الفصل الأول

التشخيص الذي كنتَ تخشاه

لا يمثِّل الأمر مفاجأة إلا نادرًا. فبحلول الوقت الذي تصحب فيه الشخص العزيز لديك إلى الطبيب ليخضعَ للتقييم والاختبارات، عادةً ما تكون بوادر قد ظهرت منذ فترة. من ذلك فواصل تشوُّش أكثر وضوحًا من مجرَّد اضطراب مؤقت أو جدائل مهترئة من الكلام. ربما تكون قد لاحظت أنه لا يبدو على الشخص العزيز عليك أنه يتعرَّف على الأشخاص المألوفين له لأول وهلة، أو أنه يرتبك حين يتعامل مع الأغراض العادية في أرجاء المنزل. ويصاب بالتشوُّش في الأمور الجغرافية؛ فكثيرًا ما يضل طريقه، حتى في الحي الذي يقطن فيه. وإحدى العلامات التحذيرية الأولى يمكن أن تكون أنه فقدَ حاسة الشم لديه. بطبيعة الحال يمكن أن يكون ذلك نتيجةَ أمراض البرد أو الحساسية، لكن إذا استمر فقدُه لحاسة الشم فترةً طويلة، ينبغي أن يطلق ذلك ناقوسًا للخطر. فحاسة الشم ترتبط بوظائف الدماغ بصورة معقدة، وقد أثبتت الدراسات أن مَن يفقدون حاسة الشم يكونون أكثرَ عرضة للإصابة بالخرف.1
وفي بعض الأحيان تكون الأعراض قليلةً للغاية حتى يسقط الشخص المصاب ويعاني إصابةً في رأسه2 أو يتعيَّن عليه أن يخضع للتخدير العام للخضوع لعملية جراحية. يمكن لأيٍّ من هذين الحدثَين إطلاق العَنان للخرف الذي كان قد ظلَّ كامنًا عميقًا بداخل الدماغ. ولا ينتج الخرف دومًا عن الإصابة في الرأس، وإن كانت الإصابات الخطيرة تتسبَّب في الإصابة بالمرض أو التعجيل بها. يمكن للتخدير أن يكشف ما كان كامنًا في الدماغ؛ ففجأةً تظهر أعراض لم تكن موجودة من قبل.3

وقد تتباين أعراض الخرف وتوقيت ظهوره، لكن الخوف الذي ينشأ بداخل أفراد الأسرة لا يتباين. وأكثر استجابتَين شائعتَين من أحباء الشخص المريض نحو البحث عن تشخيصٍ هما الإحساس بالذنب والإنكار. وأولئك الذين اتخذوا خطوات، وحدَّدوا الموعد اللازم، وتلقَّوا التشخيص الذي كانوا يخشونه غالبًا ما ينتهي بهم الأمر إلى الشعور بالذنب؛ لأنهم يظنون أنهم ربما يكونون قد انتظروا طويلًا. يظنون أنهم لو كانوا قد ذهبوا إلى التشخيص في وقتٍ أقرب، لما انتهى الأمر بوالدهم أو قريبهم أو شريك حياتهم تائهًا ظهيرةَ ذلك اليوم على بُعد عدة بنايات، لا يعرف مكانه. أو لربما تمكَّنوا من تفادي تلك الواقعة المثيرة للحرج في المطعم. لا يوجد جانب إيجابي للتفكير بهذا الشكل، ولا أي منطق. لقد فعلت أفضلَ ما بوسعك بالنظر إلى ما كان متاحًا لك من معلومات. والأحداث التي تظنُّ أنه كان يمكن تفاديها ربما كانت ستحدث رغم كل شيء.

إن الخرف مرض غامض. فهو ليس مثل سرطان الخلايا الصبغية، حيث يمكنك رؤية شيء فعلي على الجلد يبدو شكله سيئًا، شيء يمكنك أن تبحث عنه في محرِّك البحث جوجل وتجد له صورًا عادةً ما تجعلك تعرف أنه من الواضح أنك في حاجة للذهاب إلى الطبيب. للخرف أعراضٌ تظهر لكن بعد ذلك يبدو أنها تهدأ وتنحسر، ولدينا جميعًا نزعةٌ للتسويف حين يَلُوح أمامنا شيءٌ يدعو إلى الخوف. غالبًا ما يتطلب الأمر حادثةً مثيرة للخوف مثل أن يضلَّ أحدهم طريقه خارج المنزل من أجل أن يقرِّر أفراد الأسرة أنهم في حاجةٍ لاكتشافِ ما يحدث. وأيًّا ما كانت تلك الحادثة المفاجئة، فالأمر المهم أنك كمقدِّم للرعاية قد حدَّدت موعدًا ووافقت على إجراء الفحوصات المناسبة.

وغالبًا ما يتخذ الإنكار شكل: «لماذا أصحب الشخص العزيز لديَّ من أجل إجراء الفحوصات؟ أعلم ماهيةَ الأمر، ولا يوجد علاج على أي حال.» لكن ما يبدو أحيانًا أنه خرف لا يكون كذلك؛ ولهذا من المهم أن تحصل على تشخيص. فيمكن لحالاتٍ أخرى أن تحاكي الخرف؛ حالات معينة من أمراض الغدة الدرقية، أو انقطاع النفَس أثناء النوم، أو نقص فيتامين ب-١٢. يوجد أيضًا الخرف الزائف، الذي هو من أعراض الاكتئاب. لذا فأنت لست بالضرورة تعرف ما يسبِّب الأعراض.

في إحدى المرات أتى شخصٌ جديدٌ إلى مجموعة الدعم وأخبرنا أن طبيب الأسرة شخَّص إصابة أحد والدَيْه بداء ألزهايمر. لكن شيئًا في وصف الأعراض أثار شكوك المُيسِّر المشارك معي. فبصفته اختصاصي أمراضٍ نفسيةٍ وعصبية، كانت لديه بطبيعة الحال معرفةٌ طبيةٌ لم أكن أملِكها. فطرح عليه عدةَ أسئلةٍ ثم اقترح عليه أن قد تكون هذه حالة من حالات الديدان الشريطية التي تحرَّكت حتى وصلت إلى داخل الدماغ (داء الكيسات المذنَّبة العصبية). وحين فحص طبيب الأمراض العصبية المريض، تبيَّن أن الأعراض في الواقع هي أعراض داء الكيسات المذنَّبة العصبية. لذا، دون فحص شامل ودقيق، وربما حتى استشارة أخرى في بعض الحالات، لا يمكنك أن تعرف، على وجه الدقَّة، ما الخَطْب الذي أصاب الشخص العزيز عليك.

•••

ولو أننا استبعدنا كل شيء آخر وكان التشخيص أنه الخرف، أظن أن من المهم أن يكون الطبيب هو مَن يخبر المريض. في معظم الأحيان، سيبادر الطبيب ويخبر المريض أنه مصاب بالخرف. لكن في بعض الأحيان سيخبر الطبيب فردًا من الأسرة يتمتع بالوكالة القانونية الطبية، ثم يترك الأمر في يد ذلك الفرد ليُمرر تلك الأخبار المحزِنة إلى المريض. ولربما يشعر الطبيب أن من الأفضل أن يتلقى المريض الأخبارَ من فرد من أسرته. لكن، يميل الجميع إلى إلقاء اللوم على حامل الأخبار. لذا من الأفضل على المدى الطويل أن يكون المريض غاضبًا من الطبيب وليس من فرد من أفراد أسرته سيكون هو مقدِّم الرعاية. أيضًا يضع نقلُ هذه الأخبار قدرًا هائلًا من الضغط على فرد الأسرة. كان شخصان في مجموعة الدعم لديَّ يحملان عبء هذه المهمة، وبدا من غير العادل، مع كلِّ ما كانا يمران به، أن يتحتَّم عليهما تحمل هذه المسئولية أيضًا.

مررت أنا شخصيًّا بموقف مشابه لهذا. فقد شُخِّصَت حالة أبي بداء ألزهايمر قبل أشهر عديدة من معرفته بذلك. في واقع الأمر لا ألوم الطبيب؛ لأني أعتقد أن هذا كان نتيجةَ توجيهات من أمي. على أي حال، حسبما فهمت، أن والدي بعد أن سقط من فوق صهوة حصان سنة ١٩٨٩ وأصيب بجرح في رأسه تطلَّب تدخلًا جراحيًّا، ظهرت بعض النتائج المثيرة للريبة حين أُجري التصوير بالرنين المغناطيسي. بعد ذلك نال دماغه اهتمامًا أكبرَ في الفحوصات الطبية الدورية السنوية.

ولا يسعني أن أتذكَّر على وجه التحديد متى اتُّخِذ هذا التشخيص، لكن أمي أخبرت أخي رون، الذي أخبرني بدوره بعدها لكنه جعلني أقسم على أن أتكتَّم الأمر. وأوضح أن أبي لم يعرف بعد. وأنا أنحدر من أسرةٍ الأسرار فيها كثيرة للغاية. وأي شخص لديه ديناميكية مماثلة في أسرته سيعي حين أقول إنه أمر منهك. فالأسرار ثقيلة؛ إنها تقبع على صدرك فتحبس أنفاسك ولا تسمح لك بمساحة لتقييمِ ما يحدث بالفعل. وحينما أسمع أن أسرة من الأسر تخفي تشخيص عزيز عليها، أفكِّر في العبء الزائد الذي يضيفونه إلى موقفٍ هو شاق ومضنٍ أصلًا.

الأسر كيانات معقدة. لا شك في أن أسرتي كانت كذلك، وقد وجَّهت النصح والإرشاد إلى ما يكفي من الناس لأتمكن من أن أقول بكل ثقة إن ثمة الكثير من الأسر في خانة الأسر المعقَّدة والعسيرة. وأنا واثقة من أن أمي شعرت أنها كانت تفعل الصواب؛ وواثقة من أن الآخرين يشعرون بأن من الصائب أن نخفي هذه المعلومة الحيوية، على الأقل لبعض الوقت. كل ما في الأمر أنني أختلف مع ذلك.

إليك المشكلة حيال الأمر: يعرف الناس حين يكون ثمَّة خطْب أو عطب في عقولهم. يعرفون أنهم ينسَوْن أشياء؛ يعرفون أنه يجب ألَّا يبدو المكان الذي هم فيه غريبًا عليهم، ومع ذلك يبدو لهم كذلك. وإن لم يُقدَّم لهم تفسيرٌ وافٍ للأعراض التي لديهم، فإن مشاعر الخوف لديهم تتفشى في كل الاتجاهات. أعتقد أن الناس يستحقون احترامَ أن يكونوا على دراية كاملة بما بهم من خَطْب. هذا قرار فردي بطبيعة الحال، وقد يختلف البعض معي بشدةٍ ويرَوْن أن الجهل بذلك أفضل، وأن الوقت المناسب للإفصاح سيأتي من تلقاء نفسه. ولكني أود التنويه إلى أنه لو كان أي مرض آخر غير الخرف لما طُرِحَت هذه المسألة. فلا أظن أن طبيبًا سينقل تشخيص إصابة مريض بالسرطان إلى أحد أفراد أسرته ويخبره: «أخبره أنت بنفسك.» ولا أظن أن أفراد الأسرة سيُقرِّرون حَجْب المعلومات عن المريض حول تشخيص الإصابة بالسرطان.

التشخيص المبدئي الشائع هو قصور إدراكي بسيط، وهو في عموم الأمر تمهيد للإصابة بالخرف، وذلك حين تكون أعراض الاضطراب وفقدان الذاكرة ملحوظة لكنها ليست في غاية السوء. وقد لاحظت في مجموعة الدعم الخاصة بي أن كثيرين ممن يتلقَّوْن تشخيصًا بإصابة أحبائهم بالقصور الإدراكي البسيط لم يُطلعهم أطباؤهم على الصورة كاملة. لم يخبرهم الأطباء أن من المرجَّح أن الأمور ستتطور إلى الإصابة بالخرف بشكلٍ ما؛ ومن ثَمَّ كان هؤلاء يشعرون بالارتياح لأن أحباءهم مصابون بقصورٍ إدراكي بسيط، وافترضوا أن هذا هو التشخيص النهائي. وفي حين ظلَّ بعض الناس عند هذه المرحلة ولم تزدَد حالتهم سوءًا، فإن الأمر لا يسير في أغلب الأحيان على هذا المنوال. فحين تزداد الحالة سوءًا، غالبًا ما يُعزى ذلك إلى أن الفرد طاعن في السن ويفارق الحياة قبل أن يصاب بالخرف.

إن القصور الإدراكي البسيط يُعدُّ ناقوس خطر. فهو يعني أن عليك أن تكون يقظًا وحذِرًا في ملاحظةِ ما إن كانت الأعراض تزداد سوءًا، ثم تُتْبِع ذلك بفحصٍ تشخيصيٍّ شاملٍ لتحديد نوع الخرف المصاب به الشخص العزيز عليك. وتحديد نوع الخرف أمرٌ غاية في الأهمية. فحين بدأتُ مجموعة الدعم، اندهشت حين أتاني أناس يسألون عن الفارق بين داء ألزهايمر والخرف. أو حين كانوا يقولون إن أحد والديهم مصاب بألزهايمر وليس الخرف. وسرعان ما أدركت أن الأطباء لا يستغرقون الوقت الكافي دائمًا ليشرحوا التشخيص بصورة كاملة أو ليقدِّموا له سياقًا.

باتخاذي قرارَ تنظيم مجموعة «الجانب الآخر من داء ألزهايمر» في مستشفًى، تعلَّمت الكثير بشأن كيفية سيرِ الأمور في المجال الطبي؛ بعض ذلك جيد والبعض الآخر ليس كذلك. وثمة الكثير من الأطباء الرائعين الرءوفين الذين يهتمون بمرضاهم ويقضون معهم ما يكفي من وقت. وكما رأينا خلال جائحة فيروس كورونا، ثمة أبطال من الاختصاصيين الطبيين الذين يجازفون بصحتهم لمساعدة المرضى. وقد عمِلت في مجموعة الدعم الخاصة بي مع أطباء متفانين يهتمون كثيرًا بشئون مرضاهم، لكن ما يدعو إلى الأسى أنه يوجد أيضًا أطباء ومديرو مستشفيات ينظرون إلى الطب باعتباره عملًا تجاريًّا، ويبدو أنهم نسوا أنهم يتعاملون مع بشرٍ في أضعف مراحل حياتهم. وسأكون مقصِّرة إذا لم أتناول بعض السلوكيات في المجتمع الطبي تجاه الخرف، الذي هو مرض لا علاج له يؤثِّر في الغالب على كبار السن.

وبعد أن استمرت مجموعة «الجانب الآخر من داء ألزهايمر» في العمل بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس طيلةَ خمس سنوات، طرأ تغيير على أعلى المستويات الإدارية جعلني أدرك بوضوح أن مجموعةَ الدعم ستتوقف. وقد كافحت من أجل أن أبقيَها هناك، لكن الطبيب صاحب السلطة المطلقة هناك لم يكن يرغب حتى في لقائي. في نهاية المطاف وافق على أن يحادثَني هاتفيًّا، وخلال تلك المكالمة قال شيئًا لن أنساه أبدًا: «داء ألزهايمر هو أقلُّ مجالات الطب جلبًا للربح.» إنه قول يعدُّ قاسيًا وصادمًا، لكني للأسف لا أظن أنه وحده مَن يتناول الأمر من ذلك المنظور. في تلك اللحظة اتخذت قراري بأن أنقل مجموعة الدعم إلى مستشفًى آخر قبل أن يتمكَّن من إيقافها؛ لأنني ما كنت لأسمح له بأن يكون صاحب الكلمة الأخيرة. فنقلتُ المجموعة إلى مركز سانت جونز الطبي وكانت تجربتي مع الأطباء هناك أكثرَ إيجابيَّةً بكثير، لكن ذلك التعليق القاسي بشأن الربحية من داء ألزهايمر ظلَّ يلازمني، وعلى الأرجح لن يفارقني أبدًا.

كان من الواضح وضوحَ الشمس أن على مقدمي الرعاية وأفراد الأسرِ أن يذهبوا إلى عيادة الطبيب مسلَّحين بالمعلومات، في حال كان طبيبك من الذين لا يولونك من الوقت والاهتمام ما تستحق. ربما تفكِّر في الذهاب إلى طبيب آخرَ إذا ما حدث هذا، أو على الأقل تبحث عن مصادرَ أخرى للمعلومات.

ذكرتُ آنفًا أن الخرف فئةٌ من فئات الأمراض وأن داء ألزهايمر أحد أنواعه. ثمة أنواع أخرى، ولكلٍّ منها خصائصه. داء ألزهايمر أكثرها شيوعًا لكن لا يُجزم بتشخيصه إلا بعد استبعاد الاحتمالات الأخرى. وتحديد نوع الخرف الذي يعانيه الشخص مهم؛ لأنه يخبرك بما عليك أن تتوقَّعه. وحين يتعلق الأمر بالطريقة التي سيتكشَّف بها المرض، نجد أن الأفراد يختلفون فيما بينهم في ذلك. يُقال إنك إذا رأيت شخصًا مصابًا بداء ألزهايمر، فإنك قد رأيت حالة فردية لا تتكرر. لكن ثمة علامات وأنماطًا قابلة للتنبؤ بها تخصُّ كل نوعٍ من أنواع الخرف. أنا لست طبيبة، ولكن حيث إنَّ هذا الكتاب يركِّز بصورةٍ أساسيةٍ على داء ألزهايمر، فإنني أقدِّم منظور الإنسان العادي لأنواع الخرف الأخرى، مع تفاصيلَ إضافيةٍ حول داء ألزهايمر المبكر والخرف الجبهي الصدغي، اللذين يهاجم كلاهما المرضى في سنٍّ مبكِّرة ولا يحظيان بنفس القَدْر من الاهتمام الذي يحظى به داء ألزهايمر.

الخرف الوعائي

يحدث الخرف الوعائي عامةً نتيجة سكتةٍ دماغية، أو نَوْبَة إِقْفارِيَّة عابِرَة حين يتباطأ تدفُّق الدم إلى الدماغ أو يتقطَّع. ويمكن أيضًا أن ينشأ بمرور الوقت من حالات مرضية أخرى تؤثِّر على تدفق الدم إلى الدماغ. وعادةً ما تكون الإصابة به فجائيةً وحادة، لكنه بعد ذلك يستمر بطريقةٍ تتابعية، الأمر الذي يختلف عن داء ألزهايمر. وأثناء المراحل الانتقالية، يمكن أن تستقر حالة الشخص نوعًا ما، حتى يحدُث تدهور آخر تسوء بسببه حالته. ويُشَخَّص الخرف الوعائي بالتصوير بالرنين المغناطيسي.

خرفُ أجسام ليوي

يعدُّ خرفُ أجسام ليوي من أنواع الخرف العنيفة. قد يتذكَّر كثيرون أن الممثل روبن ويليامز كان مصابًا به، وإن كنا نعرف الآن أن تشخيص حالته لم يتم إلا بعد إجراء تشريح لجثته بعدما انتحر. ويورد الفيلم الوثائقي «أمنية روبن» (روبنز ويش) تفاصيلَ شهور الاكتئاب واليأس التي عاشها ويليام وزوجته بينما لم تكشف فحوصات الدماغ التي أجراها عن أي شيء، لكن روبن كان يعرف أن ثمَّة خَطبًا خطيرًا. كان يشعر بفقدان تدريجي لقدراته المعرفية والجسدية. يقول الدكتور بروس ميلر، وهو طبيب أعصاب سلوكي يُدير مركز أمراض الخرف في جامعة كاليفورنيا بسان فرانسيسكو والذي ظهر في الفيلم الوثائقي، إن خرف أجسام ليوي «يصبح بالتدريج غيرَ قابل للعلاج، ولا يمكن إيقافه، ودائمًا ما يكون فتاكًا.»4

هذا المرض، بتعبيرٍ بسيط جدًّا، هو مزيجٌ بين داء باركنسون والخرف، إلا أنه أكثرُ تعقيدًا. تتعلَّق رواسب البروتين التي يُطلق عليها أجسام ليوي في الخلايا العصبية في الدماغ المسئولة عن الحركة والذاكرة والتفكير. وعادةً ما تكون العلامات الأولى على ذلك هي أعراض الشلل الرعَّاش؛ الارتعاش ومشاكل الاتزان. تبدأ الذاكرة في الاضمحلال، لكن الأمر أشبه بركوب قطار الملاهي الأفعواني. فبعض الأيام قد تكون جيدة إلى حدٍّ كبير، ثم تليها أيام كالجحيم حرفيًّا. وعادةً ما تكون اضطرابات الهلوسة جزءًا من خرف أجسام ليوي؛ ولسببٍ ما، كثيرًا ما تكون عن الحيوانات. ويمكن أيضًا أن تحدُث هلاوس سمعية. كان للعديد من الأشخاص في مجموعة الدعم الخاصة بي أحباءُ شُخِّصَت حالتهم بخرف أجسام ليوي، والقصص التي كانوا يروونها كانت تفطر الفؤاد. كانت الهلاوس تصبح مروِّعةً ولا يمكن فِعل أي شيء بشأنها. كلُّ ما كان بمقدور مقدِّمي الرعاية فعله هو تحمُّل الصراخ، وفي كثير من الأحيان، الهستيريا حتى تأتيَ عليهم فترة استرخاء قصيرة وتنتهي الهلاوس.

والتشخيص في هذه الحالة يكون أكثر تعقيدًا بعض الشيء، وقد يشتمل على تحاليل دم للمؤشرات الحيوية. والاختبارات المعرفية جزءٌ مهم من التشخيص. وبسبب عنف هذا المرض، من الضروري جدًّا الخروج بتشخيص دقيق، وإن كان غالبًا ما يكون من الصعب تحقيق ذلك، كما تبرهن من حالة روبن ويليامز. إن رعاية شخصٍ مصاب بخرف أجسام ليوي أمرٌ مختلِف بسبب الأعراض الجسدية. ويتعين توجيهُ الكثير من التفكير إلى مسألة مَن سيضطلع بدور مقدِّم الرعاية.

ذات مساء أتى شخصٌ جديدٌ إلى مجموعة الدعم ووصف حالةَ والده التي كانت قد شُخِّصَت بأنها داء ألزهايمر، ولم يكن التشخيص من طبيب أعصاب وإنما — كما هو الحال غالبًا — من طبيب الأسرة. وكان قد وُصِف له عقار أريسبت أملًا في إبطاء تقدُّم المرض. وهذا العقار ليس علاجًا بأي شكل من الأشكال، لكنه أحد الأدوية القليلة التي يمكن للأطباء وصفها؛ لذا فأنا أتفهَّم لماذا يصفونه. لكن مما كان يُقال، لم نعتقد أنا والمُيسر المشارك معي أن ذلك الشخص كان مصابًا بداء ألزهايمر. فقد بدا، من الأعراض، أنه مصاب بخرف أجسام ليوي، ولا يُوصى بتناول أريسبت لهذا المرض. فحثثنا ذلك العضو الجديد على الحصول على رأي طبي آخر. وكشف الفحص الثاني، الذي أُجري على يد طبيب أعصاب، أن الحالة في واقع الأمر كانت خرف أجسام ليوي.

دائمًا ما يكون التشخيص الدقيق مهمًّا، لكن في حالة خرف أجسام ليوي يكون ضروريًّا بصورة خاصة، وذلك حتى لا يُوصف للمريض أدوية متعارضة، وحتى يتسنى لمقدِّمي الرعاية الانتباه إلى الأعراض الجسدية المماثلة لداء باركنسون التي تصاحب هذا النوع من الخرف.

داء كروتسفيلت-ياكوب

هو من أمراض الدماغ الانتكاسية القاتلة والنادرة للغاية، لكنني أدرجه هنا لأنه يؤدِّي إلى الإصابة بداء ألزهايمر؛ ولأنه أُطلِقَت عليه تسمية «النسخة النشطة من داء ألزهايمر». ففي غضون أشهر قليلة، تتدهور الأعراض، التي يغلب عليها الخرف، والتغيُّرات السلوكية وفقدان البصر وسوء التواصل. ويمكن أن ينتهيَ المطاف بالمرضى إلى الدخول في غيبوبة. وغالبًا ما يؤدي إلى الوفاة في غضون عام واحد. خلال ست سنوات من إدارة مجموعة الدعم الخاصة بي، لم يأتني قَط أحدٌ ممن أصيب عزيز له بداء كروتسفيلت-ياكوب، لكنني التقيت خارج المجموعة بشخصَين توفِّي شريكُ حياة كلٍّ منهما من جرَّائه. بالكاد تسنَّى لهما وقت ليستفيقا من صدمة سماعهما للتشخيص حتى تُوفِّي شريك حياة كلٍّ منهما؛ هذا مثالٌ على السرعة التي يتفاقم بها المرض.

داء ألزهايمر المبكِّر

بعد مرور فترة، كنت أعرف نظرة قريب المريض بمجرد أن أراها. يأتي شخص جديد إلى مجموعة الدعم يملؤه حزنٌ عميق كبئر بلا قرار. عادةً ما يكون هذا الشخص دفاعيًّا، وكأنه سيتحدى جهود أي شخص يحاول أن يخفِّف ألمه. ويكون حَدْسي أن حالة شريك حياته كانت قد شُخِّصَت بأنها داء ألزهايمر المبكِّر. كنت أتمنى لو كنت مخطئةً في ذلك؛ لأن القصص تفطر الفؤاد. لكني لم يجانبني الصوابُ في ذلك قط.

نحن نتوقَّع أن نفقد آباءنا في مرحلةٍ ما. فتلك هي الطريقة التي من المفترض أن تدور بها عجلة الحياة. ومع أن تشخيص الإصابة بالخرف مدمِّر ووخيم، فإنه لا يزال ضمن إطار الكيفية التي يفترض أن تمضيَ بها الحياة؛ رحيل جيل أكبر سنًّا، الأمر الذي يفسح المجال أمام الجيل التالي للتقدم بطرائقَ لم تكن من قبل في مقدورهم. نحن نركع إلى جوار الأطفال ونخبرهم أن الجَد أو الجَدة مصاب بمرض سيجعله يتصرَّف بطريقةٍ مختلفة، وليس له علاج. وأن المرض سيزداد سوءًا. نفعل ذلك ونحن نعرف أننا بذلك نعلِّمهم أحدَ أكثر دروس الحياة كآبة وحتمية؛ أن أسباب الموت متعددة، وكل ما يمكننا فعله هو تقبُّله ومعرفة أنه جزءٌ من دورة حياة كل إنسان.

لكن كيف تفسِّر لطفلٍ أن أحد أبوَيه — اللذين لا يزالان يافعين، ربما حتى في أوائل الخمسينيات من عمرهما — مصاب بمرضٍ عادةً ما يُصابُ به كبار السن؟ كيف تمنع الأطفال من الشعور بأنهم تلقَّوا خيانةً من الحياة أو القدَر، في حين أنك أنت تشعر بالخيانة والارتباك؟ كان لديكما خطط للمستقبل. كانت ثمة بلدان أردتما أن تزوراها، وفصول في حياة أطفالكما تخيَّلتماها وتهامستما بها فيما بينكما في أوقاتٍ متأخرة من الليل. كل ذلك يُسلَبُ منك.

أخبرني رجل شُخِّصَت حالة زوجته بداء ألزهايمر المبكِّر حين كانت قد بدأت بالكاد العَقد السادس من عمرها، أنه شعر بالقلق من أن ابنته التي كانت في الحادية عشرة من عمرها حين بدأت الأعراض تظهر على أمها، ستنسى كيف كانت أمها ولن تتذكَّرها إلا وهي ترزح تحت وطأة مرض كان يجعلها غريبة عنها. تمنيت لو كان بإمكاني تقديم شيء له يزيل عنه مشاعر العجز التي شعر بها، لكن من المؤسف أن العجز جزءٌ من داء ألزهايمر، وحين يكون مبكِّرًا، يكون أشدَّ وطأة.

تحكي إحدى القصص الشهيرة إلى حدٍّ كبير قصةَ عائلة كبيرة من مدينة ميديلين في دولة كولومبيا دمَّر نوعٌ من داء ألزهايمر المبكِّر أجيالًا منها؛ إذ كان دائمًا ما يصيب أفرادها في منتصف الأربعينيات من عمرهم.5 وهذه العائلة ممتدة ومنتشرة ويبلغ عدد أفرادها نحو ستة آلاف فرد، ويعود تاريخهم مع داء ألزهايمر المبكِّر إلى قرون مضت. أطلقت تلك العائلة على المرض تسميةَ La Bobera6 التي تُتَرجَم إلى «الجنون»، وفي بداية الأمر نسبوه إلى أسبابٍ خرافية.

حين أُجريَت عليهم الدراسات، اكتُشِف أن لديهم طفرة وراثية كانت، على عكس الطفرات الأخرى، متوغِّلة على نحوٍ غير عادي، بحيث كان مُقَدَّرًا لمن يحملونها أن يصابوا بهذا النوع من الخرف. في واقع الأمر، كانت احتمالات إصابتهم بتلك الطفرة تبلغ نحو تسعة وتسعين بالمائة. ويعتقد الباحثون أن الغزاة الإسبان الذين ارتحلوا إلى العالم الجديد في القرن السادس عشر؛ كانوا يحملون هذا الجين وكانوا نقطة البدء لأجيالٍ من هذا المرض. وتُجرى دراسات على أفراد العائلة ممن تكون نتائج فحوصات هذا الجين لديهم إيجابية من أجل البحث عن علاجات أو أدوية محتملة. وحيث إنه معروف مسبقًا أنهم سيصابون بداء ألزهايمر المبكِّر، يُشَكِّل أولئك الأفراد مصادرَ بحثية قيِّمة.

هذا تحوُّل جيني استثنائي. لكن الأشخاص الذين يتعاملون مع داء ألزهايمر المبكِّر في أسرهم، غالبًا ما يذكرون هذه القصةَ كدليلٍ على ضرورة خوفهم من وراثة المرض، وتمريره إلى أطفالهم وأحفادهم. وأعرف أشخاصًا اصطحبوا أطفالهم المراهقين ليخضعوا للفحص الجيني ليرَوْا إن كانوا يحملون أيَّ نوعٍ من أنواع العلامات الوراثية التي من شأنها أن تعرِّضهم لخطر الإصابة بهذا المرض. ومنطقهم في ذلك في نهاية المطاف هو هذه القصة عن تلك العائلة في كولومبيا.

من طبيعة البشر قراءة القصص بطريقة انتقائية؛ فنحن نركِّز إما على ما نريد سماعه وإما على الأشياء التي تتماشى مع مخاوفنا. ومن الواضح في كل الروايات لقصة تلك العائلة التي من مدينة ميديلين أن الطفرة الجينية لدى أفرادها فريدة من نوعها؛ لذا فهي حقًّا لا علاقة لها بأنواع داء ألزهايمر المبكِّر الأخرى. فما هي الخطة في حالة المراهقين اليافعين الذين يخضعون للفحص؟ يقترن جين APOE (صميم البروتين الشحمي E) بوجود خطرٍ مرتفع للإصابة بداء ألزهايمر، لكن يُعتقد أن نوعًا واحدًا فقط منه (APOE e4) هو الذي يمكن أن يزيد من خطر الإصابة. كل إنسان يحمل اثنين من الجين السابق ذكره؛ لكن لا يحمل الجميع النوعَ الذي يبدو أنه أحد عوامل خطر الإصابة بالخرف. وحملُ هذا الجين ليس ضمانًا على أن حامله سيصاب بالمرض. لذا إذا كانت نتائج فحوصات أولئك الأطفال إيجابية لهذا الجين بالتحديد، فهل سنخبرهم بأنهم قد يصابون بداء ألزهايمر؟ سيكون في غاية القسوة أن تلقي تلك الجملة على مسامعِ شخصٍ لم يبلغ سنَّ الرشد بعد.

عادةً ما يبرز سؤال «لماذا حدث هذا؟» مع كل الروايات عن الخرف، لكنه أكثر شيوعًا حين يُصاب شخص يافع بمرضٍ يقترن بكبار السن. نعرف أنه سؤال بلا إجابة؛ ومع ذلك، يظلُّ السؤال باقيًا، ولا ينصرف عن الذهن. في بعض الحالات، إن كان ثمة تاريخ يمتد لأجيال في الأسرة لداء ألزهايمر المبكِّر، فمن الممكن أن نلقي باللائمة على رابطة جينية، لكن جينات داء ألزهايمر مجال غامض للغاية. وإيجاد شيء نلقي باللائمة عليه لا يخفِّف من الصدمة ولا يوقِف سيل الحزن.

إنَّ تحمُّل فقْدِ شريك الحياة بسبب الخرف حين يكون في ريعان الشباب هو أمرٌ، بلا شك، مُفْجِع. لكن ذلك سببٌ أقوى لمحاولة تحقيقِ ما يبدو مستحيلًا؛ وهو إبقاء الخوف تحت السيطرة. إن من الموجع جدًّا أن نشهد شخصًا في ريعان شبابه يكافح من أجل أن يتذكَّر الأشياء، ويبحث عن الكلمات، ويُضنيه الارتباك. وإن كان شخصًا تحبه وبنيت حياةً معه، فستكافح أنت أيضًا لتتذكَّر كيف كان ذلك الشخص يومًا ما. فأنت لا ترغب في أن تتلاشى تلك الذكريات، لكن الشخص الذي أمامك الآن، والذي لا يعرف كيف يُزَرِّر أزرارَ قميصه، يطرد تلك الذكريات. والسبيل الوحيد لتجاوز تلك التجربة هو بمواجهتها. لا توجد طرقٌ مختصرة، ولا تركيبة سحرية للتسامي فوق مشاعر الفقد والخسارة. طوق النجاة الوحيد الذي تستمسك به هو حبُّك للشخص الذي اخترت أن تقضي بقية حياتك معه.

الخرف الجبهي الصدغي

تعود فتاة في التاسعة عشرة من عمرها بعد إتمام عامها الجامعي الثاني في الكلية إلى المنزل لقضاء فترة الإجازة، وتشاهد في هلعٍ والدها وهو يتلفَّظ بتعليقاتٍ غير لائقة وخليعة لأي أنثى يراها. وعلى فترات متقطِّعة، ينفجر في نبوات غضب ثم ينغمس بعدَها في حالة من اللامبالاة وعدم الاكتراث تجاه كل من حوله. من الواضح بصورة مؤلمة أنه يفتقر إلى التعاطف مع أي أحد، حتى أسرته. لم ترغب أمُّها في أن تخبرها عبر الهاتف، خاصةً وأن التشخيص لم يكن متوقَّعًا بالمرة وتطلَّب بعض الوقت وإنهاء الكثير من الفحوصات. تسمع الفتاة أمَّها تقول: «الخرف الجبهي الصدغي.» لكن كلمة «الخرف» هي التي تصدمها. فوالدها في العَقد السادس من عمره. كيف يمكن لهذا أن يكون حقيقيًّا؟

لن يراها والدها وهي تتخرَّج في الكلية، ولن يسيرَ بها على ممشى الكنيسة حين تتزوج، ولن يلتقيَ بأحفاده. تلاشت فصولٌ كاملة من المستقبل ظنَّت أنهما سيتشاركانها معًا، واختفت مع تشخيص الإصابة بالخرف الجبهي الصدغي.

تطلب امرأة، هي أم لثلاثة أطفال صغار جدًّا وتحمل الرابع في أحشائها، من زوجها أن يرعى الأطفال بينما تُنجِز بعضَ المهام. حين تعود، تجد اثنين من الأطفال يلعبان بالخارج، دون رقيب، بجوار طريق مزدحم. زوجها موجود داخل المنزل يشاهد التلفاز في غفلة وعدم اكتراث. وعلى مدار الشهور القليلة التالية يزداد عدم اكتراثه. لا يبدو أنه يعبأ بأيٍّ منهم. يبدأ في تناول الطعام بنهم، ليس بدافع الجوع، لكن بفعلِ دافعٍ قهري لا يُقاوم، يدفعه لأن يضع أيَّ شيء تقريبًا في فمه. تحبس المرأة عنه الطعام، إلا أنه يذهب إلى المتجر ويشتري المزيد. توقف بطاقاته الائتمانية، فيذهب إلى المتجر ويسرق الطعام. يُطرد الرجل من عمله لأنه تلفَّظ بتعليقات بذيئة لزميلةٍ له.

وردت هذه القصة الثانية عن الخرف الجبهي الصدغي في مقطعٍ من برنامج «٦٠ دقيقة» بعنوان «أقسى الأمراض الذي لم تسمع به من قبل».7 تطرَّق المقطع إلى حياة آيمي ومارك جونسون وكابوس امرأة شابة أصبح زوجها أبعدَ ما يكون عن الرجل الذي أحبَّته، والذي يتحتَّم أن يودَع في مصحةٍ علاجية. في تلك المنشأة يتناول الرجل الطعام باستمرار ويزداد في الوزن بمئات الباوندات، ويريد من زوجته وأولاده أن ينصرفوا عنه بعد بضع دقائق من وصولهم لزيارته. هذا الرجل في أوائل الأربعينيات من عمره. وهذه المنشأة تُكَلِّف ثلاثة عشر ألف دولار شهريًّا؛ إن مدَّخرات حياتهم تتبدد. لا يمكنني أن أقول إنها تفقد الأمل؛ لأنه لم يكن لديها أيُّ أمل أصلًا.
وقد شارك الدكتور بروس ميلر، الذي قام بعمل بحثي مكثَّف مع داء الخرف الجبهي الصدغي، في ذلك المقطع من برنامج «٦٠ دقيقة». وقال عن المرض: «إنه يهاجم الأشخاص في إنسانيتهم ذاتها.»8

هذا المرض يهاجم الأسرة كلها، أيضًا، وهو ما ينطبق بالطبع على أي نوع من أنواع مرض الخرف. لكن لأن الخرف الجبهي الصدغي يباغت الشخص في سن صغيرة نسبيًّا، فإنه يجبر الأطفال الصغار على النضوج بسرعة وإدراك ظلم الحياة في سنواتهم الغضة، بينما لا يزالون يعتقدون في وجود بابا نويل.

•••

ثمَّة ثلاثة أشكال مختلفة من الخرف الجبهي الصدغي، أحدها سلوكي والاثنان الآخران لغويان؛ أحدهما متعلق بالكلام والآخر بالمدلول. والنوع السلوكي هو الأكثر انتشارًا وشيوعًا. وكما هو الحال مع آيمي ومارك جونسون، قد يشاهد الأطفال بعجزٍ وهم في سن صغيرة جدًّا أحدَ والديهم يفقد الشغف فيهم وفي الحياة نفسها على ما يبدو، ثم يشاهدون سلوكَ هذا الوالد يُصبح انفعاليًّا، وفي غير محلِّه، ومحرجًا. على سبيل المثال، قد يسير الأشخاص المصابون بالخرف السلوكي نحو طاولة أخرى في أحد المطاعم، ويستولون على طعام شخصٍ غريب، أو يسرقون أشياء من المحلات. وقد يكون تعاملهم مع الآخرين، حتى المارة، غيرَ لائق بشكل فظيع.

وفي الشكل الذي يؤثِّر على الكلام واللغة، يتأثَّر الجانب الأيسر من الفص الجبهي، وهو المسئول عن تسمية الأشياء ونطق الكلمات. لذا تنشأ لدى الشخص صعوبةٌ في التواصل إلى جانب القراءة والكتابة. وفي الشكل الخاص بالمدلول، وهو نوع فرعي يرتبط في الغالب بالفصوص الصدغية، يحدُث فقدان معرفة الكلمات.

وخلافًا لما يحدُث في حالة داء ألزهايمر، لا تتأثر الذاكرة جدًّا في المراحل الأولى من الخرف الجبهي الصدغي. فعلى الأقل في المراحل الأولى من داء ألزهايمر، يكون لدى الناس وعي بما يفقدونه، وبما يتداعى بداخلهم. هذا ليس الحال في داء الخرف الجبهي الصدغي. فمع هذا النوع من الخرف، لا يدرك الناس تصرفاتهم.

حين بدأت مجموعة الدعم «الجانب الآخر من داء ألزهايمر»، كنت أعرف بشأن الخرف الجبهي الصدغي، لكنني لم أكن قد قابلت أحدًا من قبل يعانيه مع أحد أحبائه. وفي المرة الأولى التي أتى فيها أحدهم إلى مجموعة الدعم وبدأ الحديث عن السلوك، ثقَّفت نفسي بشأن هذا المرض، لكن راودني شعور بعدم الجدوى لم يكن منه مفرٌّ. وبقدرِ ما أعتقد، في كافة الأحوال، لا يمكن أن تكون روح ذلك الشخص معتلَّة، وكدت أشعر بالابتذال وأنا أقول هذا لشخص ينهار أحد والديه أو شريك حياته أمام ناظريه. تعين عليَّ أن أذكِّر نفسي أن من المهم أن يشعر الشخص بأنه يوجد مَن يستمع إليه، وأنه لعل الشخص الذي أمامي ويصف مواقفَ لا تُحتمل من الغضب والتقلُّب؛ سيجد المساعدة بمجرد وجود مجموعة من الناس الذين يستمعون له طواعيةً وعن طيب خاطر. لا أعني بذلك أننا لم نحاول أن نقدِّم بعض الاقتراحات، فقد فعلنا، لكن الخرف الجبهي الصدغي يطرح مجموعةً من التحديات والصعوبات التي تختلف عن تلك التي يطرحها داء ألزهايمر.

في أغلب الأحيان، يكون الحصول على تشخيصٍ دقيق في غاية الصعوبة. ولأن الخرف الجبهي الصدغي يهاجم الناس في سن الشباب، تكون الشكوك الأولى أن الفرد ربما يعاني اضطرابًا نفسيًّا في الشخصية. لا يضع الأطباء الخرفَ في الاعتبار في بداية الأمر. وقد يستغرق أمر الحصول على تشخيصٍ دقيقٍ وقتًا طويلًا؛ فيمكن حتى أن يستغرق ذلك أعوامًا. وفي بعض الحالات قد يتَّخذ الأشخاص المصابون بالخرف الجبهي الصدغي قراراتٍ مالية لا يمكن الرجوع فيها؛ ويُلقى القبض على بعضهم لاتباعهم سلوكيات معادية للمجتمع تنتهك الحدود وتخرق القانون. وتتحول بيئة المنزل إلى كابوس. وحتى نوع الخرف الجبهي الصدغي الذي يؤثر على الكلام يقلب الحياة المعتادة رأسًا على عقب. إذ لا يستطيع المرء إيجادَ الكلمات المناسبة التي يحتاج إليها للتعبير عن نفسه، ولا يستطيع أن يكوِّن جملًا. يُصبح التواصل بالنسبة إلى مقدِّم الرعاية لعبةً من ألعاب التخمين. لذا فالحصول على تشخيص دقيق بأسرع وأبكر ما يمكن هو أمر بالغ الأهمية.

وبمجرد إجراء التشخيص، خاصة في حالة النوع السلوكي، يكون من الصعب جدًّا الإبقاء على المصاب في المنزل. لكن إيداعه في إحدى المنشآت يعني وَضْع شخصٍ يافعٍ ومصاب باضطراب، يتصرَّف بشكل غير لائق معظم الوقت، بصحبة نزلاء كبار في السن يعانون أشكالًا أكثر شيوعًا من الخرف. وقصَّة آيمي ومارك جونسون في ذلك ليست استثنائية. فقد يُطلب من الأشخاص المصابين بالخرف الجبهي الصدغي أن يغادروا المنشأة العلاجية.

باعتباري ميسِّرة في مجموعة دعم، شعرت بالعجز وأنا أستمع إلى قصة متعلقة بداء الخرف الجبهي الصدغي تُروى أمامي. لكن شعوري هذا بالطبع كان غيضًا من الفيض الذي كان يشعر به الشخص الذي كان يروي القصة. ثمة مفاجآت وتغيُّرات غير متوقَّعة مع كل شكل من أشكال الخرف. لكن في حالة الخرف الجبهي الصدغي، تكون المفاجآت كأشد العواصف؛ حيث يتغيَّر كل شيء فجأة. وقد بحثت على الإنترنت واستشرت الأطباء بحثًا عن شيء مفيد يمكن أن أقدِّمه إلى الناس. وإليكم بعض الاقتراحات التي لها علاقة بالسلوك.

أحد هذه الاقتراحات هو أهمية تحديد المثيرات. قد يتطلب ذلك الكثير من العمل الذي ينطوي على التحري، خاصة إذا كان الشخص يعاني النوعَ اللغوي للخرف الجبهي الصدغي ولا يمكنه التواصل. لكن حاول أن تقلِّل من الإزعاج، وتحدَّ من الفوضى وتبسِّط التفاعلات الاجتماعية. إذ يمكن لشخصٍ مصابٍ بأي نوعٍ من أنواع الخرف، وتحديدًا الخرف الجبهي الصدغي، أن ينزعج بسهولة بفعل زيادة الضوضاء. الضوضاء مزعجة لمعظمنا، لكننا نتمتَّع بالمقدرة على إعمال العقل والتفكير في الأمر. يمكننا أن نخبر أنفسنا أن الأمر مؤقَّت، أو يمكننا أن نجد مكانًا نذهب إليه فيما تستمر الضوضاء. أما الشخص المصاب بالخرف الجبهي الصدغي فلا يمتلك تلك المقدرة. إن كان الموقف خارجًا عن سيطرتك — كأعمال بناء بالجوار مثلًا — فقد يصحب مقدِّم الرعاية المصابَ في نزهةٍ على الأقدام إلى أحد الأماكن الهادئة.

ويمكن للفوضى أن تكون من المثيرات؛ لأن البيئة الفوضوية أكثرَ مما ينبغي قد تسبِّب الشعور بالخطر وفقدان السيطرة: إذ يظن المريض أن شيئًا ما يمكن أن يسقط، أو أنه ربما توجد أشياء غير معروفة تترصد خلف أكوام الأشياء تلك. لذا يمكن لخلق بيئة منظَّمة أن يكون عونًا.

وتبسيط التفاعلات الاجتماعية من النصائح النافعة لأي شكل من أشكال الخرف. وطرح الأسئلة ليس فكرةً جيدة مطلقًا؛ إذ تضع ضغوطًا على الفرد المصاب بالخرف، الذي يشعر بأن عليه أن يجيب لكنه لا يعرف كيف يفعل ذلك. وفي حالة الخرف الجبهي الصدغي، من المحتمل أن تكون ردود الفعل أكثرَ تطرُّفًا بكثير.

تشمل الاقتراحات المميَّزة الأخرى للتعامل مع بعض السلوكيات الخارجة عن السيطرة، في الحالات المتعلقة بالتحرش الجنسي بالآخرين أو الرغبة القهرية في لمسهم بطريقة غير لائقة في معظم الأحيان، التي هي من سمات الخرف الجبهي الصدغي؛ إعطاءَ الفرد المصاب كرة ضغط، حتى تكون يدُه مشغولةً بشيءٍ ما، أو إعطاءه دميةَ حيوان محشوةً كبيرة الحجم يُمسك بها. لا تتوافر لديَّ أيُّ معرفة شخصية بما إن كانت هذه الأساليب تجدي نفعًا، لكن في حالات الأمراض المتطرِّفة كالخرف الجبهي الصدغي، من الأفكار المستحسنة أن نجرِّب كل المقترحات المعقولة.

وثمة شواهد مشجِّعة بشأن فوائد ممارسة التمارين الرياضية للأشخاص المصابين بالخرف الجبهي الصدغي. فقد أجرت كاتالين كاساليتو، الحائزةُ على درجة الدكتوراه والمدرس المساعد لعلم الأعصاب في مركز الذاكرة والشيخوخة بجامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو، دراساتٍ على مجموعة من الناس الذين جرى تشخيصهم بالخرف الجبهي الصدغي. ووجدت أن التدهور الوظيفي كان أبطأ بنسبة تقارب ٥٥ بالمائة بين المشاركين الذين يتمتعون بأسلوب حياة أكثر نشاطًا، الذين يؤدون شكلًا من أشكال التمارين الرياضية، حتى ولو كان مجرَّد السير بإيقاع سريع. لا يعني هذا أن تأثير المرض نفسه قد ارتدَّ؛ إنما يعني أن أعراضه قلَّت. يمكن لهذا أن يكون بالغ الأهمية للأسر التي تتعامل مع النوع السلوكي من الخرف الجبهي الصدغي، والتي لا تعرف مطلقًا الأعراض التي عليها توقُّعها. يمكن لهذا أيضًا أن يؤدِّي إلى شكل من أشكال العلاج الذي يهدف إلى تقليل الأعراض، بينما تستمر الدراسات سعيًا إلى تحديدِ ما يحدث في الدماغ بالضبط.9

ما يتفرَّد به الخرف الجبهي الصدغي من تعذيب هو أن مَن يعانونه، على عكس داء ألزهايمر، يكادون يصبحون مجهولين. فتبلُّدهم وافتقارهم إلى التعاطف وانفعالاتهم وسلوكهم الخارج عن السيطرة في حضور أشخاص آخرين لا يمتُّ بصلة للشخص الذي عرفه أصدقاؤه وأسرته سابقًا. يسبِّب هذا المرض نوعًا معقَّدًا من الأسى لدى أحباء الشخص المصاب ومقدِّمي الرعاية له. فيوهن صبرهم ويقوِّض استقرارهم النفسي. فإن كان شخصٌ ما يميل إلى الشعور بأن الكون قد أدار له ظهره، فبإمكان هذا المرض أن يجلِب بسهولة هذا الشعور بالقنوط.

داء ألزهايمر

إن كان داء ألزهايمر هو نتيجة التشخيص، فيمكن للأدوية الشائع وصفُها مثل أريسبت أن تُبطئ الأعراض. كما يكثر استخدام عقاقير مثل إكسيلون، وناميندا، ورازادين. ولهذه الأدوية جميعًا آثارٌ جانبية محتملة؛ لذا ينبغي وَضْع ذلك في الاعتبار. لكن ضع في اعتبارك ما يلي قبل أن تقرر أن يتناول أحدُ أحبائك هذه العقاقير: المراحل الأولى من داء ألزهايمر هي الأصعب من ناحية أن الفرد الذي جرى عليه التشخيص يعرف أنه يفقد قدراته المعرفية. يعرف أن ذاكرته تنهار. لديه إحساس ملموس وواضح بما يُسلب منه. ولا يسعني سوى أن أتخيَّل الخوف الذي يتصاعد لديهم في كل يوم يمر بهم. كنت ألاحظ ذلك في عينَي والدي؛ هذا الرجل الذي لم يخشَ شيئًا من قبل قَط. ذات يوم وقف في وسط حجرة المعيشة وقال: «لا أعرف أين أنا.» كان الخوف يتملَّك بشدة من عينيه. يبدو لي أن علينا أن نوليَ قدرًا من تفكيرنا إلى فكرة إبطاء المرض في المراحل الأولى الأكثر مأساوية. أتريد حقًّا أن يبقى الشخص العزيز عليك على هذه الحال؟ من سخرية القدر أن داء ألزهايمر يتفرَّد بجَعْل الأمور أيسر قليلًا، من بعض النواحي، مع تفاقم المرض.

من الواضح أن القرار يكون فرديًّا حين يتعلَّق الأمر بتناول العقاقير، ولا صواب أو خطأ هنا. أطلب منك فقط أن تنظرَ إلى الأمر من كل الزوايا. وبديهي أن من المغري أن نحاول إبطاء تفاقم داء طاغٍ ليس له علاج. لكننا أحيانًا نُبطئه، بالعقاقير، في أصعب مرحلة من مراحله. أعرف أنَّ في حالة أبي كان ثمة بعض الارتياح حين تخطَّى مرحلة معرفة أن ذاكرته كانت تُسرق منه، حين توقف عن التمسُّك بالذكريات وبأجزاء من حياته لم تَعُد موجودة. كانت حالته قد ساءت، لكن في مفارقة غريبة، كان أكثر استقرارًا وسكينة في تلك البقعة الفارغة.

«علينا أن نخوض في اليأس ونتجاوزه من خلال العمل لصالح الآخرين والبذل لأجلهم، من خلال استخدام ذلك اليأس في شيء آخر.»

إيلي فيزيل

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤