الفصل الثالث

سيد الحليوة

لحظة وضعتُ قدمي في السجن، كان قد مضى عليه تسعة عشر شهرًا. وكان قد مضى عليه منذ ولادته تسعة عشر عامًا لا تزيد!

وعندما رأيتُه في فِناء السجن أول مرة، كان يبدو كتلميذ في المدرسة الثانوية، وكان يرتدي بدلة حسنة الصنع، جيدة القماش، ويرسل شعر رأسه على مُوضة هذه الأيام. ولعنتُ الحظ الذي قذَف بمثل هذا الصبي الوسيم إلى حيث القيود والقضبان! وتصوَّرتُ أنه رُبَّما أخطأ في المدرسة، فضرب زميلًا له أو اعتدى على مُدرِّس من المدرِّسِين، ربما تورَّط في سرقة صغيرة، ربما كان يلهو فتجاوَز بشقاوته الحدود المرسومة!

ولكني كدتُ أُجن عندما علمت أن الولد الصغير قاتل، وأنه قَتل شقيًّا شهيرًا في منطقة تمتد من أبو صير إلى سقارة إلى الحوامدية، وهي المنطقة التي أطلق عليها بعض رجال الأمن اسم مثلث الرعب.

وأصل الحكاية أن الولد الوسيم الصغير، كان في الرابعة عشرة من عمره، عندما خرج أبوه ذات مساء من قريته سقارة قاصدًا إلى قرية أبو صير، فقد كانت ۳۷ هذه عادته كل ليلة جمعة حيث يقضي شطرًا من الليل عند بعض الأصدقاء يشربون الشاي، ويُدخِّنون الجوزة، ربما يلعبون الورق. ثم يعود عند منتصف الليل وحده بين الحقول إلى سقارة. وأحيانًا في ليالي الصيف النَّدية، والجو حلو، ونسمة هواء طرية تهب من ناحية الصحراء المُجاورة، كان الولد السعيد يرفع عقيرته بالغناء. فقد كان يتمتَّع بصوت جميل، أحيانًا كان يستخدمه في الغناء في أفراح الفلاحين، ولياليهم المِلاح.

والرجل نفسه كان وسيمًا كسيدنا يوسف، ملامحه ليست شبيهة بملامح الفلاحين، فالعيون زرق والشعر أصفر. والبشرة بيضاء … ولا أحد في القرية كلها يدري من أين جاء، فالبعض يؤكد أنه من بلاد في ريف المنصورة. وأنه من نسل عساكر فرنسا الذين كسرهم عسكر شجرة الدر وأَسروهم مع ملكهم لويس التاسع، ثم وزَّعوهم على بيوت الفلاحين كعبيد، ولكنهم اعتنقوا الإسلام بعد حين وتزوَّجوا من نساء الفلاحين وأحيوا منهم نسلًا يُضرب به المثل في الوسامة والجمال، والبعض يؤكِّد أنه ابن سائحة خوجاية جاءت إلى مصر فعشقَت الأعرابي الترجمان، وحملَت منه سِفاحًا وكان هذا الرجل هو ثمرة هذه العلاقة المحرَّمة!

ولكن عجائز القرية وشيوخها يُؤكِّدون أنه ابن امرأة كانت تعمل غازية في الأفراح! وأنها كانت غجرية تعيش خارج القرية، وأن الإنجليز عندما اجتاحوا القرية خلال ثورة ١٩١٩م. لم يجدوا امرأة تُطارِحهم الغرام إلا هذه الغجرية. وأن ثمرة هذا اللقاء هو هذا الشخص نفسه، الذي كان يتمتع بوجه جميل وصوت أجمل من وجهه.

المهم … الحكايات عن أصله وفصله كثيرة، والإشاعات أكثر. ولكن المؤكَّد أنه كان رجلًا طيب القلب، وكان فنَّانًا على نحو ما، ولم يكن بينه وبين أحد عداوة. ولذلك كان يسرح وحده بين الحقول دون خوف، إلى أن كانت تلك الليلة المشئومة، حين عاد من سهرته المألوفة. وعند نقطة يضيق فيها الوادي وتضيق عليها الصحراء، انفرجَت أعواد الذُّرة عن ماسورة بندقية، انطلقت منها رصاصة اخترقت قلب الرجل الطيب، فتكوَّم على الأرض دون أن يَتفوَّه بكلمة!

وما أشد الغموض الذي يكتنف مصرع رجل من هذا النوع. فلا خصومات ولا حزازات وليس لديه ما يجعله على طَمع أو حسد من أي نوع! ولكن جموع الفلاحين لديهم حساسية خاصَّة قادرة على اكتشاف الحقيقة. فلم يكد يمر أسبوع حتى تهامَس الناس في قرية أبو صير وفي القُرى المجاورة بأن القاتل هو عليوة. وأن السبب وراء الجريمة هو زوجة الرجل القتيل؛ فالزوجة جميلة، عُودها ملفوف، وعيناها وسيعتان، وشَعرها ينسدل على ظهرها، وضحكتها عالية، ورنينها يدغدغ الأعصاب، وعندما عرض نفسه عليها، تَمنَّعت وتدلَّلت، وظن عليوة أنه موقف تجيده النساء ولكنهن لا يلبثْنَ أن يَسقطْنَ.

ولكن عليوة فوجئ بأن المرأة مُصرَّة ومتشبِّثة، وعندئذٍ قرَّر إزاحة زوجها عن الطريق؛ كي يخلو له الجو، ويفوز بالزوجة عنوة أو سلامًا، فلا شيء يهم وليس هناك أي فرق! والناس الطيبون في قرى الجيزة قالوا إن عليوة هو القاتل فعلًا، ولكن ليس وراء الجريمة أسرار؛ فقد كان عليوة ينتظر شخصًا ما لقتله، ولكن الحظ ساق القتيل في تلك اللحظة بالذَّات، في هذا الطريق بالذات، فقتله عليوة عن طريق الخطأ ليس إلا!

المهم أن الشاب الوسيم مات قتيلًا، والمهم — أيضًا — أن الأصابع كلها امتدَّت تشير إلى عليوة بالاتهام، وتأكَّد الاتهام عندما أرسل عليوة شخصًا من طرفه سلَّم الأسرة المنكوبة ثلاثمائة جنيه، كتعويض عمَّا أصاب الأسرة من فَقْد الولد، وبدَا للجميع أن كل شيء قد انتهى … القتيل رحل، والقاتل دفع الدِّيَة، والأم تحاول أن تدبِّر أمورها في هدوء، ولكن سيد الصغير نَجْل القتيل لم يهدأ له بال. أصابه شرود غريب، وقال الفلاحون إن بالولد مَسًّا من عفريت، واعتزل الناس حتى رِفاق الحارَة عَزَف عن صُحْبَتهم.

وبدت عليه ملامح رجولة مُبكِّرة، فإذا مر بجماعة قرأ عليهم السلام. وإذا مات أحد في القرية ذهب لِيؤدِّي واجب العزاء. وكان الولد وسيمًا كأبيه. ولوعًا بالغناء كأبيه! ولكن أحدًا لم يَنتبِه إلى أن الولد الوسيم الفنان يَغلي في أعماقه، وأنه قرَّر أن يأخذ بثأر أبيه.

وذات صباح والشمس تُشرِق في العلالي، وصهد شهر حُزيران يَشوي كل شيء حتى الشَّجر والحَجر! كان عليوة المفتون بنفسه، الواثق ببأسه يتمشَّى أفرنجي على جِسر ترعة العزيزية، وقد تَلفَّح بشاله، ووضَع بندقيته على كتفه، وقد امتد طرفَا شاربيه في الفضاء، عندئذٍ كان الولد السيد الحليوة يقف على جانب الطريق مُستندًا على شجرة، وعندما اقترب عليوة من سِيِّد هتف به في طيبة: كيف الحال يا سيد؟ واقف وحدك ليه ع الجسر؟ أُمَّال فين أمك؟ ولم يَردَّ سيد ولم يتكلَّم، أطلق ستة عيارات من مسدس كان يخفيه في ملابسه، أصابت قلب عليوة فسقط يَتخبَّط في بِركة من دمه! ولم يهرب سيد، ولم يَتحرَّك من مكانه، بل وقف فوق الجثة، ومسدسه في يده، وقدمه تغوص في بركة دم عليوة. وأمام الشرطة اعترف سيد بقتل عليوة. واتهمه بقتل والده، وأضاف أنه بعد أن مات والده بأسبوع واحد، حضر عليوة إلى المنزل للعزاء، ورغم جو الحزن المُخيِّم على البيت، فقد حاول عليوة مغازَلة الزوجة — أم سيد — واحتضَنَها بالفعل أمام سيد، وهو واقف في الركن! ينظر ويتأمَّل ويرتجف بدنه كله. ولو كان معه مسدس في تلك اللحظة، لأطلقه على عليوة، لو كان معه سكين حادٌّ لغَرزه في صدر عليوة، ولكنه لم يكن يحمل معه شيئًا. ولذلك آثر السكوت حتى تَحين الفرصة!

وحكى سيد، كيف حصل على المسدس، وكيف قرَّر القضاء على عليوة، وكيف تَعقَّبه، وكيف عَرف خط سيره كل صباح، وكيف انتظره ذلك الصباح على الجسر وعند الشجرة، وكيف قتله، وكيف أغرق حذاءه في دمه! وصارت قصة سيد وعليوة، حديث الناس، وأصبحت بابًا ثابتًا في الصحف، ولأول مرة يَلقَى قاتِل عطف الناس. فهذا الولد الوسيم الصغير ثار لدم أبيه ولعرض أمه، وسَرت العدوى من الناس إلى القضاء فحكموا بحبسه لمدة عامين. واستراح سيد الحليوة، وهو جالس في السيارة من المحكمة إلى السجن، وكانت هذه هي أول مرة في حياته يقع بصره فيها على سجن، وأول مرة يختلط فيها بالمساجين، ودقَّ قلب سيد قلقًا وخوفًا. ولكنَّ سجينًا أبيض اللون طويل القامة، يُزيِّن فمه بأسنان ذهبية، ضحك لسيد في طيبة وربَّت عليه في حنان. وقال لسيد: ما تخافش، السجن مش وحش زي ما انت فاهم. وانا خدَّامك وتحت أمرك، وعندما انتزع الحراس سيد وعزلوه باعتباره صغير السن، وجديدًا — أيضًا — في عالَم السجون أشار إليه الرجل الأبيض ألا يخاف، فسيُدبِّر له كل شيء في الغد.

بدأ سيد الحليوة ليلته الأولى في السجن، وحشروه حشرًا في زنزانة «الإيراد» مع مجموعة المساجين الجُدد، ولكن سيد لم يَنَم طول الليل ولم يغمض له جَفن، فبعد أن أغلق السجان الباب نَشبَت خلافات حادَّة بين بعض المساجين، ودبَّت خناقة حامية بين ثلاثة منهم، وارتفعت المطاوي في الجو، ولمَعَت السكاكين في الظلام. وسقط جرحى يَعومون في بحر من الدماء. وصرخ سيد الحليوة طالبًا النَّجدة، ولكن لكمة جاءته من الخَلْف أفقدته القدرة على النطق.

وصوت الحارس جاء من الخارج يلعن سَنسفيل أبوه ويأمره بالتزام الصمت، وعندما فتحوا باب الزنزانة في الصباح، اكتشف سيد أن كل ما جرى في الليل قد ولَّى مع الظلام، واكتشف سيد في تلك اللحظة قانون السجن الأبدي. ففي السجن، ويل للظالم والمظلوم. والعقاب ينزل بالضارب والمضروب، والإهانة من نصيب الشاكي قبل أن تكون من نصيب المشكو في حقه! وخاف سيد كما لم يَخفْ من قبل، بل هو خافَ هذه المرة، ولم يَخفْ قبل ذلك قط!

بل إنه عندما تربَّص لعليوة عند الشجرة وأطلق عليه النار وقتله وغمس قدميه في دمه، لم يشعر أبدًا بالخوف، ولم ترتعش عضلة واحدة في قلبه … وشعر سيد الحليوة أنه وحيد، وأنه ضائع، وأنه في حاجة إلى حماية. لحظة من هذه اللحظات التي يشعر فيها المرء أن كل شيء قد ضاع وكل شيء قد انهار كغريق يَجرفه التيار ويده لا تقبض إلا على الماء، ولا تتشبَّث إلا بالهواء.

في تلك اللحظة هبط عبده الأبيض على سيد ومع عبده حلاوة طحينية وجبن وعلبة سجاير. ولكن سيد الحليوة طلب من عبده الأبيض طلبًا واحدًا لا غير، أن ينقله من زنزانة الإيراد. ولما شرح له عبده أن المسألة عويصة. وأنها تحتاج إلى مبالغ كبيرة. أبدى سيد استعداده لدفع أي شيء مُقابِل الانتقال، وأمهله عبده إلى الغد ليُدبِّر الأمر، ووعده خيرًا ورجَاه أن يكتم الخبر!

وكتم سيد الخبر عن الآخَرين. وبات ليلته قابعًا في ركن الزنزانة، وعندما فتح الحارس الباب كان أول الخارجين، وعندما التقى عبده الأبيض، واستفسر منه عمَّا تم بشأن النقل من زنزانة الإيراد، راح عبده يُعدِّد له المتاعب التي تعترض الموضوع، والمصاعب التي تحول دون تحقيقه. كان سيد يسمع ذلك، ووجْهُه يزداد اصفرارًا، فأملُه في النقل قد تلاشى، ورغبَتُه في النجاة من هذا المستنقَع الذي سقط فيه قد تبدَّدَت.

وهمس في ضعف شديدٍ: يعني مفيش فايدة يا عم عبده؟

فأجاب عبده بِنبرة صوت لا تَنمُّ عن شيء: كل عقدة ولها حَلَّال يا سيد.

– وإمتى الحل يا عم عبده؟

– بكرة ربنا يسهلها.

وظن سيد أن عبده يعني كلمة بكرة بحرفيتها … ولكن … بكرة هذا لم يأتِ إلا بعد أسبوعين. كان سيد قد انشوى على جَمْر النار. وما أغرب هذا التكوين الغريب الفريد الذي اسمه إنسان. يقتل سيد عليوة! وهو على استعداد ليقتل ألف رجل! ولكنه لا يحتمل الإقامة يومًا واحدًا في زنزانة الإيراد، ولكن ها هو الفرج أتى على كل حال. وها هو عم عبده يجمع متاع سيد في كيس من القماش، وعندما استوى سيد جالسًا على الأرض في زنزانة عم عبده، اكتشف عُمْق الهُوَّة بين زنزانة عم عبده، وزنزانة الإيراد. هنا كل شيء مُرتَّب وجميل، حتى الجدران مُعلَّق عليها صور لمُمثِّلات جميلات، نُهودُهن بارزة، وأردافهن متكورة، ونظراتهن جريئة.

وذهل سيد عندما رأى في زنزانة عبده مَرتَبة جيدة الصنع، وقُلَّة مياه تجعل الماء أبرد من ليالي الشتاء، ووجد موقدًا بأربع شُعلات لإنضاج الطعام، وإعداد الشاي، هل زنزانة عم عبده في نفس السجن الذي يضم زنزانة الإيراد؟ حتى الحراس عند عم عبده أكثر رِقَّة وأكثر أدبًا وهم يتكلمون مع السجناء، ويبتسمون أيضًا، ويضحكون أحيانًا.

ولاحَظ سيد الصغير أن الفروق هنا زالت، فلا فرق بين السَّجان والمسجون، بل أحيانًا المسجون هو الأقوى، وهو الأعز، والسَّجان هو الضعيف وهو الأذل، ولاحظ سيد أيضًا، أنه في موعد وجبة الغداء يجتمع المسجونون والسجناء — ليس كل السجناء بالطبع ولكن بعضهم — يجتمعون في زنزانة عم عبده، يأكلون ويشربون الشاي ويُدخِّنون السجاير ويَروُون النكات!

ولاحظ سيد الصغير أيضًا، أن السجان إذا خرج من زنزانة عبده، خلَع الحزام ورسم على وجهه تكشيرة رهيبة، وضرب بقية السجناء الذين يَتلطَّعون بجوار الجدران.

وارتاح سيد جدًّا للجو الجديد، وللمأوى الجديد، وأدرك أن السجن ليس سيئًا للغاية كما سمع من قبل، وكما تَوهَّم هو نفسه خلال أيام العذاب التي عاشها في زنزانة الإيراد، وبدأ سيد يشعر بالاستقرار، وأخذ يَعُد الأيام التي انصرمت، والأيام التي بقيَت، وصار له أصدقاء في السجن، شُبَّان صغار في مثل عمره، فقد لاحظ سيد أن السجن يكتظ بهذا النوع من الصبية، ولكنهم ليسوا قَتلَة، إنهم فقط لصوص ومجرمون صغار، ولكنهم ظرفاء وأصحاب نكتة حاضرة، وتجربتهم في السجن تجعلهم أكثر جرأة من سيد على مواجهة المشاكل، والخروج من المأزق. واللف حول مواد اللائحة التي تمسك بخناق المسجونين.

ومرت شهور وسيد في السجن ينتظر من يَزوره ولكن دون جدوى، وجُنَّ جنون سيد، فلا يمكن أن تتخلَّف أمه عن زيارته إلا لأمر رهيب، وراحت الظنون تتقاذف سيد الصغير، هل ماتت؟ هل مرضَت مرضًا شديدًا أقعَدَها عن القيام وعن السير وعن المجيء إليه؟

إنها لم تكن تُحب في الحياة أكثر من سيد، وهي التي أطلقَت عليه اسم الحليوة، فما الذي أخَّرها عن زيارة سيد، وهو الذي قَتل عليوة حين مد يده ليتحسَّس جسدها المقدس النبيل؟!

وفضفض سيد بأحزانه وظنونه لعم عبده الأبيض. واستمع عم عبده في هدوء وابتسم في هدوء، وهز رأسه ونطق بالحكمة كلها: يا بني المسجون رِحْته وحشة، ما حدش عاوز يشوفه.

وقال سيد الحليوة: بس انا يا عم عبده، مش مسجون في حاجة عار من غير مؤاخذة، وانا مسجون عشان الشرف، دنا قاتِل وواخد بتاري.

وهمهم عبده وهو يُحرِّك الشاي فوق النار: كله بيتساوى، المسجون مَسجون، إن شاء الله يكون مسجون في إيه!

كانت هذه العبارة هي خُلاصة حِكمة عبده في الحياة؛ فهو سجين مُعتاد التردد على السجون منذ أن كان في عمر سيد. وهو ليس بقاتل. وليس بلص، وليس بغشاش أو نصَّاب أو دجال أو نشَّال، ولا يؤذي أحدًا، ولا يضر أحدًا، ولكنه تاجِر معروف وله زبائن، وتجارتُه من أغلى وأحلى السلع في التاريخ، لأنها سِلَع تتحرَّك وتتكلَّم وتشكو وتضج وتئن وترغب وتجفل وتحن وتغضب وتهرب، فبضاعته هي الإنسان، إنه قوَّاد شهير له في عالَم الليل باع طويل وهو مشهور، أشهر ربما من بعض الوزراء ومن بعض الممثلين، ولكن جهات الأمن لا ترحم، ومع أن رجال الأمن أنفسهم ليسوا فوق مستوى الشُّبهات؛ فَهُم أصحاب مزاج، وسُمَّار ليالي، ورُوَّاد متعة، وهم أحيانًا يلجئون لعبده، ودائمًا عبده يلبي لهم طلباتهم. ولكن عندما تقع الفاس في الرأس، لا أحد فيهم يعرفه، ولا أحد منهم يُقدِّم له مساعدة، بل إنهم في كل الحالات يعاملونه وكأن أعينهم لم تقع عليه من قبل.

– وتعرف يا بني يا سيد! اللي ما معهش قرش بتاعه هوه، ما يسواش قرش، خُدها حكمة من عمك عبده. وما فيش حد ينفع حد، لا تقوللي أمك ولا أبوك. مفيش غير عينك وعافيتك.

– طيِّب والعمل يا عم عبده؟

– إنت عليك فلوس كثير يا سيد ولازم تدبر نفسك. وسادَ الصمت بينها فترة، قطعه سيد بسؤال حائر: وأدبر نفسي إزاي يا عم عبده؟

وقال عبده على الفور: تفتح مُخك يا سيد، فَتَّح مخك وانت تأكل ملبن.

انقلبت أحوال سيد الحليوة بين يوم وليلة. ها هو الآن يبدو وسط حُثالة المساجين، كأنه طالب ابن ذوات في مدرسة داخلية. البدلة مضبوطة وعلى مقاسه وآخر قيافة قام بتفصيلها فاروق الشامي مقصدار السجن وهو ترزي كان له صيت عظيم في مصر كلها. وكان ترزي الباشوات والأمراء والأعيان وأصحاب الطين. ولكن الشيطان الذي ركب رأسه وحرَّضه على تهريب المخدرات، أطاح به من فوق عرشه وألقى به في السجون خمسة عشر عامًا، وهو الآن يعيش في سجن القناطر يقضي الأيام الأخيرة من العقوبة، رئيسًا لورشة الترزية. ومُتخصِّص في تفصيل بدل البيه مدير مصلحة السجون، والبيه الوكيل، والبيه مأمور السجن، وحضرات الضباط، بل إن نشاطه امتد — أيضًا — إلى البهوات أصدقاء مدير المصلحة، ووكلاء المصلحة، والمأمور.

وهو بالرغم من كونه أعظم ترزي عرفَتْه القاهرة في فترة من الفترات، إلا أن أجره لم يزد عن خمسة جنيهات للبدلة الواحدة التي يقوم بتفصيلها داخل السجن، أما البيه مدير المصلحة. فهو لا يدفع شيئًا؛ لأن البيه المأمور دائمًا يقسم بأن يتولَّى هو الدفع بدلًا من البيه المدير، ولكنه لم يحدث أبدًا أن دفع شيئًا على الإطلاق!

وهو بالنسبة لسيد الحليوة فقد تقاضي نظير تفصيل البدلة خمسين علبة سجاير وهي بعملة السجن تُساوي عشرة جنيهات. دفَعها عبده الأبيض راضيًا.

وعندما رآها عبده الأبيض على جسم سيد الحليوة، شهق من شدة الإعجاب، فالولد الوسيم تحوَّل في البدلة الجيدة إلى شيء أشبه بالممثِّلين. وفي قدم سيد حذاء أبيض، ومن جيبه يطل منديل حريري هفهاف، وعلى رأسه طاقية لها حافة تقيه حرارة الشمس، واستطاع عبده بنفوذه أن يُدرِج اسم سيد في قائمة المَرضى الذين يُصرَف لهم غذاء خاص. وهو غذاء مكوَّن من بيض وحليب وليمون وشاي وخضراوات طازجة. وهو غذاء مخصَّص للمرضى، ولكن المرضى لم يَحصلوا عليه قط. ومن يريد أن يحصل على هذا الغذاء الطَّيِّب عليه أن يدفع مرتبًا شهريًّا للدكتور لويس طبيب السجن. وهو رجل قبيح الخلقة، قبيح التكوين.

الذي يراه من بعيد يَتصوَّره امرأة حامل في شهرها الأخير، وهو يعيش في سكن خاص مُلحَق بالسجن، ومتزوِّج من سيدة تصغره بعشرين عامًا ثرية ووالدها عمدة في قرى أسيوط بالصعيد.

وهو لم ينجب؛ لأنه فاقِد القدرة على الإنجاب، ورغم أنه طبيب، ومفروض فيه أنه مَلاك الرحمة داخل بيت العذاب، إلا أن المساجين الفقراء يخشونه أكثر مما يخشون الحراس. وويل للمسجون المريض إذا لم يدفع للدكتور لويس. سيضربه لويس حتى يُغمَى عليه. ثم يكتب في تقريره أنه مُتمارِض، فتجلده الإدارة أو تضعه في زنزانة التأديب. وكل شيء عند الدكتور لويس بالثمن؛ الدواء له ثمن، والإجازة من العمل لها ثمن، والغذاء الطبي له ثمن، والإقامة في مستشفى السجن لها ثمن.

وهكذا حصل سيد الحليوة على الغذاء الطبي. ولم تمضِ أيام حتى أفاد الغذاء الجديد، فتورَّد وجْه سيد الحليوة، فصار أحلى ممَّا كان، ولكن سيد الحليوة كان يشغل باله سؤال عذَّبه طويلًا: أين ذهبَت أمه؟ وأرسل المراسيل، وبعث بالوفود، ولكن لا حس ولا خبر، لقد أصبح دَينُه ثقيلًا لعم عبده الأبيض، ولو جاءت أمه تزوره فسيُسدِّد دَينه عن آخره … إذْ إنه لأوَّل مَرَّة، يحس أن الدَّيْن أكثر قيدًا على حرية الإنسان من قضبان السجن نفسه! غير أن تفكيره في الدَّين، وضِيقَه به لم يمنعه من مواصلة الحياة على هذا النحو، بل لقد أصبح من العسير عليه أن يعود مرة أخرى إلى زنزانة الإيراد، أو يصعد الدور الرابع، حيث المتسولون والذين لا مورد لهم. وعم عبده الأبيض رجل طيب، وهو يدفع عن طيب خاطر، ربما لأنه صاحب أولاد، ربما كان أحد أولاده يُشبِه سيدًا! وربما لأن سيدًا نفسه صاحب قلب طيب؛ ولذلك وفَّقَه الله في معرفة أولاد الحلال!

ولكن ذات صباح حدث شيء غريب لم يكن يتوقعه سيد. كان يجلس في زنزانة عم عبده، عندما جاء سجين آخَر، ولكن يبدو من منظره وهيئته أنه من الأثرياء. كان يرتدي بدلة لونها في لون ملابس السجن، ولكن قماشها أفخر من قماش بدلة المأمور. ويدخن سجاير أمريكاني فاخرة، وأخرج قطعة حشيش من صنف جَيِّد ألقى بها بين يدي عم عبده. وراح الاثنان يُدخِّنَان سجاير الحشيش والرجل يختلس النظرات إلى سيد الحليوة. وفجأة قال بدون مناسبة: إنت سيد الحليوة؟

وقال سيد أيوه.

ورد الرجل في هدوء: اسمك مضبوط، إنت حليوة. بصحيح.

وخيَّم الصَّمْت لحظة على الجميع، قبل أن يستطرد الرجل قائلًا: أنا سمعت حكايتك، وانا مبسوط منك، واد جدع، قتلْتَ عليوة ربنا يجحمه في نار جهنم، كان راجل شر، وانا مبسوط منك.

ثم دس الرجل يده في جيبه، وأخرج ورقة من فئة العشرة جنيهات، وقال لسيد الحليوة: خد دي عشانك.

وأبدى سيد رفضًا في البداية، ولكن عم عبده الأبيض حرَّضه على قبولها: خد من عمك خضير ما تكسفوش.

وعندما مد سيد يده وأخذ الورقة. قال عم عبده الأبيض: دا عمك خضير راجل سيدنا، وتاج رأسنا، وعم الناس اللي انت شايفها دي كلها. ولا فيش حد هنا يرفض له طلب، حتى البيه المأمور بينفذ طلباته، تصدق بالله، هكذا قال عبده وهو يعتدل في جلسته: فيه ناس هنا في السجن، تتمنى تقعد ولو خمس دقائق مع المعلم خضير.

وعلَّق المعلم خضير وهو ينهض: ملعون أبوهم جميعًا أولاد كلب. لم نرَ مساجين مثل هؤلاء من قبل، حتى السجون باظت مثل كل شيء.

وقال عم عبده الأبيض: مساجين زمان كانوا مساجين بحق وحقيق، ومساجين اليوم زبالة.

ولم يعلق المعلم خضير بشيء. ولكنه عندما أصبح على عتبة باب الزنزانة، التفتَ، وقال لسيد الحليوة: ابقى فوت علَيَّ في الزنزانة كمان شوية يا سيد، عندي بدلة حلوة تنفعك.

ولم يَرد سيد، ولكن عم عبده هو الذي ردَّ: كمان شويه هيكون عندك يا معلم. ربنا يخليك ويطول في عمرك.

عندما صعد سيد الحليوة على السِّلم الحديدي الدور الثاني حيث يُقيم المعلم خضير في زنزانة بالدور الثاني، شعر أن عيون المساجين تلتهمه، وأحسَّ بأن همس المساجين يدُور كله حوله وبشأنه، كان الدور الثاني في السجن أنظف الأدوار وأكثرها سكونًا.

ففي هذا الدور يقيم المسجونون السياسيون، وهم أقل جَلَبة من الآخرين وأكثر نظافة، ولكن الحراسة في الدور أشد وطأة، وأكثر صرامة، ولما كانت بعض الزنازين غير مسكونة في الدور، فإن هذه يتم توزيعها على بعض المساجين المجرمين. ولما كان السكن في الدور الثاني ميزة، فقد أصبحت هذه الزنازين وقفًا على تجار المخدرات. إنهم أكثر الناس نفوذًا في السجن؛ لأنهم أكثرهم ثراء. وأعزُّهم مقامًا لدى الإدارة والحراس.

كانت زنزانة المعلم خضير تقع في طرف الدهليز الأيسر. وقبل أن يصل إليها سيد الحليوة، انشقت الأرض عن الشاويش سيف حارس الدور، وهو أضخم حُرَّاس السجن جثة، وأكثرهم عبوسًا، وأشدهم وطأة على الفقراء من المساجين.

وخاف سيد الحليوة من الشاويش سيف، وارتعد بَدَنه كله، وفكَّر في الرجوع من حيث جاء. ولكن صوت الشاويش سيد الذي أصبح رقيقًا كصوت مَلاك بادره قائلًا: إنت جيت يا سيد! دا المعلم في انتظارك، اتفضَّل. وتقدَّم بخطوات عسكرية نحو الزنزانة، ووقف عند الباب وطرقه بأدب جم. وعندما جاء صوت من الداخل يسأل عن الطارق، قال الشاويش سيف: خدَّامك الشاويش سيف يا معلم، وسي سيد الحليوة وصل. عندئذٍ انفتح باب الزنزانة، وظهر منها رجل كالوحش، أضخم بكثير من الشاويش سيف، عضلاته بارزة كأنها كُتل حجارة مركبة ذراعين، ورأسه محلوق بالموس. ونظر للشاويش سيف شذرًا ثم ابتسم لسيد قبل أن يدعوه للدخول.

ما أغرب زنزانة المعلم خضير! وما أشبهها بغرفة في بيت أحد الأثرياء! مرتبة لم تقع عيناه على أجمل منها. وخِزانة لحفظ الملابس مصنوعة في ورشة النجارة داخل السجن، ورفوف عليها عرايس ولعب وتماثيل برونزية، وصورة للمعلم خضير معلَّقة على الجدار. وأطباق صيني وفناجين شاي، وبِدَل السجن معلَّقة على شماعات. ومائدة طعام قصيرة وصغيرة تتوسط الزنزانة، وعليها باقة ورد انتَقَتْه بعناية يدُ خبير من حدائق السجن! والمعلم خضير يتمدَّد بملابسه الداخلية فوق المرتبة يدخن سجاير الحشيش، وفي يده مروحة صغيرة، تعمل بالبطارية، وبدَا عليه أنه مسطول وآخر انسجام! وأشار لسيد بيده أن يجلس، وأفسح له مكانًا بجواره، وراح الرجل ذو العضلات يعد الشاي للمعلم خضير وضيفه الصغير. وبعد أن انتهى من إعداده، قدَّم لهما الشاي في فناجين نظيفة مزيَّنة بالورد، ثم استوى واقفًا وقال للمعلم: أي خدمة يا معلم؟

وقال المعلم وهو يرتشف الشاي بصوت مسموع: خليك واقف بره، وما تخليش حد يدخل.

انزاح المعلم خضير من مكانه وتراجع للخلف حتى التصق ظهره بالحائط، وجلس سيد الحليوة على حافة المرتبة مرتبكًا. وتشاغَل المعلم خضير في لَف السجاير المحشُوَّة بالحشيش. وعندما انتهى من لفها، من يده بسيجارة لسيد، وقال وهو يشعلها له: إنت مُرتَبِك ليه؟ أمَّال لو ماكنتش قاتِل. شِد م السيجارة عشان تتكيف.

جذب سيد الحليوة أنفاسًا متلاحقة، وتصاعدَت حلقات الدخان في جو الزنزانة، وربَّت المعلم خضير على ورك سيد الحليوة وقال وهو يضحك ضحكة عالية: القاتل ده بيبقى قلبُه جامد، لكن دا انت خِرع قوي. وابتسم سيد الحليوة ولم ينطق، فجذبه المعلم خضير ناحيته، وقبَّله قُبلَة خاطفة على وجهه، ونزع طاقيته من فوق رأسه. وراح يعبث بأصابعه في شعره، ولم يُدرِك سيد الحليوة قَصْد المعلم خضير في البداية، ظن أنه رجل طيب، وأنه يفعل خيرًا لوجه الله. لقد أعطاه عشرة جنيهات، ولفَّ له سجاير مخلوطة. وقدَّم له الشاي، وسيعطيه بدلة جديدة. ولكن الشك لعب في صدر سيد عندما قدَّم المعلم خضير يده وأحاط بها خَصْر سيد، ثم ضمَّه إليه ضمَّة قوية، وقبَّله مرة أخرى. وقال له في لهجة آمرة: قوم يا سيد اقلع هدومك، الدنيا حَر.

واعتذر سيد لأنه لا يشعر بالحر، وقال المعلم وقد تبدَّلَت قسمات، وجهه: طب اقلع عشان تقيس البدلة الجديدة. ورَدَّ سيد بأنه سيُجرِّب البدلة الجديدة في ورشة الترزية، حتى إذا احتاجت لشيء من القيافة أعَدَّها فاروق على الفور. عندئذٍ هوَتْ يد المعلم خضير على وجه سيد؛ فارتمى من شِدَّة الضربة على الأرض، وقبل أن يفيق سيد من هول الصدمة، عاجله المعلم خضير بكف آخَر وكف ثالث، وصرخ سيد الحليوة طالبًا النجدة، ولكن أحدًا لم ينجده، حتى باب الزنزانة ظل مُغلقًا عليه وعلى المعلم. وهتف سيد في توسُّل: أنا في عرضك يا معلم! وركله المعلم بقدمه ركلة أطاحت بسيد عند الباب، ثم هتف على الوحش الرابض عند الباب في الخارج: افتح للكلب دا خليه يمشي.

عندما خرج سيد الحليوة وجد جموع المساجين وقد جذبتهم صرخاته يَقفون في حلقة في آخر الممر، وعندما اقترب منهم سيد، تصاعدت ضحكاتهم وسخرياتهم في الجو. وهتف مسجون عابث: صباحية مباركة، يا بخت صاحب النصيب.

وأسرع سيد مبتعدًا، وهبط السلم بأقصى ما يستطيع، وعندما أصبح في الفناء، غاب في زحام المساجين.

ما أتعس الزمن! وما أقسى غدره! لقد تبدَّلت أحوال سيد بعد هذه الحادثة فأصبح السجن غير السجن، والناس غير الناس، حتى عبده الأبيض كشَّر عن أنيابه، وانقلب وحشًا من الوحوش.

وقال عبده الأبيض وهو يحاور سيد الحليوة: إيه الحكاية والرواية؟ … ما تَفهِّمْني، عاوز تعيش شحَّات في السجن، واللي يسوى واللي ما يسواش يِدِّيك على قفاك. والَّا عاوز تأكل لقمة نظيفة، وتلبس هدمة نظيفة، وتصرف قرش نظيف، وأجاب سيد من خلال الدموع التي انهمرَت على خده: أنا عارف إن عليَّ ليك فلوس، لكن أنا هادفعها يا عم عبده.

– وهتدفعها مِنين بقى إن شاء الله؟ أهلك برَّه ما شاء الله قوي. بهوات كلهم ومستوظفين، مش تحمد ربنا أن حظك كويس، والراجل الطيب قلبه انفتح لك. طب ورِّيني واحد كده في السجن مايتمناش نظرة رضا من خضير؟ وتمتم سيد في كلمات متقطعة: أنا مش بتاع الحاجات دي يا عم عبده.

وقال عبده الأبيض: إنت حر، عقلك في راسك تعرف خلاصك … بس البدلة دي بقى مش بتاعتك، والعشرة جنيه اللي ادَّهالك المعلم خضير مش لك، وانت على كيفك، ما دام انت وش فقر، خليك في الفقر! وانزوى سيد الحليوة بعد أن تَجرَّد من الهدوم والفلوس في الزنزانة.

وعندما فكَّر مرة في الخروج إلى الفناء عَكَمه الشاويش سيف من قفاه، وضربه كفًّا ألقى به على الأرض يتلوَّى من الألم، وهاجمه حتى أراذل المساجين. وفي كل خطوة كان يهجم عليه مسجون قبيح المنظر نتن الرائحة، يحتضنُه ويُقبِّله.

حتى المسجون المجنون الذي كان مجذوبًا من مجاذيب السجن من قبل، هجم عليه ذات مرة، واحتضنه بقوة، ثم وقف يهتف من شدة السرور: مَدَد يا خضير، مدد.

وهان كل شيء على سيد الحليوة. استعذب السجن الانفرادي، واستعذب الجوع، حتى السجاير التي يعشقها، لم تَعُد تروق له، ولكنه ذات صباح دخل عليه بدوي، وهو مسجون محكوم عليه بالمؤبد، وجلس على باب الزنزانة يتحدَّث مع سيد ويُدخِّن، ثم مد له يده بالسيجارة التي معه، ولكن سيد اعتذر. فألحَّ عليه، فتناول سيد السيجارة وأخذ نفَسًا عميقًا قبل أن يردَّها اليه.

وارتسمت ابتسامة عريضة على شفة بدوي. وزحف على الأرض حتى لامس جسمه جسم سيد، ثم طوَّقه بقوة وراح يُقبِّله كالمجنون، وصرخ سيد صرخات مدوية، وقاوَم سيد بشدة، وبدوي يحاول طرحه على وجهه.

وعندما اقتحم المساجين الزنزانة، كان سيد على وشك الاختناق، وقادَ الشاويش سيف سيد وبدوي معًا إلى الإدارة، وأمام الضابط روى سيد القصة، وأنكر بدوي رواية سيد، وعندما جاء دور الشاويش سيف، ذكر أنه رأى بدوي في زنزانة سيد، وأكد أن بدوي كان خارج العنبر عندما صرخ سيد مستغيثًا، وهكذا وقع سيد تحت طائلة العقاب، وأمر الضابط بحبسه في التأديب لمدة أسبوع.

ومرَّت الأيام على سيد في التأديب، النهار كالليل، فالزنزانة تسبح دائمًا في الظلام، والطعام تأنف الكلاب من تناوله. والرائحة نَتِنة كريهة، كان قبرًا أثريًّا قد انفتح فجأة داخل عنبر التأديب، والسكون شامل ورهيب وعميق حتى خُيِّل لسيد في وقت من الأوقات أنه مَيِّت، وأن الزنازين ما هي إلا مقابر، مدفون بها بعض الأحياء، نتيجة خطأ في تشخيص الطبيب.

ولكن … ما أعظم الراحة التي يحسها سيد، راحة لم يشعر بها من قبلُ حتى وهو يعيش مع أمه وأبيه في سقارة. وعندما تذكَّر سقارة شعر برائحة الحقول تملأ خياشيمه، وتذكر ترعة الذوات التي تخترق القرية، متدفقة بالمياه مرة، راكدة أغلب الأيام. وطاف بخياله نخيل سقارة الشهير المُثقل بالبلح الأحمر، كأن نارًا حامية شبَّت فجأة في أعالي النخيل، وارتسمت ابتسامة على شفتيه الجافتين عندما تذكر جمالات، كانت طفلة ولكن كان لها سلوك النساء. وكانت جميلة، عيناها ضاحكتان، ووجهُها باسم، وشعرها الصغير يرفرف مع الهواء كالطير الجميل، يا لها من أيام بهيجة ولَّت إلى غير رجعة، ودُنيا ذهبت ولن تعود!

وأفاق سيد من أحلامه على صوت يناديه، وخُيِّل لسيد في البداية أن الشاويش جاء بالطعام. وفرَك عينيه وأصاخ السمع جيدًا، ولكنه اكتشف أن الصوت ليس صوت الشاويش، وتساءل سيد عمَّن يكون الهاتف وجاءه الجواب: «أنا عبد الرحيم يا سيد»، وتذكَّر سيد أن عبد الرحيم المسجون المتهم بغش الخبز، كان قد طلع إفراجًا منذ شهور، وهو صاحب مخبز في قرية على بُعد مرمَى حجر من سقارة، ويبدو أن قد عاد من جديد متهمًا بغش الخبز، فهو لا يكاد يخرج حتى يعود، وهبَّ كالملسوع، وقال لعبد الرحيم: إيه الأخبار يا عم عبد الرحيم؟ أمي إزيها؟ وقال عبد الرحيم: «أمك اتجوزت يا سيد وسابت البلد وما حدش عارف راحت فين.»

وخيَّم الصمت على التأديب من جديد، ثم هتف سيد بصوت كأنه صادر من المقابر «واتجوِّزت مين؟» وأجاب عبد الرحيم «الولد عنتر اللي كان ماشي مع عليوة الله يجحمه!»

ولا أحد يعلم ما الذي جرى لسيد طول الليل، ولكن الذين يجاورونه في زنازين التأديب، قالوا: إنه لم يَكفَّ عن البكاء. ولكنه لم يكن بكاء مألوفًا، ولكنه كان يصرخ ككلب داسته سيارة نقل على الطريق. وفي الصباح نادَى سيد على شاويش التأديب، وقال له في استعطاف شديد: يا عم أحمد … والنبي تقول لعم عبده الأبيض سيد عاوزك، قول له أنا خدَّامه، قول له خلاص، عبده هيفتَّح مخه، هيفتحه ع الآخِر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤