الفصل الثاني

منذ البداية، أريد أن أؤكد حقيقة هامة، وهي إنني في هذه المذكرات لا أحاول أن أدلل على وطنية أبي محمد سلطان باشا، فهذه في رأيي قضية واضحة لا تحتاج إلى كثير من المناقشة، ولو كنت أعرف أنها موضع شك، لاخترت منذ زمن طويل أن ألتقي بكل الذين عرفوا والدي وعرفهم … وأبحث في أوراقهم وأنقب في ذكرياتهم.

ومع ذلك، فإنني إزاء ما يثار في هذه الأيام من أقاويل، أرى أنه من الأفضل أن أضع النقاط على الحروف، وأن ألتزم في ذلك بما جرى على ألسنة الأطراف الأخرى، فلا جدال في أن أعظم شهادة هي ما يشهد به الأعداء. فقد حاول البعض أن يفسر المواقف بما يخدم مصالح أطراف معينة، بعيدًا عن وجه الحقيقة، ولكن تشاء إرادة الله أن يبدو وجه الحقيقة على أيديهم.

لقد قلت: إن أبي هو الذي حذر منذ وقت مبكر مما يمكن أن يحدث نتيجة الاندفاع في مواقف متطرفة، دون استعداد من ناحية، ودون دراسة وافية ومتأنية من ناحية أخرى. ولكن الاندفاع غلب على صوت العقل، فكانت تلك النتائج السيئة التي أشار إلى إمكانية وقوعها من قبل أن تحدث … وهذا هو الفارق بين الرجال، وهذا هو أيضًا الفارق بين المواقف، وهذا هو كذلك الفارق بين النتائج.

ولكي أبرهن على تعمد البعض تشويه التاريخ حبًّا في المصلحة الشخصية، أو تبريرًا لآراء بعض المتطرفين في أفكارهم، فإنني أسجل هنا كلمة الأستاذ حسن القاياتي التي نشرت بجريدة الأهرام الغراء بتاريخ ٢٢ سبتمبر ١٩٢٠ بعنوان «حول عرابي». وفيها يقول:

كتب عبد السميع عرابي في «المنبر» الكلمة الآتية فيما يدافع به عن أبيه زعيم الثورة. قال: في يوم الأربعاء ١٣ سبتمبر ١٨٨٢ كان عرابي يصلي الفجر، فسمع ضرب المدافع بشدة، ولما تفقد الأمر وجد الضرب على طول خط الاستحكام، وأن الاستحكامات تضرب المركز العمومي الذي يبعد عنها نحو أربعة آلاف متر، ولما لم يكن هناك غير الأهالي المتطوعين مع (المدعو) الشيخ محمد عبد الجواد وأخيه وجابر بك من بندر ببا، وكانوا جميعًا نحو الألفين، دعاهم للهجوم على بطارية الأعداء فامتنعوا. وما زال بهم يذكرهم بالوطن وواجب الجهاد إلى آخر عبارات الاستفزاز المشتعلة في مثل هذا المقام حتى يئس من نفعهم وحتى تفرقوا جميعًا فرارًا من هول الموقف.

تلك كلمة عبد السميع بك عرابي فيما يفصح به عن أبيه ويؤيد به فعلته في ذلك الموقف. أما أنا فلم تتقدم بي العين إلى شهود تلك الموقعة، وأنا أؤيد بأن أباه كان رجلًا مخلصًا بر الطوية نبيل النزعة في ثورته، ولكني على ذلك ناقل هذه الحقيقة عمن شاهدها، فأدى ما سمع وأبلغ ما رأى؛ قضاء لحق التاريخ والعلم.

حدثني رجل خصيص بالشيخ محمد عبد الجواد القاياتي (والد كاتب هذه الكلمة) حضر معه الموقعة. قال: بعد أن وقعت الهزيمة على الجيش المصري العرابي، وحقت كلمة الفشل والخزي، لم يرعني إلا عرابي باشا على فرس ضامر ينهب به الأرض نهبًا ويطير به في كل مطار، حتى إذا اجتاز السرادق الذي كان فيه الشيخ محمد عبد الجواد وأخوه الشيخ أحمد عبد الجواد، جعل ينادي ويهتف: «يا سيدنا الشيخ … لقد ضاعت البلد … دافعوا عن المسلمين» في أمثال هذه الكلمات الجوفاء، فأجابه الشيخ محمد عبد الجواد بكلمات فيها شتم وتحقير ورمي بالخيانة … ثم مر عرابي لا يلوي على شيء، وكيف تستطيع المتطوعة القتال بعد هزيمة الجيش؟

ومن ناحية أخرى، فقد وصلني خطاب من الأستاذ عبد السميع أفندي عرابي بتاريخ ١٥ فبراير ١٩٢٦، وفي هذا الخطاب يسترعي الالتفات عبارة يقول فيها: «هذه المجهودات الوطنية وما لبيتكم من الآثار الجليلة فيها». وأعتقد تمام الاعتقاد أن هذا الوضع هو المطابق تمام المطابقة لما جاء في المذكرات الأصلية لعرابي باشا؛ لأنه ما كان يستطيع تدوين غير الحقيقة هو وغيره من المعاصرين له على قيد الحياة.

ولو كان الموقف بالنسبة لوالدي غير ذلك، لما أقر واعترف عبد السميع أفندي كتابة بما بيننا من الآثار الجليلة في هذه المجهودات الوطنية، وإلا لكان مخالفًا لواقع وحقيقة مذكرات والده، ولكن المحير في الأمر أن يعترف عبد السميع أفندي بالآثار الجليلة لبيتنا في هذه المجهودات الوطنية قبل طبعها، ثم يرمي والدي بضد هذه الآثار بعد الطبع؟!

ومما يحقق اعتقادي بعدم صحة كل ما أثاره المغرضون حول والدي، خطاب آخر وصلني من عبد العزيز أفندي عرابي مع نسخة مهداة إليَّ من الجزء الأول من تاريخ والده، وفيه يسجل قراره بخطه أن والدي قد اشترك في تلك الثورة؛ إذ قال: هذه نسخة من الجزء الأول من تاريخ والدي رحمه الله عن الثورة العرابية التي اشترك فيها ساكن الجنان سلطان باشا، وكان فيها من المبرزين. ويقول أيضًا: فحسبي أن أتقدم بهذه الهدية وفاء لوالدك الذي له حقه علينا.

ولعل مثار دهشتي من الخطابين اتفاقهما قبل الطبع على ذكر أفضال والدي، والإشادة بمواقفه ومجهوداته والرغبة في خدمة الحقيقة والتاريخ، ثم ظهور بعض الشوائب التي أحيط بها والدي، الذي كان بالأمس محل التقدير لمجهوداته الوطنية، والذي كان من المبرزين في تلك الثورة! …

ومن هذا الاستشهاد وغيره من مجريات الحوادث يستطيع القارئ أن يتبين أين الحقيقة، ولو عاش والدي بضع سنين أخر، لاستطاع أن يكشف النقاب عن كثير من الأسرار التي أحاطت بموقف الجميع، ولكنه للأسف مرض في أعقاب نتائج الثورة، واشتد مرضه بسبب نتائجها التي أدت إلى أسوأ ما منيت به مصر الحديثة، وهو احتلال البلاد.

وفضلًا عن ذلك، فإنني أنشر هنا مقالًا للأستاذ عبد الرحمن بك الرافعي في مجال ما دار من المساجلات والمشادات، التي نشرت في الصحف بينه وبين عبد السميع أفندي عرابي حول مذكرات والده. وفيه يبدو جليًّا رأي أحد المؤرخين في المآخذ التي تعرض لها سلوك عرابي باشا ومقاصده ونواياه، وإظهار نواحي الضعف والإهمال في إعداد الجيش العرابي لمنازلة الإنجليز، وتحميل زعماء الثورة العرابية مسئولية المخاطرة بمستقبل البلاد، فضلًا عن نوايا بعضهم في اعتلاء العرش.

وقد نشر هذا المقال في جريدة كوكب الشرق في ٢٦ سبتمبر ١٩٣٣، تحت عنوان «كلمة ختامية»:

قرأت المقالات الثلاث التي كتبها حضرة عبد السميع أفندي ردًّا على كلمتي عن ذكر ١٤ سبتمبر، وليس من قصدي أن أدخل وإياه في مناقشة طويلة، فإني أعتقد أن أعمدة الصحف اليومية لا تتسع لهذه المناقشات؛ لذلك أقتصر على الرد التالي ليكون من «ناحيتي» كلمتي الختامية لهذا الموضوع.

أنا لم أزل على رأيي في أن زعماء الثورة العرابية قد ركبوا من الشطط من يوم أن أكرهوا شريف باشا على الاستقالة من الوزارة. لقد ذكر عبد السميع أفندي قصة هذه الاستقالة وأراد بها أن يبرر مسلك العرابيين في الدور الثاني للثورة، واستدل بقرار مجلس النواب في هذا الصد، وقال: إن النظام الدستوري هو الذي أكره شريف باشا على الاستقالة، وجوابي على ذلك أن يستتر وراءه الزعماء لتغطية مسئولياتهم في الحوادث الجسام؛ لأن المعلوم أن النواب في عهود الثورات والانقلابات يستلهمون الرأي من زعمائهم. فإذا شط النواب في قراراتهم وكانوا في شططهم نازلين على حكم زعمائهم ثم وقعت الكارثة، كانت المسئولية واقعة على الزعماء أولًا ثم على النواب ثانيًا.

فشريف باشا كان يرى درءًا للأزمة السياسية التي نشأت عن تدخل الدولتين في مسألة الميزانية، ألا يبت مجلس النواب في قراره النهائي في المادة المتعلقة بها من اللائحة الأساسية ويرجئها إلى حين تنتهي الغمة؛ وبذلك يتفادى التدخل المسلح من جانب إنجلترا وفرنسا.

والتأجيل في ذاته لم يكن مضيعًا لحقوق الأمة؛ لأن وضع الدستور قد يستغرق زمنًا يطول أو يقصر على حسب الظروف والملابسات، والتأجيل كثيرًا ما يكون وسيلة لحل بعض الأزمات السياسية، ولكن العرابيين رفضوا الأخذ برأي شريف باشا؛ لأنهم رأوا في هذه الأزمة فرصة للاستئثار بالحكم وتولية أحد زعمائهم رئاسة الوزارة بعد إقصاء شريف باشا عنها. وقد تم لهم ما دبروه واستقال شريف باشا، وتولى الرئاسة محمود باشا سامي البارودي. ومن يومئذ تلاحقت الأحداث والخطوب حتى انتهت بالاحتلال.

فالعرابيون قد عرضوا البلاد للتدخل المسلح من جانب إنجلترا … ويا ليتهم عرضوها لهذا التدخل بعد أن أحسنوا الاستعداد للحرب والقتال، فإن الحكمة والسياسة تقضي على أقوى الدول الحربية أن تأخذ عدتها للحرب قبل أن تغامر فيها. ولكن العرابيين غامروا بمستقبل البلاد في وقت كانت عوامل الضعف والارتباك قد نالت من قوة الجيش ومكانته. فكان ما كان من هزائم سنة ١٨٨٢. فالذين خاطروا بمستقبل البلاد من زعماء الثورة العرابية يتحملون أكبر تبعة في وقوع الاحتلال.

والنظام الدستوري ليس مسئولًا عن هذه التبعات، بل النزعات والأطماع الشخصية هي المسئولة عنها، ولا نزاع في أن هذه النزعات والمطامع قد تغلبت على نفوس الزعماء في الدور الثاني للثورة، وقد شهد بذلك زعماء الثورة بعضهم على بعض، فشهد عرابي باشا في مذكراته بما كان يساور محمود باشا سامي البارودي من المطامع في عرش الخديوية. وشهد محمود باشا فهمي على عرابي بمثل ذلك القول في كتابه «البحر الزاخر» إذ قال عنه: «إن المقصد الأصلي له أن ينال أريكة الخديوية المصرية، وإن الثورة العرابية هي ثورة مشئومة، وأمرها وأحوالها كانت مكتومة في قلب عرابي لم تظهر حقائقها، ولم تبد دقائقها للعيان إلا بعد النفي في سيلان؛ حيث أفشى كل من عرابي وعبد العال وعلي فهمي ما كانوا عليه للعيان.»

وشهادة محمود باشا فهمي لها قيمتها التي لا تنكر؛ لأنه أحد زعماء الثورة الذين ثبتوا فيها حتى النهاية، وأحد المنفيين في سيلان، وكان وزيرًا للأشغال العمومية في «وزارة الثورة» التي كان يرأسها البارودي، وفيها كان عرابي وزيرًا للحربية، وكان فوق ذلك رئيسًا لأركان حرب الجيش العرابي في وقائع سنة ١٨٨٢ فأقواله حجة، وثمة شهادة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده فإنه كان يتوقع الشر من الثورة العرابية، ويقول: «إنها قد تجر إلى البلاد احتلالًا أجنبيًّا يستدعي تسجيل اللعنة على مسببه إلى يوم القيامة.» وقد تحقق مع الأسف ما كان يتوقعه، وانتهت الثورة بالاحتلال الإنجليزي الذي تعانيه البلاد إلى اليوم.

أما طعن عبد السميع أفندي في أمثال الشيخ محمد عبده ومحمد باشا فهمي، فنحسب أنه لا ينقص من قيمة آرائهما شيئًا، وثمة كلمة أخرى أرد بها على عبد السميع أفندي، فإنه يسألني: «ما هي تلك الآراء والتصريحات التي أدلى بها عرابي حين عودته إلى مصر وكان فيها تأييد مطلق للاحتلال الإنجليزي؟ هذه تهمة خطيرة يحسن ألا يقذف بها هكذا جزافًا من غير أن تقترن بالبينة.»

ويلوح لي أن هذا السؤال هو من قبيل تجاهل العارف، فإن عبد السميع أفندي وهو أحرص الناس على كل ما له علاقة بتاريخ عرابي باشا، لا يمكن أن تفوته تلك الأحاديث. ولم أكن أريد أن أعيدها ولذلك اكتفيت بالإشارة إليها. ولكن ما دام عبد السميع أفندي يذكرها ويطلب منا البيان، فإني أحيله على حديث المغفور له عرابي باشا في جريدة «ذي تيمس أوف سيلان» عدد ٢٦ مايو ١٩٠١ بعد العفو عنه، إذ قال فيه: «كلما أتفكر في مصر أحس بفرح عظيم وسعادة أكيدة لعلمي بأنه ليس بها الآن أقل اضطراب، وإن ما كنت أتمناه لأمتي من استتباب الأمن وتمام الراحة نالتها اليوم بلا تعب ولا عناء وما ذلك إلا بهمة الحكومة الإنجليزية.»

وأحيله أيضًا على حديث هام نشر له في عدد ٣ أكتوبر ١٩٠١ من جريدة المقطم، إذ قابله مندوبها بعد عودته لمصر، وسأله: هل وجدتم ما رأيتموه في مصر في هذين اليومين مختلًفا عما كانت عليه حين مفارقتكم إياها؟

فقال عرابي باشا: إن عائلتنا كبيرة تعد أكثر من عشرة آلاف نفس منتشرين في طول هذا القطر وعرضه. وقد قابلت أكابرهم الذين جاءوا السويس للتسليم عليَّ، فسألتهم عن الأحوال بالتفصيل والإجمال، فوجدتهم متفقين في الجواب، قلت لهم: أصحيح أن السخرة ألغيت عندكم، فقالوا: نعم صحيح، قلت والكرباج، قالوا: أبطل من زمان، قلت: وكيف تحصل الأموال من الأهالي، قالوا: بالحق والعدل، وكل إنسان يعرف ما له وما عليه … فسألتهم وكيف الاستبداد في الأحكام الآن، أجابوا أنه لم يبق للاستبداد أثر في البلاد، فكل شيء مقيد بقانون ونظام ولا خوف على محكوم من جور حاكم؛ لأن كل من له أو عليه قضايا رفع مظلمته إلى المحاكم. فشكرت الله حينئذ وحمدته؛ لأنه حقق مناي وأراني قبل مماتي ما طالما كنت أتمناه لبلادي وأبناء وطني في حياتي. وقلت هذا هو الإصلاح الذي كان غايتي من أفعالي الماضية.

وقد شاء الله أن ينعم على وطني ولكن لحكمة له جل جلاله قضى ألا يتم ذلك على يدي، بل على يد الذين نازلناهم في ساحة القتال وكانوا لنا أعداء، فصاروا لمصر اليوم خير الأصدقاء، وقضى الله أن أكون واسطة هذا التغيير فينال وطني ما كنت أتوخى وأتمنى له من الخير.

فهل هذه التصريحات لزعيم ثورة يحمل في قلبه رسالة الوطنية لقومه. إن الزعيم الوطني لا يمكن أن يمتدح الاحتلال الأجنبي المضروب على بلاده بمثل هذه الأقوال، ولا يمكن أن يصف جرائم الاحتلال بأنها الإصلاح الذي كان يبتغيه وإنها غايته من «أفعاله الماضية» أي من الثورة التي حمل لواءها وتولى زعامتها. هذا إلى أن عرابي باشا يمن على بلاده في هذا الحديث بأن الإنجليز قد أبطلوا السخرة والكرباج ونظموا المحاكم وأقاموا منار العدل فيها، وهو لعمري قد ظلم مصر بقوله هذا ولم ينصف الحقيقة والتاريخ، فإن السخرة والكرباج قد أبطلا في عهد وزارة رياض باشا الأولى سنة ١٨٨٠ قبل الاحتلال، ونظام المحاكم الحالي قد تقرر بادئ ذي بدء في عهد وزارة شريف باشا الثانية بمقتضى المرسوم الصادر في ١٧ سبتمبر ١٨٨١ قبل الاحتلال أيضًا.

ومن تهكم الأقدار ومن المؤلم حقًّا أن زعيم الحركة التي قامت في الأصل لتخليص الجيش من سيطرة شرذمة من الشراكسة، يغتبط بوقوع مصر تحت سيطرة الإنجليز. وكانوا يوم أن أدلى بهذا الحديث قد مضى عليهم عشرون عامًا قضوا فيها على استقلال البلاد وحريتها، وسلخوا السودان عنها، وجعلوا أملاكها ومرافقها نهبًا مقسمًا بينهم وبين الدول الاستعمارية، واغتصبوا سلطة الحكم وأفسدوا الجيش والإدارة والتعليم والأخلاق في البلاد.

وبعد، فلم أكن أريد أن تصل المناقشة إلى هذه التفاصيل. ولكن ردود عبد السميع أفندي قد اقتضت ذلك، وجعلتني أعيد البحث فيما أدلي به من حجج في مقالاته، وكنت أود أن أقتنع بها، ولكنها لم تزدني إلا اقتناعًا بالرأي الذي وصلت إليه من قبل، وهو أن الثورة العرابية في دورها الثاني كانت مع شديد الأسف صفحة محزنة من تاريخ مصر الحربي والقومي …

هذا ما كتبه عبد الرحمن الرافعي، وكشف فيه الرجال والمواقف والأدوار، ونبه الأذهان إلى مجريات الأمور في الدور الثاني للثورة العرابية، ولقد كان من بين الرجال الذي تنبهوا مبكرًا لذلك، والدي محمد سلطان باشا؛ فقد ظل مؤازرًا للثورة العرابية باعتبارها ضمير الأمة وصوت الشعب، إلى أن جاءه رجال الثورة ليطلبوا منه، باعتباره رئيس البرلمان، أن يدعو إلى جلسة لعزل الخديوي، فلما سألهم عمن سوف يشغل مكانه بعد عزله حتى يقرر البرلمان ذلك، لم يلبثوا أن اختلفوا وتناحروا وادعى كل واحد منهم أنه الأحق بالأريكة الخديوية. وربما كان هذا هو الموقف الذي أسلم أبي للمرض، فقد غاب صوت العقل في المناقشات التي دارت بينه وبين رجال الثورة العرابية، واندفعوا رغم تحذيره بأن هذا الاندفاع قد يؤدي إلى أسوأ العواقب.

فلما وقعت الواقعة اشتدت العلة وسافر إلى سويسرا ومنها إلى جراتس في النمسا؛ حيث قضى نحبه عام ١٨٨٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤