الفصل الثاني

انتشار اليهود وتاريخهم

(١) آباءُ اليهود الأوَّلون

إبراهيم بن تارح، من نسل سام من سلالة حابر، وُلد في أور الكلدانيين، وما زال هناك إلى أن أمرهُ الله قائلًا: انطلق من أرضك ومن عشيرتك وبيت أبيك إلى الأرض التي أريك، وأنا أجعلك أمة كبيرة، فقام وأخذ ساراي امرأتهُ وارتحل هو وأبوهُ تارح وبعض أفراد عائلتهِ من أور يقصدون أرض كنعان فنزلوا في حاران (اسم مكان أو مدينة موقعها في الشمال الشرقي مما بين النهرين بين الفرات وخابور، ولا تزال معروفة باسمها القديم وموقعها على شاطئ نهر بليك نحو ٥٠ ميلًا من مصبهِ في الفرات، ويزعم الدكتور بيك أنها حاران الحديثة بجانب بحر العتيبة بقرب دمشق)، وما زال إبراهيم ومن معهُ في حاران إلى أن مات تارح، فمضى حينئذٍ على هجرتهِ إلى أرض كنعان فوصل إلى شكيم، وهي من أقدم مدن فلسطين (هي سوخار واسمها اليوم نابلس وعدد أهلها ٩٠٠٠ نفس).

وحدث جوع شديد في الأرض فاضطرَّ إبراهيم أن ينحدر إلى مصر، وكان لهُ مع فرعون ملكها وقائع لا موضع لإثباتها هنا، ثم عاد إلى أرض كنعان، وكان لوط ابن أخيهِ معهُ في رحلتهِ هذه، فأصاب من غنى عمهِ بسهم وافر أيضًا، ثم وقع نزاع بين رعاتهما أدَّى إلى انفصالهما، فاختار لوط أن يرتحل إلى سهل الأردن المخصب، حيث كانت سدوم وعمورة، وسار إبراهيم إلى أرض حبرون (وهي اليوم الخليل)، وحدث بعد هذا أن بعض ملوك البلدان الواقعة على الفرات أغاروا على مدن سهل الأردن فأخذوا سدوم وأُسِر لوط مع أهل بيتهِ، فلما بلغ الخبر إبراهيم سلَّح غلمانهُ ثلاثمائة وثماني عشرة نفسًا، وكبسهم ليلًا هو وعبيدهُ فكسرهم، واسترجع لوطًا وأملاكهُ ونساءَهُ وجميع الأسرى، وكل ما كان لهم، وأبى أن يأخذ لنفسهِ شيئًا من الغنيمة جزاءً لأتعابهِ، وفيما كان راجعًا من ساحة الحرب التقى بملكي صادق ملك ساليم فأعطاهُ عشرًا من كل شيءٍ من الغنيمة.١

وكان لإبراهيم ولد من جاريتهِ هاجر اسمهُ إسماعيل رُزِقهُ قبل ابنهِ الآخر إسحاق من زوجتهِ سارة، وقد جاءَ في التوراة أن إسماعيل هذا هو أبو أكثر قبائل البدو والرحَّل في الشرق والعرب ينتسبون إليه، فالعرب واليهود أبناءُ العم.

وعاد إبراهيم فتزوج في أخريات أيامهِ، فولد لهُ عدة بنين وبنات، ومات وعمرهُ مائة وخمس وسبعون سنة، وورثهُ ابنهُ إسحاق، وهو الجد الثاني لليهود.

ومن يمعن النظر في سيرة إبراهيم وأخلاقهِ وأفعالهِ، وينظِّر بينها وبين المشهود عن اليهود اليوم يتضح لهُ شدة ما قاساهُ هذا الشعب من الضيق والاضطهاد والضغط الشديد، حتى تبدلت أخلاقهُ عما كان عليهِ أسلافهُ كإبراهيم ومن جاءَ بعدهُ، ولا عجب في ذلك فثمرة الظلم والاستبداد والضغط واحدة في جميع الشعوب والأمم ولا تقتصر على اليهود، والتاريخ مشحون بحكايات ما آلت إليهِ أحوال الشعوب التي مُنيت بالظلم والاستعباد قرنًا بعد قرن وعصرًا بعد عصر، وإذا صحَّ أن اليهود إخوة العرب أبطال الصحراءِ وصدقنا ما رواهُ المؤرخون عن بسالتهم التي أبدوها في حروبهم وحصار أورشليم وقمعهم ملوك سوريا من خلفاءِ الإسكندر، علمنا أن جزءًا كبيرًا من هذه التهم التي لصقت بهم في العصور المظلمة وظلت آثارها ظاهرة في عصرنا هذا إنما منشؤُهُ الكره والحقد والتعصب الديني الأعمى، وسنعود إلى الكلام في هذا الشأن في بابهِ الخاص بهِ.

وإسحاق لفظة عبرانية معناها «يضحك»، فلما ماتت والدتهُ تزوج بابنة ابن عمهِ من بين النهرين وجاء بها إلى أرض كنعان، ووُلد لهُ منها ابنان توأمان عيسو ويعقوب، وتوفي ولهُ من العمر مائة وثمانون سنة.

ويعقوب ابنهُ هو جد اليهود الثالث، ولقبه إسرائيل وإليهِ ينتسب اليهود فيقولون: إسرائيليون، وفي أيامهِ انتقلت أسرتهُ إلى مصر كما سيأتي.

وتزوج يعقوب من ابنتي خالهِ بعد أن أقام في خدمتهِ أربع عشرة سنة، وولد لهُ منهما ومن سُرِّيَّتَيْهِ أحد عشر ابنًا وابنة واحدة وأحد أولادهِ يوسف الذي نقم عليهِ إخوتهُ فباعوهُ من تجار مصريين، وهؤلاء جاءوا بهِ إلى مصر، فكان في خدمة أحد موظفي حكومتها، ثم سجن ظلمًا وعدوانًا، لكنهُ عاد فأُطلق سراحهُ ودخل في خدمة فرعون حيث أصبح ثانيهُ في السلطة، ولهُ حديث طويل مع إخوتهِ ليس هذا محلَّهُ، وأخيرًا أرسل فأتى بأبيه وإخوتهِ إلى مصر فأقطعهم فرعونها جزءًا من الدلتا فاحتلوهُ وأقاموا هناك زمانًا طويلًا في عيش رغيد قائمين على رعاية السائمة والزراعة في بقعة من أخصب بقاع الأرض، لكنَّ الزمان أبى إلا معاندتهم، فقلب لهم ظَهْرَ المِجَنِّ إذ تغيرت الأسرة الحاكمة في مصر، وقام بعدها ملوك كرهوا الإسرائيليين فأذلُّوهم واستعبدوهم وسخروهم في بناء المدن والقصور وأصرُّوا على قرضهم، فأمر فرعون بذبح الذكور من المولودين واستحياءِ الإناث، وفي ذلك العهد وُلِد موسى وتلطفت أمهُ في الحيلة حتى نجا من الموت، واتخذتهُ ابنة فرعون ابنًا لها فربتهُ في قصر أبيها حتى شبَّ فدرس علوم المصريين وحكمتهم وآدابهم حتى حذقها وبرع فيها.٢
١  نقلنا ما تقدَّم عن قاموس الكتاب المقدس للدكتور جورج بوست.
٢  جميع ما تقدَّم منقول عن التوراة باختصار، وليس فيما اكتشف من الآثار المصرية القديمة ما يشير إلى وجود الإسرائيليين في مصر، وحكاية استعبادهم للفراعنة وقيامهم على خدمتهم وتسخيرهم في بناء المدن، على أنَّ ذلك لا ينفي وقوع هذه الحوادث كما نصت عليه التوراة، إذ لا يصح الجزم في أن الباحثين توفقوا إلى اكتشاف جميع الآثار الموجودة، ومثلهُ ما حدث للإسرائيليين مع ملوك بابل وآشور، فقد أنكر بعض المؤرخين بعض ما جاء في التوراة في هذا الشأن، ولكن الاكتشافات الأثرية في أنقاض هاتين المدينتين وخرائبهما ما عتمت أن كشفت الغطاء عن المستور وبيَّنت جليًّا أن المحفوظ من تواريخ هاتين المملكتين في الآجرِّ المنقوش يطابق ما جاء في التوراة مطابقة تامة، وعليه فلا يبعد أن يكتشف في الآثار المصرية ما يجيءُ مثبتًا لرواية التوراة، وعلى كل حال فالمؤرخ مجبر على متابعة ما جاء فيها حتى ينقض بالأدلة الأثرية والتاريخية، وهذا لم يتسنَّ لحد الآن ولا نظنهُ ممكنًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤