سنوسرت «الثاني» (١٩٠٦–١٨٨٣ق.م)

fig21
شكل ١: سنوسرت الثاني.
تولى المُلك بعد «أمنمحات الثاني» ابنه «سنوسرت الثاني» الملقب باسم «خع خبر رع»، بعد أن اشترك معه في الحكم حوالي سبعة أعوام، وقد ذكر «مانيتون» أنه من أطول الملوك الذين جلسوا على عرش المُلك قامة، فكان طوله حسب قول «مانيتون» نقلًا عن «يوسبيوس» Eusebius أربعة أذرع وثلاثة أشبار وأصبعين؛ أي نحو ستة أقدام. أما مدة حكمه للبلاد فكانت قصيرة؛ إذ لم يمكث على العرش أكثر من تسع عشرة سنة بما فيها سبعة الأعوام التي اشترك فيها مع والده.

(١) اضطراب الأحوال في بلاد النوبة

والظاهر أنه لم يكن ميالًا للحروب، ومن المحتمل أن بلاد النوبة أخذت تفلت من يده بعض الشيء، وقد كان الملوك الذين سبقوه توغلوا بجيوشهم فيها إلى الشلال الثالث كما ذكرنا، وجعلوها إقليمًا مصريًّا، ولكن شواهد الأحوال تدل على أنه في خلال حكم «أمنمحات الثاني» المشترك مع ابنه؛ أخذ نفوذ المصريين يتناقص حتى إن القبائل النوبية هددت البلاد المصرية نفسها بالغزو. وقد عثرنا على بعض نقوش ربما كانت تشير إلى ذلك من بعيد، ففي «الكاب» وجدت لوحة مؤرخة بالسنة الرابعة والأربعين من حكم «أمنمحات الثالث» لجده «سنوسرت الثاني» يقول فيها: «أمر جلالته ببناء حصار داخل سور «سشموتاوى» المرحوم»، وهذا الاسم هو اللقب «الحوري» للفرعون «سنوسرت الثاني»، وأنه من الصعب أن نعرف السبب الذي من أجله أقام «سنوسرت» سورًا في هذا المكان طوله نحو ٨٠ كيلومترًا شمالي الشلال الأول، في زمن كانت البلاد فيه غاية في الهدوء والسكينة والاتحاد، اللهم إلا إذا كان هناك خطر يهددها من الجنوب، يضاف إلى ذلك أنه كان يوجد في بلاد النوبة العليا وفي الصعيد استحكامات وحصون يرجع تاريخها إلى هذا العهد وهي «خشتامنة» و«كوبان» و«عنيبة»، ولدينا من الأدلة ما يثبت أن هذه الاستحكامات كانت موضع عناية في عهد هذا الملك، وقد كان ظاهرًا أنه يحتمل حدوث اضطرابات في بلاد النوبة، وأن القبائل السود كانت تهدد التخوم المصرية.

(٢) لوحة «حابو» وأهميتها

وكان المشرف على تفتيش الحصون في عهد «سنوسرت الثاني» وهو مشترك في الحكم مع والده موظفًا يدعى «حابو»، وقد ترك لنا نقشًا ذهب معظم معالمه على صخرة في «أسوان» وعليه اسم «أمنمحات الثاني» محبوب الإلهة «ساتت» ربة «إلفنتين» واسم «سنوسرت الثاني» محبوب الإله «خنوم» رب منطقة الشلال، وقد جاء فيه ما يأتي: «عمل في السنة الثالثة من حكم جلالة «حور» «سشموتاوى» (سنوسرت الثاني)، وذلك يقابل السنة الخامسة والثلاثين من حكم جلالة «حور حكن إم ماعت» (أمنمحات الثاني) حضر «حابو» … لأجل أن يفتش على حصون «واوات» (weigall, “Guide”, P. 411) ورغم ضآلة هذه المعلومات فإنها تفسر لنا السبب الذي من أجله قام «سنوسرت الثالث» على أثر توليته الملك بحملة على بلاد النوبة، ولا يمكن أنها قد قامت فجأة لمحاربته، بل لا بد أن قبضة «سنوسرت الثاني» على تلك الجهات كانت قد أخذت تنحل شيئًا فشيئًا؛ حتى قامت دفعة واحدة بالثورة والعصيان ضد خلفه.

(٣) نشاط «سنوسرت الثاني»

وتدل الآثار الباقية على أن نشاط هذا الفرعون الذي ورثه عن آبائه كان ظاهرًا في عدة جهات مثل «هيراكليو بوليس»، فقد عثر على كتل من معبد أقامه هذا الفرعون (Naville, “Ahnas”, I.)، وقد عثر على لوحة في «وادي جاسوس» لمدير خزانة الإله المسمى «خنوم حتب»، يذكر فيها أنه قام ببعثة إلى أرض الإله «بنت» (Birch, “Alnwick” 269, Pl. IV).
وعثر له في «الكرنك» على رأس من الجرانيت الأحمر (Legrain, “Statues” No. 42010) وفي «هيراكنبوليس»، وجد له تمثال (Rec. Trav. Vol. X, P. 139)، وقد عثر له كذلك على تمثال صغير في «سرابة الخادم» وهي مركز المناجم في شبه جزيرة «سينا» (Gardiner, and Peet, “Sinai” P. 79)؛ أما في «وادي الحمامات» وهو المكان الذي يستخرج منه حجر البرشيا، فقد عثر على نقش ذُكر فيه اسم هذا الفرعون (Couyat et Montet “Hammamat”, 104) وفي «القصير» على البحر الأحمر وهي الميناء التي كانت تقلع منها السفن الذاهبة إلى بلاد «بنت» (A. Z. XX, 204)، وفي بلدة «الرقة» عثر على قطعة حلي تحمل اسم هذا الفرعون (Riqqeh and Memphis, Pl. 1.)، وتوجد عدة أسطوانات وجعارين باسم هذا الفرعون، وقد كشف عن عشرة منها في بلدة «اللاهون» وحدها، وفي «أسوان» عثر على لوحة جميلة لشريف محلي يسمى «منتو حتب»، وقد أرِّخت بحكم «سنوسرت الثاني» (L. D. Vol. II, pl. 123 d)، وكذلك أرِّخ قبر «سرنبوت» وتمثاله المصنوع من الجرانيت الأسود بعهد هذا الفرعون (Budge, “Sculpture”, P. 157)؛ وكان والد هذا الأمير اسمه «أمنمحات» تيمنًا باسم «أمنمحات الثاني» (Rec. Trav.Vol. X, P. 189)؛ ويوجد الآن في «برلين» تمثال مقدم من موظف اسمه «سر» ويعزى إلى حكم هذا الفرعون (Wiedemann, “Geschichte”, P. 250).

(٤) الملكة «نفرت» زوجة «سنوسرت الثاني»

وتزوج «سنوسرت الثاني» من سيدة كانت شهرتها تفوق جمالها، إذا كان تمثالها الذي عُثر عليه في «تانيس» صورة حقيقية لها، والنقوش التي على عرش التمثال هي؛ الأميرة الوراثية، والحظية العظيمة، والممدوحة كثيرًا، والزوجة الملكية، وحاكمة النساء، وبنت الملك من جوفه، «نفرت» (ومعني اسمها الجميلة، وربما سميت بهذا الاسم رغبة في أن يغطي اسمها على قبح منظرها)، ومن ذلك نعلم أن الملكة نفسها كان لها حق ولاية الملك، وذلك ما يفسره ذلك اللقب غير العادي «حاكمة النساء» الذي أعطيته، وقد اتخذ هذا الفرعون عادة غريبة في بابها في نظرنا، وإن كانت طبعية وعادية عند الأسرة المالكة.

تلك هي عادة تزوُّج الملك من أخته، ولا شك في أن مثل هذا العمل كان يقوِّي مركزه على عرش البلاد، ومن المدهش أن مثل هذه الرابطة لم تنتج العواقب الوخيمة التي تنجم من العلاقات الجنسية بين الأقارب من هذا النوع، بل على العكس نجد أن فراعنة هذه الأسرة كانوا أشداء أقوياء الجسم.

وهذه الملكة نفسها على ما يظهر، وبنتها «حتشبسوت» قد ذُكرتا على لوحة جنازية لموظف اسمه «إي»، وهو يخبرنا أن زوجته كانت الأميرة «حتشبسوت» بنت الملكة «نفرت» المرحومة (Lange and Schafer, “Grab und Denkstein”, No. 20394)، وكذلك نجد ذكر الملكة «نفرت» وأختين أخريين إحداهما تسمى «نفرت» والثانية «إتا كايت» على بردية من اللاهون (A. Z. Vol. XXXVIII, P. 91).

(٥) منظر العامو الوافدين إلى مصر بالجزية وما قيل عنهم

وقد تمتعت مصر في أيامه بالرخاء والثروة والسعادة مما جلب إليها المهاجرين الساميين من الصحراء، وكذلك أهل البلاد الأخرى التي تجاورها، ولا أدل على ذلك من المنظر الذي نشاهده على مقبرة «خنوم حتب الثاني»١ سالف الذكر، ويرجع تاريخه إلى السنة السادسة من حكم الفرعون «سنوسرت الثاني» فنشاهد «خنوم حتب» يستقبل جماعة من «العامو» سكان الصحراء الشرقية، ويبلغ عددهم سبعة وثلاثين محملين بالجزية من الكحل، وأشكال هؤلاء الأجانب وزيهم على جانب عظيم من الأهمية؛ إذ تصوِّر لنا نوع المدنية المنتشرة في المناطق التي بين مصر و«مسوبوتاميا» (ما بين النهرين)، فيشاهد في هذا المنظر أن الكاتب الملكي «نفرحتب» الذي يقدِّم هذه الجماعة يحمل لوحة مكتوبًا عليها السنة السادسة من عهد جلالة الملك «حور» مرشد الأرضين ملك الوجه القبلي والوجه البحري «خع خبر رع»، وعدد «العامو» الذين أحضرهم ابن الأمير «خنوم حتب» لإحضار الكحل، سبعة وثلاثون رجلًا.
ثم يأتي بعد ذلك «خيتي» رئيس الصيادين وخلفه هؤلاء الأجانب، يتقدمهم رئيسهم ومعه غزال أليف واسم هذا الرئيس «أباشا» ويحمل لقب «حقا خاست»٢ وهو الاسم الذي حُرف فيما بعد إلى لفظة «هكسوس»، وهم القوم الذين غزوا البلاد بعد سقوط الدولة الوسطى، ويلاحظ أن هؤلاء القوم يرتدون ملابس ثمينة ملوَّنة بالألوان الجميلة الزاهية، مما يدل على أنهم لم يكونوا مجرد بدو مرتدين الجلود، بل على العكس كانت ملابسهم المزركشة تذكرنا بالرسوم والزخارف التي نشاهدها على السجاد العجمي، ولا نكون مغالين إذا قلنا إنهم أتوا من بلاد أكثر خصبًا من الصحراء القاحلة الممتدة على سواحل البحر الأحمر، ولا مشاحة في أن وجوه هؤلاء القوم تمثل الجنس السامي وبخاصة رئيسهم.
ومن الطريف أن هذه الصورة عندما كشفت، ظن بعض العلماء أنها تمثل دخول «يعقوب» وأولاده مصر، أو دخول سيدنا «إبراهيم» وأسرته؛ لأنهم لم يعرفوا أي الرئيسين كان ممثلًا على هذه اللوحة، ولكن عدد من كان على اللوحة لا يتفق عدده مع أسرة سيدنا «يعقوب» ولا مع أسرة سيدنا «إبراهيم»، والواقع أن هذه الصورة ليس لها أي علاقة بحوادث التوراة مطلقًا، غير أنها تمثل لنا الحقيقة الواقعة، وهي أن مثل هذه الزيارات التي كان يقوم بها الأسيويون قد حدثت في العصر الذي نحن بصدده، وأنه ليس هناك أي اعتراض على ما جاء في قصة التوراة، وأنه يحتمل جدًّا مجيء سيدنا «يعقوب» وسيدنا «إبراهيم» إلى مصر، كما ذكرنا من قبل. وقد عثر على صورة تمثل هذه الصورة على جعران، وتصور لنا حارسًا لمائة وعشرة من العامو «البدو» (Petrie, “Scarabs”, XV, A. C).

(٦) علاقة مصر بجزيرة «كريت» في ذلك العصر

وهناك آثار أخرى تثبت أن مصر كانت متصلة في مدنيتها ببلاد أخرى في ذلك العهد، عن طريق التجارة وتبادل السلع؛ إذ عثر على قطع من الفخار الملون بألوان مختلفة في خرائب بلدة «اللاهون» (عند مدخل الفيوم)؛ أي في المنطقة التي كان يقيم فيها العمال الذين بنوا هرم «سنوسرت الثاني» كما سنرى بعد. وصناعة هذا الفخار ليست مصرية، بل تُنسب إلى العصر «المنواني» الثاني بجزيرة «كريت»، وهذا العصر يتفق في تاريخه تمامًا مع تاريخ الأسرة الثانية عشرة، ونحن نعلم أنه كانت هناك علاقات بين مصر و«كريت» قبل العصر الذي نحن بصدده؛ إذ إن الأشكال الحلزونية التي انتشرت على الجعارين المصرية في عهد «سنوسرت الأول» ترجع في أصلها إلى المدنية «الإيجية». وكذلك يحتمل أن صناعة طلاء الخزف قد نُقلت من مصر إلى «كريت» في عصر قبل ذلك بكثير، يضاف إلى ذلك أن أشكال الأواني الحجرية التي ترجع إلى العصر «الكريتي» الأول يظهر أنها غالبًا مقلدة من أشكال الأواني التي كانت تُصنع في مصر في عهد الأسرة السادسة وما قبلها.

(٧) نقوش «خنوم حتب الثاني»

على أن أهم نقوش عُثر عليها في عصر هذا الفرعون هي نقوش «خنوم حتب الثاني»، وهو كما نعلم أحد أفراد الأسرة العظيمة التي حكمت مقاطعة الغزال عدة أجيال، وكان لها شأن عظيم في تاريخ الأسرة الثانية عشرة. فقد كان مثلها كمثل أسرة «خيتي» حُكام مقاطعة «أسيوط» خلال الأسرة العاشرة الإهناسية التي سبق ذكرها — وقد بدأ نجم هذه الأسرة العظيمة في الصعود في «بني حسن» في بداية حكم «أمنمحات الأول» الذي نُصب جد «خنوم حتب الثاني» وهو «خنوم حتب الأول» حاكمًا لجهة «منعات خوفو»، وهو إقليم من مقاطعة الغزال، ثم انتهى الأمر بأن جعله حاكمًا للمقاطعة كلها، و«خنوم حتب الأول» هو الذي شاهدناه مرافقًا للفرعون «أمنمحات الأول» في بعثته المؤلفة من عشرين سفينة، وقد استمر هذا العطف الفرعوني في عهد «سنوسرت» الذي نصب ابني «خنوم حتب الأول» وهما «نخت» و«أمنمحات» لإدارة إقليم «منعات خوفو» ومقاطعة الغزال بالتوالي، ثم تزوجت «بقت» بنت «خنوم حتب» موظفًا كبيرًا من رجال البلاط اسمه «نحري»، وكان وقتئذ حاكمًا لمقاطعة الأرنب، وتقع جنوب مقاطعة الغزال مباشرة. وقد أنجبت «بقت» هذه «خنوم حتب الثاني» الذي سنتكلم عنه الآن، وهو الذي تولى حكومة «منعات خوفو» بعد وفاة خاله «نخت»، وكان ذلك في السنة التاسعة عشرة من حكم «أمنمحات الثاني» ولما كان «خنوم حتب الثاني» هذا طموحًا، ويريد أن يجمع بقدر ما يستطيع في يده السلطة؛ يزوج من السيدة «خيتي» وارثة مقاطعة «ابن آوي» التي تقع في شمال مقاطعة الغزال مباشرة، وبذلك ضَمن لبكر أولاده «نخت الثاني» وظيفة حاكم مقاطعة «ابن آوي» (سيوط) بحق الوراثة من جهة أمه، على حين أن ابنه الثاني «خنوم حتب الثالث» ورث والده في إقليم «منعات خوفو»، وتوارُث هذه الأسرة لهذا الإقليم يُظهر لنا ما كان عليه حكام الأقاليم من السلطة رغم قوة ملوك الأسرة الثانية عشرة؛ إذ كان حكم الإقطاع متأصلًا في هذه الجهة بخاصة دون جهات القطر الأخرى، وربما يعزى ذلك لولاء هذه الأسرة لفراعنة البلاد مدة محنتهم ولذلك تساهلوا معهم.

وقد كان «خنوم حتب» نفسه المثل الأعلى للموظف المهذب ما دام قابضًا على وظيفته، وقد قص علينا قصة أسرته وكيف تدرجت في جمع الوظائف المختلفة في يدها، وقد بدأ هذا بتعيين جده وسميه. وهو يخبرنا أن أجداده نالوا وظائفهم بفضل ما لهم من المزايا، كما أنه حصل على مركزه بصفاته ومزاياه العظيمة، وكذلك نال ابنه النجاح بما له من عظيم الصفات.

وما عليك إلا أن تصغي لما يقوله بطلاقة عن فضائل ابنه الأصغر «خنوم حتب الثالث» وما امتاز به من الخصال الحميدة: «أمير آخر عين مستشارًا، وهو السمير الوحيد، والعظيم بين السمار، والذي يقدم هدايا كثيرة للقصر، والسمير الوحيد، وليس هناك من يفوقه في فضائله، وهو الذي يصغي إليه الموظفون، والفم الفريد، والذي يخرس الأفواه الأخرى، والذي يجلب الفائدة لمالكها، حارس على باب الأراضي المرتفعة «خنوم حتب» بن «خنوم حتب» «نحري» الذي أنجبته السيدة «ختي».»

ويعتبِر «خنوم حتب» أن أفضل ما قام به هو الأعمال الصالحة التي قدَّمها لآبائه وبخاصة بناء مقابرهم؛ إذ إليهم يرجع الفضل في كل ما يتمتع به من راحة وثروة، فيقول: «لقد أحييت أسماء آبائي التي وجدتها قد انمحت على الأبواب، وجعلتها تُقرأ شكلًا مع الدقة في كتابتها، فلم أضِع اسمًا بدل اسم آخر، وفي الحق إن الذي يعيد أسماء أجداده لولد ممتاز. ابن «نحري» «خنوم حتب» المرحوم والمحترم، وقد كان أعظم شرف لي أن أنحت لنفسي قبرًا في الصخر؛ لأنه من واجب الرجل أن يقلد ما يفعله والده.» وبالاختصار تدل نقوشه على أن معظم همه كان منصرفًا في مقاطعته لتفخيم نفسه وأسرته وترك الشعب ظهريًّا، ولذلك لم نرَه يذكر أنه أطعم الجائع أو كسا العريان، وغير ذلك مما نقرؤه من أعمال حكام العصر الآخرين، ولكن بدلًا من ذلك نسمع منه «أعمال الحاكم «خنوم حتب» العظيمة: لقد أقمت أثرًا في وسط مدينتي فبنيت قاعة أعمدة وجدتها مخرَّبة، فأقمت فيها أعمدة جديدة منحوتًا عليها اسمي، وخلدت اسم والدي عليها، ودوَّنت أعمالي على كل أثر … وكنت عظيمًا في آثاري، وعلمت «في المدارس» كل حرفة أهملت في هذه المدينة؛ لأجل أن يبقى اسمي ممتازًا في دقة صنعه على كل أثر شيدته.»

ولا نزاع في أن «خنوم حتب» كان حاكمًا طيبًا إلى حد عظيم، وأنه سهر على مصالح قومه كما فعل الحكام الذين سبقوه، وملئوا الدنيا صياحًا بجليل أعمالهم، ولكن من جهة أخرى كان أكثر منهم صراحة وأمانة عندما ذكر لأخلافه ما يعتقده غيره ويخفونه في قرارات نفوسهم؛ ولذلك كانت تنقصهم الشجاعة والصراحة لإفشائه؛ وهو أن باقي الجنس البشري لم يوجد إلا لفخاره وفخار أسرته، وتلك هي حال الملوك في كل زمان ومكان.

(٨) بعوثه إلى الصحراء النوبية الغربية

وقد أظهر «سنوسرت» نشاطه في جلب الأحجار الصلبة من محاجر الديوريت الواقعة في الصحراء النوبية الغربية، وهي التي كُشف عنها حديثًا كما أسلفنا. وقد عُثر على لوحة من عصره تحدِّثنا عن بعثة في عهده قام بها موظف كبير يدعى «أميني» ويحمل لقب مدير هيئة الموظفين ولقب كاهن «سم» وهو من أكبر ألقاب الكهنة، والظاهر أنها أرسلت في عام ٨ + س من حكمه، وقد نُقش عليها صلاة للإلهة «حتحور» سيدة «نخنت» (والظاهر أن لفظة «نخنت» تطلق على اسم الحجر أو اسم المكان الذي كان يقطع منه الأحجار). ومن بين الأسماء التي ذُكرت مع هذه اللوحة موظف يدعى «حقا إب» بن «سنوسرت» ويحمل لقب «المشرف على فرقة قطع الأحجار الأثرية»، وهذا اللقب نادر جدًّا في الآثار المصرية. وكذلك عثر على تمثال صغير منذور من الحجر الرملي نُقش على صدره لقب «سنوسرت الثاني» «خع خبر رع» (A. S., Vol. XXXIII, P. 72).

(٩) هرم «سنوسرت الثاني» ومدينته

وقد بنى «سنوسرت» لنفسه هرمًا سماه «خع سنوسرت»، (المضيء) ومدينة مجاورة له تُسمى «عنخ سونسرت» (A. Z., Vol. 59, P. 53) مما يعطينا فكرة تامة عن مدينة هذا الفرعون وعصره أكثر مما نعلمه عن غيره من ملوك الدولة الوسطى، وسنشرح ذلك ببعض التفصيل فيما بعد.٣
fig22
شكل ٢: هرم سنوسرت الثاني.

وأقام «سنوسرت» هرمه في اللاهون بالقرب من مدخل «الفيوم»، ذلك الإقليم الذي كان موضع عناية فراعنة هذا العصر؛ ولذلك لم يحِد «سنوسرت» عن فكرة آبائه، وأقام هرمه عند مدخلها؛ أي في بقعة يمكن منها رؤية بلدة «الفيوم» من قمة هذا الهرم، وبناء الهرم نفسه غريب في تركيبه؛ إذ إنه أقامه فوق صخرة كبيرة، أصلح بعض جوانبها ثم أكمل البناء بالأحجار واللبن، ثم كساها بالحجر الجيري الأبيض مثل الأهرام الأخرى، والظاهر أن «سنوسرت الثاني» لاحظ أن أهرام من سبقه كانت فريسة للصوص؛ ولذا نجده يجعل مدخل الهرم المؤدي إلى حجرة الدفن في الجهة الجنوبية تاركًا بذلك نظام وضعه في الجهة البحرية، كما كان متبعًا من قبل في عهد الدولة القديمة، ثم يعمد بعد ذلك إلى إخفاء مكان الدخول إلى جوف الهرم بأن نحت كل الحجرات الجنازية في الصخر الصلد دون أن يترك فتحة يمكن الوصول إليها من بين الصخر والبناء.

وكان المدخل الرئيسي للهرم مغطى بأرضية مقبرة إحدى الأميرات؛ وذلك احتراسًا وتفاديًا من اللصوص، أما المدخل الثانوي فإنه كان مخفيًّا تحت أرضية ردهة الهرم، ورغم كل عناية «أنبو» المهندس الملكي، فإن حجرة الدفن قد نهبت، ولا يزال تابوته المصنوع من الجرانيت باقيًا للآن آية في دقة الصنع، والأخطاء التي يمكن المؤاخذة عليها إذا كانت تسمى أخطاء في تسطيح وجه التابوت واعتداله لا تتعدى من البوصة. وقد أقيم ناووس لعبادة الفرعون مستندًا على الجدار الشرقي للهرم كما هي العادة، وكان هذا الناووس منحوتًا وملونًا تلوينًا فخمًا، غير أنه قد مزقه شر ممزق بناء، والمخرِّب العظيم «رعمسيس الثاني» الذي لم يتورع من ترك خرطوشه على الكتل التي تركتها يد التخريب والتكسير (Naville, Ahnas el Medineh, I)، وقد عثر على بعض أحجار هذا الهرم في «إهناسية المدينة» مستعملة كرة أخرى وعليها اسم «رعمسيس الثاني»، وعلى مسافة ميل من شرقي هذا الهرم يقع معبده العظيم المسمى معبد الوادي، محاذيًا لمنتصف واجهته الشرقية، وفي غربي الهرم يقع المعبد الجنازي.

(١٠) وصف مدينة سنوسرت الثاني

أما مدينة الهرم فإنها قد أقيمت بجوار معبد الوادي، وفي هذه البلدة عثر على الفخار «الكريتي سالف الذكر»، وقد أطلق عليها الفرعون اسم «حتب سنوسرت» وهي الآن تسمى كاهون، وقد مُحي جزء منها تمامًا، غير أنها لا تزال تشغل نحو ثمانية عشر فدانًا فيها أكثر من ألفي حجرة، وقد نُظفت كلها، ونُشر تخطيط شوارعها وبيوتها تمامًا (Petrie, “Illahun”, Pl. XIV) ومن ذلك نعلم تفاصيل المنازل في ذلك العصر سواء أكانت قصورًا لعظماء الموظفين أم بيوتًا للعمال، والأشياء التي وجدت في بقايا هذه المنازل تُلقي ضوءًا كثيرًا على مدنية البلاد.

وقد عثر فيها على مجموعات من أوراق البردي تعد من أهم ما عثر عليه في تاريخ هذا العصر؛ إذ إنها تبحث في موضوعات شتى كالطب والقضاء … إلخ.

(A. Z. XXXII, 91, 96).

مقبرة الأميرة «سات حتحور أنت» ومحتوياتها

وفي الجهة الجنوبية من هرم «سنوسرت» عثر على أربع مقابر لأعضاء البيت المالك، وقد خُربت ونهبت جميعها إلا مقبرة الأميرة «سات حتحور أنت» (Brunton, “Lahun, The Treasure”) فإن إحدى حجراتها الصغيرة قد أخطأها اللصوص. وعندما كشف مستر «برنتن» عن هذه المقبرة في عام ١٩١٤ عثر على محتويات هذه الحجرة، وهي مصوغات ملكية أقل كمية من كنز دهشور، ولكن نوعها لا يقل عن سابقتها جودة وإتقانًا، بل وجد فيها بعض قطع تفوق قطع كنز «دهشور» في جمالها ودقة صنعها، وأهم هذه المجوهرات تاج لملكة محلى بالرسوم والأشكال الرائعة يعد أحسن مثال معروف يبرهن على نبوغ المصري ومهارته في هذا النوع من العمل، وكذلك وجدت صدريتان واحدة «لسنوسرت» الثاني (شكل ٣) وهو والد هذه الأميرة، والأخرى «لأمنمحات الثالث» (شكل ٤) الذي تزوجت منه.
fig23
شكل ٣: صدرية سنوسرت الثاني.
fig24
شكل ٤: صدرية أمنمحات الثالث.

ووجد من بينها أيضًا أحزمة، وأساور وخلاخيل ومرآة من الفضة مرصعة بحجر الأبسدين والذهب. وهذه الصدريات تظهر لنا بوضوح الانحطاط التدريجي في الذوق بين عصر «سنوسرت الثاني» وعصر أمنمحات الثالث، وكل منهما جميل، غير أن صناعة الأولى تجذب النظر إليها أكثر من الثانية، وإن كانت تعد غاية في الدقة إذا امتحنت على حدة، ولكن إذا قيست بالصدرية الثانية ظهرت خشنة في صناعتها بجانب الأولى التي يظهر فيها العناية والأناقة في الصنع.

وقد كان من حظ «فلندرز بتري» أن عثر أثناء الحفر في عام ١٩٢٠-١٩٢١ في هرم «سنوسرت الثاني» على قطعة من تاج الفرعون العظيم وهذه القطعة تعد فريدة في نوعها؛ إذ كل ما عثر عليه للآن صور للتاج المزدوج وغيره، أما التاج نفسه فلم يعثر على مثال واحد منه للآن، وهذه القطعة هي الصل (الثعبان) الذي يحلي جبهة الفرعون، وهذا الصل مرصع بالأحجار نصف الكريمة. ومن المدهش أنه لم يعثَر إلى الآن على تاج كامل لأي فرعون حتى ولا في آثار «توت عنخ آمون» نفسه. وستبقى الآثار المصرية التي كُشفت خالية من تاج فرعون حقيقي إلى أن يجود جوف أرض مصر بما يسد هذا الفراغ، راجع: (Petrie, “Illahun”, and “Ancient Egypt,” (1920) PP. 65, 74).
١  Newberry, “Beni Hassan”, Vol. I, Pl. XXVIII; Breasted, A. R. Vol. I, Par. 619. ff.
٢  ومعناها «حاكم البلاد الأجنبية».
٣  Petrie, “Illahun”, Pl. II. PP. 1–4.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤