الفصل الثالث

أمثلة على التطبيق العملي لنهج الرؤى السلوكية

الآن وبعد أن عرَّفنا نهج الرؤى السلوكية ورصدنا تاريخه، يستهدف هذا الفصل تقديم فكرة أفضل عن تطبيقه على مشاكل العالم الواقعي. وللقيام بذلك، نُقدِّم بعضًا من الأمثلة المختصرة التي تختلف حسب المكان والمشكلة. ونسعى إلى مقارنة كل مثالٍ بالنهج الأكثر شيوعًا لحل هذه الأنواع من المشكلات.

نُظِّمَت الأمثلة من خلال إطارٍ بسيط لأنواعٍ مختلفة من التدخلات. يبدأ هذا الإطار بالفئات الأساسية الثلاث للتدخُّل التي ورَدَت في شكل (١-٢): القواعد والحوافز والمعلومات. ونقدِّم أمثلةً على كيفية تعزيز كلٍّ من هذه التدخلات من خلال الرؤى السلوكية. ونُضيف إلى هذه الفئات فئتَين أخريَين مُهمتَين ولكن يتم تجاهلهما في كثيرٍ من الأحيان، ألا وهما التدخلات التي تُغيِّر العمليات وتلك التي تُغيِّر بيئة اتخاذ القرار. إن هذا الإطار ليس شاملًا، ولكنَّنا نعتقد أنه مفيد.

نناقش هنا، وفي مواضعَ أخرى من الكتاب، كثيرًا من المفاهيم داخل نطاق نهج الرؤى السلوكية (على سبيل المثال، الخيارات التلقائية الثابتة، والمعايير الاجتماعية، وتأثيرات التأطير). ولكننا لن نُغَطي كلَّ واحدةٍ من هذه الأفكار وتأثيراتها على السلوك؛ فهذا الدليل ليس شاملًا، ولكنه يقدِّم الأساسيات. ونُقدِّم تعريفًا للعديد من هذه الأفكار في مسرد المصطلحات.

القواعد: الخيارات التلقائية الصديقة للبيئة

يُعَد التحول إلى خطةٍ للطاقة المنزلية صديقةٍ للبيئة أكثر، إحدى الطرق التي يمكن للكثيرين منا من خلالها تقليل انبعاثات الكربون. عادةً ما تتضمَّن النُّهُج التقليدية لزيادة التحوُّل إلى الطاقة النظيفة تزويدَنا بمعلوماتٍ أكثر أو معلوماتٍ مختلفة للتأثير على قرارنا. ورغم ذلك لا تزال معدَّلات التحوُّل إلى الطاقة النظيفة منخفضة؛ إذ يمكن أن يكون سوق الطاقة صعبًا من حيث القدرة الشرائية، والمتاعب الملموسة الناجمة عن القيام بذلك عالية. في ألمانيا، في أواخر التسعينيات، وسَّعَت إحدى شركات الطاقة خِدماتها لتشمل ثلاث خطط؛ الخطة الأرخص والأقل حفاظًا على البيئة؛ والخطة المتوسطة السعر ولكنها أكثر حفاظًا على البيئة؛ والخطة الأغلى ثمنًا ولكنها الأفضل من حيث الحفاظ على البيئة. ونظرًا لأن العملاء كانوا مُجبرَين على اختيار خطة من الثلاث، كانت نقطة البداية — وهي الخيار التلقائي المُحدَّد مسبقًا — هي الخيار المتوسط السعر. وكان على العملاء الردُّ على الخطاب المُرسَل إليهم بشأن الخيارات المتاحة إذا أرادوا التحوُّل إلى أيٍّ من الخطتَين الأُخريَين.

لتسليط الضوء على تغيير القاعدة، أرسِلَت ١٥٠ ألف رسالةٍ بالبريد لإخطار العملاء بأنه يُمكنهم اختيار أيٍّ من الخطط الثلاث، ولكن إذا لم يختاروا أيًّا منها سيظلُّون على خيار السعر المتوسط المُحدَّد مسبقًا. وكما قد تتوقَّع مما قرأتَه للتو، جاءت النتائج مُذهلة، فبعد شهرَين، تمسك ٩٤ في المائة من العملاء بالخطة التلقائية،1 وهو ما أثَّر على السوق وحَوَّل مُعظمه تلقائيًّا إلى بديلٍ أكثر حفاظًا على البيئة بين عشية وضحاها. فقد اختار ٤٫٣ في المائة فقط الخيار الأرخص، واختار واحد في المائة الخطة الأكثر حفاظًا على البيئة ولكن الأكثر تكلفة، وتحول ٠٫٧ في المائة من العملاء إلى مُورِّدٍ آخر. ليس المستهلكون وحدهم هم من يتأثرون بالخيارات التلقائية؛ فثمانون في المائة من البلدان تقبل بند محكمة العدل الدولية الخاص بالاحتكام إلى المعاهدات عندما يكون هذا هو الخيار التلقائي، مقارنةً بخمسةٍ في المائة فقط عندما يتعيَّن على الدولة أن تختار قبوله بصورةٍ فاعلة.2
لا يكون تغيير القوانين أو القواعد على مستوى النظام أمرًا مُمكنًا دائمًا. ولكن يمكننا أيضًا محاولة تحسين القواعد الأساسية التي يستخدمها الأفراد لاتخاذ القرارات. على سبيل المثال، أدَّى تعليم عملاء بطاقات الائتمان التخلي عن عمليات اتخاذ القرار الحالية التي يستخدمونها، واستبدالها بقاعدةٍ عامةٍ بسيطة — ألا وهي استخدام الدفع نقدًا إذا كانت عملية الشراء بأقل من عشرين دولارًا — إلى انخفاض متوسط قدره ١٠٤ دولارات في الدَّين المتجدِّد بعد ستة أشهر مقارنة بمجموعةٍ ضابطة.3 أو يمكن تعليم روَّاد الأعمال قواعد أساسية بسيطة وموثوقة لمساعدتهم على اتباع ممارساتٍ محاسبيةٍ أساسية، مثل حساب أرباح الشركات عن طريق الفصل المادي بين حسابات الشركات والحسابات الشخصية في أدراجٍ مُخصَّصة لكلٍّ منها، مع وضع قاعدةٍ بسيطة تتعلق بنقل الأموال بين الاثنَين. وقد وجَدَت إحدى التجارب العشوائية المضبوطة أن هذا النهج أدَّى إلى تحسين الإدارة المالية بحوالي عشر نقاطٍ مئوية، مقارنةً بالتدريب المحاسبي القياسي.4

الحوافز: عندما تكون المكافآت غير المالية أفضل من المال

في عام ٢٠١٠، كان معدَّل انتشار فيروس نقص المناعة البشرية بين البالغين في زامبيا ١٤٫٣ في المائة، وهو من أعلى المعدلات في العالم، ولكن الطلب على وسائل منع الحمل الوقائية كان منخفضًا. ولتشجيع استخدام وسائل منع الحمل، قام الباحثون بقيادة نافا أشرف بتعيين ناقلين مؤثِّرين — مصفِّفي الشعر والحلَّاقين على وجه التحديد — لبيع الواقيات الأنثوية. ونظرًا لأن الموارد عادةً ما تكون محدودة، كان من المُهم اختبار مدى ضرورة المكافآت المالية لضمان مشاركة الناقِلين أو ما إذا كانت الحوافز غير المالية قد تكفي. اختير مُصفِّفو الشعر عشوائيًّا للحصول على واحدٍ مما يلي: عمولة ٩٠٪ على المبيعات؛ عمولة ١٠ في المائة؛ حافزٍ غير مالي يتكون من مخطَّط عام يبيِّن التقدُّم المحرَز ويوثِّق المبيعات ويؤكِّد على مساهمة المبيعات في تحقيق الهدف الصحي العام؛ أو «عقد» تطوعي بدون مكافأة (المجموعة الضابطة). ثم رُصِدَت مبيعات المجموعات للواقي الأنثوي.

في حين أن الحوافز المالية لم تكن أكثر فاعليةً عمومًا من المجموعة الضابطة، فقد باع البائعون الذين لديهم مخطَّط التقدُّم المُحرَز على مدار العام أكثر من ضعف عدد الواقيات مقارنةً بأي مجموعةٍ أخرى. وظلَّت هذه النتائج صحيحةً لمدة عام على الأقل؛ لذا فهي ليست مدفوعة بحداثة التجربة فقط. فقد سمَح تصميم التجربة للباحثين بإظهار أن مُخطَّط التقدُّم المحرَز قد نجح عن طريق زيادة الجهد الذي يبذله الناقلون وليس بزيادة الطلَب من جانب المستهلكين. لو كانت الحوافز التي قُدِّمَت إلى كل مصفِّفي الشعر غير مالية، لباعوا ٢٢٤٩٦ واقيًا، بزيادة ١١٨١٠ واقيات مما لو كانوا جميعهم متطوعين.5 يتَّضح من نتائج هذه التجربة أن تطبيق نهج الرؤى السلوكية على الحوافز — مثل دمج الإشارات العامة للنجاح ومخطَّطات التقدُّم الموجهة نحو النتائج — يمكن أن يزيد الحافز في البيئات المنخفضة الموارد، بل إنه يتفوَّق على الحوافز المالية التقليدية.
للحوافز المالية تأثيرٌ قوي على السلوك بلا شك. ولكن كما أشرنا في الفصل الأول، يمكن أيضًا استخدام الرؤى السلوكية لتصميم الحوافز بطرقٍ أكثر فاعلية. على سبيل المثال، في إحدى الدراسات، أدى إعطاء مكافآتٍ مالية لقاء النتائج التي حقَّقَتها المجموعات إلى فقدانِ وزنٍ صحي بنسبةٍ أكبر مقارنةً بمكافأة الأداء الفردي؛ إذ أسهم الحافز الإضافي المُتمثل في عدم خذلان زميل في الفريق في تعزيز الوعد بتحقيق مكاسبَ مالية.6

المعلومات: تأثير القائل وما يقوله وكيف يقوله

يتعلق كثيرٌ من أشهَر الأمثلة المعروفة للرؤى السلوكية بتغيير تأطير المعلومات المتعلقة بقرارٍ ما. على سبيل المثال، أجرى كثيرٌ من السلطات الضريبية حول العالم تجارب تظهر أن تغيير طريقة عرض النماذج أو رسائل التذكير يُمكن أن يزيد من معدل الامتثال الضريبي إلى حدٍّ كبير. قد تتضمَّن هذه التغييرات إدخال معلوماتٍ جديدة، مثل الإشارة إلى أن المُتلقي هو من بين قلةٍ من الأشخاص الذين لم يُسدِّدوا الضرائب، أو يمكن لهذه التغييرات التركيز على توضيح المعلومات الموجودة بصورةٍ أكبر، مثل توضيح ما هو مطلوب بالضبط من الشخص القيام به في موقفٍ معين.7 وبالرغم من أهمية هذا النوع من التأثيرات العامة لرسالةٍ ما على مجموعةٍ سكانية بأكملها، يجِب أن نُفكر أيضًا في كيفية تفاعُل مجموعاتٍ فرعية بعينها مع ذلك. على سبيل المثال، يُظهِر البحث الذي أجرَتْه إليزابيث لينوس أن إعلانات الوظائف التي تُسلِّط الضوء على الطبيعة الصعبة للعمل الشرطي أكثر فاعليةً في جذب المُتقدِّمين للعمل بالشرطة من تلك التي تتبع النهج الأكثر تقليدية الذي يُركِّز على حماية وخدمة العامة. ولكن بالإضافة إلى هذا الاختلاف الكُلي في الفاعلية، تكون رسالة «الصعوبة» أكثر فاعليةً ثلاثَ مراتٍ بالنسبة للمُتقدِّمين من الملوَّنين والنساء.8 وسنتحدَّث أكثر عن هذه النقطة في الفصل الأخير.
ومثلما يمكن أن يؤثِّر تغييرُ طريقة عرض الرسالة على النتائج، ينطبق الأمر نفسه على تغيير الناقِل الذي ينقلها. على سبيل المثال، قارنَت سلسلة من الدراسات في الولايات المتحدة تأثير رسالةٍ تحفيزية من مُستفيدٍ من جهود أحد العمال بالرسالة نفسها من مدير الفريق. ووجدَت هذه الدراسات أنه عند التأكيد على التأثير الإيجابي لمهمةٍ ما، كان تأثير رسائل المُستفيدين أكثر فاعليةً من القادة عندما يتعلق الأمر بتحسين الإنتاجية والأداء.9 وقد وُجِدَت تأثيراتٌ مُماثلة للناقلين في الأعمال الخيرية،10 والإقلاع عن التدخين،11 وتشجيع التوافق مع أحكام المحكمة.12 أخيرًا، يكون لتوقيت الرسالة أهميةٌ أكبر مما نُدرك في كثيرٍ من الأحيان. فمطالبة السائقين بارتداء أحزمة الأمان قبل القيادة مباشرةً يزيد من استخدامها، بينما تذكيرهم قبل القيادة بخمس دقائق لا يؤدي هذا التأثير.13

البيئة: تحسين السلامة في مكان العمل من خلال إعادة تصميم مساحة الأرضية حول وحدات العمل

هناك ما يُقدَّر بنحو ٣٤٠ مليونَ حادثٍ في أماكن العمل كل عامٍ على الصعيد العالمي.14 وهذه الحوادث تُلحِق أضرارًا بالغة بحياة الأفراد وبمساهمتهم في الاقتصاد. وفي حين أن بعض الحوادث يقع نتيجةً لظروف العمل السيئة، فالبعض الآخر ينبع من سلوك العمال أنفسهم. على سبيل المثال، كان الموظفون في مصنعِ نسيجٍ صيني مُعتادين على إلقاء بقايا القماش على الأرض بجانبهم، مما كان يؤدي إلى خطر الانزلاق. كان أحد التفسيرات لسبب ظهور هذه العادة أن العمال كانت لديهم دوافعُ مالية لمواصلة العمل دون فترات راحة. في البداية، جرَّب المصنع نهجًا تقليديًّا للتأثير على سلوكهم، من خلال تقديم حوافزَ ماليةٍ للعمال حال وضع بقايا القماش في صناديق القمامة. كان التأثير مُخيبًا للآمال؛ إذ ظلوا يُلقون بقايا الأقمشة على الأرض، وظلَّ الخطر قائمًا.
رأت كلٌّ من شيري جويو وو وبيتسي ليفي بالوك، الباحثتان والشريكتان مع المصنع، أن وضع إشاراتٍ بصريةٍ معبِّرة على الأرض قد يُساعد في تغيير السلوك. وقامتا، على وجه التحديد، بإدخال ملصقات لعملاتٍ ذهبية على أرضيات الإنتاج. ثقافيًّا، تعتبر العملات الذهبية رمزًا للثروة والحظ، مما يعني أن الموظفين سيعزفون عن تغطيتها ببقايا الأقمشة. وأدَّى إدخال هذه الملصقات إلى انخفاضٍ بنسبة ٢٠ في المائة في إلقاء الهَدْر على الأرض.15 لقد كان تغييرٌ صغيرٌ ذو مغزًى من حيث السياق في تصميم البيئة كافيًا للتغلب على عادةٍ تبدو راسخة.

العمليات: جعل فحص القولون بالمنظار أكثر قابلية للتحمُّل باستغلال تأثير قاعدة نهاية الذروة

الحكمة السائدة في الطب هي أنه «من الأفضل الانتهاء من الأمر». هذه القيمة، إلى جانب اعتبارات الفاعلية، تعني أن السرعة غالبًا ما تُثَمَّن ضمنيًّا في الإجراءات الطبية، خاصةً عندما يتعلق الأمر بالألم. في عام ١٩٩٥، كان فريق من الأطباء والأكاديميين في تورنتو يُعاني مع مشكلةٍ بحثيةٍ خاصة للغاية ألا وهي: تقليل الإدراك الحسِّي للألَم لدى مرضى فحص القولون بالمنظار. اعتمد بحثُهم على ظاهرةٍ تُعرف باسم «قاعدة نهاية الذروة». تنُص هذه القاعدة على أن تقديرَنا للأمور وذاكرتَنا يتشكَّلان على نحوٍ غيرِ مُتناسب من خلال لحظة الذروة والجزء الأخير من التجربة. وبما أن عمليات فحص القولون بالمنظار في ذلك الوقت كانت تتوافق نموذجيًّا مع فكرة «من الأفضل الانتهاء من الأمر»، فقد تسبَّبَت حتمًا في إزعاجٍ كبيرٍ في اللحظات الأخيرة. افترض الفريق أن «إخراج» المنظار بصورةٍ أبطأ سيُعتبر أقل إزعاجًا، على الرغم من أنه سيؤدي إلى إجراءٍ أطول. وقد ثبتَت صحة النظرية؛ فالمرضى الذين استغرق فحص القولون بالمنظار لدَيهم ثلاثَ دقائقَ إضافيةً من الإخراج البطيء للمنظار، صنَّفوا شعورهم العام بالألم بأنه أقلُّ وكانت رؤيتهم للتجربة أكثرَ إيجابية.16

توضِّح هذه الأمثلة المُختصرة أن نهج الرؤى السلوكية يمكن أن يكون له تأثيرٌ كبير على القضايا المهمة. غير أنها لا تُسلِّط الضوء على كيفية تصميم هذه التدخُّلات أو قياس آثارها. في الفصل التالي نُولي انتباهنا إلى الخطوات العملية لتطبيق نهج الرؤى السلوكية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤