أمنمحات الأول (٢٠٠٠–١٩٧٠ق.م)

(١) مقدمة

fig15
شكل ١: أمنمحات الأول.

قلنا فيما سبق: إن «أمنمحات» الأول مؤسس الأسرة الثانية عشرة، يحتمل أن يكون هو نفس «أمنمحات» وزير الفرعون «منتو حتب الرابع»، والمرجح أن سلطان هذا الوزير أخذ يعظم، ونفوذه يزداد ويقوى في عهد «منتو حتب» هذا؛ حتى تمكن في النهاية من الاستيلاء على العرش عنوة، ويقوي هذا الظن أن «منتو حتب الرابع» هذا كان مغتصبًا الملك، ولم يكن صاحب حق وراثي فيه، على أنه من الجائز أن يكون «أمنمحات» تولى العرش بعد وفاة «منتو حتب» مباشرة بفضل ما كان له من قوة ونفوذ في البلاط.

ويعد هذا الرأي الأخير مقبولًا جدًّا إذا ثبت أن «أمنمحات» هذا ينتسب إلى أحد فروع الأسرة الملكية الشرعية القديمة، ولدينا مصادر تاريخية تشير إلى وجود صلة دم بين «أمنمحات» مؤسس الأسرة الثانية عشرة وبين ملوك الأسرة الحادية عشرة، فقد نوَّه «سنوسرت الأول» عن ذلك كما أسلفنا، ولكن على الرغم من وجود صلة الدم هذه فإن «أمنمحات الأول» على ما يظهر أراد أن يبرر اعتلاءه عرش الملك أمام الشعب المصري بطريقة روحية مبتكرة تختلف عن الطريقة التي اخترعها ملوك الأسرة الخامسة عندما أرادوا أن يثبتوا مراكزهم أمام الشعب المصري (مصر القديمة ج١)؛ وقد جرت التقاليد في التاريخ المصري القديم ألا يتولى عرش الفراعنة إلا من كان يجري في عروقه الدم الملكي الخالص، كما سبق شرح ذلك في الجزء الأول (مصر القديمة ج١)، فإذا اتفق أنه ظهر رجل عظيم في البلاد ولم يكن من دم ملكي وأراد أن يؤسس أسرة جديدة أو يغتصب الملك بما لديه من قوة ونفوذ بدون حق شرعي، فإنه كان يلقى في سبيل تنفيذ مآربه عقبات جسامًا؛ وذلك لأن الشعب المصري كان يميل إلى التمسك بأهداب القديم، ويحافظ على ما وجد عليه آباءه وأجداده؛ وبخاصة فيما يتعلق بالبيت المالك الذي يرتفع في نظر المصريين إلى مرتبة الآلهة. من أجل ذلك لم يعتمد «أمنمحات الأول» في استوائه على العرش على القوة وحدها، بل قرنها بحيلة تدل على الحذق والمهارة، استمال بها أبناء الشعب مثقفين وغير مثقفين، تلك هي أسطورة، حرص على إذاعتها بين القوم قوامها نبوءة لحكيم قديم، رأى فيها أن الويلات التي حاقت بالبلاد ستنجاب على يد رجل عظيم يصلح عوجها، ويبرئ بحكمته عللها، وذلك المخلِّص المنتظر هو «أمنمحات»، آمن بها الدهماء؛ لأنها نبوءة تنبأ بها حكيم من قديم الزمان منذ آلاف السنين، وقال عنه: إنه المخلِّص المنتظر، الذي سيخلص البلاد مما أحاق بها من ويلات ونكبات ظلت قرونًا متوالية، وآمن بها المثقفون؛ لأنها كُتبت بأسلوب يأخذ بمجامع القلوب في عصر يحتل فيه الأدب مكانة رفيعة؛ بفضل كُتاب نابهين كانوا يصورون حالة البلاد وما انطوت عليه من بؤس وفقر بأسلوب مؤثر، فكان ظهور هذا المخلِّص المنتظر يعد رحمة عند الجميع، وسنورد فيما يأتي هذه النبوءة التي صاغها الكاهن المرتل «نفرروهو» في قالب أدبي جذاب تبريرًا لاعتلاء «أمنمحات» عرش الملك مع التعليق على محتوياتها.

(٢) نبوءة نفرروهو١

عثر الأستاذ «جولنيشف» على بردية هي الآن بمتحف «لننجراد» وتحتوي على نبوءات كاهن مرتل اسمه «نفرروهو»، وهو يدعي أنها ألقيت في حضرة الملك «سنفرو» الذي ينتسب إلى أوائل الأسرة الرابعة؛ أي قبل العصر الإقطاعي الذي نحن بصدده بما يقرب من ألف سنة. والواقع أن ذلك هو مجرد وضع تمثيلي ليسبغ على كلمات «نفرروهو» قوة التأثير. ومن حسن الحظ أن كاتبًا آخر من عهد الدولة الحديثة ممن عاشوا في القرن الخامس عشر قبل الميلاد قد ظهرت له أهمية ذلك المقال، ولما لم يجد لديه برديًّا أبيض ينقشه عليه نقله على ظهر أوراق أخرى سبق أن استعملها في تدوين حسابه هو. وبذلك بقيت نبوءات «نفرروهو» في تلك الصورة التي وصلت عفوًا بما تحتويه من غموض بسبب أغلاطها الكثيرة التي حدثت عند نقلها بطريق المصادفة كما ذكرنا.

والوثيقة تبتدئ بمنظر مألوف في كل عصور التاريخ المصري حتى في النقوش الرسمية ويصور مقدمة للموضوع، فيجلس الملك مع حاشيته يتشاور في أمر، أو تقص عليه الحاشية حكاية، أو كما نجد في غير هذا المكان أن الملك لحب استطلاعه أمور الغيب تتوق نفسه لسماع شيء لم يكن يعرفه.

فيقول: «والآن اتفق في عهد جلالة الملك «سنفرو» وهو الملك المحسن في كل هذه الأرض؛ أن موظفي الحاضرة دخلوا يومًا القصر ليقدموا للملك تحياتهم، ثم جاءوا ثانية ليقدموا تحياتهم كرة أخرى، كما كانت عادتهم اليومية، وعندئذ قال الملك لمستشاره الذي كان بجانبه: «اذهب واحضر إليَّ موظفي مقر المُلك الذين خرجوا من هنا اليوم ليقدموا تحياتهم،٢ فدخلوا عليه وسجدوا ثم انبطحوا على بطونهم أمام جلالته كرة أخرى.»

وقال لهم جلالته: «يا إخواني، لقد أمرت بطلبكم؛ لتبحثوا لي عن ابن من أبنائكم يجيد الفهم، أو أخ من إخوانكم بارع، أو صديق من أصدقائكم قد أنجز بعض عمل شريف، أي فرد يتحدث إليَّ بكلمات جميلة وألفاظ مختارة عندما تسمعها جلالتي تجد فيها تسلية.»

وعندئذ سجدوا منبطحين على بطونهم في حضرة جلالته مرة أخرى.

وقالوا في حضرة جلالته: «يوجد مرتل عظيم للآلهة «باست»٣ يا أيها الملك يا مولانا، واسمه «نفرروهو»، وهو شعبي قوي الساعد وكاتب حاذق الأنامل، وهو شخص مسوَّد أغنى أقرانه، ليته يشاهد جلالتك.»
فقال جلالته «اذهبوا وأتوني به.» وأدخل عليه في الحال٤ وسجد على بطنه في حضرة جلالته، وقال جلالته: «تعالَ الآن يا «نفرروهو» يا صاحبي وحدِّثني ببعض كلمات جميلة، كلمات مختارة حينما أسمعها ربما أجد فيها تسلية»، فقال المرتل «نفرروهو»: هل ستكون الكلمات من الأمور التي حدثت أو مما سيحدث يا أيها الملك يا مولاي؟ فقال جلالته: «لا مما سيحدث؛ إذ إن الحاضر قد دخل في الوجود ويمر الإنسان به.» فمدَّ يده إلى صندوق مواد الكتابة وأخذ قرطاسًا وقلمًا ومدادًا ودوَّن: كتابة ما تحدَّث به الكاهن المرتل «نفرروهو» حكيم الشرق التابع للآلهة «باست» … ابن مقاطعة «عين شمس» حينما كان يفكر فيما سيحدث في الأرض، ويفكر في حالة الشرق حينما يأتي الأسيويون بقوتهم، وحينما يعذبون قلوب الحاصدين ويغتصبون ماشيتهم وقت الحرث.

ثم يصف لنا بعد هذه المقدمة التاريخية التي تنسب لذلك المقال كما أوضحنا، الخراب والفوضى الذين كانا يحيطان به، ومثله في ذلك مثل «خع خبر-رع-سنب»؛ إذ يتكلم مع قلبه فنراه يقول: «أنصت يا قلبي وانعِ تلك الأرض التي منها نشأت …»

وصف حالة البلاد المحزنة

لقد أصبحت تلك البلاد خرابًا فلا من يهتم بها، ولا من يتكلم عنها، ولا من يذرف الدمع عليها، فأية حال تلك التي عليها البلاد؟ لقد حُجبت الشمس فلا تضيء حتى يبصر الناس.

وقد كان من نتيجة تعطيل أعمال الري العظيمة العامة أن أصبح نيل مصر جافًّا، فيمكن للإنسان أن يخوضه بالقدم، وصار الإنسان عندما يريد أن يبحث عن ماء، (يعني النهر) لتجري عليه السفن وجد مجراه قد صار شاطئًا، والشاطئ صار ماء، وكل طيب قد اختفى وصارت البلاد طريحة الشقاء بسبب طعام البدو والذين يغزون البلاد، وظهر الأعداء في مصر فانحدر الأسيويون إليها … وسأريك البلاد وهي مغزوَّة تتألم، وقد حدث في البلاد ما لم يحدث قط من قبل … فالرجل يجلس في عقر داره موليًا ظهره عندما يكون الآخر يُذبح بجواره … وسأريك الابن صار مثل العدو، والأخ صار خصمًا، والرجل يذبح والده، وكل فم ملؤه أحببني [صياح المتكفف؟] وكل الأشياء الطيبة قد ذهبت، والبلاد تحتضر … وأملاك الرجل تُغتصب منه وتُعطى الأجنبي … وسأريك أن الملك صار في حاجة، والأجنبي في غنى … وأن الأرض قد نقصت، وقد تضاعف حكامها، وصارت الحياة شحيحة، مع أن المكيال صار كبيرًا، وتكال الحبوب (أي بجابي الضرائب) حتى يطفح الكيل، سأريك البلاد، وقد صارت مغزوَّة تتألم، وإن منطقة «عين شمس» لن تصير بعد مكان ولادة كل إله.

الدعاية لظهور مخلِّص للبلاد

وبعد ذلك يتحول «نفرروهو» من غير تردد أو شك عن تلك الصورة التي يصف فيها القحط الذي وقعت فيه البلاد، منادٍ بالكلمات التالية الهامة، داعيًا لظهور الملك الذي سيخلص مصر مما حاق بها؛ إذ يقول: «سيأتي ملك من الجنوب اسمه «أميني» وهو ابن امرأة نوبية الأصل، وقد ولد في الوجه القبلي، وسيتسلم التاج الأبيض وسيلبس التاج الأحمر، فيوحد البلاد بذلك التاج المزدوج، وسينشر السلام في الأرضين، (يعني مصر) فيحبه أهلها … وسيفرح أهل زمانه، وسيجعل ابن الإنسان يبقى أبد الآبدين، أما الذين كانوا قد تآمروا على الشر، ودبروا الفتنة فقد أخرسوا أفواههم خوفًا منه، والأسيويون سيُقتلون بسيفه، واللوبيون سيُحرقون بلهيبه، والثوار سيستسلمون لنصائحه، والعصاة إلى بطشه، وسيخضع المتمردون للصل الذي على جبينه … وسيقيمون «سور الحاكم» حتى لا يتمكن الأسيويون من أن يغزوا مصر، وسيستجدون الماء حسب طريقتهم التقليدية لأجل أن ترِدها أنعامهم، والعدالة ستعود إلى مكانها، والظلم ينفى من الأرض، فليبتهج من سيراه، ومن سيكون من نصيبه خدمة ذلك الملك.»

فظهور الملك المخلِّص للبلاد بالفعل، ومجيئه كان هو الأمل الذي ينشده الحكيم «إبور»، ثم عرف ذلك الملك «نفرروهو» بالاسم؛ ورسم كتابة الاسم «أميني» الذي استعمله «نفرروهو» وهو اختصار مشهور للاسم الكامل «أمنمحات»، وهو بالبداهة المؤسس العظيم للأسرة الثانية عشرة، والمصلح الذي أعاد توطيد سلطان مصر في العهد الإقطاعي حوالي ٢٠٠٠ سنة ق.م، وقد ذُكر عنه في نقش تاريخي بعد ذلك العصر بثلاثة أجيال بشكل بارز: «أنه قد محا الظلم؛ لأنه أحب العدل كثيرًا (يعني: ماعت).٥ وقد كان عرَّافنا هنا واثقًا من أن بطله «أمنمحات» سيستولى على التاجين اللذين يرمزان لحكومة البلاد المتحدة مصر السفلى ومصر العليا، وأنه سيفتح عصرًا جديدًا، غير أنه يرجئ الإصلاح العظيم بوجه عام إلى المستقبل. وذلك يضع أمامنا سؤالا جديدًا وهو: هل هذا التأكيد القوي مجرد نبوءة عن حادثة قبل وقوعها؟ وهل كان ذلك إعلانًا ينم عن الظفر يلقاه بطل منتصر قد نجح نجاحًا عظيمًا في إصلاح مصر العليا، حتى إن انتصاره النهائي وإصلاحه لمصر كلها كان متوقَّعًا حدوثه؟ أم هل كان «نفرروهو» مرسلًا من قبل «أمنمحات» إلى مصر السفلى ليعلن قدومه إليها؟ أو هل كان كأي شخص من أنصار «أمنمحات» قد عظم إصلاحاته فصورها بصورة تبرزها إذا قاسها بما صارت إليه البلاد من الدمار والخراب قبل مجيئه؟
وإنه لمن المستحيل أن يعطي الإنسان جوابًا شافيًا عن تلك الأسئلة، ولكن يظهر أنه يوجد سبب قوي يدعونا إلى الاعتقاد بأن «نفرروهو» كان حقيقة محاطًا في زمنه بالخراب الذي صوَّره لنا بصورة حقيقية، وأن تاريخ حياة «أمنمحات» الذي كان رائده النجاح في مصر العليا قد جعل الأمل بنجاحه في إعادة وحدة البلاد إلى ما كانت عليه، وإرجاع مجدها القديم متوقعًا، ومن المدهش حقًّا أن «نفرروهو» يذكر لنا هنا صراحة أن الفرعون الجديد ليس من سلالة البيت المالك القديم، ولا شك في أنه كان هناك مطالبون بالعرش في البلاد، أو مدَّعون له كثيرون، فظهور مُطالب آخر مثل «أمنمحات» ليس بالأمر الغريب، على أن تسمية «أمنمحات» «بابن الإنسان»٦ كما ذكر ذلك فيما سلف على لسان ذلك المتنبئ يلفت نظرنا، كما يوحي إلينا في الحال بوجود علاقات بين هذه التسمية والتسمية التي تُطلق على المسيح عليه السلام؛ إذ إن ذلك التعبير قد استُعمل في النصيحة الموجهة إلى «مريكارع» ليدل على «ابن رجل ذي أهمية» وقد جرى في بلاد «بابل» القديمة استعمال تعبير مشابه لذلك التعبير، وذلك الإعلان الذي أعلنه ذلك المتنبئ يشمل القيام بعملين يتعهد بإنجازهما مليكه، وهما من الأهمية للشعب البائس في مصر الطريحة بمكان وهذان العملان هما:
  • أولًا: القضاء على المغيرين وأخذ العدَّة لدفع الغارات المقبلة.
  • ثانيًا: إصلاح النظام الداخلي.

«فسور الحاكم» الذي سبق ذكره كان قلعة قديمة لحماية الدلتا الشرقية، وكان واقعًا على التخوم الأسيوية، وقد بُني لحراسة الطريق من آسيا إلى مصر في عهد بناة الأهرام، وقد أعلن «نفرروهو» أن الملك سيعيده كما كان من قبل.

والصور التي رسمها لنا ذلك المتنبئ عن الحالة التي نتجت عن دخول الأسيويين؛ يذكرنا بما ورد في الرواية العبرانية الخاصة برحلة دخول أجدادهم إلى مصر.

أما إعلان الإصلاح الذي حدث في النظام الداخلي فإنه يسترعي الأنظار لقصره وبساطته؛ إذ يقول: «إن العدالة ستعود إلى مكانتها، والظلم سينبذ بعيدًا.» فكانت إذن «ماعت» القديمة هي التي سيعيدها الملك الجديد في شكل نظام ثابت؛ يكون رقيبًا ومهيمنًا على حياة الشعب المصري الاجتماعية.

وقد رجع إلى «ماعت»، وهي ذلك النظام القديم الذي مكث ألف سنة مرشدًا ومهيمنًا على الحاكم وحكومته، سلطانها مرة أخرى من جديد.

ومن المحتمل أن الابتهاج الذي يظهره ذلك المتنبئ العتيق؛ كان يعني المثل العليا القديمة للأخلاق الفاضلة والسعادة القويمة، غير أن تلك الحالة كانت — مع الأسف — بعيدة عن الحقيقة الواقعة؛ فإن «أمنمحات» وهو من كبار الإداريين في العالم القديم، وكان قد وهبه الله فطنة عظيمة حتى أعاد بلا نزاع ذلك النظام القديم بقدر ما سمحت له الأحوال. قد حتمت عليه الظروف أن يتخير عماله وموظفيه لإدارة شئون البلاد من بين أولئك الرجال الذين ترعرعوا ونشئوا في عهد ذلك الانحطاط الذي جاء عقب عصر الأهرام وأشربت قلوبهم حب الفوضى والفساد، مما أدى إلى قتله ونصحه لابنه بعد موته في رؤية صادقة بألا يعتمد على أحد كما سيجيء بعد.٧

(٣) نشأة أمنمحات وعبادة الإله آمون

تلك كانت حالة البلاد المصرية كما يريد أن يصفها لنا «نفرروهو» أو كما يريد أن يصورها لنا «أمنمحات» عند توليته العرش، وسنرى فيما يلي الإصلاحات العظيمة التي أدخلها الفرعون العظيم في خلال مدة حكمه الطويل. ومن الغريب أن المؤرخ «مانيتون» لم يذكر لنا في تاريخه عن هذا البطل العظيم شيئًا إلا أنه هو المؤسس للأسرة الثانية عشرة، ومن مدلول اسمه «أمنمحات» (آمون في الأمام)؛ أي آمون أمام الإله، نلحظ أن أسرته كانت تنتمي إلى عبادة الإله «آمون» معبود «طيبة» المحلي، وأنه كان يقدس هذا الإله أكثر من الإله «منتو» إله الحرب وهو معبود بلدة «أرمنت» المحلي، وكان ملوك الأسرة الحادية عشرة يقدسونه أكثر من «آمون» ويمزجون اسمه في تركيب اسمهم «منتو حتب»، هذا على الرغم من أن عاصمتهم كانت طيبة، ولكن من يوم أن اعتلى «أمنمحات» الأول عرش الديار المصرية أخذ نجم الإله «آمون» يعلو ويتلالأ بين الآلهة المصرية؛ حتى صار فيما بعد أعظم الآلهة المصرية شهرة وعظمة وثراء؛ لدرجة أن غطى على شهرة كل الآلهة المصرية، وانتحل لنفسه صفاتها ليكون هو الإله المسيطر، ومن ذلك أن كهنته لاحظوا أن الإله «رع»؛ أي الشمس، كان أعظم الآلهة المصرية نفوذًا وعظمة فمزجوا اسم «رع» باسم «آمون» وأصبح يسمى «آمون رع»؛ ومنذ عهد هذا الفرعون أخذ ثالوث مدينة «طيبة» يزداد شهرة ويتألف من الأب وهو «آمون» ومن الأم وهي «موت» ثم من الابن وهو «خنسو»؛ (أي القمر) وكلهم حسب الاعتقاد المصري إله واحد، أما الآلهة الآخرون فأخذوا يتضاءلون أمام هذا الثالوث، اللهم إلا الإله «أوزير» إله الآخرة، فإنه حفظ مكانته وسلطانه، وسنرى فيما بعد أن كهنة «طيبة» قد ازداد سلطانهم تدريجًا، حتى إنهم في النهاية أصبحوا أصحاب السيطرة الدينية في البلاد كلها، وأغنى طائفة فيها في عهد الأسرتين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة؛ وسنتكلم عن نشأة عبادة «آمون» عند الكلام على الديانة.

(٤) مقر الملك الجديد

ولكن على الرغم من أن «أمنمحات» قد نجح في رفع شأن آمون إله «طيبة» المحلي وهي مسقط رأسه، وجعله يُعبد في كل البلاد من أقصاها إلى أقصاها، فإن حالة البلاد عندما أخذ بزمام الأمور فيها لم تسمح له أن يجعل «طيبة» عاصمة ملكه، وقد كانت حاضرة الملك في عهد الأسرة الحادية عشرة؛ لأنه كان يريد أن يجعل كل البلاد في متناول قبضته، فرأى بثاقب نظره أن مقر الملك يجب أن يكون في نقطة تكون كواسطة العقد بالنسبة لبلاده، فضرب صفحًا عن «طيبة» مقر أسلافه واختار بقعة بعيدة عن «إهناسية» عاصمة الملك في خلال الأسرتين التاسعة والعاشرة، كما أحجم عن اتخاذ «منف» عاصمة الملك في عهد الدولة القديمة التي كانت حاضرة لسلسلة فراعنة أمجاد، والظاهر أنه كان يرمي من وراء إبعاد الحكم عن هاتين العاصمتين أن يكون مجدِّدًا في كل ما يقوم به، وفي الوقت نفسه معيدًا للبلاد عظمتها وسمعتها. وقد وقع اختياره على بقعة تدل شواهد الأحوال على أن قرية «اللشت» الحالية قامت على أنقاضها، وهي تبعد نحو ١٥ ميلًا جنوبي «منف»، والواقع أن الموقع الحقيقي قد ضاعت معالمه، وقد أقام في هذه البقعة مدينة محصنة كانت تحتوي على القصر الفرعوني ومركز القيادة العامة للجيش على ما يظهر، وقد أطلق على العاصمة الجديدة اسم «اث تاوى»٨ «اللشت» الحالية ومعناها «مراقبة الأرضين» … وقد وصف القصر بأنه محلى بالذهب وأبوابه من نحاس، وأقفاله من الشبه، وكان كل بنائه قد أتقن إتقانًا عظيمًا، غير أن يد التخريب لم تبقِ منه أي أثر، وبهذه المناسبة نذكر أنه قد عثر على قاعدة تمثال صغير للفرعون «أمنمحات» مصنوع من النحاس في «سينا» وهذا يدل على أن هذا الفرعون كان يستخرج النحاس الذي استعمله في مبانيه من مناجم «سينا» في عصره.
(Gardiner and Peet, Inscrptions of Sinai, Pl. 63).

(٥) نظرة عامة في أخلاقه وإصلاحاته

ولا نزاع في أن هذه التسمية «مراقبة الأرضين» تحكي قصة ما كانت عليه البلاد وقتئذ من القلق والاضطراب كما وصفها «نفرروهو»، وأن «أمنمحات» لم يكن بالرجل الذي يخدع نفسه؛ إذ كان يعرف أنه لم يكن بالفرعون المحبوب، بل ربما كان يعدُّ في نظرهم دخيلًا على البيت المالك الأصلي، وإن كان ينتسب إلى فرع منه على حسب إحدى الروايات؛ وأن أكبر شفيع له في تولي عرش البلاد واحترام الأهلين له يرجع إلى كفايته في إدارة البلاد بعد طول الفوضى، وأنه هو المصلح المنتظر الذي تنبأت بظهوره الأساطير منذ قديم الزمان. وحقًّا قد حقق ما أنبأت به الكتب بما أظهره من مقدرة نادرة في توجيه سكان البلاد، وهي تلك المقدرة التي ورثها عنه أخلافه، وميزت هذه الأسرة وجعلتها أقوى أسرة مصرية، حكمت البلاد في كل عصورها بمقدرة فذة وكفاية منقطعة النظير، حتى أصبح عصرها يُعرف بالعصر الذهبي في تاريخ الديار المصرية؛ وبخاصة من حيث الإدارة والأدب والفن.

ذكرنا فيما سبق أن نبوءة «نفرروهو» لم تكن إلا دعاية لهذا الفرعون، ومبررًا لاعتلائه عرش الملك أمام الشعب المصري، وقد كان مما تنبأ به هذا الحكيم أنه سيقام «سور الحاكم» ولن يسمح للأسيويين ثانية بنزول مصر، ولا نزاع في أن «نفرروهو» يشير هنا إلى سور الحدود الذي كان مقامًا على خليج السويس ليصد غارات الأسيويين عن بلاد الدلتا، وقد كانت هذه الغارات الأسيوية موضع شكوى في الأزمان السالفة.

(٦) تاريخ سيدنا إبراهيم وما يقال عنه

وينسب بعض المؤرخين خروج إبراهيم عليه السلام وطرده من مصر إلى هذا العهد، وأن الإشارة إلى الأسيويين في نبوءات «نفرروهو» يقصد بها هذا الحادث بعينه (Weigall, A History of the Pharaohs, Vol II, P. 40).
وإذا كان من الأمور الثابتة أن «إبراهيم» عليه السلام كان معاصرًا لأحد فراعنة الأسرة الثانية عشرة، فالقول بأنه معاصر بالذات للفرعون «أمنمحات الأول»، وأن طرده حادثة مؤكدة وقعت في عهد هذا الفرعون قول لا نجد برهانًا على صحته؛ بل نذهب إلى جحوده وإنكاره لأسباب تاريخية؛ فإن من المتفق عليه أن «أمرافيل» Amraphel الذي هزمه إبراهيم عندما كان يريد خلاص ابن أخيه لوط، هو «حمورابي» البابلي؛ أي إن «إبراهيم» كان معاصرًا له، والبحوث التاريخية الحديثة تميل إلى وضع تاريخ حياة «حمورابي» معاصرة بعد قرن على الأقل مما أرَّخا به له من قبل، وآخر تاريخ متفق عليه الآن لهذا الملك البابلي العظيم هو عام ١٩٤٠ق.م، أو ما يقرب من ذلك (Sidney Smith, The Early History of Assyria, PP. 70-71).

ولذلك فإن التاريخ ٢٠٠٠ق.م، الذي يظن المستر «ويجول» أنه يعاصر «أمنمحات الأول» يسبب فجوة تبلغ نحو ٧٠ سنة تقريبًا بين إبراهيم عليه السلام المعاصر للملك «أمنمحات الأول» و«إبراهيم» المعاصر للملك «حمورابي». وهكذا يجد القارئ نفسه أمام نظريتين جذابتين في ظاهرهما، ولا يمكن القطع بإحداهما ما دام التاريخ لا يمكن القطع بصحته بصفة نهائية في مثل هذه الأحوال التي يرتكز التاريخ فيها على استنتاجات قد تصيب وقد تخطئ، ولكن يمكننا أن نقول على وجه التقريب: إن إبراهيم عليه السلام كان معاصرًا لأحد ملوك الأسرة الثانية عشرة، ويرجح جدًّا أنه كان يعيش في عهد أحد أواخر ملوك هذه الأسرة لا عهد أحد أوائل فراعنتها.

وهذا كل ما يمكن القول به الآن إلى أن تجود الكشوف في مصر أو «بابل» بما يكشف النقاب عن هذا الحادث العظيم في تاريخ البشر، وبخاصة من الوجهة الدينية.

(٧) إصلاحاته وسياساته الداخلية

ومما لا ريب فيه أن تولي «أمنمحات الأول» مُلك مصر لم يقابَل بالترحاب من أمراء المقاطعات الذين كان ملكهم في مقاطعاتهم وراثيًّا، فكان كل واحد منهم يحكم في عاصمة مقاطعته كأنه ملك مستقل؛ ولذلك عارضوا في توحيد السلطة في كل البلاد من أقصاها إلى أقصاها على يد الفرعون الجديد، ولهذا كان لزامًا على «أمنمحات» أن يذهب إلى كل مقاطعة بنفسه، ويضع كل أمير عند حدِّه، ويكبح من جماح أطماعه، وينزله من عليائه، بقدر ما كانت تسمح الأحوال به في كل مقاطعة، هذا فضلًا عن أنه على ما يظهر قد ترك له سلفه حروبًا خارجية كان لا بد من متابعتها؛ ولذلك يقول «أدوردمير»: (Histoire de l’Antiquite, “Tome II. Par.” 280)، لم يكن في مقدور «أمنمحات الأول» أن يظفر بعرش البلاد والمحافظة عليه إلا بالقوة، ونحن نعلم كذلك أنه كانت هناك حروب خارجية يمكن ربطها بالتغير الأسري، وهذه الحروب كانت قد بدأت فعلًا في عهد سلفيه «منتو حتب الثالث والرابع» وكانت ولا تزال قائمة في «آسيا» و«لوبيا» و«بلاد النوبة».
وقد قص علينا «خنوم حتب»٩ أحد قواده في نقش جنازي نُقش على جدران مقبرته [غير أنه مما يأسف له مُليء بالفجوات] أنه ظهر مع الملك في أسطول يبلغ نحو عشرين سفينة مصنوعة من خشب الأرز، وأنه هزم العدو في مصر، وأخضع السود والأسيويين الذين كانوا في معسكر العدو، واستولى على الأراضي المنخفضة والأراضي العالية في كلا القطرين، وقد كافأ الفرعون «خنوم حتب» على ذلك بأن جعله أميرًا على بلدة «منعات خوفو» (بني حسن) التي كانت إلى هذا الوقت تابعة لمقاطعة الغزال، وفُصلت عن حكومة هذه المقاطعة، وكذلك ضم إليه إدارة الصحراء الشرقية، ولقد امتدت سيطرة هذه البلدة حتى شملت كل مقاطعة الغزال «بالقرب من المنيا»؛ والظاهر أن أسرة الأمراء القديمة في هذه الجهة كانت قد انضمت إلى المعسكر المعادي للفرعون فخلعوا من حكم هذه المقاطعة؛ ولذلك يظن أن السود والأسيويين الذين ذُكروا في هذه الحروب ليسوا إلا جنودًا مرتزقة كانوا يحاربون في المعسكر المعادي للفرعون.

ولما لم يكن في مقدور «أمنمحات» أن يجمع كل السلطة في يده دفعة واحدة، وأن يكون له الحق والسلطان المطلق في تولية حكام المقاطعات الوراثية وعزلهم كما كانت الحال في إبان عز الدولة القديمة؛ لجأ إلى سبيل أخرى للحد من شوكة هؤلاء الحكام الوراثيين والأسرات القديمة القوية، وتلك أنه أخذ يضمهم إلى جانبه بإغداق الإنعامات عليهم ومنحهم الألقاب الرفيعة وتقريبهم منه بالحظوة والوعود الخلابة.

والواقع أن هذه السياسة الحاذقة قد نجحت نجاحًا باهرًا، وبذلك تركت الأسرة الثانية عشرة في تاريخ الفراعنة الطويل ذكرى لعصر كان نظامه الإداري غاية في القوة والرخاء، وبخاصة في نهاية عهدها، وكذلك كان لها أثرها المجيد في السياسة والحياة الاقتصادية؛ هذا إلى تجديد قوى مبتكرة في الفن والأدب. وقد بقي ذكرى إصلاح هذا الفرعون العظيم يتغنى به الأمراء حتى إن «خنوم حتب الثاني» أمير مقاطعة الغزال أخذ يعدد لنا إصلاحات هذا الفرعون العظيم بعد مضي ثمانين عامًا على عهد جده، وكيف أنه كافأه على إخلاصه وولائه فيقول: «لقد ذهب لمعاقبة الحرم مشعًا مثل «أتوم» نفسه لأجل أن يعيد النظام الذي كان قد قُضي عليه، ويعيد لكل مدينة ومقاطعة ما كان قد انتُزع منها، ويجعل كل إنسان يعرف حدوده بالنسبة لغيره ناصبًا حدودها مثل السماء، ومرتكنًا على السجلات في معرفة كل واحد (أي ما يخصه من فرع النيل وترعه)، وأن يعيد مساحة الأراضي حسب ما جاء في السجلات القديمة؛ وذلك لأن قلبه ينطوي على العدالة» (Beni Hassan Vol. I, Pl. XXXIII)، وإنا لنقرأ من بين السطور بوضوح المعني الذي يرمي إليه هذا المتن؛ فقد أعاد «أمنمحات الأول» في مصر سلطان الملكية، وجعل الأمراء العظام يشعرون بثقل يده، والظاهر أنه قد عين أسرًا عدة في المقاطعات الأخرى أيضًا مثل «أسيوط». وتوجد بعض نقوش من بداية حكم هذه الأسرة تشير أحيانًا إلى المنازعات التي قامت بين الملك وأمراء المقاطعات، هذا؛ وتشير التعاليم التي وُضعت على لسان «أمنمحات» إلى عهد الرخاء الذي كان يمتاز به عصره كما سيجيء بعد.

والواقع أن «أمنمحات» الأول أحيا في نواحي البلاد كلها تلك الروح القومية القديمة التي أخنى عليها الدهر زمنًا طويلًا.

(٨) آثاره المندثرة وما بقي منها

وأخذ هذا الفرعون في إقامة آثار عظيمة في طول البلاد وعرضها، وأصلح كثيرًا من المعابد التي كانت قد هُدمت، محييًا بذلك ذكري الآلهة التي اندثرت آثارهم. ففي «تانيس» عثر على عتب باب منقوش باسم (A. Z. XXV, 12) مما يدل على أنه قد أقام أو أصلح معبدًا هناك، وعثر في «تل بسطة» على بقايا معبد أقيم تكريمًا للإلهة «باست» «القطة» (Naville, “Bubastis; Pl. XXXIII”)، وفي «منف» أهدى مائدة قربان للإله «بتاح» (Monuments Divers 34 f) ومن المحتمل كذلك أن التمثال الذي عُثر عليه في «تانيس» قد نُقل من «منف» (Petrie, “Tanis” Vol. I, P. 3) ورأس هذا التمثال مرسوم في تاريخ مصر للأستاذ «بتري» (راجع شكل ١) (Petrie, A History of Egypt, Vol. 1 P. 155).
وفي بلدة «شدت»؛ أي (الفيوم الحالية) عثر على بقايا تماثيل وأعمدة من معبده (Petrie, Hawara P. 57) وفي العرابة المدفونة أهدى مائدة قربان (مذبح) للإله «أوزير» (Mariette, Abydos, 138)، وفي «قفط» عثر على قطعة من جدار معبد منقوش عليها اسمه (Petrie, History, 1. 157) وكذلك عثر في «دندرة» على بقايا معبد مشابهة للسابقة (Dumichen, Dendarah, III f. IV b)، وكذلك عثر في «الكرنك» على بقايا أعمدة هناك مهداة للإله «آمون رع» (Mariette, Karnak, 8 d. e.).
وعثر له على قاعدة تمثال في «سينا» عليها اسمه (Gardiner and Peet, Sinai, Pl. 19, 63).

وأقام هرمه بالقرب من «اللشت» عاصمة الملك، وسنتناول الكلام عليه فيما بعد.

وكذلك قام بإصلاحات في «معبد منتو» «ببلدة أرمنت» راجع (Mond, Temples of Armant, “Text”, P. 168 ff).

(٩) بعثته إلى وادي الحمامات

ولقد أرسل هذا الفرعون بعثة إلى وادي الحمامات على رأسها «أنتف»١٠ الذي كان يحمل لقب الأمير الوراثي، وحامل الختم الملكي، والسمير الوحيد، والمبعوث الملكي، والكاهن الأعظم للإله «مين»، وقد خلف لنا «أنتف» هذا لوحة تذكارية لحملته هذه يقول فيها:

أرسلني سيدي إلى «وادي الحمامات» لأحضر هذا الحجر الفاخر، ولم يكن قد أتى بمثله منذ عهد الآلهة، ولم يكن هناك باحث يعرف غرابته، ولم يتمكن أحد ممن بحثوا عنه من الوصول إليه، على أني قضيت ثمانية أيام في البحث عن هذا المرتفع (الذي فيه الحجر) فلم أعثر على المكان الذي كان فيه، ولقد سجدت للإله «مين» وللإلهة «موت» (والدة الإلهة خنسو بطيبة) ولإلهة السحر العظيمة، ولكل آلهة هذه الأراضي المرتفعة مقدِّمًا البخور لهم على النار. وفي ذات يوم عندما طلع الفجر بدأت أجوب جبال وادي الحمامات ورجالي خلفي وأناسي منتشرون على الجبال باحثين في كل هذه الصحراء، وفي النهاية وجدته، وكان العمال فرحين والجيش بأجمعه يحمدون الله، وسُروا خاشعين، وشكرت الإله «منتو».

(١٠) حروبه الخارجية ضد آسيا

ولم يكن نشاط هذا الفرعون منحصرًا في داخل بلاده فحسب، بل وجه همه لمنع هجرة الأسيويين عن طريق «سور الحاكم» السالفة الذكر، واتخذ كذلك تدابير فعالة ضد بدو الصحراء الشرقية، كما تدل على ذلك النقوش التي تركها لنا «نسومنتو» وهي محفوظة الآن بمتحف اللوفر وقد كان هذا القائد مرتاحًا لنتائج حملته، فيقول في اللوحة التي نقشها تذكارًا لهذا١١ الحادث في السنة الرابعة والعشرين من حكم هذا الفرعون:

كل كلمة ذكرت على هذه اللوحة صادقة تعبر عما حدث بقوة ساعدي، وهو ما فعلته في الواقع، وليس فيه تمويه، وليس فيه أي مين؛ فقد قهرت سكان الكهوف من الأسيويين، وسكان الرمل وخربت معاقل البدو، وجعلتها كأن لم تغنِ بالأمس، ووطئت حقولهم، وتقدمت أمام الذين توانوا خلف حصونهم «من جنودي» ولم يجاريني في ذلك أحد وذلك بأمر الإله «منتو»؛ والظاهر أن جنود «نسومنتو» كانوا يفضلون النجاة على البطولة.

(١١) حروبه في بلاد النوبة

أما في بلاد النوبة فإن «أمنمحات» قد وطد سلطانه فيها، وقد لمح بذلك في التعاليم المنسوبة إليه، وهي التي ألقى فيها على ابنه دروسًا في الحياة، فيقول: «لقد أذللت الأسود، واصطدت التماسيح، وقهرت أهل «واوات» وأسرت قوم «المازوي» وجعلت الأسيويين يمشون كالكلاب.» وقد وُجدت كذلك نقوش مختصرة على صخرة في «كرسكو» تدل على وصول جيوش الفرعون إلى هذه البقعة «في السنة التاسعة والعشرين من حكم ملك الوجهين القبلي والبحري «سحتب إب رع» «أمنمحات الأول» عاش مخلدًا، لقد جئنا لنهزم أهالي «واوات».» (A. Z. (1882) P. 30; Breasted A. R. Vol. I, Par. 472) ولا نعلم إذا كان الفرعون قد قاد الجيش بنفسه في هذه الحملة، أو ذهبت بقيادة أحد عظماء رجال دولته، والمرجح هو الرأي الثاني؛ وذلك لأن «أمنمحات» وكان قد تقدَّم في السن في هذه الآونة.

(١٢) إشراك ابنه «سنوسرت» معه في الحكم

ولما كان «أمنمحات» قد أخذ يتقدم في السن وكانت بغيته أن يناضل بنجاح مستمر في القضاء على حكام المقاطعات الوراثيين الذين كانوا يدافعون عن استقلالهم بكل وسيلة وبالقوة، رأى أن يشرك ابنه الأكبر في تولي مهام الحكم معه، وهو النظام الذي جرى عليه أخلافه من بعده، ولذلك عدت هذه الخطة الحكيمة من مميزات هذه الأسرة؛ ولا شك في أن هذا التجديد في نظام الحكم يعد عملًا حكيمًا؛ لأنه قضى على معظم الفتن والدسائس التي كانت تتبع عادة عند موت الفرعون الحاكم.

والواقع أن سلطان الفرعون قد زاد بإشراك ابنه «سنوسرت» معه في حكم البلاد عام (٢١ من حكم أمنمحات)، فقد ظهر أثر ذلك في الأقاليم؛ إذ أخذ الفرعون يتدخل فعلًا في شئون حكام المقاطعات الخاصة كلما سنحت له الفرصة، فمن ذلك أن الفرعون استطاع أن يحفظ لنفسه حق تولية كبار الموظفين في المقاطعات وعزلهم، وقد كان هذا الحق من قبل من حقوق الأمراء أنفسهم منذ عدة أجيال متعاقبة، وبهذه الطريقة تمكن الفرعون وحكومته من استعادة السلطة العليا المطلقة في كثير من المقاطعات، وهي السلطة التي لم يكن يتمتع بها الفراعنة إلا اسمًا منذ نهاية الأسرة السادسة.

(١٣) سلطة الوزير

وفي ظل هذه السلطة استعادت الحكومة المركزية نفوذها القديم الذي كان قد انمحى منذ زمن بعيد، وقد وضع الفرعون على رأس هذه السلطة المركزية وزيرًا كان في الواقع يعد ساعد الفرعون الأيمن، وممثله في كل شئون البلاد المالية والقضائية والحربية … إلخ.

ولا شك في أن إدارة الوزير للبلاد بما فيها من أنظمة حازمة، كانت نموذجًا صالحًا لكل الأنظمة الرئيسية، مما جعل البلاد بأجمعها تسير على نظام إدارة واحد حازم، يشمل الأمور المالية والقضائية والحربية أيضًا، وهذا النظام قد حل محل النظام المرتبك القديم في المدة السالفة. أما في الأمور الدينية فإن الآلهة المختلفة التي كانت تُعبد في كل البلاد قد بقيت على حالها مع إصلاح معابدها، والشيء الجديد هو ظهور الإله «آمون»؛ ولقد عظم شأنه حتى أصبح الإله الأعظم الرسمي للحكومة، وبذلك غطى على معظم الآلهة كما سبق ذكره، اللهم إلا الإله «أوزير» فقد حفظ مكانته بوصفه إله الآخرة.

(١٤) تفكير الفرعون في إصلاح الفيوم

ولم تقف جهود «أمنمحات الأول» عند الإصلاحات الإدارية والبنائية، بل كان كذلك أول من فكر في كثير من المشروعات التي تعود على البلاد بالخير، ولعل أجدرها بالذكر التفاته إلى إصلاح إقليم الفيوم، ويعزو بعض المؤرخين إليه أنه هو أول من فكر في إنشاء خزان المياه الذي عُرف فيما بعد باسم بحيرة «موريس»، وينسب إلى «أمنمحات الثالث» إتمامه جملة.

(١٥) محاربته اللوبيين

وكان آخر حادث هام في حياة هذا الفرعون المسن هو إرسال جيش إلى الحدود الغربية لتأديب اللوبيين وكبح جماحهم، فسار «سنوسرت» ابنه وشريكه في الحكم على رأس الجيش، وعندما كانت الحملة عائدة من الحدود مظفرة قابلها رسول من قبل كبير أمناء القصر ليخبر «سنوسرت» باغتيال والده. وقد بقي لنا وصف هذا الحادث بكل ما فيه من اضطراب وفزع في قصة «سنوهيت»، وقد وصلنا منها لحسن الحظ عدة نسخ، وسنترك المتن المصري يقص علينا تفاصيل هذا الخبر، وما لابسه من الأحداث، ونراه يبتدئ بألقابه ثم يقص قصته فاستمع إليه.

متن القصة

الأمير الوراثي، والحاكم ومدير ضِياع الملك في بلاد الأسيويين، والسمير الوحيد للملك والمحبب إليه «سنوهيت». الخادم «سنوهيت» يقول: «كنت خادمًا يتبع سيده، وخادم نساء الملك يخدم الأميرة، صاحبة الثناء العظيم، زوجة «سنوسرت» الملكية في بلدة الهرم المسماة «ختم-أسوت» والابنة الملكية «لأمنمحات» في بلدة الأهرام «كانفرو» المسماة «نفرو» المحترمة.

واتفق أنه في السنة الثلاثين في اليوم التاسع من الشهر الثالث من فصل الفيضان دخل الإله أفقه١٢ «مات».
فطار الملك «أمنمحات» إلى السماء واتحد مع قرص الشمس، وامتزج جسم الإله بجسم خالقه١٣ وعندئذ صمت القصر، وامتلأت القلوب حزنًا، وأُغلق البابان العظيمان١٤ وجلس رجال القصر رءوسهم منكسة على رُكبهم، وحزن القوم.
وكان جلالته قد أرسل جيشًا أرض «التمحو»١٥ وكان بكر أولاده «سنوسرت» الطيب ضابطًا فيه، وقد كان في هذه الأثناء عائدًا بعد أن استولى على أسرى من «التحنو»١٦ وكل أنواع الماشية التي يخطئها العد.
وأرسل أمناء القصر إلى حدود غرب «الدلتا» ليخبروا ابن الملك بالحادث الذي وقع في البلاط، وقد قابله الرسل في الطريق ولحقوا به عند الغروب، فلم يتأخر طرفة عين؛ إذ طار الصقر١٧ مع خادمه، ولم يعلم بذلك الجيش، ورغم ذلك فقد أرسلت رسالة١٨ إلى أولاد الملك الذين كانوا معه في الجيش وطلب واحد منهم، وتأمل: لقد وقفت وسمعت صوته حينما كان يتكلم؛١٩ إذ كنت عن كثب.

(١٦) المؤامرة ضد ولي العهد ونصيب «سنوهيت» فيها وفراره

ولا شك في أننا نرى في هذه الجمل القصيرة صورة تامة للأزمة التي حدثت في القصر عقب اغتيال الفرعون، فإنه مات بسبب مؤامرة دُبرت ضده، كما سنوضح ذلك بعد. وقد أعقب هذا الاغتيال دسيسة لتولية أحد أولاد الملك غير «سنوسرت» الذي كان يعتبر خلفه؛ لأنه أشركه معه في الملك مدة تربي على عشرة أعوام، والظاهر بل الواقع أنه كان في البلاط حزبان: حزب موالٍ «لسنوسرت» وآخر موالٍ لابن آخر للملك، ومن حسن الحظ أن رئيس الأمناء في القصر كان يعلم بهذه المؤامرة، وكان في الوقت نفسه على ولاء تام لولي العهد، فأسرَّ إليه بخبر الأزمة التي كانت في البلاط بعد وفاة والده، وطلب إليه العودة على جناح السرعة دون أن يضيع لحظة واحدة، ولكن الحزب الثاني كان على استعداد لانتهاز الفرصة، ولا يبعد أن رجاله هم الذين دبروا المؤامرة ضد الملك، وتمكنوا من تطيير الخبر إلى الأمير الذي وقع عليه اختيارهم من بين أبناء الملك الذين كانوا يحاربون في الجيش مع ولي العهد، غير أن مغادرة «سنوسرت» الجيش كالبرق ومعه ثلة من رجاله الذين يعتمد عليهم مكنه من القضاء على المؤامرة قبل أن تنفذ؛ لأننا لم نسمع عنها بعد ذلك، وتدل ظواهر الأمور على أن «سنوهيت» كان له ضلع مع الفريق المتآمر ضد «سنوسرت»، وأنه كان يعلم بها، وإلا فليس هناك أي تفسير آخر للفرار المفاجئ، والفزع الذي استولى عليه حينما استرق السمع وأصغى لرسول المتآمرين ضد «سنوسرت» حيثما كانوا يقصون رسالتهم على الأمير الذي أرسلوا في طلبه لتولية العرش؛ إذ يقول: «وعندئذ كان قلبي يتحرق، وخارت ذراعاي، واستولت الرعدة على جميع أعضائي، فقفزت باحثًا عن مكان أختبئ فيه، فوضعت نفسي بين أيكتين لأفسح الطريق للمسافر فيها (أي لأكون بعيدًا عن الطريق المطروق)، ثم سرت نحو الجنوب، ولم يكن غرضي الوصول إلى مقر الملك؛ لأني فكرت أن الشجار يقوم هناك، ولم يكن يهمني أن أعيش بعده … إلخ» (كتاب الأدب المصري ص٣٥)، هذا؛ ولا يمكننا أن نفسر الوقت الطويل الذي قضاه في الخارج قبل أن يسمح له «سنوسرت الأول» بالعودة من منفاه.

ولا بد أن «سنوهيت» قد أقحم نفسه في هذه المؤامرة التي كان مآلها الفشل التام، ولا أدل على ذلك من أنه لم يلمح لا من قريب ولا من بعيد عن سبب هربه وترك وطنه العزيز، مما جعل علماء الآثار المصرية يتحيرون في سبب فراره، مع أنه من كبار موظفي الدولة وأعلامها المشهورين، كما تدل على ذلك ألقابه؛ ولذلك نجده قد وصف هربه بصورة من أروع الصور الحية التي ورثناها من أدب الشرق القديم؛ إذ تدل على براعة التملص والمروق من الموقف الحرج الذي يتطلب اللباقة والإبهام معًا؛ وبخاصة نلحظ تخلصه من الإجابة بصراحة عندما سأله «عمو ننشي» أمير «رتنوا العليا» … إلخ (ص٣٦ من كتاب الأدب المصري القديم).

(١٧) الدعاية للملك «سنوسرت الأول»

وهكذا اغتيل «أمنمحات الأول» بعد أن مكث يحكم البلاد المصرية أكثر من ثلاثين عامًا قضاها في كفاح مر في داخل البلاد وخارجها، ولا بد أن «سنوسرت الأول» لما تولى المُلك كانت الأحوال في البلاط مضطربة، وأن الحزب المعارض له كان يدس له خفية. ولذلك احتال الفرعون الجديد على استمالة قلوب الشعب إليه وإثبات شرعيته للعرش بطرق تكاد تكون مبتكرة، واستعان على ذلك بحملة الأقلام الذين كان لهم قدم راسخة في حسن التعبير وصياغة الكلام، فكتب له «خيتي بن دواوف» نصائح وتعاليم جعلها على لسان والده، فقد جعل «أمنمحات» يظهر لابنه في رؤيا صادقة بعد وفاته، ويلقي عليه تعاليمه ونصائحه وتجاريبه في الحياة ليتخذها نبراسًا له يهتدي به في حكم البلاد.

ولقد ظل علماء الآثار واللغة يعتقدون أن هذه التعاليم كُتبت في حياة «أمنمحات» بعد مؤامرة أفلت منها، ولكن الواقع والبحوث الجديدة تثبت عكس ذلك؛ ولذلك سنفرد لها بحثًا خاصًّا حسب الآراء الحديثة التي كشف عنها الغطاء كل من الأستاذ «دي بك» الأثري الهولندي، والأستاذ «جردنر» العالم الأثري الإنجليزي٢٠  (Melanges Maspero, Vol. 1, PP. 479 ff)، ثم نشفع رأيهما بالترجمة الحرفية.

(١٨) التعاليم المنسوبة إلى «أمنمحات الأول»

تدل الشواهد على أن تعاليم الملك «أمنمحات» لابنه «سنوسرت الأول» كانت تحتل مكانة عظيمة بين الوثائق الأدبية والتاريخية التي خلفتها الدولة الوسطى، وكان يستدل بها في كثير من المواضع على أنها من مأثور كلام هذا الفرعون، غير أن البحوث الحديثة تكاد تثبت بصفة قاطعة أن هذه التعاليم لم يفُه بها «أمنمحات الأول» وأنها كُتبت بعد وفاته لتكون بمثابة دعاية سياسية لابنه «سنوسرت الأول» الذي تولى حكم البلاد بعده مباشرة. وقد دلل الأثري الكبير الأستاذ «دي بك» على ذلك بأدلة قوية مقتبسة من صلب متن التعاليم نفسها، وكذلك من وثيقة عثر عليها بين أوراق «شستر بيتي» فقد جاء في هذه الورقة ما نصه:

وأنه هو (أي الكاتب خيتي) الذي كتب مؤلفًا يسمى «تعاليم الملك سحتب-أب رع» عندما ذهب ليستريح منضمًّا إلى السماء وداخلًا بين أرباب الجبانة.

تحليل العلماء لهذه التعاليم

وقد تشكك الأستاذ «جاردنر» في أن «خيتي» هذا هو مؤلف هذه التعاليم قائلًا: «إنها قد تنسب إليه بسبب جهل أحد الكتاب في عهد الرعامسة، غير أنه من جهة أخرى يرى أن هذه التعاليم قد كُتبت في عهد «أمنمحات الأول»، وإن كان لا يجزم بالطريقة التي دوِّنت بها، وكل ما قاله في هذا الصدد لا يخرج عن كونه مجرد حدس وتخمين.»

فقال: «من المحتمل أنه عندما أشرك «أمنمحات» ابنه «سنوسرت» في حكم البلاد فاه أمام رجال بلاطه بنصائح غالية تحمل في طياتها ما لاقاه من المصاعب والمصائب، وما قام به من عظيم الأعمال، وما جعله يشرك ابنه معه في حكم البلاد، ولا يبعد أن رجال الحاشية الذين أعجبوا بهذه النصائح وتلك الحكم الثمينة، التمسوا من الملك أن يدوِّنها، فكلف بدوره كاتبًا ملكيًّا بذلك.»

ثم قال الأستاذ «جاردنر»: «إنه يمكن أن يقاس ذلك بالخطاب الذي ألقاه الملك عند تولية الوزير، كما نجد ذلك في مقبرة «رخمرع» وغيرها من المقابر.»

أما الأستاذ «دي بك» فيرى أن الملك «أمنمحات» قد قُتل في مؤامرة قامت ضده في القصر، ويدلل على ذلك بجُمل في صلب متن التعاليم وببراهين أخرى؛ إذ يقول: إنه جاء في صلب المتن الجملة التالية:

لو كنت استللت سلاحي بيدي لكنت جعلت هؤلاء المخنثين يولون الأدبار، ولكن لا شجاع في الليل ولا أحد يحارب وحيدًا، ولا يحرز النصر بدون عضد.

فإذا اعترفنا أن «أمنمحات» يشير في هذه الفقرة إلى مؤامرة ناجحة ضده، وهذا على ما يظهر هو الرأي الصحيح، وأن ما جاء في ورقة «شستربيتي» من أن «خيتي» هو مؤلفها كان لا بد لنا من أن نأخذ بنظرية من يقول: «إن الملك كان يتكلم، أو كان مفروضًا أن يتكلم من قبره.»

على أن ذكر الميت الذي يترجم حياة نفسه خاصة لا تقتصر على المتن الذي نتحدث عنه، بل نجدها في متون جنازية أخرى، يضاف إلى ذلك أن هذه ليست هي الظاهرة الوحيدة في تعاليم هذا الملك التي تذكرنا بأسلوب الكاتب الذي يترجم حياة نفسه، وأكبر دليل على ذلك ما يأتي:

لقد أعطيت الفقير وعلَّمت اليتيم، وقد جعلت الرجل المغمور الذكر يصل إلى غرضه مثل صاحب المكانة.

وكذلك نجد في فقرة أخرى وهي من الصنف الذي نعثر عليه في تراجم الأموات:

أنا الذي أنشأت الغلال والذي أحبه «نبر» (إله الحبوب)، والفيضان قد حياني باحترام (أي كان معتدلًا في أيامي)، ولم يجُع إنسان في سني حكمي، ولم يعطش خلالها أحد، وكل ما أمرت به كان في موضعه الصحيح.

ولا شك في أن أي عالم أثري يقرأ هذه الفقرات دون أن يعلم أنها من تعاليم «أمنمحات» لا يشك في أنها كانت على لوحة جنازية.

ولدينا فقرة أخرى يمكن أن تعتبر تفسيرًا للظروف التي انفجرت فيها المؤامرة، وهي في الوقت نفسه تمدنا بسبب من الأسباب التي بها نجحت في بادئ الأمر وهي الفقرة التي يقول فيها «أمنمحات»:

انظر إن المصيبة قد حلت بي عندما كنت بدونك.

والقول بأن الثورة قد بدأت و«سنوسرت» بعيد عن العاصمة يتفق تمامًا مع بداية قصة «سنوهيت»؛ إذ نقرأ هناك أن «أمنمحات» قد مات عندما كان ابنه عائدًا من حملته إلى بلاد «لوبيا»، على أن السرعة التي عاد بها «سنوسرت» ليصل إلى مقر الملك مع كتمان الأمر عن جيشه، والرسالة التي بعث بها لإحضار أولاد الملك الذين كانوا يرافقون الجيش، وذعر «سنوهيت» الغريب وهربه؛ وسؤال الشيخ الفلسطيني «لسنوهيت» عما إذا كانت قد حدثت كارثة في العاصمة ثم محاولة «سنوهيت» إقناعه بعدم حدوث أي شيء شاذ، (وأن كل ما حدث هو أن «أمنمحات» قد رحل إلى الأفق … وأن ابنه قد دخل القصر وتولى ميراث والده، واعترافه بأن موت «أمنمحات» لا تُعرف نتائجه). كل هذه الحقائق توحي إلينا أن هذا الموت لم يكن طبعيًّا، مما يتفق وما جاء في سياق التعاليم، ثم يأتي بعد ذلك في المتن (هذا إذا كان ما تُرجم هو المتن الصحيح): «قبل أن يسمع رجال البلاط أني سأسلمك «الحكم» وقبل أن أجلس معك.» وإني أفهم من هذه الكلمات أن «أمنمحات» قد حال بينه وبين إعلان ابنه ملكًا على البلاد بصفة رسمية موته المفاجئ.

وإذا كان هذا الرأي هو الصحيح عن محتويات هذه التعاليم فما هو إذن الغرض منها، وما القصد الذي من أجله كُتبت؟

والجواب عن ذلك أن هذه الوثيقة مقال سياسي في صورة قطعة أدبية صيغت دعاية لتعضيد حزب «سنوسرت الأول»، فقد رأينا أن «سنوسرت» بعد موت والده قد أسرع إلى مقر الملك، وقد وصل في الوقت المناسب، ليمنع ما يخشى من الأحداث، وقد أفلح في تسلم مقود المملكة التي كان والده قد أعدها له.

ولكن لا بد أن يكون تيار المعارضين قويًّا؛ إذ كان المنافسون له على وشك الوصول إلى مأربهم، وربما كان لديهم من الأسباب الحقة ما يبرر موقفهم ويقوِّي جبهتهم ويضعف من «سنوسرت» واستحقاقه العرش.

فمن المحتمل أن يكون «سنوسرت» قد لجأ إلى قوة السلاح الأدبي لتهدأ النفوس عقب الضربات القاصمة التي أودت بحياة الملك الكبير.

فقد كتب أديب بإيعاز من «سنوسرت» أو بوازع من نفسه هذه التعاليم يظهر فيها الملك المُتوفَّى بسلطانه العظيم يعضد «سنوسرت» ويخاطبه من قبره بوصفه الملك الشرعي على البلاد، ومتهمًا أولئك الأوغاد الذين أودوا بحياته، ولما كان غرضه من هذه التعاليم أن يعضد ابنه جاء في مستهلها بما يؤكدها ويثبت صدقها فذكر الجملة التالية يقول لابنه في رسالة صادقة:٢١ وقد كان من الأمور الطبيعية في التفكير المصري أن يأتي الوالد المُتوفَّى من عالم الأموات لمساعدة ابنه على الأرض؛ وذلك لأن موتى المصريين كانوا دائمًا حاضرين، وكان لديهم من القوة ما يؤثر على حظوظ الأحياء، فكثيرًا ما نجد الحي يطلب مساعدة المُتوفَّى وحمايته، وقد عثر على كثير من الخطابات التي أرسلها الأحياء إلى الأموات؛ مما يوضح لنا تأصل هذه الفكرة في معتقدات المصريين.

وإذا كان من الممكن الاتصال بالموتى بالرسائل، وإذا كان في مقدور المُتوفَّى أن يقرأ ما يرد إليه من رسائل الأحياء فمن المعقول المنطقي — وكان المصريون منطقيين في مثل هذه الأمور — أن يكتب الأموات بأنفسهم للأحياء.

ولهذا عثرنا على عدد قليل من الخطابات أرسلها الأموات للأحياء مقابل ما يصل إليهم من أقاربهم، ومن بين هذه الوثائق ورقة «هاريس» التي وصفها «ستروف» الأثري الروسي بأنها تزييف ولكنه قديم، وقد ذكر فيها أن الملك «رعمسيس الثالث» المُتوفَّى (وقد كان كذلك فريسة لمؤامرة نسوية) قد أفرد أحد أولاده بأن يكون الوارث الشرعي للعرش، ويرجو من الآلهة والشعب أن يعضدوه، وبذلك أفسد الغرض الذي لاقى من أجله الملك حتفه، ولا شك في أن المتن الذي بين أيدينا الآن بمثابة مثال مبتكر من نفس هذا النوع من المقالات السياسية التي كُتبت للدعاية.

على أن الحرب بالأسلحة الكتابية أو الأدبية لم تكن من مبتكرات الملك «أمنمحات» الأول، وإذا كان من الممكن أن يصل إليه صدى من تعاليمه في العالم السفلي الذي غيب فيه، فإنه لا بد أن يذكر بابتسامة بنوءات «نفرروهو» عنه بأنه هو المخلص المنتظر الذي سينشر في البلاد عهد سعادة ورخاء، فقد كانت تلك النبوءات دعاية له في أول عهده عندما كانت شوكة الحزب المنتمي للأسرة الحادية عشرة لا تزال قوية، وقد كان من نتائج هذه الدعاية أن ضمت إلى جانبه شعور القوم الديني ومهدت له السبيل إلى اعتلاء عرش البلاد.

وفي اعتقادي أن هذه التعاليم تعد من نوع هذه الوثائق، ورغم أننا لا نرى أمامنا صورة ذلك الملك المسن اليقظ الصارم الذي لم تخدعه الأوهام؛ فإن لدينا في مقابل ذلك مقالًا هو دعاية سياسية ليس أقل حيوية ولا إنسانية من شخصه.

التعاليم والتعليق

التعاليم التي ألفها جلالة الملك «سحتب أب رع» ابن الإله «رع» أمنمحات الأول متحدثًا عن رسالة صادقة لابنه رب العالمين يقول:

أنت يا من ظهرت إلهًا (أصبحت ملكًا) أصغ لما سألقيه عليك حتى تصير ملكًا على البلاد وحاكمًا على شواطئ النهر، وحتى يمكنك أن تفعل الخير «أكثر مما ينتظر»، خذ الحذر من مرءوسيك؛ لأن الناس يصغون لمن يرهبهم، ولا تقتربن منهم على انفراد، ولا تثقن بأخ، ولا تعرفن لنفسك صديقًا، ولا تصطفين لك خلانًا؛ لأن ذلك لا فائدة منه.

وبعد أن حذر ذلك الملك العظيم ابنه الثقة ببني الإنسان عامتهم حتى الأخ، حذره كذلك اتخاذ الخلان؛ لأن تجاربه الشخصية عرفته أن أقرب الناس إليه هم الذين اغتالوه. وبعد ذلك ينتقل الملك إلى نصح ابنه بألا يتكل على أحد آخر في أن يحافظ قال:

وعندما تكون نائمًا كن الحارس لشخصك حرصًا على قلبك؛ لأن الرجل لا صديق له في يوم الشدة، فإني قد أعطيت الفقير، وعلمت اليتيم، وجعلت من لا ثروة له مثل صاحب الثراء، وقد كان آكل خبزي هو الذي جنَّد الجنود ضدي، والرجل الذي مددت له يد المساعدة هو الذي أحدث لي بها المتاعب، والذين يرتدون فاخر كتَّاني عاملوني كالذين في حاجة إليه، والناس الذين يتضمخون بعطوري قد لوثوا أنفسهم وهم يستعملونه «بخيانتي».

وانتقل «أمنمحات» بعد ذكره هذه الصورة التي تدل على الشك في الناس والتشاؤم منهم إلى حث خلفه، وهم لا يزالون يذكرون تأملاته المحزنة وما أتاه من الأعمال الحربية العظيمة، أن يعوا هذه المعلومات في أنفسهم؛ وذلك لأن الخلف دائمًا ينسى ما قام به السلف؛ ومع ذلك فإن الإنسان لا يمكنه أن يصل إلى السعادة الحقيقية إلا بالمعرفة، اسمع إليه وهو يقول:

وأنتم يا نسلي من الأحياء ويا من سيخلفونني من الناس؛ اعملوا على أن تكون أحزاني كأنها أشياء لم يسمع بها، وكذلك اجعلوا ما قمت به من عظيم الأعمال الحربية لا يُرى؛ وذلك لأن الإنسان يحارب في ساحة الوغى وقد نسي ما جري بالأمس، ومع ذلك فإن الإنسان الذي يتناسى العلم لا تتم له سعادة.

وينتقل الملك بعد ذلك إلى وصف الحالة التي كان عليها حينما هاجمه المتآمرون، قال: «لقد كان ذلك بعد العشاء حينما دخل الليل، وكنت أخذت ساعة من الراحة واضطجعت على سريري، وكنت متعبًا وأخذ قلبي يجدُّ وراء النوم، ثم شعرت كأن أسلحة تلوح، وكأن إنسانًا يسأل عني، فانقلبت كأني ثعبان الصحراء (أي قمت منتصبًا).»

وبعد هذه القطعة أخذ «أمنمحات» يصف موقفه الحرج عند الهجوم عليه. وهنا تختلف الآراء كما أوضحنا فيما مضى فيقول «دي بك»: إن الملك اغتيل فعلًا، أما «جاردنر» فلا يعتقد ذلك. ولهذا نجد أن كلا منهما يترجم الجملة التي تشير إلى ذلك حسبما يظن: «وقد استيقظت على صوت الحرب، وكنت وحيدًا ووجدت أنها حرب جنود، ولو كنت أسعفت بالسلاح في يدي لكنت قد شتت شمل المخنثين شذر مزر؛ ولكن لا شجاع في الليل، ولا يمكن أن يحارب الإنسان وحيدًا؛ إذ لا نصر بدون معين.»

يرى بعد ذلك «أمنمحات» أنه قد أصبح طاعنًا في السن وليس في مقدوره أن يحكم البلاد وحده، ولما لاحظ أنه قد أصبح غير قادر على أن يتنبأ ويعوق المؤامرة التي دُبرت ضده؛ نزل عن الملك لابنه «سنوسرت» وهو الذي أشركه معه في حكم البلاد، ولذلك يقول: تأمل! لقد أريق الدم وأنت بعيد عني، وقد سلمت لك «الملك» قبل أن يسمع بذلك رجال البلاط، وعلى ذلك دعني، افعل ما تريد؛ وذلك لأني لم أحتَط لنفسي ضد هذه «المؤامرة»، فإني لم أفطن إليها من قبل، هذا فضلًا عن أن قلبي لم يتنبه إلى تراخي الخدم.

ينتقل بعد ذلك «أمنمحات» إلى التنويه بأن هذه المؤامرة قد دُبرت في الخدور، وقد وضع المؤلف هذه الحادثة في ثلاثة أسئلة قد اختُلف كثيرًا في ترجمتها، ونظن أن الأستاذ «جاردنر» قد قارب الحقيقة؛ إذ يقول:

هل حدث أن النساء اصطففن في ميدان المعركة؟ وهل من لا يرعى حرمة القانون قد شب في القصر؟ أو هل الماء الذي كسر السد قد انطلق، وعلى ذلك خاب الفلاحون في عملهم؟

ويمكن فهم السؤالين الأولين تمامًا، أما الثالث فإنه استعارة تشبيهية من الطراز الأول؛ إذ من المحتمل أن نفهم منها أن الشعور بالولاء الذي نماه الملك قد تلاشى فأصبح الوئام الذي كان يسود القصر مقضيًّا عليه جملة؛ ولذلك شبهه بتوزيع مياه الفيضان في وقت الزرع بوساطة القنوات الصغيرة تشق الحقول وتقسمها إلى مربعات مثل رقعة الشطرنج، فإذا حدث خلل في هذه القنوات فإن كل المساحة تغمرها المياه، وبذلك يضيع تعب الفلاحين سدى.

على أن ما يأتي لا يثبت أن المؤامرة قد خابت، ويمكن فهم نتيجتها ضمنًا من قوله: «وسوء الحظ لم ينتبني منذ ولدت، هذا فضلًا عن أنه لم يتأتَّ لإنسان قط أن يقوم بمثل ما قمت به من الأعمال العظيمة بوصفي رجلًا شجاعًا.»

ثم ينتقل «أمنمحات» إلى تعداد ما أحرزه من النجاح في ميدان الأعمال المادية فيقول: «لقد اقتحمت طريقي إلى «إلفنتين» (أسوان)، ونفذت حتى مناقع الدلتا، ووقفت عند نهاية حدود الأرض، وشاهدت وسطها، ووصلت إلى معاقل الحدود بقوة ساعدي وباهر أعمالي العظيمة.»

ثم يأتي ذكر أعمال الخير التي قام بها الفرعون المسن مادحًا إياها قائلًا:

لقد كنت مؤسسًا للمحاصيل الزراعية، محبوبًا من الإله «نبر» رب الغلال، وقد حياني النيل في كل رقعة من الأرض المكشوفة، ولم يجُع إنسان في سني حكمي، ولم يسغب أحد خلالها (السنون)، ولكن القوم جلسوا في سلام بما عملت لهم وتحدَّثوا عني، وكل ما أمرت به كان في موضعه الحق، ولقد أذللت الأسود، واصطدت التماسيح، وقهرت أهل «واوات» وأسَرت قوم «المازوي» وجعلت الأسيويين يمشون كالكلاب، وأقمت بيتًا مزينًا بالذهب، وسقفته باللازورد، … ورقعته … وأبوابه من النحاس وأقفاله من البرنز، وقد صنعتها لتبقى إلى زمن لا نهاية له، والأبدية تخشاها؛ لأنها لا يمكنها أن تقضي عليها.

ويأتي بعد ذلك عدة جمل لا يمكن فهمها؛ لأن المتن مشوَّه.

ولا نزاع في أن كاتب هذه التعاليم قد رسم لنا صورة التشاؤم والريبة التي بعثتها أحوال البلاد في ذلك العصر، رغم ما قام به «أمنمحات» من إعادة النظام القديم الذي كانت عليه البلاد بقدر ما استطاع؛ إذ كانت الأحوال قد حتمت عليه أن يتخير عماله وموظفيه لإدارة البلاد من بين أولئك الرجال الذين ترعرعوا وشبوا في عهد ذلك الانحطاط الذي عقب عصر الأهرام، وكانت قلوبهم قد أشربت حب الفوضى والفساد اللذين هوى إلى حضيضها الشعب المصري عدة قرون، ولم ينقذه منها في ذاك الوقت إلا «أمنمحات»، وإن كانت بقاياهما قد ظهرت ثانية في حادثة اغتياله على يد من أحسن إليهم؛ لذلك بدأ شعور النفوس في المجتمع المصري في ذلك العهد مملوءًا بالريبة والشكوك إلى حد أن ذلك الشعور قد انعكست ظلاله على أعظم أنواع الفنون في ذلك العصر؛ وأعني بذلك فن نحت التماثيل البشرية؛ فظهر في هيئات التماثيل الخالدة التي تمثل لنا ملوك الدولة الوسطى، سمة الرزانة والوجوم التي تلمح في أقوالهم ونصائحهم، والتي كانوا ينظرون بها في عصر إلى الحياة الدنيا. وعندما ننعم النظر في تلك الوجوه التي تدل على الجرأة والبطولة أمثال «سنوسرت الثالث» و«أمنمحات الأول، والثالث»، وقد ظللتها سحائب اليأس والقنوط، نرى أن نفس هذه الوجوه تُعد كشفًا جديدًا في ميدان الفن يميط لنا اللثام من غير شك عن روح ذلك العصر الذي يعتبر أقدم عصر معروف تخلص من الأوهام ولم ينخدع بها، (راجع صور هؤلاء الملوك في مكانها).

(١٩) هرم أمنمحات ومعبده

وقد أقام «أمنمحات» لنفسه هرمًا بالقرب من مدخل الفيوم (اللشت) يظهر أنه كان على أنقاض بلدة يرجع عهدها إلى عصر ما قبل التاريخ. وتدل أعمال الحفر التي قامت في تلك الجهة على أن التصميم الأول للهرم ومعبده كان ضخمًا جدًّا، ولكن يظهر أن الملك رأى أنه لا يمكنه إتمام هذا العمل في حياته، وأن المكان الذي اختاره لم يكن ملائمًا من الوجهة الهندسية؛ لأنه كان ينحدر شرقًا وجنوبًا، فترى موضع الهرم وإن كان سهلًا؛ لأن الأرض التي أقيم عليها قد سُويت بقطع الأحجار من المكان العالي وبنائها في المكان المنخفض. إلا أن موضع المعبد كان غير معبد ويحتاج إلى عناء كبير؛ ولذلك اكتفى «أمنمحات» ببناء معبد صغير في الجهة الشرقية على مستوى منخفض جدًّا من الهرم. ومن المدهش أنه وجدت أحجار من أحجار المعبد كانت قد استعملت في بناء آخر باسم «أمنمحات»، ويحتمل أنه كان قد أعدها لبناء آخر ولكن استعملها في هرمه هذا. وكذلك تدل الأبحاث على أن هذا المعبد والهرم قد اغتصبهما ملك آخر فيما بعد، ولكن لا يمكن الجزم بذلك؛ لأن حجرة الدفن موجودة تحت الماء الآن.

ومن الأمور التي تلفت النظر رغم شيوعها منذ الدولة القديمة أن بناء قلب هرم «أمنمحات» وجدت فيه أحجار كثيرة منقوشة، معظمها يرجع إلى عهد الدولة القديمة، وقد اغتُصبت إما من «دهشور» أو «سقارة»، وقد كان تمييز هذه الأحجار من أحجار الهرم والمعبد الأصلية من الأمور الصعبة؛ وذلك لأن «أمنمحات» كان يقلد كتابة الدولة القديمة بكل دقة، بل كان أحيانًا ينقل أسطرًا منها كاملة، ولما تولى «سنوسرت» الملك بنى لنفسه هرمًا على مسافة ميل ونصف من هرم والده جنوبًا. وقد أقيم حول الهرمين عدة مقابر لرجال البلاط وكبار الموظفين، وقد كان قرب كل منهم وبعده من قبر سيده يتوقف على مركزه في البلاط والمجتمع. وحول قبور العظماء أقيمت قبور أسرهم وخدمهم. وقد أخذ عدد هذه المقابر يتزايد حتى شغلت حيزًا عظيمًا في أواخر الدولة الوسطى إلى أن جاء عهد «الهكسوس» فهُجرت؛ ومن ثم أصبحت تحت رحمة السرقة ولصوص المقابر، وقد كان أول بناء عُرض للنهب هو هرم «أمنمحات» الذي كانت معظم أحجاره مغتصَبة من مقابر الدولة القديمة (انتقام التاريخ) حتى إنه بعد فترة أصبح كومة عالية فقدت شكلها الهرمي؛ إذ أخذت كل أحجارها واستعملت في جهات أخرى. وفي الجهة الغربية من الهرم عثر على بعض مقابر لعظماء عصر «أمنمحات»، وكان معظم أحجارها من مقابر الدولة القديمة مما يدل على أن الملك لم يكن يغتصب الأحجار لنفسه فحسب، بل كان يغتصبها أيضًا لعظماء بلاطه.

حجر أثاث الهرم وما وجد معه

وفي هذه الجهة من الهرم عثر الأثري «ونلك» على قطع الأثاث التي كانت توضع عند وضع حجر الأساس، وقد وجدت في الركن الجنوبي الغربي للهرم، ويعد العثور على هذه الأشياء من الأمور النادرة جدًّا، وقد عثر عليها في حفرة مستطيلة عند الفوهة، وبيضية في نهايتها، وقد غطيت بحجر جيري مهذب بعض الشيء وهذه الحجرة كانت مملوءة بالرمل الصافي.

ويتألف هذا الكنز من رأس ثور وستة قوالب من اللبن ذات شكل ساذج، وكمية عظيمة من قطع الخزف المهشم وأطباق من الفخار، وعند فحص قوالب اللبن وجد أنه قد ركب في كل منها لوحتان من النحاس، واثنتان من الخزف المطلي، واثنتان من الحجر الجيري الأبيض، فقدت إحداهما، والكتابة التي على كل منها تشتمل على اسم الملك ثم اسم الهرم «اسوت خعو» ثم العلاقة الدالة على الهرم، ومعنى الاسم «أماكن الظهور»؛ أي الأماكن التي يشرق فيها الملك، غير أن هذا الهرم كان يُعرف قبل الكشف عن أشياء الأساس باسم «كانفر» (الروح الجميلة) لأمنمحات (A. Z. Vol. 59, P. 53)، وقد وجد هذا الاسم على لوحة محفوظة الآن في «متحف اللوفر» وكذلك جاء ذكره في قصة «سنوهيت»؛ إذ قد عين حارسًا «للحريم الملكي» في مدينة هرم «كانفر»، ولا ندري أكان هذا الاسم الأخير هو للهرم كله وتوابعه، والاسم الذي كشف في الأساس هو للهرم — وحده كما نرجح — أم لا. ولكن يقول الأستاذ «شارف» إنه اسم مدينة الهرم (A. Z. Ibid).

مدينة الهرم

وفي الجهة الجنوبية كشف عن مساحة كبيرة تحتوي على بلدة وجبانة من هذا العصر. ومما يلفت النظر في هذه المدينة أن إحدى منازلها كانت على ما يظهر معملًا لطلي الخزف.

ففي إحدى الحجرات عثر على حجر غائر في رقعتها، ولا بد أنه كان يستعمل لعجن الجير المطفي بالماء. وفي الحجرات الأخرى لهذا المعمل وجد قمين مهشم ومبعثر في كل أنحاء البيت وخارجه، وكذلك وجد عدد عظيم من قطع العجين التي بدئ في تشكيل بعضها، هذا إلى وجود عدد عظيم من آلات الصقل مصنوعة من الحجر الرملي، وآلاف من حبات الخرز، وكمية من المواد المختلفة الأنواع.

أما في الجبانة فقد نُظف كثير من المدافن ووجد معظمها منهوبًا نهبًا تامًّا، غير أن البعض الآن قد عثر فيه على أشياء ثمينة نقف منها على بعض نواحي الفن في هذا العصر وصناعاته، فقد عثر مثلًا٢٢ على بعض أواني من الفخار المزخرف الذي ينسب إلى هذا العصر، وقد عثرنا على أمثلة منه في منطقة أهرام الجيزة في حفائر عصر الدولة القديمة، غير أن بعض العلماء ينسبه إلى صناعة أجنبية، كما سيأتي بعد. وكذلك عثر على قطعة من الحجر الجيري الأبيض نُقش على جوانبها الأربعة اسم «سنوسرت» وربما كان «سنوسرت الأول»، وهذه القطعة كانت بلا شك مثقالًا يُستعمل في الموازين.
١  Papyrus Petersburg No. 1116 B. (Recto).
٢  يقصد «بتقديم التحيات» الأنباء اليومية عن كبار الموظفين، وكانت تقدَّم أولًا إلى الملك ثم إلى الوزير وغيره من رؤساء الأقلام.
٣  «باست» هي إلهة الفرح. رأسها رأس قطة وتُعبد في «تل بسطة»، من أعمال الدلتا وهي «الزقازيق الحالية».
٤  هذا الاصطلاح «أدخل في الحال» عادي في القصص التي من هذا النوع، ولا يجب الأخذ به حرفيًّا؛ لأن «تل بسطة» على بُعد تسعين كيلومترًا على الأقل من حاضرة «سنفرو».
٥  إلهة العدل والصدق والحق.
٦  «ابن الإنسان» اسم يطلق على المسيح عليه السلام.
٧  راجع كتاب الأدب المصري القديم من ص٣١٩ … إلخ.
٨  A. Z. 59. P. 53.
٩  Newberry, A. H. Vol. I, Pl. XIV; Breasted, A. R. Vol. I, Par. 363–455.
١٠  Breasted, A. R. Vol. 1, Par. 468; L. d. II, 118 d; Couyat et Montet, Les Inscriptions Hieroglyphiques et Hieratiques du Ouadi Hommamat, 101.
١١  Louvre c. 1 Breasted A. R. Vol. I, Par. (469–471).
١٢  أما ترجمته — حسب الاستعمال — «بالأفق» كان في الحالة الأولى مسكن إله الشمس في السماء، ثم استعمل للأمكنة التي تشرق منها الشمس وتغرب فيها. ولما كان الملك هو ممثل إله الشمس فإن قصره وقبره كان كل منهما يسمى «الأفق»، والمقصود هنا هو القبر.
١٣  يسبح إلى السماء ويصير ثانيًا جزءًا من الشمس التي خرج منها.
١٤  عند مدخل القصر.
١٥  قوم من اللوبيين في غرب الدلتا كانوا ينهبونها بانتظام.
١٦  قوم آخرون من اللوبيين.
١٧  الملك الجديد «سنوسرت الأول».
١٨  أي من حزب آخر إذ كانت هناك مؤامرة لوضع ملك آخر يناهض «سنوسرت» وقد مر «سنوهيت» على هذه المسألة دون أن يذكرها بوضوح.
١٩  من المحتمل أنه هو الأمير الذي طلب.
٢٠  Gardiner, Melanges Maspero, Vol. I, PP. 491 ff.
٢١  جاء في بحث جديد للأستاذ «جن» أن «أمنمحات» ظهر لابنه في رؤيا صادقة (حلم) بعد موته. وهذا هو الرأي القديم (J. E. A. Vol. 27. P. 4. ff).
٢٢  M. M. A. (The Egyptian Expedition, 1920-1921).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤