الفصل الأول

النوم عبر العصور

ظللنا لعدة قرون نعتبر النوم لا يعدو كونه عمليةَ توقف للنشاط، وحالةً سلبية من اللاوعي، وقد كنا مخطئين في فهمنا ذلك طيلة تلك القرون. وربما كان الإخفاق في فهم الطبيعة النشطة للنوم هو أحد الأسباب التي جعلت مجتمعَنا الصاخبَ على مدار الساعة لا يُولي النومَ الاهتمامَ الكافي. ففي أفضل الأحوال، يتقبَّل العديدون منا حقيقة أننا جميعًا في حاجة إلى النوم، أما في أسوأ الظروف فإننا نعتبر النومَ حالةً مَرَضِيَّة تحتاج إلى علاج. ولعلَّ هذا التوجُّه الذي تبنَّاه الكثيرون في مجال الأعمال والسياسة والصناعة، بل والصحة، ليس واهيًا فحسب، بل قد ينطوي على خطورة كذلك.

يمكننا أن نُدرك من خبرتنا اليومية تلك الفائدة المهولة التي تمدُّنا بها ليلةٌ من النوم، وقد دعَّم هذا الشعورَ الذاتيَّ كمٌّ كبير من الأدلة العلمية المتزايدة التي سنستعرض بعضَها في هذا الكتاب. وبعيدًا عن الشعور بالراحة والتحسُّن الذي يمنحنا إياه النوم، فإنه يساعد عقلَنا على التوصُّل لحلول مبتكرة لما نُواجِه من مشكلات يومية. ويزخر التاريخ بالقصص والمواقف التي استيقظ فيها علماء وفنانون ليقدِّموا أفضل الحلول والإسهامات بعد فترات طويلة من الإحباط. فقد تمكَّن فريدريش أوجست كيكوليه من التوصل إلى البنية الكيميائية الحلقية للبنزين بعدَ أنْ رأى في حُلْمه الصورة الشهيرة لثعبان يَعَضُّ ذيله؛ وتمكَّن أوتو لوفي من وضْع مبدأ النقل العصبي الكيميائي الذي نال عنه جائزة نوبل، وكذلك تمكَّن ديميتري مندليف من ترتيب العناصر الكيميائية في الجدول الدوري للعناصر. أما في مجال الفنون، فهناك روبرت لويس ستيفنسون الذي جاءتْه فكرة كتابة روايته الشهيرة «قضية الدكتور جيكل والسيد هايد الغريبة» بعدَ استيقاظه من النوم، وبالمثل يُقال إن صامويل تايلور كولريدج قد استلهم فكرة قصيدة «قوبلاي خان» من حلم رآه — وإن كان الحلم قد راوَدَه بعدَ تعاطِي الأفيون — مثلما حدث مع سوناتا جوزيبي تارتيني الشهيرة على الكمان والمعروفة باسم «رعشة الشيطان». كان سلفادور دالي مهووسًا بالقدرات الإبداعية للنوم، بينما تمكن ريتشارد فاجنر — ربما أكثر من أي فنان آخر — من استغلال النوم في استلهام مؤلفاته الموسيقية وليقدم له الفكرة الرئيسية لجميع أعماله الأوبرالية.

الطريقة التي نتعامل بها اليوم مع النوم فظَّة للغاية؛ فالبالغون ينامون في المتوسط قرابة ٧ ساعات كل ليلة، و٥٪ ينامون أقل من ٥ ساعات، و٦٪ ينامون أكثر من ٩ ساعات (الشكل ١-١). وفي المقابل، تشير بعض التقارير التاريخية إلى أننا كنا ننام فترات أطول في الماضي. وفي ليالي الشتاء الطويلة، كان النوم يستمر غالبًا لفترات طويلة من الزمن مقسمة إلى نوبتين — أو ربما أكثر — من النوم يفصلهما فترات من الراحة اليقظة. وربما كنا في عصور ما قبل الثورة الصناعية نحصل على قسط من النوم يصل إلى ١٠ ساعات يوميًّا اعتمادًا على فصول السنة. وتؤكد التجارب الحديثة صحة هذه الأفكار؛ فإذا ما أُلزِم الأفراد باتباع التوقيت الشتوي (حيث يطول الليل ويقصر النهار) فإنهم يحصلون على قسط من النوم أطول من ذلك الذي يحصلون عليه عند اتباعهم التوقيت الصيفي. وإذا حصل الخاضعون للتجربة على فرصة للنوم لفترات أطول، فإن الأمر ينتهي بهم إلى الحصول على فترة ثابتة من النوم تُقدَّر بنحو ٨ ساعات ونصف، بين البالغين من الشباب، ومدة ٧ ساعات ونصف بين البالغين الأكبر سنًّا؛ أي أكثر مما يحصل عليه معظم الناس حاليًّا. وكان لاستحداث الإضاءة بالكهرباء في القرن التاسع عشر، وتغير ساعات العمل والأنظمة الاجتماعية بسبب الثورة الصناعية، أثر في انفصال جنسنا البشري على نحو متزايد عن الدورات الطبيعية لليل والنهار التي قوامها ٢٤ ساعة (انظر الفصلين الثامن والتاسع).
fig1
شكل ١-١: النوم في بريطانيا، من خلال استقصاء أُجري عام ٢٠٠٣، وشمل نحو ٢٠٠٠ مواطن بريطاني من البالغين. يوضح الشكل (أ) أن متوسط فترات النوم يبلغ نحو ٧ ساعات في الليلة، وأن ٥٪ ينامون أقل من ٥ ساعات و٦٪ ينامون أكثر من ٩ ساعات، بينما يوضح الشكل (ب) تغيرات فترات النوم مع تقدم العمر والفرق بين الرجال والنساء.

يبدو أننا اليوم نحصل على قسط من النوم أقل من أي وقت مضى خلال تاريخنا الحديث. فمعظم البيانات المجمَّعة من الدول الصناعية عبر الخمسين عامًا الماضية توضح وجود تَدَنٍّ عام في النوم بالتزامن مع ثقافة ساعات العمل الطويلة، وازدياد نوبات العمل، والانتقال لمسافات طويلة، والتواصل العالمي عبر مناطق زمنية متعددة، والتحرر من العديد من القيود الاقتصادية والاجتماعية على حدٍّ سواء. وهكذا أسهمتْ كل تلك العوامل سالفة الذكر، جنبًا إلى جنب مع توافر كافة الأشياء تقريبًا على مدار ٢٤ ساعة، في إقصاء النوم إلى آخر قائمة أولوياتنا، وهو الأمر الذي جاء على حساب صحتنا ورفاهيتنا، كما سيتضح لنا لاحقًا.

لكن قبل أن نتوغل في مناقشة نظريات العلم الحديث عن النوم، علينا أن نضع فهمَنا الحالي للنوم في سياق تاريخي موجز. لقد ظلَّ النوم موضع دراسة لفترة لا تقل عن ٢٥٠٠ عام، وذلك على يد مجموعة من الأطباء والفلاسفة الإغريق — مثل ألكمايون، وأبقراط، وأرسطو — الذين وضعوا جميعًا نظريات حول أسباب النوم ووظائفه. فقد كتب أرسطو عام ٣٥٠ قبل الميلاد مجلدًا تحت عنوان «حول النوم واليقظة» واستهلَّه بما يلي:

فيما يتعلق بالنوم واليقظة، علينا النظر إلى ماهية كل منهما؛ أن نفكر فيما إن كانا مختصين بالروح أم بالجسد أم بهما معًا، وإن كانا مختصين بهما معًا فإلى أي جزء من الروح أو الجسد ينتميان؟ وما الذي يجعلهما سمة من سمات الحيوانات؟ وما إن كانت كافة الحيوانات تشترك فيهما معًا، أم أن بعض الحيوانات تشترك في واحدة، والبعض الآخر يشترك في الأخرى، أم أن البعض لا يشترك في أي منهما والبعض الآخر يشترك فيهما معًا؟

ربما شكَّلت تلك الأسئلة — مع اختلاف طفيف في صياغتها — جزءًا كبيرًا من الجدال الذي أثير حول النوم في الألفي عام التالية لذلك، وكان علينا أن ننتظر حلول القرن العشرين الذي ظهر فيه علم النوم الحديث لأول مرة في شكله الرسمي على يد هنري بيرون الذي أصدر عمله الأول حول فسيولوجية النوم عام ١٩١٣ تحت عنوان «مشكلة النوم الفسيولوجية».

غالبًا ما كانت الملاحظات الأولى للنوم تشير إلى أن سبب النعاس يَكْمُن في المعدة، حيث قامت تلك الفرضية على فكرة أن الأبخرة الدافئة التي تنبع من المعدة أثناء عملية الهضم تتسبب في النعاس، وأن الأطعمة المختلفة تؤثر بدورها على الشعور بالنعاس. وفي بدايات القرن السابع عشر، أشار رينيه ديكارت إلى أن الدماغ هو العضو البشري الذي يتوسط بين حالتي النوم واليقظة، مع الغدة الصنوبرية (مركز إنتاج الميلاتونين، انظر الفصل الثاني) المتحكمة في تدفق «الغرائز الحيوانية» حول الدماغ. هذا وقد وُضعتِ العديد من النظريات حول أصل عملية النوم خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بما فيها نظرية وجود «مادة النوم» أو مادة التوكسين التي تتكون خلال النهار وتُفرَز أثناء الليل مسببة النوم؛ حيث يتأثر الشعور بالنعاس بتدفق الدم، أو نتيجة لإصابة الخلايا العصبية بالشلل ليلًا فتغدو غيرَ قادرة على التواصل، وهي مفاهيم لا تزال قيدَ البحث والاستكشاف اليوم.

وقد تطورت فكرة مركزية الدماغ في عملية النوم في بدايات القرن التاسع عشر بفضل تجارب أجراها عالم التشريح لويجي رولاندو على الطيور وتطورت لاحقًا على يد جان بيير فلورانس، الذي أظهر أن الطيور دخلت في نوم دائم بعد إزالة أنصاف أدمغتها. وقد تطلب الأمر قرنًا آخر أو أكثر لتحديد موقع مراكز النوم لدى البشر، وهو النجاح الذي تمكَّن الطبيب النفسي الروماني كونستانتين فون إيكونومو مِن تحقيقه خلال انتشار وباء الإنفلونزا الكارثي عام ١٩١٨، فقد لاحظ أن بعض مرضاه المصابين بالتهاب الدماغ الفيروسي يُعانون إما من الأرق (نقص في النوم) وإما من نوم مفرط (التهاب الدماغ النوامي). واعتمادًا على التلف الذي وجده بعد فحص أدمغة المرضى المتوفَّين، أشار فون إيكونومو إلى أن الدماغ يحتوي على مناطق مختلفة تنظِّم عمليتَيِ النوم واليقظة. واقترح أنه نظرًا لأن التلف الذي أصاب الوِطاء أو المِهاد الأمامي قد تسبَّب في حالة من الأرق المطوَّل، فإن تلك المنطقة من الدماغ هي المسئولة بشكل طبيعي عن إنتاج النوم. وقد وَجَدَ، على النقيض من ذلك، أن التلف في المهاد الخلفي قد تسبب في حالة مطولة من النوم، فاستنتج أن تلك المنطقة بدورها هي المسئولة عن اليقظة. وقبل مرور مائة عام على ذلك، ثبتت صحة نظريته تلك كما سنتناول بمزيد من التفصيل في الفصل الثالث.

ويتجلَّى أحد أهم أشكال التقدم التكنولوجي في علم النوم في القدرة على قياس نشاط الدماغ البشري أثناء النوم. وقد تم التخطيط الكهربائي الأول للدماغ البشري على يد هانز بيرجر عام ١٩٢٨ بعد أن مكَّنتْه التطورات التي حدثتْ في الفسيولوجيا الكهربائية من وضع الأقطاب الكهربائية على فروة الرأس البشرية من أجل تسجيل النشاط الكهربائي للدماغ (بدلًا من وضعه على الدماغ مباشرة) ولتوضيح الاختلافات بين حالتي النوم واليقظة (انظر الفصل الثاني). ولا تزال تلك الوسائل تمثل الأساس لمعظم الفحوصات والتقييمات الإكلينيكية للنوم اليوم. وقد ساعدت تلك الأساليب على التوسع في دراسة النوم بشكل سريع خلال القرن العشرين.

وفي عام ١٩٣٩ قام ناثانيال كلايتمان الباحث الروسي في مجال النوم بنشْر عمله الهامِّ «النوم واليقظة»، وهو العمل الذي يلخص معرفتنا عن النوم اليوم، وروجع عام ١٩٦٣. أسَّس كلايتمان أول معمل مخصص لأبحاث النوم عام ١٩٢٥ بجامعة شيكاجو وعكف فيه على دراسة العديد من أوجه النوم والحرمان من النوم، ومن بينها تلك التجربة الشهيرة التي عاش فيها هو وتلميذه بروس ريتشاردسون لمدة شهر بكهوف الماموث بولاية كنتاكي، والتي أظهرتْ توترات يومية للنوم ودرجات الحرارة في غياب المؤثرات الخارجية. ولعل أشهر إسهاماته في هذا الصدد كان وصفه الرسمي لنوم حركة العين السريعة، بعد الملاحظات التي أجراها تلميذه يوجين أسيرنسكي. فعلى الرغم من أن حركة العين كانت معروفة ومسجلة منذ قرون فإن أسيرنسكي وكلايتمان كانا أول مَن أعلن عن استخدام تلك الحركات في التوصيف الرسمي لأنواع النوم الفرعية المختلفة.

وفي الفترة الزمنية نفسها تقريبًا — أي أربعينيات القرن العشرين وخمسينياته — تمكن باحثون من بينهم جوزيبي موروتزي، وهوراس ماجون، وميشيل جوفيه من تطوير عمل فون إيكونومو وأظهروا أن استثارة مناطق مختلفة من جزء آخر من الدماغ وإصابتها بالضرر — جذع الدماغ على وجه التحديد — يمكن أن يؤثر على النوم كذلك. وعلاوة على ذلك، وجدوا أن التسجيلات الخاصة بتلك المناطق من الدماغ قد تغيرت على نحو ملحوظ عند النوم واليقظة. لقد تمكن هؤلاء الباحثون، بشكل مجمل، بفضل تلك الأعمال من التوصل إلى أن العديد من المناطق داخل جذع الدماغ تشترك في الحفاظ على عملية اليقظة، وفي التسبب في دورة نوم حركة العين غير السريعة ونوم حركة العين السريعة (انظر الفصل الثاني).

لقد تمكن هؤلاء الباحثون من الروَّاد الأوائل مِن جعْل النوم مادة جادَّة للدراسة وابتكروا مجالًا علميًّا جديدًا. وتزخر المكتبة الوطنية الأمريكية للطب اليوم بقاعدة بيانات إلكترونية مهولة تسمى «بابميد»، وتضم قرابة اﻟ ١١٠ آلاف مقال بحثي عن «النوم»، ويزداد هذا الرقم بصورة يومية. وعلى الرغم من أن محاولة تلخيص أكثر من مائة ألف مقال بحثي في كتاب صغير كالذي بين أيديكم الآن يُعدُّ تحدِّيًا حقيقيًّا، فإننا نأمل أن يساعد هذا الكتاب قُرَّاءه على استكشاف عالم النوم الرائع والتعرف إليه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤