الفصل الثاني

التاريخ والفكر وراء نهج الرؤى السلوكية

كثيرٌ من المفاهيم التي نُناقِشها لها أصلٌ مُمتد وطويل، حتى لو بدَت جديدة. فقبل أربعةٍ وعشرين قرنًا، قدَّمَت حواراتُ أفلاطون عدة أمثلة لكيفية اعتماد تصوُّراتنا على السياق، وهو ما سنُعبِّر عنه الآن بلغة «التأطير». ويقدِّم عمل فرانسيس بيكون عام ١٦٢٠، بعنوان «الأورجانون الجديد»، وصفًا رائعًا ﻟ «الانحياز التأكيدي» فيما يلي: «بمجرد أن يتبنَّى العقل البشري رأيًا ما … يجذب كل شيءٍ آخر لتأكيده ودعمه». وفي رواية «مانسفيلد بارك»، تُوثق جين أوستن «تأثير التعرُّض المحض» في ملاحظة أن الأخوات بيرترام يجدْنَ أنه مع كل زيارةٍ تزدادُ جاذبية هنري كروفورد الذي حكَمن عليه في البداية بأنه «شخصٌ عادي».1

نريد أن نشير إلى هذا التاريخ؛ لأن جلَّ ما نستطيع فعله هو تقديم وصفٍ موجَز جدًّا عنه. وسنستخلص ثلاثة خيوطٍ من الفكر الغربي ضروريةً لفهم الرؤى السلوكية. أولًا، سنشرح تطور «الاقتصاد السلوكي». بعد ذلك، سنوجِز المساهمات الأكثر صلةً من علم النفس. أما الخيط الأخير، فيأخذ بعين الاعتبار التغييرات في طريقة تفكير الحكومات في سلوك من تحكمُهم. ثم سنجمع هذه الخيوط معًا لبيان كيف تطوَّر مجال الرؤى السلوكية وانتشر خلال الخمسة عشر عامًا الماضية. وفي حين أن كثيرًا من الأفكار لها أصول قديمة، فالطريقة التي تُدْمَج وتُطَبَّق بها الآن جديدة.

تطوُّر الاقتصاد السلوكي

أَوْلى عصر التنوير في القرن الثامن عشر الأهمية للعقل البشري باعتباره قوة مؤثرة للمعرفة والتقدم. وكجزء من هذا التغيير العام، بدأ بعض المُفكرين يدرسون كيف يمكن للأفراد استخدام قدراتهم العقلية لتحقيق أهدافهم. وفي هذا السياق، طور الفيلسوف جيريمي بنثام الفكرة الأساسية لمحاولة تعظيم «المنفعة»، والتي رأى بوجهٍ عامٍّ أنها منفعة أو رفاهية أو متعة شخصٍ ما. بحلول عام ١٨٣٦، كان جون ستيوارت ميل قد عبَّر عن «تعريفٍ مجحف للإنسان باعتباره كائنًا يفعل حتمًا كل ما يُمكِّنه من الحصول على أكبر قَدرٍ من الحاجات الأساسية والراحة والرفاهية، بأقل قَدرٍ ممكنٍ من العمل والاضطرار إلى حرمان نفسه من الرفاهيات.»2 بالطبع، قد يتعارَض تحقيق أهداف المرء مع أهداف الآخرين أو أهداف المجتمع ككل.3 وقد وصف معاصرو ميل الذين انتقدوا هذا التعريف الشخصَ الذي يُصوِّره بأنه «الإنسان الاقتصادي».4
مع تطور مجال الاقتصاد في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بدأ العلماء في تجسيد فكرة الإنسان الاقتصادي في هيئةٍ نظريةٍ سلوكيةٍ مُتماسكة. كانت المبادئ الأساسية ﻟ «نظرية الاختيار العقلاني» هذه أنَّنا لدَينا تفضيلاتٌ متسقة ومستقرة، وأننا نأخذ بعين الاعتبار النطاق الكامل للمعلومات المُتعلقة بأي قرار، وأننا نستخدِم هذه المعلومات لتقدير الخيار الذي يُلبِّي تفضيلاتنا على أفضل وجه.5 وطالما أقر الاقتصاديون بأن هذا النهج لم يُلِمَّ بالنطاق الكامل للفعل البشري، ولكنه كان تفسيرًا مبسطًا أفرز توقعاتٍ وتحليلاتٍ مُفيدة. ولكن مع تحوُّل تركيز الاقتصاديين إلى بناء نماذجَ رياضيةٍ معقَّدة تستند إلى العناصر الأساسية للنظرية، أُولِيَ اهتمامٌ أقلُّ بالعوامل الأشمل التي تؤثِّر على السلوك (مثل دور التعاطف، الذي أبرزه الاقتصاديون الأوائل، مثل آدم سميث).
لم يتبع هربرت سايمون هذا الطريق. كان سايمون عالمًا موسوعيًّا قدَّم إسهاماتٍ مُبتكرة في السلوك التنظيمي وعلوم الكمبيوتر وعلم النفس والاقتصاد. وتُعَد الطريقة التي يتَّخِذ بها البشر القرارات قاسمًا مشتركًا في كل أعماله. وعلى النقيض من نظرية الاختيار العقلاني، اقترح سايمون «العقلانية المحدودة».6 تنصُّ نظرية العقلانية المحدودة على أنه بدلًا من إجراء بحثٍ واسع النطاق عن الخيار الذي يوفِّر أقصى قَدْرٍ من الفوائد، فالناس «يرضَون ويكتفون» بما يفي بالغرض؛ أي إنهم يستخدمون الاختصارات الذهنية والقواعد الأساسية (أو «الاستدلالات») من أجل البحث عن خيارٍ مُرضٍ — وليس عن خيارٍ أمثل — وانتقائه.

على سبيل المثال، لنتخيَّل شخصًا يجب أن يختار بين مَطعمَين لتناوُل الطعام. من منظور نظرية الاختيار العقلاني، ستكون الاستراتيجية المُثلى للاختيار هي جمع وتحليل جميع المعلومات المُتاحة حول أسعار الطعام وجودته وأجواء المطعم، والعوامل الأخرى ذات الصِّلة في كل مطعم. في المقابل، قد يستخدم الشخص الذي يلجأ لما يُرضي ويفي بالغرَض الاستدلال القائل بأن «المطعم الأكثر ازدحامًا يكون أفضل على الأرجح»، بالإضافة إلى إلقاء نظرةٍ سريعة للتحقُّق من أن الأسعار مقبولة، على أساس أنه من المُحتمل أن يُسفِر ذلك عن قرارٍ جيد بما يكفي. إن الناس يلجئون لما يُرضي ويَفي بالغرض؛ لأن لديهم مواردَ معرفيةً محدودة وفي الوقت نفسه يتعين عليهم اتخاذ قراراتٍ سريعة في بيئاتٍ مُعقدة.

يوضح مثال اختيار المطعم وجهة نظر سايمون عن أن اللجوء لما يُرضي ويفي بالغرض هو استراتيجيةٌ مفيدة وناجحة عمومًا مقارنةً باستراتيجية الاختيار الأمثل. ولا شك أن هذه النظرية تتعارض مع المبادئ الأساسية لنظرية الاختيار العقلاني. ولكن على الرغم من فوز سايمون بجائزة نوبل في الاقتصاد، فلم يكن له تأثيرٌ يُذكر على مهنة الاقتصاد.7 فقد كان يُنظر إلى العقلانية المحدودة باعتبارها شيئًا حقيقيًّا، وربما غير ملائم، ولكنه في النهاية ليس مهمًّا بما يكفي لتقديم تحدٍّ جوهري.
وجاء هذا التحدي بعد ذلك بفترةٍ وجيزة. ففي أوائل السبعينيات، بدأ عالما النفس دانيال كانمان وعاموس تفيرسكي في إجراء تجاربَ اختبرَت مدى توافُق قرارات الناس فعليًّا مع توقُّعات نظرية الاختيار العقلاني. كانت هذه التجارب مسليةً ومشهودةً وسهلة الفهم (انظر الوصف الموجَز عن «فحص القولون بالمنظار الطويل المدة» في الفصل التالي). كما أوضحا أيضًا أن الأحكام والقرارات الفعلية للناس انحرفَت عن أحكام وقرارات «الإنسان الاقتصادي»، نظرًا لتأثير الاستدلالات و«الانحيازات» في اختياراتهم.8 ولعل الأهم هو زعمُهما بأن هذه الانحرافات كانت مُمنهجة؛ ومن ثَم يمكن التنبؤ بها ودمجها في نماذج الاقتصاديين.
نحن لا نناقش الأمثلة والرؤى الواردة بعمل كانمان وتفيرسكي بالتفصيل، نظرًا لوجود كثيرٍ من التفسيرات الجيدة فعلًا؛ لا سيما ما قدَّمه دانيال كانمان نفسه في كتابه الأكثر مبيعًا «التفكير السريع والبطيء».9 تتعلق إحدى أبسط التجارب بكيفية استحضار المعلومات إلى الذهن. في هذه التجربة اختار كلٌّ من كانمان وتفيرسكي خمسة أحرفٍ ساكنة في اللغة الإنجليزية (K, L, N, R, V) يكثر ظهورها كلها في المَوضع الثالث من الكلمة وليس في بدايتها. ثم عرَضا كل حرفٍ من هذه الحروف الساكنة على الناس وسألاهم: هل الأرجح أن يظهر هذا الحرف في الموضع الأول أم الثالث في الكلمة؟
رأى المشاركون عمومًا أن هذه الحروف كانت من المُحتمل أن تظهر في الموضع الأول أكثر من الثالث. وفي المتوسط، رأوا أن الأحرف ظهرَت أكثر بمقدار الضعف في الموضع الأول (على سبيل المثال، lion) عنها في الموضع الثالث (على سبيل المثال، milk).10 هذا على الرغم من حقيقة أن احتمالية ورودها في الموضع الثالث كانت أكبر في الواقع. وتفسير هذه النتيجة بسيط؛ من الأسهل التفكير في الكلمات التي تبدأ بحرفٍ مُعين أكثر من التفكير في الكلمات التي تحتوي على حرفٍ مُعين في وسطها. وتُنقَّح هذه الملاحظة بعد ذلك عَبْر اختصارٍ ذهني مفاده؛ كلَّما كان التفكير في شيءٍ أسهل، كان هذا الشيء أشيع.

أطلق كانمان وتفيرسكي على هذا اسم «استدلال التوافر»، على أساس أن بعض الأفكار «متوافرة» لأذهاننا أكثر من غيرها. هذا ما يحدُث عندما يشعر الناس بالقلق بشأن السفر جوًّا؛ لأنهم يستطيعون بسهولة تذكُّر صور حوادث الطائرات المروِّعة، بينما المخاطر الموضوعية للطيران أقلُّ بكثيرٍ من خيارات السفر الأخرى. وبالطبع لا ينبغي على «الإنسان الاقتصادي» أن يترك مثل هذه الأشياء تؤثِّر على خياراته. فعليه تقييم جميع المعلومات ذات الصلة، بغضِّ النظر عن مدى سهولة توارُدها بالذهن.

يقدِّم كانمان وتفيرسكي كثيرًا من الأمثلة الأخرى تُبيِّن كيف أن نظرية الاختيار العقلاني لا تُجسِّد قراراتٍ حقيقية. عند تقييم المخاطر، يُفترَض من صُناع القرار أن يُوازنوا بين فُرَص تحقيق المكاسب وفرص الخسائر لمعرفة ما إذا كان من المُحتمل أن تكون النتيجة النهائية إيجابية (فيما يُعرَف باسم «نظرية المنفعة المتوقَّعة»). في الواقع، تكون الخسائر المُحتملة أكبر بكثيرٍ في مثل هذا القرار مقارنةً بالمكاسب المُحتملة؛ إذ يدَّعي تفيرسكي وكانمان أنه كي يوافقَ شخصٌ ما على المقامرة، يجب أن يكون المَبلغ الذي يمكن أن يربحه نحو ضعف المبلغ الذي يمكن أن يخسره.

في الظروف المناسبة، نتأثر حتى بما إذا كان وصفُ اختيارٍ ما يُشدِّد على المكاسب أم الخسائر. على سبيل المثال، شارك تفيرسكي في وضع دراسةٍ أظهرَت أن ٨٤ في المائة من الأطباء كانوا يختارون الجراحة بدلًا من العلاج الإشعاعي إذا قيل لهم إن «فرصة النجاة والبقاء على قيد الحياة شهرًا واحدًا [لهذه الجراحة] ٩٠ في المائة»، ولكن ٥٠ في المائة فقط كانوا يختارونها إذا قيل لهم «إن هناك نسبةَ وفَياتٍ تبلغ ١٠ في المائة في الشهر الأول». تُقدِّم العبارتان المعلومات نفسها، ولكن إحداهما تؤطر الاختيار من حيث المكاسب، والأخرى من حيث الخسائر.11

على الرغم من أن هذا البحث يحمِل تشابُهات مع عمل هربرت سايمون (مثل أهمية الاختصارات الذهنية)، فقد قُدِّمَ بصورةٍ مختلفة نوعًا ما. فقد صاغ كانمان وتفيرسكي النتائج في إطار الأخطاء أو الاختلاف عن «الإنسان الاقتصادي»، ونشَرا عملَهما في دورياتٍ اقتصادية، وقدَّما تقديراتٍ كمية لتأثير النتائج التي توصَّلا إليها. ومع ذلك، فليس واضحًا إلى أيِّ مدًى كان من المُمكن أن يكون لعملهما تأثيرٌ حقيقي على الاقتصاد بدون وجود بعض المُدافعين المؤثِّرين من داخل المجال نفسه. ولحُسن الحظ، كان لديهما هؤلاء المُدافعون.

كان ريتشارد ثالر قد اطلع مصادفةً على النتائج التي توصَّلا إليها في عام ١٩٧٦، ورأى على الفور صلتها بمجموعةٍ من ملاحظاته الخاصة التي كانت مُحيرةً من وجهة نظر نظرية الاختيار العقلاني. شرع ثالر في كثيرٍ من الأنشطة والأعمال المُشتركة مع كلٍّ من كانمان وتفيرسكي، فضلًا عن وضع مفاهيمه الخاصة التي بدأَت في تقديم تفسيراتٍ بديلة للسلوك الاقتصادي. وبدأَت سلاسل مقالاته البارزة حول «السلوكيات المنحرفة» عن نموذج الاختيار العقلاني في حشد كتلةٍ ناقدة من الباحثين، الذين شرعوا في الاتحاد معًا، وجذْب دعْم المؤسسات المؤثِّرة، وخلْق جيلٍ جديد من الباحثين، الذين وضعوا، بدورهم، تفسيراتٍ أكثر تطورًا لما بدأ يُطلَق عليه اسم «الاقتصاد السلوكي».

تعكس هذه التسمية التركيز على الطريقة التي يتصرف بها الناس فعلًا من خلال الأدلة التجريبية، بدلًا من التركيز على توقعات نظريات الاختيار العقلاني للسلوك الواجب. ويوضح أحد الأمثلة الأخيرة السريعة جوهر هذا المجال، ألا وهو: مفهوم ثالر عن «الحسابات الذهنية»، الذي يتعلَّق بكيفية تصنيف الناس للأموال وتتبُّعها. من أحد مبادئ «الإنسان الاقتصادي» أنه يتعامل مع المال بوصفه شيئًا «قابلًا للاستبدال»؛ أي يمكن نقلُه بسهولة لدفع ثمن أي سِلَع أو خدمات؛ فالأموال ليست مرتبطةً بأي غرضٍ مُعين. المال مجرَّد مال. في الواقع، يخصِّص الناس قدرًا من المال (أوعية مالية) لاستخداماتٍ معينة (على سبيل المثال، «نقود الإيجار») ولا يُحبُّون نقل الأموال بين هذه الأوعية.

الاقتصاد السلوكي لدَيه تركيز على الطريقة التي يتصرَّف بها الناس بالفعل من خلال الأدلة التجريبية، بدلًا من التركيز على توقعات نظرية الاختيار العقلاني للسلوك الواجب.

أحد الأمثلة الجيدة على ذلك يتعلق بالطريقة التي يدفع بها الناس مقابل وقود السيارات في الولايات المتحدة. في الولايات المتحدة، يُباع البنزين بثلاثة أنواع من الأسعار والجودة المتصاعدة. وفي عام ٢٠٠٨، انخفض سعر البنزين بنحو ٥٠ في المائة. وكان هذا يعني أن الناس كان لديهم دخلٌ أكبر قابل للإنفاق، وتماشيًا مع نظرية الاختيار العقلاني، يمكنهم إنفاقُ هذه الأموال كيفما أرادوا على الشوكولاتة والسجائر وطعام الحيوانات الأليفة، وما إلى ذلك. ولكن بدلًا من ذلك، وجد الاقتصاديون الذين درسوا بيانات المعاملات الحقيقية أن الناس كانوا يتحوَّلون فعليًّا نحو الحصول على النوع الأغلى من البنزين.12 فنظرًا لأن لدَيهم ميزانيةً ذهنية — لنقُل ٥٠ دولارًا للبنزين — وكانت لديهم مساحةٌ للتصرُّف في حدود تلك الميزانية، فقد ملئوها. الأهم من ذلك، أن مشترياتِ سلع أخرى مثل الحليب وعصير البرتقال في المتاجر نفسها لم تتأثر؛ إذ لم يشترِ الناس أنواعًا أغلى من هذه المنتجات بدخلهم الإضافي، بل اشترَوا البنزين فحسب. بالطبع، يمكن أن يكون هذا البنزين المُمتاز هو بالضبط ما يريد الناس حقًّا إنفاق أموالهم الإضافية عليه. ولكن بصفةٍ عامة، فإن امتلاك مزيدٍ من الدخل لا يؤدي إلا إلى تحولٍ ضئيل للغاية نحو شراء المنتجات الفاخرة.

ليس المقصود بذلك أن الحسابات الذهنية غير حكيمة أو غير مفيدة في حدِّ ذاتها؛ فقد تكون كذلك، ولكنها يمكن أن تكون العكس أيضًا. قد ترغب الحكومات في مساعدة الناس على إنشاء حساباتٍ ذهنية تساعدهم على تحقيق أهدافهم (مثل الادخار للجامعة) أو توفير شبكات أمان في حالة الأزمات. بدلًا من ذلك، فالفكرة الأساسية هي أن أهمية الحسابات الذهنية تحتاج إلى الاعتراف بها؛ فإذا تم تجاهُلُها أو رفضُها باعتبارها غير ذات أهمية، فمن المُحتمَل أن تضلَّ السياسات والخطط.

كان علم الاقتصاد السلوكي مَعنِيًّا، بصورةٍ خاصة، بهذه الأنواع من القرارات على المستوى الفردي، ولكنه لا يُعنى بذلك بصورةٍ حصرية. فقد قدَّم، على سبيل المثال، أفكارًا جديدة حول مصطلح «الأرواح الحيوانية» الذي وضَعَه جون ماينارد كينز (١٩٣٦) وكيف ولماذا دفع الأسواق إلى إظهار سلوكياتٍ غير متوقَّعة وعشوائية، مثل الفقاعات ونوبات الذُّعر والانهيارات.13 وتطوَّر المجال بطرقٍ أخرى أيضًا. وكان أحد اتجاهات هذا التطوُّر الانتقال إلى توسيع نطاق التجريب في بيئات العالَم الواقعي، وكان أحد أهداف ذلك معرفة ما إذا كانت الانحيازات ستختفي إذا انخرط الأشخاص في اللعبة بالاستثمار فيها، وكانت الإجابة بالنفي.14 كان ثمَّة اتجاه آخر هو الاتجاه نحو تطبيق هذه الأفكار على مشاكل السياسات، سواء كانوا يزيدون معدَّلات التبرُّع بالأعضاء،15 أو يُساعدون الناس على الادخار من أجل تقاعُدهم.16 ولكن عند هذه النقطة نحتاج إلى التوقُّف والعودة إلى هذا الاتجاه بمجرد استكشافنا لتاريخٍ مُختلفٍ يميل نحو نقطةٍ مماثلة.

الطريق نحو نظريات المعالجة المزدوجة

حتى الآن، استعرضنا كيف أرسى التنوير قوة التفكير البشري الواعي. غير أن مُفكرين آخرين كانوا مُهتمين بجوانب السلوك البشري التي بدت وكأنها تُفلِتُ من الوعي. ففي عام ١٨٩٠، كان ويليام جيمس، أحد «الآباء المؤسسين» لعلم النفس، يُشدِّد على مقدار القوة التي تُمارسها العمليات الاعتيادية والتلقائية على سلوكنا واستنتج أن هذه القُدرة على القيام بأشياءَ معقَّدة دون تفكير كانت مفيدة بصورةٍ جوهرية:

كلما زادت تفاصيل حياتنا اليومية التي يمكن أن نُودِعَها في رعاية العمليات التلقائية السهلة، ستتحرَّر المزيد من قدراتنا الذهنية العُليا للقيام بعملها الصحيح واللائق. فما من إنسانٍ أكثر بؤسًا من ذلك الذي ليس لدَيه شيءٌ اعتيادي سوى التردُّد، والذي يرى في كل سيجارة يُشعلها، وكل كوبٍ يشربه، ووقت الاستيقاظ والنوم كل يوم، وبداية كل عملٍ ولو صغير، موضوعات للتفكير المُتروِّي الواعي المباشر. فمِثل هذا الشخص يذهب نصفُ وقتِه بالكامل إلى اتخاذ قرارات، أو الندم، بشأن أمورٍ يُفترَض أن تكون متأصِّلةً فيه بحيث لا يكون لها وجودٌ فِعلي في وعيِه على الإطلاق.17
خلال تلك الفترة تقريبًا، كان فيلهلم فونت (الذي بنَى أول مُختبر علم نفس في عام ١٨٧٩) يقترح التمييز بين الفعل الطوعي واللاطوعي؛ حيث الأول «بطيء ومُجهد وواع»، بينما الثاني «يتطلَّب القليل من الجهد ويعمل خارج نطاق السيطرة الواعية».18 ستُدرك أن ما كان يقترِحه جيمس وفونت مُشابهٌ تمامًا لمبادئ الرؤى السلوكية الواردة في الفصل الأول. ولكن مرَّت مائة عامٍ أخرى قبل أن يبدأ علماء النفس في الاتفاق على الأدوار النسبية للدوافع التلقائية والانعكاسية للسلوك وكيفية تفاعُلها. تتخطَّى قفزة المائة عام هذه كثيرًا من الأحداث (بما في ذلك صعود نجم «منهج السلوكية» وأفوله في منتصف القرن العشرين) وتهبط بنا في الفترة التي بدأ فيها كانمان وتفيرسكي في إجراء تجاربهما في السبعينيات.
في هذه المرحلة، استند كثيرٌ من نظريات السلوك إلى مبدأ أن مواقف الناس ودوافعهم ونواياهم تُحدِّد أفعالهم بقوة. ولعلَّ ما يدعم وجهة نظرنا تلك حقيقة أن واحدةً من أكثر هذه النظريات شعبيةً كانت تُعرف باسم «نظرية الفعل العقلاني». ولكن من هذه النقطة فصاعدًا، بدأ علماء النفس وعلماء الأعصاب إخراجَ كمياتٍ مُتزايدة من الأدلة التجريبية على أهمية الدوافع اللاواعية للسلوك.19 وكانت تجارب كانمان وتفيرسكي على الاختصارات الذهنية جزءًا من هذا الاتجاه، ولكنها بعيدةٌ كلَّ البُعد عن القصة بأكملها. كان من الأمثلة البارزة الأخرى عمَل عالم النفس الاجتماعي روبرت سيالديني. فقد أوضح كتابه الشهير «التأثير» (١٩٨٤) كيف يُمكن تفسير أمثلة الإقناع اليومي (الذي يُمارسه مندوبو المبيعات أو الشركات مثلًا) من خلال استجابة الناس دون تفكيرٍ لأنواعٍ معيَّنة من المواقف أو الطلبات. وأدَّت هذه الأدلة المتراكمة إلى توافُقِ كثيرٍ من علماء النفس على نظريات المعالجة المزدوجة لتفسير السلوك.20
يتلخَّص جوهر منظور المعالجة المزدوَجة في أن البشر لديهم طريقتان أساسيتان في التفكير تؤثِّران على سلوكنا.21 إحداهما محكومة، وبطيئة، ومُتأنية، وتأمُّلية، وواعية بذاتها. فهي تتطلَّب منا جهدًا مركزًا؛ ومن ثَم قد تكون لدَينا قدرةٌ أو نزعةٌ محدودة لاتخاذ القرارات بهذه الطريقة. وهذه هي العملية التي تحدُث عندما نُخطِّط لرحلةٍ غير مألوفة أو نتعلَّم لغةً أجنبية. وفي الاقتباس السابق، أطلق عليها ويليام جيمس «التفكير الواعي المباشر»، بينما نُسمِّيها نحن «النظام التأمُّلي».

لدى البشر طريقتان أساسيَّتان في التفكير تؤثِّران على سلوكنا. إحداهما محكومة، وبطيئة، ومتأنية، وتأمُّلية، وواعية بذاتها. أما الأخرى، فلا تخضع لسيطرتنا وسريعة وبديهية وغير واعية.

العملية الأخرى لا تخضع لسيطرتنا وسريعة وبديهية وغير واعية. ونظرًا لأنها تحدُث خارج إطار وعيِنا، فإنها تتطلَّب أيضًا القليل من الجهد منَّا؛ ومِن ثَم يُمكننا اتخاذ كثيرٍ من القرارات بهذه الطريقة دون تعب. هذه هي العملية التي تنشط ونحن نستقل المواصلات يوميًّا، أو نتحدَّث لُغتنا الأم، أو نؤدي نشاطًا مُعتادًا. بل تتضمن هذه العملية ردود الفعل الغريزية التي قد لا نربطها بصورةٍ وثيقة بمصطلح «التفكير» في حدِّ ذاته، مثل تقدير سرعة مَركبةٍ قادمة، أو الإجفال عند تعرُّض طائرة لمطبٍّ هوائي. وقد أطلق ويليام فونت على هذه العملية اسم «الفعل الطوعي»؛ بينما نُطلِق عليها الآن «النظام التلقائي».

يتفاعل كِلا هذَين النظامَين لإنتاج سلوكنا، ولكنَّ ثمَّة اتجاهًا عامًّا يتمثل في الاعتراف المتزايد بقوة النظام التلقائي. غير أن علم النفس نظر إلى هذا الاتجاه من منظورٍ مختلف تمامًا عن علم الاقتصاد. فبينما نظر علم الاقتصاد إلى النظام التلقائي من منظور الانحراف عن عملية اتخاذ القرار «العقلانية»، يرى كثيرٌ من علماء النفس أن لغة «التحيُّز» مَعيبة؛ لأنهم لا يَمتلكون نموذجًا معياريًّا متفقًا عليه للانحراف عنه من الأساس. ويؤكِّد كثيرٌ منهم على أن النظام التلقائي غالبًا ما يُسفِر عن نتائجَ أفضل. وقد كانت هذه الاختلافات مصدر جدلٍ كبير في الواقع.

زعم بعض الباحثين، على رأسهم عالم النفس جيرد جيجرينزر، أن منظور الاقتصاد السلوكي معيب بسبب تركيزه الواضح على تحديد الانحيازات وتصحيحها. وهذا التركيز، من وجهة نظرهم، يُقوِّض قدرة الأشخاص على اتخاذ قرارات جيدة. ويركزون بدلًا من ذلك على قوة الاستدلال ويقولون إن العامل الرئيس هو ما إذا كانت مثل هذه الأساليب الاستدلالية تتوافق بصورةٍ جيدة مع بيئة صنع القرار؛ بعبارة أخرى، ما إذا كانت هناك «عقلانية بيئية».22 لذا، فإن أفضل مسار عملٍ لأولئك الذين يَسعَون إلى تحسين عملية صنع القرار هو توعية الناس بكيفية استخدام الاستدلال عل نحوٍ فعَّال. الفكرة هي أن الحكومات يمكن أن تُساعد في «تعزيز» قدرة الناس على استخدام النظام التلقائي، بدلًا من مجرد التحايل عليه.23 على العكس من ذلك، لا يرى دانيال كانمان شيئًا مُبشرًا في هذا النوع من النهج، وهو ما يعزوه تحديدًا إلى أننا لا ندرك متى يُوجِّهنا نظامنا التلقائي.

تكمن قوة نهج الرؤى السلوكية في قُدرته على دمج كِلا المنظورين. في بعض الأحيان يكون الخيار الأفضل هو تصميم سياسة تستغلُّ النظام التلقائي لتوجيه الناس نحو خياراتٍ مُعينة؛ وفي أحيانٍ أخرى، ستكون مساعدة الناس على تطوير قواعد أساسية فعَّالة، مثل أمثلة التثقيف الغذائي المذكورة في الفصل الأول، أكثر فاعلية. من منظور الرؤى السلوكية، لا بد أن تُحدِّد قوةُ الأدلة أيَّ نهج يُتَّبَع، أو كيف ينبغي الجمع بين الخيارات بما أنها ليست مُتعارضة. وهذه الطبيعة البرجماتية والقائمة على الأدلة لنهج الرؤى السلوكية هي أحد الأسباب التي جعلته يُثبت جاذبيتَه للحكومات، كما يوضح آخِر مسار في تاريخنا.

تحول في طريقة تفكير الحكومات في السلوك

لطالما سعت الحكومات إلى فهم سلوك من تحكمهم والتأثير فيه، حتى وإن كان دور الدولة مثار جدلٍ حاد. ففي القرن السابع عشر، على سبيل المثال، حاول توماس هوبز، في كتابه البارز «الليفياثان»، تطبيق المبادئ العلمية لتحليل كيفية تفاعُل الناس في المجتمع، وبناء حكومةٍ فعَّالة بناءً على الاستنتاجات. مع مرور الوقت، بدأَت الحكومات في المطالبة بمزيدٍ من الطرق المُتطورة لفهم ومعالجة المشاكل المجتمعية. واستجابةً لذلك، شهد القرن العشرون ظهور اقتصاديين باعتبارهم «خبراء تقنيين مشورتهم ضرورة لصنع القرار»، والاقتصاد باعتباره النمَط السائد في تحليل السياسات.24
كان أحد أسباب هذا التغيير أن نظرية الاختيار العقلاني قدَّمَت عمليةً واضحة لفهم السبب وراء تصرُّف الناس على النحو الذي اتبعوه، والتنبؤ بسلوكهم المُحتمَل؛ استجابةً لإجراءات الحكومة. بعبارةٍ أخرى، تساعد الحكومات في فهم مشكلةٍ ما. لننظر إلى الجريمة على سبيل المثال. إذا كان لدى الحكومات مواردُ محدودة فقط، فما أفضل طريقةٍ لاستغلال هذه الموارد لضمان أن تكون مستويات الجريمة مقبولة لدى الناخبين؟ في عام ١٩٦٨، قال الاقتصادي جاري بيكر إن الإجابة على هذا السؤال هي «الاستغناء عن النظريات الخاصة … بمواطن القصور النفسي [للمجرمين]»، والاتجاه، بدلًا من ذلك، نحو «توسيع نطاق التحليل المُعتاد للخيار للاقتصاديين ببساطة».25 بعبارةٍ أخرى، تطبيق مبادئ نظرية الاختيار العقلاني: يرتكب الأشخاص الجرائم إذا كانت الفوائد، كما يَرونها، تتجاوز التكاليف. ويمكن تلخيص هذه التكاليف بأنها حاصلُ ضربِ فرصة إلقاء القبض عليه في العقوبة المفروضة على من يُقبَضُ عليه.
لذلك ينبغي أن تجد أفضل السياسات الحكومية أرخصَ الطرق لزيادة التكاليف على المُجرمين المُحتمَلين. ويمكن أن توفِّر هذه الرؤيةُ الأساسية لصُناع السياسات مسارًا للبدء في وضع السياسات. على سبيل المثال، قد يكون تحسين إنارة الشوارع إحدى الطرق لزيادة فرصة القبض على المجرمين، بحيث تُصبح الجرائم أكثر وضوحًا وظهورًا. وقد اختبرَت تجربةٌ حديثةٌ واقعية هذا النهج عن طريق التخصيص العشوائي لمشروعات الإسكان العام في مدينة نيويورك لمجموعتَين؛ إحداهما حصلَت على إنارة للشوارع، والأخرى لم تحصل عليها. ويبدو أن زيادة الرؤية قد أثَّرَت بالفعل على السلوك. فقد وجد الباحثون أن مصابيح الإنارة في الشوارع أدَّت إلى انخفاضٍ بنسبة ٣٦ في المائة على الأقل في «مؤشر الجرائم» الليلية التي تُرتكَب في الأماكن المفتوحة، والتي تشمل جرائم مثل القتل والسرقة والاعتداء.26 يمكن لواضعي السياسات بعد ذلك إجراء «تحليل التكلفة والعائد» لتحديد ما إذا كان هذا النوع من النتائج يُبرِّر تكلفة توفير إنارة الشوارع.

وأخيرًا، وعلى مستوًى أعلى، يمكن لمنظورٍ اقتصادي أن يوفِّر إطارًا عامًّا لتحديد ما إذا كان يجب على الحكومة التصرُّف واتخاذ إجراءٍ أصلًا ومتى. يُشير نموذج الفاعل العقلاني إلى أن التدخُّل الحكومي قد يكون ضروريًّا إذا كانت هناك «إخفاقات في السوق»، والتي يُمكن أن تشمل الاحتكارات (حيث يتركز قَدرٌ كبير جدًّا من القوة في يد لاعبٍ واحدٍ في السوق)، والتفاوتات في المعلومات (حيث يكون طرفٌ واحد في المعاملة التجارية يعرف أكثر من الآخر)، أو العوامل الخارجية السلبية (حيث يفرض نشاطٌ ما تكاليف على أشخاصٍ خارج المعاملة، أو على المجتمع ككل، وأفضل مثال في هذا الشأن التلوث). وحال حدوث إخفاقات السوق هذه، فالنموذج الاقتصادي يقدِّم أيضًا مقترحاتٍ لكيفية استجابة الحكومات لها، مثل توفير المعلومات للحدِّ من التفاوتات، وفرض الضرائب لإعادة توزيع الثروة أو عدم تشجيع الإجراءات ذات التأثيرات الخارجية السلبية، وتنظيم الأنشطة إذا وُجِدَ أن تكاليفها الاجتماعية ضخمةٌ جدًّا.

وجَدَ علم النفس صعوبةً في التنافُس مع هذا العرض. فلم يستطع تقديم الإطار الواسع النطاق نفسه والمقبول عمومًا الذي أسفر عن نتائجَ واضحةٍ لواضعي السياسات. لم يكن لدى الرئيس الأمريكي «مجلس مُستشارين نفسيين» ليجلس جنبًا إلى جنب مع «مجلس المُستشارين الاقتصاديين» الذي أُسِّسَ في عام ١٩٤٦، واتبع واضعو السياسات لمُعظم الوقت نصيحةَ بيكر ﺑ «الاستغناء» عن نظريات علماء النفس.

من الواضح طبعًا أنه ليس صحيحًا أن علماء النفس ليس لهم أيُّ مساهمات في صُنع السياسات، لا سيما في مجالاتٍ مثل النقل والصحة والبيئة. على سبيل المثال، من الستينيات فصاعدًا، وجد كثيرٌ من البلدان أن نموذج الاختيار العقلاني التقليدي لم يكن مُفيدًا في زيادة استخدام حزام الأمان عند القيادة، واعتمدَت بدلًا من ذلك على مفاهيمَ مُستقاةٍ من العلوم السلوكية، مثل الثقة المفرطة وأهمية الإعدادات التلقائية، من أجل الحصول على نتائج. 27 وحاول «التسويق الاجتماعي» تحسين النتائج الاجتماعية باستخدام العلوم الاجتماعية لتحديد محرِّكات السلوك التي لم تُستوعَب جيدًا في النماذج الاقتصادية. وبينما شهد التسويق الاجتماعي شعبيةً منذ ثمانينيات القرن الماضي فصاعدًا، فقد اضطلع بدَورٍ ثانوي في التسويق لأي سياسةٍ قرَّرها بالفعل صُناع سياساتٍ يستمعون إلى الاقتصاديين.
غير أن هذا الوضع بدأ يتغيَّر خلال الخمسة عشر عامًا الماضية أو نحو ذلك. فقد بدأ واضعو السياسات والحكومات في الاهتمام بعلم النفس والعلوم السلوكية.28 وهناك سببان رئيسيان لهذا التحول؛ الأول يتعلق بارتفاع الطلب، والثاني يتعلق بتحسُّن العرض.
فيما يتعلق بالطلَب، كان هناك قلقٌ متزايد من أن نهج الاختيار العقلاني قد يكون له أوجهُ قصور. وفي بعض الحالات، كان صُناع السياسات يُدركون أن سلوك الناس لم يكن مُتماشيًا مع توقعات النماذج الاقتصادية. ولنأخُذ الامتثال الضريبي مثالًا. يعتمد النموذج الاقتصادي الأساسي لفهم الامتثال الضريبي بصورةٍ مباشرة على تحليل جاري بيكر للجريمة، الذي ذكرناه فيما سبق. إن العوامل الوحيدة التي تؤثِّر على السلوك الضريبي لشخصٍ ما في هذا النموذج هي احتمالية التدقيق، وحجم الغرامة أو شدة العقوبة، ومعدَّلات الضرائب، والدخل. كانت المشكلة أن صانعي السياسة كانوا يحصُلون على بياناتٍ لا يبدو أنها تتماشى مع توقعات النموذج؛ وبدا أن ثمَّة عواملَ أخرى تؤثِّر على الامتثال أيضًا. وبحلول عام ٢٠٠٧، تسنَّى لأحد المُعلِّقين التصريح بأن «البحث التجريبي يُظهِر باستمرار أن النموذج العقلاني لا يعمل كما كان الاقتصاديون الكلاسيكيون الجدُد يقصدون».29 واستجابة لذلك، ركَّزَت السلطات الضريبية أكثر على معاملة دافعي الضرائب باعتبارهم عملاء يحتاجون إلى معلوماتٍ واضحة، واحترام، وخدمة على قَدْر من الكفاءة.
ربما أولَى صناع السياسات اهتمامًا خاصًّا لهذا النوع من البيانات الناشئة؛ لأن القرن الحادي والعشرين شهد أيضًا اهتمامًا مُتجددًا بوضع السياسات على أسسٍ قائمة على الأدلة. يدَّعي مثل هذا النهج أنه أقلُّ اهتمامًا بالأيديولوجية أو النظرية أو التخصُّصات الأكاديمية؛ لأنه ركَّز بدلًا من ذلك على اكتشاف «ما يُجدي».30 لذا، إذا لم تعُد النماذج الاقتصادية تُوفِّر توقعاتٍ موثوقة لما سيُجدي، لربما كان صُناع السياسات أكثر استعدادًا للشروع في البحث عن بدائلَ أفضل. شكَّلَت الأزمة المالية التي حدثَت في عام ٢٠٠٨ دافعًا إضافيًّا. فقد أظهَرَت أن النهج الاقتصادي الحالي الذي يتَّجِه نحو التنظيم قد فشل بوضوح، وأن سلوك المؤسسات كان أكثر تماشيًا مع نهج «الأرواح الحيوانية» المُحَدَّث الذي كان الاقتصاديون السلوكيون يُطوِّرونه. علاوةً على ذلك، أدَّت الأزمة المالية في كثيرٍ من البلدان إلى زيادة الضغط على الماليات العامة، ما دفع صُناع السياسات إلى البحث عن نُهُجٍ جديدة، وكان السيناريو المثالي لها أن تكون غير مُكلفة.

عندما تحوَّلَت أنظارهم إلى خياراتٍ أخرى، بدا علم الاقتصاد السلوكي خيارًا مُحتملًا جذابًا. فكما أشرْنا بالفعل، احتفظ علم الاقتصاد السلوكي بإطار الاختيار العقلاني المألوف، ولكنه دمج فيه النتائج النفسية الجديدة أيضًا (مثل الانحرافات عن هذا الإطار). واعتبر صُناع السياسات أن هذا يقدم تفسيراتٍ موثوقة لبعض المشكلات التي واجهوها، بالإضافة إلى تقديم أدواتٍ جديدة لصياغة توقعاتٍ أفضل في المستقبل. في هذه المرحلة، قد يبدو علم الاقتصاد السلوكي وكأنه تحديثٌ تقني لا يشكِّل خطورةً نسبيًّا. بالإضافة إلى ذلك، وكما سنرى بعد قليل، كان لهذا النهج أيضًا بعض المُدافعين الموهوبين الذين نجحوا في التركيز على ما هو جديدٌ ومثيرٌ للاهتمام بشأنه.

لذا، ففي نحو منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تلتقي خيوط التاريخ الثلاثة معًا؛ صعود علم الاقتصاد السلوكي، والإجماع على نظريات المعالجة المزدوَجة في علم النفس، وزيادة اهتمام الحكومات بالتفسيرات الجديدة للسلوك البشري. وقد هيَّأَت هذه العوامل الظروف المناسبة لميلاد نهج الرؤى السلوكية.

«الدَّفْعَة»

في هذه المرحلة الواعدة، تعاوَن ريتشارد ثالر مع الباحث القانوني البارز كاس صنستين لوضع اقتراحٍ عملي لكيفية تطبيق الحكومات للأدلة التي ناقشناها حتى الآن. وكانت النتيجة كتاب «الدَّفْعَة»، الذي نُشر في عام ٢٠٠٨. كانت الحُجة الأساسية التي صاغها ثالر وصنستين راقيةً ورائعة. غالبًا ما يستخدم الناس نظامهم التلقائي، مما يعني أن سلوكهم ينحرف عن نظرية الاختيار العقلاني. وعلى حدِّ تعبير المُؤلفَين، نحن «بشر ولسنا اقتصاديين». غير أن هذه الانحرافات يمكن توقُّعها؛ ومن ثَم يمكن لصُناع السياسات، بل وينبغي عليهم، التخطيط لها.

والخطوة الأولى هي أن نفهم كيف يمكن للسمات التي تبدو غير مهمة لطريقة عرض الخيارات («هندسة الخيارات») أن يكون لها تأثيرٌ كبير على قراراتنا؛ لأن هذه السمات يمكن أن تُحفِّز اختصاراتنا الذهنية استجابةً لذلك. بعد ذلك، يجب على صُناع السياسات تصميم «هندسة الخيارات» هذه بحيث يصبح هناك احتمال أن يستجيب النظام التلقائي من خلال تفضيل الخيارات التي تجعل الشخص في وضعٍ أفضل، بناءً على تقدير هذا الشخص. ومن الأهمية بمكان ألا يكون الأشخاص مُجبَرين على اتخاذ هذا الخيار، بل لا بد أن يكون لديهم الحُرية في اختيار خيارٍ مختلف، إذا أرادوا ذلك. بعبارةٍ أخرى، «يُدفَعون» بلُطف نحو خيارٍ واحد أو مجموعة من الخيارات، بدلًا من إجبارهم على قبولها. إن ثالر وصنستين واضحان تمامًا في أن الدَّفعة يجب (أ) ألا تحظُر أي خيارات؛ (ب) ألا تُغيِّر الحوافز الاقتصادية للفرد بصورةٍ ملحوظة (عن طريق فرض ضرائبَ أو غراماتٍ ضخمة)؛ و(ﺟ) أن يكون من السهل تجنُّبها (أي لا ينبغي أن تفرض أنواعًا أخرى من التكاليف على من يختارها). وعلى حد تعبيرهما: «إن وضع الفاكهة على مستوى العين يُعتبَر دَفْعة. أما حَظْر الوجبات السريعة فليس كذلك».

يقدم الاقتباس السابق الخاص باختيار الطعام فكرة عن الطريقة التي أُلِّفَ بها الكتاب؛ فهو ساخر، وقوي، وتحاوري، وغالبًا ما يكون جريئًا إلى حدِّ التبجح. يقدم الجزء الأول سلسلةً من الأوهام المثيرة للاهتمام ونقاط الضعف الإدراكية ثم يشرح سبب حدوثها. وتعرض الأجزاء التالية أمثلةً تُوضح كيف يمكن لهذه الدروس أن تُغير طريقة تفكيرنا فيما يخصُّ مجموعة من المشكلات المتعلقة «بالصحة والثروة والسعادة». هل الناس لا يدخرون ما يكفي للتقاعد؟ قم بتغيير الإعداد التلقائي بحيث يُسجَّل الأشخاص تلقائيًّا في خطَط أصحاب العمل للمعاشات، بدلًا من الاضطرار إلى التقديم عليها، واجعلهم يلتزمون بزيادة معدلات مُساهمتهم عندما يحصلون على زيادة في الراتب في المُستقبل. هل معدَّلات استهلاك الطاقة المنزلية آخِذة في الازدياد؟ قدِّم ملاحظاتٍ سريعةً للمُستهلكين عن مقدار الطاقة التي يستهلكونها، وساعِدهم على مقارنة استهلاكهم باستهلاك الآخرين.

لم يكن ثالر وصنستين جيدَين في عرض أفكارهما فحسب، بل اتخذا خياراتٍ ذكيةً عند تطويرهما لمفهوم الدَّفْع نفسه. ولعل أكثرها وضوحًا هو أنهما صمَّما مفهوم الدفع بعناية كي يرُوق لكلٍّ من اليسار واليمين من الطيف السياسي. بل إن ثالر وصنستين قد توصَّلا إلى عبارةٍ جديدة تعكس هذا التوازن، ألا وهي «النزعة الأبوية التحرُّرية».31 إن دفع الناس نحو اتجاهٍ بعينِه يتخذ طابعًا أبويًّا؛ لأنه يحدِّد الخيار «الأفضل» (وإن كان لتحقيق الأهداف التي يُحدِّدها الأفراد بأنفسهم) ويُحاوِل توجيه الناس نحو هذا الخيار. ولكنها أبويةٌ تحرُّرية لأنها لا تحذف الخيارات وتتصرَّف بلُطف: إذا كانت لدى الناس رغبةٌ قوية في الاختيار على نحوٍ مختلف، فيمكنهم فعل ذلك. وهذا يعني في نظر المؤلِّفَين أنَّ الدفع يُمثِّل «طريقًا ثالثًا حقيقيًّا» بين اليسار واليمين.

أثبتَت جوانبُ أخرى من مفهوم الدفع أنها مُقنعة أيضًا. إحدى الحُجَج التي دفع بها ثالر وصنستين بقوة هي أنه لا يُوجَد تصميمٌ مُحايد. فيتعيَّن على صُناع السياسات دائمًا اتخاذ قرارٍ بشأن الخيارات التي يجِب تقديمُها أولًا، أو بتحديد ما سيحدُث إذا لم يتَّخذ شخصٌ ما خيارًا على الإطلاق. يمكن القول، بعبارةٍ أخرى، إنهم «مُصمِّمو خيارات» فعلًا. في أي كافتيريا، سيكون هناك دائمًا بعض العناصر في قائمة الطعام أكثر بروزًا من غيرها، ومن ثم يُرجَّح أن يقع عليها الاختيار. لماذا إذن ندع تموضع الخيارات لتُحدِّده الصدفة أو العادة فحسب؟ الاستنتاج المنطقي هنا هو أن الجميع منخرطون في عملية الدفع، شاءوا أم أبَوْا؛ ومن ثَم لا بد أن يكونوا على درايةٍ بما يفعلونه.

تميَّز الدفع أيضًا بأنه بدا رخيصًا. فنظرًا لأنه غالبًا ما كان يركِّز على كيفية ترتيب مجموعةٍ قائمة من الخيارات، كانت هناك إمكانية لتحقيق تغييراتٍ ذات قيمةٍ دون الاستعانة ببرنامج إنفاقٍ كبير. كان كل ما عليك هو إعادة تصميم نموذجٍ موجود أو تغيير توقيتِ حافزٍ ما (على الرغم من أنه حتى هذه الأنواع من التغييرات عادة ما تنطوي على نوعٍ من التكلفة في الحقيقة) فحسب. وكما أشرنا للتو، أطربَ ذلك صُناع السياسات الذين كانوا يُعانون من ضائقةٍ مالية بعد عام ٢٠٠٨.

غير أن التأكيد على أن عمليات الدفع زهيدة التكلفة قد يُثير أيضًا انتقادًا بأنها تعالج القضايا الكبرى بشكلٍ سطحي فحسب. فبما أن الحوافز الاقتصادية والتغييرات التشريعية لم تكن مطروحة على طاولة النقاش، فكيف كان يمكن لعملية الدفع بذل ما يكفي من الجهد الشاق لمعالجة المشكلات المُجتمعية المتغلغلة؟ تدارك ثالر وصنستين بعضًا من هذا النقد بالتخفيف من ثقل ادعاءاتهما. إنهما لا يزعُمان أن عمليات الدفع التي يقترحونها تُمثل حلولًا متكاملة لكل مشكلةٍ يعرضونها. بل إنها مسارات لم يَرتَدْها أحدٌ بعدُ يُمكنها تحقيق تحسيناتٍ ملموسة بتكلفةٍ منخفضة. ويعترف ثالر وصنستين بكلِّ أريحية بأن الدفع لن يكون كافيًا في بعض الأحيان.

أتت جهودُ المؤلِّفَين، لإتاحة أفكارهما وجعلها ذات صلة ومقبولة، بثمارها. فالجمعُ بين الرؤى النفسية المتاحة والأفكار السياسية الصديقة للبيئة الداعية للعودة إلى الطبيعة قد استغل الرغبةَ المتزايدةَ في إيجاد بدائلَ للنماذج الاقتصادية القياسية. وكانت النتيجة أن استمرَّت مبيعاتُ كتاب «الدَّفْعَة» في التزايد؛ إذ بيع أكثر من ٧٥٠ ألف نسخة ونوقِشَ على نطاقٍ واسع في الدوائر السياسية، حيث أثبَت ثالر وصنستين أنهما مُحامِيان مُقنِعان. بل إنه في عام ٢٠٠٩، انضَم صنستين نفسه إلى الحكومة رئيسًا ﻟ «المكتب الأمريكي للمعلومات والشئون التنظيمية»، الذي يُركِّز على التنظيم. وكانت مهمة صنستين هي تطبيق الاقتصاد السلوكي لزيادة فاعلية التنظيم وتقليل الأعباء التي يفرضها.32

جلبَت المكانة البارزة التي نالها كتاب «الدَّفْعَة» انتقاداتٍ أيضًا، وكانت الاتهامات الرئيسة التي وجِّهَت إليه أنَّ الدفع ينطوي على تلاعُب، أو استخفافٍ بعقول الناس وكأنهم أطفال، أو قصور، أو فردانيةٍ مُفرطة، أو قائم على أدلةٍ غير كافية. وسنُناقش هذه الانتقادات في وقتٍ لاحق. ثمَّة عاقبةٌ أخرى هي أن هذا المفهوم قد ثبت في أذهان كثيرٍ من الناس باعتباره الطريقة الوحيدة لتطبيق علم السلوك على السياسة، مما يَعني أن المناهج الأخرى كانت تكافح لجذب الانتباه. وعلى الرغم من نجاحه الهائل، لا يزال كثير من صُناع السياسة لا يعرفون على وجه التحديد كيفية تطبيق هذه الأفكار عمليًّا؛ إذ كانت ثمَّة حاجةٌ لعمليةٍ أكثر تفصيلًا ووضوحًا يمكن دمجُها في الطرق الحالية للقيام بالأشياء. وسنشرح الآن كيف لَبَّت مجموعة من التطوُّرات في المملكة المتحدة هذه الحاجة، وخلقَت بذلك نهجًا جديدًا لتطبيق العلوم السلوكية على السياسة، ألا وهو نهج الرؤى السلوكية.

«مايند سبيس» (MINDSPACE)

أظهر المسئولون في المملكة المتحدة اهتمامًا قويًّا ومُتزايدًا بالعلوم السلوكية منذ منتصف تسعينيات القرن العشرين على الأقل.33 على سبيل المثال، في عام ٢٠٠٤، نشرت «وحدة الاستراتيجيات التابعة لرئيس الوزراء» تقرير «المسئولية الشخصية وتغيير السلوك»، الذي ناقش كيف أن كثيرًا من الأفكار التي قد حددناها للتو قد يكون ذا صلة بمشكلات السياسة.34 غير أن هذا التقرير واجه مشكلةً عندما تحوَّل جزءٌ قصير عن احتمالات أو افتراضات تتعلق بتسعير المواد الغذائية إلى عنوانٍ رئيس في الصفحة الأولى في إحدى الصحف يُصرِّح بأن «وحدة الاستراتيجيات التابعة لرئيس الوزراء تقترح إضافة ضريبة دهون.»35 كان الإنكار والدحض السريع الذي صدر من رئيس الوزراء آنذاك يعني أن الحذَر قد صار يحيط بتطبيق علم السلوك على السياسة لسنواتٍ قادمة.

بحلول عام ٢٠٠٩، بعد نشر كتاب «الدَّفْعَة»، تجدَّد الاهتمام بالعودة إلى هذا الموضوع، بدعم من رئيس الخدمة المدنية، جاس أودونيل. في ذلك العام، كلَّفَت حكومة حزب العمال مؤسَّسة «معهد الحكومة» البحثية بإعداد تقريرٍ رسمي حول كيفية تطبيق علم السلوك عمليًّا. تألف الفريق الذي تكَوَّن من أجل هذه المهمة من ديفيد هالبرن (كبير الباحثين القائمين على كتابة تقرير عام ٢٠٠٤)، وبول دولان (خبير اقتصادي)، وإيفو فيليف (خبير علم النفس المعرفي)، ودومينيك كينج (جرَّاح يعمل في مجال الاقتصاد السلوكي)، وواحد من مؤلِّفَي هذا الكتاب (مايكل الذي كان باحثًا أول بالمعهد في ذلك الوقت).

كان الهدف من التقرير إيصال النطاق الحقيقي للفرص، بطريقةٍ أجبرَت الأشخاص المشغولين على تخصيص وقتٍ لقراءته، وعرْض أمثلة حقيقية لسياساتٍ موثوقةٍ قائمة على علم السلوك. في جوهر التقرير وسيلةٌ بسيطةٌ مساعدة للذاكرة تساعد الناس على تذكُّر النقاط الأساسية، وقد شكَّل تطوير تلك الوسيلة المساعدة للذاكرة تحديًا جوهريًّا. فكان علينا تحديد التأثيرات الأكثر موثوقيةً من عِلم السلوك، مع الاحتفاظ بالقائمة قصيرةً بما يكفي حتى يمكن تذكُّرها بسهولة. وقد حالَفَنا الحظ في تحديد إمكانية استخدام كلمة mind في وقتٍ مبكر. وبعد الكثير من التغيير والتبديل، أصبح المُصطلح المُستخدَم هو «مايند سبيس» (MINDSPACE)؛ حيث يرمز كل حرفٍ إلى تأثير من التأثيرات التي لها تأثيرٌ جوهري على السلوك (انظر شكل ٢-١).36
fig4
شكل ٢-١

ومن الجدير بالذكر أن «مايند سبيس» لم يكن القصد منه أن يكون إطارًا أكاديميًّا شاملًا وافيًا وقائمًا على الاستبعاد المتبادل وتنافي المفاهيم بعضها مع بعض. على سبيل المثال، تُركِّز بعض هذه المفاهيم على العمليات العقلية (الأهمية والتأثر الوجداني)، بينما تُركِّز الأخرى على طرق التأثير على تلك العمليات (الخيارات التلقائية الثابتة، والحوافز). لكنَّنا كنَّا قانِعين بوصولنا لهذا التوازن؛ لأن تركيزنا الأساسي كان مُنصبًّا على التطبيق العملي، حيث كانت هذه الفروق أقلَّ أهمية. على أقل تقدير، أردْنا لصُناع السياسات المُثقلين بالأعباء والمهام أن يستخدموا «مايند سبيس» باعتبارها قائمةً مرجعية للتأكُّد من أنهم أخذوا هذه العوامل المهمة بعين الاعتبار.

أثبت «مايند سبيس» أنه أداةٌ مؤثرة؛ إذ وُصِفَ لاحقًا بأنه «الأساس الفكري للنهج الذي اعتُمِدَ لاحقًا [في المملكة المتحدة ودول أخرى]»37 وأنه «ذو تأثيرٍ على مستوى البرامج».38 وكان له تأثير أيضًا على الأوساط الأكاديمية نفسها، على الرغم من أن هذا لم يكن غرضه الأساسي؛ إذ استُشهِد به أكثر من ألف مرةٍ منذ نشره. ربما يرجع جزء من هذا التأثير إلى سهولة الوصول إلى التقرير واستخدامه المُبتكَر لوسيلةٍ من وسائل مساعدة الذاكرة. ولكنه أيضًا أثبت مرونته؛ لأنه أوصى بأن يكون للعلم السلوكي دورٌ أوسع في السياسة من ذلك الوارد في كتاب «الدَّفْعَة».

كانت النزعة الأبوية التحرُّرية، بمعناها الحرفي الدقيق، تهدف فقط إلى مساعدة الأفراد على تحقيق أهدافهم. ولكن ما هو موقفها من تلك الحالات التي تضُر فيها أهدافُ شخصٍ ما بالآخرين أو المجتمع ككل، والجريمة هي المِثال الواضح في هذا السياق؟ كذلك تجنَّب مفهوم الدفع استبعاد الخيارات أو تغيير الحوافز، ولكن ما الذي استبعده بالفعل؟ عالج «مايند سبيس» هاتَين المشكلتَين من خلال النظر في النطاق الكامِل للسياسات والأدوات السياسية وتأييد «دمج التغيير الثقافي والتنظيمي والفردي». يجب أن يُساعد العلم السلوكي المسئولين على فهم «البُعد السلوكي» لسياساتهم وأفعالهم، بدلًا من مجرد التركيز على تدخلاتٍ جديدة. وبهذا أرسى التقرير الأُسس لنهج الرؤى السلوكية الأوسع، والذي تبلوَر لأول مرة عندما أُنشئ فريق الرؤى السلوكية بعد ستة أشهر.

فريق الرؤى السلوكية

لم تكن الجهات البيروقراطية في المملكة المتحدة أو حزب العمال الحاكم فحسب هم من أصبحوا مُهتمِّين بإمكانيات علم السلوك. فالتزامًا بالوعد الذي يُقدِّمه كتاب «الدَّفْعَة» بتوحيد الأطياف المختلفة، أصبح حزب المحافظين أيضًا مُهتمًّا بالمفهوم أثناء وجوده في المعارضة، وقدَّم ريتشارد ثالر المشورة إلى الحزب في الفترة التي سبقَت الانتخابات العامة في المملكة المتحدة ٢٠١٠.39 وتوافقَت فكرة الدفع على وجه الخصوص مع رغبة حزب يمين الوسط في تجنُّب التشريعات، واستخدام «نظريات من علم النفس الاجتماعي والاقتصاد السلوكي لتحقيق أهداف سياستنا بطريقةٍ أقلَّ إرهاقًا وتطفُّلًا» بدلًا من ذلك.40 وعندما صَعِد الحزب إلى السلطة في عام ٢٠١٠، أُدرج هذا الهدف في اتفاقية الائتلاف الحكومي الرسمية التي حدَّدَت برنامج عمل مُدته خمس سنوات للإدارة الجديدة.
خلال هذه الفترة، تطوَّرَت فكرة إنشاء وحدةٍ مُخصَّصة، في مقر الحكومة، لتطبيق هذه المفاهيم بطريقةٍ مُتسقة ومركَّزة. وكانت النتيجة إنشاء «فريق الرؤى السلوكية» (BIT)، وهو فريقٌ صغير أُنشِئ كجزءٍ من مكتب رئيس الوزراء ومكتب مجلس الوزراء. اختير ديفيد هالبرن رئيسًا للفريق، نظرًا لأدواره السابقة في الحكومة، ويعرض وصفًا مفصَّلًا لنشأة وعمل فريق الرؤى السلوكية في كتابه «داخل وحدة الدَّفْعَة» (٢٠١٥).41 الجزء التالي لم يُخصَّص لإعادة سرد هذ الوصف، بل لبيان كيف حفَّز ظهور فريق الرؤى السلوكية ونموُّه تبنِّي نهج الرؤى السلوكية: وفي رأينا، أدَّت بعض التحديات التي واجهها فريق الرؤى السلوكية في نهاية المطاف إلى تشكيل مجال الرؤى السلوكية بطرقٍ مهمةٍ ودائمة.

السياق الذي نُريد تسليط الضوء عليه هو أن فريق الرؤى السلوكية وُلد في بيئةٍ متشككةٍ نوعًا ما. كان ثمَّة دعمٌ قوي من رئيس الوزراء وكبار المسئولين في المملكة المتحدة. غير أن كثيرًا من المسئولين الحكومِيِّين شكَّكوا في أن الإدارة الجديدة، ببساطة، قد تبنَّت أحدث الأفكار الرائجة ربما على حساب نُهُج أثبتَت جدواها بصورةٍ أكبر. فقد شهد كثير منهم فِرقًا رفيعة المستوى شُكِّلَت في مقر الحكومة لتنفيذ نهجٍ جديدٍ وفشلَت في إنجاز شيءٍ يُذكر. كما كان لدَيهم قلقٌ مُسوَّغ من أن كثيرًا من النتائج التي سيُطبِّقها فريق الرؤى السلوكية قد لا تنجح في السياقات الحكومية الحقيقية، على عكس أدائها في المختبرات.

في هذه الأثناء، كانت قطاعاتٌ كثيرة من وسائل الإعلام متشككة أيضًا في «وحدة الدَّفْع»، كما كان يُطلَق على الفريق عالميًّا (وهذا يعود جزئيًّا إلى سخاء ثالر وصنستين في تقديم دعمهما وخبرتهما إلى فريق الرؤى السلوكية). في البداية، كان يُنظر إلى وحدة الدَّفْع باعتبارها اختراعًا احتياليًّا يستحقُّ بعض السخرية البسيطة، كما ظهَر في دعاباتٍ تسخر من التسمية (الدَّفْعة أو اللكزة)، أو باعتباره محاولةً خبيثة للسيطرة على عقول السكان دون أن يُدركوا ذلك. كما عبَّرَت مجموعة من الأكاديميين عن هذه المخاوف، بالإضافة إلى مخاوفَ أخرى مُتعلقة بتخصُّصاتهم أو وجهات نظرهم السياسية.

شرع فريق الرؤى السلوكية في الرد على هذه المخاوف على مدار عدة سنوات. وعلى حدِّ تعبير أحد المُراقبين الأكاديميين، «في النهاية، نجحَت المقاربة المنطقية والقيمة المُضافة لمثل هذه الأساليب» في كسب دعم المُنتقِدين.42 ولكن في بداياته، نتج عن هذه الشكوك ثلاثةُ قراراتٍ مهمة تخص: حجم فريق الرؤى السلوكية، وبند انتهاء مدة عمله، والتزامه بالتقييم.

أولًا، وُلِد فريق الرؤى السلوكية صغيرًا؛ إذ كان يتكوَّن من سبعة أشخاص فقط، وكان أحد أسباب ذلك الحد من الانتقادات للإنفاق غير المُبرر في وقتٍ شهد تقليصًا في الميزانيات الحكومية. دائمًا كانت هناك نيةٌ بأن يكون لدى فريق الرؤى السلوكية بعضٌ من سمات «معملِ تجارب صغير»؛ مجموعة صغيرة تُطوِّر أفكارًا جذرية داخل منظومةٍ بيروقراطية بتكلفةٍ منخفضة. لكن قلَّة الموارد أدَّت إلى زيادة الحاجة إلى التوصُّل إلى مناهجَ مُبتكرة (بدلًا من مجرد «تبديد الأموال على حلِّ المشكلة»)، وتطلَّبَت من الفريق أيضًا أن يكون متعاونًا ومقنِعًا؛ إذ كان عليه الاعتماد على الشركاء لتنفيذ المشروعات.

ثانيًا، وضع فريق الرؤى السلوكية «بندًا لانتهاء مدة العمل» وكان ينصُّ على أن الفريق مُلزم بإثبات تحقيقه لثلاثة أهداف، وإلا فسينتهي عملُه في الذكرى السنوية الثانية لتأسيسه. كان الهدف من هذه الخطوة جزئيًّا إضفاء إحساسٍ بالأهمية المُلِحة والحماس، بالإضافة إلى خلق مجموعةٍ واضحة من الأهداف. وكانت الأهداف هي: (١) إحداث تغيير في مجالَين رئيسيَّين على الأقل من مجالات السياسة؛ (٢) نشر فهم للنُّهُج السلوكية عَبْر قطاعات الخدمة المدنية في المملكة المتحدة؛ (٣) تحقيق عائدٍ لا يقلُّ عن عشرة أضعاف تكلفة الفريق. وكان كل هدف من هذه الأهداف مؤثِّرًا.

حدَّد الهدف الأول صراحةً الطموح المنشود من الفريق وهو دخول العلوم السلوكية «ساحة معركة المشورة السياسية والاستراتيجية»، بدلًا من مجرد تعديل التنفيذ.43 يجب أن يتغلغل العلم السلوكي في قرارات السياسات الأساسية، كما فعل الاقتصاد، وإلا فلن يكون سوى هامش في التاريخ. يجب أن يكون الهدف هو تعظيم الفوائد التي تعود على المجتمع، و«الدفع نحو الأفضل» على حدِّ قول ريتشارد ثالر.

أكَّد الهدف الثاني على أهمية رؤية الرؤى السلوكية باعتباره نهجًا، وليس مجرد مجموعة من الأفكار الشائقة. علاوةً على ذلك، ينبغي مساعدة أي كيان — أفراد ومؤسسات — لتطبيق هذا النهج بنفسه، لا أن يكون حكرًا على الخبراء وحدهم. وكانت النتيجة التزامًا بالانفتاح على الفكرة؛ إذ رُوِّج للتقارير ومجموعات الأدوات الإرشادية على نطاقٍ واسع، وتمَّ توفير الوصول إلى نتائج المشروعات دون مقابل.

كان الهدف الثالث يعني أن الفريق غالبًا ما كان يُركِّز على مشروعاتٍ أقل شهرة أو بريقًا، ومع ذلك كان لها تأثيرٌ ماليٌّ كبير؛ ومن ثَم ثَمَّنَها المسئولون. تميَّزَت هذه المشروعات أيضًا بأنها غالبًا ما تكون غير مُثيرة للجدل كثيرًا، وهو ما طمأن النقاد القلقِين بشأن الأنشطة المُحتمَلة للفريق. وكثيرًا ما تمكَّنوا من الاعتماد على مجموعاتٍ كبيرة وموثوقة من البيانات، مما كان يسمح بقياس النتائج بسهولة وموثوقية. كانت هذه العوامل تعني وجود «أهدافٍ سريعة المنال» أفرزَت «مكاسبَ سريعة». ومن الأمثلة الجيدة على ذلك النشاط المكثف لفريق الرؤى السلوكي لتحسين الامتثال الضريبي من خلال إعادة صياغة رسائل التذكير المُرسَلة إلى الأشخاص الذين لم يدفعوا الضرائب في الموعد المحدَّد. ومن خلال الدخول على النظام، وتعديل العمليات، واستخدام مصادر البيانات الحالية، أظهر فريق الرؤى السلوكية أنه يمكن جمع إيرادات بمئات الملايين من الجنيهات بتكلفةٍ منخفضة.

يتَّصل الهدف الثالث بنقطةٍ أخيرةٍ أشمل. لقد استجاب فريق الرؤى السلوكية أيضًا للشكوك بالتأكد من تقييم تدخُّلاته باستخدام «المعيار الذهبي» للتجارب العشوائية المضبوطة، التي ناقشناها سابقًا وسنتناولها بالتفصيل في الفصل الرابع. كان استخدام التجارب العشوائية المضبوطة يعني إمكانية تحديد نتائجِ مشروعٍ ما بشكلٍ موثوق، ومقارنة أي فوائد بالتكاليف المتكبَّدة (والتي غالبًا ما كانت قليلة). وبعد ذلك، يُمكن اتخاذ قرارٍ بشأن اعتماد التغيير على نطاقٍ أوسع، في عملية أطلق عليها فريق الرؤى السلوكية «اختبِر، تعلَّم، تكيَّف».44 وعلى الرغم من أنَّ كثيرًا من صُنَّاع السياسات لم يُصادفوا هذا النوع من النهج التجريبي من قبلُ، فقد خاطبَتْهم نتائج التجربة بلغة تحليل التكلِفة والعائد المألوفة التي تعلَّموها من الاقتصاديين. وبدأَت القدرة على إظهار حجم الاختلاف الذي أحدثَه التغيير بصورةٍ مُقنعة في زيادة مصداقية نهج الرؤى السلوكية.

ولَّدَت المصداقية المتزايدة اهتمامًا متزايدًا. وبالتدريج، بدأ صُناع السياسات والمسئولون في التوجُّه إلى فريق الرؤى السلوكية بمشروعاتٍ محتملة، وليس العكس. وأصبحَت تلبية هذا الطلب مع الاستمرار في الابتكار هدفًا يصعب تلبيته من داخل الحكومة؛ لذا توسَّع فريق الرؤى السلوكية في عام ٢٠١٤ وانبثقَت منه شركةٌ ذات أهدافٍ اجتماعية. لا تزال المؤسسة مملوكةً جزئيًّا للحكومة البريطانية، التي تمتلك حصةً مُتساوية مع جمعية «نيستا» الخيرية والموظفين أنفسهم. ومن شركةٍ منبثقة تضم أربعة عشر موظفًا، نمَت المؤسسة بحلول عام ٢٠٢٠ لتضُم نحو ٢٠٠ موظف عَبْر سبعةِ مكاتبَ على مستوى العالم، وأجرت أكثر من ٥٠٠ تجربةٍ عشوائيةٍ منضبطة.

fig5
شكل ٢-٢
إيجازًا: صاغ إنشاء فريق الرؤى السلوكية مصطلح «الرؤى السلوكية»، ثم طوَّرَت أنشطته مجموعةً من الممارسات تقوم على هذا المصطلح (انظر الفصل الرابع). ولكن كانت القصة ستصير ذات أهميةٍ محدودة إذا انتهت عند هذا الحد. فقد بدأ مفهوم ونهج الرؤى السلوكية في الانتشار إلى الحكومات والمؤسسات الأخرى في جميع أنحاء العالم. ويقدِّم شكل (٢-٢) فكرةً تقريبية عن تزايد الاهتمام بهذا النهج من خلال عرض الاتجاه في عمليات البحث على محرك جوجل عن مصطلح «الرؤى السلوكية» (behavioral insights بالتهجئة البريطانية). بحلول عام ٢٠١٩، تمكَّن المراقبون الأكاديميون من ملاحظة أن «اتجاهًا جديدًا يتمثل في «الرؤى السلوكية»» قد دخل إلى مشهد السياسة العالمية.45 وانتهى عمل فريق الرؤى السلوكية بأن أصبح «نموذجًا لإنشاء وحداتٍ مماثلة في أماكنَ أخرى»46 وأصبح «مثالًا نموذجيًّا لترجمة الرؤى السلوكية إلى سياسةٍ عامة».47

الرؤى السلوكية باعتبارها حركة

تطوَّرَت حركة الرؤى السلوكية في عدة موجاتٍ مُتداخلة؛ محاكاة أولية للنموذج الذي وضعه فريق الرؤى السلوكية؛ تبنِّي المنظمات المُتعددة الأطراف للنموذج والترويج له؛ ثم اعتماده من قبل القطاع الخاص؛ وأخيرًا نمو «بيئة» أوسع تشمل الأوساط الأكاديمية والأفراد.

تألفَت إحدى هذه الموجات من إنشاء «فرق/وحدات للرؤى السلوكية» على غرار فريق الرؤى السلوكية؛ مجموعة صغيرة ماهرة تنشأ داخل القطاع العام، تُجري تجارب وتُحاول التأثير على السياسة. أصبحَت هذه المجموعات «النموذج التنظيمي الأكثر نموذجية» لتطبيق نهج الرؤى السلوكية داخل الحكومة.48 على سبيل المثال، شكَّلَت الإدارات المختلفة داخل حكومة المملكة المتحدة (بما في ذلك إدارة الدخل الحكومي، والعمل والمعاشات التقاعدية، والصحة، والتعليم) فرقَها الخاصة، التي بدأَت في الاندماج داخل مجتمعٍ نسَّق نفسه من خلال مجموعة عمل.
في الوقت نفسه، بدأَت نتائجُ فريق الرؤى السلوكية في جذب انتباه الحكومات الأخرى، التي بدَورها بدأَت في تشكيل فرقها المتخصِّصة. وكان من الأمثلة البارزة على ذلك الولايات المتحدة التي بدأَت في عام ٢٠١٣ في استكشاف إمكانية إنشاء فريقٍ جديد، ألا وهو «فريق العلوم الاجتماعية والسلوكية» (SBST)، وذلك وسط تكتُّمٍ شديد. كان للفريق قاعدتان، واحدة في البيت الأبيض («مكتب سياسات العلوم والتكنولوجيا») والأخرى في «إدارة الخدمات الحكومية» («مكتب علوم التقييم»). ركَّز الفريق بصورةٍ خاصة على التدخُّلات المنخفضة التكلفة والقابلة للقياس مثل زيادة نسب الحصول على اللقاحات، ورفع معدَّلات مُدخرات التقاعد، وتعزيز الالتحاق بالجامعات.49 ولكنه تعامل أيضًا مع تحدياتٍ سياسيةٍ أعقد، مثل تلوُّث مياه الشرب في مدينة فلينت بولاية مشيجان.

انعكس نجاح فريق العلوم الاجتماعية والسلوكية في إصدار الأمر التنفيذي رقم ١٣٧٠٧ في عام ٢٠١٥، والذي ينُص على «استخدام نهج الرؤى السلوكية لخدمة الشعب الأمريكي بشكلٍ أفضل». فاستنادًا إلى أنه «من خلال تحسين فاعلية وكفاءة الحكومة، يُمكن لرؤى العلوم السلوكية أن تدعَم مجموعةً من الأولويات الوطنية»، وجَّه هذا الأمرُ التنفيذي الإداراتِ والوكالاتِ لتطبيق هذه الرؤى عمليًّا، وتوظيف خبراء في علم السلوك. تم حلُّ الفريق الخاص بالبيت الأبيض بعد تنصيب دونالد ترامب رئيسًا. غير أن مكتب علوم التقييم لا يزال يواصل عمله في إدارة التجارب العشوائية المضبوطة المستندة إلى علم السلوك، مما أظهر الحكمة من تقسيم الفريق في الأصل بين قاعدةٍ سياسية وقاعدةٍ إدارية.

وعلى نحوٍ تقريبي للغاية، استمرت هذه الموجة الأولى من تبنِّي النهج حتى حوالي عام ٢٠١٤، حين أنشأَت ٥١ دولة على الأقل برنامجًا مُوجهًا مركزيًّا للرؤى السلوكية.50 ثم أعطت المنظماتُ البارزة المُتعددة الأطراف هذا النهج دفعةً أخرى. فقد دعمَت التقارير الرئيسية الصادرة عن البنك الدولي (٢٠١٥) ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (٢٠١٥ و٢٠١٧) والمفوضية الأوروبية (٢٠١٦) والأمم المتحدة (٢٠١٧) الرؤى السلوكية باعتباره نهجًا جديدًا ذا أهمية، بل ذهب البعض إلى حدِّ وصفه بأنه «نقلةٌ نوعية» في الإدارة العامة.51 وقد دُعِمَت هذه التقارير بالأفعال. فقد أنشأَت كل منظمةٍ من هذه المنظمات وحداتها الخاصة أو فرقًا مُخصَّصة لتطبيق نهج الرؤى السلوكية للنهوض بالأهداف المؤسَّسية (على سبيل المثال، «وحدة الرؤية المستقبلية والسلوكية» التابعة للمفوضية الأوروبية). كان التركيز على الأدلة والتقييم في مجال الرؤى السلوكية جذابًا بصورةٍ واضحة لهذه الجهات الفاعلة، التي توحَّدَت بدافعٍ تكنوقراطي لتحسين أسلوب عمل الحكومة.
أضفى الدعم من هذه النوعيات من المنظمات مزيدًا من الشرعية على الرؤى السلوكية، جاعلًا النهج يبدو أقرب إلى ممارسةٍ واعدة يجب على أي حكومةٍ تجربتُه ولو مرةً واحدة على الأقل. ومن ثَم التَحَق المزيد من البلدان بالرَّكب، وآخرها الهند، التي بدأَت في إنشاء «وحدة دفع» مركزية في سبتمبر ٢٠١٩. ووفقًا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، فإن ٢٠٢ من الكيانات العامَّة حول العالم كانت تطبِّق الرؤى السلوكية على عملها بحلول نوفمبر ٢٠١٨. ونتيجةً لذلك، «لم يعُد من الممكن اعتبار الرؤى السلوكية هجمةً عصرية قصيرة المدى تتبنَّاها الهيئات العامة. فقد ترسَّخَت تلك الرؤي بطرقٍ كثيرة عَبْر العديد من البلدان حول العالَم، وعَبْر مجموعةٍ واسعةٍ من القطاعات ومجالات السياسة.»52

عند النظر إلى نمو هذه الوحدات، تُوجَد بعض النقاط الجديرة بالذكر. لم يكن هذا اتجاهًا مقتصرًا على البلدان المُتقدمة اقتصاديًّا فحسب؛ فقد تبنَّى كثيرٌ من البلدان النامية في أفريقيا وأمريكا الجنوبية وآسيا هذا النهج. وعلى الرغم من أن نموذج فريق الرؤى السلوكية لوحدةٍ مركزيةٍ رائدة ربما كان الأكثر انتشارًا، فقد جُرِّب كثير من الهياكل الأخرى. على سبيل المثال، لم تؤِّسس هولندا كيانًا مركزيًّا أبدًا، بل قامت بتوزيع الخبراء الذين جُمِّعوا في شبكات المعرفة ومجموعات العمل. ولم تكن الحكومات الوطنية وحدَها هي التي أجرت هذه التغييرات؛ فقد أُنشِئَت أيضًا فرقٌ على المستويات المحلية والإقليمية ودون الوطنية، مثل «مجموعة الرؤى السلوكية» في مقاطعة كولومبيا البريطانية بكندا.

أخيرًا، لم تكن كل هذه المبادرات ناجحة. فقد كانت هناك حاجةٌ إلى كثير من العناصر المختلفة، بالإضافة إلى بعض الحظ. كان الدعم السياسي عاملًا حاسمًا، حتى لو وفَّر «غطاءً» فحسب، وليس تشجيعًا فعَّالًا. وربما كان اقتناع القادة الإداريين بالفكرة أكثر أهمية. فأعضاء الفريق كانوا بحاجة إلى امتلاك الخبرة الفنية، من حيث الإلمام بالعلوم السلوكية وتقنيات التقييم. وفي الوقت نفسه، كانوا يجب أن يكونوا مُقنِعين، وعملِيِّين، ويفهمون كيفية إنجاز الأمور وتنفيذها في الأنظمة البيروقراطية. وغالبًا ما كان من الصعب العثور على المسئولين الذين يمتلِكون المعرفة اللازمة والأفضلية العملية في الوقت ذاته.

ظهور «بيئة حاضنة» لنهج الرؤى السلوكية

في ظاهر الأمر، كان القطاع الخاص أبطأ في تبنِّي نهج الرؤى السلوكية. والحقيقة هي أن المنظمات التجارية كانت تَستخدِم جوانبَ مختلفة من نهج الرؤى السلوكية؛ ولكنهم فقط لم يجنُوا ثمار الجمع بينها.

فمن ناحية، كان ثمَّة تاريخٌ طويل من الشركات التي تستخدِم علم النفس لتسويق منتجاتها.53 وفي عام ١٩٥٧، ذهب كتاب فانس باكارد «مُقْنِعون خفيُّون»، الذي حَظِي بشعبيةٍ كبيرة، إلى أن الشركات كانت تستخدم التلاعُب النفسي على نطاقٍ واسع لزيادة المبيعات (على الرغم من أن نهجهم كان مختلفًا تمامًا عن نظريات المعالجة المزدوجة). ومن ناحيةٍ أخرى، لم يكن القطاع الخاص غريبًا عن إجراء تجاربَ عشوائية أو، كما يُسمُّونها غالبًا، «اختبارات أ/ب». فقد كانت التجارب مع المراسلات المباشرة مُستمرة منذ عقود؛ إذ في عام ٢٠٠٠، أجرت شركة «كابيتال وان» للبطاقات الائتمانية ٦٠ ألف تجربةٍ عشوائيةٍ منضبطة.54 (ولكننا نحتاج أيضًا إلى توخِّي الحذَر حتى لا نُبالغ في تقدير انتشار اختبار أ/ب في القطاع الخاص. على سبيل المثال، تُظهِر دراسةٌ حديثة أن ٨ إلى ١٧ في المائة فقط من الشركات الناشئة تستخدم تقنية اختبار أ/ب).55 المشكلة هي أن هاتَين الممارستَين ظلتا منفصلتَين في كثيرٍ من الأحيان. لم تُختبَر تطبيقات علم النفس دائمًا بشكلٍ قوي، في حين أن الاختبارات القوية غالبًا ما كانت تفتقر إلى البنية والنظرية، وبدلًا من ذلك تدخُل في تجاربَ عشوائية وترى قَدْر النجاح الذي ستُصيبه. وكانت النتيجة أنْ كان مِن الصعب البناء على النتائج السابقة على نحوٍ مُتَّسقٍ وثابت.

عندما بدأ القطاع الخاص في الالتفات إلى نهج الرؤى السلوكية — لا سيما التي رُوِّجَ لها في كتبٍ مثل «الدَّفْعَة» — صارت مزايا عديدة له واضحةً ومفهومة. فقد قدَّمَت نظرياتُ العمليات المزدوجة إطارًا تنظيميًّا كان بسيطًا بما يكفي لاستخدامه وفهمه بسهولة، مع توفير توقعاتٍ مُفيدة بشأن السلوك البشري في الوقت ذاته. كانت التجارب مُقنعة و«علمية»، ولكنها قدَّمَت أيضًا أفكارًا مثيرةً للاهتمام وغيرَ متوقَّعة حول «ما يُحرِّك الناس». وكان التحوُّل إلى البيئات الرقمية يعني أن الشركات لديها مجالاتٌ جديدة وسريعة التوسُّع لإجراء اختباراتها الخاصة، واكتشاف العائد المُحتمَل على الاستثمار.

كانت النتيجة طفرةً ضخمة في عدد الشركات التي تُقدِّم رؤًى سلوكية للأعمال. وكانت هذه الشركات إما شركاتٍ استشاريةً صغيرة مُتخصِّصة أو أقسامًا وإداراتٍ جديدة داخل شركاتٍ قائمة. وبالمقارنة مع فِرَق القطاع العام، مالت هذه الشركات إلى التركيز بصورةٍ أكبر على «الجمع بين الفهم العلمي للسلوك وقوة الإبداع»، على حدِّ ما ورد في صيغة استراتيجيةِ ممارسة «التغيير» التي تتبعها «وكالة أوجليفي آند ماذر أوجليفي». وقرَّرَت بعض الشركات الكبيرة — مثل «إيه آي جي» (AIG) وجوجل وأمازون وولمارت وجونسون آند جونسون — إنشاء فرقٍ مُخصَّصة لها. وقامت شركاتٌ أخرى بتعيين «كبير لمسئولي السلوكية» للتأكُّد من أن الأدلة المتعلقة بالسلوك البشري قد أُدْمِجَت في المحادثات الاستراتيجية على أعلى مستوًى، وليست مجرد فكرةٍ ثانويةٍ مهمَلة.
تشير هذه النقطة الأخيرة إلى أن الشركات لم تكن تسعى فقط إلى تعظيم المبيعات. فقد رأَوا أيضًا إمكانية استخدام نهج الرؤى السلوكية لإعادة تشكيل الطريقة التي كانت تعمل بها المؤسسات. فكان بالإمكان إعادة تصميم العمليات والمعايير لمساعدة الموظفين على التمتُّع بصحةٍ أفضل والعمل بكفاءةٍ أكبر.56 وفي غرف اجتماعات مجالس الإدارات، لجأ المديرون التنفيذيون إلى العلوم السلوكية لتقليل التمييز على أساس العرق والجنس،57 بينما روَّجَت شركات الاستشارات الإدارية لفوائد «الاستراتيجية السلوكية» التي تتجنَّب الانحيازات المعرفية الشائعة. كذلك أدركَت الشركاتُ الحاجة إلى «الدفع توجيهًا نحو الأفضل»؛ نظرًا لأن الأهداف العامة والخاصة تتوافَق في بعض الأحيان. على سبيل المثال، اعتمد الطيارون في شركة «فيرجن أتلانتيك» إجراءاتِ طيرانٍ أكثر كفاءةً في استهلاك الوقود بعد أن طوَّر الأكاديميون ملاحظاتٍ تقييميةً سريعة وموجَّهة وتدخُّلاتٍ للرصد والمراقبة. وفَّرَت الشركة المال وزادت من الرضا الوظيفي للموظفين، بل منعَت أيضًا ما يقرب من ٢٥ ألف طنٍّ من ثاني أكسيد الكربون من دخول الغلاف الجوي.58

يمكن توجيهُ كثيرٍ من الانتقادات هنا بلا شك. ففي كثيرٍ من الأحيان، لم يكن ممارسو القطاع الخاص يخضعون للمستوى نفسه من التدقيق مثل العاملين في القطاع العام، حيث تكون دوافع الشفافية أضعف. ويعترف الكثيرون في مجال الإعلان والتسويق بأنهم كافحوا لغرس ثقافةٍ تقوم على التقييم القوي والدقيق لسلوكيات المُستهلك. وبعض هذه السلوكيات التي يتم تشجيعها قد يكون لها سلبياتٌ للأفراد المستهدَفين.

نوقشَت مثل هذه القضايا المتعلقة بهذا الموضوع على نحوٍ متزايد في شبكات الممارسين والمفكرين. وبدأ الأكاديميون في الانخراط بصورةٍ أكبر في القضايا العملية والسياسية التي نشأَت من خلال تطبيق العلوم السلوكية على أرض الواقع، بالإضافة إلى تطوير هذا العلم نفسه. أنشأَت جامعة هارفارد «مجموعة الرؤى السلوكية» لخلق خبراء المستقبل، وخلقَت «جمعية العلوم والسياسات السلوكية» الجديدة حلقةَ اتصالٍ بين الجمعيات الحالية، وفعلَت سلسلةٌ من المؤتمرات الدولية الجديدة الشيءَ نفسه؛ وأُنْشِئَت دورياتٌ مثل «بيهافيورال بابليك بوليسي» ودورية «جورنال أوف بيهافيورال بابليك أدمنيستريشن» لرصد هذه التغييرات ونقدِها.

ثمَّة مجموعةٌ أخيرة في هذه البيئة الناشئة للرؤى السلوكية لا يُمكن إهمالها، ألا وهي: غير الخبراء. كما ذكرنا في سياق التوعية الغذائية، يُمكن للأفراد والمجموعات غير الرسمية أخذ النظريات والرؤى من العلوم السلوكية واستخدامها لتحقيق أهدافهم الخاصة على نحوٍ أكثر فاعلية.59 على سبيل المثال، يشعُر كثيرٌ من الناس بالقلق قبل أداء مهمةٍ عليهم أداؤها، مثل التحدُّث أمام جمهور، أو المشاركة في اجتماعٍ مُهم. يُجرِّب معظم الناس استراتيجيةً لمحاولة تهدئة أنفسهم كي يتعاملوا مع هذا القلق. ولكن تُوجَد طريقةٌ بديلة تتمثَّل في إعادة تفسير هذا القلق على أنه إثارة وحماس. ووجَدَت إحدى الدراسات أنه عندما يستخدم الناس هذا التكتيك، فإنهم يؤدُّون أداءً أفضل في المهام المُسبِّبة للقلق.60 وهذا هو نوع التكتيك المُفيد السهل، والمستنِد إلى علم السلوك، الذي يمكن للناس تطبيقه في حياتهم اليومية.

لقد تتبعنا الآن تاريخ الرؤى السلوكية، بدايةً من تجميع أُسسها الأكاديمية وصولًا إلى نمو بيئةٍ تضُمُّ العديد من الجهات الفاعلة والأولويات والفُرَص والجهود. ولكن في أي تاريخ، يعني وجود دافع للحفاظ على القصة قائمةً ومستمرةً أن ثمَّة أشياءَ غائبة. في الفصل التالي، نريد الإسهاب في بعض الأمثلة التي نعتقد أنها تُوضِّح ماهية نهج الرؤى السلوكية، وما يمكن أن يفعله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤