الفصل الخامس

الانتقادات والاعتبارات ومواطن القصور

لقد حاولنا حتى الآن تقديم فهمٍ واقعي لما يمكن، وما لا يمكن، لنهج الرؤى السلوكية تحقيقه. وفي هذا الفصل، سنستكشف الانتقادات والاعتبارات ومواطن القصور الخاصة بهذا المجال بمزيدٍ من التعمُّق، مع الإقرار بأننا لا يُمكننا تقييمها جميعًا في مقدمة قصيرة كهذه.

بُني نسَق هذا الفصل في ثلاثة أجزاء. أوَّلًا، نبحث الانتقادات المُوجَّهة لما حقَّقه نهج الرؤى السلوكية عمليًّا: هل يُستخدَم فقط على نطاقٍ محدود، وهل تستمر آثاره بمرور الوقت، وإلى أي مدًى ينتج عنه عواقبُ غير مقصودة؟ ثانيًا، ننتقل إلى اتساق قاعدة الأدلة ومصداقيتها وقابليتها للتعميم. وسنستكشف، على وجه الخصوص، المخاوف بشأن قوة الأدلة في عِلم النفس ونبحث فيما إذا كانت الرؤى المُستخلصة من مُختبَرات الجامعات الغربية في الأصل يمكن حقًّا أن تُخبرنا بالكثير عن السلوك خارج برجها العاجي وعَبْر الثقافات المختلفة. ثالثًا، نستكشف مدى مقبولية نهج الرؤى السلوكية، سواء من منظورٍ أخلاقي أو من منظور أفرادٍ من عامة الناس الذين قد يستاءون من تطبيق نهج «الدفع» أو إخضاعهم للتجارب. النقطة الأساسية لدَينا هي أن نهج الرؤى السلوكية ليس حلًّا سحريًّا ناجعًا، ومن المُهم أن يكون لدَينا فهمٌ واقعي لقوَّته ومشكلاته على حدٍّ سواء.

هل يُحقق النهج الهدف منه في الممارسة العملية؟

في هذا الجزء نُلقي نظرةً على الانتقادات الموجَّهة إلى النتائج التي حقَّقَها نهج الرؤى السلوكية. في البداية، ننظر فيما إذا كان النهج يُطَبَّق بأكبر قَدرٍ مُمكن من الطموح. وبعد ذلك، نفحص العواقب غير المقصودة، وما إذا كانت الآثار التي نَصِفها يُمكن أن تستمر على المدى الطويل، وما إذا كانت هذه الآثار تستمر عند التطبيق على نطاقٍ واسع.

تأثيرٌ محدود على مستوى السياسات الرفيعة المستوى

كما أشرنا سابقًا، يمكن نشر الرؤى السلوكية بطريقةٍ تكتيكية ومحدَّدة الهدف، وعلى نحوٍ استراتيجي لإحداث تغييرٍ أوسع. غير أن كثيرًا من التطبيقات، في كلٍّ من القطاعَين العام والخاص، ظل عند المستوى التكتيكي، وتضمَّن تعديلاتٍ على السِّمات النهائية لسياسةٍ أو استراتيجيةٍ ما. يؤدي هذا الموقف إلى انتقاداتٍ مفادها أن النهج لا يُعالِج المشاكل الأساسية، وإنما يُعالج القشور فقط. بل إن بعض المنتقدِين يذهبون إلى ما هو أبعدُ من ذلك، ويزعمون أن تطبيق استراتيجية الدَّفَعَات قد يُقلِّل في الواقع من الدعم لأدوات السياسة الأخرى الأقوى. فقد وجدَت إحدى الدراسات أن الدعم الموجَّه لضريبة الكربون كان أقلَّ عندما طُبِّقَت في الوقت نفسه أيضًا استراتيجية دَفْع وضعَت أصحاب المنازل في خطةٍ للطاقة المتجدِّدة تلقائيًّا.1 ولكن في تجربتنا، لا يفكِّر صناع القرار بهذه الطريقة. فهم إما يفهمون أن استراتيجيات الدفع تُكمل المناهج الأخرى (دون أن تحلَّ محلَّها)، أو يعتبرون استخدام الرؤى السلوكية وسيلةً لتعزيز خيارات السياسات الاعتيادية. وتُظهِر الدراسة نفسها أن تأثير المزاحمة يزول إذا أُخبِرَ الناس بالتأثير النسبي الأقل للدفعة.

ولكننا نعتقد أنه من المُهم فهم العوائق التي تحول دون المزيد من الاستخدامات الاستراتيجية للرؤى السلوكية. أولًا، أدى بروز نجم استراتيجية الدفع إلى جعل كثير من الناس يعتقدون أنها الطريقة الرئيسة أو الوحيدة لتطبيق علم السلوك. فقد جاء التركيز على استراتيجية الدفع في الغالب على حساب التفكير في كيف يمكن لعلم السلوك أن يُحقِّق تغييراتٍ أوسع. إن هذا التصوُّر يتغيَّر، ولكن ببطء. ثانيًا، ثمَّة تدخلاتٌ محدَّدة أسهل في توصيلها بسرعة، وغالبًا ما تُسفر عن تأثيرٍ أكثر وضوحًا؛ لقد أُجْريَ هذا التغيير وأسفر بصورةٍ مباشرة عن هذا التأثير بعينِه. على العكس من ذلك، تميل عمليات صنع السياسات الرفيعة المستوى إلى تضمين سردٍ مُفكَّك للشخصيات والسياسات والحظ، وكلُّها قد تظلُّ تفاصيلَ سريةً على أي حال. أما نحن فقد ركَّزنا على مثالٍ بسيط وتكتيكي في الفصل السابق، ولكن هذا لا ينتُج عنه سردٌ مُعزز ذاتيًّا ينفي وجود أنواعٍ أخرى من الأمثلة. أما السبب الأخير، فهو أن نهج الرؤى السلوكية هو نهجٌ تكنوقراطي قائم على الأدلة، وقد يكون من الصعب غرسُ هذا النوع من النُّهُج في المراحل الأولية من عملية صنع السياسات التي يغلب عليها الفوضى والميوعة؛ حيث غالبًا ما يكون لعواملَ أخرى تأثيرٌ أكبر. الفكرة الأساسية هنا هي أن زيادة تطبيق نهج الرؤى السلوكية هو في حدِّ ذاته تحدٍّ سلوكي، وهو ما سنعود لتناوُله في الفصل الأخير.

مشاكل القياس

السلوك شيءٌ معقَّد. ففي بعض الحالات، يعني التحول في سلوكٍ معيَّن تحوُّلًا في سلوكياتٍ أخرى أيضًا، بغرض الحفاظ على الاتساق. ولكن العكس مُحتملٌ أيضًا؛ فقد يقودنا التغيير في أحد الجوانب إلى التعويض عن طريق التحرُّك في الاتجاه المعاكس نحو سلوكٍ آخر.2 على سبيل المثال، لقد ناقشنا كيف أن آليات التسجيل التلقائي في خطَط الادخار من أجل التقاعد فعَّالة؛ لأنها تستخدِم القصور الذاتي. غير أن قوة القصور الذاتي تعني أنه يجب تحديد مستوى المُدخرات الشهرية التلقائية بعناية. فإذا حدَّدتَ مستوًى منخفضًا للغاية، فسيكتسب العمال إحساسًا زائفًا بالأمان بشأن بنود تقاعُدهم دون ادخارِ ما يكفي من المال. وإذا حدَّدتَ مستوًى مرتفعًا جدًّا، فسيجدون أنفسهم مُضطَرين إلى الاقتراض لتغطية النفقات التي ربما كانوا سيستطيعون تحمُّلها بصورةٍ مباشرة أو بقروضٍ أصغر.3
يُوجَد كثيرٌ من الأمثلة لحكوماتٍ تُصمِّم سياساتٍ تستهدف سلوكًا معينًا، دون أن تُدرك أنها قد تُحفِّز سلوكياتٍ أخرى تخلق مشكلةً أكبر في الواقع.4 قد يكون نهج الرؤى السلوكية ضعيفًا بصفةٍ خاصة في هذا الجانب؛ بسبب تركيزه على التقييم القوي، والتجارب العشوائية المضبوطة على وجه الخصوص. فمِثل هذه الأساليب تقوم على تحديد مقاييسَ معيَّنة ومحدَّدة مسبقًا للنتائج. لكن هذه الدقة تنطوي على مخاطرة بخلق نظرةٍ ضيقة وجامدة. في المثال الذي عرضناه للتو، كان الالتفاتُ فقط لمعدَّلات التسجيل بخطَط مدَّخرات التقاعُد من شأنه أن يعتِّم على مشاكل الاقتراض المُحتملة التي قد تتزايد. وفي الفصل الأخير، سنناقش كيف يجب أن يعتمد نهج الرؤى السلوكية بصورةٍ أكبر على فكر الأنظمة التكيُّفية المعقَّدة لمعالجة هذه المشكلة.
ثمَّة مشكلةٌ محتملةٌ أخرى تتعلق بالقياس، وهي أن الرؤى السلوكية قد تُبالغ في التركيز على التأثير الكُلي لتدخُّلٍ ما، على حساب فهم كيفية اختلاف تأثيره من مجموعةٍ إلى أخرى. ففي حين أن النتيجة الإجمالية قد تكون مرغوبة، قد تقلُّ جودةُ استجابةِ بعض المجموعات للتدخل. على سبيل المثال، يؤدي تلقِّي تقرير استهلاك الكهرباء المنزلية الذي يُقارن استخدام منزلٍ ما للطاقة مع جيرانه إلى تقليل استهلاك الكهرباء عند الأمريكيين بنسبة ٢٫١ في المائة بصفةٍ عامة.5 ولكن حجم الانخفاض تبايَن بين ٣٫٦ في المائة لمن يتبنَّون آراءً سياسية من يسار الوسط، ويعيشون في منطقةٍ تتبنى وجهاتِ نظرٍ مُماثلة، ويشترون الطاقة المتجدِّدة، ويتبرعون للقضايا البيئية، و١٫١ في المائة لمن ينتمون للفئة المعاكسة (التي تحمِل وجهاتِ نظر يمين الوسط برفض شراء الطاقة المتجدِّدة والإحجام عن التبرُّعات).
من المُهم بصفةٍ خاصة التحقق من كيفية تفاعُل الفئات الضعيفة، من أجل ضمان ألا يؤدي التدخل إلى توسيع فجواتِ عدم المساواة. ولكن في ظاهر الأمر، تُوجَد أسبابٌ للاعتقاد بأن نهج الرؤى السلوكية قد يُقلِّل من فجوات عدم المساواة. لقد حاولَت الأساليب التقليدية التأثير على السلوك من خلال توفير المعلومات لتغيير التوجُّهات والمُعتقدات؛ أي من خلال «النظام التأمُّلي». غير أنه من المرجَّح أن يكون الأفراد الأكثر ثقافةً هم من يبحثون عن هذه المعلومات ويستخدِمونها، مما قد يُوسِّع من فجوات عدم المساواة.6 على النقيض من ذلك، قد تصِل التدخُّلات التي تعتمد في الغالِب على النظام التلقائي إلى الأشخاص الذين لا يتعامَلون مع المعلومات ذات الصلة. على سبيل المثال، كان أكبر المُستفيدين من تطبيق نظام التسجيل التلقائي للمعاشات التقاعُدية في المملكة المتحدة الأشخاص من ذوي الدخل المنخفض، الذين سجَّلوا أدنى معدَّلاتٍ مشاركة في نظام المعاش التقاعدي قبل إطلاق التدخُّل.7 الجانب الآخر هو أنه إذا كان هدف تدخُّلٍ ما هو الاستغلال أو إلحاق الضرر، فقد تكون هذه المجموعات أيضًا هي الأكثر تضرُّرًا (انظر مناقشتنا اللاحقة حول الأخلاقيات).

الاستمرارية والاعتياد

حتى عندما نكون على يقينٍ من أن تدخُّلًا ما كان له تأثير، يجب أن نشعُر بالقلق بشأن المدة التي سيدوم خلالها هذا التأثير، وما إذا كانت النتائج نفسها ستظلُّ قائمةً إذا تعرَّض المشاركون للتدخُّل مرةً أخرى. ادَّعى النقَّاد أن آثار نهج الرؤى السلوكية إما لا تدوم طويلًا بعد التدخل، أو تنجح مرةً واحدة فقط، أو كلَيهما. ونظرًا لأن مجال الرؤى السلوكية هو مجالٌ جديد نسبيًّا، فهناك تخوُّفٌ خاص من أن تأثير تدخُّلاته سيتضاءل مع تكرارها. يمكن أن يحدُث هذا التضاؤل لعدة أسباب. أحد هذه الأسباب أن التدخُّل قد نجح في المرة الأولى؛ لأنه كان جديدًا أو وعد ببعض المزايا والمكاسب من تطبيقه لم تظهر. فمن خلال متابعةٍ طويلة المدى لتأثير تقديم تقارير استهلاك الطاقة للمُستهلكين المنزليين، على سبيل المثال، تبيَّن أن التقارير تُقلِّل من الاستهلاك، ولكن تأثيرها كان يتضاءل نسبيًّا مع كل جولةٍ من التطبيق.8
في حين أنه يمكن قياس هذا النوع من التضاؤل في دراسةٍ واحدة، فقد ظهر قلقٌ أوسع مع تزايُد شعبية نهج الرؤى السلوكية. فقد يتعرَّض الأفراد للنوع نفسه من التدخُّل من قِبل جهاتٍ فاعلةٍ مختلفة، وفي أوقاتٍ مختلفة، وفيما يتعلَّق بقضايا مختلفة. على سبيل المثال، أشارت دراساتٌ عديدة إلى أن رسائل المعايير الاجتماعية قد تكون فعَّالة، مثل القول إن «٩ من كل ١٠ أشخاص يدفعون ضرائبهم في موعدها».9 ولكن ماذا لو بدأ هذا النوع من الرسائل بالظهور في كل مكان، فيما يتعلق باستخدام وسائل النقل العام أو اختيار مُستحضرات التجميل أو أنظمة التمارين الرياضية؟ إذا استُخدِمَت الرسالة على نطاقٍ واسع جدًّا وبصورةٍ غير مُتسقة، فقد يبدأ الأشخاص في تصفيتها.
الحقيقة هي أن بعض التأثيرات يتلاشى بالفعل، ولكن لا يتلاشى البعض الآخر، وما زلنا لا نملك فهمًا كاملًا لسبب حدوث ذلك. ولكن يُمكننا تقديمُ ثلاثِ طرقٍ مُتداخلة يمكن من خلالها للرؤى السلوكية أن تخلق تغييرًا دائمًا. أولًا، إذا كان الاختيار الذي يُتخذ مرةً واحدة له تأثيراتٌ مستمرة وطويلة المدى (على سبيل المثال، اختيار وسيلةِ منعِ حملٍ طويلةِ الأمد لا تتطلَّب اختيارًا مباشرًا لاستخدامها في كل مرة). ثانيًا، إن إجراء تغييراتٍ على تصميم الاختيار أو البيئة من شأنه أن يُحفِّز السلوك بصورةٍ متكررة على أساسٍ مُستمر (على سبيل المثال، إعادة تصميم منصة مترو الأنفاق بحيث تُصبح ردودُ أفعال الأشخاص التلقائية هي التي تُرشدهم دائمًا إلى طريقةٍ معينة). ثالثًا، قد تُستوعَب الموجهات السلوكية الخارجية داخليًّا، بحيث تصبح دوافع الفرد ومواقفه متوافقةً معها. قد يحدُث الاستيعاب الداخلي من موجِّهٍ واحد أو من مُوجِّهٍ متكرر. على سبيل المثال، تُظهِر الأدلة أن مُوجِّهًا يُستخدَم مرةً واحدة ويؤدي بشخصٍ ما للذهاب إلى التصويت يُمكن أن يكون له آثارٌ دائمة؛ وفي غياب مزيدٍ من التوجيه، من المُرجَّح أن يشارك هؤلاء الأشخاص أنفسهم في الانتخابات اللاحقة. بعبارةٍ أخرى، قد يُصبح التصويت مرةً واحدة بمنزلة عادةٍ في طور التكوين؛10 إذ أدى الذهاب إلى صناديق الاقتراع لأول مرة إلى إنشاء دافعٍ داخليٍّ كافٍ للتغلب على الحواجز التي تحول دون المشاركة الديمقراطية في المستقبل. وقد تتداخل هذه الآليات وتندمج مع أخرى لإحداث تغييرٍ مُستدام. على سبيل المثال، أظهرَت دراسة عن الحوافز المالية أنه في حين أن الدفع لمرةٍ واحدة لا يكفي لتحفيز الاستخدام المُستدام لصالة الألعاب الرياضية، فقد أدى توفير الحوافز للحضور ثماني مرات إلى تأثيرٍ مستدام، حتى بعد إزالة الحوافز المالية.11 وفي هذه الحالة، ظلَّت المُوجِّهات الخارجية (المدفوعات) قائمةً مدةً كافية بحيث أصبح السلوك مُستوعَبًا داخليًّا ومرنًا بما يكفي ليستمر، حتى بعد إزالة الموجِّهات.
من المؤكَّد أن هذه الآليات الثلاث لا تضمن استمرار السلوك. على سبيل المثال، بحثَت دراسةٌ حديثة أجرتها كاتي ميلكمان وزملاؤها في مصطلح «ربط المُغريات»؛ الذي يعني أن تُلزِم نفسك بفعل شيءٍ عادي أو مُزعج للحصول على شيءٍ مرغوب فيه. تطلَّب التدخل من الطلاب زيارة صالة الألعاب الرياضية للاستماع إلى كتابٍ صوتي لرواية «ألعاب الجوع». كان وضعُ هذا الشرط فعَّالًا في تعزيز الحضور في الصالات الرياضية على المدى القصير. ولكن عندما حلَّت إجازة عيد الشكر، عاد الطلاب إلى مستوى حضورهم الأساسي في صالة الألعاب الرياضية؛ ما يعني أن التدخُّل لم يصمد أمام فترة الانقطاع هذه.12 في اعتقادنا أن هذا المثال قد يسمح لنا بتوضيح نقطةٍ ختاميةٍ أوسع. إن نهج الرؤى السلوكية يؤكد على أهمية العوامل السياقية على السلوك. لذا، فإن حدوث التأثيرات الدائمة يكون أرجح إذا أمكن دمج الموجِّهات التعزيزية في السياق أو البيئة المستقبلية؛ قد لا يكون الاعتماد على الاستيعاب الداخلي وحده كافيًا.

الصمود أمام التوسُّع

بمجرد التأكُّد من أن التجارب الأولية قد أسفَرَت عن نتائجَ مرغوبة، يتطلَّب السيناريو المثالي توسيع نطاق التدخلات المعنية واختبارها مرةً أخرى للتحقُّق من استمرار التأثيرات. وبينما يُوجَد كثيرٌ من الأمثلة على التدخُّلات التي تحتفظ بفاعليتها عند تطبيقها على نطاقٍ واسع، يُوجَد أيضًا دليلٌ على أن بعض التدخُّلات أثبتَت أنها أقل تأثيرًا مما كانت عليه في تجربةٍ أصغر نطاقًا. على سبيل المثال، أفاد منشورٌ حديث13 عن حملةٍ اختبرَت طرقًا لجعل ٨٠٠ ألف طالب في المرحلة الثانوية يستفيدون من المساعدات المالية الفيدرالية المُقدَّمة للطلاب في الولايات المتحدة. كان حجم العينة يعني أنه يمكن إعادة اختبار تنويعاتٍ عديدة في رسائل التشجيع، والتي أثبَت بعضُها فاعليتَه في الدراسات المحلية السابقة. ولم يُثبِت أيٌّ من هذه الرسائل فاعليتَه في زيادة تلقي المساعدة المالية أو معدَّلات الالتحاق بالجامعة.

تُعَد ملاحظات المؤلِّفين حول سبب عدم صمود التأثيرات عند التوسُّع في التطبيق مفيدة. فهم لا يعتقدون أن الاختلاف يُظهِر أنه لا يُمكن الوثوق بالدراسات السابقة. بل يفترضون أن بعض سمات الحملات المحلية ربما تكون قد ساهَمَت في التأثيرات الأصلية أكثر مما كان مفهومًا سابقًا. على سبيل المثال، قد يشعُر الطلاب بمزيدٍ من الارتباط بمنظمةٍ محلية تُرسِل رسائلَ ما أو قد يَرَون أن هذه الرسائل أكثر شخصيةً مما لو كانت جزءًا من حملةٍ وطنيةٍ أوسع. قد ترجع تلك النتيجة أيضًا إلى حقيقة أن هذه المجموعة من الطلاب على درايةٍ أفضل بخيارات المساعدات الفيدرالية. وفي حين أن الأسباب غير معروفة بالضبط، فالعنوان واضح؛ قد تَعمَل الأشياء بصورةٍ مختلفةٍ عندما تكون على نطاقٍ واسع، ومن المهم عدم افتراض أن النتائج ستستمر دون فهم الكيفية التي حفَّزَتها بها سماتُ التدخل الأصلي.

في الواقع، يقدم نهج الرؤى السلوكية درسَين مهمَّين هنا. الأول هو أن التفاصيل مهمة؛ لذا يجب أن نتوقَّع أن التغييرات الصغيرة في السياق ستُغير النتيجة. أما الثاني، فهو أن التوسُّع في حدِّ ذاته تحدِّي سلوك. ففي مثال مركز التوظيف، كانت آلية التوسع محكومة بشدة؛ لذا كان الاعتماد على تبنِّي جهات معنية جديدة للتدخُّل محدودًا. غير أن التوسع، في معظم الحالات، يعتمد على قرار أولئك الذين لم يشاركوا في التدخل الأصلي بالتحرك. وعندما يتحركون بالفعل، يمكن لإدخال تغييرات على التدخل أن يمنع النجاح أو يُمثل تعديلًا ضروريًّا. وسنناقش في الفصل الأخير كيف يمكن للطرق النوعية أن تساعد في تحديد عناصر التدخُّل التي يجب الحفاظ عليها وأيها يمكن تعديلها.

هل النظرية والأدلة قوية بما يكفي؟

لقد أكدنا على الطبيعة البرجماتية لنظرية الرؤى السلوكية. وهذا الجزء يتناول ما إذا كانت هذه البرجماتية لها عواقب، ويناقش على وجه التحديد ما إذا كان الافتقار إلى أساسٍ نظري موحَّد يعيق قدرتنا على التعلم من الماضي وبالتالي إحراز التقدم والابتكار. كذلك سنُواجه بعض الحقائق التي يصعُب تقبُّلها فيما يتعلق بقاعدة الأدلة. كما نبحث «أزمة التكرار»، حيث فشل كثيرٌ من النتائج المهمة (لا سيما من علم النفس الاجتماعي، وعلى نطاقٍ أوسع أيضًا) في أن تتكرَّر عند اختبارها مرةً أخرى. بالإضافة إلى ذلك، سننظر في الآثار المترتبة على الاعتماد على الدراسات التي تستخدِم عيناتٍ متجانسة وغير تمثيلية. وأخيرًا، سننظر فيما يجب أن نفعله لحماية صحة الأبحاث المستقبلية ودقَّتها ولضمان عدم البناء على أسسٍ متزعزعة عند وضع فرضيات لاختبارها.

هل النظرية منقوصة أم مُفرِطة في التبسيط؟

لنبدأ بالانتقادات الموجهة إلى الافتراضات الأساسية ونظرية نهج الرؤى السلوكية. بعض هذه الانتقادات مُتخصص للغاية؛ إذ تُعنى في الغالب بخلق نظريةٍ موحَّدة وتصنيفٍ دقيق، ومن الأفضل الاحتفاظ بها داخل نطاق قاعات الندوات والمكاتب الأكاديمية. غير أن بعضها الآخر له آثارٌ مباشرة أكثر على كيفية تشخيصنا للمشكلات وابتكار الحلول لمُعالجتها.

النقد الأول هو أن نهج الرؤى السلوكية يُبالغ في التركيز على تحديد الانحيازات والانحرافات عن نظرية الاختيار العقلاني. يتَّسم النهج، في ضوء هذ المنظور، بنظرةٍ مُفرِطة في التبسيط لما يشكِّل «الأخطاء» و«اللاعقلانية»، تتجاهل قيمة التفكير الاستدلالي.14 يُفضِّل البعض الآخر التأكيد على الطبيعة التكيفية للتفكير الاستدلالي ومدى ملاءمته لعالمٍ معقَّد كعالمنا؛ فالاختصارات الذهنية الذكية تخدمنا بصورةٍ أفضل من الحسابات «العقلانية». وبناءً على هذا، فهم يدعون إلى تطوير الاستدلال وتدريسه لمساعدتنا على التعامُل على نحوٍ أفضل مع التعقيد، وهو نهجٌ يُعرف باسم «التعزيز» (على عكس «الدَّفْع»).15 في حين أن هذه الانتقادات قد تنحرِف عن الطريقة التي ينظر بها (على سبيل المثال) دانيال كانمان أو ريتشارد ثالر إلى نظريات المُعالجة المزدوجة، ولكنها تظلُّ متوافقة مع هذه النظريات ككلٍّ ولا تُغيِّر مضمون العلوم السلوكية التطبيقية بصورةٍ جوهرية. ونظرًا لوجود حالاتٍ يكون فيها الاستدلال مفيدًا وأخرى يُمكن أن يكون فيها ضارًّا، لا يمكن التوفيق بين هذه الآراء في الممارسة العملية؛ ومن ثَم سيكون التركيز على الدمج أكثر فائدة.
من الانتقادات ذات الصِّلة أن نهج الرؤى السلوكية فردي للغاية، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى جذوره الضاربة في الاقتصاد الجزئي. يذهب هذا الرأي إلى أن منظور الرؤى السلوكية يتبنى نظرةً معرفيةً مُفرطة يرى فيها الناس باعتبارهم وكلاءَ فرديِّين لصنع القرار، وليس باعتبارهم بشرًا اجتماعِيِّين مُدمَجين في ممارساتٍ وشبكاتٍ قائمة وراسخة. وهذا يعني أن لدَيه «تصورًا هشًّا عن السياق الاجتماعي» والقليل مما يمكن قوله عن الثقافة أو المجتمع.16 ماذا عن التركيز على كيفية تأثير السياق والبيئة على السلوك؟ يُجيب النقاد بأن هذه نظرةٌ نفسيةٌ مفرطة «للبيئة»، تتعامَل فقط مع «الجوانب المباشرة والمادية والتقنية» وتتجاهل العوامل الهيكلية التي تُسبِّبها القوى المؤسسية والاقتصادية والسياسية.17 ونحن نعتقد أن هذه الانتقادات تُغفِل تأثير علم النفس الاجتماعي على الرؤى السلوكية، ولكن لها بعض التأثير عمومًا، وسنعود إلى هذه المسألة في الفصل الأخير.
حتى لو لم نشكِّك في نموذج عملية المعالجة المزدوجة، فهناك عيبٌ مقيدٌ مُحتمل. تقدِّم نظرياتُ عملية المعالجة المزدوجة تفسيرًا شاملًا وعالي المستوى ﻟ «الانحيازات الفردية». غير أنها لا توضح متى تظهر هذه الانحيازات ولمن. قد يكون هناك بعض الأدلة للإجابة على هذه الأسئلة فيما يتعلق بكل تحيُّز على حِدة، ولكن تظلُّ الصورة غير مُكتملة دون وجود تفسيرٍ لكيفية تفاعُلها بعضها مع بعض. نحن بحاجة إلى دمجٍ يتجاوز مجرد قائمةٍ من المفاهيم المنفصلة تحت مظلة نظريات المعالجة المزدوجة. فهذا الافتقار إلى إطار عملٍ يعمل على المستوى الأدنى يجعل من الصعب تحديد ما إذا كانت النتيجة مفاجئة أو متوافقة مع التوقعات. وعلى هذا النحو، قد تنبثِق الأولويات الخاصة بالتكرار أو المزيد من الاستكشاف عشوائيًّا من تخمينات الباحثين الفردِيِّين الشخصية القائمة على التحيُّز والانتقائية.18 وهذا يتركنا غير قادِرين على معايرة التوقعات والبناء باستمرار على الدراسات السابقة لتشكيل اتجاه البحث المُستقبلي بمرور الوقت.

غير أن النظرية التي لدَينا كافيةٌ في النهاية لدفع التقدُّم والتطوير. إن تطبيق الرؤى السلوكية يتعلق بفهم السياق الذي يحدُث (أو لا يحدث) فيه السلوك حاليًّا؛ لذا فوجود مفهومٍ موحَّد للسلوك البشري ليس ضروريًّا ولا كافيًا لتطوير حلولٍ فعَّالة. والواقع أن النتائج تتحدَّث عن نفسها؛ ومن الواضح أن لدَينا معرفةً كافية للتطبيقات الناجحة.

أم لا؟

العلم الزائف: أزمة التكرار

في عام ٢٠٠٥، نشَر جون إيوانيدس ورقةً بحثيةً مُفزعة. قدَّمَت الورقة البحثية التي جاءت بعنوان «لماذا معظم نتائج الأبحاث المنشورة خاطئة»، بياناتٍ توضح أنه «بالنسبة لمعظم تصميمات وإعدادات الدراسات البحثية، من المُرجَّح أن تكون حُجة البحث خاطئةً أكثر من كونها صحيحة». وأصبح هذا الاستنتاج غير المنطقي مُمكنًا من خلال أربع سماتٍ مشتركة للنشر العلمي:

  • (١)

    الحوافز و«تأثير درج الملفات» (تحيُّز النشر). تفضل الدوريات نَشْر نتائجَ مثيرة، وهو ما يعني عادةً نشر الدراسات التي تطرح فرضيةً جديدة وتقدِّم أدلةً لدعمها. لا يحظى الفشل في إثبات نظريةٍ جديدة (الذي يُعرَف اصطلاحًا ﺑ «الفشل في دحض فرضية البُطلان») سوى بالقليل من الاهتمام. إن الأبحاث المنشورة هي ما تدفع تقدُّم الأكاديميين المهني؛ لذلك يُحفَّزون من أجل استثمار أغلب جهودهم في الدراسات التي تجذب انتباه المُحرِّرين. أما مسوَّدات الأبحاث الأخرى فتُودَع في «درج الملفات» المجازي.

  • (٢)

    الافتراضات القياسية لاختبار الفرضيات. تُتيح الممارسات الإحصائية التقليدية الفرصة لظهور نتائجَ إيجابيةٍ زائفة بنسبة خمسة في المائة. وبالنظر إلى تحيُّز النشر تجاه النتائج الإيجابية، فهذا يعني أن النتائج الإيجابية الزائفة من المُرجَّح أن تُمثَّل تمثيلًا مُبالغًا فيه في مقالات الدوريات العلمية الخاضعة لمراجعة الأقران. فإذا عمل عشرون باحثًا في تجربةٍ مُماثلة، فالصدفة وحدَها تعني أن أحد مُختبراتهم سيُخرِج نتيجةً إيجابية صالحة للنشر. فتُنشَر هذه النتيجة الواحدة وتُوضَع النتائج التسع عشرة الأخرى في درج الملفات. ونظرًا لأن الناس يميلون إلى البحث في موضوعاتٍ ترتبط بالأدبيات الأخرى المنشورة، فمن المُحتمَل أن يكون كثيرٌ من العلماء يتبعون نظرياتٍ لا أساس لها.

  • (٣)

    الممارسات البحثية السيئة. يُمكن للعينات الصغيرة، ووجود عددٍ كبير للغاية من مقاييس النتائج النهائية، ومجموعة من المُمارسات الأخرى أن تُسفر عن تأثيراتٍ غير موجودة أصلًا. تمثل العينات الصغيرة إشكالية؛ لأنها يُمكن أن تؤدي إلى نتائجَ تصادُفية يجري الخلط بينها وبين تأثيراتٍ حقيقية. كذلك يُمكن أن يؤدي قياس نتائجَ نهائيةٍ متعددة أو كثير من التبايُنات في نتيجةٍ نهائية بعينها إلى نتائجَ إيجابيةٍ زائفة بسبب الافتراضات الإحصائية التي وصفناها بالفعل؛ فإذا جرى قياس عشرين نتيجةً نهائية في تجربةٍ مُعينة، يجب أن نتوقَّع أن تُظْهِر واحدةٌ منها نتيجةً مباشرةً إيجابية جاءت بالصدفة البحتة. لا تقيس معظم الأبحاث عشرين نتيجةً نهائية، ولكن حتى قياس خمس فقط يزيد من فرصة الحصول على نتيجةٍ إيجابيةٍ زائفة من خمسة في المائة إلى ٢٥ في المائة. وتاريخيًّا، وجدَت الأبحاث ذات العينات الصغيرة والأبحاث التي تنتقي النتائج النهائية التي ستُسَجَّل بناءً على النتائج المباشرة، أنَّ إيجاد الباحث مكانًا لنفسه في الدوريات العلمية المرموقة أسهل بكثيرٍ مما قد نتخيَّله.

  • (٤)

    في حين أن هذه الممارسات البحثية شائعة إلى حدٍّ ما، فقد أظهرَت الاكتشافات على مدى العقد الماضي أيضًا شكلًا أندر وأفظع بكثيرٍ من سوء الممارسة؛ إذ ضُبِط بعض الباحثين وهم يزوِّرون بياناتهم بالكامل. لن نُناقش هذا الأمر بمزيدٍ من التفصيل هنا لأنه نادر الحدوث، ولكنه عاملٌ مساهم خطير حتى وإن كان نادرًا.

أطلق إيوانيدس وغيره من النقَّاد حركة (وإن كانت قد استغرقَت خمس سنواتٍ أخرى لاكتساب زخمٍ حقيقي) للتحقُّق من نتائج الأبحاث السابقة عَبْر مجموعةٍ من المجالات، من بينها علم النفس. كان أحد هذه المساعي هو «مشروع قابلية التكرار». ففي انتصار يُحسَب للتعاون الأكاديمي، حاول ٢٧٠ باحثًا، بقيادة بريان نوزيك في «مركز العلوم المفتوحة»، تكرار مائة دراسةٍ نفسية نُشِرَت في عام ٢٠٠٨ وإعادة إنتاج نتائجِها. ومن أصل مائة دراسة، أبلغَت ٩٧ منها عن تأثيراتٍ إيجابيةٍ مُهمة. ونظرًا لأن التجارب مُصمَّمة على نحوٍ تقليدي لتحمل خطر ظهور نتيجةٍ سلبيةٍ زائفة نسبتُه عشرون في المائة وخطر ظهور نتيجةٍ إيجابيةٍ زائفة نسبتُه خمسة في المائة، يجب أن نتوقَّع فشل نحو خمس دراسات من أصل ٩٧ دراسة في إعادة استنساخ النتائج السابقة، بسبب وجود نتائجَ إيجابيةٍ زائفة في الدراسة الأصلية، وفشل نحو ١٩ دراسة في ذلك بسبب وجود نتيجةٍ سلبيةٍ زائفة في نتيجة التكرار. بعبارةٍ أخرى، لو أن نحو ٧٥٪ من التجارب الأصلية قد أسفرَت عن النتيجة نفسها عند تكرارها، ما كانت هناك حاجة للتشكيك في صحة البحث في هذا المجال.

ولكن ليس هذا ما حدث. في الواقع، عندما أعلن مشروع قابلية التكرار عن نتائجه في عام ٢٠١٥، لم يكن قد تمكَّن من تكرار سوى النتائج الإيجابية ﻟ٣٦ في المائة من الدراسات، وحتى في ذلك الوقت كانت التأثيرات غالبًا أصغر مما ورَد في الدراسة الأصلية. من شأن تفسيرٍ أكثر تساهلًا أن يُشير إلى أن بعض النتائج ربما تكون قد ظهرَت بصورةٍ مختلفة لأن التكرار الحقيقي مُستحيل؛ فلا يمكننا إعادة بناء ظروف الاختبار الأول كما كانت بالضبط، أو السياق الذي أجري فيه، أو المشاركين فيه. غير أنه من المُحتمَل أن يكون هذا التفسير منطبقًا على عددٍ محدود فقط، إن وُجِد، من الدراسات؛ نظرًا لأن معايير تضمين التكرار أخذَت قابلية التقليد بعين الاعتبار، والبروتوكولات التي أوضحَت كيفية إجراء التكرار مفصَّلة على نحوٍ مُقنع.

كذلك لم تكن هذه الدراسات هي الوحيدة التي فشلَت في تكرار النتائج. فثمَّة نتائجُ أخرى في تخصصاتٍ أكاديميةٍ أخرى ثبت أيضًا أنها مُراوغة وصعبة المنال في تجارب الاختبار الثانية والثالثة والرابعة. وتشمل هذه الدراسات بعض الدراسات المهمة التي بدَّدَت كمياتٍ هائلة من وقت البحث والمال. وقد أصبحَت هذه التحدِّيات تُعرف جمعيًّا باسم «أزمة التكرار»: لحظة في تطور أبحاث العلوم الاجتماعية فرضَت التفكير النقدي الجاد. ولكن قبل أن نُناقش ما يحدث لتصحيح التحيُّز المتأصِّل في النشر، وكيف يُمكننا التعامُل مع هذا الاعتبار بصفتنا مُمارسين لنهج الرؤى السلوكية، يجب أن نعترف أيضًا بتهديدٍ آخر لصلاحية البحث في مجال علم النفس، ألا وهو قابليته للتعميم.

العلم القائم على المجموعة السكانية «ويرد»: مشكلة قابلية التعميم

حتى الآن، استكشفنا مفهوم «الصلاحية الداخلية»؛ إلى أي مدًى يمكن للطرق المُستخدَمة في أي تجربةٍ بعينها أن تُخبرنا بشكلٍ موثوق عن السببية. ولكننا لم نناقِش «الصلاحية الخارجية»؛ إلى أي مدًى تتجاوز استمرارية النتائج العينة الأصلية. في هذه النقطة، يُعاني كثير من الأبحاث التأسيسية للعلوم السلوكية من عيبٍ كبير؛ إذ أُجريَت معظم التجارب الأساسية على نحوٍ غير متكافئ على المجموعات السكانية التي تعيش في الدول الغربية المُتعلِّمة الصناعية الغنية والديمقراطية؛ وهي المجموعة التي يُطلَق عليها اختصارًا اسم «ويرد» (WEIRD).
يُعَد استخدام الأفراد المُنتمِين للمجموعة «ويرد» باعتبارهم أفراد بحث مشكلة؛ وهذا لأن تجاربهم الحياتية تضعهم «بين أقلِّ المجموعات السكانية التي يمكن للمرء أن يجِدَها تمثيلًا، كي يُعمم عليها فيما يخص البشر».19 تتصرَّف تلك المجموعات السكانية على نحوٍ مختلف على أبعادٍ مُتعددة بدءًا من الإدراك البصري والمنطق الأخلاقي، وصولًا إلى الرغبة في المخاطرة والانحياز إلى الحاضر.20 على سبيل المثال، سعَت مجموعةٌ من الدراسات عَبْر خمسة عشر مجتمعًا صغيرًا21 إلى اختبار مدى السلوك الاجتماعي الإيجابي الذي أظهره اللاعبون في سلسلةٍ من الألعاب الاقتصادية. وعلى غرار نظرائهم من مجموعة «ويرد»، أظهرَت جميع المجتمعات درجةً معينة من السلوك الاجتماعي الإيجابي، بما يتعارَض مع توقُّعات نظرية الاختيار العقلاني. غير أنهم تباينوا إلى حدٍّ كبير في مدى ظهور السلوك الاجتماعي الإيجابي. ولا يبدو أن تفسير هذا التبايُن هو الفروق الفردية. فالأفراد يتصرفون بما يتماشى مع معايير مجتمعاتهم، في ظل وجود عوامل مثل التنظيم الاقتصادي وهيكل التفاعلات الاجتماعية التي تُوجِّه سلوكَهم في اللعبة. وتُضيف هذه النتيجة وزنًا إلى الحُجة القائلة إن السياقات التي نعيش فيها تؤثِّر جوهريًّا على قراراتنا، مما يعني أنه حتى لو أن تحيزًا بعينه كان عالميًّا، فلن يكون من المُمكن دائمًا نقل رؤيةٍ أو تدخلٍ ما بنجاحٍ من مكانٍ إلى آخر.
يطرح قصور مجموعة «ويرد» أيضًا بعض المخاوف الأساسية؛ لا سيما فيما يتعلق بما يُقاس بالفعل. لنأخذ «اختبار الخطمي» على سبيل المثال، وهي إحدى أشهر التجارب في علم النفس.22 يُمنح الأطفال خيار الحصول على قطعةٍ واحدة من حلوى الخطمي الآن، أو الحصول على قطعتَي خطمي إذا كان بإمكانهم الانتظار لمدة خمس عشرة دقيقة في وجود قطعةِ الحلوى الأولى دون تناوُلها. كان الاعتقاد السائد منذ مدةٍ طويلة أن التجربة تقيس ضبط النفس، وهي سِمة ثبت ارتباطها بمجموعة من النتائج الجيدة.23 وقد استُخدِمَت هذه القدرة الملحوظة بعد ذلك لشرح الاختلافات في النتائج الحياتية للأطفال المشاركين بعد عقودٍ من التجربة.
غير أن الطفل الذي اعتاد تلقي المكافآت، ويعرِف من التجربة أنه يمكن الوثوق بوفاء الكبار بوعودهم، قد ينظر إلى مثل هذا الاختيار من منظورٍ مختلف تمامًا عن الطفل الذي لم يعرِف قط رفاهية الحصول على حلوى الخطمي ولدَيه مستوياتٌ منخفضة من الثقة لأنه خُذِلَ من قبلُ. إن الوعد بالحصول على قطعةٍ ثانية من حلوى الخطمي هو وعدٌ كاذب بالنسبة إلى الطفل الثاني؛ ومن ثم فتأجيل تناول القطعة الأولى يُعَد مخاطرة بالخسارة التامة. وإذا كان هذا هو الحال، فربما لم تكن الدراسة تقيس ضبط النفس على الإطلاق. في الدراسة الأولى، كانت العينة صغيرة والمجموعة غير عادية. كان جميع الأطفال المشاركين، البالِغ عددهم تسعين طفلًا، مُسجَّلين في روضة الأطفال بحرم جامعة ستانفورد؛ أي من المحتمَل أنهم كانوا من أُسَرٍ ثرية يستثمر آباؤهم بقوة في التعليم. عندما أعاد الباحثون إحياء اختبار حلوى الخطمي، ولكن هذه المرة مع ٩٠٠ طفل يُمثلون سكان الولايات المتحدة على نحوٍ أفضل، كانت النتائج مختلفة تمامًا.24 فبمجرد الأخذ في الحسبان العوامل الأخرى المتعلقة بخلفيات الأطفال، اختفى الرابط بين الانتظار للحصول على قطعةٍ أخرى من الحلوى والنتائج المُحسَّنة في المراحل اللاحقة من حياتهم.25
تتأثر أبحاث الشخصية أيضًا بإشكالية التمثيل والقياس هذه. في الأبحاث القائمة على مجموعة «ويرد»، تبيَّن أن «السمات الشخصية الخمس الكبرى» — الانفتاح، ويقظة الضمير، والانبساط، والقبول، والعصابية — تُنبئ بمجموعةٍ من النتائج، بدءًا من الأداء الوظيفي حتى الوفاة. غير أن دراسةً حديثة شملَت أكثر من ٩٤ ألف مشارك من بلدانٍ منخفضة ومتوسطة الدخل، أظهرَت أن أسئلة الشخصية الشائعة الاستخدام فشلَت في قياس السمة المقصودة، ولم تكن صالحةً في هذه المجموعات السكانية.26 وهذه النتيجة المزعزعة لِما هو متعارَفٌ عليه تعني أن علينا التشكيك في الافتراضات الأولية التي دفعَتْنا إلى الاعتقاد بأنَّنا حدَّدْنا الأُسس الثابتة للشخصية. قد تكون هذه الافتراضات قد تسلَّلَت نظرًا لأن سِمات مجموعة «ويرد» قد طغت أيضًا في مُختبرات الأبحاث. وقد يكون التنوع المُتزايد في الفكر والخبرة في هذا المجال قد منع وجود رؤيةٍ شديدة الضيق لبِنى الشخصية الأساسية.

لا تعني هذه النتائج أن المجموعة الغنية من أبحاث الشخصية أو اختبار الخطمي الأصلي غير مفيدة. بل يعني أننا يجِب أن نكون حريصين على التساؤل عن مدى إمكانية تعميم الرؤى التي نكتسبها من البحث في العينات الضيقة.

ما الذي علينا فِعله في مواجهة أزمة الأدلة هذه؟

إن الأساسات المُتداعِية تجعل من الصعب بناء تدخلاتٍ قوية. فإلى جانب تصحيح فهمنا للأبحاث السابقة، نحتاج أيضًا إلى إجراء تغييراتٍ تضمن صلاحية البحث ودقَّته في المستقبل. وقد حاول كثيرٌ من المطبوعات الأكاديمية تغيير الحوافز الأساسية لأولئك الذين يسعَون إلى النشر. وهذا يعني على وجه التحديد فتح «درج الملفات»، من خلال الترحيب بالدراسات التي تفشل في دحض فرضية البُطلان أو التي تحاول صراحةً تكرار نتائج دراسةٍ سابقة. يُحاول هذا التغيير بالذات تحويل التركيز من الحداثة إلى الجودة، مما يُقلِّل من احتمالية استمرار ممارسات البحث السيئة بمرور الوقت.

جزءٌ مُهم من هذا التوجُّه نحو جودةٍ أفضل هو تثمين «التسجيل المسبق» أو المطالبة به. والتسجيل المسبق هو ما بمُوجَبه تُنشَر خطة البحث قبل تحليل النتائج. لذا، يمكن الحكم على البحث بناءً على مُميزاته ومؤهلاته — من حيث كلٍّ من النظرية التي يقوم عليها واستراتيجية التقييم — قبل معرفة النتائج. ومن ثم تقلُّ قدرة الباحثين أو حاجتهم إلى التوصُّل إلى شيءٍ ما يخطف الأنظار عند ورود البيانات. وتذهب بعض الدوريات إلى أبعدَ من ذلك، وتُخضِع الفرضيات والمناهج إلى مراجعة الأقران قبل جمع أي بيانات؛ فإذا كانت الأسس صلبةً تُقْبَل الورقة البحثية مهما كانت استنتاجاتها. ويؤدي تقييم الدراسات بناءً على هذه الأسس إلى تدقيقٍ أكثر صرامة، وجودة بحث أعلى، ونتائج أكثر موثوقية.

وبعيدًا عن الأوساط الأكاديمية، يُعَدُّ التسجيل المُسبق ممارسةً جيدة لأي بحث، ولا يلزم أن يكون عمليةً مُرهقة. في الواقع، ستُساعد الأنشطة المتضمنة — التي تذكُر بوضوحٍ ما الذي سيجري اختباره وكيف ولماذا — في توضيح التفكير وتحسين الجودة، بالإضافة إلى محاسبة أولئك القائمين على عملية التحليل. بالمثل، عند تقييم جدارة العمل الذي نُشِرَ بالفعل، لا ينبغي اعتبار النشر وحدَه مؤشرًا على الصلاحية. فبصفتنا مُستهلكين للأبحاث، نحتاج إلى أن يكون لنا نظرةٌ ناقدة، وأن ننظُر إلى ما وراء السؤال الأساسي حول ما إذا كان الاختلاف في النتائج قد تبيَّن أنه مُهم من الناحية الإحصائية، وطرح أسئلة المتابعة الصحيحة لتحديد ما إذا كانت النتيجة موثوقةً وذات معنًى. وهذه هي الأسئلة نفسها التي يجب على المُراجع طرحها: هل العينة كبيرة بما يكفي؟ هل المجموعات قابلة للمقارنة؟ هل حجم التأثير يتوافق مع ما نراه في بحثٍ مُماثل؟ هل النتيجة المبلَّغ عنها تشمل جميع البيانات؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، فلماذا؟ هل تقيس النتيجة حقًّا ما تزعم قياسه؟ هل نتيجة بهذا الحجم تعني أن أولئك الذين يختبرونها يستفيدون استفادة مُجدية؟

غير أننا نُدرك أن الناس لن يطرحوا هذه الأسئلة إلا إذا كانت لديهم القدرة والحوافز لفعل ذلك. تكمُن المشكلة في أن نهج الرؤى السلوكية، باعتباره مجالًا ناشئًا، ربما لا يكون مؤهلًا لخلق هذه الظروف حتى الآن، ولا يزال يُكافئ فقط الانخراط السطحي مع البحث ذي الصلة. وسنعود إلى تناول هذه المسألة في الفصل الأخير.

هل نهج الرؤى السلوكية أخلاقي؟ هل هو مقبول؟

نقسِّم هذا الجزء الختامي من الفصل إلى جزأَين. أولًا، ننظر في أخلاقيات نشر التدخلات المُصممة لتغيير السلوك. وبعد ذلك نبحث ما إذا كان العامة يعتبرون مثل هذه التدخلات مقبولة. لقد تعمَّدنا عدم تضمين مناقشة حول أخلاقيات الأسلوب التجريبي؛ فهذه المسألة خارج نطاق مجال الرؤى السلوكية (الذي لا يستخدم التجارب دائمًا) ونوقشت عدة مرات من قبل.27

هل استخدام نهج الرؤى السلوكية أخلاقي؟

يمكن استخدام الرؤى السلوكية بطرقٍ احتيالية أو ضد المصالح العُليا للفرد والمجتمع عمومًا. وهذه ليست مخاطرةً نظرية أو مجرَّدة. على سبيل المثال، تُستخدَم «الأنماط المظلمة» على نطاقٍ واسع لإجبار العملاء أو المُستخدِمين أو خداعهم لاتخاذ قراراتٍ تتعارَض مع مصالحهم العُليا أو تفضيلاتهم الشخصية. وقد وجدَت دراسةٌ حديثة أُجرِيَت على نحو ١١ ألف موقع أن ١١ في المائة من المواقع تستخدِم «أنماطًا مظلمة» بصورةٍ روتينية، وأن هذه المواقع عادةً ما تلقى تصنيفًا أعلى من قِبل محركات البحث.28 على سبيل المثال، غالبًا ما تستخدِم الشركات مفهوم الاحتكاك لصالحها، مما يجعل من السهل جدًّا الاشتراك في خدماتهم، ومن الصعب جدًّا إلغاء الاشتراك فيها. وهذا التكتيك الخاص المُتمثل في تطبيق الاحتكاك لإحباط السلوكيات المُفيدة أُطلِق عليه أخيرًا «التثبيط»، وهو التوءم الشرير للدَّفْع. وتُوجَّه انتقاداتٌ من هذا النوع إلى القطاع العام أيضًا. فقد تستخدِم الحكومة أيضًا التثبيط، على سبيل المثال: تُوجَد أبحاثٌ مُتزايدة عن الكيفية التي قد تستثني بها الحكومات فئاتٍ مُعينةً من الحصول على الخِدمات العامة، بتطبيق أعباءٍ إدارية تعوق، بصفةٍ خاصة، أولئك الذين لديهم مواردُ قليلة.29

يمكن استخدام الرؤى السلوكية بطرقٍ احتيالية. على سبيل المثال، تُستخدَم «الأنماط المظلمة» على نطاقٍ واسع لإجبار العملاء أو المُستخدِمين أو خداعهم لاتخاذ قراراتٍ تتعارض مع مصالحهم العُليا.

بعد تقديم بعض الأمثلة على الاستخدامات التي تنطوي على إشكالياتٍ أخلاقية، لنُناقِش معًا المصادر الرئيسة للقلق. كانت هناك انتقاداتٌ أخلاقيةٌ عديدة للرؤى السلوكية، ولكنَّنا نرى أن من المُمكن تلخيصها في اتهامَين رئيسيَّين؛ الأول، أن النهج أبوي؛ والثاني، أنه متلاعب. نحن لا نهدف من مناقشة هاتَين النقطتَين، في الفِقرات التالية، إلى إيجاد طريقةٍ لتفنيدهما، بل نهدف إلى اختتام مناقشتنا بتقديم إطارِ عملٍ أساسي لتوجيه التطبيق المسئول لنهج الرؤى السلوكية.

فيما يتعلق بالنزعة الأبوية، نحتاج أولًا إلى تحديد المشكلات الجديدة التي يجلبها استخدام الرؤى السلوكية. ثمَّة خطرٌ يتمثل في عرض المخاوف العامة بشأن النزعة الأبوية بوصفها انتقاداتٍ مُحدَّدة للرؤى السلوكية. وفي هذا الصدد، فالاتهام الرئيس المُوجَّه هو تقديم عملية صنع القرار البشري باعتبارها عمليةً «غير عقلانية» أو «مُتحيزة» لتبرير الإجراءات التصحيحية التي تتخِذها الحكومة أو غيرها. على سبيل المثال، يستكشف علم الاقتصاد السلوكي فكرة «تأثير العوامل الداخلية»؛ حيث يُوجَد تعارُض بين الذات الحالية للشخص (الرغبة في تناول الكعك) وذاته المُستقبلية (الرغبة في اتباع نظام صحي). يوفِّر هذا النوع من النظريات والأدلة أساسًا منطقيًّا مُتخصصًا للتدخُّل لمساعدة الذات المستقبلية، التي غالبًا ما تخسَر ما لم يحدث ذلك. في هذه العملية، سيُقرِّر الطرف القائم بتنفيذ التدخُّل السلوكيات المرغوبة، وسيتلاعب ليزيد من احتمالية قيامنا بهذه السلوكيات.

ما يُثير القلق هنا هو أن هذا الرأي يُولِّد نهجًا مهنيًّا نخبويًّا لديه نظرةٌ دونية للمواطنين على أنهم غير قادرين على تشكيل سلوكهم بصورةٍ مُستقلة. فالرؤى المُستمدَّة من العلوم السلوكية تقود مُصمِّمي الخيارات إلى الإفراط في الثقة في افتراضاتهم حول ما يريده الناس «حقًّا»، ولماذا يتصرفون بطرقٍ معينة.30 وتُعَد هذه مشكلة؛ لأن تفضيلاتنا ليست دائمًا واضحةً ومؤسسَّة وثابتة ومعروفة، حتى لنا.31
يذهب بعض النقاد إلى ما هو أبعد ويزعمون أن «الاقتصاد السلوكي نفسه يقوِّض الحُجة المؤيدة للأبوية»؛ لأن صُناع السياسات أنفسهم عرضةٌ للتحيُّزات نفسها التي يجدونها لدى الآخرين، حتى لو لم يُدركوا ذلك.32 وثمَّة أعدادٌ متزايدة من الدراسات تُبيِّن كيف أن صُناع القرار يخضعون إلى الانحياز التأكيدي، وتأثيرات التأطير، واستقطاب المجموعة، وتأثير الإجماع الكاذب، من بين أمورٍ أخرى.33 وبما أنهم سيرتكبون أخطاءً أيضًا، فإن المنطق يقضي بأن تدخُّلاتهم غير مبرَّرة. بعبارةٍ أخرى، يكشف علم السلوك عن خللٍ فادح في صميم أي إجراءٍ أبوي.
أول شيءٍ يجب ملاحظتُه هو أن نقد النزعة الأبوية يستهدف تلك السياسات التي تحاول زيادة الفوائد أو تقليل الأضرار للشخص نفسه (على سبيل المثال، ادخار المزيد من المال، تناول الأكل الصحي). فهو أقل صلةً بالمجموعة الواسعة من الإجراءات الحكومية التي تستهدف السلوكيات المؤثرة على الآخرين (على سبيل المثال، الحد من الجريمة). ولطالما وجدَت الديمقراطيات الليبرالية أن النوع الأول من التدخُّل أكثر إثارةً للجدل.34 النقطة الثانية، كما ناقشنا في الفصل الأول، أن تطبيق العدسة السلوكية قد لا يشير إلى محاولة تغييرِ سلوكِ شخصٍ ما على الإطلاق. بل قد يُشجِّع على إعادة تقييم الإجراءات الحكومية الحالية، أو يمنع تطبيق سياسةٍ مُضلِّلة، أو يُشكِّل سياساتٍ تقوم على السلوكيات الحالية بدلًا من ذلك (المزيد حول هذه المسألة في الفصل الأخير). حتى عندما يكون التأثير على السلوك هو الهدف، فغالبًا ما كان نهج الرؤى السلوكية في الممارسة العملية يتبع تركيز مفهوم «الدَّفْع» على النزعة الأبوية التحرُّرية باعتبارها بديلًا حافظًا للحرية لنهج الأبوية الأصعب المُتمثل في فرض المحرَّمات أو القيود أو الغرامات.35

صُناع السياسات عرضة للتحيُّزات نفسها التي يجدونها لدى الآخرين، حتى لو لم يُدركوا ذلك.

نحن نعتقد، بصورةٍ أعم، أن هذه الانتقادات تتعلق بخياراتٍ حول كيفية استخدام نهج الرؤى السلوكية، ولا تهدف إلى الضرب في صميم النهج نفسه. ففكرة «اللاعقلانية» لا تُشكِّل محورًا أساسيًّا للرؤى السلوكية، ولا هي مفيدة بصورةٍ خاصة. ونقترح أن تُطبَّق الرؤى السلوكية بطريقة «متواضعة» تُحدِّد الأهداف بفهمٍ ووعي، بناءً على محاولة فهم معقولية تصرُّفات الأفراد، بدلًا من تبنِّي نظرةٍ ضيقة وجامدة لِما يُعتبَر «عقلانيًّا» في موقفٍ معين.36 فهذا الخيار الأخير سيكون ببساطةٍ نهجًا سيئًا لصنع السياسات.
لتشجيع هذا النهج المرغوب، سنحتاج بالطبع إلى تحسين الطريقة نفسها التي تُصنَع بها السياسة أو الاستراتيجية نفسها، مما يُعيدنا إلى انتقاداتٍ أخرى أشرْنا إليها سلفًا، وهي أن الحكومات والشركات نفسها عرضة للتحيُّزات المعرفية. ولكننا نجادل بأن هذا يعني أن الحُجة المؤيدة لاستخدام نهج الرؤى السلوكية أقوى وليست أضعف. إن نهج الرؤى السلوكية يُستخدَم حاليًّا لتحديد التحيُّزات التي تُطبِّقها المؤسسات والعمليات، ولتقديم طرقٍ جديدة للتخفيف من المشكلات مثل الثقة المُفرطة.37 وسيكون في دفع صُناع القرار علاج لمشاكل النزعة الأبوية أفضل من مجرد تجاهُل علم السلوك.

فكرة «اللاعقلانية» لا تُشكِّل محورًا أساسيًّا للرؤى السلوكية، ولا هي مفيدة بصورةٍ خاصة.

ثمَّة نقطةٌ أخيرة تتعلق بأن كثيرًا من المُدافعين عن مفهوم الدَّفْع يذهبون إلى أنه «لا يُوجَد تصميمٌ مُحايد»، وأن شكلًا من أشكال التأثير سيحدُث دائمًا، حتى عن غير قصد؛ ولذلك قد يُدفع الناس أيضًا في اتجاهٍ مُفيد. غير أن هذه الحُجة بها عيبٌ واضح. إن للنوايا أهميةً في أي حُكم على تصرُّفٍ بشري؛ فالناسُ يشعُرون بذلك بديهيًّا، ويعتبره نظام العدالة الجنائية مبدأً تأسيسيًّا. إن دَور مُصمِّم الخيارات مصحوبٌ بمستوًى من المسئولية. فمن اتخذوا خطواتٍ لتشكيل خيارات شخصٍ ما عليهم أن يكونوا قادرين على الإجابة عن السؤال المُتعلق بالأهداف التي يحاولون تحقيقها ولماذا، وهو ما يعود بنا إلى مسألة النزعة الأبوية.

الشاغل الثاني هو أن استخدام الرؤى السلوكية يُعَد تلاعُبًا. لا يتعلق النقد هنا بالخداع المباشر أو المحتوى الكاذب؛ فنحن نعتقد أن هذَين العامِلَين لا يلعبان أي دَور. الفكرة تكمُن في أنه إذا كانت تدخلات الرؤى السلوكية تنطوي على أنماطٍ غيرِ واعية لاتخاذ القرار، إذن فقد لا يكون المُتلقُّون على درايةٍ بما إذا كانوا يتأثرون بذلك وكيفية تأثرهم. لذا، فهم غير قادرين على مقاومة التأثير أو الجدل والاعتراض على التدخُّل بسهولة، سواء كمُواطنين أو كمُستهلكين. علاوةً على ذلك، تُصمَّم كثير من التدخُّلات بدقة لتُنفَّذ بطريقةٍ سلسة وغير ظاهرة. بعبارةٍ أخرى، قد يكون الأمر أن «هذه الأساليب تعمل على النحو الأفضل حين تُطبق بعيدًا عن الأنظار».38

حتى عندما تتوافق النتيجة مع تفضيلاتنا، إذا تحقَّقَت بطرقٍ سرية، فهذا يعني أن التدخُّل يُعامل الناس باعتبارهم وسيلةً لتحقيق غاية، وليس باعتبارهم الغايات في حدِّ ذاتها. وهكذا يُحرَم صُناع القرار الفرديون من كرامتهم وقُدرتهم على تحديد مسارهم وتطوير تفضيلاتهم الخاصة. وهذا يُمكن أن يعني أن استخدام الرؤى السلوكية يُضعِف التمكين ويُعامل الناس وكأنهم أطفال؛ إذ يُحرمون من فرصة التفكير والتعلم وتحديث السلوكيات المُستقبلية.

أحد الردود المباشرة على هذا النقد أن مثل هذه التدخُّلات قد لا تكون مُتلاعبة على الإطلاق. فقد صُممَت بعض التدخُّلات تحديدًا لتفعيل نمط تفكير أكثر تأمُّلًا لتمكين الناس من اتخاذ قراراتهم بجودةٍ أعلى. في الواقع، هذا هو أساس نهج «التعزيز» الذي أشرْنا إليه سابقًا. غير أن هذا النوع من النُّهُج يواجِهُ تلك المشكلة الواضحة المُتمثلة في الصعوبة البالِغة التي نجدها في فهم سلوكنا اللاواعي! ولِنكونَ أكثر تحديدًا، نحن لدَينا «نقطة تحيُّز عمياء»؛ أي نميل إلى الاعتقاد بأن الآخرين مُتحيِّزون، ولكننا لسنا كذلك.39 وإبراز وجود التحيُّزات وحثُّ الناس على أن يكونوا أقلَّ تحيزًا يمكن ببساطة أن يأتي بنتائجَ عكسية ويخلق مزيدًا من التحيُّز.40 على سبيل المثال، في إحدى الدراسات، كان الأشخاص الذين هُيِّئوا للشعور بالموضوعية «أكثر» عرضةً للتمييز على أساس الجنس عند اتخاذ قرار توظيف.41 فثمَّة حاجة إلى وضع تصميمٍ دقيق حتى لا تنتهي الرغبة في تجنُّب عمليةٍ غير أخلاقية في النهاية إلى خلق نتيجةٍ غير أخلاقية.

ثمَّة خيارٌ آخر هو الاعتماد على «مبدأ العلنية»: هل الحكومة أو الشركة على استعداد للدفاع عن التدخُّل إذا أُعلِنَ عن آلياته أو لدَيهم القدرة على ذلك؟ إذا لم يكن الأمر كذلك، فلا ينبغي لهم المضي قدمًا في تطبيقه؛ لأن القيام بغير ذلك سيعني عدم احترام من يخدمونهم. المشكلة هي أن هذا يبدو وكأنه مطلبٌ ضعيف. واستنادًا إلى وجهة نظرنا حول تحيُّزات صُناع السياسات، سيكون هناك دائمًا مجال لممارسة «الاستدلال المدفوع» وتبرير دعم الناس لسياسةٍ ما ترغب في تنفيذها.

ثمَّة قاعدةٌ أقوى، وهي أن جميع التدخلات يجب أن تكون علنية، إما في وقت التنفيذ أو لاحقًا. وقد دعمَت مؤسساتٌ ومنظماتٌ كثيرة هذا المبدأ. وكما سنُناقش لاحقًا، قد يدعم العامة التدخُّلات التي تستخدِم عملياتٍ تلقائية لاتخاذ القرار لتحقيقِ نتائجَ مرغوبة. وقد لا يُقلِّل الإفصاح أيضًا من فاعلية التدخُّل. فيمكن إخبار الناس بكيفية بناء اختياراتهم، ولماذا، دون اتباع سلوكٍ مختلف نتيجة لذلك، وإن كنا بحاجةٍ إلى مزيدٍ من البحث في هذه النقطة.42 الصعوبة في هذه النقاط هي: ما الذي يَعنيه بالضبط جعْل التدخُّل علنيًّا؟ كيف يمكن أن يتم ذلك عمليًّا؟ وبصورةٍ أعَم، كيف يُمكننا الفصل بين عناصر الإجراء الحكومي التي يمكن اعتبارها «متلاعبة» أو التي لا تُعتبَر كذلك؟ في اعتقادنا أن ثمَّة حاجةً إلى بعض المعايير لمساعدتنا في تقييم الحالات.

ولتلبية هذه الحاجة، نُقدم إطارَ عملٍ بسيطًا للغاية لتقييم المشكلات الأخلاقية المحيطة بالرؤى السلوكية. تُوجَد أربعة عوامل؛ اثنان منها يتعلقان بالتلاعُب (أي كيف يعمل تدخُّلٌ ما):

  • السيطرة: ما مدى سهولة مقاومة الفاعل المعني للتدخُّل، مع الأخذ في الاعتبار السياق وقدراته الشخصية؟
  • الشفافية: ما مدى معقولية توقُّع أن يُدرك المُستهدَف بالتدخل نوايا هذا التدخُّل، سواء في لحظة اتخاذ القرار أو لاحقًا؟

بينما يتعلق العاملان الآخران بالنزعة الأبوية (أي ماهية السلوك المتأثر بالتدخُّل):

  • مدى العواقب: ما الأضرار والفوائد المُحتمَلة لتبنِّي السلوك من عدمه، وما موقعها؟
  • قوة التفضيلات: ما مدى قوة وثبات تفضيلات الناس التي تتأثر بالتدخُّل؟ ما مدى قوة الدليل الذي استند إليه هذا الحكم؟
يوضح الشكل (٥-١) أن العامِلَين في كل مجموعة يستند كلٌّ منهما إلى الآخر؛ إذ يؤثِّر مستوى الشفافية على مدى السيطرة التي يَحظى بها الناس، بينما يجب المقارنة بين عواقب السلوك وقوة النوايا. إذا أخذْنا بعين الاعتبار العوامل الأربعة، فلا بد أن تُقدِّم طريقةً أكثر تنظيمًا لتقييم المشكلات الأخلاقية التي تكتنِف تطبيق الرؤى السلوكية.
fig14
شكل ٥-١
نريد أن نقدم بعض التفاصيل الإضافية حول هذا الإطار. يتعامل أحد جوانب عامل السيطرة مع حجم حرية الاختيار المتأصِّلة في الخيارات الأساسية المُقدَّمة إلى شخصٍ ما. غالبًا ما تُقَدَّم هذه الخيارات على هيئة «سُلَّم» من القيود المُتزايدة التي تبدأ من الأسفل بتقديم المعلومات فحسب، صعودًا إلى إعداد أو توجيه الخيارات، وتقديم الحوافز، ثم المُثبِّطات، وتقييد الاختيار، والإكراه، وإلغاء الاختيار.43 وقد قدَّمنا نسخةً مُبسطة من هذا المقياس في الفصل الأول في إطار مناقشتنا للمعلومات والحوافز والتشريعات. الأهم من ذلك، أن شدة التأثير يُمكن أن تختلف حتى على الدرجة نفسها من هذا السُّلم؛ وهذا هو الجانب الآخر من عامل السيطرة. على سبيل المثال، يُمكن أن يتراوح توفير المعلومات من نشر البيانات الغذائية للمنتجات على موقع إلكتروني حكومي، إلى سياسة تستخدِم جميع الموارد الخاصة بنهج الرؤى السلوكية للتأكُّد من أن المُستهلِكين لا يمكنهم تجنُّب معرفة المكوِّنات الموجودة في مشترياتهم المُحتمَلة.44 الجانب المُهم هو مدى سهولة مقاومة التدخل. لا شك أن تحديد مدى تقدُّمنا على درجات «السُّلم» أمرٌ مهم، ولكن مدى سهولة مقاومة الشخص لاستجاباته التلقائية للتدخُّل مهمٌّ أيضًا. نحن نحتاج إلى إجراء تقييمٍ واقعي لهذا الجانب الثاني، باستخدام الأدلة المستمدَّة من العلوم السلوكية، بالإضافة إلى مراعاة عوامل مثل السياق والتاريخ والإجهاد النفسي والتحفيز والضغط المعرفي (حيثما أمكن ذلك).
لا شك أن أحد العوامل البالِغة الأهمية لمقاومة التأثير هو إدراكه في المقام الأول، وهو ما يقودنا إلى الشفافية. السؤال الأساسي هنا هو مدى سهولة أن يُدرك شخصٌ ما أنه واقع تحت تأثير ما يُوجِّهه في اتجاهٍ مُعين.45 ولمزيدٍ من الدقة، يُمكننا أن نرى ثلاثة مستوياتٍ من الشفافية، جميعُها يعتمد بعضها على بعض؛ شخص على علمٍ بوجود التأثير، وهدف التأثير، والآلية (الآليات) التي يَستخدِمها التأثير. ويُقدِّم الشكل (٥-٢) بعض الأمثلة على ذلك.
من المهم ملاحظة أن هذه المستوياتِ لا ترتبط مباشرة بالنظامَين التأمُّلي والتلقائي. فليس الأمر أنه كلما زاد تدخُّل النظام التأمُّلي، زادت شفافية الأشياء.46 على سبيل المثال، يرجع نجاح نظام إشارات المرور في عمله إلى حدٍّ كبير إلى ربطنا التلقائي بين اللون الأحمر والخطر والحذَر؛ إذ قد نضغط المكابح (أو نسرع) غريزيًّا عندما تتغيَّر ألوان الإشارات. ولكن هذا الاعتماد على النظام التلقائي، بالإضافة إلى الهدف، يتَّسم بالشفافية التامة. فنحن نُدرك مدى تأثير إشارات المرور علينا. من ناحية أخرى، قد نتأثر بطرُقٍ تفتقر إلى الشفافية حتى عندما يكون نظامنا التأمُّلي يعمل في معظمه، كما يُوضح مثال الاشتراك في مجلة في شكل (٥-٢).
fig15
شكل ٥-٢

لا نريد التحدُّث كثيرًا عن العواقب والأهداف؛ لأنها تتعلَّق بالنزعة الأبوية بصفةٍ عامة، أكثر مما تتعلق بالرؤى السلوكية على وجه التحديد. ولكنها تظلُّ مهمة. تتمثل نقطة البداية لبحث العواقب فيما إذا كانت الأضرار أو الفوائد المُترتبة على سلوكٍ ما تقع على عاتق الشخص الذي ينتهج السلوك، أم على عاتق الآخرين. يُعتبر الأول منظورًا أبويًا؛ أما الأخير فيُعطي الحكومة مجالًا أكبر للعمل. ولكن حتى بالنسبة إلى النزعة الأبوية، فيُعد مستوى الضرر الذي ينطوي عليه الأمر أمرًا مُهمًّا. على سبيل المثال، في عام ٢٠١٢، اقترح عمدة مدينة نيويورك فرض حظرٍ على بيع المشروبات المُحلاة التي يزيد حجمها عن ١٦ أونصة سائلة. أثارت هذه السياسة الكثير من الجدل، وكان من المحاور الأساسية القوية في الاعتراضات الموجهة حرمان الناس من حُريتهم وعدم احترام نواياهم.

قارن هذه السياسة بقانونٍ صدر عام ١٩٩٨ في المملكة المتحدة بحظر بيع الباراسيتامول (أسيتامينوفين) في عبوات أكبر من ٣٢ قرصًا للصيدليات و١٦ قرصًا لغير الصيدليات. لقد عَكَسَ هذا التغيير الاتجاه التصاعُدي لحالات الانتحار والتسمُّم، مما أدَّى إلى إنقاذ حياة ما يُقدر بنحو ٧٦٥ شخصًا على مدار العقد التالي.47 وتأثير هذه السياسات على الحرية مُشابهٌ جدًّا؛ ففي كلتا الحالتَين لا يزال بإمكانك الحصول على المنتج إذا أجريتَ عمليةَ شراءٍ إضافية. لكنَّنا نُشير إلى أن معظم الناس سينظرون إلى هذه السياسات على نحوٍ مُختلف تمامًا بسبب مستوى الضرر المباشر والفوري الذي ينطوي عليه الأمر. فثمَّة سياسةٌ تمنع مساهمةً غيرَ مباشرة مُحتملة في زيادة السمنة؛ بينما تمنع الأخرى مساهمةً فوريةً ومباشرة في الخسائر في الأرواح. إذن فالعواقب مهمة.
والأهداف على القدْر نفسه من الأهمية. من الواضح أن أخلاقيات الانتحار تُصبح أكثر تعقيدًا مع زيادة قوة الهدف واتساقه، كما يتبيَّن من المناقشات حول الموت الرحيم. ونقطتنا الأخيرة هي أننا بحاجةٍ إلى إيجاد طرقٍ موثوقة لفهم الأهداف والنوايا المُتعلقة بالسلوك. ففي النهاية، يُظهِر علم السلوك أن نوايانا المُعلنة تختلف اختلافًا كبيرًا وفقًا لكيفية عرض الخيارات. أو قد يعكس الناس نواياهم عندما يتعلَّق الأمر بالتصرُّف العملي. في الواقع، قد نُواجِه معضلةً أخلاقية نحتاج بمُقتضاها إلى العمل لتأكيد قوة نوايا الناس. ففي حالة عبوة مُسكِّن الآلام، لم تكن نية إيذاء النفس بالنسبة إلى عددٍ كبير من الأشخاص قويةً بما يَكفي للتغلُّب على القَدْر الضئيل نسبيًّا من الجهد المطلوب للذهاب إلى متجرٍ آخر.48

إن الأخلاق بحاجةٍ إلى نظرة متأنية. لكن الحقيقة هي أن كثيرًا من استخدامات نهج الرؤى السلوكية يمكن أن تكون عاديةً تمامًا: على سبيل المثال، تبسيط العمليات، أو إعادة صياغة المعلومات، أو تغيير توقيت تنفيذ تدخُّلٍ ما.

ما رأي عامة الناس، وماذا لو لم يُعجبهم نهج الرؤى السلوكية؟

يعد الرأي العام مصدر قلق شائع ومشروع لأولئك القائمين على تنفيذ ودراسة وانتقاد التدخلات السلوكية. في الواقع، يمكن لرد الفعل العنيف ضد خيارات السياسة أن يفرض تكاليف سياسيةً ويُحول مسار الموارد الإدارية. وفي الوقت نفسه، في القطاع الخاص، يمكن لفعلٍ واحد من التجاوزات المتصورة أن يضر بحصة السوق بلا رجعة. إذن كيف نقيس الرأي العام وأنواع التدخُّلات التي من المُرجح أن تستثير استجابةً سلبية بشكلٍ أو بآخر؟

أولًا، يُمكننا الالتفات إلى الأدلة الموجودة. يُظهِر البحث الذي أجراه كلٌّ من كاس صنستين ولوسيا رايش دعمًا واسعًا، وإن كان مشروطًا، لأنواع التدخُّلات السلوكية (التي تركِّز على الدَّفَعَات) التي استخدَمَتها المُجتمعات الديمقراطية أو أخذَتْها بعين الاعتبار في العقود الماضية.49 في المقابل، تُثير التعليماتُ الإجبارية التي تفرضها الحكومة اعتراضاتٍ كبيرة. وهنا نريد استخلاص عاملَين يؤثِّران على مستويات الدعم. يمكن أن تكون التدخُّلات التي تعتمِد على النظام التلقائي أقلَّ قبولًا من تلك التي تعتمِد على النظام التأمُّلي. هذه ليست قاعدةً ثابتة لا تتغير؛ إذ يمكن اعتبار مثل هذه التصاميم مقبولةً إذا كانت تُمثِّل بوضوح الفرصة الأفضل لتحقيق الفاعلية، كما هو الحال بالنسبة إلى التغلُّب على مشاكل ضبط النفس، على سبيل المثال.

يتضاءل الدعم أيضًا عندما يكون الدافع وراء التدخُّل غير واضح أو عندما تكون النتيجة المحتملة خيارًا يتعارَض مع مصالح الشخص الذي يجري التأثير عليه. على سبيل المثال، قد يتسبَّب إدراج شخصٍ ما تلقائيًّا في تقديم تبرُّعٍ خيري — وهي قضيةٌ إنسانيةٌ جيدة ولكنها لا تصُب في المصلحة المالية الشخصية لهذا الفرد — في مُمانعةٍ من جانب هذا الشخص، في حين أن إدراج شخصٍ ما تلقائيًّا في نظامٍ يُساعده على الادخار لنفسه قد لا يتسبَّب في ممانعة.

قد تلعب السياسة دورًا مهمًّا هنا. فقد وجد الباحثون دليلًا على «انحياز الدَّفع الحزبي»؛ حيث يعتقد الناس أن استخدام رؤيةٍ سلوكيةٍ مُعيَّنة هو أمرٌ أخلاقي بشكلٍ أو بآخر، اعتمادًا على ما إذا كانوا يدعمون أو يُعارضون السياسي الذي قدَّمها أو الغرضَ الذي تخدمه.50 فعندما يُسأل الناس عما إذا كانوا يُوافقون على استخدام أنظمة التسجيل التلقائي عمومًا، سيجدها اليمينيون أخلاقية إذا كان استخدام المثال بغرض زيادة مطالبات الأثرياء بتطبيق الإعفاءات الضريبية؛ وكذلك الحال بالنسبة إلى اليساريين إذا كان استخدام المثال بغرَض زيادة مطالبات الفقراء بدعم الدخل، وما إلى ذلك. ولعل الاكتشاف الأكثر إثارةً للاهتمام من هذه الدراسة أن الناس ليس لديهم مواقفُ قوية أو مُتسقة بشأن أخلاقياتِ استراتيجية الدَّفَعات كأدواتٍ في حد ذاتها؛ فوجهات نظرهم مدفوعة بالغايات التي تخدمها تلك الأدوات. ثمَّة نقطةٌ أخيرة؛ يُجادل البعض بأن الجمهور قد يُصبح أكثر قبولًا للرؤى السلوكية مع انتشار استخدام النهج. وهذا هو مفهوم «مردود السياسات»، الذي يدَّعي أن «السياسات يُمكن أن تُحدِّد الأجندات السياسية وتشكِّل الهويات والمصالح … ويُمكنها التأثير على المُعتقدات حول ما هو ممكنٌ ومرغوبٌ فيه وطبيعي».51

ولكن إذا كان تطبيق إطارنا الأخلاقي البسيط يرفع علامات الخطر، فقد يكون من الحكمة والمفيد تجاوُز البحث الحالي وسؤال أفراد الجمهور مباشرةً عن آرائهم. تُعَد منتديات المواطنين، التي يُطلَب فيها من أفرادٍ جرى اختيارُهم عشوائيًّا الإدلاء بآرائهم حول موضوعٍ ما، ذات قيمةٍ مضاعفة؛ أولًا لفهم الرأي العام بصورةٍ أعمق، وثانيًا للمشاركة في تصميم التدخُّلات (سنتناول المزيد حول هذه النقطة في الفصل الأخير). لعلَّ من المُدهش أننا وجدنا من تجربتنا الخاصة مع منتديات المواطنين أن الرأي العام غالبًا ما يُفضِّل التدخُّلات الأبوية أكثر مما كنَّا نتوقَّع. على سبيل المثال، خلال عملنا مع «هيئة المُحلَّفين المواطنية» في ولاية فيكتوريا الأسترالية بشأن السمنة، كان من الواضح أن الجمهور يؤيد مناطق الاستبعاد التي لا يُمكن بيع الأطعمة غير الصحية فيها، إلى جانب زيادة الضرائب وتنظيم أحجامِ حصصِ المشروبات السكرية. كل هذه تدخُّلاتٌ أثارت جدلًا كبيرًا عند اقتراحها أو تنفيذها من قِبل الحكومات دون التشاوُر مع عامة الناس. وقد ساعدَت هيئة المُحلَّفين المواطنية في تمييز وجهة النظر التمثيلية للمجتمع عن الأصوات الأعلى التي عادةً ما تستجيب علنًا للمقترحات الخاصة بالسياسة.

بحثنا في هذا الفصل بعض التحدِّيات الصعبة؛ قد لا تكون قاعدة الأدلة قوية كما كانت تبدو في السابق؛ فلا يُوجَد إجماعٌ ساحِق حول آثار الرؤى السلوكية التطبيقية أو مدى استمراريتها، وليس من السهل الإجابة على الأسئلة الأخلاقية. غير أنه من الجدير بالملاحظة أن بعض الانتقادات التي أوردناها هي في الواقع مُتعارضة؛ فعلى سبيل المثال، لا يُمكن للأفكار السلوكية أن تكون غير فعَّالة وقوية إلى حدٍّ خطير في آنٍ واحد. وسنختتم الفصل برأي مجموعةٍ من الأكاديميين الذين عارضوا نهج الرؤى السلوكية في البداية، باعترافٍ منهم. ولكنهم كتبوا فيما بعدُ: «كلما أصبحنا أكثر وعيًا بطبيعة النهج المتنوعة … وجدنا أنفسنا ندافع بصورةٍ متزايدة عن بعض رؤاه لواضعي السياسات».52 كما يشيرون إلى أنه كان هناك «نقدٌ مغالًى فيه» للنهج «يقلِّل من قيمة كلٍّ من تنوُّع الرؤى وأهميتها المُحتملة، بينما يُبالغ في تقدير بعض آثاره الأخلاقية في الوقت نفسه». ونحن نميل إلى الاتفاق مع هذا الرأي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤