الفصل الخامس

العالم الصغير والعالم الحي

بالإضافة إلى العالمين فوق القمري وتحت القمري، كان هناك عالم ثالث جذب انتباه المفكرين في الفترة الحديثة المبكرة؛ ألا وهو: العالم الصغير متمثلًا في جسم الإنسان؛ ففي تلك الفترة من التاريخ، ركَّز الفيزيائيون وعلماء التشريح والكيميائيون والميكانيكيون على هذا العالم الحي الذي نسكنه، واستكشفوا بِناه الخفية، وسعوا إلى فهم وظائفه، آملين التوصل إلى طرق جديدة للحفاظ على صحته. والحياة التي تميز الجسم البشري تربطه طبيعيًّا ببقية صور الحياة على الأرض — نباتية وحيوانية. وقد زادت قائمة تلك المخلوقات الحية بأعداد هائلة أثناء الثورة العلمية، ليس فقط بفضل رحلات الاستكشاف، وإنما أيضًا بفضل اختراع المجهر الذي كشف عن عوالم من التعقيد تفوق الخيال البشري في أشياء عادية، وعوالم جديدة من الحياة في قطرة ماء.

الطب

كان الجسم البشري الهم الأول للطبيب، وكانت للطب مكانة عالية اجتماعيًّا وفكريًّا طوال أوج العصور الوسطى والفترة الحديثة المبكرة. وشكَّل علم الطب، جنبًا إلى جنب مع القانون واللاهوت، العلوم الثلاثة الأولى في الجامعة. وكانت المعرفة الطبية التي تدرَّس عام ١٥٠٠ نتاجًا لتراكم الخبرات والإبداعات العربية واللاتينية في العصور الوسطى، والتي كانت مبنية على أساس من التعاليم الإغريقية والرومانية القديمة. يعتبر جالينوس وأبقراط وابن سينا (نحو عام ٩٨٠–١٠٣٧) المرجعية الرئيسة لهذه المعرفة، وشكَّلت نظرية الأخلاط أساسًا لها. وتقول نظرية الأخلاط إن الصحة البدنية لا تعتمد فقط على الأداء الوظيفي السليم لمختلف أعضاء الجسم، ولكن أيضًا على وجود توازن — أو ما أطلقوا عليه «مزاجًا» — بين أربعة «أخلاط»، أو سوائل توجد في الجسم، وهي: الدم، والبلغم، والمرارة الصفراء، والمرارة السوداء. وهذه الأخلاط الأربعة تقابل العناصر الأرسطية الأربعة، وتتشارك معها في ثنائيات صفاتها الأولية (الشكل ٥-١).
fig13
شكل ٥-١: «مربع العناصر» الذي يوضح خواصها وعلاقاتها بالأخلاط الأربعة، وبالطباع الجسمانية الأربعة، وبالفصول الأربعة أيضًا.

كان دور الطبيب مساعدة الطبيعة في استعادة توازن الأخلاط عن طريق وصف أنظمة غذائية، وحميات، وأدوية معينة. وكان هذا الطب الذي يغلب عليه الطابع الجاليني يعمل بمبدأ «الضِّدُّ يُعالِج»، بمعنى أنه لو كان أحد المرضى يعاني «نزلة برد» (وهي تسمية جالينية في الأساس) ناتجة عن زيادة في البلغم، ينبغي إعطاء المريض أطعمة وأدوية حارة وجافة لمساعدته على استعادة التوازن، وفي حالة الإصابة بالحمى يكون المريض بحاجة إلى أدوية باردة رطبة، واغتسال بالماء البارد، أو ربما النزف لسحب الدم الزائد وما يتسم به من حرارة.

العلاقات الكثيرة التي افتُرض وجودها بين العالم فوق القمري وبين الجسم البشري توضح بجلاء ترابط العالم في الفترة الحديثة المبكرة. وتأثير العالم الكبير على العالم الصغير لم يكن موضع جدال بوجه عام، حتى وإن كانت تفاصيل هذا التفاعل موضع خلاف دائم. ومن ثم لعب التنجيم دورًا رئيسًا في كلٍّ من التشخيص والعلاج؛ ومن المرجح أن الطب — لا التكهن — كان التطبيق الرئيس للتنجيم. واعتُبر أن كلَّ عضو بشري يقابل أحد الأبراج الفلكية، وأنه مُعرَّض أكثر من غيره لتأثيرات من الكوكب الذي يشبهه في الخواص (الشكل ٥-٢).
المخ — على سبيل المثال — وهو عضو بارد رطب، يتأثر أكثر بالقمر، وهو كوكب بارد رطب (لا يزال مختل العقل في يومنا هذا يوصف بأنه Lunatic، نسبةً إلى الكلمة اللاتينية Luna ومعناها «القمر»)؛ ولذا فإن معرفة المواقع الكوكبية عند بدء الإصابة بالمرض يمكن أن تساعد في التشخيص، عن طريق مساعدة الطبيب في فهم التأثيرات البيئية السائدة، أو تحديد أجزاء الجسم المحتمل إصابتها بالمرض. وفضلًا عن هذا، فقد قيل إن كل شخص لديه نسبة فريدة من الأخلاط — تسمَّى «طبعًا» — يُطبَع عليه عند مولده بفعل التأثيرات الكوكبية السائدة حينئذ؛ وهذا يعني أنه يتعين رد كل مريض إلى طبعه الخاص.
fig14
شكل ٥-٢: رسم تخطيطي لأعضاء الجسم وما يطابقها من الأبراج الفلكية. الصورة مأخوذة من موسوعة جمعها جريجور رايش في الفترة الحديثة المبكرة بعنوان «اللؤلؤة الفلسفية» (فرايبورج، ١٥٠٣).1

كان الطب في الفترة الحديثة المبكرة يتبع المبدأ القائل إن مقاسًا واحدًا لا يناسب الجميع؛ فكان لا بد من إعداد الأدوية لكل مريض على حدة. لم يكن ممكنًا إعطاء نفس الدواء لكل المرضى، فضلًا عن أنه كان من الضروري اتِّباع نظام غذائي وحمية بالتوازي مع العلاج. ومن ثم، قد يعمد الطبيب إلى فحص خريطة الميلاد الفلكية للمريض ليُكوِّن فكرةً عن طبعه. ويمكن أن تساعد الحسابات التنجيمية في تحديد وقت العلاجات الطبية، تبعًا للفكرة الأبقراطية عن «الأيام الحرجة»، بمعنى أنه أثناء تطور المرض تكون هناك نقاط «أزمة» يتعين التغلب عليها بنجاح حتى يُشفى المريض. واعتمد التشخيص أيضًا على فحص البول، وكانت هناك مخططات مرجعية محمولة تحتوي على جداول خاصة بلون ورائحة وقوام، بل وطعم بول المرضى، وعلاقة هذه المؤشرات بالأمراض المختلفة. وينطبق نفس الأمر على معدل النبض وإيقاعه وقوته.

لم تتغير طرق العلاج الطبي — على الأقل بين الأطباء الحاصلين على إجازة — تغيرًا كبيرًا خلال الثورة العلمية. ورغم حدوث تطور بطيء استجابةً للأفكار والاكتشافات الجديدة، فإن جوهر الطب الجاليني والأبقراطي استمر فترة طويلة من القرن الثامن عشر (وإن كان نجم طرق التشخيص التنجيمي قد بدأ يأفل في القرن السابع عشر). وهذه الاستمرارية تعكس ثبات المناهج الدراسية الطبية، وكذلك رسوخ النقابة أو البنية الترخيصية للطب التي شجَّعت سياسة المحافظة. ومن ثم، غالبًا ما كانت الابتكارات تأتي من خارج مجتمع الأطباء المرخص لهم. ومع ذلك، كان الترخيص الصارم للأطباء ممكنًا فقط في المراكز الحضرية الكبرى. وفي معظم الأماكن، كانت هناك أعداد كبيرة من المعالجين الذين تلقَّوا قدرًا ضئيلًا (إن وجد) من التعليم الطبي الرسمي يقدمون الخدمات الطبية الناس، وكانت أعدادهم تفوق كثيرًا عدد الأطباء المرخص لهم. وكان كل أرباب البيوت يحتفظون بقائمة من العلاجات المنزلية لأفراد الأسرة والجيران. جعل الصيادلةُ الأدويةَ البسيطة والمعدَّة في متناول الجميع بسهولة حتى كان باستطاعة أي شخص تركيب الأدوية، حتى الغريب (والخطير أحيانًا) منها. كان حلاقو الصحة — جماعة ذوو مكانة دُنيا وتدريبٍ رسمي أقلَّ من تدريب الأطباء — يُجرون العمليات الجراحية. أما الأطباء «التجريبيون» — أطباء غير حاصلين على إجازة يقدمون مجموعة متنوعة من الأدوية والعلاجات — فقد وجدوا سوق العمل رائجًا في المدن رغم المحاولات المتكررة من أجل حظرهم في لندن، وباريس، وغيرهما من المراكز الكبرى. وفي تناقض صارخ مع الممارسة الطبية الحديثة، كانت بعض العلاجات تتم بالتعاقد؛ بمعنى أن أجر الطبيب كان يعتمد على نجاحه.

تبنى الممارسون غير المرخص لهم الأساليب الطبية الحديثة — مثل الباراسيلسوسية، وكذلك الهيلمونتية (في القرن السابع عشر) — بشغف أكبر، وغالبًا ما كان ذلك يحدث في تحدٍّ مباشر للمؤسسة الطبية. ورغم ذلك فقد دخلت بعض الأساليب الكيميائية الجديدة المختصة بالطب دخولًا بطيئًا، وإن كان ثابتًا في دستور العقاقير الرسمي وفي ممارسات المعاهد المهنية؛ مثل الكلية الملكية للأطباء في لندن، التي تأسست عام ١٥١٨. وفي فرنسا، خاضت كلية الطب الجالينية المحافِظة في باريس والكلية المؤيدة للباراسيلسوسية في مونبيلييه معركة استمرت عقودًا بشأن مخاطر الأدوية الكيميائية وفوائدها. وأظهر هذا الصراع أيضًا وجود تصدعات بين الباريسيين المركزيين الملكيين، وأغلبهم من الكاثوليك، وبين أهالي مونبيلييه الإقليميين، وأغلبهم من البروتستانت. لم تنتهِ أكثر خلافاتهم حدَّة — حول الاستخدام الطبي للأنتيمون (وهو معدن سام) — إلا بعد عام ١٦٥٨، عندما سقط الملك لويس الرابع عشر مريضًا أثناء إحدى الحملات العسكرية ولم يستجب لعلاجات الأطباء الملكيين التقليدية، فعُولِج بأن تقيَّأ نتيجة تناول جرعة من الأنتيمون في الخمر أعطاها له أحد الأطباء المحليين. لم يكن أمام الكلية الطبية الباريسية فيما بعدُ سوى التصويت على إجازة استخدام هذا المُقَيِّئ الباراسيلسوسي.

التشريح

شهد علم التشريح تطورًا ملحوظًا في الفترة الحديثة المبكرة. ورغم تأكيد جالينوس على أهمية التشريح في العصور القديمة، فقد اعتبر الرومان أن انتهاك أجسام الموتى بالتشريح أمر غير مقبول اجتماعيًّا وأخلاقيًّا، ومن ثمَّ شرَّح جالينوس القردة والكلاب، ونقل استنتاجاته بالتناظر إلى البشر (مع ذلك، رأى جالينوس بلا شك أحشاء بشرية من وقت لآخر من خلال موقعه كطبيب للمُجالِدين). لم تكن عمليات تشريح البشر تحدث إلا في مصر في العصور القديمة، ربما لأن فتح الجسم واستخراج أعضائه كان أمرًا مألوفًا بالفعل من خلال ممارسة التحنيط، لكن في أواخر العصور الوسطى صار التشريح البشري ممارسة رسمية في الكليات الطبية الإيطالية؛ مثل بادوفا وبولونيا. وبحلول عام ١٣٠٠ تقريبًا، كان مطلوبًا من طلبة الطب أن يشاهدوا تشريحًا بشريًّا كجزء من دراستهم. ولا يوجد أي أساس للخرافة التي ظهرت في القرن التاسع عشر زاعمة أن الكنيسة الكاثوليكية حرَّمت التشريح البشري، بل كان يعيقه في الغالب نقص الجثث؛ فنظرًا لأن الأشخاص ذوي المكانة الرفيعة لم يكونوا ليسمحوا بعرض جثثهم أو جثث أقاربهم وتشريحها أمام الناس، اعتمدت عمليات التشريح على توافر جثث المجرمين المحكوم عليهم بالإعدام، وهؤلاء كانوا من الأجانب غالبًا.

زاد الاهتمام بالتشريح البشري بدرجة كبيرة في بدايات القرن السادس عشر، لا سيما في إيطاليا، ووصل إلى ذروته في كتاب أندرياس فيزاليوس (١٥١٤–١٥٦٤) البارز «عن تركيب الجسم البشري»، الذي نُشر عام ١٥٤٣، وهو نفس العام الذي نشر فيه كوبرنيكوس كتابه «عن مدارات الأجرام السماوية». ولما كان فيزاليوس قد وُلد في بلاد الفلاندرز، فقد درس في جامعة بادوفا وصار مدرسًا للجراحة بها في اليوم التالي لتخرُّجه، وبمساعدة قاضٍ كان يتعمد اختيار مواعيد معينة لأحكام الإعدام (لأنه من دون الثلاجات أو المواد الحافظة كان يتعين تشريح الجثث في الحال)؛ أجرى فيزاليوس الكثير من عمليات التشريح الدقيقة، ملاحظًا أخطاء جالينوس وغيره من العلماء، ومُصنِّفًا أجزاء الجسم البشري بطرق جديدة؛ ليس مجرد تصنيف وظيفي كما كان من قبل، بل تركيبي أيضًا. واعتمادًا على مهارات فنانين من ورشة الرسام الإيطالي تيتيان؛ أشرف فيزاليوس على إنتاج رسومات تشريحية تفصيلية شكَّلت ملمحًا رئيسًا في كتابه الذي يشرح كلَّ رسم توضيحي وطبيعته التشريحية بالتفصيل الدقيق. وقد كان من المستحيل إنتاج كتاب غني بالرسوم التوضيحية كهذا لولا وجود المطابع. رغم ذلك، كانت تكلفة الكتاب ذي الجودة العالية مرتفعة، مما دفع فيزاليوس إلى إنتاج طبعة أرخص للطلبة، ومن خلالها نالت أفكاره واكتشافاته ومبادئه التنظيمية انتشارًا واسع النطاق. أدت زيادة الاهتمام بعلم التشريح إلى إنشاء قاعات للتشريح؛ أولًا في بادوفا (١٥٩٤)، ثم ليدن (١٥٩٦)، وبولونيا (١٦٣٧) وغيرها. ورغم أن تلك القاعات كانت مخصصة لتعليم طلبة الطب، فإنها — لا سيما في شمالي أوروبا — جذبت جمهورًا عريضًا من المهتمين بهذا المجال من العامة أيضًا.

لم تقتصر عمليات التشريح على الجثث البشرية ولا على كليات الطب؛ فمع ظهور الجمعيات العلمية في القرن السابع عشر، صارت عمليات تشريح الحيوانات جزءًا أساسيًّا من أنشطتها؛ ففي السبعينيات والثمانينيات من القرن السابع عشر، تلقت الأكاديمية الملكية للعلوم حديثة الإنشاء في باريس جثث حيوانات غريبة كانت قد نفقت في حديقة حيوان الملك لويس الرابع عشر، وبينها نعامة وأسد وحرباء وغزال وقندس وجمل. وأثناء تشريح الجمل، جرح رئيس الأكاديمية كلود بيرو (١٦١٣–١٦٨٨) نفسه بالمشرط، ومات بسبب العدوى. وفي الخمسينيات والستينيات من القرن السابع عشر في أكسفورد — ثم في الجمعية الملكية بلندن — شرَّح العديد من الباحثين حيوانات ميتة وحية أيضًا (لا سيما الكلاب)، في تجارب مخيفة إلى حد أنه لا يمكن للقارئ المعاصر تقبُّلها (وقد انزعج بويل نفسه من هذه التجارب). سعت تلك التجارب إلى معرفة الآليات الحقيقية لعمل الأعصاب، والأوتار، والرئتين، والأوردة، والشرايين. وغالبًا ما كانت تتضمن حقنًا لسوائل مختلفة لملاحظة حركتها داخل الجسم وتأثيراتها الفسيولوجية، فضلًا عن عمليات نقل الدم — أحيانًا من حيوان إلى آخر — ومن بينها محاولات لعلاج المرضى من البشر بدم منقول مباشرة من خرافٍ سليمة.

يرجع ذلك الاهتمام بالدم وحركة سوائل الجسم في جزء منه إلى آراء ويليام هارفي (١٥٧٨–١٦٥٧) عن دوران الدم، التي نُشرت عام ١٦٢٨. كان جالينوس يعتبر الجهازين الوريدي والشرياني وحدتين منفصلتين، حيث ينتج الكبد باستمرار دمًا وريديًّا داكنًا توزعه الأوردة على الجسم بغرض التغذية. ويُسحب جزء من هذا الدم إلى القلب، حيث يمر خلال مسام في النسيج أو الحاجز الذي يفصل بين البُطينَيْن الأيمن والأيسر؛ وهناك يحوِّله الهواء المسحوب من الرئتين عبر الشريان الرئوي إلى دم شرياني فاتح اللون يغذي الجسم بعد ذلك من خلال الجهاز الشرياني، ولا يعود أي دم منه إلى القلب. إلا أن علماء التشريح في القرن السادس عشر وجدوا مشكلات في منظومة جالينوس؛ إذ تشككوا في وجود مسام في الحاجز القلبي، ووجدوا أن الشريان الرئوي مليء بالدم وليس الهواء. وقد أدت هذه الملاحظة الأخيرة إلى افتراض وجود «الدورة الدموية الصغرى»؛ وفيها يمر الدم الوريدي من القلب عبر الرئتين، ثم يعود إلى القلب قبل أن يتدفق منه إلى الجسم. وفي جامعة بادوفا، درس هارفي مع أكبر علماء التشريح في عصره، وأشهرهم جيرولامو فابريزيو داكوابندنتي (١٥٣٧–١٦١٩)، الذي وصف الصمامات التي وجدها داخل الأوردة. أشار هارفي لاحقًا إلى أن هذا الاكتشاف أدى به إلى التفكير في وجود دورة دموية أكبر.

لاحظ هارفي أن حجم الدم الذي يضخه القلب سوف يستهلك مخزون الجسم في دقائق ما لم يُعَد تدويره بطريقة أو بأخرى. وباستخدام ضمادات لوقف تدفق الدم وقفًا انتقائيًّا، استنتج هارفي بالتجربة وجود «الدورة الدموية الكبرى»؛ بمعنى أن القلب يضخ الدم في حركة دورانية عبر الجهازين الشرياني والوريدي المتصل أحدهما بالآخر. وأحس هارفي بالرضا عن فكرة الحركة الدورانية للدم؛ لأنها تعني أن العالم الصغير (جسم الإنسان) يضاهي العالم الكبير (السماء)، الذي اعتبر أرسطو حركته الدورانية الطبيعية هي الأكثر كمالًا. والحقيقة أن هارفي تمسَّك بأساليب أرسطو ومناهجه، وركَّز اهتمامه على القلب والدم. وأحد أسباب ذلك هو الدور الرئيس الذي نسبه أرسطو لهما. وهذا مثال آخر لأهمية أرسطو المستمرة في الثورة العلمية. إلا أن هارفي لم يكن قادرًا على اكتشاف الشعيرات الدموية الدقيقة التي تصل الشرايين بالأوردة؛ فلم تُرَ هذه الشعيرات إلا بعد وفاة هارفي بأربع سنوات على يد مارتشيلو مالبيكي (١٦٢٨–١٦٩٤)، الذي لاحظ حركة الدم عبر أوعية دقيقة تربط الوريد الرئوي بالشريان الرئوي في الأنسجة الرئوية الشفافة في الضفادع، ومنها استنتج وجود أوعية مماثلة تربط بين الشرايين والأوردة في جسم الإنسان. ولكي يصل مالبيكي إلى هذه الملاحظة؛ فإنه استخدم اختراعًا حديثًا نسبيًّا، وهو الميكروسكوب.

استعمال الميكروسكوب، والميكانيكية، والتولُّد

يكتنف الغموض ظهور الميكروسكوب في بدايات القرن السابع عشر، لكنه — مثل التليسكوب — كشف عن عالم جديد، وأثار أفكارًا جديدة. استخدم جاليليو جهازًا شبيهًا بالتليسكوب لتكبير الأجسام الصغيرة، لكن أول الرسوم التي أُعدَّت باستخدام الميكروسكوب ظهرت في دراسات على النحل أجريت عام ١٦٢٥، على يد فرانشيسكو استللوتي وفيديريكو تشيتشي، وأُهديت إلى البابا أوربان الثامن الذي استخدمت أسرته «آل باربريني» النحل رمزًا. وفي الستينيات من القرن السابع عشر، صمم روبرت هوك ميكروسكوبًا مطوَّرًا لفحص كل شيء بدءًا من الحشرات الدقيقة مثل القمل، إلى بلورات الصقيع، والتركيب الدقيق للفلين الذي وجده مقسمًا إلى حجرات سماها «خلايا». بعدها ابتكر أنتوني فان ليفينهوك (١٦٣٢–١٧٢٣) — وكان تاجر أقمشة ومعاين أراضٍ في دلفت — أبسط أجهزة التكبير وأقواها. صمم ليفينهوك أكثر من خمسمائة ميكروسكوب مستخدمًا خرزة زجاجية كروية دقيقة كعدسة في كل منها، ونشر ملاحظات ميكروسكوبية تفوق ما نشره أي مؤلف آخر، وفحص باستخدام تلك الميكروسكوبات مجموعة هائلة من الأشياء، ومنها «الديدان» في السائل المنوي للإنسان والحيوان، والكريات الموجودة في الدم (وحركتها عبر الشعيرات في ذيل سمكة أنقليس صغيرة)، والبكتيريا الموجودة في اللويحات التي تغطي الأسنان، والحيوانات الدقيقة المحتشدة في مياه البرك، ونقيع المواد النباتية. وقد أدى اكتشافه للحيوانات المنوية إلى جدل قوي حول طبيعة التولد الحيواني والنباتي. كان ليفينهوك نفسه يؤيد نظرية «التخلُّق المسبَق»، بمعنى أن كل حيوان منوي — أو كل بويضة حسبما قال بعض معاصريه — يحتوي نسخة دقيقة الصغر من الجنين الجديد. يرى الرأي المعاكس — نظرية «التخلُّق المتوالي» — أن التركيب الجنيني يتكون «من جديد» وفي مراحل متعاقبة أثناء الحمل. راقت نظرية التخلُّق المُسبَق على وجه التحديد للفلاسفة الميكانيكيين؛ لأنها تختزل عملية التولد في عملية مبسطة من النمو الميكانيكي؛ إذ يتحول الكائن الدقيق إلى كائن أكبر فأكبر عن طريق التمثيل الغذائي لمادة جديدة. وهكذا أغفلت هذه النظرية القوى الحيوية اللامادية التي اعتبرها معظم مؤيدي نظرية التخلق المتوالي ضرورة لتحويل المادة غير المتشكلة — مثل السائل المنوي و/أو دم الحيض أو سائل البيضة — إلى جنين مميز ذي بنية عضوية. وقد لاحظ هارفي — أحد مؤيدي نظرية التخلق المتوالي — عند فتح بيض الدجاج في مراحل مختلفة من نموها أن الدم يتكون أولًا؛ الأمر الذي اعتبره دليلًا على أنه ركيزة الحياة، وأنه روح حيوي توجِّه تكوُّن الجنين. غير أن نظرية التخلق المسبق أثارت تساؤلًا عن المكان والوقت الذي يبدأ فيه الشكل الدقيق من الكائن الجديد، فافترض قلة من العلماء أن جميع الأجيال المستقبلية كانت محتواة — الواحد منها داخل الذي يليه — داخل أول فرد خلقه الله من النوع ذي الصلة.

أثار كشف الميكروسكوب للبِنَى التي تبدو في ظاهرها آلية داخل الأجسام الحية حماس أنصار الفلسفة الميكانيكية بصفة خاصة؛ ولذا كان معظم اختصاصيي الميكروسكوبات في أواخر القرن السابع عشر من الميكانيكيين. تبنَّى هؤلاء نظرية هارفي عن الدورة الدموية — وأحد أسباب ذلك أنها اعتبرت القلب مضخة، أي جهازًا آليًّا، رغم أن هارفي نفسه كان أبعد ما يكون عن الفكر الميكانيكي — وجدُّوا من أجل اختزال الأنظمة الحية المعقدة إلى مبادئ ميكانيكية؛ ففي فلورنسا، حلَّل جيوفاني ألفونسو بوريللي (١٦٠٨–١٦٧٩)، على سبيل المثال، الحركة الحيوانية باعتبارها آلات مبسطة، فشبَّه العظام والأوتار والعضلات بالروافع ونقاط الارتكاز والحبال، وسوائل الجسم والأوعية بالسوائل الهيدروليكية والأنابيب، ومن هنا أطلق ما سُمِّي فيما بعد الميكانيكا الحيوية. وفي لندن، استكشف نيامِيا جرُو (١٦٤١–١٧١٢) البِنَى التشريحية الخفية للنباتات؛ مما ساعد في تأسيس علم فسيولوجيا النبات. وقد وصل الأمر ببعض الميكانيكيين أنهم كانوا يأملون في أن تمكِّنهم الميكروسكوبات المطوَّرة من المشاهدة المباشرة للذرات وأشكالها وحركاتها، بما يكشف المبادئ التفسيرية الأساسية للفلسفة الميكانيكية.

كانت المشاهدات المجهرية — شأنها شأن جميع المشاهدات الأخرى — عرضة للتأويلات المتضاربة؛ فبينما كان من الممكن تأويل اكتشاف الحيوانات المنوية لصالح نظرية التخلُّق المسبق، فإن الاكتشاف المعاصر لظهور عدد لا حصر له من الكائنات الحية من تلقاء نفسها في الماء الراكد عضَّد بقوة الأفكار التي كانت راسخة بخصوص التولد التلقائي (بمعنى أن الكائنات الحية يمكن أن تنشأ من مادة غير حية)؛ مما يعضد بدوره فكرة التخلق المتوالي القائلة إن البِنَى الحية تنشأ من مادة عديمة الشكل أصلًا. وعلى مدى قرون سابقة، كان معظم الفلاسفة الطبيعيين يزعمون ظهور أشكال حياة بسيطة تلقائيًّا تحت ظروف معينة؛ إذ قالوا إن النحل تولَّد من جثة ثور متحللة، والديدان من الطين، واليرقات من اللحم المتعفن. وفي سلسلة تجارب شهيرة في الستينيات من القرن السابع عشر في قصر مديتشي، ترك فرانسيسكو ريدي (١٦٢٦–١٦٩٧) عينات من اللحم في العراء حتى تتعفن، حيث غطى بعضها بشبكة أو بقطعة من القماش وترك البعض الآخر في الهواء الطلق. كوَّن اللحم المتروك في الهواء الطلق يرقات، بينما لم تتكون أي يرقات في اللحم الذي مُنع عنه الذباب. وكحال معظم التجارب التي اعتُبرت «قاطعة» عند النظر إليها فيما بعدُ، لم تقضِ تجارب ريدي في الحال على الاعتقاد في التولد الذاتي؛ إذ كان من الممكن تقديم تفسيرات أخرى للنتائج (وهو ما حدث بالفعل)، بل إن ريدي نفسه وافق على أن بعض الحشرات — مثل زنبور عَفْص البلوط — قد يتولد مباشرةً من مادة نباتية. ورغم أن المحدثين اليوم يسخرون دومًا من الاعتقاد في التولد الذاتي، فجدير بالذكر أن أي عالم معاصر لا يؤمن بوجود خلق خاص لأول صورة حية بفعل التدخل المعجِز لله، لا بد وأن يكون مؤمنًا بفكرة التولد الذاتي للحياة من مادة غير حية.

لم ترُق النظرة الميكروسكوبية ولا الميكانيكية بخصوص الأنظمة الحية للتوقعات. وسرعان ما بلغت حدود التكبير وتوضيح الصورة — باستخدام المواد والأنظمة البصرية المتاحة — أعلى مستوياتها. وكشف الفحص المجهري عن قدر هائل من التعقيد في الأنظمة الحيوية، حتى إن التفسيرات الميكانيكية كانت تبدو يومًا بعد يوم غير ملائمة لتفسير تكوينها أو عملها. لكن حتى في الوقت الذي بلغت فيه الأساليب الميكانيكية أوج انتشارها، ازدهرت أيضًا النماذج الأكثر حيوية. والواقع أن الحد الفاصل بين غير الحي والحي لم يكن واضحًا تمامًا في القرن السابع عشر، وكثيرًا من المفكرين خلطوا بين الأنظمة الميكانيكية والحيوية؛ فمثلًا: كان قليل من أنصار الآلية متشددين لدرجة أنهم أنكروا وجود روح باعثة للحياة في الأنظمة الحية. لا تحتاج تلك الروح أن تكون كالروح البشرية الخالدة اللامادية التي ذكرت في اللاهوت المسيحي، لكن اعتُبر أنها موجودة في صور أو مستويات مختلفة في كيانات مختلفة (ربما يكون مصطلح «الروح الحيوية» أفضل تعبير عن هذا المفهوم لدى القراء المعاصرين). وترجع هذه المفاهيم إلى أرسطو، الذي افترض وجود ثلاثة مستويات للروح: روح «نباتية» في النباتات مسئولة عن مراقبة النمو والتمثيل الغذائي، وفي الحيوانات روح «حساسة» أخرى للتحكم في الحس والحركة، وفي البشر — إضافة إلى الروحين النباتية والحساسة — روح «عقلانية» للتحكم في التفكير والإدراك. ويرى كثيرون أنه إذا كان بوسع المبادئ الميكانيكية تفسير البِنَى والوظائف الجسمانية المعينة، فإن تنظيم الكائن الحي والحفاظ عليه ككل — ناهيك عن الوعي والإدراك — هي من وظائف الروح.

الهيلمونتية

لعل أشمل نظام حديث للطب ظهر في القرن السابع عشر كان ما وضعه الفيلسوف الطبيعي والكيميائي والطبيب والنبيل الفلمنكي جوان بابتيستا فان هيلمونت (١٥٧٩–١٦٤٤). جمع هيلمونت بين الكيمياء، والطب، واللاهوت، والتجربة، والخبرة العملية داخل منظومة متماسكة بالغة التأثير. وتعبِّر مقولاته الواردة في سيرته الذاتية عن عدم رضائه عن التعليم التقليدي، ورغبته في السعي وراء معرفة جديدة تتطابق تمامًا مع مفكري عصر الثورة العلمية. يروي هيلمونت كيف أنه ارتاد جامعة لوفان، لكنه رفض نيل شهادته لأنه شعر أنه لم يتعلم شيئًا. بعدها درس مع اليسوعيين ولم يشعر بأنه أفضل حالًا، ثم حصل على درجة الطب، لكنه وجد أسس الطب «بالية»، فاتجه إلى الباراسيلسوسية ليرفض أغلب ما فيها أيضًا. وهكذا حاول فان هيلمونت البدء من الصفر، وأطلق على نفسه لقب «فيلسوف بالنار»، بمعنى أن تدريبه لم يأتِ من التعليم التقليدي، ولكن من تجاربه في الأفران الكيميائية. والحق أن فان هيلمونت كان ملاحظًا فوق العادة، فكان يصف أصل العديد من الأمراض وأعراضها ومراحل تطورها على نحو لم يُعرف إلا بعد قرون لاحقة.

رفض فان هيلمونت فكرة العناصر الأربعة لأرسطو وفكرة «الثلاثي الأوَّلي» لباراسيلسوس، مفترضًا بدلًا من ذلك أن الماء هو العنصر الوحيد الذي يشكِّل أساس كل شيء. ولا تعود هذه الفكرة بالذكرى إلى طاليس أقدم الفلاسفة الإغريق فحسب، لكن الأهم من ذلك (من منظور فان هيلمونت) أنها تعود إلى سِفر التكوين الإصحاح الأول/الآية الثانية؛ حيث «روح الله يرف على وجه المياه.» حاول الفيلسوف البلجيكي التأكيد على هذه الفكرة تجريبيًّا، ومن أشهر ما فعله أنه غرس شجيرة صفصاف وزنها خمسة أرطال داخل مائتي رطل من التربة، وظل يسقيها بالماء على مدى خمس سنوات. وفي نهاية هذه المدة، كانت الشجرة تزن ١٦٤ رطلًا، بينما لم تفقد التربة شيئًا من وزنها إلا النزر اليسير؛ ومن ثم استنتج فان هيلمونت أن البنية الكلية للشجرة لا بد وأنها تكونت من الماء وحده. وعلى أساس ما قاله فان هيلمونت؛ فإن البذور التي غُرست في العالم عند خلقه كانت لديها القدرة على تحويل الماء إلى جميع المواد. وهذه البذور ليست بذورًا مادية مثل حبوب الفول، لكنها أسس منظِّمة غير مادية، مثل الأساس الحيوي غير المرئي الذي ينظِّم سائل مح البيضة حتى يصير كتكوتًا. والنار والعفن يدمران البذور وقدرتها التنظيمية؛ ومن ثم يحوِّلان المواد إلى مواد شبه هوائية أعطاها فان هيلمونت اسم «غاز». ومن ثم فإن حرق الفحم النباتي وتخمير الجعة يطلقان غازًا خانقًا، وحرق الكبريت يطلق غازًا كريه الرائحة. وفي الأجزاء الباردة من الجو ينهي هذا الغاز تحوله مرة أخرى إلى ماء أصلي، ويسقط في صورة مطر، وهكذا تنتهي دورة التحولات المتعاقبة للماء في المنظومة التي وضعها فان هيلمونت للطبيعة.

رأى فان هيلمونت أن العمليات الجسمانية كيميائية في الأساس، وهي فكرة شبيهة بما توصل إليه باراسيلسوس وإن كانت أكثر تعقيدًا؛ فقد اكتشف حموضة العصارة المعدية المسئولة عن الهضم، وأجرى تحاليل على سوائل الجسم، لا سيما البول؛ للوقوف على سبب واحد من أكثر أمراض القرن السابع عشر إيلامًا؛ وهي حصوات الكلى والمثانة، وإيجاد علاج له، إلا أن العمليات الكيميائية لم تكن كافية وحدها لتفسير العمليات الحياتية؛ بل لا بد من توجيهها من قِبل كيان شبه روحي مستقر في الجسد يسمى «جوهر الحياة». وقد اعتبر فان هيلمونت أن جوهر الحياة ينظم الوظائف الجسمانية ويضبطها. وينتج المرض عن ضعف هذا الجوهر، بحيث لا يكون قادرًا على أداء واجباته، مما يستوجب أن يعمل العلاج الطبي على تقويته. وبناءً على ذلك، رفض فان هيلمونت أفكار جالينوس بشأن الحالة المزاجية، والأخلاط الأربعة، وطرق العلاج، وقال إن أمراضًا مثل الطاعون لا تحدث بسبب اختلال في توازن الأخلاط، بل بسبب «بذور» خارجية للمرض تغزو الجسم وتغيره. ويستطيع جوهر الحياة القوي أن يبدد هذه البذور، بينما يحتاج جوهر الحياة الضعيف إلى المساعدة (لاحظ أنه في الطب الجاليني والطب الهيلمونتي، يتلخص دور الطبيب دائمًا في «مساعدة» العمليات الطبيعية دون تحويل اتجاهها أو التأكيد على سيطرته على الجسم). ركَّز فان هيلمونت أيضًا على دور الحالة العقلية والوجدانية للمريض، وزعم أن قوة التخيل يمكن أن تسبب تغيرات بدنية في الجسم. وقد أثرت أفكار هيلمونت تأثيرًا بالغًا في العديد من الأطباء وعلماء الفسيولوجيا والكيميائيين.

وجدير بالذكر أن المفاهيم الميكانيكية والحيوية بشأن الأنظمة الحية لم تكونا متضاربتين، بل كانتا تمثلان طرفي سلسلة متصلة. وقد اتخذ كثير من الأطباء والفلاسفة الطبيعيين مواقع وسطية على هذه السلسلة. اعتبر جاسندي — أحد معاصري فان هيلمونت — «البذور» أسسًا قوية قادرة على تنظيم المادة لتتحول إلى أشكال جديدة، ولكن بينما كانت «بذور» فان هيلمونت غير مادية، كانت بذور جاسندي ائتلافات خاصة من ذرات مادية (إلهية الترتيب) تؤثر آليًّا على المادة. والواقع أن الافتراضات الميكانيكية والحيوية أسفرت عن ظهور أنظمة طبية هجينة في القرن الثامن عشر، مثل نظام جورج إرنست ستال (١٦٥٩–١٧٣٤) الذي ركَّز على الطبيعة الميكانيكية للتحولات الكيميائية، لكن مع الحاجة إلى القوى الحيوية اللازمة لتنظيم الأنظمة الحيوية والتحكم فيها. وقد جمَّع هيرمان بورهاف (١٦٦٨–١٧٣٨) — أكثر الأصوات تأثيرًا في الطب في القرن الثامن عشر، لا سيما في علم أصول التدريس — خيوطًا متفرقة من الفلسفة الطبيعية في القرن السابع عشر. وبصفته أستاذًا للطب والكيمياء بكلية الطب في جامعة ليدن، فقد دافع باستماتة عن طرق العلاج الأبقراطية (حيث التركيز على البيئة وعلى الحالة الفردية لكل مريض على حدة)، وعن أهمية الكيمياء في تعليم الطب. جمع منهجه في التعامل مع الطب والجسم بين أوجه الفلسفة الميكانيكية التي وضعها بويل، وفيزياء نيوتن، و«بذور» فان هيلمونت. وقد اعتُمدت إصلاحات بورهاف الخاصة بالتعليم الطبي في كثير من أنحاء أوروبا (ومن ثم كان يسمى أحيانًا «معلِّم أوروبا»)، وكانت أساسًا لتغيرات جوهرية ستحدث في الطب في القرن الثامن عشر.

النباتات والحيوانات

اتسع نطاق دراسة علم النبات وعلم الحيوان بدرجة هائلة في القرنين السادس عشر والسابع عشر. وقد كان الموقع النصي التقليدي لمواد كهذه هو الشكل الموسوعي المأخوذ عن العمل الجامع الذي ألَّفه بليني الأكبر (٢٣–٧٩ ميلادية) تحت عنوان «التاريخ الطبيعي»؛ حيث حاول تجميع المعرفة الإغريقية وتبسيطها على العامة من الرومان. وملأت المعلومات الموسوعية عن النباتات والحيوانات كتب الأعشاب والمؤلفات الخاصة بالحيوانات، واستمر هذا النسق أثناء الثورة العلمية. ومن أشهر تلك الموسوعات موسوعة «تاريخ الحيوانات» بأجزائها الخمسة التي وضعها كونراد جِسنر (١٥١٦–١٥٦٥)، والتي تحوي المئات من الرسوم المطبوعة على الخشب، غير أن الكثير من تلك الأجزاء قد يبدو غريبًا للقراء المعاصرين؛ لأنها تخلط بين التفاصيل الطبيعية والوصفية عن أنواع مختلفة من المخلوقات، إلى جانب قدر وفير من المعاني الأدبية، والاشتقاقية، والتوراتية، والأخلاقية، والأسطورية، والمجازية التي تجمَّعت حول كل حيوان أو نبات منذ العصور القديمة؛ فوصفٌ للطاووس لن يكون كاملًا دون الإشارة إلى زهوه وخيلائه، ولن يكتمل وصف الثعبان دون الإشارة إلى دوره الخادع في سقوط آدم، ولن يكتمل وصف نبات لسان الحمل (وهو نبات شائع ينمو في ممرات المشاة) دون الإشارة إلى كيفية دلالته على الطريق الذي وطِئَه المسيح. لا تُقدَّم النباتات والحيوانات كأنواع منعزلة، ولكن ضمن شبكات ثرية بالمعاني والتلميحات؛ فكلها رموز وأشياء طبيعية تعتمد على رؤية عالم مليء بالمعاني؛ عالم لفظي ومجازي في وقت واحد؛ عالم مليء برسائل رمزية تنتظر من يقرؤها. نتيجة ذلك أنه حتى الحيوانات الخرافية، كوحيد القرن والتنين وغيرها من الوحوش المختلفة، توصَف جنبًا إلى جنب مع كائنات معروفة؛ ليس بالضرورة لأن المؤلفين آمنوا بأنها عاشت على الأرض، بل لأنها — سواء وُجدت في العالم المادي أم لا — تحمل معنًى بفضل وجودها في العالم الأدبي. وبينما قد يجد القراء المعاصرون تلك النصوص غريبة وساذجة، أو مثقلة بتفاهات غير علمية، فإن قرَّاءها الأصليين كانوا — على الأرجح — سيعتبرون النصوص الوصفية النباتية أو الحيوانية الحديثة عقيمة ومنفصلة عن البشرية انفصالًا غريبًا.

ثمة تطوران اثنان في الفترة الحديثة المبكرة حوَّلا مسار هذا التقليد الرمزي إلى اتجاهات أخرى؛ الأول: هو حاجة الطب إلى تمييز العلاجات العشبية. فمع استمرار الباحثين من أصحاب الفكر الإنساني في إحياء وتحرير ونشر النصوص الطبية الإغريقية؛ زادت ضرورة تمييز النباتات الطبية التي ذكرتها تلك النصوص، والمساعدة على تحديد مواقعها في البرية. ومن ثم كانت هناك حاجة لكتب جديدة عن الأعشاب تسد الفجوة بين النصوص القديمة وبين ما ظهر في القرن السادس عشر. ولتحقيق هذه المهمة، لم تكتفِ كتب الأعشاب الجديدة بالربط بين الأسماء الشائعة والأسماء الإغريقية القديمة، بل قدَّمت صورًا توضيحية طبيعية دقيقة لها. وكما تعاون فيزاليوس مع فنانين من ورشة الرسام تيتيان، فإن جيلًا جديدًا من علماء النبات في القرن السادس عشر عملوا مع الفنانين لإنتاج كتب عن الأعشاب بها رسوم توضيحية كثيرة مأخوذة من الطبيعة؛ مثل: كتاب أوتو برونفيل «الصور الحية للنباتات» (١٥٣٠–١٥٣٦)، وكتاب ليونهارت فوكس «تاريخ النباتات» (١٥٤٢). أما التطور الثاني، فكان اتساع الآفاق الأوروبية. على المستوى الأكثر حصرًا، وصف المؤلفون القدماء، مثل ديوسقوريدس، نباتات البحر المتوسط في الأغلب، ولم يتعرفوا على الأنواع الأوروبية الشمالية، ومن ثم صار ضروريًّا تقديم بيانات عن النباتات التي ليس لها أصول كلاسيكية. وقد وُجدت نفس المشكلة — ولكن على نطاق أكبر بكثير — فيما يتعلق بعدد لا حصر له من النباتات والحيوانات التي صادفها الأوروبيون لأول مرة في رحلاتهم خارج أوروبا، لا سيما في الأمريكتين؛ فالنباتات التي تؤكل مثل البطاطس، والذرة، والطماطم، والأخرى المستخدمة في الطب مثل «لحاء يسوع» (أو شجر الكينا، مصدر مادة الكينين المستخدمة كعلاج للملاريا)، والحيوانات الجديدة مثل الأوبوسوم والجاجوار والمدرَّع، كلها زادت من قائمة النبات والحيوان المعروفة للأوروبيين زيادة هائلة. لم تكن لهذه المكتشفات الحديثة شبكات متراكمة من المراسلات أو الاستخدامات الرمزية، ومن ثم لم تجد مكانًا لها وسط النسق التقليدي لكتب الأعشاب أو الحيوانات؛ ففي إسبانيا حيث كانت معظم التقارير من العالم الجديد تصل أولًا، كان المكلَّفون من قِبَل الملك بتنظيم المعلومات يُجبَرون على التخلي عن المناهج الموسوعية المعروفة، والمبنية على النماذج الكلاسيكية مثل بليني، ليس فقط لأن الاكتشافات الجديدة تُلبِس الفئات القديمة ثوب القِدَم، لكن أيضًا لأن التدفق الجارف للمعلومات الجديدة جعل من المستحيل تنظيم المعرفة تنظيمًا شاملًا.

بذل الإسبان في العالم الجديد — وأغلبهم أعضاء في الكهنوت — جهودًا حثيثة من أجل التأريخ لما اكتشفوه من نباتات وحيوانات وممارسات طبية، بالتعاون أحيانًا مع باحثين من السكان الأصليين لإنتاج كتب مزودة بالأشكال التوضيحية. كان خوسيه دي أكوستا (١٥٣٩–١٦٠٠) الذي يطلق عليه أحيانًا «بليني العالم الجديد» يسوعيًّا من بيرو. وقد كتب — إلى جانب تأسيسه خمس كليات — تاريخًا طبيعيًّا لأمريكا اللاتينية؛ حيث نُشر على نطاق واسع وتُرجم واتُّخذ مرجعًا في أوروبا. وفي عام ١٥٧٠، أرسل الملك فيليب الثاني طبيبه فرانشيسكو هرنانديز على رأس بعثة للبحث خصيصًا عن النباتات الطبية في العالم الجديد. وقضى هرنانديز سبعة أعوام، أغلبها في المكسيك، يعد قوائم بالنباتات ويستفهم عن خصائصها من المعالجين المحليين، بينما أنتج فريق من الفنانين المحليين رسومًا توضيحية لموسوعة مكونة من ستة أجزاء بعنوان «نباتات إسبانيا الجديدة وحيواناتها» (وهي تصف نحو ٣٠٠٠ نبات وعشرات الحيوانات). وحين شعر هرنانديز بالإحباط بسبب استحالة إدخال النباتات الجديدة إلى مخططات التصنيف الكلاسيكية، استخدم الأسماء المحلية من أجل وضع تصنيف نباتي جديد. وفي الوقت نفسه، أعد الراهب الفرنسيسكاني برناردينو دي ساهاجون (١٤٩٩–١٥٩٠) — بالتعاون مع مساعدين ومصادر مطلعة من مجموعات الآزتيك في كلية سانتا كروز بمدينة تلاتيلولكو في المكسيك — كتاب «التاريخ العام للأشياء في إسبانيا الجديدة» (عمل مطول باللغتين الإسبانية والناواتلية يصف ثقافة الآزتيك، وعاداتهم، ومجتمعهم، ولغتهم). أما في إسبانيا، فقد أعد الطبيب نيكولاس مونارديس (١٤٩٣–١٥٨٨) كتابًا بعنوان «التاريخ الدوائي للأشياء القادمة من جزر الهند الغربية»، وصف فيه عشرات الأجناس في العالم الجديد. وبالمثل، تحدَّث الباحثون البرتغاليون؛ أمثال: جارسيا دي أورتا (١٥٠١–١٥٦٨)، وكريستوفاو دا كوستا (١٥١٥–١٥٩٤)، عن اكتشافاتهم الخاصة بالنباتات الطبية والحيوانات الجديدة في الهند وأماكن أخرى في جنوبي وشرقي آسيا.

كان البحث عن أدوية جديدة دافعًا إلى دراسة نباتات جديدة، ومن ثم إنشاء حدائق نباتية ضمن محيط كليات الطب عادةً. كانت حدائق النباتات الطبية جزءًا من الأديرة خلال العصور الوسطى، وأُنشئت حدائق نباتية جديدة على هذا الأساس، واتسع نطاقها لتشمل أغراضًا تدريسية وبحثية. وافتتحت أولى الحدائق النباتية في إيطاليا بجامعتي بيزا وبادوفا في الأربعينيات من القرن السادس عشر، وبجامعة بولونيا عام ١٥٦٨، إلى جانب تخصيص درجات أستاذية في علم النبات الطبي.

سارت على الدرب نفسه مراكز أخرى للتعليم الطبي في فالنسيا (١٥٦٧)، وليدن (١٥٧٧)، ولايبسيج (١٥٧٩)، وباريس (١٥٩٧)، ومونبيلييه (١٥٩٨)، وأكسفورد (١٦٢١)، على سبيل المثال لا الحصر. وتأسست تلك الحدائق وفق نظام دقيق؛ حيث صُنفت أنواع النباتات على أساس خصائصها العلاجية، أو أشكالها المميزة، أو أصولها الجغرافية. بدأ البحث عن البذور والجذور والشتلات والأبصال، وخضعت للتجارة والمقايضة؛ مما أدى إلى اتساع نطاق النباتات المتاحة في الحدائق عبر أوروبا. وامتد الاهتمام بزراعة النباتات النادرة وتهجينها إلى الأفراد، مما أدى إلى ظهور «جنون التوليب» في القرن السابع عشر في هولندا، حيث استُنزفت الثروات الجديدة التي كوَّنها أفراد الطبقة البرجوازية من أجل الحصول على أنواع مهجنة نادرة، كما خلَّد الفنانون الزهور العجيبة في لوحاتهم الزيتية.

fig15
شكل ٥-٣: خزانة عجائب الطبيب الدنماركي أُول وورم من كتاب «متحف وورم» (أو تاريخ الأشياء النادرة الطبيعية والصناعية، المحلية والدخيلة، التي جمعها المؤلف في منزله في كوبنهاجن) (ليدن، ١٦٥٥).1
وقد ظهر الاهتمام واسع النطاق بكل ما هو غريب ونادر في تجميع عينات تاريخية طبيعية من جميع الأنواع فيما عُرف باسم «خزانة العجائب» (الشكل ٥-٣). وبينما كانت هذه المجموعات نواة للمتاحف من جانب، فإنها اتُّخذت أيضًا لعرض نفوذ جامعيها وثرواتهم وعلاقاتهم واهتماماتهم، ولإثارة الدهشة من عجائب الطبيعة والفن. جمَّع الأمراء والنبلاء والدارسين مجموعات تضمنت «الطبيعي»؛ مثل الأنواع النباتية والحيوانية والمعدنية، وأيضًا «الصناعي»؛ مثل الآلات الميكانيكية، وأعمال الفن والحرف المذهلة، والأشياء الإثنوغرافية (تتعلق بوصف الأجناس البشرية) والأثرية القديمة. وقد جمَّع أوليس ألدروفاندي (١٥٢٢–١٦٠٥) واحدة من أوائل تلك المجموعات (ما زال جزء منها موجودًا في بولونيا). وكان أثناسيوس كيرشر ينظم جولات سياحية في متحفه في كلية روما لا ينبغي أن يتخلف عنها أي من زوار روما، المدينة الخالدة، في القرن السابع عشر. وكان الترتيب المادي للأشياء داخل الخزانة يركز على العلاقات بين الأشياء، وهي أمور قد لا يلتفت إليها الكثيرون منا. ومن ثم صارت تلك الخزانات عوالم صغيرة من نوع آخر تعرض وترمز إلى العجائب المختلفة لعالمي البشر والطبيعة المترابطين، وكل ذلك مكدَّس في غرفة واحدة.

هوامش

(1) Courtesy of the Roy G. Neville Historical Chemical Library, Chemical Heritage Foundation, Philadelphia.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤