نظرة في المستقبل ومستقبل مصر في السودان وحده

لا تعيش الأمة ليومها، ولكنها تنظر من حياة اليوم إلى غَدِهَا، فإذا نظرت الأمة المصرية إلى هذا الغد القريب عرفت أن أرضها ضائقة بها، وأنه لا مندوحة للسلالة الآتية عن المهاجرة، فعدد السكان الذي يناهز الآن ١٣ مليونًا يزيد في كل سنة ٣ بالمئة، وهذه الزيادة مُضْطَرِدَةٌ لتحسن الأحوال الصحية، وما بقي من أرض مصر بورًا أو غامرًا لا يزيد على مليون و٨٠٠ ألف فدان، فضلًا عن إنهاك قوة الأرض بكثرة الزرع وتواليه؛ فالنيل هو الطريق الوحيد لهجرة المصريين، ومما وجدوه في الآثار القديمة قول الإله آمون: «كل بلاد يغمرها النيل في فيضانه لهي من مصر، وكل من يشرب من مياه هذا النيل فوق مدينة إلفانتين هم مصريون.»

ولقد اتجهت أنظار الباحثين إلى أرض تصلح للزراعة، ويجد فيها المصري رزقه يوم تضيق بلاده به، فاتجهت الأنظار إلى صحراء مريوط؛ فمد فيها الخديوي عباس الثاني خطًّا حديديًّا إلى حدود طرابلس الغرب وأخذ بتعمير العزب، ولكن الأرض بحاجة إلى الماء وماء المطر لا يكفي وماء النيل يحول الآن إلى ري الجزيرة، ومساحة هذه الجزيرة بين النيل الأبيض والنيل الأزرق عشرة ملايين فدان، يقول الإنكليز: إن سبعة ملايين فقط صالحة للزراعة، ويريدون بالزراعة زراعة القطن، وبما أنهم خصوا الجزيرة بماء النيل الأزرق فأي أرض يمكن أن تصلح بماء النيل الأبيض الذي تركوه لمصر وهو ماء جيري لا يصلح لتغذية النبات خلافًا للنيل الأزرق الذي يحمل الطمي الذي يغذي التربة المصرية ويجعلها تربة خصبة، ومصر مهدَّدة الآن بالحرمان من ماء هذا النهر ومن طَمْيِهِ، وما دامت سُنَّةُ الطبيعة أن يتقاذف السكان إذا ازدحمت بهم الأرض وأرض مصر ستزدحم قريبًا بسكانها وفي المنوفية الآن ٣٦٠ نفسًا في الكيلو متر المربع، فالتقاذف حادث لا محالة بأن ينتقل أبناء أسوان إلى دنقلة وأبناء قنا إلى أسوان، وهكذا يصعد المصريون من الدلتا مع مجرى النيل إلى السودان فيعمرونه، ومنذ استعادة السودان إلى اليوم هجر كثيرون بلادهم إلى دنقلة وبربر والجزيرة وسواها.

وقد كان اللورد كرومر والسير غارستن يتشاءمان من مصير السودان لقلة السكان فاقترح بعض الإنكليز أن ينقلوا إليه جماعات الهنود، ولكن التجربة لم تنجح ولا يمكن أن تنجح، وهذه مشروعات الري في الجزيرة يقوم بها المصريون يؤخَذون عمالًا مأجورين ولكن على نظام يكاد يكون عسكريًّا؛ لأنهم يستأجرون العامل لمدة سنة أو سنتين، ويعطون لكل واحد منهم نمرة خاصة، وكل عامل ملزَم بصرف المدة التي تعهد بصرفها في السودان وباتباع النظام الذي وضعوه، وقد علَّمت حادثة كينيا الإنكليز ألا يكثروا من الهنود في إحدى مستعمراتهم فإنهم ملأوا كينيا بالهنود والإسكوتلانديين فقام الهنود يطلبون حقوق الإنكليز؛ لذلك عدلوا في السودان عن استخدام الهنود إلى استخدام الصوماليين.

ولما كانت الأرقام لا تخطئ فإنا نقتبس هنا بيانًا قَدَّمَهُ سمو الأمير عمر طوسون إلى المعهد العلمي المصري في جلسة ٣ مارس سنة ١٩٢٤ مبينًا فيه بالأرقام كيف ينتظر أن تضيق مصر بأهلها، وكيف أن هذه الزيادة في عدد السكان لا تجد لها مرتزقًا في غير السودان.

وقد جعل سمو الأمير عنوان بيانه:

مالية مصر من عهد الفراعنة إلى اليوم.

والذي يهم القارئ المصري على وجه التخصيص خاتمة هذا البيان وتعزيزها بالأرقام.

عصر الفراعنة

ليس لدينا عن مؤرخي هذا العصر ما نعرف منه مساحة أرض مصر الزراعية ولا خراجها، غير أن مؤرخي العرب تداركوا هذا النقص، ولكن جسامة المبالغ والمساحة التي ذكروها تنبو بنا عن الركون إليها، وهذا ما قالوه مقدرًا بالجنيه المصري:
المؤلف الحاكم الخراج بالجنيه المصري
ابن خرداذبه الفراعنة ٥٦٠٠٠٠٠٠
أبو صالح يوسف بن يعقوب ١٤٧٦٠٠٠٠
ابن وصيف شاه منقاوس ١٦٨٠٠٠٠٠
ابن وصيف شاه فرعون موسى ٤٣٢٠٠٠٠٠
المقريزي الريان بن الوليد ٥٨٢٠٠٠٠٠
المقريزي الريان بن الوليد ٦٠٠٠٠٠٠٠
أبو المحاسن كيكاوس ٦٠٠١٨٠٠٠
المسعودي وابن إياس
الأرض المزروعة بالفدان ١٨٠٠٠٠٠٠
ولكني رأيت بناء على براهين شرحتها في مذكرتي أن عدد سكان مصر في عهد الفراعنة كان ١٨ مليونًا أو ٢٠ مليونًا على الأرجح، وأن مساحة المزروع منها كان ٦ ملايين فدان، ثم إن بعض المؤرخين ذكروا النسبة المئوية التي كان يُجْبَى الخراج على مقتضاها وإن لم يذكروا الخراج نفسه. فإذا راعينا هذه النسبة مع المحصول الذي كان ينتجه القُطْر في هذا العصر وجب أن يكون الخراج كالآتي على قول هؤلاء المؤلفين:
المؤلف النسبة المئوية المساحة المزروعة الخراج بالجنيه المصري عن الفدان بالقرش
مسبيرو ولمبروزو ١٠ في المئة ٦٠٠٠٠٠٠ ٢١٠٠٠٠٠ ٣٥
هارتمان ٢٠ في المئة ٦٠٠٠٠٠٠ ٤٢٠٠٠٠٠ ٧٠

عصر البطالسة

لم يتيسر لنا الاهتداء إلى أي نَصٍّ عن الخراج في هذا العصر، ولكننا استنتجناه استنتاجًا مما ذكره ديودور الذي زار مصر في أواخر هذا العصر حيث قال:

إن أرض مصر كانت ثلاثة أقسام بين الكهنة والملك ورجال الجيش، وقسم الكهنة كان أعظمها والثالث أقلها فرأيت أن القسم الثاني كان ثلث مساحة أرض مصر المزروعة، وحيث إنها ٦ ملايين فدان كما أشرنا إلى ذلك من قبل فالأقسام الثلاثة تكون كالآتي:
  • قسم الكهنة: ٢٥٠٠٠٠٠

  • قسم الملك: ٢٠٠٠٠٠٠

  • قسم الجيش: ١٥٠٠٠٠٠

وقسم الملك يكون معفى من الخراج بطبيعة الحال، والقسمان الآخران خراجهما ٧٨٧٥٠٠ج.م بناء على حسابي وباعتبار قرشًا عن الفدان الواحد.

عصر الرومان

زار إسترابون مصر في أيام الرومان، ووصفها وصفًا جغرافيًّا مستفيضًا، ولكنه بخل بذكر شيء عن شئونها المالية، واكتفى بقوله إن مصر تدفع جزية عظيمة.

وقال مركاروت: إن الخراج كان بنسبة ٢٠٪ من محصول الأرض.

وقد وصف إسترابون الطريقة الحسنة التي كانت تروى بها أرض مصر في ذلك العهد، ومن هذا يجب أن نستخلص أن المساحة الزراعية ومحصولها لم يكونا يَقِلَّانِ عَمَّا كانا في عصر الفراعنة إن لم يفوقاه، ولهذا أرى أن القطر كان في حالة سعادة يسهل معها تأدية الخراج مقدرًا بمبلغ ٤٥٠٠٠٠٠ج.م عن مساحة ٦ ملايين فدان، وبواقع ٨٥ قرشًا عن الفدان الواحد.

عصر البيزانطيين

المعلومات عن الخراج في هذا العصر قليلة ولا تفيد فائدة تامة، وإذا اكتفينا بهذه المعلومات الجزئية وهذا لا مندوحة عنه اعتبرنا أن متوسط جباية الخراج عن الفدان نحو الثلاثين قرشًا، فيكون مقدار الخراج عن الستة الملايين ١٨٠٠٠٠٠ج.م.

الخراج في عصر العرب

كانت مساحة الأرض المزروعة في مصر في خلافة عمر على ما أرى نحو الستة ملايين فدان، وقد اختلفت مقادير الخراج في عهده كما يؤخَذ من عبارات المؤرخين المذكورين بعد، وعلى ذلك يكون كما يأتي:
المؤلف مقدار الخراج بالجنيه المصري مساحة الأرض بالفدان متوسط الخراج عن الفدان بالقرش
ابن عبد الحكم ٨١٦٦٦٦ ٦٠٠٠٠٠٠ ١٣
اليعقوبي ٤٢٠٠٠٠ ٦٠٠٠٠٠٠ ٧
البلاذري ٣٣٠٠٠٠٠ ٦٠٠٠٠٠٠ ٥٥

وقد مسحت أرض مصر في عصر العرب أول مرة على يد ابن رفاعة عامل سليمان بن عبد الملك عليها سنة ٩٧ﻫ (سنة ٧١٥م) وقضى في مسحها من الإسكندرية إلى أسوان تسعة أشهر. ذكر ذلك ابن عبد الحكم ولكنه لم يذكر نتيجة هذه المساحة، ومسحت ثاني مرة على يد ابن الحجاب قال الكندي: وولي خراجها ابن الحجاب لأمير المؤمنين هشام فخرج بنفسه فمسح أرض مصر كلها عامرها وغامرها ممَّا يركبه النيل فوجد فيها ثلاثين ألف ألف فدان ا.ﻫ.

وبلغ خراجها في عهده أربعة ملايين دينار (٢٤٠٠٠٠٠ج.م) بواقع ٨ قروش عن الفدان، ويؤخذ من المقريزي أن مساحتها في عهد المأمون كانت ٣٠٠٤٧٣٢ فدانًا وخراجها ٤٢٥٧٠٠٠ دينار (٢٥٥٤٠٠٠ج.م) بواقع ٨٥ قرشًا عن الفدان.

ومسحت ثالث مرة على يد ابن المدبر عامل الخراج في خلافة المعتز بالله فوجد فيها ما يصلح للزراعة أربعة وعشرين مليون فدان على ما ذكره المقريزي، وبلغ خراجها ثمانمائة ألف دينار (٤٨٠٠٠٠ج.م) بواقع قرشين عن الفدان، وبلغ الخراج في مدة حكم أحمد بن طولون على ما ذكره ابن وصيف شاه ٤٢٠٠٠٠٠ دينار (٢٥٨٠٠٠٠ج.م) وكان زمنه زمن رخاء، وفي حكم الإخشيد بن محمد طغج بلغ الخراج على ما ذكره المقريزي مليوني دينار عبارة عن (١٢٠٠٠٠٠ج.م).

وفي خلافة العز لدين الله كان خراجها في سنة ٣٥٨ﻫ على ما ذكره ابن وصيف شاه ١٢٠٠٠٠٠ دينار (٧٢٠٠٠٠ج.م) وفي سنة ٣٥٩ﻫ على ما ذكره ابن حوقل ٣٢٠٠٠٠٠ دينار (١٩٢٠٠٠٠ج.م) وكذلك في سنة ٣٦٠ﻫ على ما ذكره أبو المحاسن.

وبلغ في خلافة المنتصر بالله على ما ذكره أبو صالح ٣١٢١٠٠٠ دينار (١٨٧٢٠٠٠ج.م).

وفي حكم صلاح الدين بلغ خراج مصر عدا إقليمي منفلوط ومنقباط سنة ٥٨٥ﻫ على ما ذكره القاضي الفاضل ٤٦٥٣٠٢٩ دينارًا (٢٧٩١٨١٧ج.م).

ومسحت أرضها رابع مرة في عهد المنصور حسام الدين لاجين فكانت ٥٧٣٣٧٢٣ فدانًا خراجها بلغ ١٠٨١٦٥٨٤ دينارًا (٦٤٨٩٩٥٠ج.م) بواقع قرشًا عن الفدان.
ومسحت خامس مرة في عهد الناصر محمد بن قلاون في سنة ٧١٥ﻫ (١٣١٥م) فبلغت ٥١٣٣٧٢٣ فدانًا وخراجها ٩٤٢٨٢٨٩ دينارًا (٥٦٥٦٩٧٣ج.م) بواقع قروش عن الفدان وهي آخر مساحة عثرنا عليها في هذا العصر.

عصر العثمانيين

عثرنا في هذا العصر على ما كتبه مؤرخان فقط؛ أحدهما عن أوله والثاني عن آخره، فقد ذكر ابن إياس وكان حيًّا في السنين الأولى للفتح العثماني أن خراج مصر بلغ ١٣٠٠٠٠٠ دينار (٧٨٠٠٠٠ج.م) و٦٠٠٠٠٠ أردب من الغلال في ٣٥ قرشًا يساوي ٢١٠٠٠٠ج.م فيكون المجموع ٩٩٠٠٠٠ج.م.

ويؤخذ مما ذكر استيف في كتاب (وصف مصر) أن الخراج بلغ ١٠٥٢٩٥١ج.م قبل إغارة الحملة الفرنسية على مصر، أما مساحة الأرض في هذا العهد فكانت ٤٥٤٢٢٧٩ فدانًا بواقع ٢٣ قرشًا عن الفدان.

عصر الفرنسيين

وصلت الحملة الفرنسية إلى مصر وهي من الوجهة الزراعية في أسوأ حالة، ويؤخَذُ من حساب استيف أن الخراج عن سنة ١٧٩٩م بلغ ٢٢٥٤٣٣٩٩ فرنكًا (٨٦٩٦١٣ج.م) نقدًا وعينًا ومساحة الأرض المزروعة ٤٥٤٢٢٧٩ فدانًا بواقع ١٩ قرشًا عن الفدان.

عصر الأسرة العلوية

ذكر مانجان عن سنة ١٨٢١م أن الخراج بلغ ٦٦٠٥٤١ج.م ومساحة الأرض المزروعة ٢٠٣١٩٠٥ فدادين، أي بواقع قرشًا عن الفدان.
وقال كلوت بك عن سنة ١٨٣٣م: إن مساحة الأرض المفروض عليها الخراج هي ٣٦٨٥٦١٢ وأن خراجها يبلغ ١٠٨٤٩١٢ج.م، أي بواقع قرشًا عن الفدان.

وإنني مضطر لأن أنزل عن عصر محمد علي إلى عصر توفيق في سنة ١٨٨١م وأترك ما بينهما؛ لأنني لم أعثر على ما أعرف منه الخراج في هذه المدة من جهة ولأن سنة ١٨٨١ تبين لنا الوقت الوسط من حكم هذه الأسرة بين محمد علي وعصرنا الحاضر، ووقفنا على حالة البلاد في الفترة التي كانت قبل الاحتلال الإنجليزي.

أما مساحة الأرض المفروض عليها الخراج في سنة ١٨٨١م المذكورة فقد بلغت ٤٧١٤٤٠٦ فدادين وخراجها بلغ ٤٨٨٠٥١٨ج.م بواقع قرشًا عن الفدان.

وفي سنة ١٩٢١م من عهد جلالة الملك فؤاد بلغت مساحة الأرض ٥٦١٥٧٠٠ فدان وخراجها ٥١٣٤٦٦٠ج.م بواقع ٩٠ قرشًا عن الفدان.

وقد جاء في مذكرة السير مردخ ماكدونلد مستشار وزارة الأشغال العمومية عن أعمال مراقبة النيل في سنة ١٩١٩م:

إن مساحة الأرض المزروعة والقابلة للزراعة بمصر هي ٧٣٠٠٠٠٠ فدان يستنزل منها ما هو مخصَّص لتربية الأسماك وقدره ٢٠٠٠٠٠ فدان، فيكون الباقي ٧١٠٠٠٠٠ فدان.

يستنزل منه المساحة المفروض عليها خراج وهي ٥٦٠٠٠٠٠ فدان، فيكون الباقي ١٥٠٠٠٠٠.

وهذا المقدار هو المساحة الغير المزروعة الآن من أرض مصر والقابلة للزراعة في المستقبل.

الخاتمة

قد تَبَيَّنَ ممَّا سبق أن مساحة الأراضي القابلة للزراعة في القطر المصري (٧١٠٠٠٠٠) فدان عدا (٢٠٠٠٠٠) فدان تربى فيها الأسماك والمقدار الأول قسمان (٥٦٠٠٠٠٠) فدان تجبى منها الضرائب باعتبار أنها مزروعة و(١٥٠٠٠٠٠) فدان غير مزروعة الآن وقابلة للزراعة في المستقبل.

وجملة سكان مصر ١٢٧١٨٢٥٥ حسب إحصاء سنة ١٩١٧ فيكون لكل فدان شخصان وربع، وأكثر المديريات سكانًا بالنسبة لمساحتها مديرية المنوفية؛ إذ يخص كل ثلاثة من سكانها فدان واحد، وما زال المصريون منذ إحصاء سنة ١٩١٧ في نمو مستمر، فإذا تركنا سني الحرب الاستثنائية جانبًا نجد زيادة عدد المواليد على عدد الوفيات في سنة ١٩٢١ حسب تقرير مصلحة الإحصاء بلغت (٢٣٤٤٥٩) وفي سنة ١٩٢٢ (٢٤٣٥٣٦) نسمة.

وكلما زاد عدد السكان كثر ازدياد عدد المواليد على عدد الوفيات طبعًا، ولا ريب عندنا في أن متوسط هذه يبلغ سنويًّا ٢٥٠٠٠٠ بدون أدنى مبالغة.

وليس في مديرية المنوفية وهي أخصب أرض مصر قطعة لا تزرع، ومع ذلك فكثير من سكانها يهاجرون؛ لأنهم لا يجدون ما يقوم بأود معيشتهم فيها، على أننا مع هذا نسلم بقاعدة كفاية الفدان الواحد من كل أرض زراعية في مصر لمتوسط معيشة ثلاثة أشخاص، فنقول بناء على هذه القاعدة:

إن الأرض المزروعة في مصر ومقدارها (٥٦٠٠٠٠٠) تكفي لمعيشة (١٦٨٠٠٠٠٠) نسمة، وبعد تعداد النفوس سنة ١٩١٧ بلغ مجموع زيادة المواليد عن الوفيات (٨٧١٧٧٠) بتقدير مصلحة الإحصاء فإذا أضفنا إلى ذلك زيادة سنة ١٩٢٣ ومقدارها (٢٥٠٠٠٠) وأضفنا المجموع إلى إحصاء سنة ١٩١٧ يكون عدد السكان في نهاية سنة ١٩٢٣ (١٣٨٠٠٠٠٠) وبطرحه من (١٦٨٠٠٠٠٠) نسمة، وهو العدد اللازم لاستثمار المساحة المقرر عليها ضرائب يكون الباقي (٣٠٠٠٠٠٠) نسمة وهو عجز يسد بزيادة السكان السنوية، فإذا سلم لنا أنها (٢٥٠٠٠٠) سنويًّا يتلاشى هذا العجز بعد اثنتي عشرة سنة، على أنني أقول: إن عشر سنوات فقط تكفي لذلك إذا جرت الأمور في مجراها الطبيعي.

وإذا أعدت المساحة الغير مزروعة الآن للزراعة وهي تشمل الجزء الشمالي وإقليم البحيرات للدلتا ومقدارها كما مر (١٥٠٠٠٠٠) لزمها من السكان (٤٥٠٠٠٠٠) وهو مقدار يتلاشى بزيادة السكان في مدى ثمان عشرة سنة، فتكون السنوات اللازمة لملاشاة العجز كله ثلاثين سنة أو بالحري خمسًا وعشرين سنة، أي ربع قرن أو نصف العمر الغالب للإنسان، وعلى ذلك نجد أنفسنا أمام إحدى حالتين، وهما:
  • الأولى: إذا لم تجفف مياه إقليم البحيرات ولم يعد للزراعة وصلنا إلى آخر حد لاستطاعة القطر تحمل سكانه في مدة ١٢ سنة على الأكثر.
  • الثانية: إذا جففت مياهه وأعد للزراعة وصلنا إلى الحد المذكور في مدة ثلاثين سنة على الأكثر.

وهاتان المدتان حتى أطولهما أقرب إلينا من حبل الوريد، ومعظم النسل الحاضر سيرى بعيني رأسه انقضاء هذه السنين، فماذا نصنع بعدئذٍ والزيادة مستمرة في السكان؟

لا ريب أنه يجب علينا منذ الآن التفكير في حل لهذه المعضلة الاجتماعية المتوقَّعَة، وهو ما سنفرد له هذا المبحث. الجزء المروي والممكن ريُّهُ من القطر المصري على شكل شريط طويل دقيق ينتهي طرفه الشمالي بشكل مروحة عند البحر الأبيض المتوسط، وهذه هي التي تسمى الدلتا.

وهذا الجزء المروي يحد بصحراء العرب شرقًا وصحراء لوبيا غربًا، وليس في الإمكان ري أرض الصحراوين المذكورتين بمياه النيل؛ لارتفاعهما وعدم استواء مسطحهما، فسيستمر جدبهما لهذا العائق الذي لا يمكن تذليله إلى ما شاء الله، ومن المستحيل في مصر الانتفاع بأرض لا يرويها النيل فليس هناك احتمال لتوسع زراعي من هاتين الجهتين.

وفي الجهة الشمالية البحر، فإذا وجهنا زيادة عدد سكاننا إلى هذه الوجهة وافترضنا ارتحالها إلى ما وراء البحار وتركنا جانبًا كراهة المصري الغُرْبَةَ فإننا لا نجد ما يحقق لها أي رغد من العيش للبون الشاسع بين البلادين طقسًا وطبيعة وجنسية ولغة وديانة فهذه الجهة في حكم المسدودة.

أما المورد الصناعي للمعيشة فضلًا عن أن مصر تنقصها المواد الأولية لتكون الصناعة فيها زاهرة يانعة فإنه مورد محدود من المستحيل أن ينتفع به عدد عظيم من السكان في مصر، ولنفرض أنهم نصف مليون أو مليون فإنه يستغرق بزيادة السكان في مدى أربع سنوات فقط، ومتى انقضى هذا الأجل القصير نجد أنفسنا أمام المعضلة بعينها من جديد.

وحاشا أن أقصد تثبيط الهمم عن الصناعة بهذا الكلام، وإنما القصد فقط بيان عدم كفاية هذا المورد، وأنه لا يحل المشكل الذي نحن بإزائه.

فالمنفذ الوحيد المفتوح أمامنا هو جهة الجنوب حيث يوجد إقليم واسع ذو سكان قليلي العدد، وأرض من طبيعة أرض مصر تروى بنفس النيل ولا يفصلها عنا فاصل؛ بل هي ومصر جسم واحد.

وإقليم كهذا حالته المعيشية وثمار أرضه مماثلة لقطرنا، المصريون وحدهم هم الذين في استطاعتهم جعله في حالة سعادة ورفاهية، وبالاختصار هو بيئة مناسبة لأمزجة المصريين على قدر ما هم أنفسهم موافقون لهذه البيئة، وهو الذي يسع الزيادة المستمرة لسكان مصر مدى مائه عام بدون أدنى مضايقة.

فالسودان هو باب السلام الوحيد الذي ظل مفتوحًا لمصر على مصراعيه منذ الأزمان الخالية، ويجب أن يبقى كذلك إلى الأبد؛ لأنه لازم لها لزوم الروح للجسد.

وإلى هذا الغرض يجب أن تصوَّب جميع مجهودات أولئك الذين في يدهم حظ مصر، وفي قلبهم يضمرون لها النفع والمصلحة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤