الفصل الثاني

التنمية: الوسائل والغايات

ليسمح لي القارئ بأن أبدأ بالتمييز بين مَوقفَين عامَّيْن من عملية التنمية، قد نَجدُهما في كل من التحليل الاقتصادي المهني وفي المناقَشات والحوارات العامة. يرى أحد المَوقِفَين التنمية باعتبارها عملية «خيارية» مصبوغة بقدر كبير من «الدَّم والعَرَق والدُّموع». عالَم تقتضي فيه الحكمة التزامًا بالواقعية القاسية. إنها تستلزم بوجه خاصٍّ إغفالًا محسوبًا لاهتمامات مُتبايِنة تبدو في نظر البعض «خرقاء». واعتمادًا على نوع الخطر القاتل الذي يُفضِّله المؤلف، فإن الغوايات التي يتعين مقاومتها يمكن أن تتضمن توافُر شبكات ضمان اجتماعي لحماية أشد الناس فقرًا، وتهيئة الخدمات الاجتماعية لأوسع قدر من السكان، والتَّخلِّي عن المبادئ التوجيهية المؤسَّسية الصارمة استجابة لمشاق وصعوبات محدَّدة، وإيثار — في وقت مبكر جدًّا — الحقوق السياسية والمدنية و«ترف» الديمقراطية. ويؤكد أصحاب هذا النَّهج المَوقِفي الصارم أن هذه الأمور يمكن دعمها في فترة تالية بعد أن تكون عملية التنمية قد حقَّقَت ثمارًا كافية؛ إن ما هو مطلوب هنا والآن «واقعية قاسية ونظم». وجدير بالملاحَظة أن النظريات المختلفة التي تتقاسم هذه النظرة العامة تتباين الواحدة منها عن الأخرى من حيث الإشارة إلى مجالات الحُمق المتمايزة التي يَتعيَّن تحاشيها والتي تتراوح من حُمق مالي إلى استرخاء سياسي، ومن نفَقات مالية اجتماعية وفيرة إلى إعانة فقر متواضعة.

إن هذا الموقف القائم على الضربات العنيفة يَتباين مع نظرة بديلة ترى التنمية في جوهرها عملية «ودية». واعتمادًا على الصيغة المُحدَّدة لهذا الموقف يتجلَّى لنا تجانُس العملية على النحو الذي جسدته أمور مثل التحويلات ذات النفع المتبادَل (الذي حدثنا عنه آدم سميث باستفاضة)، أو تنشيط شبكات الضمان الاجتماعي، أو الحريات السياسية، أو التنمية الاجتماعية. أو توليفات على هذا النحو أو ذاك من هذه الأنشطة الداعمة.

الدور التأسيسي والدور الأداتي للحرية

النهج الذي يَستنُّه هذا الكتاب أقرب اتساقًا من النهج الثاني عنه من النهج الأول. إنه في الأساس مُحاوَلة للنظر إلى التنمية كعملية توسيع للحريات الحقيقية التي يتمتع بها الناس. ويَنظر هذا النهج إلى مسألة توسيع نطاق الحرية باعتباره كلًّا من:١ الغاية الأولية،٢ والوسيلة الأساسية للتنمية. ولنا أن نسميهما على التوالي «الدور التأسيسي»، و«الدور الأداتي» للحرية في التنمية. ويتعلق الدور التأسيسي للحرية بأهمية الحرية الموضوعية في إثراء الحياة البشرية. وتشتمل الحريات الموضوعية على القدرات الأولية من مثل القدرة على تَجنُّب مظاهر حرمان، كالمجاعات ونقص التغذية والأمراض القابلة للعلاج والوفاة المبكرة، وأيضًا الحريات المقترنة يكون المرء عارفًا بالقراءة وبالحساب، ويتمتع بحق المشاركة السياسية والتعبير عن الرأي دون رقيب … إلخ. وحسب هذا المنظور التأسيسي تشتمل التنمية على توسيع نطاق هذه الحريات الأساسية وغيرها. وتعتبر التنمية من وجهة النظر هذه عملية توسيع نطاق الحريات الإنسانية، ومن ثم يكون تقييم التنمية مبنيًّا على هذا الاعتبار.

وليسمح لي القارئ بأن أشير هنا إلى مثال ناقشته بإيجاز في المقدمة (والذي يتضمن مسألة غالبًا ما تثيرها الأدبيات عن التنمية)، ويتعلق بتوضيح كيف أن الإقرار بالدور «التأسيسي» للحرية يمكن أن يغير التحليل التنموي. والمُلاحَظ في إطار الآراء ضيقة الأفق عن التنمية (في ضوء نمو إجمالي الناتج القومي مثلًا أو التصنيع) غالبًا ما يثار سؤال عَمَّا إذا كانت حرية المشاركة السياسية والمُعارَضة «تفضي أو لا تفضي إلى التنمية». ولكن هذا السؤال في ضوء النظرة الأساسية عن التنمية كحرية سوف يبدو صياغة قاصرة؛ إذ يعيبه غياب الفهم الحاسم بأن المشارَكة السياسية والمعارَضة جزءان تأسيسيان من عملية التنمية ذاتها. إن المرءَ، حتى لو كان من أكثر الناس ثراء، إذا ما حيل بينه وبين التعبير بحرية عن رأيه أو إذا حظرت عليه المشاركة في الحوارات العامة أو في اتخاذ القرارات العامة؛ فإنه يصبح بذلك محرومًا من شيء يراه عن حق شيئًا قيمًا. وإن عملية التنمية إذا ما حكمنا عليها على أساس تعزيز الحرية البشرية فلا بد أن تتضمن إزاحة هذا الحرمان الذي يعانيه المرء. إننا حتى لو افترضنا أنه ليست لديه مصلحة مباشرة في ممارسة حقه في حرية التعبير أو في حرية المشاركة، فإن هذا الوضع — على الرغم من هذا — سيظل يمثل حرمانًا من حريات المرء؛ لأنه بلا خيار إزاء هذه الأمور. لذلك لا يسع التنمية، التي هي تعزيز للحرية، إلا أن تعالج مثل هذا الحرمان. وجدير بالذِّكْر أن الصلة الوثيقة التي تربط الحرمان من الحريات السياسية الأساسية أو الحقوق المدنية، بالفهم الملائم للتنمية، يجب ألا تحددها من خلال المساهمة غير المباشرة للقسمات الأخرى للتنمية (من مثل زيادة إجمالي الناتج القومي أو دعم التصنيع)؛ ذلك أن هذه الحريات جزء من لحمة وسدى إثراء عملية التنمية.

وتتمايز هذه الفكرة الأساسية عن الحجة «الأداتية» من حيث إن هذه الحريات والحقوق يمكن أيضًا أن تكون أداة شديدة الفعالية والكفاءة للإسهام في التَّقدُّم الاقتصادي. ولا ريب في أن الرابطة الأداتية مهمة بالمثل (وهو ما سنناقشه تحديدًا في الفصلين الخامس والسادس) ولكن أهمية ودلالة الدور الأداتي للحرية السياسية كوسيلة للتنمية لا تقلل أبدًا من الأهمية القيمية للحرية كغاية للتنمية.

وحري أن ندرك أن الأهمية الجوهرية والأصيلة للحرية البشرية باعتبارها الهدف الأسمى للتنمية لا بد من تمييزها عن الفعالية الأداتية للحرية بأنواعها المختلفة التي تعمل على النهوض بالحرية البشرية وتعزيزها. وحيث إن اهتمامي في الفصل الأخير ينصبُّ أساسًا على الأهمية الجوهرية للحرية، فإنني سوف أركز الآن أكثر على فعالية الحرية كوسيلة، وليس كغاية فحسب. ويُعنى الدور الأداتي للحرية بالطريقة التي تسهم بها الأنواع المختلفة من الحقوق والفرص والصلاحيات لتوسيع نطاق الحرية الإنسانية بعامة، ومن ثم دعم وتعزيز التنمية. وهذا لا يتعلق فقط بالرابطة الواضحة والمتمثلة في أن توسيع نطاق الحرية بأنواعها المختلفة سوف يسهم بالضرورة في التنمية، ما دامت التنمية ذاتها يمكن النظر إليها باعتبارها توسيعًا للحرية الإنسانية بعامة. ذلك أن الرابطة الأداتية تنطوي على ما هو أكثر كثيرًا من هذه الرابطة التأسيسية؛ إذ تكمن فعالية الحرية — كأداة — في حقيقة أن الأنواع المختلفة من الحريات ترتبط بعلاقات متداخلة فيما بين الواحدة والأخرى، ثم إن نمطًا بذاته من الحرية يمكن أن يُسهم مساهمة بالغة في تقدم الأنماط الأخرى للحرية. وهكذا توجد روابط تجريبية تجمع بين الدورين وتربط نوعين من الحرية بالأنواع الأخرى.

الحريات الأداتية

إنني إذ أعرض في هذا الكتاب عددًا من الدراسات التجريبية، سوف تتهيأ لي فرصة مناقَشة عدد من الحريات الأداتية التي تسهم، على نحو مباشر أو غير مباشر، في مجمل الحرية التي يتمتع بها الناس ليحيوا بالطريقة التي يودون أن يعيشوا بها. وتتضمن المناقشة متنوعات عديدة ومتباينة من الأدوات. ولكن قد يكون ملائمًا أن نحدد خمسة أنماط متمايزة للحرية التي يمكن أن نراها جديرة حقًّا بأن نؤكد عليها في هذا المنظور الأداتي. وهذه ليست على الإطلاق قائمة جامعة مانعة؛ بيد أنها يمكن أن تساعدنا على التركيز على بعض قضايا مُحدَّدة للسياسة، التي تستأهل اهتمامًا خاصًّا في هذه الأيام.

وسوف أبحث تحديدًا الأنماط التالية من الحريات الأداتية: (١) الحريات السياسية، (٢) التسهيلات الاقتصادية، (٣) الفرص الاجتماعية، (٤) ضمانات الشفافية، (٥) الأمن الوقائي. وتميل هذه الحريات الأداتية إلى المساهَمة في القدرة العامة للشخص على الحياة بحرية أكثر، ولكنها تفيد كذلك من حيث إنها يكمل بعضها بعضًا. وإذا كان يَتعيَّن من ناحية أن يُعنَى تحليل التنمية بالموضوعات والأهداف التي تجعل هذه الحريات، تأسيسًا على نتائجها، أمرًا مهمًّا، إلا أنه يتعين كذلك الوعي بالروابط التجريبية التي توثِّق الرابطة بين الأنماط المتمايزة للحرية وتجمعها معًا على نحو يدعم أهميتها المشتركة. إن هذه الروابط في حقيقتها روابط محورية من أجل الوصول إلى فهم أكثر اكتمالًا للدور الأداتي للحرية. وغنيٌّ عن البيان أن الزعم بأن الحرية ليست فقط مُجرَّد هدف أَوَّلي للتنمية، وإنما أيضًا هي الوسيلة الأساسية للتنمية، زَعْمٌ قائم على هذه الروابط المشتركة.

وليسمح لي القارئ بتعليق صغير على كل من هذه الحريات الأداتية: أولًا: الحرية السياسية حسب المنهج العام لها (شاملة ما يُسمَّى الحقوق المدنية) تشير إلى الفُرص المتاحة للناس لكي يُحدِّدوا مَن له الحكم، وعلى أي المبادئ يحكم، كما تَتضمَّن أيضًا إمكان النظر نظرة فاحصة للسُّلطات وانتقادها، وأن يتمتعوا بحرية التعبير السياسي وإصدار صُحف دون رقابة، وحرية الاختيار بين أحزاب سياسية مختلفة، وهكذا … إلخ. وتشتمل كذلك على الاستحقاقات السياسية المقترنة بنظم الحكم الديمقراطية بأوسع معانيها (من مثل الفرص للحوار والاختلاف والنقد السياسي وكذا حق الاقتراع وحق المشاركة في انتخاب أعضاء السلطتين التشريعية والتنفيذية).

وتشير التسهيلات الاقتصادية إلى الفرص التي يتمتع بها كل طرف لاستخدام موارده الاقتصادية والانتفاع بها لفرض الاستهلاك أو الإنتاج أو التبادل التجاري. وتعتمد الاستحقاقات الاقتصادية للمرء على الموارد المملوكة أو المتاحة له لاستخدامها وفق شروط التبادل التجاري؛ مثل: الأسعار المناسبة، ونُظُم تشغيل وإدارة الأسواق. وما دامت عملية التنمية الاقتصادية تُفضِي إلى زيادة دخل البلاد وثروتها. فسوف ينعكس هذا كله فيما يقابله من دعم وتعزيز للاستحقاقات الاقتصادية للسكان. وحَرِيٌّ بأن يكون واضحًا أنه من حيث العلاقة بين الدَّخْل القومي والثروة القومية من ناحية، والاستحقاقات الاقتصادية للأفراد (أو العائلات) من ناحية أخرى، فإن اعتبارات التوزيع تكون مُهِمَّة علاوة على اعتبارات التجميع؛ ذلك أن كيفية توزيع الدخول الإضافية المنتجة من شأنها أن تكشف عن فارق واضح.

إن تَوافُر التمويل وسبل الوصول إليه يمكن أن يكون له أثر حاسم في الاستحقاقات الاقتصادية التي تستطيع أن تؤمنها عمليًّا العناصر الاقتصادية الفاعلة. ويصدق هذا، سواء بالنسبة إلى المشروعات الكبرى (حيث يعمل مئات الآلاف) أو بالنِّسبة إلى المؤسَّسات الصغرى التي تعمل اعتمادًا على قروض ائتمانية صغيرة. ولا ريب في أن أي عجز ائتماني يمكن أن يُؤثِّر تأثيرًا كبيرًا في الاستحقاقات الاقتصادية المُعتمَدة على مثل هذا القرض الائتماني.

وتُشير الفرص الاجتماعية إلى الترتيبات التي يتخذها المجتمع بالنسبة إلى موضوعات التعليم والرعاية الصحية وغيرها، والتي تُؤثِّر في الحرية الموضوعية للفرد من أجل حياة أفضل. وهذه التسهيلات ليست مُهمَّة فقط من أجل صياغة حياة خاصة (كأن ينعم المرء بحياة صحية ويتجنب الأمراض التي يمكن تَوقِّيها كما يَتجنَّب الموت المُبكِّر)، بل مهمة أيضًا لتحقيق مُشارَكة أكثر فعالية وكفاءة في الأنشطة الاقتصادية والسياسية. مثال ذلك، الأمية التي يمكن أن تكون عائقًا كبيرًا يَحُول دون المشاركة في الأنشطة الاقتصادية التي تستلزم إنتاجًا وفق مواصفات مُحدَّدة، أو تتطلب إدارة من نوعية صارمة (وهو ما نراه يتزايد باطراد في التجارة المُعَولَمة). كذلك بالمثل يمكن إعاقة المُشارَكة السياسية بسبب العجز عن قِراءة الصُّحف أو عن الاتصال كتابة بالآخَرين المُشاركِين في الأنشطة السياسية.

وأنتقل الآن إلى الفئة الرابعة، يتعامل الأفراد بعضهم مع بعض من خلال التفاعل الاجتماعي على أساس من الافتراض المسبق تقديريًّا بشأن ما هو مطروح عليهم وما يستطيعون تَوقُّعه. وحسب هذا المعنى يعمل المجتمع على أساس من الثقة المُفتَرضة مسبقًا. وتتعلق ضمانات الشفافية بالحاجة إلى الصراحة التي يَتوقَّعها الناس: حرية التعامل المشترك وفق ضمانات تَكفُل الاطلاع والوضوح. وإذا حدَث أن انتُهِكَت هذه الثقة على نحو خَطَر فإن نقص الصراحة يمكن أن يُؤدِّي إلى الإضرار بحياة كثيرين، سواء من الأطراف المباشرين أو أطراف وسيطة. وهكذا يمكن أن تمثل ضمانات الشفافية (بما في ذلك حق الاطلاع) فئة مهمة بين فئات الحرية الأداتية. وطبيعي أن لهذه الضمانات دورها الأداتي الواضح للحيلولة دون الفساد واللامسئولية المالية والتعاملات السرية.

أخيرًا، ليس المهم مدى الإجادة في تشغيل منظومة اقتصادية؛ ذلك أن بعض الناس يمكن أن يكونوا على شفا التعرض لخطر، وثمة إمكان فعلي للوقوع فريسة لحرمانٍ نتيجة حدوث تغيرات مادية تضر بحياتهم؛ لهذا يكون الأمن الوقائي لازمًا لتوفير شبكة ضمان اجتماعي للحيلولة دون وقوع مَن أصابهم ضَرَر فريسة لفقر مُدقِع، بل وفريسة لمجاعة أو للموت في بعض الحالات. ويتضمن مجال الأمن الوقائي توافر ترتيبات مؤسسية ثابتة من مثل إعانات البطالة وإضافات أو تكملات قانونية للدخول تضاف إلى دخول المُعْوزين. هذا علاوة على ترتيبات مُخصَّصة لأغراض مُحدَّدة مثل مساعدات الإغاثة في حالة المجاعات أو توفير عمالة عامة للطوارئ بهدف توليد دخل للمعدمين.

العلاقات المتداخلة والتكاملية

هذه الحريات الأداتية تعزز بشكل مباشر قدرات الناس، ولكنها أيضًا تكمل بعضها بعضًا، بل وتستطيع أكثر من هذا أن تقوي وترسخ بعضها بعضًا. ومن الأهمية بمكان أن تدرك هذه الروابط المتداخلة عند التفكير في سياسات التنمية والتطوير.

وثمة قبول على نطاق واسع لحقيقة مؤداها أن استحقاق عقد الصفقات الاقتصادية أميل إلى أن يكون بمنزلة قاطرة كبرى لدفع النمو الاقتصادي. ولكن لا تزال هناك روابط أخرى كثيرة غير معروفة أو مستكشفة جيدًا ويتعين الإلمام بها على نحو كامل في تحليل السياسة. إن النمو الاقتصادي قادر على المساعدة ليس فقط من أجل زيادة الدخول الخاصة، بل أيضًا من أجل أن يوفر للدولة إمكان تمويل التأمين الاجتماعي والتدخل النشط للمصلحة العامة. معنى هذا أنه يَتعيَّن الحكم على إسهامات النمو الاقتصادي، ليس فقط تأسيسًا على زيادة الدخول الخاصة، بل وأيضًا التوسع في الخدمات الاجتماعية (والتي تشتمل على أمور كثيرة من بينها شبكات الأمن الاجتماعي)، وهي نتائج يهيئها لنا النمو الاقتصادي.٣

كذلك بالمثل، فإن خلق الفرص الاجتماعية عن طريق توفير الخدمات؛ من مثل: التعليم، والرعاية الصحية، وتطوير صحافة حرة ونشطة وفعالة، يمكن أن يسهم في كل من التنمية الاقتصادية وخفض معدلات الوفيات بنسب كبيرة. ولا ريب في أن خفض مُعدَّلات الوفيات يمكن بدوره أن يساعد في خفض معدلات المواليد ويقوي من أثر التعليم الأساسي على السلوك المتعلق بالخصوبة، ويتجلَّى بخاصة عند تعليم الإناث القراءة والكتابة والتعليم المدرسي.

وتُعتبَر اليابان المثال الرائد لتعزيز النمو الاقتصادي من خلال الفرصة الاجتماعية، خاصة فرصة التعليم الأساسي. وكثيرًا ما يَنسى الناس أن نسبة المتعلمين في اليابان كانت أعلى منها في أوروبا حتى وقت إصلاح الميجي في منتصف القرن التاسع عشر، وقبل أن يبدأ التصنيع هناك، ولكن اليابان مع هذا سبقَت أوروبا بعقود طويلة. وواضح أن التنمية الاقتصادية في اليابان أفادت كثيرًا بتنمية المورد البشري المرتبط بالفُرص الاجتماعية التي تولَّدت آنذاك. وجدير بالذِّكْر أن ما يُسمَّى معجزة شرق آسيا، التي تتضمن بلدانًا أخرى في شرق آسيا، إنما ارتكزت إلى حد كبير على روابط سببية مماثلة.٤
والمُلاحَظ أن هذا النهج يَتعارض — بل ويقوِّض إلى حد كبير — الاعتقاد الذي هَيمَن على كثير من دوائر السياسة، والذي يقضي بأن «التنمية البشرية» (شأن عملية التوسع في التعليم والرعاية الصحية، وغير ذلك من شروط الحياة البشرية) هي في الحقيقة نوع من التَّرف الذي لا تستطيعه سوى البلدان الغنية. ولعل الأثر الأهم لنمط النجاح الذي حققته اقتصاديات شرق آسيا، ابتداءً باليابان، هو أنه قَوَّض تمامًا هذا الانحياز الضمني؛ إذ المعروف أن هذه الاقتصادات اتَّجهَت منذ وقت مبكر نسبيًّا إلى التَّوسُّع الكثيف في التعليم، ثم أتبعت ذلك بالرعاية الصحية. وحقَّقَت هذا كله، في حالات كثيرة، قبل أن يُحطِّموا قيود الفقر العام. وجَنَوا حصاد ما زَرعوا. والحقيقة كما عَبَّر عنها هيروميتسو إيشي أن إعطاء الأولوية لتطوير الموارد البشرية يصدق بخاصة على التاريخ الباكر للتنمية الاقتصادية اليابانية ابتداءً من عصر ميجي (١٨٦٨–١٩١١م). ولم يَزدَد هذا التركيز في الاهتمام قوة مع الوفرة الاقتصادية بعد أن أصبحت اليابان أكثر غنًى وأكثر ثروة وغزارة إنتاج.٥

الصين والهند ومَظاهر التباين المختلفة

الدَّور المحوري للحريات الفردية في عملية التنمية والتطوير يجعل من الأهمية بمكان أن تدرس محدداتها. ويتعين أن نُولِي اهتمامًا موضوعيًّا للمؤثرات الاجتماعية بما في ذلك أعمال الدولة التي تساعد على تحديد طبيعة ومدى الحريات الفردية. إن الترتيبات الاجتماعية يمكن أن تكون حاسمة من حيث أهميتها لضمان وتوسيع نطاق حرية الفرد. وتتأثر الحريات الفردية من ناحية بالضمانات الاجتماعية للحريات والتسامح وإمكان التبادل التجاري وعقد الصفقات. وتتأثر أيضًا، من ناحية أخرى، بالمُساندة العامَّة الموضوعية لتوفير هذه التسهيلات (مثل الرعاية الأساسية للصحة أو التعليم الأساسي) التي تُعتبَر تسهيلات حاسمة لتشكيل واستخدام القدرات البشرية. وثمة حاجة لأن نولي اهتمامًا لكل من نمطي المحددات للحريات الفردية.

إن المقابلة بين الهند والصين لها أهمية توضيحية في هذا السياق. المعروف أن حكومتي الصين والهند لهما جهودهما التي اضطلعتا بها منذ حينٍ (الصين منذ عام ١٩٧٩م، والهند منذ عام ١٩٩١م) بهدف التَّحرُّك في اتجاه اقتصاد أكثر انفتاحًا، ونَشِط دوليًّا، ومُوجَّهٍ نحو السوق. ولكن، بينما حقَّقت جهود الهند بعض النجاح، أخفقت في إنجاز النتائج الضخمة التي شَهدتْها الصين. ويتمثَّل أحد العوامل المهمة في هذه المُفارَقة في واقع أن الصين، من زاوية الاستعداد الاجتماعي، مُتقدِّمة كثيرًا عن الهند من حيث القدرة على استخدام اقتصاد السوق.٦ وبينما كانت الصين فيما قبل الإصلاح مُفرِطة في شكوكها إزاء الأسواق، إلا أنها لم تكن لِتَشكَّ في قيمة التعليم الأساسي والرعاية الصحية واسعة النطاق. لذلك عندما شَرعَت الصين في التَّحوُّل إلى اقتصاد السوق في عام ١٩٧٩م، كان لديها بالفعل شعب على مستوى عالٍ من التعليم، خاصة بين الشباب، ولديها منشآت مدرسية على نطاق البلاد جميعها. ولم تكن الصين بوضعها هذا بعيدة جدًّا عن الموقف التعليمي الأساسي في كوريا الجنوبية أو في تايوان؛ حيث كان لشعبيهما دور كبير في امتلاك الفرص الاقتصادية التي أتاحتها لهم منظومة سوق داعمة. هذا بينما كان نصف سكان الهند من البالغين أميين وقتما شَرعَت في التحول إلى اقتصاد السوق في عام ١٩٩١م، ولا يزال الموقف دون تَحسُّن كبير حتى الآن.

كذلك كانت الأوضاع الصحية في الصين أفضل كثيرًا منها في الهند، بسبب الالتزام الاجتماعي من قِبَل النظام الحاكم قبل الإصلاح إزاء الرعاية الصحية والتعليم على السواء. وكم هو غريب أن هذا الالتزام وإن بدا غير ذي علاقة على الإطلاق بدوره المساعد في تحقيق نمو اقتصادي مُوجِّه للسوق، إلا أنه خَلَق فرصًا اجتماعية كان من اليسير استخدامها كقوى دينامية مُهيَّأة للحركة بعد أن تَحوَّلَت البلاد إلى اقتصاد السوق. ولكن تَخلُّف الهند واقتران هذا التخلُّف بالتركيز النخبوي على التعليم العالي والإهمال واسع النطاق للتعليم المدرسي، علاوة على إهماله الموضوعي للرعاية الصحية الأساسية، كل هذا تَرَك البلاد في وضْع سيئ لا يهيئها للمشارَكة على نطاق كبير في التوسع الاقتصادي. وطبيعي أن المقارَنة بين الهند والصين لها أوجه أخرى كثيرة «من بينها اختلاف النظام السياسي في كل منها والتباين الشديد جدًّا داخل الهند للفرص الاجتماعية من مثل تعلم القراءة والكتابة والرعاية الصحية». وسوف نتناول هذه القضايا بالدراسة فيما بعد. ولكن لأن الاختلاف الجذري لمستويات الاستعداد الاجتماعي في الصين عن الهند كان وثيق الصلة بالتنمية واسعة النطاق الموجهة للسوق؛ لهذا كان قَمِينًا بأن نَذكُره حتى في المرحلة الأولى من التحليل.

ولكن يَتعيَّن أن نشير أيضًا إلى وجود مُعوِّقات حقيقية تعاني منها الصين عند مُقارنَتها بالهند؛ نظرًا لأنها تفتقر إلى الحريات الديمقراطية. ويتضح ذلك تحديدًا عندما تصل إلى مرونة السياسة الاقتصادية واستجابة العمل العام إزاء الأزمة الاجتماعية وكوارث غير متوقعة. وربما يتمثل أهم مظهر للمفارَقة في واقع أن الصين واجهت دائمًا ما يُعْتَبر يقينًا أضخم مجاعة سجلها التاريخ (حيث تُوفِّي قرابة ثلاثين مليون نسمة خلال المجاعة التي أعقبت فشل خطة «قفزة كبرى إلى الأمام» فيما بين عامي ١٩٥٨م–١٩٦١م)؛ هذا بينما لم تُواجِه الهند أي مجاعة منذ الاستقلال عام ١٩٤٧م. وطبيعي أنه حين تمضي الأمور برخاء، ربما يَقِلُّ الشعور بافتقاد القدرة الوقائية للديمقراطية، بينما يمكن أن تكون الأخطار مُترَبِّصة (على نحو ما كشفَتْ لنا الخبرات الأخيرة لبعض اقتصادات شرق وجنوب شرق آسيا). وهذه المسألة سوف نناقشها أيضًا بتفاصيل أكثر في هذا الكتاب.

وثمة روابط متداخلة ومختلفة كثيرة جدًّا تربط بين حريات أداتية متمايزة. وتُعْتَبر الأدوار الخاصة بكل منها وتأثيرها المُميز والمحدد بعضها على بعض من المظاهر المهمة لعملية التنمية والتطوير. وسوف تَتهيَّأ فرصة في الأبواب التالية من الكتاب لمناقشة عدد من هذه الروابط المتداخلة ومَرْماها بعيد المدى، بَيْدَ أنَّني رغبةً مني في توضيح كيف تُؤثِّر وتعمل هذه الروابط المتداخلة أرجو أن يسمح لي القارئ بأن أمضي شوطًا أطول قليلًا لبيان التأثيرات المتباينة في متوسط الأعمار وتوقُّعات الحياة منذ الميلاد، وهي قدرات يقيمها الناس جميعًا دون اختلاف تقريبًا في كل أرجاء الأرض.

الترتيبات الاجتماعية بوساطة النمو

إن أثر الترتيبات الاجتماعية في الحرية من أجل البقاء يمكن أن يكون قويًّا للغاية، ويمكن أن يتأثر بروابط أداتية شديدة الاختلاف. ويذهب البعض أحيانًا إلى أن هذا تفكير غير مُنفَصِل عن النمو الاقتصادي (في صورة زيادة مستوى دخل الفرد) ما دامت هناك علاقة وثيقة بين دخل الفرد وطول الحياة. وهناك مَن دَفَع، في حقيقة الأمر، بأننا نخطئ إذ نشعر بالقلق إزاء اختلاف إنجازات الدَّخل وفُرَص البقاء ما دمنا رأَيْنَا أن الرابطة الإحصائية بينهما رابطة وثيقة تمامًا. وهذا صحيح تمامًا إذا نَظَرْنا إلى الروابط الإحصائية بين البلدان في عُزْلة، ولكن هذه العلاقة الإحصائية بحاجة إلى مزيد من الفحص والدرس قبل اعتبارها أساسًا مقنعًا لرفض القول بأن الترتيبات الاجتماعية ذات علاقة وثيقة «تتجاوز الوفرة المرتكزة على الدخل».

ولعل من المهم في هذا السياق أن نشير إلى بعض التحليلات الإحصائية التي قدَّمها حديثًا جدًّا سودهير أناند، ومارتن را فاليون.٧ إذ تَبيَّن لهما، على أساس المقارَنات بين البلدان، أنَّ ثَمَّة مَعامل ارتباط إيجابيًّا مهمًّا بين العمر المتوقع للمرء ونصيب الفرد من إجمالي الناتج القومي. ولكن هذه العلاقة تتحقق أساسًا من خلال أثر إجمالي الناتج القومي في: (١) الدخول خاصة دخول الفقراء، (٢) الإنفاق العام وبخاصة في مجال الرعاية الصحية. والحقيقة أننا ما إن ندرج هذين المُتغَيِّرَين مُستقِلَّين في العملية الإحصائية، حتى يتبين لنا أن إدراج نصيب الفرد من إجمالي الناتج القومي كمُؤثِّر سببي إضافي لن يُقدِّم لنا سوى تفسير إضافي ضئيل. ولكن المُلاحَظ أيضًا أن الرابطة بين نصيب الفرد من إجمالي الناتج القومي ومتوسط العمر (في تحليل أناند-رافاليون) يكاد يختفي تمامًا عند اعتبار الفقر والإنفاق العام على الصحة متغيرين تفسيريين مستقلين بذاتهما.

ومن الأهمية بمكان أن نؤكد أن هذه النتيجة؛ إذ أثبتت صحتها دراسات تجريبية أخرى لن تُوضِّح أن متوسط العمر المُتوقَّع لا يعززه نصيب الفرد من إجمالي الناتج القومي، بل سوف تفيد أن الرابطة أَمْيل إلى التحقق عمليًّا من خلال الإنفاق العام على الرعاية الصحية، ومن خلال النجاح في القضاء على الفقر. وإن الفكرة الأساسية هنا هي أن أثر النمو الاقتصادي يتوقَّف إلى حد كبير على كيفية الإفادة بثمار النمو الاقتصادي. ويفيدنا هذا أيضًا لتفسير لماذا استطاعت بعض الاقتصادات، مثل اقتصاد كوريا الجنوبية وتايوان، أن تزيد متوسط العمر المتوقَّع بسرعة كبيرة بفضل النمو الاقتصادي.

لقد كانت إنجازات اقتصادات شرق آسيا موضوع دراسات نقدية فاحصة — وحملات انتقادية أيضًا — على مدى الأعوام القليلة الأخيرة. ويرجع هذا جزئيًّا إلى طبيعة وقسوة ما سُمِّي «الأزمة الاقتصادية الآسيوية». إنها أزمة خطيرة حقًّا وتكشف عن مَواطن فشل مُحدَّدة عانت منها هذه الاقتصادات التي اعتاد الناس النظر إليها سابقًا، عن خطأ، باعتبارها اقتصادات ناجحة بكل المقاييس. وسوف أنتهز الفرصة للتفكير في المشكلات الخاصة، ومَواطن الفشل المحدَّدة التي انطوت عليها الأزمة الاقتصادية الآسيوية (خاصة في الفصلين ٦، ٧). بيد أننا نُخطِئ إذا لم نرَ الإنجازات الضخمة التي حققتها اقتصادات شرق وجنوب شرق آسيا على مَدى العقود الطويلة، التي غَيَّرت جذريًّا حياة ومتوسِّط أعمار شعوبها. إن المشكلات التي تواجهها هذه البلدان الآن (ربما كانت كامنة خافية لزمن طويل) والتي تقتضي أن نوليها اهتمامنا (بما في ذلك الحاجة العامة إلى الحريات السياسية والمُشارَكة الصريحة الحرة علاوة على الأمن الوقائي). حَرِي بألا تحفزنا إلى إغفال إنجازات هذه البلدان في المجالات التي حققوا فيها أداء جيدًا ونجاحًا بارزًا.

لقد كان إنجاز المُشاركة الاقتصادية واسعة النطاق أمرًا يسيرًا في اقتصادات شرق وجنوب شرق آسيا، وذلك لأسباب تاريخية مُتنوِّعة، من بينها التركيز على التعليم الأساسي، والرعاية الصحية الأساسية، علاوة على استكمال عملية الإصلاح الزراعي على نحو فعَّال وفي وقت مُبكِّر، وكان هذا الإنجاز أيسر في هذه البلدان، ولهذه الأسباب، منها في بلدان أخرى؛ مثل البرازيل أو الهند أو باكستان؛ حيث كانت عملية خَلْق الفرص الاجتماعية أبطأ كثيرًا، وتحول هذا البطء إلى عائق حال دون التنمية الاقتصادية.٨ وأفاد التوسع في الفرص الاجتماعية في تيسير التطوير الاقتصادي القائم على العمالة الكثيفة، كما خلَق ظروفًا مواتية لخفض معدلات الوفيات، ومن ثم ارتفاع متوسط الأعمار. ونجد التباين واضحًا وحادًّا مع بلدان أخرى تَتمتَّع بمعدل نمو عالٍ؛ مثل البرازيل، والتي زاد فيها بدرجة مماثلة نصيب الفرد من إجمالي الناتج القومي، ولكن لها تاريخ مُمتَد من المَظالم الاجتماعية الحادَّة والبطالة وإهمال الرعاية الصحية العامة. والملاحَظ أن إنجازات هذه الاقتصادات ذات النمو العالي في مجال متوسط طول الأعمار كانت أبطأ كثيرًا في حركتها.

ونجد هنا مظهرين مهمين ومتداخلين للتباين:

  • (١)
    بالنسبة إلى اقتصادات النمو الاقتصادي المرتفع، يتمثل التباين في:
    • (أ)

      تلك التي حققت نجاحًا كبيرًا في زيادة طول ونوعية الحياة (مثل كوريا الجنوبية وتايوان) و…

    • (ب)

      تلك التي لم تُحقِّق نجاحًا مناسبًا في هذه المجالات الأخرى (مثل البرازيل).

  • (٢)
    بالنسبة إلى الاقتصادات التي حققت نجاحًا كبيرًا في زيادة طول ونوعية الحياة، يتمثل التباين في:
    • (أ)

      تلك التي حققت نجاحًا كبيرًا في مجال النمو الاقتصادي المرتفع (مثل كوريا الجنوبية وتايوان)، و…

    • (ب)

      تلك التي لم تحقق قدرًا كبيرًا من النجاح في مجال إنجاز نمو اقتصادي مرتفع (مثل سريلانكا والصين قبل الإصلاح وولاية كيرالا الهندية).

وسبق لي أن علَّقت على التباين الأول (أعني بين كوريا الجنوبية والبرازيل). ولكن التباين الثاني جدير بأن نولي اهتمامًا بالسياسة. وأذكر هنا أنني وجين دريز في كتابنا «الجوع والأداء العام» مَيَّزْنا بين نمطين من النجاح في مجال الخفض السريع لنسبة الوفيات، وسَمَّيْناهما على التوالي عملية «بواسطة النمو» وعملية «بواسطة الدعم».٩ وتتحقق العملية الأولى من خلال النمو الاقتصادي السريع، ويعتمد نجاحها على أن تكون عملية النمو واسعة النطاق وشاملة اقتصاديًّا «ومتجهة نحو عمالة مكثفة». وتعتمد كذلك على الاستفادة بالرخاء الاقتصادي المدعوم لتوسيع نطاق الخدمات الاجتماعية وثيقة الصلة بما في ذلك الرعاية الصحية، والتعليم، والضمان الاجتماعي. ولكن العملية «بواسطة الدعم» فإنها على عكس آلية العمل بواسطة النمو، لا تعمل من خلال النمو الاقتصادي السريع، وإنما تتحقق من خلال برنامج للدعم الاجتماعي الماهر للرعاية الصحية وللتعليم وغيرهما من الترتيبات الاجتماعية وثيقة الصلة. وتتجلى هذه العملية بوضوح في تجارب لاقتصادات مُعيَّنة؛ مثل: سريلانكا أو الصين قبل الإصلاح، أو كوستاريكا أو ولاية كيرالا الهندية، إذ حققت هذه البلدان خفضًا سريعًا جدًّا في معدلات الوفيات وفي دعم ظروف المعيشة ولكن من دون نمو اقتصادي كبير.

الخدمات العامة والدُّخول المنخفضة والتكاليف النِّسبية

fig3
شكل ٢-١: نصيب الفرد من إجمالي الناتج القومي (دولار أمريكي) ومتوسطات الأعمار المتوقعة مع الميلاد – ١٩٩٤م.

المصادر: بيانات قطرية، ١٩٩٤م؛ البنك الدولي، تقرير التنمية العالمي، ١٩٩٦م؛ بيانات كيرالا، متوسط العمر المتوقع (١٩٨٩–١٩٩٣م)؛ منظومة التسجيل حسب العينة، حكومة الهند، (١٩٩٧م). إدارة التعليم، المرأة في الهند: بيان إحصائي: نصيب الفرد من الإنتاج المحلي، ١٩٩٢-١٩٩٣م؛ حكومة الهند، (١٩٩٧م) وزارة المالية، مسح اقتصادي (١٩٩٦-١٩٩٧م).

العملية المُوجَّهة بالدعم لا تنتظر زيادات درامية في مستويات نصيب الفرد من الدخل الحقيقي، وتعمل تأسيسًا على ما ترى أن له الأولوية لتقديم الخدمات الاجتماعية (خاصة الرعاية الصحية والتعليم الأساسي)، بُغية خفض نسبة الوفيات وتعزيز نوعية الحياة. ويوضح الشكل ٢-١ أمثلة لهذه العلاقة: إذ يعرض نصيب الفرد من إجمالي الناتج القومي ومُتوسط العمر المتوقَّع عند الميلاد لِسِتِّ بلدان: «الصين، وسريلانكا، وناميبيا، والبرازيل، وجنوب أفريقيا، والجابون» علاوة على ولاية كيرالا الهندية.١٠ والملاحظ أنه على الرغم من المستويات شديدة الانخفاض لدخول شعب كيرالا أو الصين أو سريلانكا إلا أنهم يَحظَون بمستويات أعلى من حيث متوسط الأعمار المُتوقَّعة من شعوب أغنى كثيرًا في البرازيل، وجنوب أفريقيا، وناميبيا، ناهيك عن الجابون. وأكثر من هذا أن اتجاه مَظاهر عدم المساواة يشير إلى العكس عندما نقارن كيرالا والصين وسريلانكا من ناحية، بالبرازيل، وجنوب أفريقيا، وناميبيا، والجابون من ناحية أخرى. وحيث إن تباينات متوسط العمر المتوقَّع له علاقة بفرص اجتماعية متباينة والتي تعتبر محورية لمسألة التنمية (بما في ذلك السياسات الخاصة بمواجهة الأوبئة والرعاية الصحية والمرافق التعليمية … إلخ)؛ لذلك يكون ضروريًّا ضرورة مُلِحَّة استكمال ذلك بنظرية متمركزة على الدخل حتى يتسنَّى لنا فهم أكمل وأوضح لعملية التنمية.١١ وهذه التباينات وثيقة الصلة بالسياسة المطبقة وتكشف عن أهمية العملية الموجهة بواسطة الدعم.١٢
ويحق للمرء أن يُعْرِب عن دهشته بشأن إمكان تمويل العمليات المُوجَّهة بواسطة الدعم في البلدان الفقيرة؛ نظرًا لمسيس الحاجة إلى الموارد لتوسيع نطاق الخدمات العامة بما في ذلك الرعاية الصحية والتعليم. والحقيقة أن الافتقار إلى الموارد كثيرًا ما يَعْرِضه البعض كحجة من أجل إرجاء استثمارات مهمة اجتماعيًّا إلى حين أن يصبح البلد أكثر ثراء. والسؤال المشهور دائمًا من أين للبلدان الفقيرة أن تجد الوسائل لدعم هذه الخدمات؟ وهذا سؤال جيد حقيقة ولكن له إجابة جيدة أيضًا تَكمُن إلى حد بعيد في اقتصادات الكلفة النسبية. إن قابلية العملية الموجهة بالدعم للحياة والبقاء رهن واقع أن الخدمات الاجتماعية وثيقة الصلة (مثل الرعاية الصحية والتعليم) هي خدمات كثيفة العمالة جدًّا، ومن ثم فهي نسبيًّا غير مُكلِّفة في الاقتصادات الفقيرة والمُنخفِضة الأجور. إن الاقتصاد الفقير ربما يكون لديه مال أقل للإنفاق على الرعاية الصحية وعلى التعليم، ولكنه أيضًا بحاجة إلى مال أقل للإنفاق من أجل توفير هذه الخدمات ذاتها، والتي تُكلِّف كثيرًا في البلدان الغنية. وغني عن البيان أن الأسعار والتكاليف النسبية هي عوامل مُهِمَّة لتحديد المهام التي يمكن للبلد أن ينهض بها. إنه إذا ما توافَر الالتزام الاجتماعي الملائم فسوف يكون من الأهمية بمكان إدراك وفَهْم قابلية تبايُن الكُلفة النسبية للخدمات الاجتماعية في مجال الصحة والتعليم.١٣

ومن الواضح أن العملية بواسطة النمو تَحظَى بميزة على العملية البديلة المُوجَّهة بواسطة الدعم؛ ذلك أن بإمكانها في نهاية المطاف أن تُقدِّم حصادًا أوفر نظرًا لوجود مظاهر حرمان أكثر — غير الوفيات المُبكِّرة، أو الاحتمالات العالية للإصابة بالأمراض، أو الأمية — والتي ترتبط مباشرة بانخفاض الدخل (من مثل نقص الملبس والمأوى). وإنه لمن الأفضل، كما هو واضح، أن يحظى الناس بدخل عالٍ وعمر أطول (وغير ذلك من مؤشِّرات دالَّة على جودة الحياة) بدلًا من أن يقتصر الأمر على طول العمر فقط. وهذه نقطة جديرة بأن نؤكد عليها؛ نظرًا لخطر الاقتناع المُبالغ فيه بالإحصاءات عن متوسطات الأعمار المُتوقَّعة وغير ذلك من مؤشرات أساسية لنوعية الحياة.

مثال ذلك واقع ولاية كيرالا الهندية التي حققت ارتفاعًا مهمًّا في متوسط الأعمار المُتوقَّعة مع انخفاض الخصوبة وارتفاع نسبة التعليم وغير ذلك من إنجازات على الرغم من انخفاض مستوى نصيب الفرد من الدخل. ولا ريب في أن هذا إنجاز جدير بأن نحتفي به وأن نتعلم منه. ولكن يبقى سؤال، لماذا عجزت كيرالا عن أن تتخذ من نجاحاتها في التنمية البشرية أساسًا لزيادة مستويات الدَّخل فيها، وهو ما من شأنه أن يجعل نجاحها أكثر اكتمالًا. إنه لعسير أن يفيد واقعها ليجعل منها «نموذجًا» كما حاول أن يزعم البعض. ولكن يتطلب هذا من وجهة نظر السياسة، نظرة فاحصة نَقدِيَّة لسياسات كيرالا الاقتصادية المُتعلِّقة بالحوافز والاستثمارات (التسهيلات الاقتصادية بعامة)، على الرغم من نجاحِها غير العادي في رفع متوسط العمر المتوقَّع ورفع مستوى نوعية الحياة.١٤ وحسب هذا الفهم يظل نجاح العملية المُوجَّهة بالدعم مقصورًا، من حيث الإنجاز، إذا ما قيس بالنجاح المُتحقق بواسطة النمو؛ حيث تتوازى الزيادة في الوفرة الاقتصادية وتعزيز نوعية الحياة ويتحركان صعودًا معًا.
ونجد من ناحية أخرى نجاح العملية الموجهة بالدَّعم تشير، من حيث كونها مسارًا، إلى أن البلد، أي بلد، ليس بحاجة إلى الانتظار إلى حين يكون أكثر ثراءً (من خلال عملية نمو اقتصادي على مدى فترة قد تطول كثيرًا) ثم بَعدَها يشرع في التوسع بخطى سريعة في مجالات التعليم الأساسي والرعاية الصحية. إن نوعية الحياة يمكن الارتفاع بها كثيرًا على الرغم من انخفاض الدخول، وذلك من خلال برنامج ملائم للخدمات الاجتماعية. وثمة حقيقة واقعة وهي أن التعليم والرعاية الصحية عاملان منتجان في زيادة النمو الاقتصادي. وتمثل هذه الحقيقة إضافة تعزز الحجة الداعية إلى المزيد من التأكيد على هذه الترتيبات الاجتماعية في الاقتصادات الفقيرة دون حاجة إلى الانتظار إلى حين «الثراء» أولًا.١٥ وتعتبر العملية الموجهة بالدعم بمنزلة وصفة لتحقيق إنجاز سريع من أجل نوعية حياة أفضل، وهذه وصفة لها أهمية كبيرة من وجهة نظر السياسة. ولكن تبقى هناك مسألة مهمة بامتياز تتعلَّق بالتحرك من هذا الوضع إلى إنجازات أعم وأشمل تتضمن النمو الاقتصادي والارتفاع بالقسمات المعيارية لنوعية الحياة.

خفض نسبة الوفيات في بريطانيا القرن العشرين

من المفيد في هذا السياق أيضًا أن نعيد دراسة النمط الزمني لخفض نسبة الوفيات وزيادة مُتوسِّط العمر المتوقَّع في الاقتصادات الصناعية المتقدمة. وجدير بالذكر أن روبرت فوجيل وصمويل برستون وآخَرِين قَدَّموا دراسات تحليلية جيدة عن دور الخدمات العامة في مجال رعاية الصحة والتَّغذية ودور الترتيبات الاجتماعية العامة في خفض نسبة الوفيات في أوروبا والولايات المتحدة على مدى بضعة القرون الأخيرة.١٦ ويعتبر النمط الزمني لامتداد متوسط العمر المتوقَّع في القرن «العشرين» ذاته ذا أهمية خاصة إذا تَذكَّرنا أنه مع نهاية القرن التاسع عشر كان متوسط العمر المتوقَّع مع الميلاد في بريطانيا ذاتها، وقد كانت آنذاك قائدة اقتصاد السوق الرأسمالي، أقل من متوسط العمر المتوقَّع في البلدان منخفضة الدخل في أيامنا هذه. ولكن الأعمار طالت في بريطانيا سريعًا على مدى القرن العشرين مُتأثِّرة في هذا من ناحية باستراتيجيات البرامج الاجتماعية، ولا ريب أن النمط الزمني لهذه الزيادة أمر له أهمية.
ولم تكن عملية امتداد وتوسُّع برامج دعم الغذاء والرعاية الصحية وغيرها في بريطانيا لتمضي بسرعات مُتماثلة على مدى العقود. وإنما ثَمَّة فترتان تَميَّزَتا بالتوسُّع السريع الملحوظ للسياسات الموجَّهة نحو الدعم في هذا القرن، وهاتان الفترتان تقعان في أثناء الحربين العالميتين الأولى والثانية. ذلك أن الموقف في كل من الحربين أدَّى إلى قدر كبير من المُشارَكة واقتسام وسائل البقاء على قيد الحياة. بما في ذلك المُشارَكة في الرعاية الصحية والإمدادات المحدودة للغذاء «عن طريق نظام حصص التموين والإعانات المخصصة للغذاء». وشهدت فترة الحرب العالمية الأولى تطورات مهمة في المواقف الاجتماعية بشأن «المشارَكة» والسياسات العامة الهادفة إلى إنجاز هذه المشارَكة على نحو ما أوضح جاي ونتر في دراسة تحليلية متميزة.١٧ كذلك الحال في أثناء الحرب العالمية الثانية؛ إذ تم تطوير ترتيبات اجتماعية استثنائية للدعم والمشارَكة مرتبطة بسيكولوجيا الاقتسام والمشارَكة في بريطانيا المُحاصَرة، مما جعل هذه الترتيبات الجذرية العامة من أجل توزيع الطعام والرعاية الصحية مقبولة وفعالة.١٨ وأكثر من هذا أن مؤسَّسة الخدمات الصحية القومية كان ميلادها في أثناء سنوات الحرب.
ترى هل أحدثَت هذه السياسات فارقًا حقيقيًّا بالنسبة إلى الصحة والبقاء على قيد الحياة؟ هل اقترنت بما يقابلها في واقع الأمر بانخفاض سريع في الوفيات خلال هاتين الفترتين للسياسات المُوجَّهة بواسطة الدعم في بريطانيا؟ لقد أكدت دراسات تفصيلية عن التغذية خلال الحرب العالمية الثانية هذه الحقيقة، على الرغم من أن نصيب الفرد المتاح من الطعام نقص كثيرًا في بريطانيا، بل وأكثر من هذا انخفضت بشدة حالات نقص التغذية. واختفت تقريبًا مَظاهر نقص التغذية الحادِّ.١٩ وانخفضت بشدة أيضًا نسب الوفيات (إلا ما يتعلق منها بالحرب بطبيعة الحال). وحدَث شيء مماثل خلال الحرب العالمية الأولى.٢٠
fig4
شكل ٢-٢: مظاهر التحسن في متوسط العمر المتوقع في إنجلترا وويلز ١٩٠١–١٩٦٠م. (المصادر: إس باترسون، وإن كيفيتز، وآر سكوين، أسباب الوفاة: جداول عن حياة السكان القوميين (نيويورك: سمينار برس ١٩٩٢م).)
fig5
شكل ٢-٣: زيادة إجمالي الناتج المحلي (بريطانيا) والزيادات العشرية في متوسط العمر المتوقَّع مع الميلاد (إنجلترا وويلز) ١٩٠١–١٩٦٠م. (المصادر: إيه ماديسون، مراحل النمو الرأسمالي، (نيويورك، مطابع جامعة أكسفورد، ١٩٨٢م)؛ إس برستون وآخرون، أسباب الوفاة، (نيويورك، سمينار برس، ١٩٧٢م).)
والشيء اللافت للنظر في الحقيقة أن المقارنات فيما بين العقود المبنية على أساس إحصاءات كل عشر سنوات، توضح الهامش شديد الاتساع للامتداد السريع للغاية لمتوسط العمر المتوقع خلال عقدي الحربين على وجه الدقة والتحديد (كما يبين الشكل ٢-٢، الذي يعرض الزيادة في متوسط العمر المتوقع على مدى سنوات كل عقد للعقود الست الأولى من القرن العشرين).٢١ إذ بينما ارتفع مُتوسِّط العمر المُتوقَّع خلال العقود الأخرى بنِسَب متواضعة (ما بين عام وأربعة أعوام) نجده قفز في كل من عقدي الحربين إلى ما يقرب من سبع سنوات.
ويجب علينا أن نسأل كذلك عمَّا إذا كانت الزيادة الكبيرة في متوسط العمر المتوقَّع خلال عقدي الحربين يمكن تفسيرها بالمقابل على أساس النمو الاقتصادي السريع على مدى هذين العقدين. تبدو الإجابة لنا بالسَّلب. لقد تصادف أن كان عقْدَا الزيادة السريعة في متوسط العمر المتوقَّع هما فَترتَا نمو بطيء لنصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي كما يُبيِّن الشكل ٢-٣. ولكن من المحتمل بطبيعة الحال أن نفترض أن نمو إجمالي الناتج المحلي كانت له آثاره على متوسط العمر المُتوقَّع بعد الفاصل الزمني لهذا العقد؛ وحيث إن هذا لا ينقضه الشكل ٢-٣ نفسه، فإنه لن يصمد للبحث والتمحيص مرة أخرى بما في ذلك تحليل العمليات السببية المحتملة. وإن التفسير الأكثر معقولية للزيادة السريعة في متوسط العمر المتوقَّع نجده في التغيرات التي طرأت على مدى المُشارَكة الاجتماعية أثناء عقدي الحربين والزيادة الحادة في الدعم العام للخدمات الاجتماعية (بما في ذلك الدعم الغذائي والرعاية الصحية) التي تَلازَمت معها. وحَرِي بالذِّكر أن الدراسات عن الصحة وغيرها من ظروف معيشة السكان خلال فترات الحرب تلقي ضوءًا كاشفًا على هذه التباينات كما توضح ارتباطها بالمواقف الاجتماعية والترتيبات العامة.٢٢

الديمقراطية والحوافز السياسية

وثمة روابط كثيرة جدًّا تُوضِّح لنا حلقات الوصل. وليسمح لي القارئ هنا بأن أضيف بإيجاز مثالًا توضيحيًّا آخر: الرابطة بين الحرية السياسية والحقوق المدنية من ناحية، وحرية تَحاشي الكوارث الاقتصادية من ناحية أخرى. إن أبسط شاهد يؤكد صحة هذه الرابطة يَتمثَّل في تلك الحقيقة التي سبق أن عَقَّبتُ عليها (في الفصل الأول، ثم على نحو غير مباشر عند مُناقَشة الفارق بين الصين واليابان في هذا الفصل)، وهي أن المجاعات لا تقع في ظل النُّظم الديمقراطية؛ إذ لم تحدث في الحقيقة أي مجاعة بالمعنى الموضوعي لها في أي نظام ديمقراطي مَهما كان البلد فقيرًا.٢٣ وسبب ذلك أنه من اليسير للغاية الحيلولة دون وقوع المجاعة إذا ما حاولَت الحكومة منعها، وإذا كانت الحكومة قائمة في ظل ديمقراطية مُتعدِّدة الأحزاب وانتخابات وإعلام حر؛ فإن هذا كله يُشكِّل حوافز سياسية قوية للنهوض بعبء الحيلولة دون المجاعة. معنى هذا أن الحرية السياسية في صورة ترتيبات ديمقراطية تُساعد في تأمين وضمان الحرية الاقتصادية (خاصة التَّحرُّر من مجاعة مُفرِطة)، والحرية من أجل البقاء (أي ضد الموت جوعًا).

وإن البلد لا يغفل كثيرًا الأمن الذي تُوفِّره له الديمقراطية عندما يُحالفه الحظ ولا يواجه كوارث خطرة، وتجري أموره رُخاء. ولكن خطر عدم الاستقرار وفقدان الأمان الناجم عن تحولات في الظروف الاقتصادية أو غيرها أو ناجم عن أخطاء في السياسة لم يَتسنَّ تصحيحها فإنه قد يكون كامنًا وراء ما يبدو في ظاهر الأمر حالة صحية. وسوف تكون ثمة حاجة إلى مُعالَجة الجوانب السياسية للأزمة الاقتصادية الآسيوية التي حدثت أخيرًا، وذلك عندما نناقش بتفصيل أكثر هذه الرابطة (في الفصلين السادس والسابع).

ملاحظة ختامية

يعمد التحليل المعروض في هذا الفصل إلى تطوير الفكرة الأساسية القائلة بأن دعم وتعزيز الحرية الإنسانية هو في آنٍ واحد الهدف الرئيسي والوسيلة الأساسية للتنمية. ويرتبط هدف التنمية بتقييم الحريات الفعلية التي يتمتع بها الشعب صاحب الشأن. وتَعتَمِد القدرات الفردية بشكل حاسم على أمور كثيرة من بينها الترتيبات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وحَرِي عند صوغ الترتيبات المُؤسَّسية الملائمة أن نضع في الاعتبار الأدوار الأداتية للأنماط المتمايزة للحرية بما يتجاوز كثيرًا الأهمية التأسيسية لعموم حرية الأفراد.

وتشتمل الأدوار الأداتية للحرية على مكونات عديدة متمايزة ولكنها متداخلة، مثل التسهيلات الاقتصادية والحريات السياسية والفرص الاجتماعية وضمانات الشفافية والأمن الوقائي. وإن هذه الحقوق والفرص والاستحقاقات الأداتية بينها روابط متداخلة والتي يمكنها أن تمضي في اتجاهات مختلفة. وتتأثر عملية التنمية على نحوٍ حاسم بهذه الروابط المتداخلة. والجدير بالملاحظة أنه في تطابق مع هذه الحريات العديدة المُتداخلة والمتشابكة ثمة حاجة إلى تطوير ودعم تَعدُّدية المؤسَّسات بما في ذلك المنظومات الديمقراطية والآليات التشريعية وهياكل السوق والخدمات التعليمية والصحية والميديا وغيرها من مرافق الاتصالات … إلخ. ويمكن لهذه المؤسَّسات أن تشتمل على مبادرات خاصة وترتيبات عامة، وكذلك المزيد من الهياكل المختلطة من مثل المنظَّمات غير الحكومية والكيانات التعاونية.

وتقضي وسائل وغايات التنمية والتطوير بأن يكون منظور الحرية هو محور المسرح. ويَتعيَّن النظر إلى الناس في هذا المنظور باعتبارهم عناصر مشاركة بفعالية ونشاط — شرط أن تتهيأ الفرصة لهم — في صوغ مَصيرهم الخاص، لا أن يكونوا عناصر قابلة في سلبية تتلقَّى ثمار برامج تنمية جذَّابة في ظاهرها. وتَتحمَّل الدولة كما يتحمل المجتمع عبء القيام بأدوار شاملة من أجل تعزيز وضمان القدرات البشرية. وهذا دور داعم وليس دور مَن يتلقى شيئًا جاهزًا. إن المنظور المعنيَّ بالوسائل والغايات ويَتَّخذ الحرية محورًا جدير بأن يحظى باهتمامنا.

١  سبق أن ناقشت هذا التباين في بحث سابق «التفكير بشأن التنمية في مطلع القرن ٢١» ضمن كتاب أشرف على تحريره: Louis Emmerij: Economic and Social Development into the XXl Century, Johns Hopkins University Press, 199.
٢  يمثل هذا الفصل أساس الموضوع الرئيسي في ندوة البنك الدولي من التمويل الكوكبي والتنمية في طوكيو مارس (آذار) ١٩٩٩م.
٣  انظر: جين دريز وأمارتيا صن، في: Hunger and Public Action (Oxford: Clarendon Press, 1989).
٤  انظر: البنك الدولي، معجزة شرق آسيا النمو الاقتصادي والسياسة العامة، أوكسفورد برس ١٩٩٣م.
٥  انظر: Hiromitsu Ishi, Trends in the Allocation of Public Expenditure in Light of Human Resource Development—Overview in Japan, mimeographed, Asian Development Bank, Manila, 1995. See also Carol Gluck, Japan’s Modern Myths Ideology in the Late Meiji Period (Princeton: Princeton University Press, 1985).
٦  انظر: جين دريز وأمارتيا صن: الهند: التنمية الاقتصادية والفرصة الاجتماعية، دلهي، ١٩٩٥م.
٧  Sudhir Anand and Martin Ravallion, Human Development in Poor Countries: On the Role of Private Incomes and Public Services, Journal of Economics Perspectives (1993).
٨  انظر كتابي: «الهند – التنمية الاقتصادية والفرصة الاجتماعية»، ١٩٩٥م.
٩  انظر: Dreze and Sen, Hunger and Public Action (1989); see particularly chapter 10.
١٠  ومع هذا فإن كيرالا ولاية وليست دولة، سكانها حوالي ٣٠ مليون نسمة، وهي أضخم من غالبية البلدان في العالم.
١١  انظر مقالي من عدم المساواة في الدخل إلى عدم المساواة الاقتصادية، مجلة Southern Economic Journal, 64–Oct, 1997.
١٢  انظر: Richard A. Easterlin, How Beneficent Is the Market? A Look at the Modern History of Mortality, mimeographed, University of Southern California, 1997.
١٣  نوقشت هذه المسألة في كتاب دريز وصن «الجوع والعمل العام».
١٤  سأعود إلى هذه المشكلة مرة أخرى.
١٥  نوقشت هذه القضية في كتابي «الهند: التنمية الاقتصادية والفرصة الاجتماعية»، ١٩٩٥م.
١٦  انظر: Robert W. Fogel, Nutrition and the Decline in Mortality since 1700 Some Additional Preliminary Findings, working paper 1801, National Bureau of Economic Research, 1986; Samuel H. Preston, Changing Relations between Mortality and Level of Economic Development, Population Studies 19 (1975).
١٧  انظر: J. M. Winter, The Great War and the British People (London: Macmillan, 1986).
١٨  R. M. Titmuss, History of the Second World War: Problems of Social Policy (London: HMSO, 1950).
١٩  انظر: R. J. Hammond, History of the Second World War: Food (London: HMSO, 1951).
٢٠  انظر: Winter, Great War and the British People (1986).
٢١  البيانات خاصة بإنجلترا وويلز؛ نظرًا لعدم توافر بيانات إجمالية عن بريطانيا.
٢٢  انظر أعمال: R. J. Hammond, R. M. Tilmuss, and J. M. Winter، الوارد ذكرهما سابقًا.
٢٣  ناقشتُ هذا في مقالي «التنمية: أي طريق الآن؟» Economic Journal 92 (December 1982).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤