحتى كلبة المأمور أصبحتْ إذا رأته، بحَّت في وجهه، وتكاد أن تبصق عليه!

ولكن … كيف؟ ولماذا حدث التحوُّل الخطير في حياة اليانكي؟ وكيف تحوَّل الزمان؟ والحراس، والسجناء والكلبة عن اليانكي، وقَلَبوا له جميعًا ظهر المِجَن؟

لحظة نشَبَت الخناقة بين اليانكي والولد الوسيم المفتول العضل، كان اليانكي ملك السجن غير المُتوَّج. وكان من خلال كلبة المأمور قد استطاع أن يسيطر على الإدارة وعلى المساجين والحراس، ولكن ضربة واحدة من قبضة الشاب القوي، أطاحت باليانكي أرضًا، وأطاحت بنفوذه في نفس الوقت. والسبب أن اليانكي حاول في بداية المعركة أن يثبت وجوده كمقاتِل، ولكن الولد القوي قطع عليه الطريق تمامًا. وراح يَكيل له الضربات تباعًا، وسقط اليانكي على الأرض أكثر من مرة، ثم سقط أخيرًا وعجز عن الوقوف، ثم صرخ من شدة الضرب، وكان صراخه عاليًا، جذب أغلب المساجين إلى صالة اللعب! ولما تأكد اليانكي أنه خسر المعركة، قرَّر أن ينتقم بطريقته الخاصة، فضرب كلبة المأمور ضربة قوية كسرت عظام ساقها الأمامية وضِلعًا من ضلوعها.

وصرخت الكلبة واختلط صراخها بصراخ اليانكي. وجاء المأمور على صراخ الكلبة، فقد كانت عزيزة على قلبه، وأحيانًا كان يعفو عن مسجون مخطئ إذا توسل إليه من أَجْل خاطر الكلبة! وازداد غضبه عندما رأى الكلبة وهي تَعرُج وقد التصقت بالحائط وراحت تصرخ صراخًا حادًّا، بل إن المأمور الذي كان شديد الاعتداد بنفسه، شديد الغرور، أسرع نحو الحراس فخطف العصا من يد أحدهم، وانهال ضربًا على المساجين بوحشية وبجنون، بل إنه وهو في حومة غضبه، ضرب الحراس أيضًا، وعندما سأل اليانكي عن حقيقة الأمر، أشار اليانكي إلى الولد المفتول العضل، وقال للمأمور: انهال بالضرب على الكلبة، فلما تدخَّلتُ بينه وبين الكلبة، انهال عليَّ بالضرب.

ولم يصبر المأمور حتى يسمع أكثر، وانهال بعصاه الشوم على رأس السجين الجديد فسقط الولد مُغمًى عليه. وعبثًا حاول حراس السجن إفاقة السجين دون جدوى فاستعانوا بالطبيب الذي قرر أن الولد مصاب بارتجاج في المخ، وأبدى الطبيب مخاوفه من أن تكون الإصابة جسيمة، وهمس في أُذن المأمور أنَّ نقْل الولد إلى أحد المستشفيات أمر ضروري، وأثبت رأيه هذا في دفتر السجن وحتى يفلت من المسئولية إذا حدث ومات السجين الشاب! ولسوء حظ المأمور واليانكي معًا، أن الولد كان ابن عائلة لها نفوذ، وهو الذي اختار السجن بنفسه، فقد استُدعي للتجنيد بعد النكسة وذهب على أمل أن يقضي عامًا ثم يترك الجيش ويعود إلى حياته المدنية من جديد، إلا أنه بعد قضاء أربعة أعوام في الجندية اكتشف أنه سيظل تحت السلاح حتى يتم إزالة آثار العدوان، ولما كان موعد الإزالة لا يعلمه إلا الله، فقد قرر الشاب أن يهرب من الجيش، وبعد أشهر سلَّم نفسه مع علمه بالنتيجة سلفًا. المحاكمة والحكم عليه بالسجن لمدة عام. يخرج بعدها إلى الحياة المدنية، وهو الأمر الذي تحقَّق بالفعل!

المهم أن الولد نُقِل إلى المستشفى، وتبيَّن أن إصابته جسيمة سبَّبتْ له شللًا مؤقتًا، مما جعل السجن مقصد عشرات من المفتشين والمحقِّقين، وسقط المأمور في دوامة لا تنتهي، وتحقيقات لا أول لها ولا آخر، وكشفَت التحقيقات عن الحقيقة، كلبة المأمور، ونفوذ اليانكي الذي وصل إليه من خلالها، وكميات اللحم التي كان يستولي عليها من المطبخ، وأرغفة الخبز التي كان يلهفها من المخبز، وإرهابه للحراس والمساجين على السواء.

المهم أن المأمور لم تهتز فيه شعرة لكل هذا الذي سمعه فقد كان على علم بكل التفاصيل ومن قبل أن يبدأ التحقيق. ولكن الذي جعل المأمور يفقد صوابه تمامًا، هو ما شهد به الشهود، أن اليانكي هو الذي كسر ساق الكلبة وليس الولد المشلول!

وهكذا دخلتْ فرقة من حراس السجن ذات صباح زنزانة اليانكي لتُجرِّدها من كل شيء، ولتطبق اللائحة عليها. فلم تترك في الزنزانة إلا بطانية واحدة، فيها من الخروق أكثر مما فيها من القماش. واحتج اليانكي بأنه مسجون درجة اولى، وهي الدرجة التي اكتسبها من طول ما عاش خلف الأسوار ولكن احتجاجاته كلها ذهبت أدراج الرياح.

وتطبيقًا لنص اللائحة التي وُضِعت في عصر الخديوي إسماعيل، أمروا بتخزين اليانكي، وهو تعبير يُطلَق على المساجين الذين لا عمل لهم، ومن ثم ينبغي أن يلزموا الزنزانة وأن تُغلَق عليهم فيما عدا ساعة واحدة خلال النهار.

وأدرك اليانكي أنه سقط في بئر لا قرار لها، وأن السجن الحقيقي قد بدأ الآن، فلم يكن اليانكي كغيره من السجناء. فهو بلا أهل ولا أصدقاء، وهو يأكل عيشه بعرق جبينه، أو بعرق ذكائه، أو بعرق انتهازيته، أو بعرق شطارته، أو بعرق ضميره، المهم أن جزءًا فيه لا بد أن يعرق لكي يأكل عيشه داخل الأسوار.

إنه لا يذكر أبدًا أنه استُدعِي للزيارة كغيره من النزلاء فهو حتى قبل السجن كان قد انقطع عن زيارة حي المناخ حيث يقطن أخوه، وكان أحيانًا يلتقي في بورسعيد بأحد أقاربه صدفة، فيصافحه كما يصافح عابر سبيل، ثم يتركه ويمضي إلى حال سبيله. وكان يباهي الآخَرين، بأن أباه هو البحر وأهله البحَّارة. وزوجاته هن كل النساء اللواتي يَتسكَّعن على أرصفة أي ميناء! ولجأ اليانكي الخبير بأساليب السجناء إلى طريق الشكاوى. فانهالت العرائض على مصلحة السجون تتهم المأمور والإدارة بكل رذيلة، وبعضها كان حقائق، والبعض الآخر كان من نَسْج الخيال. ولكن الإدارة المدرَّبة ذات الخبرة العريقة في عالَم السجون، كانت تعرف كيف تُسدِّد هذه الشكاوي بالشكل القانوني، وبالطريقة التي تجعل الإدارة فوق مستوى الشبهات!

وضاقت الأحوال باليانكي تمامًا، فأعلن الإضراب عن الطعام. وفي العادة يُترَك المسجون المُضْرِب عن الطعام ثلاثة أيام دون اهتمام، فإذا واصل إضرابه بعد ذلك، استدعت إدارة السجن وكيل النيابة لتُحقِّق في أسباب الإضراب، ولكن الإدارة في حالة يانكي تركتْه أسبوعًا كاملًا بلا أدنى اهتمام. والسبب أن المأمور كان شديد الوثوق أن اليانكي ليس مُضربًا بالفعل. وأنه يأكل حتى يشبع أو يشرب الشاي حتى يرتوي! وأن دخله من السجاير زاد حتى خلال فترة الإضراب.

وفي تلك الأيام التي أعلن فيها الإضراب، كنتُ دائم التَّردُّد عليه في المستشفى حيث نقلوه، وكان اليانكي طوال الفترة التي أمضيها في زيارته بالمستشفى، يحكي لي عن أيامه في بلاد الشرق الأقصى. كيف أنه تاجَر في الأفيون في ماكو، وكيف عشق فتاة في عمر الورد في هونج كونج، وكيف اضطرته الظروف إلى قتل إنسان في سنغافورة!

– تصدق بالله، كنتُ أشهر بحَّار في بحر الصين، وانت تسافر هناك كثير وتقدر تعرف، اسأل عن اليانكي في أَيها حتة، الناس هناك تقولك.

وكان يانكي خلال سَردِه لأحداث قصصه الوهمية، يقوم من فوق سريره، من أمامه وكان ويتمشَّى خطوات حتى يصل إلى سرير مسجون آخر مريض، فيلتقط ثلاث حبات من ثمار التين، يأكلها على عَجَل قبل أن يعود إلى سريره، الرجل العجوز الذي قضى نصف حياته في السجن، يضحك ضحكة متقطعة، وهو يُعلِّق على فعلة يانكي: ما تاخد كام واحدة كان عشان الإضراب بتاعك ينفع. وعندئذٍ كان يانكي يصبح مُعلِّقًا: وهُمَّه دُول هيعملوا إيه؟ أنا باكلهم بس عشان أعرف أشرب سيجارة.

وكان يجلس على سريره ويشعل سيجارة، ثم يبدأ يروي قصة عن بنت صينية عشقها ذات يوم بعيد: كان جسمها مليء يا أستاذ، وكانت هربانة من الجماعة الشيوعية. أصلها كانت بنت واحد مَلك. تصدق باللي خلقك، كانت تُفك العشرة جنيه، ما يقعدوش معاها يومين! كانت آخِر نزاهة وآخر جو. وكانت تشتري لي الحشيش على حسابها، وتقولي اشرب يا يانكي. طب واللي خلقك، المأمور بتاعنا ده كان ما يقدر يكلمها، ولا هيه ترضى تبص لواحد زيه، غير شي زمن!

وأحيانًا كثيرة، كان يذكر الولد الياباني الذي قبضوا عليه في بورسعيد، وحاكموه مع اليانكي.

– كان ولد طيِّب وابن حلال بس كان غشيم، ومش بتاع دنيا. شنق نفسه العبيط.

وذات مرة سألتُه: مش الموت أحسن من السجن يا يانكي؟

ورد اليانكي في غاية الغضب: مين قالك الكلام الفارغ ده؟ ما احنا عايشين آخر حلاوة أهه. فاضل أربع سنين ونطلع، ونركب البحر ثاني، ونسافر، ونبقى آخِر جو!

لقد كان الرجل رغم كل شيء يحلم، لقد فقد عينه، وتحطَّمَت حياته تمامًا، ولكنه لم يفقد القدرة على الأحلام.

– لما أخرج بإذن الله، هاعمل تهريبة واحدة، واكسب لي كام ألف جنيه، وأترك البحر واشتري حتة أرض وأقعد.

وأحيانًا كان يخرج من أحلامه إلى الواقع البائس الذي يحياه.

– ودين النبي لو المأمور ما مشي معايا كويس لأكون عاملها فيه وقاتله. هوه العمر فاضل فيه أد إيه؟ إن شاء الله يا رب يشنقونا!

وذات مرة سألته: وفيها إيه لو اصطلحت مع المأمور؟

ورد في هدوء: مفيش مانع. بس يسلمني الكلبة.

وذات مساء، شعر السجناء بحركة غير عادية في السجن.

دخل المأمور والطبيب إلى الفِناء قبل منتصف الليل بقليل. وصاح مسجون من خلال قضبان النافذة: فيه حِتَّة، ربنا تاب عليها من عذاب السجن، وبتودَّع الليلادي في المستشفى.

وفي الصباح عرفنا أن اليانكي داهمَتْه نوبة قلبية، وأنه يجتاز رحلة خطر شديدة بين الحياة والموت! ورغم أنه في مثل هذه الحالات تُمْنَع زيارة المريض، إلا أن مستشفى السجن تتبع نفس أسلوب السجن الخاص، وضاق المستشفى ذلك اليوم بالمئات الذين توافدوا عليها ليشاهدوا اليانكي وهو يُصارِع الموت. ولم يصمد اليانكي طويلًا. فمات في المساء التالي … وظل راقدًا في مشرحة السجن ثلاثة أيام في انتظار أن يأتي أحد لاستلام جثته. ثم كَفَّنوه وسلموه إلى حانوتي مصلحة السجون.

ورافقه عشرة من المساجين القُدامى إلى البوابة الخارجية. واصطفَّ شرف من عساكر السجن عند الباب، قاموا بأداء التحية الأخيرة لليانكي البحَّار المُغامِر القديم الذي طاف حول الدنيا، قبل أن تغرق سفينته في قاع السجن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤