الفصل الثالث والعشرون

فراش ملك فرنسا عند احتضاره

كان جاليو يتململ ضجرًا في الزقاق الضيق الذي اتخذ له فيه مخبأ ومسكنًا، ولكنه لم يرَ من الحكمة أن يتعرض للأنظار في بلد حاكمها المطلق الدوق دي جيز.

إلا أنه سمع يوم ٢٥ نوفمبر (تشرين الثاني) ضجيجًا عاليًا، فالتفَّ بردائه وخرج من مسكنه، فأبصر الجماهير تسير إلى الساحة الكبرى. فلما وصل إلى الموضع المقصود أبصرَ عنده فرسانًا وحملة بنادق وجنودًا، وسمع قرع الطبول، ثم تلاوة خطبة لكاتب المحكمة المخصوصة التي ألفت لمحاكمة أمير كوندة وهذا نصها:

إن الملك، أيها السادة، يعلمكم بما يأتي

غدًا سيعدم في هذه الساحة من مدينتنا المحبوبة أورليان، الأمير الخطير، لويس دي بوربون أمير كوندة، ثاني أمراء البيت المالك، قصاصًا له على ذنوبه وخيانته للملك، وكذلك يهلك في هذه البلاد كل عدوٍّ لله وللملك، وليكلأكم الله جميعًا بعنايته.

وتفرق الحكام والفرسان عقيب ذلك مغادرين جمهور الناس في أسوأ حال من الانذهال، وكان جاليو في جملتهم. فلما سمع ما سمع هاله الأمر. فقال في نفسه: ألم يكن في وسع كاترين إنقاذه؟ وهل تمكَّن الملك من إصدار هذا الحكم وهو على فراش الموت؟ وذلك لأن خبر ضعف الملك قد ذاع في البلد، وانتشر وعلم الخاصة والعامة أنه لا يحب والدته، بل يحب عمَّيه وزوجته دون سواهم. آه ليتني ألقى ذلك الدوق اللعين وأخاه وأبارزهما. ثم أخذ يلعن الدرع التي أنقذت الدوق من رصاصة القاتل المجهول يوم دخول الملك بموكبه الحربي مدينة باريس.

وبعد أن طاف جاليو في البلد عاد إلى مسكنه فألفى ترولوس في انتظاره، فترامى على صدره، وقال: قُضي الأمر أيها الصديق!

فأجابه: كلا، وقد أرسلت إليك الملكة هذه الرسالة؛ لتوصلها إلى الأمير، وهي تقول لك: إن تأخير الإعدام يومًا واحدًا قد ينجِّي الأمير.

قال: وكيف السبيل إلى ذلك التأخير؟ فسلمه كيسًا مملوءًا بالدنانير، وقال له: إن الملكة تعتمد على ذكائك ودهائك.

قال: حبًّا وكرامة، وأخذ يستعد في ذلك النهار، وعندما انتصف الليل قصد إلى ساحة الإعدام حاملًا رزمًا عديدة. فلما وصل إلى مقربة من الحراس الذين يحرسون دكة الإعدام، سأل بسذاجةٍ ظاهرة عن المحكوم عليه، فهزأ به الحراس، وقالوا له: ويكَ يا رجل، ألستَ من سكان أورليان، ألم تسمع بالحكم الصادر على أمير كوندة؟

قال: أتعنون ذلك البروتستانتي اللعين؟ ثم صاح: لا بدَّ من بقائي هنا حتى أكون أول من يشاهد مصرعه.

وفتح إحدى الرزم فأخرج منها ست زجاجات من الخمر، ونفحَ الحراس بعشرة دنانير، فأذنوا له بالدخول تحت خيمة الإعدام، فقال في نفسه: الآن تيسر لي عملي.

وعكف الحراس على زجاجاتهم يشربونها ليلًا، وينظرون إلى الدنانير. فلما انتصف الليل تساقطوا سكارى إلا قليلين كانوا يتمشون متوكئين على بنادقهم، وإذا بأحدهم يقول: ألا تسمع صريرًا من ناحية دكة الإعدام؟

فأجابه رفيقه: كلا.

قال: أصغِ قليلًا، وسمعا صوتًا خفيفًا من تلك الناحية، فقال الحارس الآخر: يا لك من غبي، هذا غطيط الرجل المتعصِّب الراقد هناك.

قال: صدقت، واستمرَّ الرجلان يتمشيان.

وكان الصرير من ناحية جاليو، لكنه غير صادر من صدره، بل من منشار قصير في يده نشرَ به ثلاثة أعمدة من خشب المشنقة، وإذا به يسمع وقع خطى خفيفة، فرفع ذيل ستر الخيمة، ورأى رجلًا وامرأة أمامه، وقد وقفا قرب المشنقة. فسمع جاليو زفرات متقطعة، فقال في نفسه: إنها إحدى عشيقات الأمير أتت مع خادم لها، فخير لهما ولي أن يذهبا ويتركاني أتمَّ عملي.

وجثت المرأة كأنها تصلي وتلثم الأرض، ولبثت كذلك هنيهة ورفيقها ينظر إلى الوراء، ويرصد الناس. فهاج فضول جاليو وأنصت لصلاتها، فسمعها تقول: هنا قتلوك يا أبتِ شنقًا كأنك من أشرار الناس، غير أن ساعة الانتقام قريبة. ثم نهضت وابتعدت مع رفيقها فرآهما جاليو يدخلان بيتًا أمام ساحة الإعدام، فقال: سوف نجلو غامض هذه المسألة فيما بعد.

وعمد إلى العمود الرابع فتمكن من نشره، وأصبحت المشنقة لا تحتاج إلى أكثر من صدمة خفيفة فتسقط، ولما تحقق أن الحراس غير متنبهين إليه تناول وعاءً من الرزم التي جاء بها، وغطَّ فيه ريشة، ثم أخذ يرشُّ الألواح بسائل من الوعاء ويبتسم سرورًا. فلما شمل القطران الخشب عمد إلى ما هو أصعب وأشق؛ لأنه كان ينوي إضرام النار من غير أن ينبه الحراس، ومن حسن حظه أن الجو كان حارًّا، فقدح جاليو زنادًا بين قطعتين من خشب، فلما تطاير شرر قليل ألقى في النار ما جاء به من يابس النبات، وجعل ذلك قرب الألواح، ثم زحزح ستر الخيمة، وسرَّح البصر فلم يجد أحدًا من الحراس أمامه، فأطلق ساقيه للريح.

ولم يبتعد أكثر من خمسين خطوة حتى لفت بصره ثلاثة رجال أقبلوا إلى ذلك البيت الذي دخلته المرأة والرجل منذ هنيهة، فقال: هل من مؤامرة جديدة يا ترى؟

ووقف الرجال الثلاثة على بعد خطواتٍ من ذلك البيت، وكان في الطبقة الأولى مصباح ضئيل النور، فانطفأ نوره في الحال.

ولو تمكن أحد من دخول الغرفة التي كان النور فيها لسمع فيها المحادثة الآتية بين فتاة وشاب؛ إذ كانت الفتاة تقول للشاب: هل تحققت ما أنبأتني به؟ فأجابها: رأيت الرجل أمس، وأول أمس، وفي الأيام السابقة من هذا الأسبوع.

– وهل يأتي إلى هنا؟

– نعم، يخرج من القصر مصحوبًا ببعض الأشراف من باب سريٍّ، ويتقدم مستمهلًا فيفحص البيت وبصرهُ إلى النافذة، ولقد كان في وسعي محاولة قتله مرتين، ولكنني لو لم أسدد المرمى جيدًا لقبض عليَّ أصدقاؤه، ولذهب انتقامي ضياعًا. على أنني قادر من هنا أن أصيبه. فإذا أخطأته لا يتعذر علينا الفرار والاختفاء إلى حين سنوح فرصة أخرى. إني لا أزال ألوم نفسي؛ لأنني أخطأته في باريس.

– وددت أن أكون حاضرة ساعة قتله، ولا بدَّ من ذلك، فهل فهمت يا بلترو؟ قال: لقد وعدتك وعدًا صادقًا وكفى. قالت: شكرًا لك. قال: ألا ترين الآن هؤلاء الرجال الثلاثة الذين يجتازون الساحة؟ فهم، هم. قالت: أطفئ المصباح.

ففعل، وساد الظلام، وإذ ذاك وقف الرجال الثلاثة، وقال أحدهم: كأنني أبصرت نورًا. فأجابه رفيقه: ذلك من أشعة القمر المنعكسة على زجاج النافذة يا مولاي.

– كلا، بل أبصرت نورًا. فقال الرفيق: هل كانت ابنة الكتبي بارعة الشكل؟ أجاب: إنها أجمل من كل سيدة في البلاط، أيها العزيز. ثم إنني لا أدري أي قوة خفية تجتذبني إلى هذا البيت.

– هل تصفح الفتاة عنك وتغضُّ الطرف عن أمرك الذي صدر بقتل أبيها؟

– لقد أنبأتك عشرين مرة أنها تحسبني ملازمًا من الضباط العاديين. ولكن، ماذا أرى؟

ولقد سمعوا وقتئذٍ صوت زفير نار تضطرم، فانثنى الدوق ورجاله إلى ناحية المشنقة فأبصروا ألسنة اللهب ممتدة على الأرض، فصاح الثلاثة يا للداهية!

وكان هؤلاء الثلاثة الدوق دي جيز ورجلين من أعوانه، فقال الدوق: لا جرم أن كاترين صاحبة هذه الفعلة الشنعاء.

ودمدم بلترو من داخل البيت وشتم، وقال: لقد نجا هذه المرة أيضًا. فأجابته مادلين: صبرًا يا بلترو، فإن الله ساقه إلينا قبلًا، وسوف يسوقه أيضًا.

وكان الحارسان اللذان عند المشنقة ينظران إلى النار مبهوتين متعجبين. فأقبل الدوق عليهما، وصاح بهما: يا لكما من غبيين. مَن الذي أضرمَ هذه النار. قالا: من الذي أضرم النار؟ قال: نعم، من أضرمها؟ من أتى إلى هنا؟

فتردد الحارسان قبل أن يجيبا، ثم قال أحدهما بصوتٍ خافت: هو الشيطان ولا شك!

قال الدوق: ويك، هل تعرف من أنا؟ أجب سريعًا!

– وهل أدري يا مولاي؟ وهل في وسعي أن أقول غير ما قلت؟

قال الدوق: إذن فالشيطان أضرم النار؟

وتعاظمت النار فسقطت أخشاب المشنقة، وانبعثت رائحة القطران من أنقاضها، وتوافد الناسُ إلى الموضع، وشاع الخبر حتى بلغ القصر، وللحال أقبل موكب من الرجال يحملون المشاعل.

وأقبلت الملكة كاترين، فقالت بصوتها الرخيم: ماذا جرى أيها الدوق؟ ومن أين هذه النيران؟

فاحتدم الدوق سخطًا، وأقبل الملك أيضًا، فقال الدوق لكاترين: لعلك أدرى مني بمصدر هذه النيران أيتها السيدة.

وكانت رائحة القطران قد امتزجت برائحة نسيج محروق، ولم يبق من المشنقة إلا حطام يتصاعد الدخان منه، وكان جاليو ينظر إليه من بعيد، وهو يكاد يرقص فرحًا. على أنه لم يكن راضيًا تمام الرضى باحتراق نصف المشنقة، فجعل يقول في نفسه: هل كان الصيدليُّ كاذبًا؟ إلا أنه لم يتمَّ جملته هذه حتى ارتفع ضياء أخضر، وانتشرت رائحة تزهق الأنفاس وتضيق الصدور، ثم طلع ضياء أحمر بعد الأخضر، ثم تعددت ألوان اللهب فجعل الحارس يصلي، ويقول: لقد كنت على يقين من أن الشيطان هو صاحب هذه الفعلة الشنعاء! وقد مرَّ بي، وأبصرت قدمه وكأنها المسحاة!

أما الملك فجعل ينظر إلى ذلك المشهد، وقد أظلم وجهه، فدنا منه الدوق وقال: هذا من تدبير أولئك البروتستانتيين الملاعين؛ ولأنه تدبير شيطاني!

قال: لقد أصبت يا عماه، فلتقم هذه المشنقة غدًا، وليعدم الدوق في اليوم التالي على مرأى من جميع الشعب.

فقالت كاترين: ألست ترى يا بنيَّ أن لله يدًا في ملاشاة هذه المشنقة؟

فأجابها: لو أن صاعقة من السماء هبطت عليها لقلتُ إن الله أرسلها، ولكن هي نار الجحيم التي أحرقتها. فالشيطان قد أتى ليساعد أصدقاءه وأعوانه.

ولقد تلفظ الملك بهذه الكلمات بلهجة هائلة، ثم قال: من حسن الحظ أن رجالي الأشراف يحوطون بي. فلسوف يجزى المجرمون في حادثة أمبواز بما كسبت أيديهم! نعم، ويل للبروتستانتيين! وليمت كل خائن!

ثم جرَّد سيفه وتقدم إلى أنقاض المشنقة متوعدًا مهددًا، ولم يتجرأ أحد على الوقوف لإمساكه، ونظر آل جيز بعضهم إلى بعض، فقال الدوق: إنه يهذي هذيان المحتضر!

وضرب الملك بسيفه الهواءَ، ثم وقف بغتة؛ لأن الدخان المنبعث عن الحريق كاد يخنقه. فأفلتت يده سيفه، ثم سقط على الأرض وهو يقول: ليمت كل خائن، وأغمي عليه.

فأراد الدوق دي جيز حمله على ساعديه، إلا أن كاترين كانت قد سبقته إليه، وأكبَّت عليه، وهي تقول: ولدي ولدي!

فقال لها الدوق: دعينا نحمل الملك إلى غرفة زوجته.

فأجابته: بحقك دعني يا دوق، ودع ولدي، فهو ابني لا ابنك، على ما أعرف!

وحملت ولدها أمام أشراف البلاط فجعلته على محفَّة، وأمرت بالرجوع إلى القصر، ولما سمع الدوق دي جيز وأخوه صوت الملكة تأمر الخدَم بحملِ الملك إلى حجرتها خامرهم الرعب؛ لأن غرفة الملكة الوالدة بعيدة عن غرفة ماري ستوارت، فهي قد أبعدته عن نفوذ زوجته، ومنعتهم من التسلط على إرادته. فاجتمعوا لساعتهم في غرفة ابنة أخيهم للمفاوضة والاعتماد على رأي يعملون به.

وكانت ماري ستوارت زوجة فرنسوا الثاني في أسوأ حال من القلق منتظرة إياب زوجها، فلما رأت عميها، قالت لهما: أين فرنسوا؟ فأجابها الكردينال: إنه مريض.

قالت: هل من خطر عليه؟

– نعم، فلا ينبغي إضاعة الوقت.

– إني مبادرة إليه.

قالا: بل البثي ها هنا.

قالت: كيف ذلك؟ فقد يموت دون أن أراه.

قال الكردينال: سترينه، إنما البثي ها هنا، فإني بحاجة إليك.

فأجابته: ماذا تريد يا عماه؟

قال: ألديك مفتاح خزانة زوجك؟

أجابت: نعم، ولكنني لا أستطيع أن …

قال: أين هو؟

أجابت: ها هو.

قال: أفي الخزانة حكم الإعدام؟

أجابت: لا أدري يا عماه.

ففتح الكردينال الخزانة الحديدية، وكان فرنسوا الثاني يخفي فيها أوراقه وأمواله، فتناول ورقة كبيرة وطالع ما فيها. فقال له الدوق: كيف رأيت؟

– إن الحكم غير كامل، ولكنه قانوني، موقع عليه من جميع أعضاء المحكمة المخصوصة أو من أكثرهم.

قال الدوق: وأي توقيع ينقصه؟

أجاب: توقيع أمين الأختام، وتوقيع دوموريته. على أن الملك دعاهما اليوم. ألم تريهما يا ماري؟

– نعم، ولكنهما رفضا التوقيع على الحكم.

– يا لهما من شقيين!

قالت: لقد وعدا بالتوقيع غدًا يا عماه.

قال: نعم وعدا، ومتى علما بحالة الملك رفضا أيضًا، أواه لقد خسر هذا الشاب قواه.

قال الدوق: إننا لفي غنًى عن توقيعهما.

وقال الكردينال: ولكن ينقص الحكم توقيع آخر هو توقيع الملك. فهل تعرفين خط زوجك يا ماري؟ وتقدرين على تقليد خطه؟

أجابت: نعم يا عماه.

قال: إذن فاجلسي هناك، وأشار إلى مكتب، وقال: خذي هذا القلم.

قالت: فماذا أفعل؟ قال: وقِّعي.

قالت: أوقع ماذا؟

أجاب: وقعي على الحكم باسم زوجك!

قالت: ولكنه حكم بالإعدام!

– ألم تكوني عالمة به؟

– لماذا لا تدع فرنسوا يوقع عليه؟

– لأنه لم تبق له قوة، فوقعي أنت!

فوقفت ماري ستوارت، وقالت: لا أفعل ذلك أبدًا!

قال الكردينال: ألست كاثوليكية صادقة الإيمان؟

أجابت: بلى، ولكنني امرأة، ولا أوقع على حكم بالإعدام.

– وقعي وإلَّا أهلكتك!

– أهلكني يا عماه، فلن أوقع على هذا الحكم أبدًا.

– يا لكِ من ناكرة للجميل!

فدنت منه، وقالت: هل نسيت أنني الملكة؟!

ومدَّت يدها إلى الباب بعظمة، وقالت: أخرجا من هنا! فذهبا إلى حجرة الملكة الوالدة فوجدا ترولوس ببابها يمنعهما من الدخول. فقال الدوق: إنَّا بحاجة إلى مقابلة الملك!

أجاب: لديَّ أمر صريح، فلا تدخلا!

كان ذلك إلى يوم ٤ ديسمبر (كانون الأول) وكانت ماري ستوارت تسهر كل ليلة قرب سرير زوجها، وقد بقيت فيه بقية حياة. أما طبيبه فقد فحصه لآخر مرَّةٍ، ورأى أنه يوشك أن يموت. هذا وأمير كوندة ممتلئ صحة وشبابًا منطرح على فراشه يعجب من تأجيل إعدامه.

فلما كان اليوم الرابع من شهر ديسمبر، قالت الملكة الوالدة لكنَّتها: اذهبي واستريحي.

فأجابتها: لا قدرة لي على مفارقة زوجي.

قالت: بل اذهبي، فمتى شعرت بالتعب أدعوك وأستريح.

وكانت ماري ستوارت منهوكة القوى، فذهبت وهي قلقلة الخاطر، فلم تبصر عند باب كاترين عمَّيها، الدوق وأخاه الكردينال، وقد حاولا لعاشر مرة أن يدخلا على الملك ليحملاه على توقيع الحكم بإعدام أمير كوندة إلا أن الملكة الوالدة لم تأذن لهما بالدخول إلا وقت إغماءِ الملك.

وقال لها الدوق: بحقك دعينا أيتها السيدة ندخل لنرى الملك لآخر مرة!

فقالت: إن ولدي لا يستطيع أن يرى أحدًا، ورجعت إلى حجرتها وقعدت في مكانها قرب سريرها، وكان الطبيب يفحص العليل ويتوقع وفاته، وبعد ساعتين فتح الملك عينيه، وانتصب قاعدًا على سريره، وقال: أين ماري؟ أين الملكة؟

فأجابته والدته: إنها ذهبت لتستريح يا بنيَّ.

– أود أن أراها وأودعها يا أماه، فاطلبي حضورها.

– نعم يا ولدي، ولا تتعب نفسك من غير فائدة.

قال الملك للطبيب: اذهب يا عزيزي فرنل وجئني بماري وعمي الدوق دي جيز وأخيه، فإنني أود أن أراهم قبل موتي. فاذهب أنتَ؛ لأن والدتي لا تفعل ما أطلبه إليها. فنهض فرنل واتجه إلى الباب فاستوقفته كاترين، وقالت: ما معنى هذا؟

فأجابها: لم يبق فيه يا سيدتي إلا ذماء (بقية الروح) وبعد بضع دقائق يستوفي مدته، وهذا أمر قد أنذرتك به منذ عشرين عامًا، وخرج. فأخذت كاترين تروح وتجيء في الحجرة مضطربة، وقد نسيت ابنها؛ لأن آل جيز مقبلون، وقد يتمكنون في تلك الساعة الأخيرة من انتزاع السلطان من يدها والوصاية على ولدها، وحمْل الملك على توقيع حكم بإعدام أمير كوندة. ورأت نفسها وحيدة دون عضد ولا نصير، ولا قوة على أسرة جيز.

وكان ترولوس بالباب واقفًا شاهرًا سيفه، فذهبت إليه، وقالت: إنهم آتون، فهل ترضى بأن تموت لأجلي عند الحاجة؟

قال: تكلمي يا مولاتي.

قالت: لا تدع أحدًا يدخل الغرفة حتى ولا الملكة! ولا تفتح الباب لأحد إلا بأمري.

أجاب: إني أقسم لك على الطاعة. فأوصدت كاترين الباب، وترامت جاثية، وكان ابنها ينظر إليها مبهوتًا، وهي عاكفة على الصلاة أو على تحريك شفتيها، وتقليب حبَّات سبحتها بين أصابعها.

فقال الملك: لقد أتوا يا أماه! فافتحي الباب! هذه ماري آتية! وسمعت وقع خطى تقترب.

فقال لها: افتحي الباب، أريد منك أن تفتحي الباب!

فلم تأت كاترين بحركة، وطرق سمعها صوت جدال في الخارج، وقائل يقول: لا يدخل أحد إلا بأمر من الملكة الوالدة.

فغمغمت كاترين تقول: ألا شكرًا لك يا حبيبي ترولوس.

فنهض فرنسوا الثاني لآخر مرة، ونظر إلى أمه نظرة حانق غضوب، ثم زفر زفرة حرَّى وارتمى على فراشه، وقد قضى نحبه، ولقي ربه. فأقبلت كاترين عليه تتأمله، وتقول: لقد مات حقًّا.

وذهبت إلى الباب وفتحته، ودخل الدوق دي جيز والكردينال وماري ستوارت وكأنهم مجانين، وكان الدوق يحمل الحكم وعليه التواقيع العديدة، وهو حكم إعدام أمير كوندة فاختطفته كاترين من يده، وطرحته في النار، وصرخت تقول: لقد تأخرت يا ابن العم، فإن ملك فرنسا قد مات.

قال: يا للداهية، مات ولم يوقع على الحكم! ووثبت ماري ستوارت إلى جثة زوجها، وهي تقول: كلا، لم يمت فإن بدنه لا يزال حارًّا. عُدْ بربك إليَّ يا حبيبي فرنسوا، واسمع صوتي أنا ماري، أنا زوجتك التي تحبها.

ولما تحقق آل جيز موت الملك لم يحفلوا بجثته، فعادوا إلى كاترين وهم ينوون نيات فاسدة، وكانت قد تظاهرت بالرقة واللطف، وحزرت ما يجول في ذهن كل من الأميرين. لكنها لم ترهبهما فإن ترولوس كان قريبًا منها، وللحال أقبل جمهور الأشراف وبينهم أمين الأختام ووراءه أمراء البيت المالك أولهم شارل البكر. فدنا أمين الأختام من فراش الميت، وصاح بصوت جهوري: مات الملك فرنسوا الثاني! فليحي شارل التاسع!

وكان شارل التاسع يومئذٍ غلامًا، فوقف ونظر إلى مربيته، وردد الحضور الهتاف فكانوا ينادون: ليحي الملك شارل التاسع!

•••

وكان أمير كوندة وقتئذٍ في سجنه، والحراس يحدقون به وهو نائم ملء جفونه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤