فصل في الجنايات والاجتماع

إن للاجتماع أمراضًا كما للجسم الحي، وهي كأمراض الجسم الحي إما مُستوطنة وتُسمَّى جنايات وجرائم، وإما وافدة وتُسمَّى قلاقل وثورات، وأسبابها كأسبابها إما مُتمَّة واصلة وهي في أحوال الأفراد الخاصة، وإما مُعدَّة مهيئة وهي في نظامات الاجتماع نفسه كما هو الحال في الجسم الحي، فالجنايات كالأمراض نفسها لا تقع إلا إذا توافر لها هذان العاملان: أحوال خاصة في الأفراد، واستعداد في جسم الاجتماع.

وسياسة الاجتماع كطِبابة الجسم الحي: رادعة تُوجَّه إلى الجاني كما يداوي الطب المريض، ومانعة أو واقية تمنع أسباب الجناية لوقاية المجتمع منها قبل وقوعها، كما يمنع الطب المرض بمقاومة أسبابه بعلم حفظ الصحة المعروف بعلم الهيجين.

فساسة الاجتماع يقاومون الجنايات بالشرائع المسنونة، وهي كالطب الشافي للأمراض، ويحاولون منعها بالنظامات الموضوعة وهي كالطب المنعي الواقي من الأمراض، وكما أن طبابة الأجسام الشافية والواقية تتوقف على تعرف طبائع الجسم الحي وطبائع الأمراض التي تفتك به ودرس الوسائل النافعة، كذلك سياسة الاجتماع الرادعة والواقية تتوقف على تعرف طبائع الجناة ودرس الشرائع والنظامات الموافقة أيضًا، وكما أن الطب البشري لم يقل كلمته الأخيرة في كل ذلك، كذلك الطب الاجتماعي لم يقل كلمته الأخيرة أيضًا.

غير أنَّا إذا قابلنا بين الطبين نجد أن الطب البشري تقدم أكثر جدًّا مما تقدم الطب الاجتماعي، فشفاء الأمراض صار أسهل مما كان في الماضي وصارت طبائعها معروفة أكثر كذلك، وإذا كانت صناعة الطب لم تتقدم كل التقدم المرغوب في شفاءِ الأمراض حتى الساعة، لكنها تقدمت كثيرًا في علم الوقاية منها، فإن علم حفظ الصحة يكاد يكون قد ألمَّ بكليات نواميس الأمراض وكيفية تولدها ووسائل منعها، وقد تمكن من حصر كثير منها وفي بعض البلدان تمكن من منعها أصالة؛ لأن الطب البشري سار مع العلم سيرًا حثيثًا وجنبًا لجنب، وإذا كان لم يتمكن من منعها بتاتًا فليس من نقص في علمه، بل من صعوبات أخرى تعترضه متأتية من نظامات الاجتماع نفسها، فالأمراض الوافدة التي كانت تنقضُّ في الماضي على أوروبا وتفتك بمئات الألوف من سكانها في زمن قصير؛ كوافدات الطاعون والجُدَري الأسود والهواء الأصفر والحُمَّى التيفوئيدية نفسها حتى خانوق الأطفال المعروف بالدفتيريا، قد قلَّت اليوم جدًّا وزالت منها في بعض الأماكن طبيعتها الوافدة، فإذا كانت أكثر المدن الكبرى في هذه الجهات بلغت الغاية في النظافة بعد أن كانت مجمعًا للقاذورات، وصار السكان فيها أكثر اعتناءً من قبل بنظافة مآكلهم ومشاربهم ومساكنهم وملابسهم وأجسادهم، فالفضل في ذلك للطب الذي عرف كيف يستفيد حالًا من العلم، وسوف تخفُّ الأمراض جدًّا وتقل وَيْلاتها كلما اصطلحت نظامات الاجتماع، ومكنت الطب من العمل بقواعد علم الصحة كما هي معروفة له اليوم.

بخلاف الطب الاجتماعي فإنه لم يتقدم على نسبة تقدم العلم اليوم، فهو لم يتعرف طبائع الاجتماع وطبائع الجناة جيدًا، وشرائعه الشافية ونظاماته الواقية لا تزال قاصرة جدًّا عن المرغوب، وما ذلك إلا لأن نظره في طبيعة الاجتماع لم يتغير كثيرًا عما كان في الماضي، ولم يتيسر له حتى اليوم تطبيق نظاماته وشرائعه على النواميس الطبيعية التي اكتشفها له العلم، والحق يقال: إن هذا التطبيق محفوف بالمصاعب لأسباب كثيرة ناشئة عن غلبة تعاليمه الدينية والأدبية في شرائعه ونظاماته، وتأثيرها في طبائع أفراد المجتمع أنفسهم، فإذا كان الطب قد استفاد كل الفائدة من العلم الطبيعي؛ فلأن موضوعهما واحد، فلم يكن يمكن فصل أحدهما عن الآخر بخلاف سياسة الاجتماع، فهي حتى الآن لا تزال للأسباب المتقدمة باقية في وادٍ والعلم الطبيعي يسير في وادٍ آخر.

ولا يُستفاد من ذلك أن الاجتماع لم يستفد من حركة العلم اليوم في سياساته فإن إنكار ذلك مجازفة، فأمراضه الوافدة قلت جدًّا، فقلت حروبه وانكسرت حدة ثوراته وخفت وطأة قلاقله، ولا شك أن الجرائم والجنايات قد قلت كذلك عما كانت في الماضي البعيد، كل ذلك لسهولة مراسه اليوم أكثر من قبل لاصطلاحه نوعًا بفضل ما انتشر عليه من ظل العلم الحديث.

غير أن القلاقل إذا كانت قد خفت وطأتها فهي لم تقلَّ اليوم بل زادت واستوطنت كذلك كقلاقل العمال، وإذا كانت الجنايات قد قلت عما كانت في القديم فهي لم تقلَّ قلة مُطلقة، بل ربما زادت كذلك بالنسبة إلى ما كانت عليه في الماضي القريب لزيادة انتشار العلم وزيادة الشعور بالحاجة معه مع بقاء أسبابها؛ لأن الطب الاجتماعي لم ينظر كثيرًا في هذه الأسباب وإذا نظر فلم يهتدِ كثيرًا إلى الوسائل الواقية منها أو أنه لم يُحسن تطبيقها عليها، وأسبابها إنما هي في نظامات الاجتماع نفسها التي لا تزال حتى الآن بعيدة جدًّا عن توفير التضامن له بتوفير العمل وتوفير المنفعة المتبادلة.

فالشارع لم ينظر في الجنايات إلا إلى العقاب؛ فكأن الصعوبات التي تعترضه في نظامات الاجتماع صرفته عن تعرف طبائع العمران للبحث في الوسائل الواقية، إلى تعرُّف طبائع الجناة أنفسهم لتحديد العقوبة، وقد هداه العلم اليوم في ذلك كثيرًا وخدعه أكثر؛ لأن الاعتماد في العلم على جهة واحدة مُضرٌّ جدًّا، فنظر في الأمر نظرة علمية هي في مصلحة الجاني أكثر منها في مصلحة المجنيِّ عليه؛ إذ نظر إلى الجاني كنظره إلى المريض المستحق غالبًا للشفقة والحنان بقطع النظر عن تأثير جنايته في الاجتماع، وهو نظرٌ يوافق عليه العلم إذا كان الغرض منه توفير عضوٍ من أعضاء المجتمع لنفع منه لهذا المجتمع، وإلا فالشفقة في الطب كما في الشرائع يجب أن تشمل الأهم وهو الجسم الاجتماعي نفسه، ولو كانت هذه الشفقة في الشرائع اليوم ترمي إلى إصلاح الجاني لحمدنا العمل، والحال ليس كذلك غالبًا؛ لأن وسائل إصلاح الجاني لا يُعتنَى بها كثيرًا في الشرائع حتى اليوم، وكل ما تفعله هذه الشرائع لمصلحة الاجتماع هي أن تحبس الجاني وتكفَّ شره عن المجتمع إلى حين، وكثيرًا ما يُضيف الجاني إلى عيوبه وهو في السجن عيوبًا أخرى يكتسبها من مخالطته لسائر الجناة المحبوسين معه في سجن واحد، فلا يخرج من السجن حتى يعود إلى جنايته بجسارة وتَفنُّنٍ لم يكونا له من قبل.

فتخفيف العقوبة على الجاني لم تفد الاجتماع بل ذكر بعضهم أن القتل كان يزيد كلما قل القصاص بالقتل، وليس في الأمر غرابة والدواء على ما تقدم، حتى ولا القتل نفسه يستطيع بالإرهاب أن يقلل القتل عسى أن يستطيع الجاني أن يستغفل نظام الاجتماع وينجو من عقاب مؤجل؛ ولذلك رأى بعضهم أن يُشغَّل الجاني في سجنه حتى يدفع ثمن جنايته فيكتسب عملًا نافعًا ويعوِّض على المجنيِّ عليه، ويُرهب لطول الإقامة حينئذٍ في السجن، وهو أقرب الآراء إلى العدل مهما قام عليه من الاعتراضات، ويلزم حينئذٍ أن لا يقبل عن شغله عوضًا ولو كان ذا مال، ويشمل التعويض حوادث القتل التي كثيرًا ما يذهب فيها التعويض المدني هدرًا، فيفقد الإنسان عزيزًا له ويفقد معيلًا كذلك.

على أن الجاني نفسه مظلوم وظالمه نظام الاجتماع نفسهُ، سواء عن جهل لقلة انتشار العلم أو عن حاجة لقلة توافر العمل، أو عن مرض لتطرق ذلك إليه بالوراثة المكسوبة هي نفسها من الاجتماع، والشرائع التي تعاقبه كأنها تعاقب به جهلها في تطبيق نظاماتها على حاجة العمران، والتي كثيرًا ما يكون الجاني العزوم فيها أنبل جدًّا من الذي يحرجونه ويسترون جناياتهم بالخبث، فما دامت تعاليم الاجتماع لا تتمشى على قواعد العلم الحديث، فتضع العمران في مقامه الطبيعي وتعتبره جسمًا حيًّا كسائر الأحياء وتطلق عليه نواميسها الطبيعية فمن المستحيل أن تهتدي إلى إحكام الروابط بينه، وما دامت نظاماته لا توفر له النفع المتبادل فيصعب جدًّا ضبطه، ولقد صدق القائل: «إن توافر أسباب الثروة في بلاد لمن أفضل أسباب تقليل الجنايات فيها.» فالناس في كل أمورهم دنيا وآخرة إنما هم يقتتلون على رغيف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤