الرسالة الثانية

كتبت في العدد اﻟ ٦٨٦ من جريدة المؤيد المصرية الصادر في ١٢ شوال سنة ١٣٠٩ تحت عنوان «تقدم المرأة» ما يأتي:
تأمل سطور الكائنات فإنها
من الملأ الأعلى إليك رسائل

لا يخفى أن في الزمان أدوارًا، والأيام أطوار؛ فدور للصلاح وطور للفساد، ودور للراحة وطور للنشاط، ودور للعلم وطور للجهل، وقد مضت هذه الأطوار في القرون البالية، والأعصار الخالية؛ إذ كان ليل الجهل أرخى سداله ومدَّ فيها شراعه، وأقام الاستبداد حجابًا بين الشرق والعلوم، فجزى الله الأعصُر الأخيرة خيرًا عن الإنسان كيف أدَّبته وهذَّبته، ورقَّته إلى مدارج السعادة والخير، ولقَّنته دروس الحياة والمعارف، ولولاها لبقي — ولو عُمِّر عمر نوح — وحشيًّا جاهلًا كما كان في النشأة الأولى، وكيف لا نشكرها وقد هذَّبت الإنسان ودرَّبته، ومرت به على الحوادث وحثَّته على حفظها فتذكَّر وسمع، وشهد فقاس، واستنبط من مجموعها عبرةً صوَّرها أمامه في الأعمال حتى صار يقدِّر الأمور حق قدرها؛ فكدَّ واجتهد فوصل إلى إتمام المبادئ العلمية، وما زال هكذا سائرًا في طريق التقدم، وسبيل النجاح حتى تكوَّن من مجموع المجهودات الشخصية ارتقاء النوع الإنساني إلى ذرى الحضارة والتمدن، ولما كان الإنسان في الواقع ميَّالًا إلى الأثرة والاستبداد، فكان مفتقرًا إلى مرشد آخر غير ما اكتسبه من تلك الأعصُر وحوادثها، يكون ممثلًا في عين كل فرد من أفراد بني آدم، وليس هذا المرشد الأخير — فيما أرى — سوى الشريعة، التي تدعو كل واحد إلى الوقوف عند حده في المعاملات والأخلاق؛ فلا يبخس أحدًا حقه، ولا يغتصب منه ماله ولا يخدش ناموسه وشرفه، وما دام هذا المرشد نصب الأعين، ومَلَكة راسخة في النوع الإنساني حسن حال الأمم فصاروا أبناءً بررة، وآباءً أتقياء، وأمهات شفوقات، وإخوانًا أصفياء، وعاشوا عيشة راضية على أحسن حال وأصفى زمان، فأفضى بهم حسن حالهم وتمكُّن الائتلاف من قلوبهم إلى السعي وراء منافعهم العامة والخاصة، وصرْف الجهد المستطاع إلى تأييد سعادتهم حالًا ومآلًا.

ومن الشواهد على ذلك أن من قابل بين القرون الماضية والحقوب الحالية حكم بالفرق الواسع والبَوْن الشاسع بينهما؛ إذ بعد أن كان الظلم ضاربًا أطنابه، والاستبداد سائدًا على جميع العالم، أصبح كلٌّ منهما وقد غشيتهما عناكب الاضمحلال، ونبتت عليهما أعشاب الزوال، وتنفس صبح العدل من فجر الحرية، وافتر ثغره عن در المساواة، وبدأ منه عمود نور غمر الأنام في بحر ضيائه، وكاد يخطف أبصارهم من سنائه؛ هو الحرية والمساواة اللتان هما منار العمران، وعلم الرواج، وحجة التمدن، والحصن المنيع دون حب الاختصاص والأثرة الذميمة، وبهما يحيى الحق ويزهق الباطل، ولقد أُنشئت المحاكم على اختلاف أنواعها، فصارت تحكم بين الناس بالعدل، ولا فرق هناك بين الكبير والصغير، والغني والفقير، والصعلوك والأمير، وأُسست المدارس ورُفع لواء العلوم والمعارف، واتسع نطاقها في جميع الأنحاء حتى بلغ أقاصيَ المسكونة بعد أن كان لا يُسمَع إلا اسمها، ولا يوجد سوى رسمها، وكان يتعذر وجود فرد واحد في المائة من الناس يعرف القراءة والكتابة، أما الآن وقد تحسنت الأحوال وقويت الآمال، وتعددت المدارس في جميع النواحي لبثِّ روح الحياة الأدبية في عقول الولدان من الجنسين القوي واللطيف، وصار لا غنية عن شرب رحيق المعارف والعلوم بأكواب الاجتهاد والجد والنشاط، كما لا مندوحة لحفظ الجسم من الفناء والفساد عن تناول المطاعم في مواعيدها المقررة؛ إذ لا يخفى أن ارتقاء أي أمة كانت لا يكون إلا بارتقاء أفرادها وتهذبيهم، ولقد صدق من قال وأحسن في المقال: إن أطفال أي أمة عنوان مستقبلها، ولقد أنشأت الجرائد العلمية والسياسية وتداولتها أيدي الناس على اختلاف طبقاتهم وتباين أعمارهم ولهجاتهم، فصاروا يقتطفون من أشجارها النضيرة وثمارها اليانعة وأزهارها المفيدة.

وللنساء اليد الطولى والفضل الأعظم في تحرير هذه الجرائد ومكاتبتها، فلطالما سمعنا بأنه يوجد الكثير من النساء في الأقطار الأوروبية والبلاد الأمريكية؛ فاز بأعظم سهم وأكبر نصيب في إشهار الفوائد العلمية والصناعية في الجرائد الدورية التي يتولين تحريرها وإدارتها بأنفسهن، وكثيرًا ما اتصل بنا خبر من جاب الأقطار وطوى القفار واجتاز الأنهار منهن متزييات بزي الرجال، ومتجشمات أقوى المصاعب سعيًا وراء اقتطاف فائدة علمية يكاتبن بها الجرائد، أو حبًّا في استطلاع أحوال البلاد، والاستفسار عن عادات أهلها ومعتقداتهم، ولقد كان بين ظهرانينا في السنة السالفة امرأة إفرنجية زارت مدائن الشرق بأكمله، والبلاد الإسلامية من المغرب الأقصى إلى ما يلي بلاد الهند لتكتب بما تراه لإحدى الجرائد الأوروبية الخطيرة، وتُوُفِّيَتْ في السنة الماضية نفسها، وهذه المرأة الفاضلة هي المدام أوليمب إدوار صاحبة امتياز جملة صحف دورية شهيرة في فرنسا، ولها عدة مؤلفات، منها ما هو على مصر قد توخت فيه البحث عن عميق أسرارها، ولم يختص بهذا الامتياز نساء الغرب فقط، بل كان من الشرقيات أيضًا في القرون الوسطى القريبة منا من كان لهن في عصرهن ذكر على توالي الأيام ومدى الأعصار، منهن السيدة مزنة التي اشتُهرت بحسن الأداء في الصوت، ورقة المعنى في الأشعار الغنائية التي كان الخليفة عبد الرحمن الثالث الأموي بمدينة الزهراء في الأندلس يميل إلى سماعها كل الميل. والسيدة عائشة التي قال في شأنها المؤرخ ابن حيان: إنها أعقل وأجمل وأعلم بنات عصرها. والسيدة صفية التي ملكت ناصية الشعر وذللت صعاب المعاني. والسيدة مريم كانت تعلم الشعر والعلوم لخرائد أمراء إشبيليا، وقد تخرج من مدرستها كثير منهن، والسيدة راضية — الملقبة بالنجمة السعيدة — معتوقة الخليفة عبد الرحمن كانت أعجوبة عصرها في الشعر والتاريخ، وقد جابت آفاق المشرق بأكمله عقب موت سيدها، وغيرهن من نساء التاريخ اللواتي لو عددتهن لضاق بنا المقام.

وأمامنا في هذا العصر الحاضر من النساء الفاضلات من امتاز البعض منهن بالشعر الرقيق، والبعض بالإنشاء الرشيق، والبعض بالمباحث الجدلية، والبعض بالاستنباطات المفيدة الجلية، هذا وقد كثرت الاختراعات في هذا العصر حتى عجزت الأعداد عن حصرها، وللنساء أعظم نصيب في استنباط جزء عظيم منها، ونحن نضرب عن ذكرها هنا؛ إذ إن من أراد الاطلاع عليها بأكملها فعليه بالجرائد العلمية والنشرات الدورية، وإنما نذكر هنا منها مثالًا أن امرأة أمريكية اخترعت آلة لحياكة الملابس توضع في جيب الحامل لها، وقد بلغت اختراعاتهن في هذه القارة منذ خمس سنين مبلغًا عظيمًا، حتى قيل إنها تزيد على العشرين ألف اختراع عدًّا كما ذكرته إحدى الصحف الإخبارية، فإذا أضفنا هذه الاختراعات إلى اختراعات الرجل الذي لم يخرج عن كونه ابن المرأة وثمرة أتعابها، لتبيَّن للقارئ درجة التقدم في هذا العصر، وزيادة الفرق بينه وبين العصور الخالية، ولما كان الفضل في ذلك عائدًا إلى ما أسسته المرأة من حسن التربية، فلماذا تُحرم من حقوقها يا تُرى؟ ولماذا تلام إذا طالبت بحقها المسلوب ومالها المنهوب؟ على حين أن السواد الأعظم من رجالنا الشرقيين يعلم أن الأمم الغربية ما عقدت خناصرها، واتفقت آراؤها وخواطرها على وجوب احترام المرأة، وإنزالها المنزلة التي تجب لها إلا بعد أن تيقنوا أنها العضو المهم في جسم العالم الإنساني.

وما اشتُهر به منشأ العالم الغربي غني عن أن يُذكر، وشاهدنا على ذلك أيضًا ما تناقلته الصحف عن أعمال النساء في معرض شيكاغو، وعما أظهرته من حسن البناء، وما اشتُهر به نساء روسيا من إتقان صناعة الطب ومزاولته برخصة من مجلسها الطبي، وهن يجرين العمل كالرجال؛ بحيث قرر مجلسها الشورى أن تُفتح لهن جمعيات لهذا الخصوص، وما منحته النساء الباريزيات من حقوق الانتخاب في مجالس فرنسا، إلى غير ذلك من الشواهد التي لو أوردناها لما كفى لنا حجم مجلد كبير.

والحاصل أنه ما من أمة انبعثت فيها أشعة التمدن في أي زمان كان إلا وكان للنساء فيه اليد الطولى، والفضل الأعظم كما لا يخفى ذلك على من اطلع على تواريخ المصريين واليونان القدماء؛ فكل هذه الأمم المتمدنة كانت تعتبر النساء كعضو لا يتم العمل إلا بمساعدته.

نعم، وإن كان بيننا وبين نساء الغرب بَوْن بعيد من حيث الحجاب والمنعة، والبعد عن مخالطة الرجال بحكم الشرع، إلا أنه لا حجاب بيننا وبين درس العلم واكتساب المعارف التي نرفع بواسطتها راية الفخر بأنفسنا إظهارًا لعلو منزلتنا.

وما المانع يا تُرى بعد أن علم الكل من الرجال مزية تعليم المرأة لو قام البعض منهم بتشييد مدارس لتعليم البنات على مقتضى القواعد الدينية؛ لأننا نعلم علم اليقين في شريعتنا الغراء متوفرة أسبابه، وأن «كل الصيد في جوف الفراء.»

ولعلنا باتباع هذا المنهج المفيد والطريق المستقيم ندرك في المستقبل رفعة وشأنًا في الحضارة، ونسترجع ما سُلب منا ظلمًا وعدوانًا، ونتحصل على حقوقنا بعون الله وهمة رجالنا، وليس ذلك على الله بعزيز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤