الفصل الأول

منظور الحرية

من المألوف أن يناقش زَوجان إمكان زيادة دَخْلهما، ولكن أن تدور مُحادَثة في هذا الشأن في حوالي القرن الثامن قبل الميلاد، فهذا أمر يثير — بوجه خاص — قدرًا من الاهتمام، وإنها لَمحادَثة رَوَتْها مرارًا نصوص سنسكريتية في الكتاب المُقدَّس يرويها دارتاياكا أوبانيشاد، والقصة أن امرأة تُدعى ميتريبي وزوجها يا جنافاليكا انتقلَا في مُحادثتهما سريعًا إلى مسألة أخرى أكبر من مُجرَّد سُبل ووسائل المرء لكي يصبح ثريًّا، إلى أي مَدًى يمكن للثروة أن تساعدهما في الحصول على ما يريدانه،١ وتساءلت ميتريبي في دهشة عمَّا إذا كانت الغاية تَتحقَّق حين «تمتلك أقطار كوكب الأرض وكل الثروات؟» هل تستطيع بذلك أن تحصل على الخلود؟ أجاب الزوج: «لا … فإن حياتك هنا شأن حياة الأثرياء»، وقالت الزوجة: «إذن لا أمل في الخلود بفضل الثراء … إذن ماذا عليَّ أن أفعل بهذا الذي لا يمنحني الخلود؟»
ورَوَت الفلسفة الدينية الهندية سؤال ميتريبي البليغ مراتٍ ومراتٍ، تُوضِّح كلًّا من طبيعة المأزق البشري وحدود العالَم المادي. يُساوِرني شك طاغٍ بشأن مَسائل العالَم الآخر واسترشادها بحالة الإحباط التي استشعَرَتْها الزوجة إزاء شئون العالَم الأرضي. ولكنَّ ثَمَّة جانبًا آخر لهذا التبادل يَحْظَى باهتمام خاصٍّ ومُباشر في نظر الاقتصاد، ولِفَهْم طبيعة التنمية، ويتعلق هذا الجانب بالعلاقة بين الدخول والإنجازات، بين السِّلَع والقدرات، بين ثروتنا الاقتصادية وقُدرَتِنا على أن نحيا كما نشاء أن تكون الحياة. ومع إقرارنا بوجود رابطة بين الوفرة والإنجازات، فإن الرابطة يمكن — ولا يمكن — أن تكون قوية جدًّا، وأن تكون مُتوقِّفة على ملابسات أخرى. ليست المسألة القُدرة على الحياة إلى الأبد، كما شاءت الزوجة أن تُحدِّد بؤرة اهتمامها، بل القدرة على الحياة، حياة طويلة حقيقية «دون حرمان من زهرة العمر» وتُوفِّر حياة طيبة جيدة ما دام المرء على قيد الحياة «بدلًا من حياة البؤس وافتقاد الحرية» … وهذه أمور ننظر إليها جميعًا بعين التَّقدير كقيمة وأمل ننشده. وإن الهُوَّة بين المنظورين (أي بين التركيز فقط على الثروة الاقتصادية والاهتمام الواسع النطاق بالحياة التي يمكن أن نعيشها ونسعى إليها) تُمثِّل مسألة رئيسية تبدأ منذ كتاب أرسطو «أخلاق نيقوماخوس» «التي نجد فيها صدًى لحوار الزوجين الهِنديَّين الذي جرى على بعد ثلاثة آلاف ميل»؛ إذ نقرأ: «الثروة كما هو واضح ليست الخير الذي ننشده؛ ذلك لأنها مجرد أداة نافعة للحصول على شيء آخر.»٢

وإذا كانت لدينا أسباب لالتماس المزيد من الثروة، فإن علينا أن نسأل: ما هي بالتحديد هذه الأسباب؟ كيف تحقق الهدف؟ وما الشروط التي ترتهن بها؟ وما الأشياء التي نستطيع أن «نؤديها» بهذا المزيد من الثروة؟ والحقيقة أن لدينا جميعًا، بوجه عام، أسبابًا ممتازة لطلب المزيد من الدَّخل أو الثروة. وليس السبب هو أنَّ الدَّخل والثروة مرغوبان لذاتهما، بل بالتحديد لأنهما وسيلتان هادفتان جديرتان بالإعجاب من أَجْل تحقيق المزيد من الحرية لكي نبني نوع الحياة الذي نُبرِّره عقلانيًّا لما له من قيمة.

وتكمن فائدة الثروة في الأمور التي تهيئ لنا الثروة إمكان إنجازها — أي ما تساعدنا الحريات الموضوعية على إنجازه — بَيْدَ أنَّ هذه العلاقة ليست حصرية (حيث توجد مُؤثِّرات أخرى غير الثروة تُؤثِّر في حياتنا)، ولا هي مطردة (حيث إن أثر الثروة في حياتنا يتباين بتباين المؤثرات). لذلك من المهم الإقرار بالدور الحاسم للثروة في تحديد ظروف المعيشة ونوع الحياة، مثلما أن من المهم أيضًا فَهْم الطبيعة المشروطة والمُحدَّدة لهذه العلاقة؛ لذلك فإن المفهوم الملائم للتنمية يجب أن يتجاوز كثيرًا حدود تَراكُم الثروة وزيادة مُجْمَل الناتج القومي والمُتغَيِّرات الأخرى ذات العلاقة بالدخل. إننا يجب أن ننظر إلى ما هو أبعد من النمو الاقتصادي ولكن دون إغفال لأهميته.

وتستلزم وسائل وغايات التنمية دراسة فاحصة وتدقيقًا، وصولًا إلى فَهْم كامل وتامٍّ لعملية النمو والتطوير؛ إذ لا يكفي أن نقنع بأن يكون هدفنا الأساسي أقصى قَدْر من الدَّخْل أو الثروة؛ إذ إنهما كما أشار أرسطو «مُجرَّد أداة نافعة للحصول على شيء آخر.» كذلك، وللسبب نفسه، لا يمكن أن نعالج النمو الاقتصادي مُعالَجة معقولة باعتباره غاية في ذاته، وإنما يلزم أن تكون التنمية مُعنية أكثر بتعزيز الحياة التي نبنيها ودعم الحرية التي نستمتع بها، ويَجدُر بالذِّكْر أن توسيع نطاق الحرية التي نملك كل الأسباب العقلية للنظر إليها بِعَين التقدير كقيمة ليس الهدف منه فقط أن تكون حياتنا أكثر ثراءً وأقل قيودًا، بل — وأيضًا — أن تهيئ لنا إمكان أن نكون أشخاصًا اجتماعيين أكثر نضجًا وكمالًا، نمارس إرادتنا الخاصة ونتفاعل مع العالَم الذي نعيش فيه وأن نُؤثِّر فيه. وسوف نناقش في الفصل الثالث هذا النهج العام حيث نقارنه ونقيمه مع أساليب مُعالَجة أخرى تنافس مناط اهتمامنا.٣

أشكال افتقاد الحرية

يعاني كثيرون جدًّا في مختلف أنحاء العالم أنواعًا مختلفة من افتقاد الحرية. المَجاعات مستمرة الوقوع في أقاليم بذاتها، التي تُنكِر على الملايين الحرية الأساسية في حق البقاء، وأكثر من هذا أن البلدان التي لم تَعُد تُدمِّرها المَجاعات بين الحين والآخَر نَجدها تعاني سوء التغذية، وهو ما يُؤثِّر في أعداد غفيرة جدًّا من البشر المستضعفين. كذلك هناك الكثيرون جدًّا من المَحرُومين من حق الرعاية الصِّحيَّة أو مَرافق التصحاح أو حق الحصول على ماء شُرْب نقي، ويقضون حياتهم يكافحون نِسْبَة أمراض عالية غير ضرورية، وغالبًا ما توافيهم المَنِيَّة قبل الأوان. والمُلاحَظ أن البلدان الأغنى غالبًا ما تضم أعدادًا كبيرة من المحرومين من أبسط الاحتياجات، وأبسط الفرص للرعاية الصحية، أو التعليم الوظيفي، أو العمالة المأجورة، أو الأمن الاقتصادي والاجتماعي، وأكثر من هذا ما نلحظه أيضًا في بلدان شديدة الثراء، أن مُتوسِّط العمر المُتوقَّع لبعض الجماعات من المواطنين فيها لا يزيد على متوسط طول العمر في اقتصادات أشد فقرًا، هي ما اصطلحنا على تسميتها العالَم الثالث. زِدْ على هذا عدم المساواة بين المرأة والرجل الذي يضر حياة ملايين النساء، وربما يُورِدهن مَوْرِد التهلكة قبل الأوان. ويفرض بوسائل مختلفة قيودًا قاسية على الحريات الموضوعية للمرأة.

لننتقل إلى مظاهر حرمان أخرى من الحرية حيث نجد كثيرين جدًّا في بلدان مختلفة في العالَم مَحرومين بشكل مُنظَّم من الحرية السياسية ومن الحقوق المدنية الأساسية. وهناك مَن يزعم أحيانًا أن إنكار هذه الحقوق عليهم يساعد في حفز النمو الاقتصادي، وأنه «مفيد» من أجل تحقيق تنمية اقتصادية سريعة. وأكثر من هذا أن البعض أيَّد قيام نُظُم سياسية أشد قسوة — مع إنكار الحقوق المدنية والسياسية الأساسية — وفاءً لما زعموه من ميزة للنهوض بالتنمية الاقتصادية. وتَجدُر الإشارة إلى أن هذه الفرضية تجد دعمًا من شواهد تجريبية بدائية ومُتخلِّفة. وتُسمَّى غالبًا «فرضية لي» نسبة إلى لي كوان يوو رئيس وزراء سنغافورة. وواقع الأمر أننا لا نجد أي مقارَنة فيما بين البلدان تُقدِّم تأكيدًا لِصِدْق هذه الفرضية، وثَمَّة شواهد ضعيفة وقليلة تؤكد أن السياسة الاستبدادية المُتسلِّطة تُسْهِم عمليًّا في النمو الاقتصادي. والحقيقة أن الدلائل التجريبية تؤيد بقوة أن النمو الاقتصادي مناخ اقتصادي تَغلُب عليه روح الصداقة والود أكثر من كونه نظامًا سياسيًّا قاسيًا. وهذه مسألة سوف نَدرسُها ونَتفحَّصها في الفصل السادس.

والتنمية الاقتصادية لها بَعْد هذا أبعاد أخرى من بينها الأمن الاقتصادي. ونلحظ كثيرًا جدًّا أن فقدان الأمن الاقتصادي يمكن أن يرتبط بافتقاد الحقوق والحريات الديمقراطية. حقًّا إن إنفاذ الديمقراطية والحقوق السياسية يمكن أن يساعد حتى في القضاء على المَجاعات والحيلولة دون وقوعها هي وغيرها من كوارث اقتصادية. ولكنَّ الحُكَّام المُستبِدِّين، الذين هم نادرًا ما يَتأثَّرون أو يضارون بالمجاعات «أو غير ذلك من كوارث اقتصادية» يميلون إلى الحدِّ من الحوافز التي تُحفز إلى اتخاذ تدابير وقائية في الوقت المناسب. ونجد على النقيض من ذلك الحكومات الديمقراطية التي هي بحاجة إلى الفوز في الانتخابات ومواجهة انتقاد الجماهير ولديها حوافز قوية للنهوض بتدابير من أجل تَجنُّب المجاعات وغيرها من الكوارث. ومن ثَمَّ فلا غرابة في أن التاريخ العالمي لم يَشهَد مجاعة في ظل ديمقراطية حقيقية فاعلة — سواء أكانت ديمقراطيات غنية أم فقيرة نسبيًّا — لقد كان المألوف أن تقع المجاعات في الأقاليم المُستعمَرة الخاضعة لحكام خارجِيِّين أجانب أو في بلدان خاضعة لنظام حُكم الحزب الواحد، أو في ظل الديكتاتوريات العسكرية. والحقيقة، كما سوف يؤكد هذا الكتاب، أن البلدين اللَّذَين يقودان، فيما يبدو، تَحالُف المجاعة في العالَم هما كوريا الشمالية والسودان. وكِلاهما مثال ناصع للحكم الديكتاتوري. وبينما يُوضِّح أسلوبُ الوقاية من المجاعات الميزات الحافزة بوضوح وقوة لا مزيد عليهما فإن ميزات التعددية الديمقراطية تبلغ في الواقع مدًى أرحب وأبعد.

ولكن ما نراه أساسيًّا للغاية أن الحرية السياسية والحريات المدنية أمور مُهِمَّة بشكل مباشر في ذاتها، وليست بحاجة إلى تبرير غير مباشر في ضوء نتائجها على الاقتصاد. والملاحَظ أن الشعب العاطل من الحرية السياسية، أو من الحقوق المدنية إذا لم يكن يعوزه الأمن الاقتصادي (ويحظى، مصادفة، بظروف اقتصادية مواتية) فإنه يكون محرومًا من حريات مُهِمَّة تُهيِّئ له مسئولية قيادة حياته وتوجيهها، ويكون محرومًا من فرصة المُشارَكة في اتخاذ القرارات الحاسمة المُتعلِّقة بالشئون العامة. ولا ريب في أن مَظاهر الحرمان هذه تُشكِّل قيدًا على الحياة الاجتماعية والسياسية، ويَتعيَّن النظر إليها باعتبارها مَظاهر قَهرٍ حتى إن لم تُفضِ إلى أضرار أخرى (كوارث اقتصادية مثلًا). وحيث إن الحريات السياسية والمدنية تُمثِّل عناصر تأسيسية للحرية الإنسانية؛ فإن إنكارها يُشكِّل عقبة في حد ذاته. وحريٌّ بنا ونحن ندرس دَور حقوق الإنسان في التنمية والتطوير أن نُعنى بالأهمية التأسيسية والأداتية للحقوق المدنية وللحريات السياسية. وهذه هي القضايا التي سَندرُسها في الفصل السادس.

عمليات وفُرَص

حريٌّ أن يكون واضحًا من المناقَشة السابقة أن وجهة النَّظر عن الحرية التي نأخذ بها هنا تشتمل على كل من العمليات التي تسمح بحرية الأعمال والقرارات، والفُرص الفعلية المتوافرة للناس مع التسليم بظروفهم الشخصية والاجتماعية. والمعروف أن افتقاد الحرية يمكن أن ينشأ إما بسبب عمليات قاصرة غير ملائمة؛ «مثل انتهاك امتيازات الاقتراع أو غير ذلك من حقوق سياسية أو مدنية» أو بسبب الفُرَص القاصرة وغير الملائمة التي يعاني منها البعض وتَحُول بينهم وبين إنجاز الحد الأدنى من الفُرَص الأولية «مثل القُدْرة على الخلاص من موت مُبكِّر، أو من مرض يمكن الشفاء منه، أو من مجاعة لا إرادة للمرء بشأنها».

وإن التمييز بين مَظهر العملية ومَظهر الفُرصة للحرية يَتضمَّن تباينًا موضوعيًّا. ويمكن تَتبُّع ذلك على مستويات مختلفة. وسبق لي أن ناقشتُ في موضع آخَر الأدوار والشروط الخاصة بكل من مَظهر العملية ومَظهر الفرصة للحرية «وكذلك الروابط المتبادلة بينهما».٤ ومع أن هذه ليست هي المناسبة على الأرجح للدخول في قضايا مُعقَّدة ودقيقة ذات علاقة بالتمييز، فإن من الأهمية بمكان النَّظَر إلى الحرية بأسلوب عامٍّ كافٍ؛ إذ من الضروري تَجنُّب حصر الانتباه وقَصْره على الإجراءات الملائمة (على نحو ما يفعل مَن يُسَمَّون دعاة مذهب الحرية دون أن يعبَئُوا على الإطلاق بما إذا كان بعض المحرومين يعانون حرمانًا مُنظَّمًا من فُرَص موضوعية)، أو دون أن نحصر انتباهنا بدلًا من ذلك في الفُرَص الكافية وحدها (على نحو ما يفعل أحيانًا دعاة نظرة النتائج المترتبة منطقيًّا دون أن يعبَئُوا بطبيعة العمليات التي من شأنها أن تهيئ للناس فرصًا أو حرية للاختيار). إن كُلًّا من العمليات والفُرَص مُهِمَّة في ذاتها، وكل مَظهر من المَظهَرَين وثيق الصلة بالنظر إلى التنمية باعتبارها حرية.

دَوْران للحرية

الدراسة التحليلية للتنمية والتطوير المعروضة في هذا الكتاب تعالج حرية الأفراد باعتبارها لَبِنات البناء الأساسية؛ لهذا يَتعَيَّن توجيه الانتباه بخاصة إلى توسيع «قدرات» الأشخاص ليصوغوا نوع الحياة التي يقيِّمونها، ولديهم الأسباب العقلية لهذا التقييم. ويمكن تعزيز هذه القدرات عن طريق السياسة العامة، ولكنَّنا أيضًا، نجد أن اتجاه السياسة العامة من الناحية الأخرى، يمكن أن يتأثَّر بالاستخدام الكفء لقدرات العامة على المشارَكة. إن العلاقة ذات الاتجاهين علاقة محورية بالنسبة إلى الدراسة التحليلية المعروضة هنا.

وثَمَّة سببان مُتمايزان للأهمية الحاسمة للحرية الفردية في مفهوم التنمية، وكلاهما مُرتبِط بالتقييم والفعالية.٥ أولًا: يَعْتَبِر النهجُ المعياري المستخدَم هنا، الحريات الفردية الموضوعية أمرًا حاسمًا. وحسب هذه النظرة يجري تقييم نجاح مجتمع ما أولًا وأساسًا في ضوء الحريات الموضوعية التي يَتمتَّع بها أبناء هذا المجتمع. ويختلط هذا الوضع التقييمي عن البؤرة المَعلوماتية لدى النُّهُج المعيارية الأكثر تقليدية التي ترتكز على متغيرات أخرى؛ من مثل: المنفعة، أو الحرية الإجرائية، أو الدخل الحقيقي.
إن تَوافُر قدر أكبر من الحرية للمرء لكي ينجز أشياء لديه مبرراته العقلية ليقيمها يعني: (١) أنها مُهمَّة في ذاتها من أجْل مُجمَل حرية الشخص، و(٢) مهمة لتعزيز فرصة الشخص للحصول على دخل له قيمة في نظره.٦ وكِلَاهما وثيق الصلة بتقييم حرية أبناء المجتمع، ومِن ثَمَّ فهُما حاسمان لتقدير تنمية وتطور المجتمع.

السبب الثاني لاعتبار الحرية الموضوعية حاسمة هو: أن الحرية ليست فقط أساسًا لتقييم النجاح أو الفشل، بل هي أيضًا المُحدِّد الرئيسي للمبادَرة الفردية والفعالية الاجتماعية. إن المزيد من الحرية يُعزِّز قدرة الناس على مُساعدة أنفسهم وكذا على التأثير في العالَم. وهذه مسائل مِحورية بالنِّسبة إلى عملية التطوير والتنمية. واهتمامنا هنا وثيق الصِّلة بما يمكن أن نسميه (مع المجازفة بقدر من المبالغة في التبسيط) «مظهر فعالية» الفرد.

وإن استخدام مصطلح «الفعالية» في حاجة إلى قليل من التوضيح. المُلاحَظ استخدام كلمة «وكيل أو عنصر فاعل» agent أحيانًا في أدبيات الاقتصاد وفي نظرية اللعِب للدلالة على شخص يعمل لحساب شخص آخر (ربما تحت قيادة رئيس) ويجري تقييم إنجازاته في ضوء أهداف شخص آخَر (المسئول أو الرئيس). وأنا لا أستخدم كلمة وكيل هنا بهذا المعنى، ولكن بالمعنى الأقدم والأشمل للدلالة على شخص يعمل ويُحْدِث تغييرًا ويمكن الحُكم على إنجازاته في ضوء قِيَمه هو وأهدافه هو؛ سواء قيمناها أو لم نُقيِّمْها في ضوء معايير أخرى خارجية. وهذا الكتاب مَعنِيٌّ، بوجه خاص، بدور فعالية الفرد باعتباره عضوًا من العامة، ومشارِكًا في الأفعال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية (والذي يَتباين من المُشاركة بنصيب في السوق إلى أن يكون منخرطًا مُباشَرة أو غير مباشرة في أنشطة فردية أو مُشترَكة في المجالات السياسية وغيرها).

منظومات التقييم: الدخول والقدرات

على الجانب التقييمي يركِّز النهج المستخدم هنا على أساس واقعي يميزه عن الأخلاق العملية التقليدية وعن تحليل السياسة الاقتصادية، مثل التركيز الاقتصادي على أولوية الدخل والثروة (بدلًا من خصائص الحياة البشرية والحريات الموضوعية). وكذا الجانب النفعي الذي يركِّز على الإشباع الذهني (بدلًا من التركيز على السخط الخلَّاق والاستياء البَناء)، وأيضًا اهتمام «التوجه التحرري» بالإجراءات من أجل الحرية (مع إهمال متعمد للنتائج المترتبة على هذه الإجراءات)، وهكذا. وسوف ندرس في الفصل الثالث حالة شاملة لأساس واقعي مغاير يركز على الحريات الموضوعية التي من حق الناس أن يتمتعوا بها.

وليس معنى هذا إنكار أن حرمان الفرد من القدرات يمكن أن تكون له صلة وثيقة بَتدَنِّي الدخل، وهو ما له علاقة بكل من الاتجاهين: (١) الدخل المنخفض يمكن أن يكون سببًا رئيسًا للأمية واعتلال الصحة، وكذلك الجوع ونقص التغذية، و(٢) عكس ذلك أن التعليم الجيد والصحة الجيدة يساعدان في الحصول على دخل مرتفع. وحريٌّ أن ندرك بالكامل معنى هذه العلاقة. ولكن هناك أيضًا مؤثرات أخرى تؤثر في القدرات السياسية وفي الحريات الفعالة التي يتمتع بها الأفراد. وثمة مبررات قوية لدراسة طبيعة ومدى هذه الترابطات المتداخلة. ومعروف أن مَظاهر الحرمان من الدخل والحرمان من القدرة غالبًا ما تكون بينها علاقات مشتركة قوية. ولهذا السبب تحديدًا نرى من المهم تلافي الوقوع في غواية الظن بأن معرفة شيء عن الأول كافٍ ليدلنا على الثاني. إن الرابطة بينهما ليست بهذا التلاحم الوثيق، وغالبًا ما تكون نقط الانطلاق، من وجهة نظر سياسة عامة، أهم من التلازم المحدود لهاتين المجموعتين من المتغيرات. إننا إذا ما تحول انتباهنا من التركيز فقط، ودون استثناء على فقر الدخل، إلى فكرة أكثر شمولية تتمثل في الحرمان من القدرة، فإننا نستطيع بذلك أن نفهم بصورة أفضل فقر الحياة البشرية والحريات تأسيسًا على قاعدة معلوماتية مغايرة «تتضمن إحصاءات من نوع أن منظور الدخل يبرز كنقطة مرجعية لتحليل السياسات». ويتعين دمج دور الدخل والثروة — مع أهميتهما بالإضافة إلى مؤثرات أخرى — ليصوغا معًا صورة أعم وأكمل عن النجاح والحرمان.٧

الفقر وعدم المساواة

سوف نعرض في الفصل الرابع دلالات هذه القاعدة المعلوماتية لتحليل الفقر وعدم المساواة. وثَمَّة أسباب جيدة تدعونا إلى أن نرى الفقر في صورة حرمان من قدرات أساسية وليس مُجرَّد انخفاض الدخل. ذلك أن الحرمان من القدرات الأولية يمكن أن ينعكس في حالات؛ مثل: الوفاة المبكرة، ونقص كبير في التغذية (خاصة الأطفال)، والمرض المُزْمِن، وشيوع الأمية وغير ذلك من مظاهر الفشل. مثال ذلك تلك الظاهرة المروِّعة عن «افتقاد النساء» missing women «الناجمة عن أن معدلات وفياتهن أعلى بصورة استثنائية من حيث العمر في بعض المجتمعات وبخاصة في جنوب آسيا وغرب آسيا وشمال أفريقيا والصين». ويتعين تحليل الظاهرة في ضوء معلومات ديمقراطية وطبية واجتماعية، وليس فقط في ضوء الدخول المُنخَفِضة التي يمكن أن لا تكشف أحيانًا إلا عن النَّزْر اليسير بشأن ظاهرة عدم المساواة بين الجنسين.٨

ومن الأهمية بمكان، إحداث نقلة في المنظور؛ لأن ذلك يهيئ لنا نظرة مُغايِرة — ووثيقة الصِّلة بشكل مباشر أكثر — عن الفقر، ليس فقط في البلدان النامية، بل وأيضًا في مُجتمَعات أكثر وفرة. إن البطالة الضَّخمة في أوروبا (من ١٠–١٢ بالمائة في كثير من بلدان أوروبا الكبرى) تُفْضي إلى مَظاهر حرمان لا تنعكس واضحة في إحصائيات توزيع الدَّخل. وغالبًا ما تَخفى صورة مظاهر الحرمان هذه؛ نظرًا لأن نظام الضمان الاجتماعي الأوروبي (بما في ذلك التأمين ضد البطالة) يميل إلى تعويض الخسارة في دَخْل المُتعَطِّل. ولكن البطالة ليست مُجرَّد نقص في الدَّخْل يمكن أن تُعوِّضَه الدولة بشكل أو بآخر «مقابل كلفة مالية باهظة هي في ذاتها عبء خطير جدًّا». وإنما البطالة أيضًا مَصْدر إضعاف بعيد المدى للحرية والمبادَرة والمهارات الفردية. والمعروف أن البطالة لها آثار عديدة، من بينها أنها تُسْهِم في «الاستبعاد الاجتماعي» لبعض الجماعات وتتسبب في شعور بفقدان الاعتماد على الذات والثقة بالنفس، علاوة على أضرار تُصيب الصحة النفسية والبدنية. وكم هو عسير على المرء أن يَتخلَّص من الشعور بالتناقض الواضح في المحاولات الأوروبية المعاصرة، للانتقال إلى مناخ اجتماعي أكثر «اعتمادًا على النفس» من دون صياغة سياسات ملائمة لخفض المستويات الضخمة، وغير المحتملة للبطالة التي من شأنها أن تجعل سياسة الاعتماد على النفس أمرًا صعبًا للغاية.

الدخل ونسبة الوفيات

من المُلاحَظ بوضوح أن مدى حرمان مجموعات بذاتها في بلدان شديدة الثراء مُماثِل لنظيره فيما يُسمَّى بلدان العالَم الثالث، حتى لو نظرنا إليه في ضوء الرابطة بين الدَّخْل ونِسْبة الوفيات. مثال ذلك أن الأمريكان الأفارقة في الولايات المتحدة ليست لديهم كجماعة، فرصة أعلى — وإنما في الحقيقة فرصة أدنى — لبلوغ أعمار مُتقدِّمة في السن بالقياس إلى مَن وُلِدوا في بلدان اقتصادات شديدة الفقر مثل الصين وولاية كيرالا الهندية «أو سريلانكا، أو جامايكا، أو كوستاريكا».٩
وهذا ما توضحه الأرقام في الجدولين ١-١ و١-٢. وعلى الرغم من أن متوسط دَخْل الفرد للأمريكِيِّين الأفارقة في الولايات المتحدة أقل كثيرًا من نظيره للسكان البيض، إلا أن الأمريكِيِّين الأفارقة من حيث الدَّخل أغنى بمرات كثيرة من الناس في الصين أو في ولاية كيرالا «حتى بعد تصحيح فوارق كلفة المعيشة». وجدير بالملاحظة في هذا السياق أن من الأهمية بمكان مُقارَنة تَوقُّعات البقاء على قيد الحياة للأمريكيين الأفارقة مقابل توقعات البقاء لنظرائهم في الصين أو ولاية كيرالا الهندية. إن الأمريكِيِّين الأفارقة أَمْيَل إلى أن يكونوا أفضل من حيث البقاء على قيد الحياة في الأعمار الدنيا للجماعات (خاصة في ضوء معدل وفيات الأطفال)، بالقياس إلى الصينيين أو الهنود. ولكن الصورة تتغير بمُضِيِّ سنوات العمر.
fig1
شكل ١-١: التباينات في معدلات بقاء الذُّكور حسب الأقاليم. (المصادر: الولايات المتحدة ١٩٩١–١٩٩٣م، إدارة الصحة والخدمات الإنسانية بالولايات المتحدة، ١٩٩٥م (هاياتسفيل، المركز القومي للإحصاءات الصحية)؛ كيرالا ١٩٩١م حكومة الهند، نظام تسجيل العينة: مؤشرات الخصوبة ونسبة الوفيات ١٩٩١م (نيودلهي، مكتب أمين السجل العام، ١٩٩١م)؛ الصين ١٩٩٢م. منظمة الصحة العالمية، حولية الإحصاءات الصحية العالمية ١٩٩٤م (جنيف، منظمة الصحة العالمية ١٩٩٤م).)
fig2
شكل ١-٢: التباينات في معدلات بقاء الإناث حسب الأقاليم. (المصادر: الولايات المتحدة ١٩٩١–١٩٩٣م، إدارة الصحة والخدمات الإنسانية، ١٩٩٥م (هاياتسفيل: المركز القومي للإحصاءات الصحية، ١٩٩٦م)؛ كيرالا، ١٩٩١م، حكومة الهند نظام تسجيل العينة: مؤشرات الخصوبة ونسبة الوفيات (نيودلهي، مكتب المسجل العام، ١٩٩١م)؛ الصين، ١٩٩٢م؛ منظمة الصحة العالمية، حولية إحصاءات الصحة العالمية ١٩٩٤م (جنيف، منظمة الصحة العالمية، ١٩٩٤م).)
ويتحوَّل الوضع بحيث إن أعمار الرجال في الصين وفي كيرالا تتجاوز أعمار الرجال الأمريكِيِّين الأفارقة إذ يمتد بهم العمر، كجماعات، حتى يبلغوا سنًّا متقدمة. وأكثر من هذا، أن النساء الأمريكيات الأفريقيات يصل بهن الأمر إلى أن يكون نمط بقائهن من حيث أعلى سنٍّ مماثلًا لنمط بقاء أفقر الصينيات، ومُعدَّلات بقاء على قيد الحياة أدنى دون جِدال من أفقر السيدات الهنديات في ولاية كيرالا الهندية؛ لذلك ليست المسألة هي أن السُّود الأمريكِيِّين يُعانون من حرمان نسبي تأسيسًا على مُتوسِّط دَخْل الفرد مُقارَنًا بالرجل الأبيض، بل إنهم أكثر حرمانًا بشكل مُطلَق من أبناء كيرالا الهندية ذوي الدخل المنخفض (الرجال والنساء على السواء)، والصينيين (بالنسبة إلى الرجال) من حيث امتداد العمر لسن كبيرة. وإن التأثيرات السببية فيما يَتعلَّق بهذه المُقارَنات (أي المقارَنة بين معايير الحياة تأسيسًا على متوسط دخل الفرد، ومعايير الحياة تأسيسًا على القدرة على البقاء إلى أعمار طويلة) تتضمن التنظيمات الاجتماعية والعلاقات المجتمعية؛ مثل: العلاج الطبي الشامل، والرعاية الطبية العامة، والتعليم المدرسي، وسيادة القانون والنظام، وتَفشِّي العنف … إلخ.١٠
وجدير بالذِّكْر أيضًا أن الأمريكِيِّين الأفارقة في الولايات المتحدة يَضُمُّون من حيث المجموع الكلي تباينات داخلية كثيرة. ونحن في الحقيقة إذا تأمَّلْنا حياة السكان الذُّكور السود في المدن الأمريكية بخاصَّة، (مثل نيويورك سيتي، وسان فرانسيسكو، وسان لويس، وواشنطن العاصمة) فسنجد أن سكان الصين، أو كيرالا تَجاوَزُوهم من حيث مُعدَّل البقاء في أعمار مبكرة جدًّا،١١ وتَجاوَزَهم أيضًا كثيرون من سكان العالَم الثالث، ونذكر منهم مثالًا الرجال في بنجلاديش؛ إذ لديهم فرصة للحياة بعد سن الأربعين أفضل من الرجال الأمريكِيِّين الأفارقة من أبناء حي هارلم في مدينة الرخاء «نيويورك»،١٢ هذا على الرغم من حقيقة واضحة هي أن الأمريكِيِّين الأفارقة في الولايات المتحدة أغنى بمراحل كثيرة من نظرائهم في العالَم الثالث.

الحرية والقدرة ونوعية الحياة

ركَّزْتُ في المناقَشة السابقة على حرية أولية للغاية، وهي: القدرة على البقاء بدلًا من الوقوع ضحية لموت مُبكِّر. وهذه، كما هو واضح، حرية ذات دلالة وأهمية، ولكن ثَمَّة حريات أخرى تُعادِلها أهمية، حقًّا إن نطاق الحريات ذات الصلة واسع جدًّا، ويبدو أحيانًا أن مُحاوَلة عَرْض بيان شامل وكامل لأنواع الحريات يُمثِّل مشكلة إزاء الوصول إلى نهج «إجرائي» لتناوُل التنمية المُتمرْكِزة على الحرية، وأحسب أن هذا تشاؤُم لا محل له. بَيْدَ أنني سوف أُرجِئ تناوُل هذه المسألة حتى الفصل الثالث؛ حيث نُفكِّر في النَّهج الأساسي للتقييم معًا جملة واحدة.

ولكن جدير بالذِّكْر هنا أن المنظور المُتمرْكِز على الحركية يُماثِل بوجه عام الاهتمام المُشترَك بموضوع «نوعية الحياة» الذي يُركِّز بدَوره على أسلوب الحياة البشرية (وربما أيضًا الخيارات في هذه الحياة)، ولا يقتصر على التركيز على الموارد أو على الدَّخْل الذي مِن حق المرء التصرُّف فيه.١٣ ولا ريب في أن التركيز على نوعية الحياة وعلى الحريات الموضوعية دون الدَّخْل أو الثروة، قد يبدو كأنه انحراف عن التقاليد الراسخة للاقتصاد. وإنها لكذلك بمعنى من المعاني «خاصة إذا كانت المقارَنات مع بعض التحليلات الصارمة في تَمرْكُزها على الدخل التي يمكن أن نجدها في الدراسات الاقتصادية المعاصرة». بَيْدَ أنَّ هذا النهج العام مُتَّسِق مع التحليلات التي كانت جزءًا من دراسات اقتصادية مهينة منذ البداية. وتبدو هنا الروابط الأرسطية واضحة للغاية (تركيز أرسطو على «الازدهار» و«القدرة» الذي يرتبط بنوعية الحياة وبالحريات الموضوعية كما سبق أن ناقشَتْها مارثا فوسيوم).١٤ وهناك أيضًا روابط قوية مع الدراسة التحليلية لآدم سميث عن الضرورات وشروط الحياة.١٥
حقًّا إن بداية نشأة علم الاقتصاد حفزته أساسًا الحاجة إلى دراسة تقييم الفرص المتاحة للناس لبناء حياة جيدة وبيان مؤثراتها السَّببية. وإذا طرحنا جانبًا تصنيف أرسطو لهذه الفكرة، فإننا نجد أفكارًا مماثلة استخدمتها، بإفراط، الكتابات الباكرة المَعنِيَّة بالحسابات القومية والرخاء الاقتصادي. ونذكر من الرواد الأوائل لهذه الكتابات؛ ويليام بيتي في القرن السابع عشر، ثم من بعده جريجوري كنج، وفرانسوا كويزناي، وأنطوان-لورنت لافوازييه، وجوزيف-لويس لاجرانج، وآخَرِين. وبينما نجد الحسابات القومية التي صاغها هؤلاء الرُّواد للدراسات التحليلية الاقتصادية أرست قواعد وأُسسًا للمفهوم الحديث عن الدَّخْل، فإن اهتمامهم لم يكن قط مَقصورًا على هذا المفهوم الواحد؛ إذ أدركوا أيضًا أهمية الدخل كأداة لتحقيق هدف مشروط بالظروف المحيطة.١٦
مثال ذلك أنه بينما كان وليام بِيتي رائدًا لكل من «منهج الاقتصاد»، و«منهج الإنفاق» لتقدير الدخل القومي (والمُلاحَظ أن النهجين الحديثين للتقدير يَنبُعان مباشرة من هاتين المحاولتين الباكرتين)، فإنه كان معنيًّا صراحة بمسائل «الأمن المشترك»، و«السعادة الشخصية لكل إنسان». وحدَّد بِيتي هدفًا هو النهوض بهذه الدراسة المرتبطة ارتباطًا مباشرًا بتقييم ظروف الناس المعيشية. وحاول جاهدًا الجمع بين البحث العلمي وجرعة مهمة من سياسة القرن السابع عشر «لبيان أن رعايا المَلك ليسوا في وضع سَيِّئ كما يصورهم الساخطون». كذلك أَولَى آخرون اهتمامًا بأثر استهلاك السلع في الأداء المختلف للناس. مثال ذلك أن جوزيف-لويس لاجرانج، الرياضي العظيم، كان مُجدِّدًا بوجه خاص في تحويل السلع إلى خصائصها وثيقة الصلة بالأداء الوظيفي: كميات من القمح وحبوب أخرى إلى مُعادِلها الغذائي، وكميات من لحوم مختلفة إلى وحدات مُعادِلة من لحم البقر (تأسيسًا على نوعيتها الغذائية)، وكميات من مشروبات مختلفة إلى وحدات من النبيذ (وأرجو أن نتذكر أن لاجرانج كان فرنسيًّا).١٧ ونحن إذ نُركِّز الانتباه على ناتج الأداء الوظيفي بدلًا من السِّلع وحدها فإننا نستعيد بذلك بعض التراث القديم لعلم الاقتصاد المهني.

الأسواق والحريات

يمثل دور آلية السوق موضوعًا آخَر يستلزم أن نستعيد بعض التراث القديم. إن علاقة آلية السوق بالحرية، ومن ثم بالتنمية الاقتصادية تُثير تساؤلات تَتعلَّق على الأقل بنمطين مُتمايِزَين تمامًا بحاجة إلى أن نُميِّز بينهما بوضوح. الأول: أن إنكار فُرص الصفقات عن طريق ضوابط تَعسُّفية يمكن أن يكون مصدرًا لافتقاد الحرية ذاتها؛ إذ يكون الناس هنا مَمنوعِين من عمل ما يمكن أن يكون بعض حَقِّهم، في حالة عدم وجود أسباب قاهرة تَدفعُهم إلى عكس الاتجاه. وهذه نقطة غير مُتوقِّفة على نقص، أو قُصور في آلية السوق، أو على أي تحليل شامل للنتائج المُترتِّبة على وجود أو عدم وجود منظومة سوقية. إنها تتوقَّف ببساطة على أهمية حرية التَّبادُل والصفقات دون عائق.

وحَرِي أن نُمايِز هذه الحجة لصالح السوق عن حجة ثانية شائعة جدًّا هذه الأيام: إن السوق تعمل على نحو نمطي لتوسيع نطاق الدَّخل والثروة والفُرص الاقتصادية المتاحة للناس. إن القيود التعسفية المفروضة على آلية السوق يمكن أن تُفضي إلى خفض الحريات بسبب النتائج المترتبة على غياب الأسواق. ويمكن أن تحدث مظاهر الحرمان حتى ننكر على الناس الفُرص الاقتصادية والنتائج المواتية لهم التي تطرحها الأسواق وتدعمها.

هاتان الحُجَّتان الداعمتان لآلية السوق وَثيقَتا الصلة بمنظور الحريات الموضوعية؛ ولذا يَتعيَّن إبرازهما مُستقِلَّتَين. وواضح أن الحجة الثانية تَرتكِز على الفعالية الكفء والنتائج الإيجابية لآلية السوق؛ لذلك فإنها تحظى بكل الاهتمام في الدراسات الاقتصادية الحديثة.١٨ وهذه حجة قوية يقينًا، وثمة براهين تجريبية كثيرة تؤكد أن السوق يمكن أن تكون قاطرة لنمو اقتصادي سريع والتوسع في مستويات المعيشة. ولهذا فإن السياسات التي تُقيِّد فُرَص السوق يمكن أن تفضي إلى تقييد التوسع في الحريات الموضوعية التي كان بالإمكان أن تُحقِّقها منظومة السوق، وبخاصة عن طريق الرخاء الاقتصادي الشامل. وليس معنى هذا إنكار أن الأسواق يمكنها أحيانًا أن تكون مُعوِّقة للإنتاج (كما أوضح آدم سميث نفسه؛ إذ دَعَّم، بوجه خاص، الحاجة إلى ضوابط تحكم سوق المال).١٩ ونجد في بعض الحالات حججًا جادَّة لمصلحة تَوافُر هذه الضوابط. ولكن المُلاحَظ بعامة أن الآثار الإيجابية لمنظومة السوق تَحظى الآن باعتراف واسع النطاق أكثر مما كانت منذ بضعة عقود مضت.

بيد أن هذا الرأي المُؤيِّد لاستخدام الأسواق مختلف تمامًا عن الحجة التي تُؤكِّد أن للناس حق عقد صفقات وتحويلات. وإذا حدث أنه لم يكن ثَمَّة قبول لهذه الحقوق باعتبارها حقوقًا لا يجوز انتهاكها — ومستقلة تمامًا عن نتائجها — فإن بالإمكان الدَّفع بأن إنكار حق الناس في التفاعل بعضهم مع بعض اقتصاديًّا يَتضمَّن قدرًا من الخسارة الاجتماعية. وإذا كانت الآثار المُترتِّبة على هذه الصَّفقات ضارة بآخَرِين، إذن يَتعيَّن وللوهلة الأولى تقييد الفُرص المُؤيِّدة لحق الناس في حُرِّية عَقْد الصفقات. ومع هذا سيظل هناك شيء ما يُمثِّل خسارة مباشرة نتيجة فَرْض هذا القيد (حتى وإن وازن الخسارة المقابِلة للآثار غير المباشرة لهذه الصفقات بالنِّسبة لآخَرِين).

لقد اتَّجَه مبحث الاقتصاد إلى الابتعاد عن التركيز على قيمة الحريات متجهًا إلى المنافع والدخول والثروات. وطبعي أنَّ تَقْيِيد بؤرة الاهتمام على هذا النحو يُفضي إلى الغضِّ من قيمة الدور الكامل لآلية السوق حتى وإن تَعذَّر علينا اتِّهام علم الاقتصاد من حيث هو مهنة بالتَّقصير في الثَّناء على الأسواق بما يكفي. ولكن المسألة ليست كمَّ الثناء بل أسبابه.

لنأخذ على سبيل المثال الحُجَّة المشهورة في علم الاقتصاد وهي أن آلية السوق القائمة على المنافَسة يمكن أن تحقق نمطًا من الفعالية والكفاءة يعجز عنه نظام مركزي بسبب كل من اقتصاد المعلومات (كل شخص يعمل في السوق ليس عليه الإلمام بالكثير جدًّا من المعلومات)، ومواءمة الحوافز (حيث الأفعال الحذرة لكل شخص يمكن أن تندمج في سلاسة مع أفعال الآخرين). ولكن لنتأمل الآن واقعًا عكس ما هو مُفترَض بوجه عام، حالة يمكن أن يحقق نظام مركزي كامل النتيجة الاقتصادية المَرجُوَّة نفسها على الرغم من أن القرارات المتعلِّقة بالإنتاج والتخصيص يقررها رئيس ديكتاتور. تُرى هل يُعْتَبر الإنجاز واحدًا من حيث الجودة والنَّفع في الحالتين؟

ليس عسيرًا الدفع بأن ثمة شيئًا ما ناقصًا في مثل هذا السيناريو، إنه حرية الناس في أن يعملوا حسبما يقررون: كيف وأين يعملون وماذا يُنتِجون وأي شيء يستهلكون … إلخ. وإذا افترضنا جدلًا أن شخصًا ما في كِلا النوعين من السيناريو (حيث يَتضمَّن أحدُهما حرية اختيار، والآخرُ الانصياع لأوامر الرئيس الديكتاتور) يُنتِج السلع نفسها بالأسلوب نفسه ويحقق الدَّخْل نفسه ويشتري السلع نفسها، فإنه لا يزال يرى مُبرِّرًا معقولًا وقويًّا جدًّا لتفضيل سيناريو الاختيار الحُر على الخضوع للديكتاتور. وثَمَّة تميز بين «حصاد الذروة» (الناتج النهائي دون اعتبار لأي شيء آخَر في عملية الإنتاج بما في ذلك ممارَسة الحرية)، و«الحصاد الشامل» (الذي تَعنيه طبيعة العملية التي تُحقِّق في النهاية حصاد الذروة)، ولقد حاولتُ في موضِع آخر أن أتناول بالتحليل التفصيلي هذا التَّمايُز وصِلَته الوثيقة بموضوعنا.٢٠ إن جدارة نظام السوق لا تَتمثَّل فقط في قُدرتها على توليد حصاد ذروة أكثر كفاءة.

إن تَحوُّل بؤرة اهتمام الاقتصاد المنحاز إلى السوق من الحرية إلى المنفعة حدَثَ مَقابِل بعض الخسارة؛ ألا وهي إغفال القيمة المحورية للحرية ذاتها. وهذه نقطة عرَضها — بوضوح مثير للإعجاب، في إحدى الرسائل — جون هيكس أحد علماء الاقتصاد الرُّواد في القرن العشرين، الذي كان تَوجُّهُه نحو المنفعة أكثر منه نحو الحرية؛ إذ قال في هذا الصدد:

«إن المبادئ الليبرالية أو مبادئ عدم التَّدخُّل عند الاقتصاديين الكلاسيكيين (أتباع آدم سميث أو ريكاردو) لم تكن في أساسها مبادئ اقتصادية. وإنما كانت تطبيقًا لاقتصاد المبادئ الذي اعتقد البعض أن بالإمكان تَطبيقه على نِطاق أوسعَ بكثير. وإن الدَّفْع بأن الحرية الاقتصادية صِيغَت بهدف الفعالية الاقتصادية لم يكن أكثر من مُساندة ثانوية … إن ما أُصِرُّ على السؤال بشأنه هو عمَّا إذا كان ثَمَّة ما يبرر لنا إغفال الجانب الثاني من الحجة، والذي يصل بالبعض إلى حدِّ إغفاله إغفالًا تامًّا.»٢١

قد تبدو الفكرة غريبة إلى حد ما في سياق التنمية الاقتصادية من حيث الأولوية التي تميل الدراسات الاقتصادية إلى إضفائها بهدف توليد دخول عالية، ووعاء أضخم للسلع الاستهلاكية وغير ذلك من حصاد الذروة، ولكنها أبعد ما تكون عن وصفها بالغرابة. إن واحدة من أهم التغيرات في عملية التنمية في اقتصادات كثيرة تتضمن إبدال العمل القائم على السُّخْرة والعمل القَسري الذي يُعْتَبر من خصائص كثير من النُّظم الزراعية التقليدية، وإحلال نظام العمل التَّعاقُدي الحُر، وحرية التنقل دون قيد. ولا ريب في أن المنظور المَعنِي بالتنمية والمُرتَكز على الحرية يَلتقط على الفور هذه المسألة بحيث لا يكون ثَمَّة مجال لمنظومة تقييمية تُركِّز اهتمامها على حصاد الذروة فقط.

ويمكن توضيح الفكرة في ضوء الجدال الذي دار حول طبيعة عَمَل الرِّق في جنوب الولايات المتحدة قبل إلغائه. هناك دراسة كلاسيكية عن هذا الموضوع كتبها روبرت فوجل، وستانلي إنجرمان (الزمان على الصليب: اقتصاد الرقيق الزنوج الأمريكِيِّين). وتتضمن الدراسة اكتشافًا مُهمًّا يتعلَّق بالدخول المالية العالية نسبيًّا للرقيق (الملاحظ أن الخلافات في الرأي حول بعض القضايا الواردة في هذا الكتاب لا تُقوِّض هذا الاكتشاف). والملاحظ أن مقارنة سِلال سلع استهلاك العبيد كانت ملائمة لدخول العُمَّال الزراعيين الأحرار. كذلك المتوسط المتوقَّع لأعمار الرقيق، نسبيًّا طبعًا — لم يكن منخفضًا بطريقة واضحة — إذ يكاد يكون متطابقًا مع المُتوقَّع في بلدان مُتقدِّمة مثل فرنسا وهولندا، وأطول من المُتوقَّع للعمال الصناعيين الأحرار في الحضر في كل من الولايات المتحدة وأوروبا.٢٢ ومع هذا كان الرقيق يهربون، وهناك من الأسباب الجوهرية التي تدعو إلى افتراض أن نظام العبودية لم يلبِّ مصلحة أو اهتمامًا خاصًّا للعبيد. وحقيقة الأمر أن محاوَلات استرجاع الرقيق، بعد إلغاء الرِّق، للعمل كرقيق وبأُجور مُرتفِعة لم تُكلَّل بالنجاح.
«بعد تحرير العبيد حاوَل كثيرون من أصحاب المزارع إعادة بناء نظام عَمل المجموعات على أساس الأجر المدفوع. بَيْدَ أنَّ هذه المحاولات أصابها الإخفاق بعامة على الرَّغم من واقع أن الأجور المعروضة على مَن تَحرَّرُوا تَجاوزَت بكثير الأجور التي اعتادوا تلقيها كعبيد بما هو أكثر من الضعف. وتَبيَّن للمزارعين أنه على الرغم من هذه العلاوات من المستحيل الإبقاء على نظام عمل المجموعات بعد أن بات مُحرَّمًا عليهم استخدام القوة القسرية».٢٣
إن أهمية الحرية بالنسبة للعمالة وفي ممارَسة العمل أهمية حاسمة لفَهْم القِيَم المتضمنة في ذلك.٢٤
والحقيقة أن مُلاحَظات كارل ماركس الملائمة عن الرأسمالية، والتي تُؤكِّد وقوفه ضد افتقاد الحرية في تنظيمات العمل الرأسمالية، إنما ترتبط بالدِّقة والتحديد بهذه المسألة والتي أسهمَتْ في تشخيص ماركس للحرب الأهلية الأمريكية حين وصفها بقوله إنها «من أعظم أحداث التاريخ المعاصر.»٢٥ حقًّا إن هذه المسألة الخاصة بالحرية المرتكزة على السوق مسألة محورية للغاية لتحليل العمل القائم على السخرة والشائع في كثير من البلدان النامية، وللانتقال إلى تنظيمات العمل القائم على التعاقد الحر. وإن هذه هي إحدى الحالات التي مال فيها التحليل الماركسي ليؤكد صلته بمذهب دعاة الحرية وتركيزه على الحرية مقابل المنفعة.

ونذكر كمثال الصورة الواضحة الرائعة التي قدَّمها في. كي. راماخاندران — للأهمية التجريبية لهذه المسألة في الوضع الزراعي المعاصر في جنوب الهند — في دراسته المهمة عن الانتقال من العمل القائم على السُّخْرة إلى العمل المأجور في الهند، يقول:

يمايز ماركس بين الحرية الشكلية للعامل في ظل الرأسمالية، وافتقاد الحرية الحقيقية للعمال في النُّظُم قبل الرأسمالية. حرية العمال في تغيير أصحاب العمل تجعله حرًّا بصورة لا نجدها في أنماط الإنتاج الأولى. إن دراسة تَطوُّر العمل المأجور في الزراعة دراسة مهمة من منظور آخر أيضًا. ذلك أن توسيع نطاق حرية العمال في مجتمع ما لبيع قوة عملهم هو تعزيز لحريتهم الإيجابية التي هي بدورها مقياس مُهم لبيان مدى حُسن وجودة أداء هذا المجتمع.٢٦
وإن الوجود المشترَك والمُتلازِم للعمل القائم على السخرة والمديونية يفضي إلى شكل راسخ من أشكال افتقاد الحرية في الكثير من المجتمعات الزراعية قبل الرأسمالية.٢٧ ولكن اعتبار التنمية حرية يسمح لنا بتناول هذه المسألة مباشرة وبيان أنها ليست مُتوقِّفة على الكشف عن أن أسواق العمل تزيد هي الأخرى إنتاجية الزراعة. وهذه مسألة جد خطيرة في ذاتها، ولكنها مختلفة تمامًا عن مسألة حرية التعاقد والعمل.
كذلك فإن بعض الجدل الدائر حول المسألة المروعة الخاصة بعمل الأطفال ترتبط هي الأخرى بمسألة حرية الاختيار التي تتحدث عنها. إن أسوأ مظاهر انتهاك المعايير ضد عمل الأطفال إنما مصدرها على نحو نمطي الاسترقاق الفعلي للأطفال من أبناء أُسر مُعوَّقة واضطرارهم قسرًا إلى الارتباط بعمل استغلالي «على نقيض أن يكونوا أحرارًا وقد يُفضِّلون الالتحاق بالمدارس».٢٨ وتُمثِّل هذه المسألة المُتعلِّقة بالحرية مباشرة جزءًا مُكمِّلًا من القضية في صورتها الشاملة.

القيم وعملية التقييم

أعود الآن إلى التقييم؛ حيث إن حرياتنا متنوعة، إذن هناك مساحة للتقييم الصريح عند تحديد الأوزان النسبية لأنماط الحريات المختلفة لتقدير المزايا الفردية والتَّقدُّم الاجتماعي. ونجد عمليات التقييم بطبيعة الحال مُتضمنة في جميع النُّهج (من مثل النفعية، ومذهب الحرية وغيرهما التي سوف نناقشها في الفصل الثالث)، على الرغم من أنها تَرِد في سياق ضمني في الغالب. وإن من يريدون دليلًا ميكانيكيًّا — دون الحاجة إلى إشارة صريحة بشأن القيم المستخدَمة ولماذا نمَا لديهم مَيل إلى التَّذمُّر من أن النَّهج المُرتَكز على الحرية كأساس له — يستلزم أن تكون عمليات التقييم صريحة سافرة. بَيْدَ أنَّني سأدفع بأن الصراحة تمثل رصيدًا مهمًّا لممارسة التقييم، خاصة إذا كان التقييم منفتحًا ويسمح بفحصه وتدقيقه ونقده من قبل الرأي العام. حقًّا إن إحدى أقوى الحجج الداعمة للحرية السياسية تكمُن بالتحديد في الفُرصة التي تُهيِّئها للمواطنين للمناقشة والحوار. وللمشاركة في انتخاب القيم عند اختيار الأولويات (وهو ما سوف نناقشه في الفصول من ٦-٧).

إن الحرية الفردية في جوهرها مُنتَج اجتماعي. وثمة علاقة ذات اتجاهين بين: (١) التنظيمات الاجتماعية لتوسيع نطاق الحريات الفردية، و(٢) استخدام الحريات الفردية ولكن ليس فقط من أجل تحسين حياة كل فرد، بل وأيضًا من أجل النهوض بالتنظيمات الاجتماعية لتكون أكثر ملاءمة وكفاءة. علاوة على هذا، فإن المفاهيم الفردية عن العدالة والآداب الاجتماعية — التي تؤثر في الاستخدامات المحددة للحرية من جانب الأفراد — رَهن ارتباطات اجتماعية؛ إذ تَعتمد بوَجْه خاص على التكوين التفاعلي للتصورات العامة وعلى الفهم الجمعي التعاوني للمشكلات وعلاجها؛ لذلك يتعين أن يكون تحليل وتقييم السياسات العامة حساسًا في إدراك وتناول هذه الروابط المتنوعة.

التراث والثقافة والديمقراطية

تُعْتَبر مسألة المشارَكة مسألة محورية أيضًا بالنِّسبة إلى بعض القضايا التي دَهمَت نظرية التطوير والتنمية، ونالت من قُوَّتها ومداها. مثال ذلك هناك مَن يُؤكِّد أن التنمية الاقتصادية كما نعرفها يمكن عمليًّا أن تَضرَّ الأمة ما دامت تؤدي إلى إلغاء تقاليدها وطمس تراثها الثقافي.٢٩ ولكن سرعان ما نسقط مثل هذه الاعتراضات بناء على أن من الأفضل للأمة أن تكون غَنِيَّة سعيدة عن أن تكون فقيرة ملتزمة بالتقاليد. ويمكن أن يبدو هذا شعارًا مقنعًا، ولكنه ليس إجابة ملائمة أو كافية على النَّقد موضوع المناقشة. هذا علاوة على أنه لا يَعكس اهتمامًا جادًّا بالقضية التقييمية النقدية التي أثارها الشكوكيون بشأن التنمية.

ولكن القضية الأهم والأخطر هي تلك التي تتعلق بمصدر السُّلطة والشرعية؛ إذ ثمة مشكلة تقييمية لا فكاك منها نجدها متضمنة عند تقرير ماذا نختار، إذًا ما، وعندما يتبين أن بعض عناصر التراث والتقليد يَتعذَّر الحفاظ عليها مع التغيرات الاقتصادية أو الاجتماعية المطلوبة لأسباب أخرى. وهذا خيار مطروح على الناس المَعنيين وعليهم المواجهة والتقدير. وجدير بالذِّكْر أن الخيار مفتوح وغير مغلق (كما قد يزعم بعض المدافعين عن التنمية) كما أنه ليس خيار الصفوة، «حراس» التقاليد، ومن ثَم هم أصحاب الحق في اتخاذ القرار والحسم (كما يفترض بعض الشكوكيين بشأن التنمية). إنه إذا كان لا بد من التضحية بأسلوب الحياة التقليدية للخلاص من فقر طاحِن أو من خطر يقصف العمر (كما حدث لكثير من المجتمعات التقليدية على مدى آلاف السنين) إذن فإن الناس المعنيين مباشرة بالوضع هم من يجب أن تُتاح لهم فرصة اتخاذ القرار وحسم الخيار. وإن النزاع الحقيقي الواقعي واقع بين الاثنين:

  • (١)

    القيمة الأساسية التي يتعين السماح للناس بأن يحسموها ويَتَّخِذوا قرارًا حرًّا بشأنها هي: ما التقاليد التي يريدون، ولا يريدون، الالتزام بها.

  • (٢)

    الإصرار على الالتزام بالتقاليد الراسخة (أيًّا كانت هي) أو في المُقابِل يجب على الناس طاعة قرارات السلطات الدينية أو العلمانية المنوط بها فرض تنفيذ التقاليد، حقيقية أو مُتخيَّلة.

    تَكمُن قوة القاعدة الأخلاقية السابقة في الأهمية الأساسية للحرية الإنسانية. ونحن ما إن نقرها ونقبلها حتى تظهر دلالات قوية بشأن ما يمكن وما لا يمكن أن نفعله باسم التقاليد. ويؤكد هذه القاعدة الأخلاقية نهج «التنمية حرية».

والحقيقة أن المنظور والتَّوجُّه إلى الحرية يقضيان بأن حرية الجميع — في المشاركة في اتخاذ القرار بشأن أي التقاليد نحافظ عليها ونلتزم بها — هي شأن لا يمكن أن يلغيه السدنة القوميون أو المحليون (سدنة السلطات الدينية أو غيرهم)، ولا أن يلغيها حُكَّام سياسيون، «أو ديكتاتوريون حاكمون»، ولا «خبراء» ثقافيون (محليون أو أجانب)، وإن الإشارة إلى أي نزاع حقيقي بين الحفاظ على التقليد ومزايا الحداثة يستلزم قرارًا قائمًا على المشارَكة، وليس رفضًا من طرف واحد للحداثة دفاعًا عن التقليد؛ سواء صدر هذا الرفض من حكام سياسيين أو سلطات دينية أو هواة أنثروبولوجيون مُعجَبون بتراث الماضي، والمسألة هنا ليست فقط غير مُغْلَقة، بل إنها مفتوحة على مصراعيها للناس جميعًا في المجتمع. لكي يُدْلوا بِدَلْوهم في المعالَجة، ولكي يشاركوا معًا في اتخاذ القرار. ولا ريب في أن أي محاوَلة لتعطيل حق حرية المشاركة تأسيسًا على قيم تقليدية (مثل الأصولية الدينية أو العُرف السياسي أو ما يُسمَّى القيم الآسيوية) إنما هو ببساطة إغفال لقضية الشرعية ولحاجة الناس أصحاب المصلحة في المشاركة من أجل اتخاذ قرار بماذا يريدون وماذا يَقبَلون مدعومًا بالأسباب العقلانية.

وطبيعي أن هذا الاعتراف الأساسي له مَرمًى واضح ومُهِم ودلالات قوية التأثير. إن الإشارة إلى التقليد لا تُشكِّل في ذاتها أساسًا لأي عمليات قَمْع عامٍّ لوسائط الحرية، أو لحقوق الاتصال بين مُواطن وآخَر. وأكثر من هذا، إنه حتى النظرية الغريبة الشائهة عن الكيفية التي كان عليها حقيقة كونفوشيوس المُستبِدِّ المتسلط، وكيف أنها مقبولة بحجة أنها صحيحة تاريخيًّا (وسوف ننتقد هذا التأويل في الفصل العاشر)، إنما هي نظرة لا تُشكِّل أساسًا أو مبررًا ملائمًا لكي يُمارِس أي شخص أسلوبًا تسلطيًّا سواء عن طريق الرقابة أو فرض قيود سياسية؛ ذلك لأن شرعية الالتزام اليوم بمناصرة آراء جرى التعبير عنها في القرن السادس قبل الميلاد إنما يجب أن يقررها ويحسمها من يحيون الآن.

كذلك حيث إن المشارَكة تستلزم تَوافُر المعرفة وقدرًا من المهارات التعليمية، فإن حرمان جماعة ما (إناث الأطفال مثلًا) من فرصة التعليم إنما يعتبر على النقيض مباشرة للشروط الأساسية لحرية المُشارَكة، والمُلاحَظ أن هذه الحقوق كثيرًا ما صادفَت هجومًا (وإن أكثر الهجمات ضراوة جاءت أخيرًا على أيدي زعماء طالبان في أفغانستان) إلا أن هذا الشرط الأَوَّلِي لا يمكن التَّخلِّي عنه أو إغفاله في المنظور ذي التَّوجُّه نحو الحرية. إن نهج التنمية حرية له دلالات بعيدة المدى ليس فقط بالنسبة للأهداف الأخيرة للتنمية، بل وأيضًا بالنسبة للعمليات والإجراءات التي يَتعيَّن احترامها.

ملاحظات ختامية

أن نرى التنمية والتطوير في ضوء الحريات الموضوعة للناس أَمرٌ له دلالاته وتأثيراته بعيدة المدى على فَهْمنا لعملية التنمية وسُبل ووسائل النهوض بها أيضًا. ويَتضمَّن هذا على الجانب التقييمي، الحاجة إلى تقدير وتقييم مُستلزَمات التنمية والتطوير في ضوء إزالة عوائق وقيود الحريات التي يُعاني منها أبناء المجتمع. وحسب هذه الرؤية فإن عملية التنمية والتطوير لا تختلف جوهريًّا عن تاريخ التَّغلُّب على عوائق وقيود الحرية المشار إليها. وإذا كان هذا التاريخ غير مقطوع الصلة على الإطلاق بعملية النمو الاقتصادي وتَراكُم رأس المال المادي والبشري، فإن مَرماه ونِطاقه يَتجاوز كثيرًا هذه المُتغيِّرات.

ونحن إذ نركز على الحريات عند تقييمنا للتنمية، فليس معنى هذا أن ثمة «معيارًا» فريدًا ومحدَّدًا للتنمية والتطوير والذي على أساسه نُقارِن ونُحدِّد مرتبة الخبرات التنموية والتطويرية الأخرى. وإذا سَلَّمنا بعدم تجانس المكونات المتمايزة للحرية، وكذا الحاجة إلى إدراك تبايُن الحريات بتبايُن الأشخاص، فإننا غالبًا ما سوف نُواجِه حججًا تمضي في اتجاهات متناقضة. وحَرِي أن يكون واضحًا أن الحافز الذي يُشكِّل أساسًا لنهج «التنمية حرية» ليس هدفه ترتيب جميع الدول — جميع السيناريوهات البديلة — في «تنظيم مُتدرِّج كامل». وإنما الهدف لَفْتُ الانتباه إلى جوانب مهمة لعملية التنمية، وبيان أن كُلًّا من هذه الجوانب قَمِين وحده بالاهتمام. ومع هذا، وبَعْد أن نُولِي هذه الجوانب جميعها ما تستحقه من اهتمام. سوف تظل هناك بعض الاختلافات من حيث التصنيف الشامل المحتمل. بَيْدَ أنَّ وجود هذه الاختلافات لا يعقد الهدف المنشود الآن.

إن ما من شأنه أن يكون ذا أثر مُدمِّر — الذي غالبًا ما نلمسه في أدبيات التنمية — هو إغفال اهتمامات محورية وثيقة الصلة بسبب قصور الاهتمام بحريات الناس المعنيين؛ لهذا نلتمس نظرة رحبة وعامة بما فيه الكفاية عن التنمية بحيث نركز جهود الفحص التقييمي على أمور مهمة حقيقة، لكي نتجنب خصوصًا إسقاط موضوعات لها أهمية محورية. وإذا كان جميلًا أن نرى أن وضع المتغيرات وثيقة الصلة موضع الاعتبار من شأنه تلقائيًّا أن يسلم الناس على اختلاف مشاربهم إلى النتائج نفسها بالدقة، والتحديد، المتعلقين بكيفية تصنيف السيناريوهات البديلة، إلا أن النهج المستخدم هنا لا يلتزم مثل هذا الإجماع كشرط ضروري. والحقيقة أن الحوارات الدائرة بشأن هذه الأمور والتي يمكن أن تفضي إلى دراسات سياسية مهمة يمكن أن تكون جزءًا من عملية المشاركة الديمقراطية المميزة للتنمية. وسوف تُهيأ لنا مناسبة — فيما بعد — ضمن هذا الكتاب لدراسة وفحص قضية المشاركة ذات الطابع الجوهري باعتبارها جزءًا من عملية التنمية والتطوير.

١  أوبانيشاد ٢–٤، ٢-٣.
٢  أرسطو: الأخلاق النيقوماخية، ترجمة دي روس، (أوكسفورد)، ك١، فصل ٥، ص٧.
٣  ناقشتُ في منشورات سابقة الجوانب المختلفة للنظرة المتمركزة على الحرية للتقييم الاجتماعي. انظر في هذا الشأن من دراساتي:
(1) Equality of What? In Tauner Lectures on Human Values, vol. 1, 1985.
(2) Choice, Welfare and Measurement, Oxford: Blackwell, 1982.
٤  في دراستي بعنوان «محاضرات كينيث أرو» ضِمْن كتاب الحرية والعقلانية والاختيار الاجتماعي: محاضرات أرو وآخرين، ويتضمن التحليل أيضًا عددًا من القضايا التقنية في تقييم وتقدير الحرية.
٥  تم عرض كامل ووافٍ لاستكشاف الأسباب القيمية والإجرائية في دراستي Rights and Agency، في مجلة الفلسفة والشئون العامة، ١١، (١٩٨٢م).
٦  المُكوِّنَات تتطابق على الترتيب مع: (١) جانب العملية، و(٢) جانب الفرصة للحرية، وقد تناولتُهما بالتحليل في دراستي «محاضرات كينيث أرو».
٧  حاولت مناقشة مسألة «الاستهداف» في «الاقتصاد السياسي للاستهداف»، الكلمة الرئيسية أمام المؤتمر السنوي للبنك الدولي ١٩٩٢م عن اقتصادات التنمية، كذلك مسألة الحرية السياسية كجزء من التنمية تناولتها في دراستي «الحريات والحاجات» في مجلة نيو ريبابليك، ١٠ يناير (كانون الثاني) ١٩٩٤م.
٨  ناقشتُ هذه المسألة في دراستي «الفاقد النسائي»، مجلة بريتيش ميديكال جورنال، (٣٠٤، ١٩٩٢م).
٩  هذه المقارنة وغيرها عرضتُها في دراستي «اقتصاد الحياة والموت»، في مجلة Scientific American، ع٢٦٦، أبريل (نيسان) ١٩٩٢م.
١٠  انظر في هذا الشأن دراستي «اقتصاد الحياة والموت»؛ والدراسة الطبية الوارد ذِكْرُها هنا.
١١  يمكن استخراج هذا من البيانات الأساسية المستخدَمة لعمل حسابات بشأن مُتوسِّط العمر المُتوقَّع (لعام ١٩٩٠م) كما هي معروضة في: US Patterns of Mortality, by County and Race (1965-1994), Cambridge, 1998.
١٢  انظر: McCord, Excess Mortality in Harlem, New England Journal of Medicine، يناير (كانون ثاني)، ١٩٩٠م.
١٣  انظر: Nussbaum, The Quality of Life, 1993.
١٤  انظر: Martha Nussbaum, Nature, Function and Capability, Oxford Studies, 1988.
١٥  انظر: Adam Smith, Wealth of Nations, 1776.
١٦  هذه القضايا ناقشتُها في دراستي «محاضرات تانر» في كامبريدج، ١٩٨٥م.
١٧  هكذا عرَض لاجرانج في أواخر القرن الثامن عشر ما يمكن اعتباره أول تحليل لما عُرِف في عصرنا ﺑ «النظرة الجديدة إلى الاستهلاك».
Kevin J. Lancaster, A New Approach to Consumer Theory, Journal of Political Economy, 74, (1996).
١٨  يعتبر روبرت فوزيك استثناءً متميزًا: Anarchy, State And Utopia, New York: Basic Books, 1974.
١٩  ورد هذا ضمن سياق مساندة آدم سميث التَّشريع ضد «الرِّبا» والحاجة إلى التَّحكُّم في الفوضى التي أعقَبَت الانغماس الشديد في الاستثمار القائم على المُضارَبة من جانب مَن سمَّاهم آدم سميث «المُسْرِفون والخياليون»، انظر: سميث، ثروة الأمم.
٢٠  ناقشت أهمية التمييز بين «النتائج الشاملة» و«نتائج الذروة» في السياقات المختلفة، وذلك في دراستي: Maximization and the Act of Choice، في مجلة Econometrica، يوليو (تموز) ١٩٩٧م.
٢١  J. R. Hicks, Wealth and Welfare, Oxford: Blackwell 1981.
٢٢  Robert W. Fogel and Stanley L. Engerman, Time on the Cross: The Economics of American Negro Slavery (Boston: Little, Brown, 1974), pp. 125-6.
٢٣  المرجع نفسه.
٢٤  جوانب مختلفة لهذه المسألة المهمة درسها فيرناندو هنريك كاردوسو؛ وأيضًا: Robin Black-burn, The Overthrow of Colonial Slavery, 1776–1848.
٢٥  كارل ماركس، رأس المال، ج١.
٢٦  V. K. Ramachandran, Wage Labour and Unfreedom in Agriculture: An Indian Case Study (Oxford: Clarendon Press, 1990), pp. 1-1.
٢٧  دراسة تجريبية مهمة عن هذا الجانب من السُّخرة والحرمان من الحرية في دراسة Sudipto Mundle عن التَّخلُّف والسُّخرة.
٢٨  انظر في هذا الشأن: Decent Work: The Report of the Director-General of the ILO، جنيف، ١٩٩٩م.
٢٩  هذه النقطة طورها كثيرًا ستيفن إم مارجلين، في كتاب Dominating Knowledge (Oxford: Clarendon Press, 1993).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤