الفصل الثاني

التعليقات التوضيحية عبر الأجهزة المحمولة

تمكننا الهواتف المحمولة من أن نبقى على اتصالٍ بالآخرين، حتى عندما نكون بعيدين عن المنزل أو العمل. نستطيع تقريبًا في أي مكانٍ نتواجد فيه أن نلتقط الهاتفَ ونُجرِي اتصالًا. لم نَعُدْ بحاجةٍ إلى التنسيق مع الآخرين قبل الذهاب إلى مكانٍ ما، والسبب أنه أينما نذهب، فلا نحتاج سوى أن «نُجرِي مكالمةً هاتفيةً عندما نصل هناك». وقد رأى عالِمُ الاجتماع باري ويلمان (٢٠٠١) أن «الهواتف المحمولة تتيح تحرُّرًا جذريًّا من المكان، وستنضمُّ إليها قريبًا أجهزةُ الكمبيوتر اللاسلكية والبرمجيات الشخصية» (صفحة ٢٣٨). وكذلك أشار هانز جيسر (٢٠٠٤) إلى أن الهاتف المحمول يحرِّر الناس من الثبات في المكان. بالطبع هذه الحرية لها جانبها السلبي؛ إذ إنه مع عدم وجود أي اتصال ضمني بموقع مادي، هذا الاستخدام الواسع الانتشار للهواتف المحمولة قد يؤدي بنا إلى الدوران في عالَم غير مرتبط بمكانٍ، بغض النظر عن الموقع. ويرى تسوجيو ماكيموتو ودافيد مانرز (١٩٩٧) أن استخدام التكنولوجيات المحمولة الرَّقْمِيَّة يعطي الناسَ القدرةَ على البقاء متصلين أثناء تنقُّلهم؛ وهو ما يجعلهم «أحرارًا على المستوى الجغرافي» (صفحة ٢).

مع ذلك، تتطلَّب المحادثات سياقًا مكانيًّا، وذاك تحديدًا لأن الهواتف المحمولة ليست «مرتبطة» بأماكن بعينها؛ لذا أصبح معتادًا أن يتردَّد كثيرًا في المحادثات الهاتفية السؤال «أين أنت؟» (لورير، ٢٠٠١). إننا نرغب في أن نكون على إدراكٍ بالموقع؛ لأن الحالة المادية تعطي أساسًا إدراكيًّا مهمًّا للتواصُل؛ ممَّا يساعد على صنع صورة ذهنية لما هو كائن عند الطرف الآخر للمحادثة. كان للموقع الجغرافي أهمية، وذلك حتى في البداية عندما كانت الهواتف المحمولة تُستخدَم في الغالب بصفتها هواتف متنقلة. وإذا عدنا في الماضي إلى الوقت الذي كانت الهواتف فيه مجرد أجهزةِ اتصالٍ بين طرفين، لم يكن في مقدور الناس إلا الحديث عن الموقع؛ لأن الأجهزة لم تمتلك أيَّ وسيلةٍ تتيح لها معرفة مكانها. وحتى عندما أصبح بالإمكان استخدام «تثليث الموجات الراديوية» (استخدام أبراج شبكات الهواتف المحمولة لتحديد الموقع) للاستدلال على موقع جهازٍ ما، لم تكن تلك المعلومة عادةً متاحةً للمستخدمين.

بينما لا يزال الكثير من الناس يستخدمون هواتف من هذا النوع بالطبع، فإن «الهواتف» المحمولة المزوَّدة بإمكانية الاتصال بالويب والإدراك المكاني وبنُظُم التشغيل (التي يُطلَق عليها «الهواتف الذكية») هي أسرع قطاعات السوق نموًّا. وتتمتَّع كل الهواتف «الذكية» في الوقت الحالي بخاصية الإدراك المكاني؛ حيث إنها عادةً ما تحتوي على مُستقبِل «جي بي إس»، بالإضافة إلى البرمجيات المتوافقة معه كي يستطيع المستخدمون تعيينَ مواقعهم على الخريطة. عندما تصير الهواتفُ ذاتَ إدراكٍ مكاني، يمكن للموقع أن يصير أكثر من مجرد فضول أو صورة مجازية أساسية؛ إذ يمكن أن يكون أداةً للإبحار عبر المعلومات. أُنشِئ عددٌ لا حصرَ له من التطبيقات لتيسير هذا النوع من الإبحار، مثل تلك التي تسمح للمستخدمين بالعثور على مطاعم ومحطات وقود قريبة، وشبكات اجتماعية تساعد المستخدمين على إيجاد أشخاصٍ آخَرين في بيئتهم المحيطة. ومع أن تطبيقات الهواتف المحمولة ذات الإدراك المكاني ظاهرةٌ جديدة نسبيًّا (أصبَحَ معظمها معروفًا منذ عام ٢٠٠٨ تقريبًا، بعد إصدار هاتف «آي فون» من الجيل الثالث)، فإنه يوجد تاريخ مهم يصف تطوُّرَ الهواتف المحمولة ذات الإدراك المكاني. لم تخترعها «أبل» أو «ريسيرش إن موشن» (الشركة التي تصنع أجهزة «بلاكبيري»)، بل ظهرَتْ نتيجةَ تجريبٍ واستكشافٍ نابعَيْن من رغبتنا الحقيقية في تحديدنا لمواقع الآخرين وتحديد الآخرين لموقعنا. لقد ساهمَتْ كلُّ تجربة من التجارب — التي سنناقشها في هذا الفصل — في نظام الاتصال المشترك للتطبيقات القائمة على الموقع، التي أوجدَتْ ما نطلق عليه اليومَ المكانيةَ الرَّقْمِيَّة.

(١) تحديد أماكن الأجهزة

مع وجود القدرة على الاتصال بالأقمار الاصطناعية، أو أبراج الهواتف المحمولة، أو موجِّهات الشبكة اللاسلكية؛ تكتسب الأجهزةُ المحمولة إحداثياتٍ جغرافيةً مكانيةً تسمح للمستخدمين بالوصول إلى معلوماتٍ عن موقعهم، وإيجادِ مستخدمين آخَرين في المنطقة المحيطة. يمكن تحقيق الإدراك المكاني في الهواتف المحمولة بطرقٍ ثلاث: التثليث الخلوي باستخدام أبراج شبكات الهاتف المحمول، أو عبر اﻟ «جي بي إس»، أو تحديد الموقع باستخدام شبكات «الواي فاي». التثليثُ الخلوي باستخدام أبراج شبكات الهاتف المحمول يُظهِر موقعَ الجهاز من خلال التثليث المساحي لشبكات الراديو المكتشَفة بواسطةِ موقع الهاتف المحمول بالنسبة إلى أبراج البث، وهو ليس طريقةً شديدةَ الدقة، ولكنه خاصية موجودة في كل هاتف محمول. منذ عام ٢٠٠٢، فرضَتْ هيئةُ الاتصالات الفيدرالية الأمريكية أن تتكفَّل كلُّ شركات الاتصالات اللاسلكية بتحديد مواقع الهواتف المحمولة للمستخدمين عند الاتصال هاتفيًّا بأرقام الطوارئ. تستطيع الأجهزةُ المشتملة على مُستقبِل جي بي إس أن تشير إلى موقع الجهاز على كوكب الأرض بدقةٍ كبيرةٍ وبنسبة محدودة من الخطأ، من خلال مجموعة من الأقمار الاصطناعية. وبالرغم من أن تكنولوجيا اﻟ «جي بي إس» موجودةٌ منذ بداية ستينيات القرن العشرين، فإنها لم تصبح معروفةً حتى أوقفت إدارةُ كلينتون خاصية التشويش للحد من جودة الإشارة، التي يُطلَق عليها «الإتاحة الانتقائية»، وذلك في الأول من مايو عام ٢٠٠٠. بعد ذلك أصبحَتْ أجهزة اﻟ «جي بي إس» — التي كانت مقصورة على الجيش والحكومة الأمريكيين — أكثر دقةً بكثير؛ ممَّا أتاح للمستخدمين تحديدَ أماكن وأشياء معينة على سطح كوكب الأرض.

في شهر مارس ٢٠٠٣، أعلنت «إن تي تي دوكومو» — وهي أكبر مقدِّم لخدمات الهواتف المحمولة في اليابان — عن أول هاتف محمول بخاصية «جي بي إس» في اليابان (إن تي تي دوكومو، ٢٠٠٣)، أتاح لمستخدمي الهاتف المحمول إمكانيةَ إيجاد اتجاهات السير على الطرق، والبحث عن المطاعم القريبة، ومعرفة موعد وصول حافلة الركاب التالية. أما في الولايات المتحدة، فلم تصبح التطبيقات المعتمِدة على الموقع شائعة حتى عام ٢٠٠٨، عندما أُطلِق هاتف «آي فون» من الجيل الثالث المدعوم بخاصية «جي بي إس»، وأُطلِق نظام «جوجل أندرويد». ومؤخرًا أيضًا، كانت شركات مثل «سكايهوك وايرلس» تستخدم تكنولوجيات «الواي فاي» لتساعد التثليث المساحي الخلوي واﻟ «جي بي إس» في مهمة تحديد موقع الهاتف المحمول. ولأن التثليث المساحي الخلوي يفتقر إلى الدقة، ولأن اﻟ «جي بي إس» قد لا يعمل في بعض الأحيان (على سبيل المثال: في الأماكن المغلقة أو الأيام التي تكون فيها السماء ملبدة بالغيوم تكون إشارات اﻟ «جي بي إس» ضعيفة أو منعدمة)، لذلك ابتكرَتْ «سكايهوك» نظامًا لتحديد الموقع يمكن للهواتف المحمولة فيه التبديل بين كلٍّ من التقنيات الثلاث، اعتمادًا على أيها يكون متاحًا. إضافةً إلى ذلك، إذا توافرت أكثر من تقنية — مثل «الواي فاي» والتثليث المساحي الخلوي — يستخدمها النظام جميعًا لتحديد الموقع، وهو ما يحدد موقع الأجهزة المحمولة بدقةٍ أكبر: حوالي ١٠–٢٠ مترًا (كيرزنر، ٢٠٠٥). ومنذ عام ٢٠٠٣، وظفت «سكايهوك» سائقين من أجل رسم خرائط تحدِّد نقاطَ الوصول اللاسلكية في المدن الكبرى في الولايات المتحدة وآسيا وأوروبا. ومع تزايُد قدرةِ الأجهزة المحمولة على الإدراك المكاني بطريقةٍ أو بأخرى، زاد انتشارُ التطبيقات المعتمدة على الموقع.

(٢) ربط المعلومات بالمواقع

منذ عام ١٩٩٦، تصوَّرَ جيم سبورر (١٩٩٩) نظامًا أُطْلِق عليه اسم «ورلدبورد» من شأنه أن يستخدم التكنولوجيا لتدعيم الفضاء المادي بمعلومات رقمية. أتاح «ورلدبورد» ربط المعلومات — باستخدام أجهزة «جي بي إس» — بأماكن محددة، وذلك بتراكُب البيانات الرَّقْمِيَّة على العالَم المادي المحسوس. كما قال سبورر (١٩٩٩): «تخيَّلْ أن يكون في مقدورك دخولُ المطار، ثم ترى بساطًا رقميًّا أحمر يقودك مباشَرةً إلى بوابتك، أو أن تنظر إلى الأرض فترى خطوط حدود المِلكية، أو ترى حِزَم الكوابل المدفونة تحت الأرض، أو أن تمشي وسط الطبيعة فترى لافتاتٍ افتراضيةً بالقرب من النباتات والصخور، أو أن تنظر ببساطةٍ إلى السماء ليلًا فترى مخطَّطًا تفصيليًّا لمجموعات النجوم» (صفحة ٦٠٢).

تنبَّأ سبورر بثلاثة أنواع من تقنيات العرض التي يستطيع المستخدمون من خلالها الوصول إلى المعلومات الرَّقْمِيَّة المحدَّدة الموقع و«المرتبطة» بالعالم المادي: نظارات عرض شفافة تُرتَدَى على الوجه، وأجهزة محمولة في حجم راحة اليد، وآلات عرضٍ يمكنها وضع الصور الصادرة منها على البيئة المحيطة. جذَبَتْ شاشاتُ العرض المثبتة بالرأس قدرًا كبيرًا من الاهتمام أثناء تسعينيات القرن العشرين، وخاصةً حينما لم تتحقق التوقعات التي تنبَّأَتْ بأن الاتصال بالويب سيكون على نحوٍ أساسي كعالَم افتراضي ثلاثي الأبعاد محيط بالمستخدِم. وطوَّرَ العديد من الفنانين في ذلك الوقت بيئات واقع افتراضي. يتمثَّل بعضُ أمثلة ذلك في عالَمَيْ تشارلوت ديفيز الافتراضيَّيْن «أوزموس» (١٩٩٥) و«إيفيمير» (١٩٩٨)، و«بليسهولدر» من ابتكار بريندا لورييل وراشيل ستريكلاند (١٩٩٢). كانت بيئات الواقع الافتراضي تلك تستلزم أن يرتدي المستخدم شاشةَ عرضٍ مثبتة بالرأس لتكون واجهة للتفاعل مع البيئة. وقدَّمَ بعض أفلام وروايات الخيال العلمي، مثل فيلم «جوني منيمونيك» (لونجو، ١٩٩٥)، وفيلم «ذي ثيرتين فلور» (روزناك، ١٩٩٩)؛ أنواعًا من شاشات العرض المثبتة بالرأس بوصفها واجهات للاتصال بالعوالم الافتراضية والويب. ومع ذلك، كان معظم تقنيات شاشات العرض المستخدَمة للوصول إلى البيانات الرَّقْمِيَّة أو لعرضها في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أجهزةَ عرضٍ وأجهزةً محمولةً.

كانت الأجهزة المحمولة باليد — كما أشار سبورر — أسهلَ في الحمل والتخزين من شاشات العرض المثبتة بالرأس؛ إذ لم ينتج عنها أيُّ أعراض غثيان، وسمحَتْ لأكثر من شخصٍ بمشاهدة شاشة عرض المعلومات في الوقت نفسه؛ ممَّا خلق نوعًا من البيئة الاجتماعية. وكذلك أجهزة العرض في الفضاءات الحضرية التي ربما تشجِّع التفاعل والتواصل الاجتماعي (سبورر، ١٩٩٩، صفحة ٦٠٩). من الأمثلة الأولى لشاشات العرض الضخمة — التي أعادَتْ تشكيلَ الديناميكيات الحضرية الاجتماعية بين كلٍّ من نيويورك ولوس أنجلوس — التركيبُ الفني «هول إن سبيس» الذي أنشأته كيت جالواي وشيري رابينويتز (١٩٨٠).١ في هذا الاستخدام الرائد لتكنولوجيا الأقمار الاصطناعية، وضع الفنانان شاشةً بالحجم الطبيعي للبشر في مدينة لوس أنجلوس، تعرض مشاهدَ حية من شوارع مدينة نيويورك، والعكس بالعكس. دون تنبيهات أو إشارات سابقة، توقَّفَ الناس في كلتا المدينتين أمامَ الشاشات، وبدءوا في تجاذُب أطراف الحديث مع نظرائهم البعيدين. أظهَرَ مقطعُ الفيديو المسجَّل لهذا العمل الفني خلال ثلاثة أيام متتالية أن العامة كانوا مفتونين في البداية بإمكانية التفاعل الحي مع المدينة الأخرى، مع سيطرة الشك عليهم في أن الأشخاص في الجهة الأخرى موجودون حقًّا في المدينة الأخرى. إلا أن الناس في اليومين الثاني والثالث أدركوا الإمكانية الاجتماعية القوية للعمل الفني، وبدءوا يحددون مواعيد للقاءاتٍ من أجل التواصُل مع أصدقائهم وأقربائهم الذين لم يروهم منذ أعوام. وعن طريق محاولة إعادة تعريف «الصورة بوصفها مكانًا»، تمكَّنَ الفنانون من خلق إحساس غير متوقَّع من التواجُد المشترك عن بُعْدٍ، وهو ما صار معتادًا اليومَ باستخدام تقنية المؤتمرات المرئية. لم يكن الابتكار في هذا العمل الفني منحصرًا في قدرته على عرض صور حية بعيدة بواسطة الأقمار الاصطناعية، ولكن أيضًا في فكرةِ وضْعِ شاشة عرضٍ في فضاءٍ حضريٍّ عامٍّ مزدحم، وهو ما أدَّى إلى ردودِ أفعالٍ غير متوقَّعة من العامة، وأحاسيس بالاتصال بالمكان والانفصال عنه.
fig8
شكل ٢-١: عمل كيت جالواي وشيري رابينويتز الفني «هول إن سبيس» (١٩٨٠). منشور بتصريح من كيت جالواي وشيري رابينويتز.

كانت الشاشات في «هول إن سبيس» مرتبطة ماديًّا بالمواقع، ولكنَّ العمل الفني ذاته مَهَّدَ الطريقَ لمستقبل يمكن أن تكون الصورُ والمعلوماتُ فيه مرتبطةً رقميًّا بالمواقع المادية. بالإضافة إلى ذلك، بإعطاء أولويةٍ لخليط الروابط الاجتماعية المحلية والبعيدة الذي تحقَّقَ باستخدام الشاشات العامة، تنبَّأَ هذا العملُ الفني بالأثر الذي سوف تُحْدِثه المعلومات المُلحَقة بالمواقع على التفاعلات الاجتماعية المكانية.

تنبَّأ سبورر بتطوُّرَ الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة، وأدرك أن الرغبة في تحديد الموقع ستفرض التكنولوجياتِ التي تَفِي بها. وأشار إلى ثلاثة سُبُل يمكن أن تتحوَّل إليها المواقع المادية (أو «الأماكن» كما يصفها في مفرداته) باستخدام التكنولوجيات ذات الإدراك المكاني؛ أولًا: يمكن للمعلومات غير المادية أن تُوجَد في فضاء مادي؛ فتصبح المعلوماتُ التي تكسو الفضاء المادي جزءًا من ذلك الفضاء، وليست مجرد إضافةٍ له. ثانيًا: ربما يظهر الموقع نفسه على نحوٍ مختلف طبقًا لإدراك المرء الحسي، وأيضًا طبقًا للغرض من ذلك الإدراك. واعتمادًا على التكنولوجيا المتوافِرة (أو الافتقار إليها)، يمكن للناس أن يختبروا الفضاءات الحضرية بطرقٍ مختلفة. وأخيرًا: يمكن للكثير من الخصائص الأكثر فائدةً لموقعٍ ما — مثل تاريخه — أن تُخْتَزَن معه، ومن الجائز أن تُبدَّل تلك الحاجة للذهاب إلى المنزل للبحث عن معلوماتٍ في موسوعةٍ ما أو على الويب من خلال جهاز كمبيوتر مكتبي. ورغم أنه كان في عام ١٩٩٩ فقد أدرك الحاجة لدمج المعلومات مع المواقع، وأثبتَتْ أفكاره تأثيرَها الكبير على الكثير من التجارب الأولى في استحداث وشَغْل الأمكنة الرَّقْمِيَّة.

(٣) تتبُّع المواقع ورسم خرائط لها

لم يُوضَع نظامُ «ورلدبورد» موضعَ التنفيذ، ولم يبدأ فعليًّا تطوُّر الأعمال التي اختُبِرَت مع التكنولوجيات ذات الإدراك المكاني حتى بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. حينما كان غالبية الناس ما زالوا يعتقدون أن الهواتف المحمولة هي خطوط أرضية متنقلة، كان فنَّانو الوسائط المرتبطة بالمكان قد بدءوا بالفعل في محاولة استنتاجِ ما يحدث حينما لا يستخدم الناسُ هواتفَهم للحديث مع أشخاص بعيدين فحسب، ولكن أيضًا عندما يتفاعلون مع المعلومات التي حُدِّدت مواقعها رقميًّا ومع الفضاءات المادية المحيطة بهم. سبق الكثير من المشاريع الأولى التي طورها فنانو الوسائط المرتبطة بالموقع ظهور الهواتف الذكية ذات الإدراك المكاني؛ ونتيجةً لذلك، استخدموا في الغالب أجهزةَ «جي بي إس» منفصلة بوصفها تكنولوجيا رئيسية. وأدرجوا نوعًا من التتبُّع ورسم الخرائط، مستخدِمِين أجهزة اﻟ «جي بي إس» لتعقُّب التحركات (تحرُّكات الناس والأشياء) في الفضاءات المادية. من الأمثلة الشهيرة لذلك: «الرسم باستخدام الجي بي إس» لجيريمي وود (٢٠٠٠)، و«طبوغرافيا التنقلات اليومية» لتيري رويب (٢٠٠١)، و«أمستردام الآن» من تقديم مجموعة «فاج سوسايتي» (٢٠٠٢)، ومشروع «ميلك بروجكت» لإستير بولاك وليفا أوزينا (٢٠٠٤). على سبيل المثال: كان عمل رويب الفني تركيبًا فنيًّا تَتَبَّعَ تحرُّكاتِ المُشارِك خلال المدينة باستخدام اﻟ «جي بي إس». وبعد ذلك تحوَّلَتْ تلك المساراتُ إلى رسومٍ، وطُبِعَت على أوراق بلاستيكية شفَّافة، ووُضِعت فوق أوراق الرحلات السابقة، ثم وُضِعت بين لوحَيْن من الزجاج، ثم عُرِضت في صالة عرض. ومن خلال تجميع لقطاتٍ من تحركات الناس عبر المكان والزمان، أتاح مشروع «طبوغرافيا التنقلات اليومية» لزوَّار المتحف أن يروا حرفيًّا المساراتِ التي يتبعها الناس في الفضاءات الحضرية.

رسم مشروع رويب مسارات تنقُّلات المشاركين وجمَعَها لتشاهَد لاحقًا، ولكن مشروع «أمستردام الآن» لمجموعة «فاج سوسايتي» تتبَّعَ تنقُّلاتِ المشاركين آنيًّا؛ إذ كان يمكن إرسال تنقلاتهم خلال منطقة مركز المدينة في أمستردام مباشَرةً إلى معرض «خرائط أمستردام ١٨٦٦–٢٠٠٠»؛ حيث يُعرَض المشروع. حثَّ هذا العمل الفني الزوَّارَ على أن يقارنوا بين خرائط المدينة التقليدية وبين الخرائط الرَّقْمِيَّة المرسومة بواسطة تحركات الناس. كان مشروع «أمستردام الآن» خريطة نظام معلومات جغرافية مرسومة على نحوٍ جماعي؛ أيْ إن هذا العمل صُنِع بتتبُّع تحرُّكات الناس عبر الفضاء المكاني. أظهَرَ هذا المشروع بجلاءٍ أهميةَ إنتاج الخرائط من خلال المشاركة الاجتماعية الآنية، وسعى لزيادة وعي الناس بالفضاءات المادية حولهم بمنحهم الأدوات لتحليل الأنماط الاجتماعية الآنية. هذه المشروعات الأولى لرسم الخرائط في فن الوسائط المرتبطة بالمكان سعَتْ إلى شيءٍ مشابِهٍ للخرائط التي ناقشناها في الفصل الأول. لم تكن الخرائط في هذه الأعمال سابقةً في الوجود على العمل الفني، بل صُنِعت من خلال مساهمات وخبرات المشاركين الخاصة بالفضاءات المادية؛ ونتيجةً لذلك كان من الممكن لتلك الخرائط أن تنقل خبرةَ المستخدِم في الفضاءات الحضرية.

fig9
شكل ٢-٢: مجموعة «فاج سوسايتي» مع إستير بولاك وجيروين كي، ومشروع «أمستردام الآن» (٢٠٠٢). حقوق الطبع ٢٠٠٢ فاج سوسايتي/إستير بولاك. منشور بتصريح من فاج سوسايتي.

وبينما جَعَلَ بعضُ المشروعات المستخدمين يقتفون أثرَ تحرُّكاتهم الشخصية لخلْقِ أنماطٍ جديدة، سعَتْ مشروعاتٌ أخرى إلى جعل المستخدمين يقتفون بتحرُّكاتهم أثرَ أنماطٍ موجودة بالفعل. عادةً ما كان يُطلَق على هذه المشروعات اسم «نزهات» أو جولات صوتية يحث عليها موقع المستخدم. تم تطوير النزهات الصوتية بفضل الكثير من الفنانين، مثل مشروع جانيت كارديف المسمَّى «هير لونج بلاك هير» (٢٠٠٤-٢٠٠٥)، ومشروع جيف نولتون وجيريمي هايت ونيومي سبيلمان «٣٤ نورث ١١٨ وِست» (٢٠٠٢)، ومشروع تيري رويب «آيتينيرنت» (٢٠٠٥). كانت جانيت كارديف هي أول فنانة تُشتهَر بالنزهات الصوتية، ولم تشتمل المشروعاتُ الأولى لجانيت كارديف على أيِّ تكنولوجيات ذات إدراك مكاني. كان الأمر ببساطة أنهم ركَّبوا سردًا خياليًّا على فضاء حضريٍّ معهود باختراعهم جولاتٍ إرشاديةً يمكن أن يستمع إليها المشاركون؛ حيث كان يجري توجيههم خلال موقع محدد عن طريق اتباعهم لتوجيهاتٍ على غرار: «سِرْ مربعين سكنيَّيْن ثم انحرف يسارًا.» كان الهدف من مشروعات كارديف أن تجعل المشاركين يدركون موقعهم المادي، ولكن فاعليتها حُجِّمَت بسبب القيود التكنولوجية. ولأن موقع المستخدم لم يكن يُكشَف أوتوماتيكيًّا، كان نجاح العمل يعتمد على اتباع المستخدم بطريقة صحيحة للتوجيهات التي يعطيها الفنان، فإذا انعطف أحد المشاركين نحو منعطف خاطئ، تضيع التجربة. غيَّرَ استخدامُ نظامِ «جي بي إس» الذي يعمل آليًّا هذا السيناريو. كان مشروع نولتون وهايت وسبيلمان «٣٤ نورث ١١٨ وست» هو أحد أوائل النزهات الصوتية المدعومة بخاصية اﻟ «جي بي إس»، ودعا هذا المشروع — الذي سُمِّيَ بهذا الاسم اتباعًا للإحداثيات الجغرافية لمدينة لوس أنجلوس — المشاركين إلى سماعِ رواياتٍ عن تاريخ لوس أنجلوس بينما كانوا يستكشفون منطقة وسط المدينة. استمع المشاركون — الذين كانوا يحملون كمبيوترات شخصية لوحية مدعومة بأجهزة «جي بي إس» وسماعاتٍ للرأس — إلى قصصٍ عن الأماكن التي كانوا يتحركون خلالها، وكان موقعهم هو ما يؤدِّي لتشغيل هذه القصص.

fig10
شكل ٢-٣: مشروع جيف نولتون وجيريمي هايت ونيومي سبيلمان «٣٤ نورث ١١٨ وست» (٢٠٠٢). منشور بتصريح من جيريمي هايت.
وفي وقت أحدث، طوَّرَ تيري رويب مشروعَ «آيتينيرنت»، وكان تركيبًا صوتيًّا تفاعليًّا في وسط مدينة بوسطن. استمَعَ المشاركون — الذين كانوا يستخدمون سماعات رأس متصلة بكمبيوتر شخصي جيبي، يتضمَّن جهاز «جي بي إس» وبرنامجًا مُعَدًّا خصوصًا لهذا المشروع — أثناء سيرهم في شوارع بوسطن إلى قصةٍ أُعِيدت فيها صياغةُ رواية «فرانكنشتاين» للروائية ماري شيللي. «تحفِّز تحرُّكات المشارك التي تُتَّبَع بواسطة اﻟ «جي بي إس» تشغيلَ التسجيل الصوتي بينما ينتقل عبرَ فضاء المدينة؛ حيث «حُدِّد مكان» التسجيلات الصوتية» (رويب، ٢٠٠٧، صفحة ٢٧٣). وضعَتْ هذه التركيباتُ طبقةً صوتية فوق فضاء المدينة، وكانت تهدف إلى جعل المستخدمين يختبرون فضاءات حضريةً معهودةً بطرق غير معهودة. كانت النزهات الصوتية من أولى المحاولات لإلحاق المعلومات رقميًّا بالمواقع. وبالرغم من أن النزهات الصوتية يمكن اختبارها في مجموعات — كما في شكل ٢-٣ — لا يمكن للمشاركين أن يغيِّروا أو يشاركوا المعلومات التي قابلوها. وهكذا كان الحال حتى أُضِيف «الوسم الجغرافي»، أو التعليقات التوضيحية عبر الأجهزة المحمولة، إلى مجموعة الأدوات.

(٤) التعليقات التوضيحية عبر الأجهزة المحمولة

تبنَّتْ أوائل مشروعاتِ التعليقاتِ التوضيحيةِ عبر الأجهزة المحمولة فعليًّا الإطارَ الذي اقترحه سبورر. فإضافةً إلى الفنانين، كان الباحثون والدارسون مهتمين باستكشاف إمكانية إلحاق المعلومات بالمواقع. كان تطبيق «جيونوتس» — الذي طوَّرَه المعهد السويدي لعلوم الحاسب الآلي في عام ٢٠٠٠ — يرصد الموقعَ الجغرافي للكمبيوتر الشخصي أو المساعد الرقمي الشخصي للمستخدِم عن طريق شبكة «الواي فاي»، متيحًا للمستخدم أن يُنتج رقميًّا «وسومًا» و«رسوماتٍ» في موقعه (بيرسون وإسبينوزا وكاتشاتوري، ٢٠٠١). ويستطيع مستخدمو هذا النظام الآخرون الوصولَ إلى هذه الملاحظات الافتراضية عندما يكونون بالجوار. وعلى أية حال، كان «جيونوتس» تطبيقًا داخليًّا؛ إذ إنه كان يعمل فقط داخل نطاق الشبكات المحلية اللاسلكية في المبنى؛ لذلك لم يكن له أثرٌ على خبرة الفضاءات الحضرية كما كانت الحال مع المشروعات الأخرى التي ذكرناها.

fig11
شكل ٢-٤: خريطة من خطوط أُنشِئت خلال فترة تجربة «إربان تابيستريز». خريطة سياقات، «إربان تابيستريز» (٢٠٠٢–٢٠٠٤) بواسطة «بروبوسيز»، http://proboscis.org.uk منشورة بتصريح من «بروبوسيز».

ولكن ذلك تغيَّرَ عام ٢٠٠٢، عندما طوَّرَتْ مجموعة «بروبوسيز» الفنية — التي تتخذ المملكةَ المتحدة مقرًّا لها — مشروعَ «إربان تابيستريز» (٢٠٠٢–٢٠٠٤) لتستقصي «كيف يمكن لمزيجِ نظام المعلومات الجغرافية وتكنولوجيات الأجهزة المحمولة أن يمكِّن الناس من وضع خرائط لمعارفهم وخبراتهم وقصصهم وأخبارهم ومشاركتها بينهم» (بروبوسيز، ٢٠٠٢–٢٠٠٤)، ليشكِّل ما أطلقوا عليه «التأليف العام». على النقيض من النزهات الصوتية بواسطة اﻟ «جي بي إس» — حيث يتبع المستخدمون حكايةً من ابتكار الفنانين — سمح «أربان تابيستريز» للمشاركين بأن يضيفوا إحداثيات جغرافية إلى القصص والصور والأصوات والفيديوهات، وأن يُحمِّلوها على خادمٍ، ليُضمِّنوا المعارفَ المجتمعية في نسيج المدينة. ويمكن بعد ذلك استعادة هذه المعلومة الرَّقْمِيَّة عندما يكون مستخدِمٌ آخَر قريبًا من موقع المعلومة. مكَّنَ برنامج «إربان تابيستريز» المشاركين من أن يصبحوا مؤلِّفين وشركاء في ابتكار بيئاتهم الرَّقْمِيَّة/المادية.

لم تكن التعليقات التوضيحية الرَّقْمِيَّة عبر الأجهزة المحمولة بحاجةٍ إلى استخدام اﻟ «جي بي إس»، من أجل إضافة المعلومات للمواقع، فمثلًا: كان مشروع «يلو أرو» (٢٠٠٤) يهدف إلى ابتكار وسيلة جديدة لاستكشاف المدن عن طريق عكس خبرة الوسم الجغرافي التقليدية فعليًّا. أدركت شركة «كاونتس ميديا» — وهي شركة ألعاب مقرها نيويورك — «يلو أرو» في عام ٢٠٠٤ أنه «إصدار فني يشترك في تأليفه أعدادٌ هائلة» من العالم. كانت الفكرة بسيطة، وهي أن يطلب المستخدمون ملصقات وقمصان «يلو أرو» (تحمل شكلَ سهمٍ أصفر) من موقع الويب — وكل من تلك الملصقات والقمصان يحمل رمزًا فريدًا — وأن يضعوها أو يرتدوها في أنحاء المدينة. وبمجرد وضعها أو ارتدائها، يرسل المستخدِمُ رسالةً نصية قصيرة، أو يدخل على موقع الويب ليضع تعليقًا بالرمز الفريد الخاص بهذا الملصق أو ذاك القميص، وحالما يُوضَع هذا التعليق يمكن تغيير الرسالة المقترَن بها الرمزُ كلما رغب المستخدمُ في ذلك. وهكذا عندما يمرُّ مستخدم بسهمٍ أصفر في المدينة، لا يحتاج إلا أن يتصل بالرقم المكتوب على السهم، ويضغط الأزرارَ بالرمز الفريد للوصول إلى التعليق.

fig12
شكل ٢-٥: مجموعة من ملصقات «يلو أرو» في مدن في أنحاء العالم. الصور مهداة من «يلو أرو». أسهمٌ منتقاة وضعها بيج داد، وكوك، وفورتونا، وهاوس، وجي شيبس، وماتا، وباندا، وبي إتش دي، وسير إتش سي، وسكستين، وستم، وستينكي، وتورست، وأربسمراي، وفيد، وفينال، وزُوِيتروب. منشورة بتصريح من جيسي شابينز.

سارعَتِ المنظمات والمعلمون إلى تبنِّي «يلو أرو» لإنتاجِ قصصٍ بديلة للمدن الشهيرة؛ فكان مهرجان «كونيكتينج برلين» — برعاية معرض البورصة الدولية للسياحة في برلين — يمتد على مدى أربعة أيام، وضع فيها المشاركون أسهمًا في أنحاء برلين لتحديدِ روابط هذه المدينة بالمدن العالمية الأخرى. وضع مستخدِمٌ ما سهمًا على عمودٍ يوناني مُقلَّد في ساحة للطعام وكتب: «البارثينون يظهر في برلين. أهذا كنز إغريقي مسروق مثل منحوتات إلجين الرخامية أم مستقبل السفر؟» وُضِع السؤال وسط المئات من الأسئلة الأخرى، المُعلَّمة بأسهمٍ صفراءَ في كل أنحاء المدينة، ووُضِعَت تعليقات توضيحية على الويب. أتاح مشروع «كونيكتينج برلين» — أو أي رحلة من عشرات «الرحلات» الأخرى — للمستخدمين القدرةَ على طباعة خريطة تعليقات أو مجرد تصفُّحها على الإنترنت لصنع رحلةِ تنزُّه واقعية أو افتراضية في المدينة. قادَتْ مشاريعُ مثل «أربان تابيستريز» و«يلو أرو» تطويرَ التطبيقات التجارية للتعليقات التوضيحية عبر الأجهزة المحمولة، مثل «ديجيتال جرافيتي» و«إم سكيب»، التي سنناقشها لاحقًا.

بينما مهَّدَ الفنانون الطريق لاستكشاف الأمكنة الرَّقْمِيَّة، بادَرَتِ الشركات والباحثون الأكاديميون إلى الانضمام إلى هذا النشاط. كانت ثمة أسئلة مهمة تستدعي إجابات وفوائد محتملة يمكن جَنْيُها من التوصل إلى استخدامات للتلاقي بين الويب والفضاءات المادية. أعلنت «سيمينز» في عام ٢٠٠٥ — بالتعاون مع باحثين من جامعة لينز بالنمسا ومركز «آرس إليكترونيكا»، واستكمالًا لأفكار مشروعات سابقة — عن تطوير مشروع «ديجيتال جرافيتي»؛ فبدلًا من الدخول للويب لوضع تعليقات توضيحية على الأسهم الصفراء، مكَّنَ «ديجيتال جرافيتي» المستخدمين من إرسال رسالة نصية إلى أي موقع جغرافي. كانت الرسائل النصية القصيرة حتى ذلك الحين تُرسَل عمومًا إلى مستخدم هاتف محمول آخَر، ولكن إذا أرسل أيُّ مستخدم — بالاستعانة ﺑ «ديجيتال جرافيتي» — رسالةً نصية قصيرة إلى موقع مستهدف، فبمجرد أن يدخل أيُّ مستخدم آخَر من المشتركين في هذه الخدمة إلى ذلك الموقع، ستظهر الرسالة على شاشة هاتفه. وضعت سيمينز تصورًا لتطبيقين محتملين لهذه التكنولوجيا؛ كان الأول مرشدًا سياحيًّا خارجيًّا، بواسطته يمكن للسائحين قراءة معلومات عن الأماكن الأثرية والتاريخ عندما يقتربون من أماكن معينة، وكان الثاني دعاية معتمِدة على الموقع يمكن من خلالها للمَتاجر أن ترسل قسائمَ ترويجية للأشخاص المجاورين الذين اشتركوا في «وضع الدعاية».

في عام ٢٠٠٧، بعد قليل من ظهور «ديجيتال جرافيتي»، أعلنت «هيوليت باكارد» عن «إم سكيب». كانت أداة تأليف قائمة على فكرة «سيمينز»، مكَّنَتِ الناس من إضافة معلومات للأماكن ليصنعوا ما أطلقوا عليه اسم نطاق وسائط رقمي. واشتملت هذه النطاقات على رسائل نصية إضافةً إلى أصوات وألعابٍ تفاعلية ونزهات وتراكيب. ولكي يصنع المستخدمون نطاقَ وسائط رقميًّا، يمزجون أصواتًا ونصوصًا وصورًا على الكمبيوترات، مستخدمين برمجيات خاصة. تعرض تلك البرمجيات خريطةً إلكترونية يمكن للناس من خلالها أن يضيفوا معلوماتٍ إلى أماكن محددة بإدخال الإحداثيات الجغرافية. ومن أجل عيش تجربة نطاقات الوسائط الرَّقْمِيَّة، كان المستخدمون يُنَزِّلونها على أجهزتهم المحمولة، ثم يذهبون بعد ذلك إلى المكان المادي الذي صُنِع من أجله نطاق الوسائط الرقمي. ويمكن للوسائط أن تعمل عن طريق الموقع الجغرافي للمستخدِم. يتمثل أحد أمثلة نطاقات الوسائط الرَّقْمِيَّة التفاعلية في لعبةٍ كانت أحداثُها تجري في برج لندن. وعلى نسق النزهات الصوتية، مكَّنَتِ اللعبةُ اللاعبين من متابَعةِ قصة عن البرج، ولكي يتفاعل المستخدمون مع نطاق الوسائط الرقمي، كانوا يُدفَعون إلى النقر على صورةٍ لسجينٍ ما، ثم بعد ذلك كانوا يتلقَّوْن إرشادات عن الأماكن التي ينبغي أن يتوجَّهوا إليها، وعن الأشياء التي سيعثرون عليها، وكانت أجهزتهم تعرض خريطة تُظهِر موقعهم الحالي والمكان الذي يحتاجون للذهاب إليه (هيوليت باكارد دفيلوبمنت كومباني، إل بي ٢٠٠٧). الفرق بين نطاق الوسائط الرقمي والنزهة الصوتية هو أنه بدلًا من متابَعةِ قصةٍ سبَقَ تأليفها بواسطة الفنان، كان مستخدمو نطاق الوسائط الرقمي مكلَّفِين بتأليف قصصهم.

أتاحَتْ كل تطبيقات التعليقات التوضيحية للأجهزة المحمولة وضْعَ طبقاتٍ من المعلومات على الموقع المادي، وهو شيء تنبَّأ به سبورر بالفعل قبل ذلك بعقْدٍ من الزمن. ولكن ظلَّتْ مشاريع الوسائط المرتبطة بالمكان هذه في الأطوار التجريبية للفن والبحث حتى وقت قريب. أدَّى إطلاقُ هاتف «آي فون» من الجيل الثالث المحتوي على خاصية «جي بي إس»، وكذلك نظام «جوجل أندرويد» إلى إحداث زيادةٍ كبيرة في انتشار تلك التطبيقات؛ ممَّا جعلها متاحةً لعدد أكبر من الناس، وكشف عن عددٍ لا يُحصَى من سياقات استخداماتها. ولكن، بالتأكيد ليس السبب الوحيد في انتشار هذه الخدمات هو توافُر الأجهزة؛ فكما هي الحال مع كل تكنولوجيا جديدة، ثمة كثير من الأمور الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتكنولوجية تسهم في تطوير وانتشار هذه التكنولوجيا (كيلرمان، ٢٠٠٦). وعمومًا، لعب الرواجُ الثقافي للمكانية الرَّقْمِيَّة دورًا كبيرًا في توافُر هذه الوسائل الحديثة، وعجَّلَ التوافُرُ التجاري لهذه المنصات من النقلة التي حدثَتْ لاستخدامات الموقع حتى صارت اتجاهًا سائدًا.

(٥) الإدراك المكاني يصير اتجاهًا سائدًا

عادةً ما تكون دوافع الفنانين والشركات الهادفة للربح مختلفة؛ فبشكل عام، يهدم الفنانون الممارساتِ المتَّبَعةَ بينما تحوِّل الشركاتُ الهادفة للربح تلك الممارساتِ إلى وسيلةٍ لجلب المال. حاوَلَ الفنانون عمومًا أن يتحدُّوا التفسيرات والاستخدامات المقبولة للفضاء المكاني، بينما كانت الشركات الهادفة للربح تسعى إلى تحويل الفضاء المكاني إلى سلعة؛ إذ تنشأ نماذجُ الأعمال من افتراضِ أن فضاء المعلومات هو فضاء متاح للإعلان.

قد تنتاب البعضَ الدهشةُ من وجودِ ارتباطٍ بين هذه الممارسات؛ ففي حالة الوسائط المرتبطة بالمكان، نجد أنه تكرَّرَ حدوثُ دمجٍ بين منظور الفنانين ونماذج الأعمال. يرى ناقِدَا فن الوسائط مارك توترز وكازيس فارنيليس (٢٠٠٦) أنه «بينما سعى الفن الرقمي للحفاظ على استقلاليته عن الشبكة التجارية من أجل الحفاظ على كونه حالة فنية، كان من المعتاد أن تُستقبَل الوسائطُ المرتبطة بالمكان بادِّعاءات غريبة، خاصةً من قِبَل صناعة الكمبيوتر» (صفحة ٣٥٨). يؤكِّد توترز وفارنيليس تأثير الوسائط المرتبطة بالمكان على تطوُّر الشبكة الجيومكانية، بالاعتناق المبكر جدًّا لاحتمالية تداخل المشروعات الفنية مع هذا القطاع والحكومات المحلية. ومن الأمثلة الشهيرة لذلك مجموعة «بروبوسيز»، التي تلقَّتْ رعاية من شركات الاتصالات لمشروعها «إربان تابيستريز»، ومجموعة «بلاست ثيري»، التي تلقَّى أبرزُ أعمالها دعمًا من الرعاية المقدَّمة من الشركات. وعلى الرغم من ذلك، انتقَدَ بعض الدارسين هجين الفن/الصناعة هذا، واعتبروه غير مُجْدٍ (جالواي، ٢٠٠٥)، واتهمه آخَرون ببساطةٍ بأنه محايد سياسيًّا (برويكمان، ٢٠٠٤، كما ورد في كتاب توترز وفارنيليس، ٢٠٠٦). ولكنْ أيًّا ما كان النقد، فالطريقة التي اعتنقَتْ بها هذه المشاريعُ التكنولوجياتِ الاستهلاكيةَ أرسَتِ الأساس للتطبيقات المشابهة للوصول إلى أعداد كبيرة من الجمهور.

أحدُ أوائل أمثلة تطبيقات التعليقات التوضيحية التجارية للأجهزة المحمولة كان تطبيق «ويكي مي». جمَعَ ويكي مي صفحات «ويكيبيديا» استنادًا إلى الموقع الجغرافي للمستخدِم. قَدَّمَ التطبيقُ لمستخدمي الهواتف المحمولة طرقًا عديدةً لإيجاد معلومات «ويكيبيديا». في إحدى طرق العرض، يستطيع المستخدم قراءة قائمة بالمواقع الجغرافية مرتبة بحسب بُعْدِ المستخدم النسبي عن المكان، ويظهر في القائمة اسم مختصر وصورة للموقع الجغرافي، إلى جانب جملةٍ أو جملتين من بداية صفحة «ويكيبيديا» الخاصة بالموقع. وكانت صفحات المواقع الأقرب تُدرَج في القائمة أولًا، وبمجرد أنْ ينقر المستخدِمُ على رابط الموقع على «ويكيبيديا»، يصبح بإمكانه اختيار أن يرى عرضًا لخريطة أو صورة من هذه الصفحة. في عرض الخريطة، يستطيع المستخدم أن يرى مكانَ الموقع الجغرافي بالنسبة إلى المواقع الأخرى. وفي عرض الصورة، في استطاعته أن يرى قائمةً بالصور التي التُقِطت بالقرب من موقعه الحالي. وعلى غرار أي صفحة في «ويكيبيديا» كان المستخدمون يستطيعون تعديلَ مقالات «ويكيبيديا»، أو أن يكتبوا مقالاتٍ جديدة، ولكن في حالة «ويكي مي» يستطيعون فعْلَ ذلك باستخدام أجهزتهم المحمولة. وهذا هو ما يتيح تجربةَ الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة؛ فبدلًا من أن يكون المرء منفصلًا عن الموقع الجغرافي الذي تشير إليه المقالة، فإن إجراء تغييرٍ في المقالة يغيِّر المعلومات المتاحة عن ذلك الفضاء المكاني، وبذلك يؤثِّر في كيفية إدراك المستخدم له. وثمة إمكانية أن تؤثِّر هذه التغييراتُ في خبرة المستخدمين الآخرين بالفضاء المكاني؛ إذ إن أي تغييرٍ في مقالة «ويكيبيديا»، سواء أَأُجرِي في فضاء المكان أم عن بُعْد، يغيِّر المشهدَ المعلوماتي المتاح تغييرًا مؤثرًا بالنسبة إلى أولئك الموجودين في الموقع المادي (دي سوزا وسوتكو، تحت الطبع).

لم تكن الأنواع الأخرى من تطبيقات الوسم الجغرافي عبر الأجهزة المحمولة التي تطوَّرَتْ لاحقًا مقتصرةً على مقالات «ويكيبيديا»، لكنها جمعت أيضًا مقالاتٍ إخباريةً عامة، وموضوعاتٍ نقاشيةً، وتدويناتٍ، وتغريداتٍ متناسبةً مع موقع المستخدِم الجغرافي؛ على سبيل المثال: تسمح خدمة الرادار لموقع Outside.in لمستخدمي «آي فون» بالانتقال بين المستويات المختلفة لإيجاد أخبارٍ في محيط ١٠٠٠ قدم من موقعهم الحالي، أو أخبارٍ من الحي السكني المحيط. وكما هي الحال مع تطبيق «ويكي مي»، يستطيع المستخدمون أن يختاروا بين واجهةٍ في صورة قائمة، وواجهةٍ في صورة خريطة. وعلى نحوٍ مشابه، يربط تطبيق «إفويكس» الأخبارَ وتحديثاتِ وسائلِ الإعلام بموقعٍ بعينه في مدينةٍ ما، موضِّحًا أماكن «البؤر الساخنة» إعلاميًّا.
fig13
شكل ٢-٦: واجهة تطبيق «ويكي مي» لهاتف «آي فون» من إصدار «سبُّورتوير». منشورة بتصريح من «سبُّورتوير».

لا شيء تحديدًا يميِّز أيًّا من هذه التطبيقات، ولكنها مجتمعةً تشير إلى اتجاهٍ مهم فيما يختص باستخدام الهواتف المحمولة بصفتها أداةً حضاريةً لإضافة التعليقات التوضيحية. صارت الهواتف المحمولة أداةَ الكتابة للأمكنة الرَّقْمِيَّة، وهي تيسِّر التفاعلات وتزيد من ثراء الخرائط الفضاءات التي نتعامل معها دائمًا. وبالتأكيد ستتغيَّر مع الوقت الطبيعةُ الخاصة لهذه التطبيقات، ولكن باستعراض تاريخ هذه الأدوات في الفن والبحث، نجد أنه يوجد ثبات في جودة أدائها لمهامها. لقد جعلتنا تطبيقاتُ التعليقات التوضيحية الخاصة بالأجهزة المحمولة قادرين على تحديد مواقع الأشياء وتحديد موقعنا. وكذلك، عزز توافُرُ خاصية «جي بي إس» والقدرةُ على تحمُّل تكلفةِ الأجهزة المحمولة من شيوع استخدام هذه الأدوات. والآن، بعد أن أصبحَتْ أجهزتُنا على إدراكٍ بموقعنا الجغرافي، صرنا في وضعٍ أفضل يتيح لنا أن نصبح نحن أنفسنا على إدراكٍ بالموقع.

fig14
شكل ٢-٧: واجهة تطبيق «إفويكس» لهاتف «آي فون». منشورة بتصريح من «إفويكس»/ داريان شيراي.

(٦) الموقع الجغرافي هو كل مكان

يزداد تحوُّل خاصية تحديد مواقع الأشياء والأشخاص والمعلومات إلى سمة شائعة بكل برامج الأجهزة المحمولة؛ فبعدَ مرورِ عامٍ تقريبًا على إصدار هاتف «آي فون» من الجيل الثالث، بدأ معظم تطبيقات «آي فون» يطلب من مستخدِمِيه أن يفصحوا عن معلوماتِ موقعهم الجغرافي عندما يقومون بالتحميل، حتى لو لم يكن هناك استخدام واضح في حينها لتلك المعلومات. في شهر فبراير ٢٠٠٨، سجَّلَتْ شركة «أبل» براءةَ اختراعٍ لما يُسمَّى «مجموعات البيانات الانتقالية»، التي وصفت نظامًا خُصِّصَتْ فيه الشاشةُ الرئيسية لهاتف «آي فون» وفقًا للموقع الجغرافي للمستخدم، وهكذا لو افترضنا أن هناك مستخدمًا يسافر بالطائرة من نيويورك إلى سان فرانسيسكو، فإنه في اللحظة التي يخرج فيها من الطائرة، سيتعرف هاتفه اﻟ «آي فون» على الموقع الجغرافي، ويعيد ترتيب الأيقونات الموجودة على الشاشة الرئيسية وفقًا لما يُعتبَر مفيدًا لذلك الموقع، مثل حالة الطقس والتوقيت والخرائط وجهات الاتصال المحلية (هيوز، ٢٠٠٩).

أصبحَتْ تطبيقاتُ الأجهزة المحمولة ذات إدراكٍ بالنطاق المحيط؛ بمعنى أنها على إدراكٍ بالبيئة المحيطة، وتستجيب تبعًا لمتطلبات المستخدم التي تُحَدَّد بإجراء عمليات حسابية معقدة. هذه التطورات أصبحَتْ أسرعَ مع بدء شبكات الجيل الرابع الخلوية، كما سنناقش لاحقًا. ولكن عند هذه النقطة، ثمة سؤالٌ يُحتمَل أن نسأله لأنفسنا وهو: هل يسهم إدراك الجهاز بالموقع الجغرافي في زيادة إدراكنا بمحيطنا المادي؟ أم أن هذه التطبيقات يجري تطويرها لأننا بالفعل أكثر إدراكًا بمحيطنا المادي؟

الإجابة هي: الاثنان معًا. الْمَكَانِيَّة الرَّقْمِيَّة تعني ضمنًا نطاقًا يكون فيه إدراكنا الحسي للفضاء المكاني متأثرًا بتطوُّر تكنولوجيات جديدة، ورغبتنا في أن نكون مُدرِكين للموقع الجغرافي على حدٍّ سواء. كما رأينا من خلال هذا الفصل، تستطيع تكنولوجيات الأجهزة المحمولة ذات الإدراك المكاني أن تغيِّر الطريقةَ التي نختبر بها الفضاءات المادية والرَّقْمِيَّة عن طريق تشكيل فضاء هجين جديد يتكوَّن من خليطٍ من المعلومات الرَّقْمِيَّة والأمكنة المادية. مثلما أشار سبورر منذ أكثر من عقدٍ مضى، إمكانيةُ إرفاقِ معلوماتٍ بالأماكن تُعِيد تشكيلَ التصوُّر التقليدي للموقع الجغرافي؛ فبدلًا من أن تُدعَّم المواقع الجغرافية بمعلومات رقمية، تظهر الأمكنة الرَّقْمِيَّة كناتج ثانوي لاستخدام التكنولوجيات ذات الإدراك المكاني. الأمكنة الرَّقْمِيَّة هي فضاءات اجتماعية ممتلئة بمعلومات رقمية، ولكنها أكثر تشويقًا من ذلك. وتشمل الأمكنة الرَّقْمِيَّة أيضًا مستخدمين بعيدين؛ حيث يغيِّر المستخدمون — المتصلون بعضهم ببعض وبالأمكنة من خلال الأجهزة المحمولة — أحوالَ الفضاءات المادية. أن يكون المرء محليًّا يعني أن ينخرط في الأحوال المحلية لفضاء مادي، سواء أكان المستخدم قريبًا جسمانيًّا أو غير قريب. وهذا تغيُّر مهم في طريقة فهمنا للفضاءات الحضرية، وتزداد أهميته عندما نواجه قضية التواجُد المشترك. في الأمكنة الرَّقْمِيَّة، يتحدَّد التواجُد في مكانٍ ما من خلال القُرْب الجسماني والقُرْب الرقمي. أما طريقة حدوث هذا، فذلك هو موضوع الفصل التالي.

هوامش

(١) أحد الأمثلة الحديثة للمشروعات التي استخدمَتْ تكنولوجياتِ العرض لتغيير خبرةِ المشهد الحضري يتمثَّل في أعمال رافاييل لوزانو-هيمر (سلسلة من المعماريات العلائقية)، ومشروع «بلينكينلايتس» من إعداد نادي كايوس للكمبيوتر (٢٠٠١).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤