الفصل الثامن والعشرون

كنت قد تحدثت عن الاجتماع الذي عقد في منزلي يوم ٣٠ أكتوبر ١٩٢٤ والذي اتخذت فيه السيدات عدة مرات قرارات هامة، من بينها قرار مقاطعة كل ما هو إنجليزي، وقد أكدنا هذا الموقف بأن أرسلنا إلى اللورد اللنبي صورة مترجمة باللغة الإنجليزية من هذه القرارات، في ١٠ نوفمبر ١٩٢٤، وقد كتبت رسالة مع هذه القرارات، قلت فيها: أتشرف بأن أرسل لفخامتكم ترجمة إنجليزية للقرارات التي اتخذتها السيدات المصريات المجتمعات في منزلي، وترون فخامتكم أننا مدفوعون بكرامتنا الوطنية إلى اتخاذ هذه القرارات.

وقد أحدث موقف المرأة المصرية رد فعل عنيفًا في الأوساط الشعبية؛ حيث تكونت لجنة المقاطعة، والتي أصدرت منشورات تحث فيها الجماهير على تنفيذ المقاطعة والاقتداء بموقف المرأة المصرية، لتحقيق المقاطعة الكاملة التي تعبر عن استياء الأمة وغضبها من موقف إنجلترا بالنسبة للسودان.

وكان من بين ما جاء في نداء لجنة المقاطعة ما يلي:

ها هو فريق من بنات الوطن قام يرفع صوته بالاحتجاج على تصرفات إنجلترا الضارة بحقوق الأمة والماسة بكرامتها.

فاجتمعت طائفة كبيرة منهن تربطها بكم صلة الوطن الذي مست كرامته، وقررت مقاطعة التجارة والصناعة الإنجليزية إعلانًا لاستياء الأمة وغضبها.

وها قد شكلت لجنة منهن لتنفيذ ما أقرته جمعيتهن، وهي عاملة على اختيار لجنة من الرجال للتعاون بأفكاره ونفوذها على تعميم هذه المقاطعة بقدر المستطاع، ولا شك في أن السيدات اللاتي اعتزمن القيام بهذا الواجب لم يقدمن عليه إلا وهن معتمدات على أن هذا النداء يصادف من نفوسكم قبولًا، ومن وطنيتكم تشجيعًا.

أبناء مصر، ها أنتم أولاء قرأتم الكتاب الأبيض الإنجليزي ينعي إليكم فصل السودان عن مصر، ويقر لكم حكم الإعدام عليكم بهذا الفصل.

وها أنتم علمتم ما أصاب إخوانكم بالسودان من السجن والإرهاب والطرد، لا لذنب جنوه سوى إظهار شعورهم نحو مصر والتمسك بها.

وما أنتم إزاء هذه التصرفات إلا بين أمرين: فإما أن تستسلموا لحياة تعسة وذل أبدي، وإما أن تبرهنوا على إبائكم وأنفتكم.

ليس لكم سلاح تشهرون، ولا أسطول تخوضون به غمار البحار، ليس لكم حول ولا قوة أمام حولهم وقوتهم، ولكن لكم سلاح أمضى ومدفع أبعد مدى، ذلك هو الإضراب عن معونة الإنجليز في جميع الأعمال الاقتصادية والتجارية والصناعية، فلا تشتروا بضائعهم، ولا تستأجروا مزارعهم، ولا تؤجروهم منازلكم، ولا تودعوا نقودًا في مصارفهم، وطنوا أنفسكم على ذلك غيرة على حياتكم وشرفكم.

إنهم يريدون التحكم في مواردنا، ومنهل إسعادنا، وإن شعبًا يريد بكم ذلك احتقارًا لشأنكم، لخليق بأن تقطعوا كل صلة معاملة بينكم وبينه.

نداء الأمة

كنت قد أرسلت برقية إلى سعد باشا زغلول بشأن موقف الحكومة المصرية من قضية اغتيال السير لي ستاك، وكانت الصحف قد نشرت نص هذه البرقية تحت عنوان «نصيحة رشيدة لم يأخذ بها سعد باشا»؛ حيث طلبت إليه فيها أن يرفض كل طلبات إنجلترا.

وفي يوم ٢٣ نوفمبر ١٩٢٤، وجهت كتابًا مفتوحًا، لصاحب الدولة سعد زغلول باشا، وقد نشرته الصحف أيضًا، وهذا هو نص الكتاب المفتوح:

قبل أن نطلع على ردكم لطلبات إنجلترا التي وجهتها للحكومة المصرية لمناسبة الاعتداء على حياة السير لي ستاك باشا، بادرت عن لجنة المقاطعة بإرسال تلغراف لدولتكم بما رأته اللجنة أقرب لمصلحة مصر، وهو أن تجيبوا على تلك الطلبات برفضها جميعًا؛ لأن ما هو معروف عن التقاليد الدولية في الإنذارات المماثلة لهذا الإنذار أن الدولة المطالبة تعتبر شرفها مرتبطًا بنيل طلباتها الواردة بذلك الإنذار.

فما كان أشد دهشتنا عندما قرأنا عكس ما كنا نرجو صدوره من دولتكم وهو الرفض التام، وكنا أكثر استغرابًا لقبولكم بعض الطلبات دون احتياط بتعليق هذا القبول على تنازل الدولة عن بقية طلباتها.

والآن وقد حم القضاء ووقعنا فيما كنا نخشاه؛ حيث أصدر المندوب السامي أمره لحكومة السودان بطرد الجيش المصري من الأقطار السودانية، وبالتصريح لتلك الجزيرة أن تزرع ما تشاء دون قيد ولا رعاية لمصلحة مصر، كما أعلن أيضًا عزمه على التدخل في شئون مصر الداخلية بحجة حماية مصالح الأجانب، فكانت النتيجة؛ أولًا: أنك رضيت إهانة مصر بقبولك تقديم الاعتذار عن تلك الجريمة، وذلك يعد اعترافًا رسميًّا بإدانة حكومة مصر وشعبها فيها أمام حكومة أصرت على العداء رغم تلك الترضية الباهظة، وكانت النتيجة ثانيًا: أنك جعلت النصف مليون جنيه حقًّا مشروعًا لتلك الدولة دون عوض عنه.

وكانت النتيجة ثالثًا: أنك حرمت على الشعب إظهار شعوره بالمظاهر العلنية مهما كانت سليمة، مخالفًا في ذلك الدستور، ولم تق البلاد من خطر تنفيذ ما بقي من الطلبات التي رفضتها بعدم احتياطك.

يا دولة الرئيس …

تمسكت بك البلاد، وعهدت إليك بالحكم رجاء أن تفي بما وعدتها من تحقيق استقلالها التام في مصر والسودان، وها أنت ترى أنه كلما طال العهد على ولايتك الحكم، بعدت الأمة عن نيل هذه المطالب، وها أنت ترى أن ختامها اليوم، ما وقع من فصل السودان وطرد المصريين منه وتدخل الإنجليز في شئون مصر الداخلية نفسها.

لذلك ألتمس منك ما دمت لم توفق وأنت في الحكم بتحقيق عهدك بعمل إيجابي، ألا تكون على الأقل حجرة عثرة في سبيل جهاد أمتك للتخلص من الحالة الحرجة التي وصلت إليها (لا أقول بسبب سياستك بل يكفي أن أقول أثناء حكمك)، وذلك بعمل سلبي هو التخلي عن الحكم، فلم يبق سبيل لإظهار استيائك واحتجاجك على هذه التعديات ومشاركتك لأمتك في آلامها إلا الرجوع إلى صفوفها في هذا الوقت العجيب.

هدى شعراوي
وفي يوم ٢٤ نوفمبر ١٩٢٤، أذاع سعد زغلول باشا في عنوان «نداء للأمة»:

إن الوزارة بعد أن اجتهدت في تسوية الحالة السيئة التي نشأت عن الجناية المنكرة الممقوتة … وبعد أن أفرغت جهدها في وقاية البلاد من شرها بحسب ما أملته عليها مصلحة الأمة، رأت أن استمرارها في الحكم صعب عليها وربما يعرض الوطن لأخطار قد لا تحدث في تخليها.

فلهذا رأت أن تستقيل من منصبها، وتفضل جلالة الملك حفظه الله بقبول هذه الاستقالة، فترجو الأمة أن تتفهم هذه الحقيقة حق التفهم، وأن تدرك أنها في مصلحة البلاد، وألا تأتي بأي عمل يكون فيه تكدير للراحة أو تشويش للأفكار، والله يحفظها من شر الغايات، وإنني مستعد مع أصدقائي لتأييد أية وزارة تشتغل لمصلحة البلاد ونطلب لها كل توفيق.

سعد زغلول

إعلان الاستياء

وقد يعتقد بعض الناس أننا كنا ننظر إلى الأمور نظرة شخصية، ولكن هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة والواقع، فقد ظلت مصر على الدوام هي القضية وهي الهدف.

وحتى تبدو كل الأمور في نصابها، فإنني قبل أن أكتب الرسالة المفتوحة إلى سعد باشا زغلول، أصدرت بيانًا أعبر فيه عن وجهة نظر لجنة المقاطعة من الأحداث الجارية، وقد نشرت الجرائد هذا البيان في ٢٢ نوفمبر ١٩٢٤، وقد جاء فيه:

اجتمعت لجنة المقاطعة للسيدات بمنزلنا اليوم، وقررت إعلان شديد استيائها لحادث الاعتداء الفظيع الذي وقع على صاحب المعالي السير لي ستاك باشا سردار الجيش المصري … وهي تعتقد أن تحقيق آمال الأمة لنيل استقلالها أساسه البعد عن ارتكاب أي عمل تحرمه الشرائع سواء كان على الأشخاص أو الأموال كما جاء ذلك ضمن النداء الذي وجهته للأمة عقب تشكيلها.

واللجنة وهي تعلن هذا الأسف، تكرر الرجاء لأبناء الوطن على اختلاف طبقاتهم باجتناب كل عمل جنائي يسيء إلى سمعة مصر، ويكون من نتائجه الضرر على قضيتها الكبرى، وهي في الوقت نفسه تأمل أن تساعدها الجرائد الإنجليزية على تحقيق هذا الرجاء بتخفيف لهجتها عند الكلام على هذه الحادثة وعدم إلباسها ثوبًا يشف عن غرض لا يتفق وما ترجوه مصر وإنجلترا من عدم زيادة الهوة ومن تقريب حسن التفاهم بين الشعبين.

الرئيسة
هدى شعراوي
ومن ناحية أخرى، فقد اهتمت لجنة المقاطعة بأن تعطي جهودها لخطوات إيجابية على هذا الطريق، واستطاعت أن تسهم في حل المشاكل التي كانت تعترض فكرة المقاطعة، ومن ذلك المنشور الذي أصدرته في ١٩٢٤ بشأن مشكلة الفحم، والذي جاء فيه:

اجتمعت لجنة المقاطعة يوم الجمعة ٢١ الجاري، وقررت لنجاح مشروعها أن تلجأ إلى وطنيتكم خدمة للقضية الكبرى، راجية قبول دعوتها بمقاطعة المتاجر والمصانع الإنجليزية.

ولما كان صنف الفحم من الحاجات الضرورية، وكان يخشى صعوبة الحصول عليه من غير الإنجليز، فقد وفقت اللجنة لمعاملة محل مصري هو «الكونتوار التجاري المصري» لاستيراد الفحم الألماني اللازم لوابورات الزراعة والري والمطابخ بسعر أنقص من الفحم الإنجليزي وأجود منه، وتجدون عليه «كارت» موضحًا به اسم المحل المذكور ونمرة التليفون وهو مستعد لتلبية طلبكم بأول فرصة.

الحقوق المقدسة

ويتجلى معنى الإخلاص للوطن وللقضية المصرية في تلك الجهود التي بذلت من أجل جمع الأمة على كلمة واحدة في مواجهة ما يبيت لها بليل، وبخاصة بالنسبة لقضية السودان، وقد حاولنا أن نلفت الأنظار إلى ضرورة أن تقف الأحزاب صفًّا واحدًا «في أشد الأوقات خطرًا واحتياجًا للمؤازرة والتضحية».

وقد قلت في منشور صدر بتاريخ ديسمبر ١٩٢٤:

ولا يسعني إزاء تلك الحالة المحزنة ونحن على أبواب انتخاب جديد إلا أن أنصح لإخواني المصريين جميعًا أن يتحققوا قبل كل شيء من كفاءة من ينتخبونه وإخلاصه، جاعلين مصلحة الوطن فوق كل اعتبار؛ حتى لا نقع في مثل ما وقعنا فيه بالأمس، وحتى لا يجد الغاصب منفذًا لأغراضه من طريق مشروع يسجل علينا الرق والعبودية أبد الآبدين.

وبعد أن استفحل الشقاق بين الأحزاب الوطنية، قلت في منشور في ٢٨ ديسمبر ١٩٢٤:

أبناء وطني الأعزاء …

لقد رأيتم رغم الجهود التي بذلتموها في سبيل الاتحاد بين الأحزاب أن تلك المساعي أخفقت وفشلت وبقي حزب منها بمعزل عن الحزبين الآخرين لتشبث رئيسه، مع أن الحالة الدقيقة التي تجتازها القضية المصرية الآن كانت تحتم على كل فرد من المصريين أن يتكاتف مع أخيه ويعاضده، وأن يترك كل اعتبار شخصي إزاء تلك الحالة الحرجة، ليكونوا قوة كبيرة أمام العدو الذي لا يألو جهدًا في استغلال هذا الخلاف، ليصل إلى تحقيق مطامعه الاستعمارية.

واليوم نحن أمام انتخاب جديد، أمام أمر واقع يجب البت فيه بشجاعة وإخلاص ونزاهة، ذلك الأمر الواقع هو المذكرة الإنجليزية التي تسجل علينا الموت الأبدي، إذا نحن أقررناها وسلمنا بها.

وقد تقدم الحزب الوطني وحزب الأحرار الدستوريين للانتخاب، ومع كل منهما برنامج هو مسئول عن التمسك به أمام ناخبيه.

أما الحزب السعدي، فلم يعلن إلى الآن برنامجًا يرتبط به أمام الأمة، مع أن الحالة الراهنة تتطلب صراحة ولا تحتمل غموضًا أو مغالاة في الثقة لما في ذلك من الخطر.

فإذا تقدم الحزب السعدي للانتخاب (وسيتقدم طبعًا)، فواجب عليكم أن تطلبوا منه قبل كل شيء إعلان برنامجه، ليكون حجة عليه أمام ناخبيه، وهذه سُنة متبعة في جميع الأمم المتمدينة، فإذا طلبتم ذلك فلم تطلبوا بدعة وإنما تطلبون حقًّا لكم يجب أن يُؤدَّى إليكم، وبذلك تبرهنون للعالم أننا لا ننقاد انقياد الأعمى لإنسان مهما كانت قيمته ومكانته بين الأمة — وإنما ننقاد للمبادئ الحقة.

هذه نصيحتي أسديها إليكم بإخلاص غير متحيزة لفريق دون آخر، وغير واضعة نصب عيني إلا حقوق البلاد المقدسة.

هدى شعراوي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤